تفسير سورة المائدة

القطان
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

أوفوا بالعقود: أنجِزوها. العقد كل اتفاق بين اثنين فأكثر. البهيمة: ما لا ينطق من الحيوان. الانعام: البقر والابل والغنم وما أُحل من الحيوان البريّ. حُرم: جمع حرام وهو المحرم بالحجّ او لِعمرة.
يا أيها المؤمنون، حافِظوا على الوفاء بالعقود التي بينكم وبين الله، والعقود المشروعة التي بينكم وبين الناس. فعلى كل مؤمن ان يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل. وكل عقد، وكل وعد، وكل عهد، وكل ميثاق انما هو عقد بين طرفين اللهُ ثالثهما، فمن نقضَه فقد أخل بالوفاء مع ربه.
فالزواج عقد، الوفاء به حُسن المعاشرة وتركُ المضارة. والبيع عقد، والوفاء به عدم الغش وحُسن المعاملة. والوعد عقد، والوفاء به انجازه.. وهكذا سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقها والتزامات.
إن هذا القرآن الكريم نُزّل على محمد لينشىء أمة، وليقيم دولة، وليربّي ضمائر وأخلاقاً وعقولا، ولينظم مجتمعاً ويحدّد روابطه مع غيره من المجتمعات والأمم. ذلك هو الدين كما هو في حقيقته عند الله، وكما عرفه المسلمون أيامَ كانوا مسلمين.
وقد أحلّ الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم وجميع الحيوانات الوحشية الا ما ورد النص بتحريمه.
ولا يجوز لكم صيدُ البّر إذا كنتم حرِمين بالحج او العمرِِة، او كنتم داخل حدود الحرم. ان الله يستنّ ما يريد من الأحكام، فهي تصلح شئونكم وتناسب مصالحكم.
شعائر الله: معالم دينه ومنها مناسك الحج. الهَدي: ما يُهدى الى الحرم من الأنعام ليُذبح فيه. القلائد: ذات القلائد من الهَدي، والقلادة ما يعلَّق في عنق الحيوان علامةً على أنه هَدي للحج. آمين: قاصدين. لا يَجْرِمنّكُم: لا يحملنكم. شنئان: شدة البغض.
يا أيها المؤمنون: لا تستبيحوا حرمة شعائر الله فتتصرفوا بها كما تشاؤون. ان مناسكَ الحج من هذه الشعائر، فحافِظوا عليها، ولا تتهاونوا في تعدّي حدودها.
كذلك الشهرُ الحرام.. لا تنتهكوا حرمة هذه الأشهر، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فلا تحاربوا فيها.
ولا تعترضوا الهَدي باعتصابه أو منع بلوغه محلَّه، ولا تنزِعوا القلائد من أعناق الأنعام المهداة للحج ولو كانت لأعدائكم.
وكذلك لا تعترِضوا الذين يقصدون بيت الله، يبتغون فضلاً منه ورضا. وأياكم أن تصطادوا وأنتم في الحرم. ليس ذلك لكم. فإذا تحللتم من الإحرام فاصطادوا إن شئتم. ولا يجوز ان يدفعكم بغضكم الشديد لقومٍ سبق أن صدّوكم عن المسجد الحرام الى أن تعتدوا عليهم. وتعاونوا أيها المؤمنون على عمل الخير والطاعات، لا على المعاصي والاعتداء على الناس. واتقوا الله بالسير على سُننه التي بيّنها لكم في كتابه حتى لا يصيبكم عقابه، انه شديد العقاب.
قراءات:
قرأ ابن عامر، واسماعيل، عن نافع، وابن عياش عن عاصم «شنئان» بسكون النون، وقرأ ابن كثير وابو عمرو «إن صدوكم» بكسر الهمزة.
الموقوذة: التي ضُربت حتى ماتت. المترديّة: التي سقطت من مكان عالٍ، او في بئر، وماتت. النطيحة: التي نطحها حيوانٌ آخر فقتلها. مخصمة: جوع. متجانِف: منحرف، مائل.
يبين لنا هنا عشرة أنواع أكلُها محرَّم: لحم الميتة: وهي الحيوان الذي مات من غير ذبح شرعي. ولا يموت الحيوان إلا من مرض، وهذا المرض يجعل لحمه مضرّاً، والله تعالى لا يحب لنا الضرر. وكان العرب يأكلون لحم الميتة ويقولون: لِمَ تأكلون ما قتلتُم ولا تأكلون ما قتل الله!؟.
الدم: وكان العرب يأكلونه.
لحم الخنزير.
ما أُهل لغير الله: ويعني ما ذُكر اسمُ غير الله عند ذبحه. كلّ حيوان مات خنقا.
الموقوذة: وهي التي ضُربت حتى ماتت. وما سقط من مكان عال فمات. وما نطحه آخر فمات. وكل حيوان افترسه السبع فمات. الا ما ادركتموه قبل ان يموت، فذبحتموه، فهو حلال لكم بالذبح. وكل حيوان ذبح للنُصُب والأصنام.
ويحرم عليكم ان تستقسِموا بالأزلام، وهي أعواد ثلاثة كان الجاهليّون يطلبون بواسطتها معرفة المغيبات. كان يُكتَب على أحدها «أمرين ربي» وعلى الثاني «نهاني ربّي» ويُترك الثالث دون كتابة. فكان من أراد سفَراً، أو زواجاً أو غير ذلك يأتي سادنَ الكعبة ويقول له: استقسِم لي، أي اعرِف لي ما قسم الله لي. فيُخرج السادن هذه الأعواد ويحرّكها في كيس او جراب ثم يسحب واحداً. فإذا خَرج الذي عليه «أمرني ربي» أقدم الرجل على ما نوى، واذا خرج الذي عليه «نهاني ربي» امتنع عن العمل. وان خرج الثالث واسمه الغُفْل أعاد السحبَ من جديد.
وهذا وما شابه من الخرافات والأوهام لا يركن اليها الا ضعيف لعقل والإيمان. وقد حرّمها الاسلام «ذلكم فِسْق»، فهي خروج عن طاعة الله، فامتنِعوا عنه.
﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾
انقطع رجاؤهم في القضاء عليكم، فلا تخافوا ان ينقلبوا عليكم واتّقوا مخالفة أوامري.
﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..﴾
نزلت هذه الآية يوم الجمعة، بعرفة، في حجة الوداع، «وأتممتُ عليكم نعمتي» بإعزازكم وتثبيت اقدامكم، «واخترت لكم الاسلام دينا».
روى الطبري في تفسيره ان النبي عليه السلام لم يعشْ بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، فكانت آخر ما نزل من القرآن.
ونعود الآن الى عطف على آية التحريم، لنجد ترخيصاً فيه منطق وتيسير. إنه يقول: لقد عددتُ المحرّمات، لكن من الجأته الضرورة الى تناول شيء منها ففعَل، لدفع الهلاك عن نفسه، غير متعدٍّ ذلك الحد، ولا منحرف عن أوامر الله فلا إثم عليه ان يأكل. ان الله يغفر له، فالضرورات تبيح المحذورات.
الجوارح: كل ما يصيد من الكلاب والفهود والطير. مكلبين: من التكليب، وهو تعليم الكلاب الصيد، وصار يستعمل في تعليم الجوارح.
يسألك المؤمنون أيها الرسول: ماذا أُحل لنا من الطعام؟ فقل لهم: أُحِلّ لكم كل طيب تستطيعه النفوس السليمة، وأُحل لكم صيدُ الجوارح التي علّمتموها الصيدَ بالتدريب. مستمدِّين ذلك مما علّمكم الله، فكلوا ما تمسكه هذه الجوارح عليكم وتصيده لكم. واذكروا اسم الله عند إرسالها كما روي ذلك عن ابن عباس «إذا ارسلتَ كلبَك وسمَّيْتَ فأخذَ، فقتَل، فكُل». واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه سريع الحساب.
المحصنات: الحرائر الغفيفات. الأجور: المهور. محصنِين: أعفّاء. مسافحين: مجاهرين بالزنا. أخدان: عشاق. حبط عمله: بطل ثواب عمله.
اليوم، بعد نزول هذه الآية، أُحلت لكم الطّيبات وصار حكمها مستقراً ثابتاً. وأُحلّّ لكم طعامُ اليهود والنصارى وذبائحهم مما لم يرد نص بتحريمهن، كما أُحلّ طعامكم لهم. ومن النساء أَحلَّ الله لكم نكاح الحرائر العفيفات من المؤمنات، ومن نساء اهل الكتاب، إذا أدّيتم لهن مهورهن بقصد الزواج، لا لإنشاء علاقات غير شرعية، أو اتخاذ عشّاق. كل هذا حلال لكم. ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بينّا هنا فقد بطَل ثواب عمله وخاب، وهو في الآخرة من الهالكين.
ان أعظم الطاعات بعد الايمان الصلاة، ولا يمكن إقامتها الا مع توافر الطهارة. لذلك بدأ سبحانه في بيان كيفية الوضوء. فأبان:
إذا أردتم ان تقوموا الى الصلاة، أيها المؤمنون، لم تكونوا متوضئين، فابدأوا بغسل وجودهكم وأيديكم الى المرافلق، وامسحوا رؤوسكم كلَّها او بعضها، واغسِلوا أرجلكم الى الكعبين.
هذه هي فروض الوضوء، أما سُننه ومستحباته فيه مفصّلة في كتب الفقه. وعند الشيعة الإمامية يجب مسح ظاهر القدمين الى الكعبين فقط. وقد قال بعض علماء السلَف بالمسح، لكنْ مسح القدمين بكاملهما الى الكعبين.
أما اذا كنتم جنُباً وتودون الصلاة فعليكم ان تتطهروا بغسل جميع جسدكم بالماء. وان كنتم مرضى مرضاً يضر معه استعمال الماء فتيمّموا. فإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمّموا. واذا ذهبتم لقضاء الحاجة، او لا مستم النساء ولم تجدوا ماء فتيمموا أيضاً، ففي ذلك كافية.
وكيفية التيمُّم أن يضربَ بكفّيه على التراب ويمسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربةً اخرى يمسح بها كفّيه الى الرسغين.
الترخيص تيسيرٌ من فضل الله، فهو لا يريد ان يُحرجنا، بل ان يطهّرنا ظاهراً وباطناً وأن يُتم نِعمَه علينا بالهداية والبيان والتيسير، حتى نشكره على ذلك بالمداومة على طاعته. انظر الآية (٤٣) من سورة النساء.
قراءات: قرأ ابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب «وأرجلكم» بنصبه، وقرأ حمزة والكسائي «وأرجلكم» بجره، عطفاً على «رؤوسكم». وقرأ حمزة والكسائي «لمستم» دون ألف، والباقون «لامستم».
بعد ان بين سبحانه هذه الأحكام للمسلمين يومذاك أَتبع بنعمه التي أنعم بها عليهم، ومنها انهم كانوا كفاراً متباغضين فأصبحوا بهدايته إخواناً متحابّين. وهو يخاطبهم أن اذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمداً على السمع والطاعة حين قلتم له: سمعْنا ما أمرتَنا به ونهيتنا عنه، وأطعْناك فيه فلا نعصيك في معروف. اتّقوا الله بالمحافظة على هذه العهود فإنته عليم بخفيّات ما تضمرونه فمُجازيكم.
قوامين لله: دائبين على القيام بعهود الله واماناته. شهداء بالقسط: بالعدل. لايجرمنكم: لا يحملنكم الشنئان: البغض الشديد.
بعد ان أمر الله عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتنّ عليهم بإباحة كثير من الطيبات وأمرهم بالطهارة مع رف الحرج عنهم دعاهم الى العدالة المطلقة مع الأولياء والأعداء على السواء.
يا أيها المؤمنون، حافِظوا على أداء حقوق الله دائماً، وأدّوا الشهادة بين الناس بالعدل، فالعدل ميزان الحقوق. وحين يسود الجور والظلم في أمةٍ تزول الثقة في الناس. لذا انتشرت المفاسد وتقطّعت روابط المجتمع في هذه الأيام.
ولا تسمحوةا لأنفسكم ان تنساق وراء مشاعركم الخاصة، فلا يجوز أن يدفعكم بُغضكم الشديد لقوم ان تُجانِبوا العدلَ معهم. ان العدل منكم اقربُ للتقوى وخشية الله، فاخشوا الله في كل أموركم، انه عليم بها، وسيجازيكم على أساسها. فالعدالة في الإسلام أساس عظيم ترتكز عليه هذه العقيدة المتينتة التي ترتقي بها النفوس الى اعلى مستوى في هذه الحياة.
وقد كثرت أوامر الله في القيام بالعدل، فأمر به عاماً وخاصاً، مع المخالفين في الدين، وفي الحكم والقضاء، وبين الأولاد والزوجات، بل أمر به المؤمنَ مع نفسه.
لقد تفضل سبحانه فوعد المؤمنين العاملين بإيمانهم أن يعفو عن ذنوبهم ويعطيهم الأجر العظيم. وهنا قَرَن الإيمان بالعمل، ذلك ان العملَ مظهر لازمٌ عنه في تلك الحال.
اما الذين جحدوا دينه، وكذّبوا بآياته الدالة على وحدانيته فهم من أهل جهنم يوم القيامة.
وهكذا يأتي القرآن بصور متقابلة في كثير من آياته حتى يظهر الفرق بين المؤمن والكافر، وما ينتظر كلاً منهما.
هناك عدة روايات في سبب نزول هذه الآية، احداها قصة أعرابي «جاء الى الرسول الكريم وهو جالس تحت شجرة، سيفه معلَّق عليها، وأصحابه متفرقون عنه. فأخذ الأعرابي السيف وقال للنبي: ما يمنعك منّي؟ فقال: الله، فسقط السيف من يد الرجل. وهنا أخذه الرسول وقال للرجل: ما يمنعك مني؟ فقال: لا أحد، فكن خير آخِذٍ.. أي اقتلني برِفق ان كنت ستفعل. وقد عفا عنه الرسل. فأسلم وذهب الى قومه وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس».
وهناك عدة روايات أخرى.. والمهمّ أن الله تعالى يمنّ على المؤمنين ويذكّرهم بنعمه عليهم.
يا أيها الذين آمنوا، تذكّروا نعمة الله عليكم وقت الشدّة حين همَّ قوم من المشركين ان يغدِروا بكُم وبنبيّكم، فأحبط الله كيدهم وكفّ أذاهم. فاتّقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم، وتوكّلوا عليه وحده في جميع أموركم، انه خير كافل وأعظم معين.
النقيب: الرئيس. عزرتموهم: نصرتموهم.. التعزير يأتي بمعنى النصر والتعظيم.
لقد اخذ الله عهداً على بني اسرائيل ان يعملوا بما في التوراة، شريعتهم التي اختارها لهم، ولا يزال هذا الميثاق في آخر الاسفار الخمسة المنسوبة الى موسى. يومذاك أقام عليهم اثني عشر رئيساً منهم لتنفيذ العهد، ووعَدَهم أن يكون معهم ويمُدّهم بالعون والنصر إن أقاموا الصلاة على حقيقتها، وأدعوا الزكاة المفروضة عليهم، وصدّقوا بجميع رسله ونصروهم، ثم بذلوا المال نافلةً منهم في سبيل الخير. اذا فعلوا كل ذلك، تجاوضزَ عن ذنوبهم، وأدخلهم جناتٍ في الآخرة من تحتِها الأنهار. أما من جحد ونقض العهد فقد حاد عن الطريق السويّ، فله جزاءٌ آخر.
لكن بني اسرائيل نقضوا الميثاق. لذا استحقّوا اللعن والطرد من رحمة الله وصارت قلوبهم قاسيةً لا تلين لقبول الحق. لقد أخذوا يحرّفون كلام الله عن معناه الأصلي الى ما يوافق هواهم، وتخلّوا عن كثير مما أُمروا به في التوراة. وها أنت يا محمد لا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظنَّ أنك أمِنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم.. لا، فهم قوم غدّارون لا أمان لهم، الا قليلا منهم أسلموا وصدّقوا فلم يخونوا. وعن هؤلاء تجاوزْ يا محمد واصفحْ، وأسحن اليهم، ان الله يحب المحسنين.
وكما أخذنا ميثاقاً على اليهود أخذنا مثله من النصارى: أن يؤمنوا بالإنجيل وبالوحدانية، والثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا، وابتاع رسلنا والتصديق بهم. لكن هؤلاء أيضاً تخلّوا عن كثيرا مما أُمروا به في الأنجيل الحقيقي. فعاقبلهم الله على ذلك بإثارة العداوة والخصومة بينهم، وهذه المشاهد والحوادث تثبت هذه العداوة. وأكبر دليل على ذلك ما يجرى اليوم من قتال مرير في ايرلندا الشمالية بسبب التعصب الديني والطائفي. وفي كل الدول التي تدّعي المدنيّة ممن يدين بالنصرانية، لا تدخل طائفةٌ كنيسة الطائفة الأخرى حتى هذا اليوم. ولا يصلّون الا في كنائسهم، ولا يتزاوجون الا نادراً، ويكون الزواج مدنياً في أغلبِ الأحيان. وسوف يخبركم الله يوم القيامة بما كانوا يعملون.
يا أهل الكتاب: لقد جاءكم محمد داعياً الى الحق، يظهر لكم كثيراً مما كنتم تكتمونه من التوراة والانجيل، مثل: صفة النبي، وقضيته الرجم، وبشارة عيسى فيه، وغير ذلك.. ومع هذا فإن رسولنا لا يتعرض لكثير مما تخفونه وتكتمونه لأنه لا حاجة الى إظهاره. فلماذا تحيدون عن صواب اتّباعه!! لقد جاءكم من عند الله بشريعة كاملة هي نور بذاتها، أضاءت العالم، ونشرت فيه العدالة والمساواة.. فلماذا تتعامون عن الحقيقة!! إن الله يهدي بهذا الكتاب كلَّ من أطاعه واتّبع رضاه وبه يُخرج هذا العالم من ظلمات الكفر الى نور الإيمان، كما يهديهم الى الطريق القويم.
لقد دخل على عقيدة النصارى كثير من التغيير والتبديل، ولم تتسرّب هذه الانحرافات والتبديلات كلها دفعة واجدة، بل على فترات. لقد أضافتها المجامع واحدةً بعد الأخرى، الى ان انتهت بهذا الخلط العجيب الذي تحار فيه العقول، حتى عقول الشارحين للعقيدة من اهلها.
وقد كُتب الكثير في هذا الموضوع في الغرب والشرق. والأقوال في المسيح كثيرة، عُقدت لتصفية الخلافات فيها عدة مجامع. منها: «مجمع نيقية» عام ٣٢٥ ميلادية، و «مجمع القسطنطينية» عام٣٨١م. و «مجمع إفسس» عام ٤٣٠م. و «مجمعُ خلقيدونية» عام ٤٥١م، وغير ذلك. ومن أحبَّ التفصيل فليراجع كتاب «محاضرات في النصرانية» للاستاذ الشيخ محمد ابو زهرة.
