تفسير سورة الإسراء

القطان
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

سبحانه الله: تنزيها له عن كل ما لا يليق بجلاله. أسرى: سار ليلا. المسجد الحرام: مسجد مكة. المسجد الاقصى: الحرم في بيت المقدس، وهو اقصى، أي بعيد بالنظر الى الحجاز.
تنزيها لله الذي اسرى بعبده محمد في جزء من الليل، ومن المسجد الحرام بمكة الى المسجد الاقصى ببيت المقدس، ذلك المسج الذي جعلنا البركة فيه وحوله لسكّانه في معايهشم وقواهم، لنُري عبدنا محمدا من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي والدليل الساطع على وحدانيتنا وعظم قدرنا. ان الله الذي اسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من اهل مكة، البصير بما يفعلون.
حادث الاسراء:
كان حادث الاسراء في ليلة ٢٧ من رجب قبل الهجرة بسنة واحدة، وقد حصل الاسراء من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى بالجسد والروح فعلا، ولوم كان الاسراء بالروح فقط لما كان في ذلك شيء من العجب، ولما قامت ضجة قريش، وبادروا الى تكذيبه.
فالرواية تقول ان الرسول الكريم كان نائما في بيت انبه عمه ام هانئ، فأُسري به ورجع من ليته وقص القصة على ام هانئ، ثم قام ليخرج الى المسجد فتشبثت ام هانئ بثوبه، فقال لهاه: مالك؟ قالت: اخشى ان يكذّبك قومك ان أخرتهم: قال: وان كذّبوني. فخرج فجلس اليه ابو جهل، فاخبره رسول الله بحديث الاسراء، فقال ابو جهل: با معشر بني كعب بن لؤي، هلُم. فحدّيهم. فاستنكر القوم ذلك، فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وانكارا. وارتد ناس من المسلمين. وسعى رجال الى ابي بكر رضي الله عنهـ قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أشهد لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدّقه في ان يأتى الشام في ليلة واحدة ثم يرجع الى مكة قبل ان يصبح؟ قال: نعم، انا أصدقه بأبعدَ من ذلك، اصدقه بخير السماء. فسُمّيَ الصدّيق. وكان منهم من سافر الى بيت المقدس، فطلبوا اليه وصف بيت المقدس فوصفه لهم وصفا دقيقا، فقولوا أخبرْنا عن عِيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها واحوالها، وقال: تَقْدُم يوم كذا، فكان كما قال. وفي الليلة ذاتها كان العروج الى السماء من بيت المقدس.
بيت المقدس بناه العرب الكنعانيون، واليبوسيون منهم، على جبل صهيون نحو سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد. وكلمة «صيهون» كنعانية أخذها اليهود وجعلوها شعاراً لهم. والرحلة من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى رحلة تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن ابارهيم واسماعيل عليهما السلام الى محمد خاتم النبيين ﷺ. كما تربط من الاماكن المقدسة لديانات التوحيد، وتعيد الحق الى أهله. والمقصود من هذه الرحلة العجيبة اعلان وراثة الرسول الاخير لمقسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه الرحلة العجيبة اعلان وراثة الرسول الاخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات واراتباط رسالته بها جميعا، فهي رحلة ترمز الى ابعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من ذلك.
337
كما أنها تتضمن معاني اكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها النظرة الأولى. وهي آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود، وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادت الدينينة التي تيهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في اشخاص المختارين من هذا الجنس الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه.
وفي هذه الآية الكريمة يدلنا الله تعالى الى ان بيت المقدس والشام أجمع هي بلادنا وملك لنا فسارِعوا الى اخذها. ولم تمض عشرون سنة حتى كانت في حوزة المسلمين وبقيت وستبقى الى الأبد في أيديهم مهما كانت الغمّة القائمة.
ومهما جمعت اسرائيل من قوة واسلحة ودعمها الامريكان والانكليز وغيرها فانها سوف تزول، ولسنا نشك في ان دائرة السوء ستدور عليهم جميعا، ويذهب هذا الباطل، وينمحي ذلك في الزيف والكذب وتبقى القدس عربية مسلمة، وتبقى الصخرة المشرفة، ومسجد عمر ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون﴾ [الروم: ٤].
338
الكتاب: التوراة وكيلا: كفيلا تكلون اليله اموركم.