والله تعالى هنا يكذّب الجميع ويقول: لقد كفر الذين زعموا باطلاً أن الله هو المسيح ابنُ مريم. اسألهم يا محمد: هل يقدر أحد على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعاً ان اراد
الله ان يهلكهم؟ ان هناك فرقاً مطلقاً بين ذات الله سبحانَه وطبيعتِه ومشيئته وسلطانه، وبين ذات عيسى وذاتِ أمه وكلّ ذاتٍ أخرى. فذاتُ الله واحدة، ومشيئته طليقة، وسلطانه منفرد. فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه او أمه الهلاك، كما لا يستطيع ان يدفعه عن غيره فكيف يكون هو الله؟! ان لله وحدَه، لا لعيسى، مُلك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء على اي مثال أراد، والله على كل شيء قدير.
روى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله جماعة من اليهود، فكلّمهم وكلّموه، ودعاهم الىلله وحذّرهم نقمته فقالوا: «ما تخوِّفُنا يا محمد؟ نحن والله أبناءُ الله وأحبّاؤه». وكذلك قالت النصارى. فأنزل الله تعالى هذه الآية يردُّ فيها عليهم.
والتفسير:
قالت اليهود والنصارى: نحن المفضَّلون، لأننا أبنا ءالله والمحَبَّبُون لديه. فقل لهم أيها الرسول: لماذا يعذّبكم بذنوبكم إذن؟ ولماذا يُدخلكم نار جهنم بأعمالكم؟ إنكم في قولكم هذا لكاذبون، فما أنتم الا بشر كسائر الناس. والله تعالى بيده كل شيء، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء. هو ربّ السماوات والأرض وإليه مَردُّ كل مخلوقاته.
يا أهل الكتاب، ها قد جاءكم رسول الله من عند ربكم يظهر لكم الحق، بعد ان توقفت الرسالات فترة من الزمن، ويبين لكم جميع ما أنتم في حاجة إليه، لئلا تقولوا: ما جاءنا بشير ولا نذير؟ ها قد جاءكم بشير لمن أحسن، ونذير لمن أساء. فماذا أنتم فاعلون؟ افعلوا ما شئتم، فالله على كل شيء قدير.
اذكر يا محمد حينما قال موسى لقومه: يا بني إسرائيل، تذكَّروا فضل الله عليكم، واشكروا له نعمه وأطيعوه، إذ جعل فيكم أنبياء يتولّونكم بالهداية والارشاد، وجعل منكم ملوكاً فأعزّكم بهم بعد أن كنتم أذلاء في مملكة فرعون، وحباكم بنعمٍ لم يؤتِ مثلها أحداً غيركم فأطيعوا. يا قوم، أدخُلوا الارض المقدَّسة التي قدَّر الله عليكم دخولها، ولا تجبُنوا أمام أهلها، ولا تتراجعوا عن طاعته أيضاً. فإن انقلبتم عن الطاعة عُدتم خاسرين لثواب الدارَين.
قال قوم موسى مخالفين أمر الله: يا موسى، إن في هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها جبابرة لا طاقة لنا بهم، ولا نقوى على محاربتهم ولهذا فإننا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجابرون فيها، فإذا خرجوا منها دخلناها.
عند ذلك قال رجلان من رؤسائهم أنعم الله عليهم بالطاعة والتوفيق: أدخلوا أنتم على الجبارين واقتحموا الباب مفاجئين لهم، وستنتصرون عليهم. توكلوا على الله يا قومنا في كل أموركم ان كنتم صادقين في ايمانكم.
بذلك أصرّوا على العناد والتمرد ومخالفة أوامر الله وبيّهم. لقد قالوا: نحن مصممون على البقاء في مكاننا وعدم لقيا هؤلاء الجبارين، فدعنا يا موسى واذهب أنت وربك.. قاتِلا الجبارين وحدكما. فلن نشارككما ذلك.
فلما يئس موسى من قومه وأصروا على العناد قال مناجياً ربه: يا رب، لا سلطان لي إلا على نفسي وأخي، فافصِل بيننا وبين هؤلاء القوم المنحرفين عن طاعتك، بقضاء تقضيه بيننا، فاستجاب الله لموسى وقال: ان هذه الأرض محرّمة عليهم أربعين سنة، يقضونها تائهين في الصحراء. ثم ودّ اللهُ أن يواسي موسى، فأمر ألا يحزن على ما أصابهم، لأنهم عصوا أمري اليك، فاستحقوا عذابي هذا تأديباً لرؤوسهم.
وإذا نظرنا لحالنا اليوم وجدنا أنفسنا أتعس من أولئك اليهود.. لقعودنا عن الجهاد وجُبننا عنه، وضفعنا وتشتُّت كلمتنا. لقد تخلَّفنا عن الجهاد في سبيل وطننا السليب، وصار بعضُ حكامنا ينتظرون من أميركا وبريطانيا، حلفاءِ عدوّنا وشركائه في الجريمة، ان يساعدونا على حل مشكلتنا. والحق، أننا طوال ما ظلننا على هذه الحال فسنظل مشرّدين معذّبين، يضل اليهود يحتلّون أرضنا وينتهكون حرمة مقدّساتنا. ولعلنا نستفيدُ من هذه العِبر ونتدّبر قرآننا ونعتبر بهذا التأديب الإلَهي.
التلاوة: القراءة وغلبت على قراءة القرآن. النبأ: الخبر. القربان: ما يُتقرّب به من الذبائح والصدقات. بسَط يده: مدّها ليقتله. تبوء بإثمي: تلتزم بجريرتي.
في هذه الآيات والتي تليها بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية، وهي التي تتعلق بحماية النفس والحياة، والنظام العام، والسلطة التي تقوم عليه، في ظل شريعة الله. وقد بدأها سبحانه بقصة ابني آدم، وهي قصةٌ تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية.
اتلُ يا محمد على الناس ذلك النبأ العظيم، وهو خبر ابنَي آدم: هابيل وقابيل. لقد قدّم كل واحد منهما قرباناً إلى الله. كان هابيل صاحبَ غنَم فقدّم أكرم غنمِه واسمنها (وهذا يمثّل طور البداوة والرعي). وكان قابيل صاحَب زرعٍ فقدم شرَّ ماعنده (وهذا يمثل طور الزراعة والاستقرار). فتقبّل الله قربان هابيل (الراعي) ولم يتقبَّل قربان قابيل (المزارع)، (وكانت علامة القبول ان تأتَي نار وتحرقَ القربان المقبول). فحسد قابيلُ أخاه وتوعّده بالقتل حقداً عليه، فرد عليه الأخير ان الله لا يتقبّل العمل الا من الأتقياء المخلصين. وقال له: لئن أغواك الشيطان ومدَدت يدَك لتقتلَني، فلن أقابلَك بالمثل. إني أخاف الله ربي ورب العالمين، ولن أقاومك إذا أردت قتلي. فإن فعلت حملتَ ذنب قتلي، علاوة على ذنبك في عندم اخلاصك لله. بذلك ستكون في الآخرة من أهل النار، وهذا جزاء الضالمين.
فطوعت: فسهَّلت.
لم تنفع معه المواعظ التي قدّمها أخوه ولم يخشَ بشاعة الجريمة وما يترتب عليها من إثم وعقاب. وظلّت نفسه الأمارة بالسوء تشجّعه حتى قتل أخاه، فأصبح من الخاسرين: خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق.
لقد خسر دنياه فلم تعد تهنأ له حياة، وخسر آخرته بدخوله النار. كذلك أصبح حائراً لا يدري ماذا يصنع، بعد ان رأى جثة أخيه وقد بدأ يسري فيها العفن.
عند ذلك أرسل الله غراباً (وانتقى الغراب لأنه مقرون بالدمار في لغة العرب، والقتلُ شر دمار) يعلّمه كيف يدفن غراباً ميتاً. وقد باشر الغراب الحفر في الأرض ثم دفن الغرابَ الميت. فقال القاتل عند ذلك: يا حسرتي، أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأستر جثة أخي! وهكذا ظهرت سُنة الدفن. وندم على جرمه الذي ارتكبه حيث لا ينفع الندم.
وفي الحديث الصحيح «لا تُقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم كفلٌ من دمها لأنه أولُ من سنّ القتل».
وتقدّم القصةُ صورتين لطبيعة بني آدم: صورة لطبيعة الشر والعدوان كقاتل، وأخرى لطبيعة الخير والسماحة كرافض لأن يقتُل لذا بيّن سبحانه انه يجب ان يكون هناك تشريع يحفظ التوازن بين الناس، بموجبه يجب ان يلقى المجرم جزاءه. وبذلك يعيش الناس في أمان وتصان نفوسهم، فقال: من أجْل ذكك كتَبنا على بني اسرائيل: الآية٣٢.
بسبب هذا الجرم الفظيع الذي ارتكبه ابن آدم أوجبنا قتْل المعتدي، لأن من قتل نفساً واحدة ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للقصاص، ولا فسادٍ يخلّ بالأمن، مثل (قتْل الأنفس ونهب الأموال وقطْع الطرق) فكأنما قتل الناس جميعاً.
هذا دليل على تعظيم أمر القتل العمد، وبشاعة هذا الجرم الكبير. فقتلُ النفس الواحدة كقتل جميع الناس عند الله. لأن القاتل هتك حرمة دمائهم، جرّأ غيره عليها.
ومن كان سببا في انقاذ نفس من الموت وإحيائها فكأنّما أحيا الناس كلهم، لصيانته دماء البشر، فهو يستحق الثواب العظيم من الله.
والآن.. ما جزاء من يقتل المئات والألوف بأمرٍ منه! سواء كان القتل بوسائل الحرب أم بالتجويع أم بقتل حرّيتهم عن طريق تجريدهم منها، فهو قتلٌ على كل حال؟ فانظروا ايها المسلمون الى واقعكم وتدبّروا أمركم، والله في عونكم حين تؤوبون الى صراطه. فالاعتداء على الفرد اعتداءٌ على المجتمع، لذلك قال الفقهاء: ان القصاص حق لولي الدم، ان شاء عفا واخذ الدية، وان شاء طلب القصاص.
وفي الآية ارشاد الى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع. وكثيراً ما يشير القرآن الى وحدة الأمة ووجوب تكافلها وتضامنها، كما يؤكد وجوب تآزرها لرفع الضّيم عن حقوقها المهدورة.
ولقد بعث الله الرسل بالآيات الواضحة الي البشر. فلم تغنِ عن الكثير منهم شيئا، اذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهر اخلاقهم، فكانوا رغم كل ذلك يسرفون في الأرض فساداً.
يحاربون الله: الذين يتعدون على الناس بالقتل والنهب وترويع الآمنين، ويخرجون على أحكام الشرع، ويفسدون في الأرض بقطع الطريق أو نهب أموال الناس.. والاحتكارُ ضربٌ من الهب. وعقابهم على اربعة انواع: إما القتل او الصلبن، او تقطيع الايدي والأرجل من خلاف. (أي ان تُقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس) او النفي من البلد الذي هم فيه. والعقوبة اللازمة على قدر الجريمة المقترفة، وولادة المسلمين عن حقٍّ وجدارة هم الذين يقضُون في ذلك.
والحكمة في عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فيختلف ضررها كذلك فللإمام الّذي يختاره المسلمون ان يقتلهم ان قتلوا، او يصلبهم ان جمعوا بين أخذ المال والقتل، او يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ان اقتصروا على أخذ المال، او أن يُنْفَوا من الأرض ان أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق ولم يقتلوا.
ان ذلك العقاب ذلّ لهم وفضيحة في الدنيا ليكونوا عبرة لغيرهم من الناس، وجزاؤهم عذاب عظيم في الآخرة.
ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب قبلَ ان يقدر عليه الحاكم. فإن عقوبة الحاكم تسقط عنه، وتبقى حقوقُ العباد، او الحقوق الخاصة، فهي لا تسطق عنهم الا اذا سامح أصحاب الحقوق. فاذا رأى الحاكم ان يُسقط الحق الخاص عن الجاني التائب، ولمصلحةٍ هو يراها وجب على ذلك الحاكم ان يعوض اصحاب الحقوق من مال الدولة.
وفي هذا الحكم بيانُ ان الشريعة الاسلامية تنظر الى آثار الجريمة التي فيها اعتداء مباشر على المجتمع، وتجعل العقوبة بقدر ما تحدثه الجريمة من اضطراب فيه، لا بقدر ذات الجرائم المرتكبة فقط.
ويُروى في سبب نزول هاتين الآيتين أن نفراً من قبيلة عُكل وعرينة قدموا المدينة، واعلنوا الاسلام، فأمر لهم النبيّ بعدد من الإبل وراعٍ، وأمرهم ان يقيمووا خارج المدينة، فانطلقوا حتى اذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي وهربوا بالابل. وحين بلغ النبيَّ بعث بعض أصحابه فأدركوهم، وأحضروهم الى المدينة. فعاقبهم الرسول الكريم أشد عقاب وقُتلوا جميعاً.
وعلى كل حال فإن العبرة بعموم اللفظ. وقد احتج بعموم هذه الآيات جمهور العلماءِ وقالوا: ان حكْم الذين يحاربون الله قائم، في اي مكان حصل منهم الاعتداء، في المدن والقرى، ام خارجها، لقولهن تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾. وهذا مذهب مالك والأوزاعي واللّيث بن سعد، والشافعي واحمد بن حنبل. وزاد مالك فقال: ان الذي يحتال على الرجل حتى يُدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه انما قد حارب الله، دمُه مهدور، يقتله السلطان، حتى لو عفا عنه أولياء المقتول. وقال ابو حنيفة وأصحابه: لاتكون الا في الطرق وخارج المدن.
تقوى الله: طاعته واجتناب ما نهى عنه الشرع. الوسيلة: ما يتوسل به الانسانُ إلى ثواب الله، والفعل (وسل) بمعنى تقرَّب، واسمٌ لأعلى منزلة في الجنة. الجهاد: من الجهد والمشقة. سبيل الله: كل معمل في طريق الخير والفضيلة وفي الدفاع عن العقيدة والوطن، فكل عمل في هذه الأمور هو جهاد في سبيل الله.
بعد أن ذكَر الله تعالى ان اليهود قد هموا ببسْط أيديهم الى الرسول الكريم حسداً منهم لقوله، وغروراً بدينهم وأنفسهم أمر المؤمنين ان يتّقوا ربهم. وذلك باجتناب نواهيه، والتقرب الى ثوابه ومرضاته بالايمان والعمل الصالح. ثم أمرهم ان يجاهدوا في سبيله بإعلاء كلمته، ومحاربة اعدائه، كل ذلك للفوز بالفلاح.
اما الوسيلة التي هي منزلة من اعلى منازل الجنة فقد وردت في الأحاديث الصحيحة عن عدد من الصحابة الكرام.
روى البخاري وأحمد وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله ان النبي ﷺ قال: «من قال حين يسم الأذان: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة».
ان الذين جحدوا ربوبية ربهم، وعبدوةا غيره، وماتوا على كفرهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم أبداً، فلو ملكوا ما في الأرض كلها وضِعفه معه وأرادوا ان يجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة لما قَبل منهم ذلك، ولا أخرجهم من النار. فلا سبيل الى خلاصهم من العقاب.
روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع. فيقال: هل تفتدي بتراب الأرض ذهباً؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبتَ، سألتُك أقلَّ من ذلك لم تفعل، فيؤم به الى النار».
النكال: العقاب. او العبرة، ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: ٦٦]. بعد أن بيّن سبحانه عقاب الذين «يحاربون الله ورسوله»، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ذكّرنا بعقاب اللصوص السارقين. وقد جمع في هذه الآيات الكريمة بين الوازع الداخلي وهو الايمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
يا ولاة الأمور، اقطعوا يد من يسرق مِن الكف الى الرسغ. وذلك لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة. وتُقطع اليد اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في الغالب.
والسرقة هي أخذُ مال الغير المحرَزِ خفيةً، فلا بد ان يكون المسروق مالاً مقوَّما. والمبلغ المتفق بينَ فقهاء المسلمين على عقوبة سرقته هو ربعُ دينار. ولا بد أن يكون هذا المالُ محفوظاً في دار او مخزن وان يأخذه السارق من هناك. فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مالٍ إذا سرقهن او أنكره. وكذلك الخادم المأذون له بدخول البيت لا يُقطع فيما يسرق. ولا على المستعير اذا جَحَد العارية. ولا على سارق الثمار في الحقل. ولا على المال خارج البيت او الصندوق المعد لصيانته.
ولا قطْع حين يسرق الشريكُ من مال شريكه، ولا على الذي يسرق من بيت مال المسلمين. وعقوبة هؤلاء هي التعزير او الحبس اوة ما يراه القاضي.
والشُبهة تَدرأ الحدَّ، فشبهة الجوع والحاجة تدرأه، وشبهة الشركة في المال تدرأه، ورجوع المعترف وتوبته تدرأ. وذلك لقوله ﷺ «إدرأوا الحُدودَ بالشُبُهات» وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب: «لأَنْ أَعطِّلَ الحدودَ بالشُبهاتِ أحبُّ إليَّ من أن أقيمَها بالشُبُهات».
والعقوبة هنا على السرقة الصريحة، أمّا السرقة الضمنية، كالالتواء في التجارة وسرقة أقوات الشعب بتهريب الأموال الى خارج دار الاسلام فلهنا أحكام أخرى.
والاسلام يكفل حق كل فرد من الحصول على ضرورات الحياة، فمن حق كل فرد (حتى غير المسلم) الحصولُ على ضرورات الحياة، أن يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يؤويه، وان يوفَّر له العمل ما دام قادراً. فإذا تعطَّل لعدم وجود العمل، او لعدم قدرته على العمل فله الحق بأن تؤمِّن له الدولة الضروري من العيش. فاذا سرق وهو مكفيّ الحاجة، فإنهن لا يُعذر، ولا ينبغي لأحد ان يرأف به.
فأما حين توجد شُبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الاسلام هو درءُ الحدود بالشُبهات. ولذلك لم يوجِب سيدنا عمر القطعَ في عام الرّمادَة حيث عمَتِ المجاعة. كذلك لم يقطع عندما سرق غلمانُ حاطبٍ بن أَبي بلتعة ناقةً رجل من مزينة ثم تبين للخليفة ان سيِّدهم يتركهم جياعاً.
هكذا يجب ان نفهم الحدودَ في الاسلام: يضع الضمانات للجميع، ويتخذ أسباب الوقاية قبل العقوبة.
400
﴿والله عزيز حكيم﴾ عزيز في انتقامه من السارق وغيره من اهل المعاصي، حيكم في وضعه الحدود والعقوبات بما تقتضي المصلحة.
قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأ هذه الآية فقلت «والله غفور رحيم» سهواً. فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد، فأعدت. ثم تنبّهت فقلت «والله عزيز حيكم». فقال: الآن أصبت فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا «عزيز حكيم» فأمَرَ بالقطع، ولو غفر ورحم لما أمر به. فقد فهم الاعرابي ان مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة.
﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ...﴾.
فمن تاب عن السرقة بعد ظلمه لنفسه باقترافها، وأصلح إيمانه بفعل الخير فإن الله يقبل توبته ويغفر به.
ولا يسقط الحد عن التائب، ولا تصحّ التوبة الا بإعادة المال المسروق بعينه ان كان باقيا أو دفعٍ قيمته إن هكل.
ثم بيّن الشارع أن عقاب السراق والعفَو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض...﴾ يدبّره بحكمته ان وضَع هذا العقاب لمن يسرق، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء اذا صدقوا التوبة. انه يعذّب العاصي تربية له، وتأميناً للعباد من أذاه وشره. كما يرحم التائب بالغفران ترغيباً له.
401
الحزن: ألمٌ يجده الإنسان عند فَوت ما يحب. سارعَ في كذا: أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا الكفّار داخلين في الكفر. الفتنة: الاختبار، كما يُفتن الذهب بالنار. السحت: ما خبُث من المكاسب وحرم. المقسِط: العادل.
يا أيها الرسول: خطاب للنبي، وقد ورد الخطاب في جميع القرآن الكريم بعبارة «يا أيّها النبي» إلا هنا في هذه الآية، والآية ٦٧ من هذه السورة ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾. هذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتعليمٌ للمؤمنين ان يخاطبوه بهذا الوصف العظيم.
أيها الرسول، لا تهتم بهؤلاء المنافقين الذين يتنقلون في مراتب الكفر من أدناها الى أَعلاها، ويسارعون في التحيز الى اعداء المؤمنين عندما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرّهم، وينصرك عليهم وعلى من ناصرهم.
﴿مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ...﴾
.. الذين أدّعوا بألسنتهم ولم يؤمن قلوبهم.
﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ..﴾.
ومن اليهود الذي يُكثرون الاستماعَ إلى ما يقوله رؤساؤهم وأحبارهم في النبي ﷺ والاستجابة لطائفة منهم، لم يحضروا مجلسَك تكبُّراً وبغضاً. فهم جواسيس بين المسلمين يبلّغون رؤساءَهم أعداءَ الاسلام كل ما يقفون عليه من أخبار، ويحرّفون ما يحرفون، ثم ينقلون تلك الأكاذيب الى الأحبار المتخلّفين عن الحضور.
﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..﴾.
اي يحرّفون كلام التوراة بعد أن ثبّته الله في مواضعه المعّينة إما تحريفاً لفظياً بإبدال كلماته، أو باخفائه وكتمانه تسهيلاً لزيادةٍ فيه او النقص منه، وإما تحريفاً معنوياً بالالتواء في التفسير.
روى الامام أحمد والبخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنهـ قال: «ان اليهود أتوا النبي صلى لله عليه وسلم برجلٍ منهم امرأةٍ قد زنيا فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نُسَخِّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم ان فيها الرجم، فأتُوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتُم صادقين. فجاؤوا بالتوراة مع قارىء لهم أعور يقال له ابن صوريا. فقرأ، حتى اذا أتى الى موضع منها وضع يده عليه، فقي له: ارفع يدك. فرفع يده، فاذا هي تلوح» يعني آية الرجم «، فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنّا كنّا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله فرُجما».
ومن قبيل ذلك ما قاله مارتن لوثر في كتابه: اليهود وأكاذيبهم. «هؤلاء هم الكاذبون الحقيقيون مصّاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس وإفساده، من الدفة الى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم... الخ» وهي كلمة طويلة.
﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ...﴾
يقول اولئك الرؤساء لأتباعهم الذين أرسلوهم ليسألوا النبيّ عن حكم الرجل والمرأة الزانين إن اعطاكم محمد رخصة بالجَلد عوضاً عن الرجّم فخُذوها، وارضوا بها، وإن حكَمَ بالرَّجم فارفضوا ذلك.
402
﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ...﴾
ومن يُرد الله اختباره في دينه فيُظهره الاختبارُ ضلالَه وكفره، فلن تملِك له يا محمد شيئاً من الهداية. هؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود.. قد أظهرت فتنةُ الله لهم مقدارَ فسادهم، فهم يقلبون الكذب ويحرفون كلام الله، اتباعاً لأهوائهم ومرضاة رؤسائهم. لا تحزن البتةَ على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم الى الايمان، ولا تخفْ عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين.
﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله...﴾ إنّ الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق فلن تستطيع ان تهديهم، لهم في الدنيا خِزي وذلّ ولهم في الآخرة عذاب شديد.
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾
اعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب، للتأكيد، وبيان أن أمرهم كلَّه مبينٌّ على الكذب. كما وصفهم بأنهم أكالون للسحت، أي الحرام، لأنه انتشر بينهم، كالرشوة والربا واختلاص الأموال. وكل ذلك شائع في مجتمعنا نحن الآن مع الأسف.
قراءات: قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي ويقعوب السُّحُت بضمتين، وهما لغتان.
﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ...﴾
فإن جاؤوك لِتحكم بينم فأنت مخيَّر بين الحكم بينهم والاعراض عنهم. فإن اخترتَ الإعراض عنهم فلن يضروك بأي شيء، لأن الله عاصمُك من الناس. ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾. وإن اخترتَ ان تحكم بينم فاحكم بالعدل الذي أمَر الله بيه، وهو ما تضمّنه القرآن واشتملت عليه شريعة الاسلام. ان الله يحب العادلين. ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾.
عجباً لهم كيف يطلبون حكمك في قضاياهم مع ان حكم الله منصوص عليه عندهم في التوراة، هي شريعتهم، ثم يرفضون ما حكمتَ به لأنه لم يوافق هواهم!! ان أمرهم لمن أعجب العجب، وما سببُ ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين لا بالتوراة ولا بك أيضا.
403
التوراة: الكتاب الذين أُنزل على موسى. الذين هادوا: اليهود: الربانيون: المنسوبون الى الرب. الأحبار: جمع حَبر، وهو العالِمخ، بما استحفظوا من كتاب الله: بما طُلب اليهم حفظه منه. شهود: رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به.
بعد ان ذكر سبحانه حال اليهود من تَرْكِهم حكم التوراة، وطلبِهم من النبي ان يحكم بينهم، ثم رفضهم الحكم لمّا خالف اهواءهم بيّن لنا سبحانه وتعالى صفة التوراة التي يرفضونها فقال:
التوراة هداية أُنزلت على موسى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عن العمل بها، لما عَرَض لهم من الفساد. وفي ذلك من العبرة ان الانتماء الى الدين لا ينفع أهلَه اذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وان إيثار اليهود اهواءهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
انا انزلنا التوراة على موسى مشتملة على الهدى والارشاد.
وبهذا الهدى والنور خرج بنو اسرائيل من وثنية الفراعنة إلى طريق التوحيد..
بموجب التروامة هذه كان يحكم النبيّون الذي أخلصوا في دينهم، موسى ومن بعده من أنبياء بني اسرائيل الى وقت عيسى عليه السلام. كذلك كان يحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، او بإذنهم حالَ وجودهم. كانوا شهودا رقباء على ذلك الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به.
وقبل ان ينتهي السياق من الحديث عن التوراة يتجه الحديث الى المؤمنين عامة، فيدعوهم الى الحكم بكتاب الله، ويذكّرهم أن من واجب كل من اسُحفظ على كتاب الله ان يحفظه.
﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون...﴾
فلا تخافوا الناس في أحكامهم، وخافوني انا ربكم ربّ العالمين. ولا تجروا وراء طمعكم فتبدّلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلا من متاع الدنيا كالرشوة والجاة وغيرها. ان كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله أو أخفاه وحكَم بغيره لهو كافر، يستر الحق ويبدي الباطل. فأين يقع حكّمنا هذه الأيام!
هنا يعود الشارع لعرض نماذج من شريعة التوراة: وقد بقيت هذه الأحكام في شريعة الاسلام. والقاعدة عندنا ان شَرْعَ من قبلنا من الأديان السماوية شرعٌ لنا ما لم يرد نسخُه في القرآن. مثال ذلك: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾.
فالأصلُ القصاصُ: النفسُ بالنفس الخ.... ثم جاء التسامح الاسلامي بأنَّ من تصدَّق بما ثَبَتَ له من حق القصاص، وعفا عن الجاني، كان عفُوه كفّارةً له، ويكفّر الله بها ذنوبه. وقد تميز الاسلام بتسامحه، وورد ذلك في كثير من الآيات والاحاديث وسِير الصحابة الكرام.
ويقول النبي عليه الصلاة السلام: «أيعجِز أحدكُم أ، يكون كأبي ضمضم؟ كان اذا خرج من بيته تصدَّق بعرضه على الناس» (أي آلى ان يسامح من قد يشتمونه). وأبو ضمضم هذا مّمن كان قبلَنا من الأمم السابقة، كما جاء في رواية ابي داود.
وروي الإمام احمد، قال: «كسرَ رجُل من قريش سنَّ رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال: معاوية: استَرضِه. فألحَ الأنصاري، فقال معاوية: شأنك بصاحبكز كان أبو الدرداء جالساً فقال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول:» ما مِن مسلم يصابُ بشيء من جسدِه فيتصدَّق به إلا شرفعه اللهُ به درجة، أو حطَّ به عنه خطيئة «فقال الأنصاري: فإني قد عفوت».
هكذا يعلّمنا الله ورسوله ان نكون متسامحين في أمورنا جميعها، وان نطلب العوض من الله. وبعد هذا العرض يعقّب بالحكم الصارم بقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
ان كل من كان بصدد الحكم في شيء من هذه الجنايات، فأعرضَ عما أنزل اللهُ من القصاص المبنيّ على قاعدة العدل والمساواة بين الناس، وحكم بهواه فلْيعتبر نفسَه من الظالمين. وجزاء هؤلاء معروف.
في الآية التي قبلها كان الوصف هو «الكافرون» وهنا «الظالمون»، لكن هذا لا يعني ان الحالة الثانية غير التي سبق الوصف فيها بالكفر، وانما يعني الاضافة. فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون.
قراءات:
قرأ نافع: والأذْن بالأذْن، باسكان الذال حيث وقع. وقرأ الكسائي وابن كثير وابو عمرو وابن عامر: والجروحُ، بضم الحاء.
قفّينا: أتبعنا، قفّى فلاناً وبه أتبعه اياه. الفاسق: الخارج عن حظيرة الدين. وبعثنا عيسى بن مريم بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متّبعاً أَثَرهم جارياً على سُننهم، مصدّقاً للتوراة التي تَقَدَّمتْه بقوله وعمله. فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة التي لم تحرَّف. وقد ورد في الأناجيل انه قال: «ما جئت لأنقُض الناموس، وإنما جئت لأتمِّم»، يعني لأزيد عليها ما شاء الله من الأحكام والمواعظ.
وقد اعطيناه الإنجيل، مشتملاً على الهدى، ومنقذا من الضلال في العقائد والأعمال: كالتوحيد، والتنزيه النافي للوثنية. وقد جعل الله في الانجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين كما جعله منهج حياة وشريعةَ حكمٍ لأهل الانجيل، وليس رسالة عامّة للبشر، شأنه في هذا شأنَ التوراة، لا شأن القرآن الكريم.
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ﴾
وهذا أمر قاطع لازم يجب تنفيذه وإطاعته، يعني: وأمرناهم بالعمل بالإنجيل، واتّباعه وعدم تحريفه. وقد جاء في الإنجيل الصحيح بشارةٌ بسيدنا محمد ﷺ في مواضع كثيرة، وكلن ذلك أُخفيَ وحُرّف. كان عند النصارى عدد كبير من الأناجيل يربو على الخمسين، لكنهم في مجمع نيقية (سنة ٣٢٥ميلادية) اعتمدوا هذه الأربعة المتداولة الآن وحرقوا ما عداها. وقد وُجد إنجيل منسوبٌ الى برنابا، تلميذِ المسيح، وتُرجم وطُبع عدة مرات، وفيه البشارة واضحةٌ بالنبيّ في عدة أماكن. وهو قريب جداً من القرآن وتعاليمِه، لكن النصارى لا يعترفون به ويقولون إنه مزّيف.
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون﴾
إن كل من يتقيد بالأحكام بشرائع الله لهو من الخارجين عن حكم الله، المتمردين عليه. والنص هنا عام. وصفة الفسق تضاف الى صفتي الكفر والظلم من قبل. فالكفر برفض ألوهية الله ممثِّلاً ذلك في رفض شريعته، والظلم بحمل الناس على غير شريعة اللة، والفسق بالخروج عن منهج حكم الله واتباع طريق غير طريقه.
فالله سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة بأنها إيمان او كفر، لا وسَط في هذا الامر، فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله، والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. فإما أن يكون الحكّام قائمين على شريعة الله كاملة فهم من أهل الايمان، واما ان يكونوا قائمين على شريعة أخرى فهم من أهل الكفر والظلم والفسق. وكذلك الديانات.
قراءات:
قرأ حمزة: وليحكم، بكسر اللام ونصب الميم، والباقون بجزم الميم كما هو هنا في قراءة المصحف.
المهيمن على الشيء: القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولي رعايته. الشرعة والشريعة: مورد الماء، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة. المنهاج: السبيل والسنّة. الابتلاء: الاختبار. استبِقوا: ابتدروا وسارعوا.
بعد ان بين الله تعالى أنه انزل التوراة ثم الإنجيل، وذكر ما أودعه فيهما من فروض وواجبات وأحكام ألزم بها بني اسرائيل جاء البيان هنا الى الرسالة الاخيرة، الرسالة التي تعرض الإسلامَ في صورته النهائية، ليكون دين البشرية كلّها حتى يرث الارَ ومن عليها.
وأنزلنا اليك ايها النبي الكتاب الكامل، وهو القرآن، الذي أكملنا به دين الله. وقد جاءك مصدّقاً لما تقدَّمه من الكتب السماوية، وشاهداً لها بالصحة ورقيباً عليها، لأننا سنحفظه من التغيير. لذا احكُم بين أهل الكتاب، اذا تحاكموا اليك، بما في هذا القرآن. لا تتّبع أيها الرسول في حكمك شهواتهم ولا تخضع لأهوائهم ورغباتهم. فبسببٍ من ذلك حرّفوا كثيرا من كتبهم.
روي ان اليهود عرضوا على رسول الله ﷺ ان يؤمنوا برسالته اذا تصالح معهم على التسامح في احكام معينة، منها حكم الرجم وغير ذلك، فنزل هذا التحذير.
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ...﴾
لكل أُمة منكم أيها الناس جعل الله منهاجاً لبيان الحق، وطريقاً واضحا في الدين تسيرون عليه، ولو شاء لجعلكم جماعة واحدة متفقة، لا تختلف مناهج حياتها وإرشادها في جميع العصور. لقد جعلكم شرائع ليختبركم فيما أتاكم، فيتبين المطيعَ والعاصي. انتهزوا الفرص أيها الناس، وسارِعوا الى عمل الخيرات، فإنكم الى الله ترجعون. يومئذ ينبئكم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه من أمور الدين، ويجازي كلاً منكم بعمله.
ان يفتنوك: ان يميلوا بك من الحق الى الباطل. يبغون: يريدون.
نحن نأمرك أيها الرسول ان تحكم بينهم وفق شريعتك التي أنزلناها عليك، فلا تتبع رغباتهم أبداً، ولو لمصحلة في ذلك، كتأليف قلوبهم وجذبهم الى الاسلام. فالحق لا يوصل اليه بطريق الباطل. واحذَرهم أن يميلوا بك من الحق الى الباطل، كأن يصرفوك عما أُنزل اليك لتحكم بغيره.
أَخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من زعماء اليهود: اذهبوا بنا الى محمد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك عرفت أنّا أحبار اليهود واشرافهم وساداتهم، وأنّا إن اتّبعنانك اتبَعنا اليهودَ ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومةً، فنخاصمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدّقل. فأبى الرسول ذلك، فأنزل الله تعالى فيه ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله....﴾ الآية.
فإن أعرضوا عن حكمك يا محمد بعد تحاكُمهم اليك، فاعلم ان الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم، لفسادِ نفوسهم، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها، ثم يجازيهم على أعمالهم في الآخرة.
وهذال النص يسمو بالشرع الاسلامي عن غيره، في الحكم بين الناس:
أولا لأنه يسمو بالأحكام العادلة عن ان تكون تابعة لأوضاع الناس، فهي حاكمة على أوضاع الناس بالخير والشر.
وثانيا: لأنه جعل باب القانون في الدولة واحداً لكل الناس ولكل الطبقات.
﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾
أيريد أولئك الخارجون عن أمر الله ونهيه ان يحكموا بأحكام الجاهلية التي لا عدل فيه ولا هدى، بل الحِيل والمداهنة!!
روي «ان بني النَّضِير، من اليهود، تحاكموا الى الرسول الكريم في خصومة كانت بينهم وبين بني قُريضة. وقد طلب بعضُهم ان يجري الحكم وفق ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفَي دية النضيري. فقال ﷺ : القتلى براء، يعنى سواء. فقالوا: نحن لا نرضى بذلك. فانزل الله تعالى هذه الآية توبيخاً لهم. اذ كيف لهم وهم أهل كتاب وعلم أن يبغوا حكم الجاهلية»
قراءات:
قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء.
الولاية: التناصر والمحالفة. ومن يتولهم منكم: من يتخذهم أنصاراً وحلفاء.
لما قدم النبي ﷺ المدينة صار الكفّار معه ثلاثة أقسام.
قسم صالحهم ووادعهم على ان لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على دينهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.
وقسم تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا إلامَ يؤول أمره أمر اعدائه.