وقد أعطينا موسى التوراة، وجعلنا فيها هدايةً لبني اسرائيل، وقلنا لهم لا تتخذوا غير الله إلهاً تفوّضون اليه أموركم، فانكم أبناء نبي كريم، هو ذلك العبد الشاكر، فاقتدوا به واستقيموا كما كان مستقيما، وكونوا شاكرين مثلَه ذاكرين كما كان.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحده: «الا يتخذوا» بالياء. والباقون بالتاء.
وقضينا: اخبرنا بالوحي. لتعلن: لتطغون. فجاسوا خلال الديار: دخلوها ووطئوها. رددنا لكم الكرة: اعطيناكم الغلبة. اكثر نفيرا: اكثر عدداً. وليتبروا ما علوا تتبيرا: وليهلكوا ويدمروا ما استولو عليه من بلادكم تدميرا. حصيرا: مكانا للكافرين.
بعد ان ذكر تعالى انه أكرم رسولَه محمداً ﷺ بالإسراء من مكة الى بيت المقدس- ذكر هنا ما أكرمه به موسى قبله من إعطائه التوراة، وجعلها هدى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عنها وليم يعملوا بهدْيها، بل أفسدوا في الأرض.
﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾.
فافسدوا واعلوا علوًّا كبيرا.
﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾.
كانت هذه الحملة الاولى من الملك البابلي نبوخذ نصر سنة ٥٩٧ قبل الميلاد على مملكة يهوذا، فاستولى على القدس وسبى اليهود ومعهم ملكهم «يهوياكين» واهل بيته، واخذ جميع ما عندهم من اموال وذهب وكنوز.
ثم عاد نبوخذ نصر في حلمة ثانية سنة ٥٨٦ قبل الميلاد يعين بعد احد عشر عاما واحتل القدس وخرجها واحرق الهيكل وسبى نحو ٥٠ الف من اليهود.
وبقي اليهود في بابل الى ان جاء كورش الاخميني سنة ٥٣٩ قبل الميلاد فسمح لهم بالعودة الى فلسطين، فعاد قسم وبقي عدد كبير في بابل ولم يعودوا لانهم استوطنوا واصبح لهم أملاك وتجارة، وحالوا بناء الهيكل، فاحتج السكان من غير اليهود والاقوام المجاورن من الحثيين والحوريين والعمونيين والأدوميين، ولم يتم بناء الهيكل، وبقي الى ان احتل دارا الأول ملك الفرس البلاد فسمح لهم ببناء اليهيكل سنة ٥١٥ قبل الميلاد.
فاذا اعتبرنان هذه الفترة كلها هي الأولى، تكون هي المقصودة بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾
وتكون هذه الفترة تفرة استقرار. ثم جاء عهد اليونان حيث لاقوا اسوأ الحالات في عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع وذلك سنة ١٧٥ ١٦٤ قبل الميلاد، اذا دمر الهيكل ونهب خزائنه واجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية اليونانية. وبقي الصراع بين اليهود يشتد حتى اندلعت ثورة المكابيين ودام عصرهم نحو قرن وربع، الى ان جاء الرومان، وعين الملك هيرودس الأدومي فسمح لليهود باعدادة بناء الهيكل سنة ٣٩ قبل الميلاد. وفي سنة ٦٦ م. قامت ثورة عارمة شاملة من اليهود على الحكم الرماني، بعد سلسلة من المعارك سيطر تيطس الروماني على الموقف وتمكن من القضاء على اليهود سنة ٧٠. واوقع فهيم مذبحة مريعة وخرب المدينة، واحرق الهيكل ومره نهائيا فأُزيل من الوجود بحيث لم يعد يهتدي الناس الى موضعه، وسيق الايحاء عبيدا.
340
ويقول المسعودي ان عد القتلى من اليهود والمسيحيين بلغ ثلاثة ملا يين، فيكون هذا معنى قوله تعالى:
﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾.
هذا محصل تاريخ اليهود في فلسطين والله اعلم.
فاذا تأملنا في الآيات الكريمة نجد النصَّ الصريحَ على ان بين اسرائيل اذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وافسدوا في الارض وعلَو كبيرا، واذا لم يحكموا افسدوا وسيطروا على المال، وهذا ما نراه اليوم من طغيانهم وبيغهم وتسلطهم في فلسطين. وهم في بقية انحاء العالم ايضا مفسِدون مسيطرون، يسيِّرون الحكام والزعماء على اهوائهم وحسب ما يريدون، وينشرون الفساد في كل ارجاء العالم، وسيظلون على هذا الحال ولا يمكن ان يغيروا من طباعهم وتعاليم دينهم المحرَّف. والله تعالى يقول:
﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.