وقد عامل الرسول كل طائفة من هؤلاء بما أمره الله به. فصالَح يهودَ المدينة، وكتب بينه وبينهم عهداً بكتاب. وكانوا ثلاثة طوائف هم: بنو قينقاع، وبنو النُضير، وبنو قريظة. فحاركبه بنو قينقاع بعد معركة بدْرٍ وأظهروا البغي والحسد. ثم نقض العهدَ بنو النُّضير بعد ذلك بستة أشهر. ثم نقض بنو قُريظة العهدَ لما خرج الى غزوة الخندق، وكانوا أشد اليهود عداوة للنبي والاسلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير في تفسيره عن عطية بن سعد قال: «جاء الصحابي عبادة ابن الصامت، من الخزرج، الى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، ان لي موالي من اليهود كثيرٌ عددُهم، وإني أبراُ الى الله ورسوله من ولاية يهود، واتولى الله ورسوله. وكان عبد الله بن أبي رأس المنافقين حاضراً، فقال: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من مولاة مواليّ. فقال له رسول الله: يا أبا الحباب، أرأيتَ الذي نفِستَ به من ولاء يهود على عُبادة، فهو لك دونه» قال: اذنْ أقبَل. فأنزل الله تعالى:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى﴾
يا أيها الّذين آمنوا، لا يحِلُّ لكم أن تتّخذوا اليهودَ ولا النصارى نُصراءَ لكم على أهل الإيمان بالله ورسوله، فمن اتخذَهم كذلك فهو منهم، واللهُ ورسوله بريئان منه.
﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾.
ان اليهود بعضُهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، وقد يتحالف اليهود والنصارى معاً، أما أن يتحالفوا أو يصدُقوا مع المسلمين فلا. وفي واقعنا الحاضر شاهد على ذلك.. ولقد نقض اليهود ما عقَده الرسول الكريم معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال. وكذلك فعلت اوروبا في الحروب الصليبية، وتفعل امريكا اليوم مع كل من يطلب الحرية لشبعه، والمسلمين خاصة.
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾
ان الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهم منكم بموالاة أعداء المؤمنين.
فإن اليهود بتدبير من النصارى، وبقوة سلاحهم أيضاً جاؤا واغتصبوا فلسطين وأجواء من سورية ومصر، بمعونة أمريكا وسلاحها ومالها، ولا يزالون في حماية امريكا. وحتى اوروبا والدول الغربية جميعاً فإنهم يعطِفون على اليهود أعداء العالم أجمع ونحن بحكم جهلنا، لا نزال نستنصر أمريكا وغيرها ونطلب المعونة منها، مع أننا لو اجتمعت كلمتُنا ووحّدنا صفوفنا، لما احتجنا الى شيء من ذلك. ولكنّنا تفرّقنا، وبعُدنا عن ديننا ومزّقتنا الأهواء وحب المناصب. بذلك قوي اليهود من ضعفنا، فهم يهدّدوننا، ويهاجمون بلداننا وقرانا، ويعيثون في الأرض فسادا. هذا وكلُّ منّا يود المحافظة على منصبه ويبيع في سبيله كل ماعداه.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أن فريقاً من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال: فترى الذين في قلوبهم مرض.. الآية ٥٢.
هذا تصويرٌ لحال المنافقين وبعضِ ضعاف الإيمان في المدنية. لم يكونوا واثقين من نجاح دعوة الإسلام، فكانوا يوالون اليهود ويسارعون الى ذلك كلّما سنحت لهم فرصة. لذا ورد قوله تعالى ﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ بمعنى إننا نخاف أن نتعرض لكارثة عامة فلا يساعدوننا. عسى الله يا محمد أن يحقق النصر لرسوله وللمسلمين على أعدائهم، أو يُظهر نفاق أولئك المنافقين، فيصبحوا نادمين آسفين على ما كتموا في نفوسهم من كفر وشك. وقد تحقق وعد الله بالنصر للمؤمنين.
كان هذا النداء موجهاً في الأصل الى المسلمين في المدينة المنورة، لكنه جاء في الوقت ذاته موجّها لكل المسلمين في جميع أركان الأرض، وفي كل زمان ومكان. وقد أثبت التاريخ والواقع أن عِداء النصارى لهذا الدين وأهله في معظم بقاع الأرض لم يكن أقلَّ من عداء اليهود. وأكبر شاهدٍ هو ما يجري اليوم من دَعم أمريكا وأوروبا جميعها لليهود وتثبيتهم في فلسطين بكل ما يستطيعون من قوة ومال. فالنصارى بدافعٍ من تعصبهم قد حملوا للإسلام منذ ظهوره كلَّ عداوة وضغنٍ ولا يزالون. ولا نزال نعاني من الحروب الصليبية التي لم تنته الى الآن. ولذلك فإن قوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ حقيقةٌ قائمة.
أما النصارى العرب الذين يعيشون معنا ولا يمالئون الأعداء ضدّنا فإنهم مواطنون في ديار الاسلام، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. والمعاملة التي يلقَونها أكبر شاهد على ذلك. بل إنهم في كثير من الحالات قد أخذوا وأكثرَ مما لهم. وحتى اليهودُ الذين يعيشون في البلاد العربية، فإنهم معزَّزون مكرمون ما داموا يخدمون المجتمع الذي يعيشون فيه ضمن القانون، ونحن عندما نطلق كلمة نصارى او يهود نقصد بذلك أولئك المعتدين من الغربيين وغيرهم.
جهد أيمانهم: أغلظ أيمانهم. حبطت أعمالهم: بطلت أعمالهمه التي كانوا يتكلفونها نفاقاً كالصلاة والصيام، فخسروا أجرها وثوابها.
ويقول المؤمنون الصادقون، متعجبين من حال المنافقين اذ أقسموا بأغلظ الايمان لهم أنهم معهم، وأنهم مناصرون على أعدائهم اليهود، أهؤلاء الذين بالغوا في حلْفهم بالله أنهم معكم في الدين مؤمنون مثلكم؟ لقد كذبوا فبطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقاً. بذلك خسروات ما كانوا يرجون من الله. لقد صدق الله وعدَه مع المؤمنين المخلصين وخذَل الكافرين.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «ويقول» بالواو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «يقول» بدون واو، وقرأ ابوعمرو «ويقول» بنصب اللام.
أذلّة على المؤمنين: متواضعون رحماء للمؤمنين. أعزّة على الكافرين: اشداء على الكافرين. كما قال تعالى في سورة الفتح ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يُعَدّ منهم، بيّن هنا حقيقةً دعّمها بخبر من الغيب أظهرَهُ الزمن يومذاك، وهي: أن بعض الذين آمنوا نفاقاً سيرتدّون عن الاسلام جهراً.
يا أيها الذين آمنوا: إن من يرجع منكم عن الإيمان الى الكفر، لن يضر الله قليلاً ولا كثيراً. فالله سوف يأتي بَدَلَهم بقومٍ خير منهم، يحبّهم الله لأنهم يحبّونه، فيوفقهم للهدى والطاعة.
وسيكون هؤلاء ذوي تواضعٍ ورحمة بإخوانهم المؤمنين، وفيه شدةٌ على أعدائهم الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخشون في الله لومة لائم. وذلك فضلُ الله يمنحه لمن يشاء ممن يستحقونه، والله كثير الفضل، عليم بمن هو أهل له.
في هذه الآية إخبار من الغيب، فإنه لما قُبض الرسول صلّى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من العرب. وكان المرتدّون فريقين: فريقاً ارتدّ عن الإسلام، وفريقاً منع الزكاة. وكان قد ارتد في حياة النبي ﷺ، بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخمار، وهو الأَسود العنسي. وكان كاهناً تنبّأ باليمَن، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي، واخبر سول الله ﷺ بقتله فسُرّ به، وقُبض عليه السلام من الغد.
وارتدّ مُسَيلمة ومعه بنو حنيفة، وكتب الى رسول الله ﷺ:
«من مسليمة رسولِ الله الى محمد رسولِ اللهِ، سلام عليك: أما بعدُ فإني قد أُشْرِكتُ في الأمر معك، وإنّ لنا نصفَ الأرض ولقُريض نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون».
فكتب اليه النبي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذّاب. السلامُ على من ابتع الهدى. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
وحاربتْه جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، وقتله وحشيُّ قاتلُ حمزة، وكان يقول: «قتلتُ في الجاهلية خير الناس، وفي إسلامي شرَّ الناس».
وتنبأ طُليحة بن خويلد الأسدي، وتبعه جمع غفير، فهزمه خالد بن الوليد. وهرب طليحة الى الشام ثم اسلم فحسُن إسلامه.
وتنبأت سَجاحُ بِنت المنذِر، الكاهنة، وزوَّجت نفسها من مسيلمة، ولها قَصَص طويل في التاريخ، ثم أسلمت بعد ذلك وحسُن اسلامها.
وارتدّت سبع قبائل في عهد أبي بكر منهم: فَزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بن تميم، وكِندة، وبنو بكر. وهؤلاء كلهم حاربهم أبو بكر يُناصره المهاجرون والأنصار، وهزمهم جميعاً، وهكذا ثبّت أبو بكر رضي الله عنهـ الإسلام بعزيمة صادقة، وإيمان قويّ راسخ. وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بستّ صفات: بأن الله يحبّهم وهم يحبّونه. وأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم. وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم. وأنهم صادقون لا يخافون في الله لومة لائم.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة «من يرتدد» بدالين، والباقون «من يرتد» بإدغام الدالين.
الولي: الناصر. راكعون: خاضعون. يتولّ الله ورسوله: يتخذهما أولياء وناصرين.
إنما ولايتكم أيها المؤمنون لله ورسوله، فلا ناصر ينصركم غيره، ورسوله، والمؤمنون الصادقون الذين يقيمون الصلاة ويحسنون اداءها، ويؤدون الزكاة وهم خاضعون.
قال الزمخشري في: الأساس «العُربُ تسمِّي من آمن بالله ولم يعنبد الأوثان، راكعاً» ومن يتخذ الله ورسولَه والمؤمنين أولياءه فانه يكون من حِزب الله. وحزبُ الله هم المنتصرون الفائزون. فلنسمع نحن الآن هذه التحذيرات، ولنبتعد عن موالاة الأعداء والاستنصار بهم، ونعتمد على انفسها، تشدنا عقيدتنا، وينصرنا الله والعاقبة للمتقين.
بعد أن نهى الله عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه، وبيّن العلّة في ذلك بأن بضعهم أولياء بعض أعاد النهيَ هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء، وبيّن الوصفَ الذي لأجله كان النهيُ، وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء، ومقاومتهم دينَهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا. فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا أعداء الاسلام الذين اتخذوا دينكم سخريةً، وهم اليهود والنصارى والمشركون نصراءَ وأولياء ابداً. خافوا أيها المؤمنون في مالاة هؤلاء ان كنتم صادقين في ايمانكم.
من استهزائهم بكم: أنكم إذا أذّن مؤذّنكم داعياً الى الصلاة استهزؤا بها، وسخِروا منكم وتضاحكوا أو لعبوا فيها، وذلك أنهم قوم لا يدركون الفرق بين الهدى والضلال.
الاسلام يأمر بالسماحة وحسن المعاملة لأهل الكتاب عامة وللنصارى خاصة اذا كانوا غير محاربين لنا، وللمواطنين بيننا، وأما المعادون لنا، الذين يساعدون اسرائيل فيهم أعداء لا يجوز موالاتهم، فمن ولاهم فقد عصى الله.
نقم منه كذا: أنكره عليه وعابه بالقول او الفعل. المثوبة: الجزاء والثواب. الطاغوت: الطغيان، وهو مجاوزة الحد المشروع. السحت: المحرّم، والدنيء من المحرمات.
بعد النداءات الثلاثة التي مرت ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى...﴾ و ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ...﴾ و ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً...﴾ يتوجّه الخِطاب إلى الرسول ان يواجه أهلَ الكتاب فيسألهم ماذا ينقمون من المسلمين؟ قل لهم يا محمد: أنتم يا أهل الكتاب، هل تعيبون علينا شيئا غير إيماننا الصادق بالله وتوحيدِه، وإيماننا بما أَنزل الله إلينا وسابقينا من رُسُله، واعتقادنا الجازم أن أكثركم خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح؟
روى ابن جرير عن ابن عبّاس قال: أتى رسولَ الله ﷺ نفرٌ من اليهود منهم ابو ياسر أخطب، ورافع بن أبي رافع في جماعة، فسألوه عمَّن يؤمن به من الرسل فقال: «أومن بالله ما أُنزل الينا، وما أنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى عيسى وما أوتي النبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون».
فلما ذَكر عيسى جحدوا نبّوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم ﴿قُلْ ياأهل الكتاب...﴾.
قل لهم: ألا أخبرُكم بأعظمِ شرّ في الجزاء عند الله. إنه انصبّ على موقعٍ لعَنَهم الله، وسخط عليهم، وطمس على قلوبهم، فكانوا كالقِردة والخنازير، وعبدوا الشيطان أولئك الذين اتّصفوا بما ذُكر من المخازي وشنيع الأمور، ولا مكانَ لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم أبعدُ الناس عن طريق الحق. ثم بيّن حال المنافقين منهم فقال:
﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾
وإذا جاءكم المنافقون، كذبوا عليكم بقوله: آمنّا، والحق أنه قد دخلوا إليكم كافرين، كما خرجوا من عندكم كافرين. كما جاء في سورة البقرة.. ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، والله أعلَمُ بما يكتمون من النفاق.
ثم ذكر في شئونهم ما هو شر مما سلف فقال:
﴿وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت﴾.
وترى أيها الرسول كثيراً من هؤلاء يساعرون في المعاصي والاعتداء عل الناس، وفي أكْلِ الحرام كالرِشوة والربا.
ثم بالغ في تقبيح هذه الأعمال، فقال ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي واللهِ، ما أقبح هذا العملَ الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد النفوس ويقوّض نظم المجتمع! ويل للأمة التي تعيش فيها أمثال هؤلاء! فهلاً نهاهم عُلماؤهم وزّهادهم عن أفعالهم القبيحة!
والى هذا أشار الله تعالى بقوله:
﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
415
هلاّ ينهى الربانيّون، والأحبار هؤلاء الذين يسارعون فيما ذُكر من المعاصي!!، لبئس ما يصنع أولئك الأحبار حين يرضون ان تُقترف هذه الأوزار والخطايا ويتركون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
روي عن ابن عابس أنه قال: ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية للعلماء إذا قصّروا في الهداية والارشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام. وعلى العلماء والحكّام وأولي الأمر أن يعتبروا بهذا السخط على اليهود، ويعلموا أن هذه موعظةٌ وذكرا لهم.
قراءات:
قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي ﴿من قبلكم والكفار﴾ بالجر، والباقون «والكفار» بالنصب. وقرأ حمزة «عبد الطاغوت» بكسر التاء، والباقون «عبد الطاغوت» فتح التاء.
416
لليد عدة معان، منها اليد الجارحةُ المعروفة، والنعمة، اذ يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها. والقدرةُ والمُلك، كما في قوله تعالى ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾. والمقصود هنا اليد الحقيقة كما يقصدون بذَلك. غُلَّت أيديهم: أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل. يداه مبسوطتان: يعني هو كثير العطاء. الحرب: ضد السلم، فهي كل ما يهيج الفتن والقلاقل، ولو بغير قتل. اقامة التوراة والانجيل: العملُ بما فيهما على أتمّ الوجوه. لأكَلوا من فوقِهم ومن تحت أرجُلهم: أي لوسَّع الله عليهم موارد الرزق. مقتصدة: معتدلة في أمر الدين.
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة بعض مخازيهم الّتي أدت الى اختلال نظُم مجتمعهم ذكر هنا أفضع مخازيهم وأقبحَها، وهي جرأتُهم على ربهم، ووصفُهم إياه بما ليس من صفته، وإنكار نعمته عليهم. والذي يطالع التلمود ويقرأ ما فيه من جُرأة على الله ومن كلام تقشعرّ له الأبدان يعلم خُبثهم وقباحتهم.
وقالت اليهود اللهُ بخيل لا تبسط يده بالعطاء، بل كذبوا إنهم هم البخلاء، لعنهم الله وأبعدهم من رحمته. ان الله عني سخيّ ينفق كما يشاء، فهو الجواد المتصرف وفق حكمته. أما تقتير الرزق على بعض العباد فإنه لا ينافي سعة الجود، فهو سبحانه له الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق.
ان كثيرا من هؤلاء المنكرين سوف يزدادون إمعاناً في الضلال، حسداً لك يا محمد، ونقمة على ما أنزله إليك ربّك من كلامه في القرآن.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ والعداوة ملموسة فيما بينهم وبين النصارى وفيما بينهم أنفسهم. وإن المقام ليضيق عن سَرْد أقوال علماء النصارى وقادتِهم ورؤسائهم في شتم اليهود وإبراز مساوئهم. لذا تجدني أكتفي بذكر بعض هذه الأقوال:
يقول بنيامين فرانكلين في خطابه في المؤتمر الدستوري التأسيسي المنعقد في فيلادلفيا (الولايات المتحدة) سنة ١٧٨٧م.
«في كل بلد استوطنه اليهود. انحطّت القيم الأخلاقيّة الى الدَّرْك الاسفل وشاعت الفوضى واللامسئولية والاحتيالُ في معاملات أبنائه التجارية. هذا بينما ينعزل اليهود متقوقعين على أنفسهم في كتَلٍ وعصابات، لم نتمكّنمن القضاء عليها ولا دمجها في مجتمعنا. لقد هزىء اليهودُ من قِيم ديانتنا المسيحية التي تقوم دولتنا عليها وتعيش بها، متجاهلين كلَّ أنظمِتنا ومحظوراتِنا، فمكّنهم ذلك من إقامة دولة لهم داخل دولتنا» إلى أن يقول:
«إنكم إن لم تطردوهم عن ديارنا فلن يمضي أكثرُ من مائتي سنة حتى يصبح أحفادُنا خَدَماً في حقولهم يمدّونهم بثروات بلادنا... ان اليهود يشكّلون خطراً عظيماً على هذه البلاد، وإنني أؤكد على ضرورة طردِهم منها ومنعِهم من الدخول إليها أو الإقامة فيها، بموجب نصوص دستورية صريحة».
417
وقد تحققت نبؤءته، فاليهود هم حكّام الولايات المتحدة الأمريكية دون جدال، وبأصواتهم في الانتخابات على الأقلّ. هذا سيرينغ، السفير البريطاني في امريكا، يقول في تقريره المؤرخ في ١٣ تشرين الثاني سنة ١٩١٤ من كتاب ادمونسون «أنا أشهد» ص ١٩٣ما يأتي: «يعتبر بول م. واربورغ الألمانيُّ المولد، اليهودي الأصل، المسيِّر الوحيدَ لسياسة الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية، إبّان عهد الرئيس ويلسون. ومنذ وفاة ج. ب. مورغن الأب، قفز أصحاب المصارف اليهودُ في أمريكا الى أرفع المراكز في السلطة وأعلى مقامات النفوذ؟.
ويقول ويليام دادلي بالي، في الصفحة ٩ من كتاب»
الامبراطورية الخفية «ما يأتي» كان للرئيس فرانكلين روزفلت ٧٢ مستشاراً، منهم ٥٢ من اليهود المهاجرين الى الولايات المتحدة. والأَهمُّ من ذلك، ان الإحصاءات الرسمية تدل على ان اليهود يملكون ٨٠ بالمائة من عقارات الولايات المتحدة وأبنيتها ومواردها الطبيعية. كما يشكّل اليهود نسبة ٨٦ بالمائة من مجموع الموظفين في واشنطن «.
هذا إلى كتب كثير أُلّفت في هذا الموضوع، لكن الأمريكان مخدَّرون تحت وطأة رشوة اليهود للمسئولين في البلاد والضغط عليهم بشتّى الوسائل المغرية.
أما الأوربيّون فإنهم تكلّموا عن اليهود وحذّروا منهم كثيراً وانتقدوهم. فهل هناك إلا قَبْضَ الريح من أمل لبعض الحكام، لا الشعوب العربية، في أمريكا! لكن كل ذلك ذهب ادراج الرياح.
﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾
كلّما همّوا بالكيْد للرسول وللمؤمنين عليهم. وقد كان اليهود يُغرون المشركين بمحاربة النبيّ والمؤمنين، بل إن منهم من سعى لتحريض الروم على مهاجمتهم. ومنهم من كان يؤوي أعداء المسلمين ويساعدهم مثل كعب بن الأشرف أحد كبار زعمائهم. وكان هذا عربياً من نبهان من طيّ، أُمه يهودية، فاتّخذ اليهودية ديناً له. وكان شاعراً، فآذى النبيَّ عليه السلام والمسلمين كثيرا الى ان قُتل.
وما سببُ هذا الكيد إثارة الفتن الا الحَسد والعصبيّة من قِبل اليهود، وخوف الأحبار ان يزيل الإسلام امتيازاتهم العلميّة والدينية التي كانوا يعيشون عن طريق استغلالها في الارتشاء والدجَل على صغار العقول.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾.
ان ما يأتونه من عداوة الرسول الكريم والمؤمنين، بنشْر الفاسد في الأرض وإثارة الحروب ليس الا الفساد بعينه. فهم يخافون اجتماع كلمة العرب، حيث تقوى شوكتهم. وبذلك يذهب نفوذ اليهود الذي يتمتّعون به، ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ بل يبغضهم ومن ثم لن ينجح سيعهم، أو يصلُح عملُهم.
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم﴾.
ولو أن اليهودَ والنصارى آمنوا بالإسلام ونبيّه، واجتنبوا الآثام التي ذكراناها لمحونا عنه سيئاتِهم التي اقترفوها وغفرنا لهم ذنوبهم، ولأدخلناهم في جنات النعيم في الآخرة.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل...﴾
لو أنهم عملوا بالتوراة والإنجيل، وحفظوهما من التحريف، وآمنوا بما أَنزل إليهم ربهم، وهو القرآن الكريم لأعطتهم السماءُ مطرها وبركتها، والأرضُ نباتها وخيراتها.
418
وهذا معنى: لأكلوا من فوقِهم ومن تحتِ أرجلهم. وكما قال تعالى ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض﴾ [الأعراف: ٩٥]
ثم بيّن الله تعالى أنهم ليسوا سواءً في أفعالهم وأقوالهم، فهناك فيهم جماعة معتدلة في أمر دينها، وهم الذين آمنوا بمحمّد والقرآن. بيد أن الكثير من جمهورهم متعصّبون مغرورون ساء ما يعلمون.
أخرج الإمام أحمد وابنُ ماجة عن زياد بن لبيد، وهو أحد الصحابة الكرام ممن شهد بدراً قال: «ذكر النبيُّ ﷺ شيئاً، فقال: وذلك عند ذهاب العِلم. قلنا: يا رسول الله: وكيف يذهب العِلم نحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم الى يوم القيامة؟ قال: ثكلتْك أمك يا ابن أُم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء».
ومغزى هذا أن العبرة في الأديان هو العمل بها، فإذا لم نعمل نحن بالقرآن الكريم، بل اكتفينا بلوْك الألسن فقط، فإن مصيرنا معروف نسأله تعالى أن يلهمنا الصواب.
419
عصمه الله: حفِظه ووقاه ومنعه من السوء.
يا أيها الرسول، بلّغْ الناس جميعاً بكل ما أوحي الله اليك، ولا تخشَ في ذلك أحداً ولا تخفْ مكروهاً، فإن لم تقم بالتبليغ تكن قد خالفت أمر ربك. ان الله يحفظك من مكائد الناس ويمنعك من أذاهم وفتكهم.
وهذه الآية مكيَّة نزلت في مكة، ولكنها وضعت في السورة المدنية لحكمة دوام التبليغ. فقد روى الترمذي وابو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن عدد من الصحابة. «أن النبيّ ﷺ كان يُحرَس في مكة قبل نزول هذه الآية، وكان العبّاس ممن يحرسه، فلمّا نزلت ترك رسول الله الحرس».
«وروى أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل قوله تعالى ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ فذهب ليبعث معه، فقال الرسول: يا عم، ان الله حفظني، لا حاجةَ بي الى من تبعث».
وقد صدَعَ رسولُ الله ﷺ بالأمر وبلّغ الرسالة جميعها، وبيّن للناس كلّ شيء ولم يخصَّ أحداً بشيء من علم الدّين، فلا مجال لرأي بعض الفرق الإسلامية بصدد ذلك.
قال ابن أبي حاتم ان هارون بن عنترة الشيباني أخبره أن أباه قال: كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال له: ان ناساً يأتوننا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يُبدِه رسولُ الله للناس. فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ واللهِ ما ورّثنا رسولُ الله سوداء في بيضاء.
وفي صحيح البخاري عن ابي جحيفة قال: قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فَلَق الحبّة وبَرأَ النَّسمة، إلاّ فَهْماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقْلُ، وفكاكُ الأسير، وان لا يقتَل مُسلم بكافر.
هذا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال في خطبة الوداع «أيها الناس، إنكم مسئولون عَنّي، لما انتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع اصبعه الى السماء وينكسها اليهم ويقول: اللهم هل بلّغت».
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾
ان الله تعالى لا يهدي الكافرين الذي هم بصدد إيذائك يا محمد بل سيظلون خائبين، وتتم كلماتُ الله تعالى حتى يكمُل بها الداين.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وابو بكر «رسالاته» بالجمع، والبقاون «رسالته».
الطغيان: مجاوزة الحد المقبول، والظلم والاسراف والتجبر. ﴿فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٣٧-٣٩].
لا تأس: لا تحزن.
بيّن الله تعالى هنا أن الانتساب الى الأديان لا ينفع أهلها إلا اذا عملموا بها، فقلْ أيها الرسول لليهود والنصارى: إنكم لن تكونوا على دين صحيح، الا اذا أعلنتم جميع الأحكام التي أنزلت في التوراة والانجيل وعلمتم بها وآمنتم بما بشَّر به الكتابان من بعثةِ نبيٍّ يجيء من وَلَدِ إسماعيل الذي سمّاه المسيحُ روح الحق والبارقليط. وأُقسم بأن الكثيرين من أهل الكتاب لا يزيده القرآن الا غلواً في تكذيبهم وكفراً على كفرهم، فلا تحزن عليهم. ويجب أن نأخذ نحن من هذه عبرا، ونتمسك بالقرآن الكريم وسنة رسوله حتى لا نكون مثل السابقين من أهل الكتاب.
وقد سبق تفسير باقي الآية الكريمة من قبلُ.
الصابئون: الكلمة آرامية الأصل، تدل على التطهير والتعميد. والصابئة فرقتان: جماعة المندائيّين أتباعِ يوحنّا المعمدان، وصابئةُ حرّان الّذين عاشوا زمناً في كنف الاسلام، ولهم عقائدهم وعلماؤهم، ومن أشهرهم ابراهيم من هلال الصابي الأديبُ الكبير، والعالِم بالفلك والفلسفة الرياضية.
ورد ذكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، مما يؤْذِن بأنهم من أهل الكتاب. وكتب عنهم المؤرخون المسلمون. وخاصة الشهرستاني في «المِلل اوالنِّحل»، والدمشقي في «نخبة الدهر في عجائب البحر». وهم يُعَدّون بين الروحانيين، الّذين يقولون بوسائط بين الله والعالم، ويحرصون على تطهير أنفسهم من دنَسِ الشهوات والارتقاء بها إلى عالم الروحانيات. للقوم طقوس ثابته، منها أنهم يتطهرون بالماء إذاى لمسوا جسداً، ويحرّمون الختان كما يحرّمون الطلاق إلا بأمر من القاضي، ويمنعون تعدُّد الزجات، ويؤدون ثلاث صلوات كل يوم بالسريانية. أما قِبلتهم فهي القطب الشمالي. وقد خدموا الإسلام في مجالات العلم والسياسة والترجمة. ولا يزال منهم بعضة آلاف في العراق الى الآن، كتب عنهم السيد عبد الرزاق الحسن رسالةً مطبوعة بمصر، وقال إنهم إربع فِرق.
وتفسير الآية الكريمة
ان الذين صدقوا الله ورسوله، واليهود، والصابئين، والنصارى وغيرهم كل اولئك اذا أخلصوا في الإيمان بالله، وصدّقوا بالعبث والجزاء، وأتوا الأعمال الصالحة التي جاء بها الاسلام فيسكنون في مأمن من العذاب، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الميثاق: العهد. الفتنة: الاختبار، ما يسّبب التخريب والقتل.
لقد أخذ الله العهد على بني اسرائيل في التوراة أن يتّبعوا أحكامها، لكنهم نقضوا هذا الميثاق (كما تقدم في أول السورة)، وعاملوا الرسل أسوأ معاملة، فكانوا كلّما جاءهم رسلو لم يوافق هواهم كذّبوه أو قتلوه. وقد أوغلوا في الضلال، حتى لم يعد يؤثّر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديتهم. لقد تمكّن من نفوسهم أنه لن تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد، انطلاقاً من زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه. لذلك لم يعودوا يبالون بآثامهم. وهكذا أصابهم العمى عن آيات الله التي أنزلها في كتبه، وصَمُّوا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل. وإذ ظلموا انفسهم فقد سلّط عليهم الله من أذاقهم الخسف.
لقد غزاهم بختنصّر، فأهلكهم واستباهم وسقاهم الى بابل. ثم رحمهم الله وأعاد اليهم مُلكهم على يد كورش، أحد ملوك الفرس، فرجع عدد كبير منهم الى القدس. لكنهم ما لبثوا ان عَمُوا وصمّوا مرة أخرى، وعادوا الى ظلمهم وفسادهم في الأرض، فقتلوا زكريّا وأشعيا، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلّط الله عليهم الفُرس ثم الرومان فأزالوا ملكهم.
وفي قوله تعالى: ﴿كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ إشارةٌ الى أنه فيهم أناسٌ خيرون أتقياء. لكن الله سبحانه يعاقب الأمم بذنوبها اذا كثرت وشاعت فيها، ولو كان فيهم قلة من الصالحين. لذلك يقول تعالى في آية أخرى ﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥].
﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾
الله مطلع عليهم مشاهدٌ لأعمالهم، ومجازيهم عليها.
قراءات:
قرأ ابو عمروا وحمزة والكسائي ﴿أَلاَّ تَكُونَ﴾ بالرفع والباقون بالنصب.
بعد ان جادل الكتابُ اليهود، وعدّد مخالفتهم لصُلْب ديانتهم، ونقضَهم المواثيق والعهود، شرع هنا يفصّل ما عمله النصارى من تحريف في عقيدتهم.
إن الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم قد كفروا وضلُّوا ضلالا بعيدا. والحق أن عيسى بريء من هذه الدعوى، فقد قال لهم عكس ما ينسبون اليه. لقد أمرهم بعبادة الله وحده، معترفاً بأنه ربه وربهم.. وجاء هذا صريحاً في الاناجيل، ففي إنجيل يوحنا (هذه هي الحياةُ الأبدية، أن يعرِفوك أنت الإله الحقيقيَّ وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلتَه). وبعد ان أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾. ن اللهَ هو الذي خلقني وخلقكم جميعاً، وهو مالك أمرِنَا جميعا، وإن كل من يدّعي لله شريكاً، فان جزاءه ان لا يدخل الجنة أبدا، وليس لمن يتعدى حدوده ويظلم ناصرٌ يدفع عنه العذاب يوم القيامة.
لقد كفر الذين قالوا ان الله، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ثالثُ أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، روح القدس، فالحق أنه يتصِف بالوحدانية، ولا تركيب في ذاته ولا في صفاته. إنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. ثم قال متوعداً ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإن لم ينتهِ هؤلاء عن العقائد الزائفة، ويرجعوا إلى الإيمان باللهِ وحده، فواللهِ ليصيبنَّهم عذابٌ شديد يوم القيامة. ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. ن الله واسع الرحمة اذا تابوا ورجعوا اليه.
ثم أكد الله تعالى ان المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال: ﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ ليس عيسى بن مريم إلا عبداً من البشر، أنعم الله عليه بالرسالة كغيره من الرسل. أمّا أمه مريم فهي صدّيقةٌ في مرتبة تلي مرتبة الأنبياء، ولكنها أيضاً من البشر، فعيسى وأمه يأكلان الطعام كغيرهما من الناس، فانظر أيها السامع نظرة عقلٍ وفكر، ثم تأمل كيف ينصرفون عن الحق مع وضوحه.
الغلو: الإفراط وتجاوز الحد. الأهواء: الآراء التي تدعو اليها الشهوة.
سواء السبيل: وسطه.
قل أيها الرسول لليهود والنصارى: أتعبدون غير الله مّمن لا يملك لكم ضُرّاً تخشَونه ولا نفعاً ترجون ان يجزيكم به اذا اعبدتموه!!. كَيف تتركون عبادة الله، وهو الاله القادر على كل شيء، السميع العالم بكل شيء!!
يا أيها اليهود والنصارى، إن الله ينهاكم عن الإفراط في معتقداتكم فتتجاوزوا حدود الحق الى الباطل. ولا تتّبعوا أهواء أسلافكم الذين ضلّوا عن الحق من قبل، وأضلّوا خلقاً كثيراً معهم. لقد حادوا عن الصراط المستقيم، وهو دين الاسلام، فلا تقتفوا آثارهم.
اللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته. يتولون الذين كفروا: يوالونهم.
يأتي هذا التقرير في موقف النبي داود وعيسى عليهما السلام من اليهود على مدى التاريخ، وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل لعصيانهم وعدوانهم. وقد استجاب الله له جزاء سكوتهم عن المنكر يفشو فيما بينهم.
لعن الله الذين كفروا من بني اسرائيل في الزبور والانجايل، من جرّاء تماديهم في العصيان وتمرّدهم على الأنبياء، وهذا معنى ﴿بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾. ثم بيّن أسبابَ استمرارهم في العصيان فقال: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ فدأبُهم ألا يتناصحوا، فلا ينهى احد منهم احداً عن منكَر يقترفه مهما قُبح. وفي الآية تلميح إلى فشوّ المنكَرات فيهم، وانحلال مجتمعهم لما فيه من فسق وفجور. وهذا داء قديم فيهم، لا يزال مستمرا حتى الآن، فَ ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ من اقتراف المنكرات، والسكوت عليها.
هذا ما يحدثنا به اخواننا من الشعب الفلسطيني عن مجتمع اليهود. إنه موبوء فاجر.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أولَ ما دخل لنقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فقول: يا هذا، اتقِ الله ودعْ ما تصنع، فإنه لا يحِلّ لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك ان يكون أكيله وشريبه وقَعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض» ثم قال ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ..﴾ إلى قوله ﴿فَاسِقُونَ..﴾ الآيات. ثم قال ﷺ: «كَلاّ واللهِ لتأمُرنّ بالمعروف، ولتنهَوُن عن المنكر، ثم لتأخذُن على يد الظالم ولتأطِرُنَّه على الحق، أو لتقسُرُنّه على الحق قسراً، أو ليضربنّ اللهُ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم».
تأطِرنّه: تردُّونه، والقسر: القهر.
والأحاديث في ذلك كثيرة وصحيحة. وأظن كثيراً من أحوالنا تسير الى السوء، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطّل. نسأله تعالى ان يردنا الى ديننا.
﴿ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾
هذا هو من الأمور التي كانت تقع منهم، فقد كان اليهود يتحالفون مع مشركي قريش والعربِ ضدّ النبي والاسلام. وقد ذهبَ كعبُ بن الأشرف مع جماعة منهم الى مكة يحرّض كفّار قريش على قتال الرسول الكريم، كما حالف بنو قريظة المشركين في وقعة الخندق. وحوادثهم كثيرة.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ﴾
إن هذه الشرور عمل ادّخرته لهم أنفسُهم الشريرة حتى غضب الله عليهم، وسيخلَّدون في جهنم وبئس المصير.
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾.
ولو كان أولئك اليهود الذين يتولَّون الكافرين من مشركي العرب، يؤمنون بالله والنبي، وما أُنزل اليك من القرآن، لما اتخذوا عبدة الأوثان أنصاراً، ﴿ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ متمردون في النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون الا الجاه والرياسة.
العداوة: البغضاء. المودة: المحبة. القَس: جمعه قُسوس، والقسيس: جمعه قسيسون، الذي يكون بين الشمّاس، والكاهن. الراهب: العابد المنقطع عن الناس في دير أو صومعة حرم نفسه فيها من التنعم بالزواج ولَذَّات الطعام. تقبيض من الدمع: تمتلىء دمعا حتى يتدفق من جوانبها. مع الشاهدين: الذين شهدوا وصدّقوا نبوة محمد ﷺ. فأثابهم: جازاهم.
نزلت هذه الآية في نجاشي الحبَشَة وأصحابه، حين هاجر فريق من المسلمين إلى هاك. قالت أم سَلَمة وكانت من المهاجرات الى الحبشة قبل ان يتزوجها الرسول الكريم: لما نزلنا بأرض الحبشة جاوَرَنا بها خيرٌ جارٍ، النجاشي.. امِنّا على ديننا وعبدْنا الله تعالى لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه.
وقد بقي المهاجرون فيها الى ان هاجر الرسول الكريم الى المدينة، ولم يقدِروا الوصول اليه، فقد حالت بينهم وبينه الحرب.