فالمفوم أن اليهود عادوا وسيعودون الى الإفساد ما دام لهم سيطرة، وفيهم بقية، فلهم جهنم تحصرهم فلا يفلت منهم احد، وتتسع لهم فلا يند عنها احد.
فالمفسرون على اختلاف طبقاتهم اعتبروا المرَّتين مضى زمانُهما، الاولى في عهد نبوخذ نصر والاخير في عهد تيطس الروماني حيث زال الهيكل وزال حكمهم.
وفي عصرنا هذا وبعد وجود كيان الهيود الجديد، كتب بعض المفكرين يقول: ان الفترة الثانية هي هذه بوجود دولة اسرائيل (ودار نقاشٌ طويل في الصحف، والمجالس، وشهدتُ بعض هذا النقاش في المغرب لما كنتُ هناك) وان الله سبعث عليهم من يدمرهم.
والواقع ان وجود اسرائيل تقوّى وتمركز بتفككنا نحن العرب والمسلمين، وبعدنا عن ديننا. ونحن الذين جعلناهم اقوياء بخلافاتنا، ومحاربة بعضنا. وواقعهم غير صحيح، ودولتهم تعتمد على شيئين امريكا تمدها بالمال والسلامح، وضعفنا انشقاقنا وخلافاتنا، فمتى وحّدنا كلمتنا وجمعنا صفوفنا وعزمنا على استراداد مقدساتنا فان اسرائيل تزول ولا يبقى لها وجود، والله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٨].
قراءات:
قرأ حمزة وابو بكر وابن عامر: «ليسوء» بالافراد، وقرأ الكسائي: «لنسوء» بالنون.
341
﴿إِنَّ هذا القرآن....﴾.
ينتقل الكلام على القرآن الذي يرشد الناس الى اقوام السبل وأسلمها في الوصول الى السعادة الحقيقة في الدنيا، ويبشر المؤمنين الصادقين العاملين، بالأجر العظيم، وينذِر الذين لا يصدّقون بالآخرة والحساب والجزاء بالعذاب الأليم في جهنم.
﴿وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾.
الانسان عجول بطبعه فغالبُ الناس اذا تألموا من شيء لا يصمدون، فيسارعون بالدعاء على انفسهم وعلى اولادهم كما يدعون لأنفهسم بالخير، فالمطلوب من المؤمنين ان يضبطوا أعصابهم، ويصبروا فان المشكلة مهما عظُمت لا بدّ ان تحل، ويبعث الله الفرج.
﴿وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ....﴾.
وجعلنا الليل والنهار بتعاقبهما وتناسقهما علامتين دالّتين على وحدانيتنا وقدرتنا، فأذهبنا آية الليل وصار ظلاما، وجعلنا النهار مضيئا يبصر فيه الناس ويتصرفون في اعمالهم ومعاشهم، ولتعلموا باختلاف الليل والنهار عدد السنين وحساب الاشهر والأيام وكل شيء لكم فيه مصلحة بّيّناهُ لكم بياناً واضحا.
طائرة: عمله. في عنقه: ملازم له كالقلادة. كتابا يلقاه منشورا: صحيفة فيها جميع اعماله. الوزر: الاثم والذنب.
تتحدث هذه الآيات الثلاث عن بعض المشاهد يوم القيامةن فكل انسان مسؤول عما يقول ويفعل، فجميع ما نلفظه من كلام حسنا كان او قبيحا، حمدا او سخطا - كل ذلك يُحفظ في سجل كامل: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] وهذا السجل سوف يعرض امام محكمة الآخرة، ليتم حساب الانسان، فيخرج له كتابه ويلقاه منشورا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة. وكذلك اعمالنا مسجلة مثل الاقوال، وهكذا شأن ما يقترفه الانسان، وشأن الاحداث التي يعيشها، فان شريطاً كاملا لتلك الاحداث سوف يوضع بين يد كل فرد يوم القيامة حتى يقول الناس: ﴿ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٥٠] وعندما يقدم للمحكمة يقال له: ﴿اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.