فلما كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديق قريش، قال كفار قريش: ان ثأركم بأرض الحبشة، فابعثوا الى سيّدها رجلين من ذوي الرأي فيكم مع هدايا له ولرجاله لعلّه يعطيكم مَن عنده فتقتلونهم بقتلى بدر. فعبث كفار قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن ابي ربيعة بهدايا. فخرجا حتى قدما على النجاشي، فأهَدوا الى البطارقة مما معهما من الهدايا، وطلبوا منهم ان يساعدوهما عند الملك بأن يسلّمهما أولئك المهاجرين. ثم قابلا النجاشي وقدّما له هداياهما فقبلها منهما. ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، قد جاء الى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا من آبائهم وأعمامهم أشرافُ قومه لتردهم إليهم. فقالت بطارقته حوله: صدَقا أيها الملك، فأسلمْهُم إليهما. فغضب النجاي ثم قال: لا واللهِ لا أُسلمهم حتى أدعوَهم، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. ثم أرسَل إليهم. فلما جاؤا، قال لهم النجاشي وأساقفته: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين آحد؟
فقام جعفر بن ابي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف. وظللنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وعفافه، فدعانا الى الله، أن نوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد قبله من الحجارة والأوثان. ولقد أمرَنا بصِدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. كما نهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصنات. أمرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فصدّقناه وآمّنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله...
427
فعدا علينا قومُنا فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا لنرتدّ الى عبادة الأوثان... فلمّا قهرونا وضيقوا علينا، خرجنا الى بلادك، ورغبنا في جوارك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به من الله من شيء؟ قال جعفر: نعم أول سورة مريم. قالت أم سلمة: فبكى والله النجاشي، حتى اخضلّت لحيته. وبكت اساقفته حين سمعوا ما تلا جعفر. ثم قال النجاشي: ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إنطلِقا، فوالله لا أسلّمهم إليكما. الخ القصة.
فهذه القصة من أسباب نزول هذه الآيات. فبعد أن حاجّ اللهُ تعالى أهل الكتاب، وذكر مخالفتهم لكتبهم وأنبيائهم، وانهم اتخذوا الاسلام هزواً ولعبا، وبلغت الجرأة باليهود ان يتطالوا على الله بقولهم ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾، وان النصارى اعتقدوا بأن المسيح ابن الله ذكر هنا احولهم في عداوتهم للمؤمنين، أو محبتهم لهم. ومقدار تلك العداوة أو المحبة:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾
قسَمَاً أيها الرسول لسوف تجد أشد الناس عداوة لك وللمؤمنين معك، اليهودَ المشركين من عبدة الاصنام. وقد وقع ذلك. فإن أشد إيذاء واجهه النبي عليه السلام إنما كان من اليهود في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب، ولا سيما قريش.
ويشترك اليهود والمشركون في بعض الصفات والاخلاق، كالتكبّر والغرور، وحب المادّة، والقسوة. والمعروف عن اليهود انهم يعتبرون كل من عداهم لا حرمة له ولا قيمة، فكل مَن كان غير يهودي مباح لهم دمه وماله وعرضه، هذا مقرَّر في تملودهم.
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾
أما أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدّقوك فهم النصارى. رأى النبي من نصارى الحبشة أحسن المودة. ولما أرسل كتبه الى الملوك ورؤساء الدول كان النصارى منهم أحسنَ ردا، واستقبالاً للرسل. والواقع ان مودة النصارى للمسلمين في عصر النبي الكريم كانت ظاهرة ملموسة.
﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً...﴾
وسببُ تلك المودّة أن فيهم قسيسين يعلّمون دينهم، ورهبانا يخشون ربهم. هذا كما أنهم لا يستكبرون عن سماع الحق واتّباعه. وفيهم من إذا سمعوا القرآن وتأثروا به، فتفيض اعينهم بالدمع. انهم يعرفون ان ما سمعوه حق، فتميل اليه قلوبهم وتنطلق ألسنتهم بالدعاء الى الله قائلين: رنبا آمنا بك وبرسُلك، وبالحق الذي انزلته عليهم، فتقبّل منا إيماننا، واجلعنا مع الشاهدين من أمة محمد الذين جعلتهم حجة على الناس يوم القيامة. وأي مانع يمنعنا من الايمان بالله، وتصديق ما جاء على محمد ونحن نرجو ان يُدخلنا ربنا الجنةَ مع خبرة عباده!!
لذا كتب الله لهم ثواباً، جنات تجريى من تحتها الانهار، خالدون فيها الى الأبد.
هذا جزاء المحسنين من ربهم. اما عقاب المسيئين الى انفسهم بالكفر والجحود والتكذيب، اي: ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ فهو الجحيم. انهم أهل النار، وسيبقون في العذاب الشديد الدائم.
428
ويجب ان نوضح هنا موضوعاً مهما، وهو أن النصارى الذين تعنيهم الآية إما هم أصحاب النجاشي الذين عاصروا النبيّ، وقد جاء بعضهم مع جعفر بن ابي طالب الى المدينة وأسلم.
اما اذا استعرضنا النصارى الأوروبيين، وما كادوا للاسلام والمسلمين، وما شنّوه من حروب صليبيّة مجرمة في المشرق الاسلامي كما في الاندلس، وما قاموا به من مذابح يسعّرها التعصب والحقد فإننا لا نجدهم يختلفون عن اليهود. بل إن احقادهم مستمرة في موازرة الصهيونية. وقد لنا سابقا، ونكرر هنا ان هذا لا يشمل النصارى العرب، الذين لم يقصروا في واجبهم نحو وظنهم واخوانهم.
429
عندما نزلت الآيات السابقة، وفيها مدح للقسيسين والرهبان، ظنه بعض المؤمنين ان في هذا ترغيبا في الرهبانية، ودعوةً إلى ترك الطيبات من الطعام واللباس والنساء، فأزال الله تعالى هذا الظن بهذا النهي الصريح.
ذلك ما يرويه كثير من المحدّثين. فقد روى الطبري: ان عثمان بن مظعون وعلي بن ابي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأَسْود، وسالماً مولى ابي حذيفة، وقدامة بن مظعون تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس، وهمّوا بالاختصاء واجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية. فلما نزلت، بعثَ اليهم رسول الله فقال: «ان لأنفسكم حقاً، وان لأعينكم حقاً، وان لأهلهكم حقا، فصلّوا وناموا، وصوموا وأفطِروا، فليس منا من ترك سنّتنا» فقالوا: اللهمّ صدّقْنا واتبعنا ما انزلت مع الرسول.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، لا تحرّموا على أنفسكم ما احلّ الله لكم من الطيبات، ولا اعطاكم الله من الرزق الحلال، ولا تعتدوا بالتضييق على انفسكم مما لم يكلّفكم به الله.
من محاسن شرعنا انه يميل دائما الى التوسط في الأمور، وعلينا ان نقتدي بالرسول الكريم عليه صلوات الله، فانه كان يأكل أطيب الطعام، إذا وجد، وتارة يأكل اخشنه، وحينا يجوع، واخرى يشبع، ويحمد الله على الحالين.
اللغو في اليمين: الحلف على وجه الغلظ من غير قصد. بما عقدتم: بما قصدتموه. الكفّارة: الستر والتغطية، لانها تمحو الذنوب وتسترها. الاوسط: الطعام العادي، ليس. بالرديء، ولا الفاخر. تحرير رقبة: عتقها.
روى ابن جرير عن ابن عباس، قال: لما نزلت ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ قالوا يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾.
لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تحلفونا بلا قصد، ولا يعاقبكم عليها، وإنما يعاقبكم إذا أنتم حنثتم باليمين فيما قصدتم به.
فلو قال رجل: واللهِ لا أفعل كذا، وفَعَلَه، فعليه الكفّارة. وهذه الكفارة هي إطعام عشرة مساكين وجبةً واحدة، مما جرت العادة أن تأكلوا في بيوتكم من غير إسراف ولا تقتير. او كِسوة عشرة مساكين كسوةً معتادة. او ان تحرروا إنسانا من الرق. فاذا لم يستطع الحالف القيام بأي من هذه الأمور فعليه ان يصوم ثلاثة أيام. ان كل واحد من هذه الامور كفارة كافية، لكنّ عليكم ان تحفظوا أيمانكم فلا تحلفوا على أتفه الاشياء. لا تُكثروا من الأيمان سواء أكانت صادقة ام كاذبة، فالاحسنُ تجنُّب الحلف.
﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
على ذها النحو الشافي الوافي يبين الله أحكامه ويشرحها لكم، لتشكروا نعمته بعد معرفتها بالقيام بحقها.
والإيمان ثلاثة أقسام:
(١) قسم ليس من أيمان المسلمين، مثل الحلق بالمخلوقات، نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وغير ذلك.. وهذه من اللغو في الايمان، غير منعقدة، ولا كفارة فيها، ولا يجوز الحلف بها.
(٢) أيمان بالله تعالى، كقول الحالف: واللهِ لأفعلنّ كذا، وهذه يمين منعقدة فيها الكفّارة عند الحلف.
(٣) أيمان بمعنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنِّذْر، والحرام الطلاق، كقوله: إن فعلتُ كذا فعليّ صيام شهر، أو الحج الى بيت الله، اوالطلاقُ يلزمني، او عليّ الطلاق لا أفعل كذا، او ان فعلته فنسائي طوالق، او كل صدقة او نحو ذلك، فهذا كله فيه كفّارة اليمين.
وهناك نوع من الأيمان تسمى اليمين الغموس، وهي كما جاء في صحيح البخاري عند عبد الله بن عمرو قال: «جاء اعرابي الى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس». قال وما اليمين الغموس؟ قال: «التي يُقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب».
فهذه اليمين لا كفّارة فيها لأنها جرم لا يُغتفر. ولأنها تغمس صاحبها في النار، ولا يكفّرها عتق ولا صيام ولا صدقة، بل لا بدّ من التوبة ورد الحقوق.
ويلاحظ ان الكفّارات وردت كثيراً في عتق العبيد، فان الاسلام رغّب كثيراً في عتقه، والعتق يدخل في أكثر الكفّارات للذنوب.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي وابو كبر عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» وقرأ الباقون «عقدتم».
الخمر: كل شراب مسكر. الميسر: القمار. الانصاب الأصنام التي نصبت للعبادة، وكانوا يذبحون قرابينهم عندها. الأزلام: قِداح اعواد من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية. الرجس: المستقذَر حساً او معنى.
بعد ان نهى سبحانه عن تحريم الحلال من الطيبات، وامر بأكل الطيّب من الرزق، نظر إلى الخمر والميسر والازلام. وكانت هذه من الطيبات في الجاهلية، وكان العرب يشربون الخمر بإسراف، بل يجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها. وكان يصاحب مجلسَ الشراب نحرُ الذبائح، واتخاذ الشواء منها للشاربين، والمقامرة عليها بالأزلام. كذلك كانوا يذبحون قرابينهم عند الانصاب.. فنهى الله تعالى عن هذه المفاسد كلها نهياً قاطعاً، بعد ان مهد لتحريم الخمر مرتين من قبل هذه الآية.
وأول ما ذُكرت الخمر في سورة النحل، وهي مكيّة، في قوله تعالى ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً....﴾ الآية.
ثم نزل في المدينة وفي سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا....﴾ الآية فالمنافع في الربح والتجارة، والإثم في الشر والمفاسد التي تنجم عنهما. وقد تركها بعضُ الصحابة، واستمر آخرون.
ثم نزل قوله تعالى في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...﴾ الآية كذلك تركها البعضُ واستمرّ عليها آخرون. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ دائما يقول: اللهم بَيّن لنا في الخمر. وقد حدثت حوادث بين بعض الأنصار ونفرٍ من قريش، وهم على الشراب، وكان من جملة الذي لحقهم أذى سعد بن أبي وقّاص حيث ضربه احد الانصار ففَزَر له أنفه. وحين نزلت ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب...﴾ الآية كانت الحاسمة في تحريم الخمر تحريماً قاطعاً.
يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله: إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تقامرون به، والاصنام التي تذبحون عندها قرابينكم، والازلام التي تستقسمون بها، كل ذلك رِجسٌ قذِر من إغواء الشيطان لكم، وقد كرهه لكم ولذلك حرّمها، فاجتنبوها نهايئاً، رجاء ان تفلحوا وتفوزوا برضاه.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾.
بعد ان أمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين: احدهما دنيوية، هي ايقاع العداوة والغضاء بين الناس. والثانية دينية هي الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة التي هي عماد الدين. ثم اكد بذلك بهذا الاستفهام بقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾، أي انْتَهُوا عن هذه الأشياء.
وأسمعُ بعض الناس يقولون: ان الخمر غير محرّمة، لأ، هـ لم يقل الله انها حرام صراحةً بل قال: اجتنبوه.
432
وقولهم هذه كلام فيه الهوى والتذرّع بالتلاعب بالالفاظ لتعليل الأمور التي يحبونها، فالقرآن ليس كتاب فقه حتى ينصّ على كل شيء بأنه حارم او حلال، وانما هو قرآن كريم له اسلوب عربي فريد لا يدانيه اسلوب. واكبر دليل على تحريم الخمر تحريما نهائياً أن الله تعالى قرن الخمر بالميسر الذي هو القمار، وبالأزلام والأنصاب، وقد جاء تحريم الأزلام والانصاب صريحاً بقوله تعالى في أول هذه السورة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ...﴾ الآية ولما نزلت ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر...﴾ الآية قال سيدُنا عمر: أُقرِنْتِ بالميسِر والأنصابِ والأزلام، بعداً لكِ وسحُقا.
فإذا كانت عبادة الأصنام والذبحُ عندها تقرّباً لها حلالا، فإن الخمر تكون حلالا، واذا كانت الأزلام والاستقسام بها حلالا، فإن الخمر تكون كذلك، واذا كان الميسر والمقامرة حالاً فإن الخمر كذلك تكون حلالا.. الذين يقولون بتحليلها أناس يتّبعون أهواءهم، ولا يخشَون الله فيما يقولون.
والأزلام: هي سهام من خشب، وهي ثلاثة أقسام. (١) قِداح الميسر وهي عشرة واساؤها كما يلي: الفَذّ والتوأم والرقيب والحِلْسُ والنافِس والمُسيل والمعلَّى والمَنِيح والسَّفِيح والوغد، ولكل واحدٍ من هذه نصيبٌ اذا فاز، واذا خاب عليه ذلك النصيب. وأعلاها المعلَّى له سبعة أجزاء. (٢) والقسم الثاني: ثلاثة ازلام: مكتوب على أحدها: امرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، والثالث غُفل ليس عليه كتابة. (٣) وهذا القسم للأحكام.
وكانت العرب في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً او تجارة او نكاحاً او اختلفوا في نسب، أو أمر قتيل أو تحمُّل دية مقتول او غير ذلك من الامور جاء الى هُبَل، أعظم صنم في الكعبة لقريش، وقدّم مائة درهم الى السادن، فيخرج له القداح ويسحب واحداً منها من الكيس التي هي فيه. فإذا خرج أمرني ربي، أمضى عمله، والا تركه.
ولقد رحم الإسلام هذه الأمور لأنها تشتمل على مفاسد، والاسلام يريد ان يبني مجتمعاً نقيا طاهرا.
433
طعم: ذاق، وتأتي بمعنى أكل. جناح: إثم او جُرم.
أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من المحرّمات، وأطيعوا الرسول فيما بيّنهن لكم مما نزّل عليكم، واحذروا ما يصيبكم اذا خالفتم ذلك من فتنة في الدنيا وعذاب في الآخرة.. فإن أعرضتم عن الطاعة، فتيقنوا ان الله معاقبكم. ولا عذر لكم بعد هذا البلاغ الواضح المبين. وفي هذا تهديد ووعيد شديد.
ليس على الذين آمنوا وصدّقوا بالله ورسوله، وأتوا بصالح الأعمال إثمٌ فيما يأكلون من الطيبات ولا فيما سبق أن أكلوه من المحرّمات قبل عملهم بتحريمها، شرط ان يبتعدوا عنها بعد الآن، وان يستمروا على خوفهم من الله وتصديقهم بما شرعه لهم من احكام. والله يجب المتقربين اليه بنوافل الاعمال التي يرضاها. والاتقاء الأول في هذه الآية: هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير. والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرب بنوافل الاعمال.
الابتلاء: الاختبار. الصيد: كل صيد من حيوان البر والبحر. تناله ايديكم: تصيدونه. حُرُم: مفرده حرام، للذكر والانثى، وهو المحرِم بحج او عمرة. النعم: الحيوان من البقر والضبأن والإبل. العدل: بفتح العين، والمُساوي للشيء. الوبال: الشدة، وسوء العاقبة. السيّارة: جماعة المسافرين. تُحشرون: تجمعون وتساقون اليه.
كان الصيد احد معايش الناس في ذلك الزمان، وكان كثير من الصحابة لا مورد لهم إلا ما يصيدون، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية، وفيها تحريم الصيد للمحرم بالحج او بالعمرة.
يا أيها الذين آمنوا، إن الله يختبركم في الحج بترحيم صيد الحيوان البريّ بأيديكم أو برماحكم، ليُظهر الذين يراقبونه منكم في غيبية من اعين الخلق ويعلم إطاعتكم لأوامره. وما ذلك إلا تربية لكم وتزكية لنفوسكم، فمن اعتدى بأن أخذ شيئاً من ذلك الصيد بعد هذا التحريم فله عذاب شديد في الآخرة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «إن هذا البلدَ حرام، لا يُعضَد شجره، ولا يُختلى خلاه، ولا يُنفَّر صيده، ولا تُلتقط لُقطتُه إلا لمعرّف».
يُعضد شجرة: يقطع. الخلا: الرطب من النبات، ويختلى يُحَشّ.
ولا يجوز قتل او صيد أي حيوان أو طير ما عدا «الغراب والحَدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور والحيّة» كما ورد في الاحاديث الصحيحة.
وفي الصحيحين، ان رسول الله عليه السلام قال: «ان ابراهيم حرَّم مكةَ ودعا لها، وإنّي حرّمتُ المدينة كما حرّم إبراهيمُ مكة»، كما قال: المدينُ حَرَمٌ ما بين عِيرَ الى ثَور «.
عير: جبل كبير القسم الجنوبي من المدينة. ثور: جبل صغير خلف جبل أحُد.
يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وقد نويتم الحج والعمرة. ومن فعله منكم قاصداً فعليه ان يؤدي نظير الصيد الذي قتله، يُخرجه من الإبل والبقر والغنم، بمعرفة رجلَين عادلين منكم يحكمان به، ويقدّم ذلك هدية للفقراء عند الكعبة.. او يدفع لدله إليهم.. أو يُخرج بقيمة المِثْل طعاماً للفقرا، لكل فقير ما يكفيه يومه. هذه كفّارة مسقطة لذنب تعدّيه على الصيد في الوقت الممنوع. فإذا عجز عن الثلاثة السابقات، فإن عليه ان يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقّون الطعام لو أخرجه.
وقد شُرع ذلك ليحس المعتدي بنتائج جرمه. لقد عفا الله عما سبق قبل التحريم، اما من عاد الى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي فان الله سيعاقبه، والله غالب على أمره، ذو انتقام شديد ممن يصر على الذنب.