من اهتدى وابتع طريق الحق نفع نفسه، ومن ضل وحاد عن الطريق فقد اضر بنفسه، ولا يتحمل انسانٌ ذنب انسان آخر، وحاش لله ان يعب احدا قبل ان يبين له الحق عن طريق الرسل الكرام.
المترفون: المنعمون المتمردون الذين لا يبالون. امرنا مترفيها: بالطاعة، ففسقوا. فدمرناها: اهلكناها. العاجلة: الدنيا. يصلاها: يدخلها ويقاسي حرها. مدحورا: مطرودا. محظورا: ممنوعا.
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾.
الحياة لها قوانين لا تخلتف، وسنن لا تتبدل كما بين الله لنا ذلك، والله لا يأمر بالفسق والفحشاء، ولكن اذا كثر الفساد في مجتمع ما، وطغى كبراؤه بالانغماس في اللذات واتباع الشهوات، ولمن يوجد من يضع حدا لهذه الفوضى، ويضرب على ايديهم - نزل بلاء الله بهم وهلكت القرية ودمرت بمن فيها.
ويوضح هذا قراءةُ الحسن البصري: أمّرنا مترفيها، بتشديد الميم. وبذلك تكون الصورة واضحة تمام الوضوح، والناس دائما تبع للمترفين من السادة والرؤساء.
قراءات:
قرأ يعقوب: امرنا بمد الهمزة. وقرأ حسن البصري: «امرنا» بالتشديد وهي ليست من القراءات السبع المعتمدة.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً﴾.
وقد أهلكنا أمماً كثيرة من بعد نوحٍ، بتمردهم على انبيائهم وجحودهم آيات الله، وحسبك ايها الرسول بيان ربك إعلامه بأنّ الله عالمٌ بكل شيء، وهو الخبيرُ بذنوب عبادِه البصير بها. وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لمن كذّبه من قومه.
ثم قسما لله عباده قسمين: محبٍ للدنيا لا يشبع منها، ومؤمنٍ مخلص محب للآخرة:
﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾.
من كان يطلب لذات ومتاعها ويعمل لها ولا يؤمن بالآخرة عجلنا له في الدنيا ما نشاء من الغنى والسعة في العيش، وله في الآخرة جهنم يصلاها خالدا محتقراً مطرودا من رحمة ربك.
﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾.
ومن اراد بعمله الآخرة، وعمل لها وهو مؤمن بالله وجزائه فاولئك يقبلهم بالله تعالى، وينالون عنده خير الثواب.
ثم بين الله تعالى ان عطاءه لا يخطر على بالِ احد فقال:
﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾.
ورزقُ الله وعطاؤه للناس اجمعين فكل من يعمل ويسعى يحصل على عطاء ربنا في هذه الدنيا، وما كان عطاء ربك ممنوعا من احد، مؤمنا كان او كافرا، ما داموا يعملون وينشطون في هذه الحياة.
﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾.
ان التفاوت في هذه الحياة المعيشة ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم ونشاطهم في الاعمال. وان تفاوتهم في الدار الآخرة درجات من تفاوتهم في الدنيا، فالآخرة هي التي تكون فيه الرفعة الحقيقية، والتفاضل الحقيقي.
مخذولا: غير منصور. خذله: تخلى عنه. قضى: امر وأجب. اف: كلمة معناها التضجر. لا تنهزهما: لا تزجرهما بغلظة. خفض الجناح: التواضع والتذلل. للأوابي: للتوابين الراجعين الى الله.
﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً﴾.
لا تُشرك بالله احداً، فتبقى ملوماً لا ناصر لك، ويكون الخذلان مكتوبا عليك.
﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.
وقد امر الله تعالى بعبادته باخلاص واكد ان لا نبعد غيره، ثم بعد ذلك امرنا بالبر والطاعة بالوالدين، لانهما عماد الاسرة، وفضلهما على الانسان لا يحد، وان اكبر نعمة تصل الى الانسان هي نعمة الخالق، ثم نعمة الوالدين.
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.
واذا كبرا في السن او كان احدهما عندك في مرحلة الشيخوخة وحال الضعف في آخر العمر، فلا تتضجر منهما، ولا تتأفف، ولا تزجرهما، وقل لهما قولا جميلا ليِّنافيه احسان اليهما وتكريم لهما. وألن لهما جانبك وتواضع لهما مع الاحترام الزائد، وادع لهما وتوجه الى الله ان يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك في صغرك وجميل شفقتهما عليك. وهما اديت لهما من خدمات فلن تستطيع ان تكافئهما.
وقد وردت احاديث كثيرة في بر الوالدين. منها عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله ﷺ اي العمل أحب الى الله ورسوله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم اي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله».
«وروى البزار عن بريدة عن ابيه: ان جلا سأل رسول الله ﷺ وكان يطوف حاملاً امه، فقال: هل اديتُ حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة».
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: «اما يبلغان» وقرأ ابن كثير ويعقوب: «أف» بفتح الفاء من غير تنوين. وقرأ حفص واهل المدينة «اف» بالكسر والتنوين كما هو في المصحف، والباقون «أفِّ» بدون تنوين.
﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾.
ربكم ايها الناس اعلم منكم بما في ضمائركم، فإن أنتم أصلحتم نياتِكم واطعتم ربكم، فانه يتوب عليكم، ان هفَوتُم واتيتم بما يخالف اوامره ثم تبتم، لانه دائم المغفرة للتوابين.
التبذير: انفاق المال في غر موضعه. اخوان الشياطين: كل من خرج على الدين وسلك سلوكا مشينا. ميسورا: لينا. مغلولة: مقيدة، كناية عن البخل. ولا تبسطها كل البسط: لا تنفق بدون عقل، لا تبذر. محسورا: منقطعا. خشية املاق: خوفا من الفقر. خطئا: اثما. فاحشة: كل عمل قبيح فهو فاحشة. فلا يسرف: فلا يتجاوز الحد المشروع فيه والعفُو افضل واحسن. بالقسطاس المستقيم. بالميزان العادل. ولا تقفُ ما ليس لك به علم: لا تتدخل بما لا يعنيك. ولا تمش في الأرض مرحا: لا تتكبر في مشيك ولا تتعال. لن تخرق الارض: لن تؤثر فيها شيئا. لن تبلغ الجبال طولا: لن طاول الجبال. الحكمة: المعرفة والتعقل والتخلق بهذه الاخلاق الواردة في هذه الآيات الكريمة.
في هذه الآيات الكريمة وصايا بالاقرباء والمساكين وبالغرباء الذين انقطعوا عن السفر بسبب نفاد المال منهم، ثم تعاليم خلقية قيمة بأن ننفق ولا نبذر، لأن التبذير من الامور المكروهة وهي سبل الشيطان، ثم يقول الله تعالى:
﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ... الآية﴾.
يعني اذا سألك احد الاقرباء او المساكين او ابن السبيل شيئا من المال ولم تجد ما تعطيه، الا الدعاء له، فقل لهم قولا سهلا حسنا، وعِدْه عدة حسنة، والكلمة الطيبة صدقة، وفي الحديث: «انكم لا تسَعون الناس باموالكم، فسعوهم باخلاقكم».
ثم يأمرنا بالتوسط في الامور بان لا نبخل باموالنا كأننا مقيدون بالاغلال، ولا نسرف بالعطاء فنقعد فقراء محرومين، فالاعتدال والتوازن أساس كل شيء في الاسلام.
والله تعالى يَعدنا اذا اعتدلنا بأن يبسط الرزق ويسعه لمن يشاءَ من عباده، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ فهو خبير بطبائعم، بصير بحوائجهم.
ثم ينص على عادة قبيحة كانت عند العرب في الجاهلية وهي قتل الاولاد خشية الفقر فيقول هنا:
﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾.
فينص على تحريم قتل الاولاد خوفا من الفقر، يعني ان الرجل يكون عنده المال ويكثر عنده الاولاد فيخاف من الفقر فيقتلهم. وهذا ذنب كبير، والله تعالى قد تكفل بالرزق للتجميع.
وفي سوة الانعام يقول: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
وهذه لها معنى غير الآية التي في سورة الاسراء، فنا يقول تعالى لا تقتلوا اولادكم لانكم فقراء لا مال عندكم نحن نرزقكم واياهم، ففي آية الاسراء قدم رزق الابناء على رزق الآباء، ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾، فلا تخافوا على اموالكم. وفي سورة الانعام قدم رزق الآباء على رزق الابناء ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ فهنا قتل الاولاد خوفا من وقوع الفقر بسببهم، فقدَّم رزق الاولاد، وفي الانعام لان الفقر حاصل وموجود بسبب فقر الآباء فقدم رزق الآباء، فلا يظن من لا معرفة له بان الآيتين فيهما تكرار.