والآية صريحة في ان الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة اذا لم يتكرر الذنب، فان تكرر استُحق.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: اذا قتل المحرِم شيئاً من الصيد فعليه الجزاء، فإن قتل ظبياً او نحوه فعليه ذبحُ شاة في مكة، فان لم يجد فإطعام ستة مساكين، فان لم يجد صام ثلاثة أيام.
435
أما إن قتل أيّلاً «من بقر الوحش» فعليه بقرة، فإن لم يجد صيام عشرين يوما. وإن قتل نعامة او حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بُدنة من الإبل، فان لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما، والطعام مدُّ يشبعهم.
وقد أُحل الله لكم صيد حيوان البحر، تأكلون منه وينتفع به المقيمون منكم والمسافرون، ووحرم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين بالحج او العمرة، سواء صاده غيركم، أو انتم قبل إحرامكم. واتقوا الله بطاعته فيما امركم به وما نهاكم عنه، فإن إليه مرجعكم، فيجازيكم على ما تعملون.
يشيع على ألسنة بعض الناس خطأ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر﴾ ولا يوجد في القرآن آية بهذا النصّ، وإنما ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً...﴾.
قراءات: قرأ الكوفيون ويعقوب «فجزاءُ مثلُ» برفع جزاء ومثل، وقرأ الباقون «فجزاءُ مثلٍ» برفع جزاء والاضافة. وقرأ نافع وابن عامر «كفَارةَ طعامٍ» بالاضافة والباقون «كفارةً» بالتنوين.
436
الكعبة: هي البيت الحرام بمكة. قياما: ما يقوم به أمر الناس. الشهر الحرام: ذو الحجة. الهَدي: ما يُهدى الى الحرم من الأنعام. القلائد: الأنعام التي كانوا يزينونها بقلائد اذا ساقوها هَديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها.
جاءت هذه الآية استكمالاً للسياق السابق، فلقد حرّم الله في الآية المتقدمة الصيد على المحرِم، باعتبار الحرم موطن أمنٍ للوحش والطير، فالأَولى إذن ان يكون موطن أمن للناس من الآفات والمخاوف، وسبباً لحصول الخير والسعادة للناس في الدنيا الآخرة.
ان الله جعل الكعبة التي هي البيت الحرام مانعاً وحاجزاً تؤمّن الناس، أرواحَهم ومصالحهم ومنافعهم في معاشهم، بها يلوذ الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح التاجر، ويتوجه اليها الحجاج والمعتمرون.
فمعنى «قياما» المانع الذي به يكون صلاح الناس، كالحكومة التي بها قوام الرعية، ترعاهم وتحجز ظالمهم، وتدفع عنهم المكروه. كذلك هي الكعبة والشهر الحرام والهَدي والقلائد قوام العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية.
فقد كان الرجل لو فعل اكبر جريمة ثم لجأ الى الحرم لم يُتناول، ولو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يَعرِض له أو يقربه، ولو لقي الهديَ مقلَّدا، وهو يأكل العصَب من الجوع لم يقربْه. كان الرجل اذا اراد البيت تقلّد قلادة من شَعر فَحَمَتْه من الناس، وإذا عاد من الحج تقلد قلادة من الأّذْخر أو السَمُر فمنعته من الناس حتى يأتيَ أهله.
الاذخِر: نبات كيب الريح: السَّمُر: مفمردها سَمُرة، شجر الطَّلح.
وهي في الاسلام معالم حجَ الناس، ومناسكهم، فهم في ضيافة الله اذ ذاك، فليعلموا على جمع شملهم، ويتجهوا اليه في صلاتهم. أما الهدي فقد جعله تعالى سبباً لقيام الناس، لأنه يُهدى الى البيت ويًُذبح ويفرَّق لحمه على الفقراء.. بذلك يكون نسكا للمُهدي، وقياماً لمعيشة الفقراء.
﴿ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ.... وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
ان ذلك التدبير اللطيف من الله تعالى إنما جعله كي توقنوا أن علمه محيط بما في السماوات وما في الارض، فهو يشرّع لمن فيهما بما يحفظهم ويقوم بمصالحهم. فإذا احست قلوب الناس رحمةَ الله في شريعته، وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم، أدركوا يقيناً ان الله بكل شيء عليم.
قراءات:
قرأ ابن عامر «قِيَما» وقرأ الباقون «قياما» كما هو هنا في المصحف.
بعد ان ارشدنا الله تعالى في الآية السابقة الى بعض آياتِ علمه في خلقه نبهنا هنا الى أن العليم بكل شيء، لا يمكن ان يترك الناس سُدًى، كما انه لم يخلُقهم عَبَثا، فلا يليق بحكمته وعدله ان يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين عملوا الصالحات، ولا ان يسوّي بين الطيب الخبيث، فيجعل البَرّ كالفاجر. لا بد إذن من الجزاء بالحق. ولا يملك الجزاء الا من يقدر على العقاب كما على المغفرة والرحمة. لذلك جاءت هذه الآيات ترغيباً وترهيباً، فقال: ﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، فلأنه يعلم ما في السموات والارض، لا يخفى عليه شيء من سرائر اعمالكم وعلانيتها. ومن ثم فهو شديدٌ عقابُه لمن عصاه، وواسعة مغفرته لمن أطاعه وأناب اليه. والله سبحانه وتعالى دائما يوعد ويَعِد، والرحمة غالبة. لذلك يغفر كثيرا من ظلم الناس لأنفسهم ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾.
﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾
هذا بيان لوظيفة الرسول ﷺ، فليس عليه الا أن يؤدي الرسالة، وبعد ذلك يكون الناس هم المسئولين عند الله، وهو يعلم ما يبدون وما يكتمون.
وبعد ان بين الله تعالى ان الجزاء منوط بالأعمال، اراد ان يبيّن ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها، وأرشد الى حقيقتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء:
١- لا يستوي الرديء والجيد من الاشياء والأعمال، لا من حيث صلاح أمور الحياة بهما، ولا في حكمهما عند الله. فبالظلم لا تستقيم الحياة ولا يرضى الله عنه. وذلك بخلاف العدل والصلاح.
٢- ان الخبيث غرّار في الظاهر، لكن الطيّب أفضلُ وأبقى. فالقليل من الحلال خير من الكثير الحرام، كما أنه أدوَم وأطهر.
وما دام الأمر كذلك يا ذوي العقول المدركة، فسارعوا الى ط اعة الله وقاية لكم من عذابه، باختيار الطيبات واجتناب الخبائث. بذلك تفوزون في الدنيا والآخرة.
بعد ان بين الله تعالى ان وظيفة الرسول هي التبليغ، ناسَبَ ان يصرّح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي كمُل به الاسلام، وانه لا ينبغي للمؤمنين ان يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سبباً لكثرة التكاليف التي يشقّ على الأمة احتمالها.
يا أيها المؤمنون، لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف ولا من امور الغيب، مما يُحتمل أن يكون إظهارها سبباً لإرهاقكم، إما بشدة التكاليف وكثرتها، أو بظهور حقائق تفضح أهلها، وإن تسألوا النبي عنها في حياته اذ ينزل عليه القرآن يُبّينها الله لكم. ولقد فعلتم ذلك، لكن الله عفا عن مسألتكم، وهو حكيم بكم رؤوف في معاملتكم. عفا الله عنكم في هذه الاشياء، فلا يعاقبكم عليها، ولقد سأل عن أمثال هذه الامور الشاقة اقوام سبقوكم، وأجابهم الله على السنة انبيائهم، وحين زادت التكاليف ثقُل عليهم تنفيذها، فأعرضوا عنها وأنكروها. وبذلك كانوا هم الخاسرين.
والله سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر لا العسر، وقد أنزل هذا القرآن ليربي الرسول على هَديه وينشىء مجتمعا متكاملا، فمن الأدب مع الله والرسول ان يترك الناس لحكمة اللهة تعالى تفصيل تلك الشريعة وإجمالها.
وفي الحديث الصحيح عن ابي ثعلبة الخشني قال، قال رسول الله عليه السلام: «ان الله فرض فرضا فلا تضيّعوها، وحدَّ فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن اشياءَ رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» رواه الدارقطني وغيره.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: «ذَرُوني ما تركتُكم، فإذا أمرتُكم بشىء فأتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه، فانما أُهلِكَ مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم».
وذكر عن الزهري قال: «بلغنا ان زيد بن ثابت الانصاري وهو من علماء الصحابة الكرام كان يقول اذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يعلم، وان قالوا: لم يكن، قال: ذروه حتى يكون».
البحيرة: الناقة اذا انتجت خمسة أبطن آخرُها ذكَر، شقّوا أُذنها وخلّوا سبيلها فلا تُركب ولا تُحمّل. السائبة: كان الرجل يقول اذا شُفيت من مرضي فناقتي سائبة، ويجعلها مثل البحيرة. الوصيلة: اذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، واذا ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، واذا ولدت توءماً ذكرا وأنثى قالوا: وصلتْ أخاها فلا يُذبح الذكر. الحامي: كان من عادتهم إذا تَنُج من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره، ولم يمنعوه من ماءٍ ولا مرعى وقالوا حَمى ظَهْرَه.
بعد ان نهى الله تعالى في الآية السابقة عن السؤال عما لا لزوم له من الأمور، ناسَابَ ان يبيَن هنا ضلال أهل الجاهلية وخرافاتهم فيما حرموه على انفسهم، فقال: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ بالمعنى المشروح أعلاه. فهذه الامور كلها من بدع الجاهلية، ﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب﴾، أي يضعون من عندهم تقاليد وعادات، ينسبونها الى الله كذبا وزوراً.
قال ابن الكَلْبي في كتاب «الأصنام» :«كان أو من غيّر دين اسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة، ووصَل الوصيلة، وبحرَ البحيرة، وحمى الحامي، عمرو بن لِحْي الخُزاعي. فقد مرض مرضاً شديدا فقيل له إن بالبلقاء من الشام حَمّةً إنْ أتيتهَا بَرِئتَ. فأتاها، فاستحمّ بها فبرىء. ووجد أهلَها يعبُدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا نستقي بها المطر ونستنصر بها على العدو. فسألهم ان يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكّة ونصَبَها حول الكعبة.
وقد روى ابن جرير عن ابي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم بن الجون الخُزاعي:»
يا اكثر، رأيت عمرو بن لِحْي يجر قُصْبَهُ يعني أمعاءه في النار، فما رأيتُ من رجلٍ أشبه برجُل منك به، ولا به منك. فقال أكثم: أيضرني شَبَهُه يا نبي الله. قال: لا، لأنك مؤمن وهو كافر، وإنه أول من غيّر دينَ اسماعيل، ونصب الأوثان وسيّب السوائب، فيهم «أي في اهل الجاهلية.
حسبُنا: كفانا.
واذا قيل لهؤلاء الجاحدين: تعالوا الى ما انزل الله من القرآن، وما بيّنه الرسول من الشريعة لنهتدي به قالوا: لا نبغي زيادة، بل يكفينا ما وجدْنا عليه آباءَنا، فهم لنا أئمة وقادَة. بذلك يصرّون على التقليد الأعمى حتى لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع، ولا يهتدون سبيلا الى الصواب.
عليكم أنفسكم: احفظوها، والزموا اصلاحها.
بعد ان نَعَى الله تعالى على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد في اتباع القديم المتوارَث رغم عماه، دون إخضاعه لنقد ولا تمحيص أمر المؤمنين أن يهتموا بإصلاح أنفسِهم، فاذا أصلحوها وقاموا بما أوجب الله عليم، لن يضرّهم بعد ذلك ضلالُ غيرهم.
روى ابن جرير عن قيس بن ابي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرأون ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآية ولا تدرون ما هي. وإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا منكَرا فلم يُغَيِّروه عَمَّهُم بِعقاب».
ومعنى أن الأمة يجب أن تتخلَّى عن واجباتها في دعوة الناس الى الهدى، ولا في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، فإذا ضل أناسٌ من غير ديننا، ولم يستجيبوا لهدايتنا، فلا يضرُّونا ذلك. أما اذا قصّرنا في الدعوة، فقد يعمُّنا العقاب.
اعلما أيها المؤمنون بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا من حاد عن سبيلي، بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، فإن اليّ مرجعكم، وأَنَا العالِم بما تعملون من خير وشر، وفأُخبركم يوم الحساب بكل ذلك ثم أجازي كل فرد على ما قدّم.
الشهادة: قول صادر عن علم حصل بالمشاهدة. ضربتم في الارض: سافرتم. تحبسونهما: تمسكونهما وتمنعونهما من الهروب. ارتبتم: شككتم في صدقهما فيما يُقِرَّانِ به.
يرشدنا الله تعالى هنا الى اداء الشهادة بحقها، بالوصية، حتى لا يضيع حق من الحقوق على أصحابها، فيقول:
يا أيها الذين آمنوا: حينما تظهر على احد منكم علامة الموت، ويريد ان يوصي بشيء، فالشهادة بينكم على الوصية: أن يشهد اثنان عادلان من اقاربكم، أو آخران من غيركم اذا كنتم في سفر. وعليكم ان تجمعوا هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس، فيحلفان بالله قائلين: لا نستبدل باليمين عِوضاً ولو كان فيه نفع لنا او لأحد من أقاربنا، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها.. فاذا أخفينا الشهادة أو قلنا باطلاً حقَّ علينا عذابُ الله لأننا ظالمان.
فان ظهر فيما بعد ان الشاهدين قد كذبا في شهادتهما او اخفيا شيئا، فإن اثنين من اقرب المستحقين لتركة الميت، هما أحقُّ أن يقفا مكان الشاهدَين بعد الصلاة، ليحلفا بالله أن الشاهَدين قد كذبا، وأن ذينك الرجلين لم يتّهما الشاهدين زورا وبهتاناً، ولو فعلا فإنهما يكونان من الظالمين المستحقين عقاب من يظلم غيره.
ان هذا التشريع اقرب اطلرب الى ضمان أن يؤدي الشهود شهاداتهم صحيحة، وذلك محافظة على حلفهم بالله، وخوفا من فضيحتهم بظهور كذبهم، حين يحلف الورثة لردِّ أيمانهم. راقبوا الله أيها المؤمنون في ايمانكم وأماناتكم، واطيعوا احكامه راضين بها، فان فيها مصالحكم، ولا تخافلوها فتكونوا من الخارجين على الله، والمطرودين من هدايته، المستحقين لعاقبه.
روى القرطبي في تفسيره قال: كان تميم الداري وعديّ بن بَداء رجُلين نصرايّين يتّجران الى مكة في الجاهلية، فلما هاجر الرسول ﷺ حوّلا تجارتهما الى المدينة. فخرج بُدليل مولى عمرو بن العاص تاجراً حتى قدم المدينة، فخرجوا تجاراً الى الشام. حتى اذا كانوا ببعض الطريق استكى بُديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى اليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا منه جاماً من فضة عليه خيوط من ذهب، وقدِما على أهله فدفعا اليهم متاعه. ففتح اهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده. وفقدوا الجام فسألوهما عنه فقالوا: هذا الذي قبضنا منه، فقالوا: هذا كتابه بيده. قالوا: ما كتمنا له شيئا. فترافعوا الى النبي ﷺ، فنزلت الآية. فأمر رسول الله ان يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر. فحلفا، ثم بعد ذلك ظهر الجام معهما، فاقل اهل بُديل: هذا من متاعه، قالا: نعم، لكنّنا اشتريناه منه ونسينا ان نذكره حين حلفْنا فكرهْنا ان نكذّب نفوسنا. فترافعوةا الى النبي ﷺ فنزلت الآية ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً﴾ فأمر النبي رجلَين من أهل الميت ان يحلفنا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.
443
قال تميم الداري: فلما أسملتُ، تأثّمت من ذلك، فأتيت اهل بُديل وأخبرتهم الخبر، وأديتُ اليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم ان عند صاحبي مثلها. فأتوا به الى رسول الله، فسألهم النبيّنةَ، فلم يجدوا. فأمرَرَهم ان يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه. فحلَف، فأنزل الله تعالىّ ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...﴾ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر مهم فحلّفا، فنُزعت خمسمائةُ درهمٍ من يد عدي بن بداء.
وكان تميم يقول: صدق الله ورسوله، أنا اخذت الإناء. ثم قال: يا رسول الله، ان الله يُظهرك على أهل الأرض كلِّها فهَبْ لي قريةَ عَيْنون من بيت لحم. وهي القرية التي وُلد فيها عيسى، فكتب له بها كتاباً، فلمّا قدِم عمرَ الشامَ ِأتاه تميم بكتاب رسول الله. فقال عمر: أنا حاضِرٌ ذلك، فدفعها إليه.
قراءات:
قرأ حفص والكسائي «استحق» بفتح التاء الحاء، الباقون «استحق» بضم التاء وكسر الحاء، وقرأ حمزة وأبو بكر «الأوّلين» بفتح الواو المشدَّدة وفتح النون، والباقون «الأوليان» بالتثنية.
444
وتذكَّروا يوم القيامة حين يجمع الله أمامه كلَّ الرسُل ويسألهم قائلا لهم: ماذا أجابتكم أُممكُم الّذين أرسلتُكم إليهم؟ والناسُ في ذلك اليوم من كل الأمم واقفون بين يدي الله يسمعون، لتقوم عليهم الحجّة بشهادة رسلهم، اذا يقولون لا نعمل ما كان بعدَنا من أمر الأمم الذين بلّغناهم رسالتك، أنت وحدك علاّم الغيوب.
روح القدس: هو جبريل ملَك الوحي. الكتاب: كل ما يُكتب. الحمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإنسانَ على العمل النافع مع معرفة الأسرار ما يعمل. الاكمه: الذي وُلد أعمى. البرص: داء بشكل بياضٍ يظهر على الجلد. السِّحر: تمويه وتخييل يرى الانسان به الشيء على غير حقيقته. الحواريون: انصار سيدنا عيسى. الوحي: الإشارة الخفيّة السريعة، والإلهام، ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾، ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾.
بعد أن وجّه السؤال الى جميع الرسل، واعلنوا ان العلم الحقيقي لله وحده، ﴿قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ يتلفت الخطاب الى عيسى ابن مريم ويذكّره بنعمة الله عليه وعلى والدته، وبالمعجزات التي أيّده بها، فيناديه من بين الرسل، ويقول له: اذكر ما أنعمتُ به عليك وعلى أمك في الدنيا، حينما ثبتُّك بالوحي، وأنطقتُك في المهد بما يبرّىء أمَّك مما اتُّهمتْ به، كما انطقتك وانت كبير بما قد أوحيتُ اليك. لقد علّمتُك الكتابة، وآتَيْتُك الحكمة وعلّمتُك توراة موسى، والإنجيلَ الذي انزلته عليك. كما أيّدتُك بمعجزات تخرج عن طوق البشر، فصرتَ تتخذ من الطين صورةَ الطير، فتنفخ فتصبح طائراً حياً بقدرة الله لا بقُدرتِك. كذلك تشفي من وُلِد أعمى، وتبرىء الأبرصَ من برصه بإذن الله. كذلك تمّ لك إحياء الموتى بقدرته تعالى.