346
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾.
ثم يؤكد على موضوع كان متفشيا في الجاهلية وهو الزنا، ولذلك سماه فاحشة وساء سبيلا. وقد اكد على تحريم هذه الفاحشة عدة مرات في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من مفاسد واختلاط الانساب، والتعدي على حرمة الغير.
ثم نص على صيانة النفس، وانه لا يجوز بحال من الاحوال قتل الانسان بدون جناية جناها وبغير حق، وقد تقدم ايضا في سورة المائدة وغيرها النص على حرمة قتل النفس الا بالحق...
ثم بين هنا القصاص فقال:
﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾.
فمن قُتل مظلوما بغير حق، فقد جعلنا لمن يلي امره من اقربائه الحقَّ بالقصاص، ولا يجوز لأقرابائه ان يسرفوا في القتل بان يقلوا احدا غير القاتل كما يفعل كثير من الناس، يأخذ الثأر من اي واحد من اقرباء القاتل إن هذا حرام لا يجوز في شرع الاسلام. والله سبحانه يقول: انه كان منصورا، فالله ناصره بان اوجب له القصاص من القاتل. وقد خير الاسلام اولياء القتيل بين اخذ ديته والعفو عنه او قتله، وفي الحديث الشريف: «من قتل فتيلا فأهله بين خيرتين: ان احبوا خذوا الدية».
ثم اكد وكرر بالوصية على رعاية مال اليتيم. وقد تقدم في سورة الانعام الآية ١٥٢، وتقدم الكلام عليها مستوفى، وكذلك في اول سورة النساء.
﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً﴾ ان كل ما امر الله به ونهى عنه عهد الوفاء به واجب، وقد تكرر الأمر بالوفاء بالعهد في عدد من الآيات.
ثم حض على إيفاء الكيل والوزن، وان نكون امناء في المكيال والميزان وجاء ذلك في عدد من الآيات. فالأمانة والاستقامة والعدل من قواعد الاسلام ﴿... ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ اجمل عاقبةً واحسن مآلا في الآخرة، لما يترتب على ذلك من حفظ الحقوق، وعدم العش والتحلي بالامانة.
والرسول الكريم يقول: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به الا مخافة الله، الا ابدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك».
ثم ينص على امر هام لا يزال الى الآن موجودا في مجتمعنا، وهوالفضول، والتدخل في امر الغير، والكلام على الناس، والغيبة، ونقل الكلام بدون تثبت، فيقول: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ولا تتبع ايها المرء ما لا علم به، فلا تكن فضوليا تتدخل في شئون غيرك، ولا تنقل خبرا ما لم تتأكد منه وتتثبت من صحته من قول يقال، او رواية تروى، ومن حكم شرعي او قضية اعتقادية، ولا تشهدالا بما رأت عيناك، وسمعته اذناك، ووعاه قلبك، ففي الحديث الشريف:
347
«اياكم والظن، فان الظن اكذب الحديث» وفي سنن ابي داود: «بئي مطية الرجُلِ زعموا» ان الله يسأل الانسان عما فعلت جوارحه، وستسأل الجوراح نفسها عما اجترامت ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩-٩٠].
وانها لقواعد اخلاقية عظيمة، تؤمن سلامة المجتمع، وتجعل الناس يعيشون بامن وسلام. وهذا هو الاسلام، وهذا هو القرآن الكريم ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.
ثم ينهى عن خلة سيِّئُه، وصفة بغيضة يختم بها هذه الوصايا والأوامر فيقول:
﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾.
التكبر صفة ممقوتة، والخيلاء الكاذبة من الأدلة على نقص العقل، ولماذا يزعو الانسان وعلى من يتكبر؛ انه من طين وسيعود الى التراب، والله تعالى بيبن له بانه ضئيل ضعيف ازاء ما في هذا الكون من مخلوقات اعظم واكبر، فلو تواضع لرفع الله كما جاء في الحديث الشريف ﴿من تواضع لله رفعه﴾ فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضَعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير.
كل هذه الصفات التي نهى الله عنها سيئة مكروهة عند الله. ﴿ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾.
ان كل ما قدمنا اليك ايها الانسان هو من الحكمة التي تشتمل على التعقل والاتزان وحب المعرفة.