ففي انجيل يوحنا ان عازر مات في بيت عنيا ووُضع في مغارة، فجاء المسيح وكان للميت أربعة أيام. فرفع المسيح عينيه الى فوق وقال: «أيها الأب، أشكرك لانك سمعت لي، وانا علمت انك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا انك ارسلتَني» ولما قال هذا: صرخ بصوت عظيم لعازر هلّم خارجاً، فخرج الميت الخ.. وفي هذا النص يصرح المسيح أنه رسول وليس إلهاً، ويطلب من الله ان يعينه. واذكر أيضاً يا عيسى.. حينما منعتُ اليهود من قَتْلِك وصَلْبك عندما أتيتَهم بهذه المعجزات ليؤمنوا بالله، فأعرضَ فريق منهم، وادّعوا ان ما أظهرتَه من المعجزات ما هو الا من قبيل السحر والواضح.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي «ساحر مبين». وقرأ الباقون «سحر مبين» كما هو هنا في المصحف.
المائدة: خِوان الطعام، او الطعام نفسه. العيد: الفرح والسرور، او الموسم الديني الذي يجتمع الناس له في أيام معينة من السنة. آية منك: علامة.
لا يزال الكلام عن سيدنا عيسى وأُمه، وهذا عرضٌ لشيء من نعمة الله على قومه، ومن معجزاته التي أيّده الله بها وشهد بها الحواريون، وعدد كبير من قومه.
اذا قال الحواريون: يا عيسى: هل يجيبك ربك لو سألته أن يُنزل علينا مائدة من السماء؟ فأجابهم: يا قوم، خافوا الله من أمثال هذا السؤال ان كنتم تؤمنون به، ولا تطلبوا حُججاً غير التي قدمتها لكم.
قالوا: نريد أن نأكل من هذه المائدة. عند ذلك تطمئن قلوبنا بما نؤمن به من قدرة الله، ونعلم بالمشاهدة الحيّة انك قد صَدَقتنا فيما أخبرتنا عنه، ونشهد لك بالمعجزة عند قومنا.
فاستجاب لهم عيسى وقال: يا ربّنا ومالِكَ أمرِنا، أَنزلْ علينا مائدة من السماء يكون يوم نزولها عيداً للمؤمنين منا، ولتكون معجزة نؤيّد بها دعوتك، وارزُقنا رزقاً طيبا، وانت خير الرازقين.
قال الله تعالى: سأُنزل المائدة علكيم من السماء، فأيّ امرىء منكم يكفر بعد ذلك فسوف أعاقبه عقاباً لا أعاقِب بمثله احدا من الناس.. فلقد كفر بعد ما شاهد دليل الإيمان الذي اقترحه.
وبين لنا هذا الحوار بين المسيح والحواريّين، ذلك الفرق الكبير بين الحواريّين وأصحابِ سيدنا محمد ﷺ. فلقد شاهد الحواريون كذلك من المعجزات التي اظهرها الله على يد رسولهم، ومع ذلك فهاهم يطلبون معجزة جديدة لتطمئن نفوسهم. اما أصحاب النبي ﷺ فإنهم لم يطلبوا أية معجزة بعد اسلامهم.. لقد اطمأنت قلوبهم مذ خالطتها بشاشة الايمان، وصدّقوا رسولهم، ومضوا في سبيل الله يعملون في نشر الاسلام، ولم يطلبوا على ذلك دليلا.
ولقد تكلم المفسرون كثيراً في موضوع المائدة، هل نزلت فعلاً ام ورد ذلك لضرب المثل، كما تكلم بعضهم في ألوان طعامها، وأطلقوا لخيالهم العنان في كل ذلك. ونحن لا نرى فائدة في ذكر كل ذلك، بل نضرب عنه صفحا، ولكنّنا نشير الى أنه قد ورد عن الحسن البصري، ومجاهد المفسّر الكبير وقَتادة أحد كبار المحدّثين انها لم تنزل. وقالوا في تأويل قوله تعالى ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ...﴾ الى آخر الآية. إن الحواريّين لمّا سمعوا هذا الوعيد قالوا: إننا نستغفر الله ولا نريدها.
هذا وقد استدل بعض الكاتبين على عدم نزولها بأن قال: إن النصارى لا يعرفونها وليس لها ذكر في كتبهم. ونحن نقول: إن كتب النصارى التي بين أيديهم كتب ناقصة، فليست هي كل ما جاء به عيسى. اما الاناجيل الاربعة المتداولة فلا تعدو كونها تراجم سيرةٍ لحياة المسيح كتبها أُناس مجهولين بعد المسيح بمدة طويلة.
447
وقد كتبت هذه الاناجيل من الذاكرة، وهي ليست الا قصصاً منقّحاً للأناجيل التي بلغ عددها فوق الخمسين انجيلا. وقد قرر مجمع نيقية المنعقد في سنة ٣٢٥ ميلادية برئاسة الامبراطور قسطنطين البيزنطي اعتماد هذه الاناجيل الاربعة، وإعدام ما عداها. فالأمر انتقائي وافق هوى نفس الحاكم. ويعلّمنا التاريخ في مثل هذه الحال ان الحاكم لا ينتقي الا ما يتفق ومصلحته في السيطرة والحكم، دون النظر الى الصدق او غيره.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة، ولا يلزم ان يكون كل ما قصّه الله تعالى في القرآن قد قصّه في غيره من الكتب المتقدمة، فليس الأمر تجميل طبعات الكتاب الواحد، كما لا يلزم ان يكون أصحاب الاناجيل المارون عدم ذكرهم لقصة المائدة دليلا على عدم ورودها.
يقول الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما يختص بنسبة القصص القرآني عامة الى كتب العهد القديم: «وإذا ورد في كتب اهل المِلل او المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا ان نجزم بأن ما أوحاه الله الى نبيه ونُقل إلينا بالتواتر هو الحق، وخَبَره الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطىء او كاذب، فلا نعدّه شُبهة على القرآن، ولا نكلف انفسنا الجواب عنه. فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام، حالكه الظلام، فلا رواية يوثق بها في معرفة رجال سندِها. وقد انتقل العالَم بعد نزول القرآن من حال الى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم لو أنصفوا أن يؤرخوا به أجمعين».
هذا ونحن نؤمن بما قصه القرآن الكريم من ان الحوارين قد سألوا عيسى ان يُنزل عليهم الله المائدة، فسأل عيسى ربه ذلك، واجاب الله سؤاله على كيفيةٍ اقنعتهم.
لا يفوتنا هنا ان نشير الى انه قد ورد في الاناجيل خبر يشبه خبر المائدة. ففي إنجيل متّى، نهاية الاصحاح الخامس عشر: «واما يسوع فدعا تلاميذه، وقال إني أُشفق على الجميع، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي، وليس لهم ما يأكلون، ولست اريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، فقال له تلاميذه: من أين لنا في البرية خُبز بهذا المقدار حتى يُشبع جمعاً هذا عدده؟ فقال لهم يسوع: كم عندكم من الخبرز؟ فقالوا: سبعة وقليل من صغار السمك. فأمرالجموع أن يتكئوا على الأرض، وأخذ السبع خبزات والسمك وشكَر وكسَر. وأعطى تلاميذه. والتلاميذ أعطوا الجمع. فأكل الجمع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضُل من الكِسر سبع سلال مملوءة، والآكلون كانوا آربعة آلاف ما عدا النساء والأولاد». فإذا سلّمنا جَدَلاً، بصحة هذا الخبر وأمثاله مما ورد في الاناجيل التي كتبت بعد المسيح بأجيال، فان خبر المائدة أحق بالتسليم وأصوب. ولماذا لا يكون هذا الخبر نفسه هو حديث المائدة، لكنّه جاء محرَّفاً لأنه كُتب من الذاكرة بعد سنين عديدة!!
قراءات
قرأ الكسائي «هل تستطيع ربك» وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «إني منزلها» بالتشديد. والباقون «منزلها».
448
كان الكلام قبل هذه الآيات في تعداد النعم التي أنعم الله بها على عيسى، وفي إلهامه للحواريين بالإيمان به وبرسوله، وفي طلب الحواريين من عيسى انزال المائدة من السماء، وبقية القصة، اما فيه هذه الآيات فنحن أمام أحد مشاهد يوم القيامة، ذلك اليوم العظيم الذي يُكشَف فيه كل شيء، على مرأى من الناس جميعا. يومذاك يأتي جواب سيدنا عيسى الصريح بأنه بريء من كل افتروا عليه، وانه يفوّض الأمر لله العلي القدير.
أّذكر ايا النبي ما سيحدث يوم القيامة، حين يقول الله مخاطبا عيسى ابن مريم على رؤوس الأشهاد: أأنتَ يا عيسى قلتَ للناس اجعلوني أنا وأمذ] إلَهين، من دون الله؟ فيقول عيسى: سبحانك. إنني أنزّهك تنزيهاً تاماً عن أن يكون لك شريك، ولا يصح لي ان طلب طلبا ليس لي أدنى حق فيه. ولو كنتُ يا ربّي قلتُ ذلك لعلمتَه سبحانك، فأنت تعلم خفايا نفسي، ولا أعلم ميط بكل شيء، أما أنا فلا أعلم شيئاً.
وبعد تنزيه ربه، وبرئة نفسه مما نُسب إليه، بيّن المسؤول حقيقةَ ما قاله لقومه وأن ذلك لم يتعدّ تبليغ الرسالة التي كُلِّف بها، وأنه أعلن عبوديته وعبوديتهم لله، ودعاهم الى عبادته.
﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾
ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَني بتبليغه لهم. قلتُ لهم: اعبدوا الله وحده مالك َ أمري وأمركم، وانك ربي وربهم، وانني عبد من عبادك مثلهم.
﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾
كنت قائما عليهم أراقبُهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون مدة وجودي بينهم.
﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
فلمّا انتهى أجل إقامتي الذي قدّرتَه لي بينهم، وقبضتني إليك، ظللتَ انت وحدك المطلع عليهم، لأني إما شهِدت من أعمالهم ما علوه وأنا بين أظهُرهم، فكل شيء غيّروه بعدي لا عِلم لي به، وأنت تشهَد
على ذلك كله.
وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله تعالى توفّى عيسى ابنَ مريم ثم رفعه إليه، فيما تفيد بعض الآثار أنّه حيّ عند الله. وليس هناك أي تعارض، فإن الله تعالى قد توفّاه من حياة الأرض، لكنّه حيٌّ عنده، مثل بقيّة الشهداء.. فهم يموتون في الأرض وهم عند الله أحياء. اما صورة حياتهم عند ربهم فشيء لا نعرف كيفَه.
وقد جاء في إنجيل يوحنا نص صريح بأن المسيح رسول: «وهذه هِية الحياةُ الأدبية، ان يعرفوك انت الإلَه الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته». فالتبديل في العقيدة والتغيير، انما حدث بعد غياب المسيح.
وقد تكلم المفسّرون والعلماء في موضوع الرفع الذي نطرقه واطالوا في ذلك، وقد بحث أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت هذا الموضوع مستفيضا في فتاواه، وخلاصه ما قال: «والمعنى ان الله توفىعيسى ورفعه اليه وطهره من الذين كفروا.
449
وقد فسّر الألوسي قوله تعالى ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ بمعنى: إني مُسْتوفٍ أجَلَك ومميتُك حتفَ أنفك لا اسلِّط عليك من يقتُلُك، وهو كنايةٌ عن عصتمه من الأعداء وما كانوا بصدَدِه من الفتك به عليه السلام.
وظاهرٌ ان الرفع الذي يكون بعد استيفاء الأجَل هو رفْع المكانةٍ لا رفع الجسد، خصوصاً وقد جاء بجانبه قولُه: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ مما يدل على أن الأمر أمرُ تشريفٍ وتكريم.
وقد جاء الرفع في القرآن كثير بهذا المعنى، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾، ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾، ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾، ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ﴾. الى ان يقول وبعد، فما عيسى إلا رسولٌ قد خلَتْ من قبلِه الرسل، ناصَبَه قومُه العداء، وظهرت على وجوههم بوادرُ الشر النسبة إليه، فالتجأ إلى الله، فأنقذه الله بعزته وحمته وخيّب ممكر أعدائه. هذا هو ما تضمنته الآيات ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ إلى آخرها، بين الله فيه قوة مَكره بالنسبة الى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع اذ قال: ﴿ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾، فهو يبشِّرُه بإنجائه من مكرِهم وردِّ كيدهم في نحورهم، وانه سَيَتْوفي أجَله حتى يموت من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه. الخ «.
ثم ينتهي عيسى ابن مريم إلى التفويض المطلق في أمرهم إلى الله تعالى وحده:
﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
ان تعذِّبهم بما فعلوا من تبديل وتغيير فإنهم عِبادُك، وتتصرف فيهم كما تريد، وإن تعفُ عنهم فإنك وحدك مالكُ أمرِهم، والقاهر الذي لا يُغلَب. ومهما تدفعه من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحَوْلِك وقوّتك، لأنك أنت العزيز الذي لا يُغلب، والحكيم الذي يضع كل شيء موضعه.
ثم يعقّب على كل هذا المشهد بقوله تعالى:
﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾
أي أن هذا اليوم هو يومُ القيامة، اليوم الّذي ينفع فيه الصادقين صدقُهم في إيمانهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم.
فهؤلاء الصادقون أعَدّ الله لهم جناتٍ يعجز عنها الوصف تجري من تحت أشجارها الأنهار، ثواباً من عند الله. وهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ابدا.
قراءات:
قرأ نافع»
هذا يوم «النصب، والباقون» هذا يوم «بالرفع.
وبعد أن بيّن ما أعدّ لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ختم هذه السورة المباركة بختام عظيم بيّن فيه تعالى أنه وحده له ملكُ السماوات والأرض وما فيهن، فهو وحده المستحق للعبادة.
450
﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ....﴾
أي ان الملك كله والقدرة كلها لله وحده فلا يجوز لانسان ان يتوجه الا اليه.
وقد روى الامام أحمد والنّسائي والحاكم والبيهقي عن جُبير بن نفير الحضرمي الشامي، (أحد المخضرمين، أسلم في زمن أبي بكر) قال: حججتْ فدخلت على عائشة، فقالت: يا جبير، تقرأ المائدة؟ قلت: نعم. فقالت: أما إنها اخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم من حرام فحرموه.
والحقيقة ان سورة المائدة من اعظم السور في القرآن الكريم لما اشتملت عليه من احكام وارشادات وبيان للحقائق بعد ان استتب الأمر للمسلمين. وفيها ما يريد الى الوقت الذي نزلت فيه، والحالة الّتي صار إليها المسلمون في ذلك الوقت. فقد جاء فيها بعد ان فصّل الله المحرّمات قوله تعالى: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ تُقَرِّر أن المشركين الذين كانوا يعملون دائما على قهر المسلمين واذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم صاروا من كل ذلك في عجز وضعف، واستولى عليهم اليأس في الوصول الى أغراضهم.
وعليه فجيب على المسلمين وقد عَصَمهم الله من اعدائهم، وبدّل بضفهم قوة، وبخوفهم أمنا، ان يشكروا الله رب هذه النعمة، وان لا يكترثوا في اقامة دينه وتنفيذ احكامه بأحد سواه. فلقد يئس المشركون بإكمال الدين. وإكمالُ الدين يتناول إكمالَه بالبيان والتشريع، وبالقوة والتركيز.
وقد روي أن رجلاً من اليهود جاء الى عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ فقال: ان في كتابكم آية تقرؤونها لو أنها أُنزلت علينا معشر اليهود لاتخذْنا اليوم الذي أُنزلت فيه عيدا. قال عمر: وأية آية؟ قال ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾. فقال عمر: إنّي والله لأعلم اليوم الذي أُنزلت فيه والساعة التي نزلت فيها. نزلت على رسول الله عشيّيةعَرَفة في يوم جمعة، والحمدُ لله الذي جعله لنا عيدا.
وفي هذه السورة المباركة ظواهر تنفرد بها لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور المدنية حتى في أطول سوَر القرآن وهي سورة البقرة. ولذلك نرى ان كل ما يدور الحديث عنه في سورة المائدة يتعلق بأمرين بارزين: تشريع للمسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وارشاداتٍ لطُرق المحاجّة في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب.
وفي سياق هذه المحاجَة تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين من اسلاف أهل الكتاب مع انبيائهم، تسليةَ للنبي من جهة، وتنديداً بهم عن طريق أسلافهم من جهة اخرى.
وقد اشتملت على عدة نداءات الَهية للمؤمنين، يُعتبر كل واحد منها قانوناً لشأن من الشئون، فنادى الله تعالى عباده المؤمنين بما شرع لهم من احكام، وأرشد اليه من اخلاق في مواضع لم نر عددها في أطول سورة وهي البقرة، نذكرها بالترتيب:
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود...
451
}.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله....﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ....﴾.
﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط....﴾.
﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ....﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ....﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم....﴾
﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية....﴾
هذه ستة عشرة نداءً وُجّهت الى المؤمنين خاصة، يعتبر كل نداء منها قانوناً ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين بأنفسهم، وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب.
وفيها كذلك نداءات من الله لرسوله، وليس هناك نداء له ﷺ بهذا الوصف في غير هذه السورة: وهما قوله تعالى:
﴿ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾،
وقوله تعالى: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾.
وقد وجهت نداءين الى أهل الكتاب: وهما قوله تعالى:
﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب﴾، وقوله تعالى:
﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل﴾.
وأمرت الرسول الكريم ثلاث مرات ان يوجه اليهم النداء في موضوعات ثلاثة في شأن ما يثيرون به الخلاف بينه وبينهم.
﴿قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾.
﴿قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾.
﴿قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾.
هذه جملة النداءات التي وجهت الى الرسول ﷺ، والى المسلمين، والى اهل الكتاب، أو أُمر النبي بتوجيهها اليهم في هذه السورة، وقد مرت كلها في اثناء الكلام عليها باخصار، ومن اراد زيادة تفصيل فليرجع الى ما كتبه في التفسير استاذنا المرحوم الشيخ شلتوت.
نسأل الله تعالى ان يجعلنا ممن توجهت قلوبهم اليه، ولم يعتمدوا في قبولهم ونجاتهم الا عليه، وان يجعل ثمرة ايماننا زكاة نفوسنا، وثبات قلوبنا، وصلاح اعمالنا، وفكاك اسارنا.
﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. والحمد الله رب العالمين.
452
Icon