ثم يختمها بالتحذير من الشرك، والحفاظ على عقيدة التوحيد، وهذه بعض الحكمة التي يهدي اليها القرآن الكريم الذي اوحاه الى الرسول ﷺ.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «كان خِطَاءً كبيرا» بكسرا لخاء وفتح الطاء والمد. وقرأ ابن عامر: «خطأ» بفتح الخاء والطاء. والباقون: «خطئا» بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «القسطاس» بكسر القاف كما هو في المصحف، والباقون: «القسطاس» بضم القاف، وهما لغتان. وقرأ ابو بكر عن عاصم: «بالقصطاس» بالصاد. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: «كان سيئةً» والبقاون: «كان سيئهُ» مضافا الى الهاء.
348
أصفاكم: خصكم. صرفنا. بينا. ليذكروا: ليتدبروا. نفورا: بعدا لا تبتغوا: تطلبوا. لا تفقهون: لا تفهمون.
﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين...﴾.
لقد انكر الله، على القائلين ان الملائكة بنات الله وكان العرب في الجاهلية يفضلون الذكر على الانثى، ولا يزال هذا في كثير من المتجتمعات الجاهلية. ولذلك قال: افضلكم ربكم على نفسه فخصّكم بالبنين، واتخذ لنفسه من الملائكة بنات بزعمكم!! والعجيب من امر هؤلاء: انهم جعلوا الملائكة اناثا، ثم ادعوا انهن بنات الله، ثم عبدوهن، ولذلك قال ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ انكم في قولكم هذا تفترون على الله بهتانا عظيما.
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾.
لقد بينا في هذا القرآن احسن بيان واضحه من الامثال والمواعظ والاحكام ليتذكروا ويتعظوا، ولكنهم لتحجُّر قلوبهم لا يزيدهم ذلك التبيين لا نفورا وبعدا عن الحق.
﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ...﴾.
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين لو كان مع الله آلهة خرى كما يقولون، لحاولوا الوصول الا عرش الرحمن ونازعوه الملك، ولكن هذا غير صحيح، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]. تنزه الله عما يقولون، وتعالى جل شأنه عما يزعمون علوا كبيرا...
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾.
ان جميع من في هذا الكون من المخلوقات تسبح بحمده وتنزهه وتقدسه، والاكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة.
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾.
ولكن لا تفهمون تسبيح هذه المخلوقات، ولا تدركون ما يقولون لأنكم محجبون عن ذلك، والله تعالى حليم غفور لمن تاب واصلح.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وابو بكر: «يسبح» بالياء. وقرأ ابن كثير وحفص: «عما يقولون» بالياء. وقرأ اهل الكوفة إلا ابا بكر: «عما تقولون» بالتاء.
حجابا مستورا: مانعا ساترا. اكنة: جمع كنان وهي الأغطية. وفي آذانهم وقرا: صمما. نفورا: بعدا. مسحورا: مخبول العقل.
﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ..﴾.
واذا قرأت ايها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم ان تؤمن بهذا الكلام الواضح مع انهم كانوا يتأثرون بالقرآن بفطرتهم، ولكنهم بكفرهم وعنادهم بعيدون عنه، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون، فلا يهتدون. ثم بين السبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال:
﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾.
فقد جعل الله في قلوبهم ما يشغلهم عن سمع القرآن، كان عليها اغطية من الكفر والعناد كما قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: ٦] السجدة.
﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾.
ينفرون من التوحيد وهم مشركون ويحبون ان تكذكر آلهتهم مع الله سبحانه وتعالى، ولقد انوا يتسمعون سرا الى القرآن ويدركون معانيه، ولكن كبرياءهم يدفعهم عن التسليم والاذعان.
يقول ابو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ: أطعموا فاطعمنا، وحملوا فحملنا، وأَعطوا فاعطينا، حتى اذا تساوينا وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ابدا ولا نصدقه. فلم تقصر افهامهم عن القرآن ولكنه العناد والكبرياء.
﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾.
نحن اعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع اليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن اعلم ايضا اذ هم يتناجون، اذا يقول الظالمون إن تبعون الا رجلاً مسحورا قد ذهب عقله.
﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً﴾.
انظر كيف ضربوا لك الامثال فمثّلوك بالشاعر والساحر والكاهن فضلوا في جميع ذلك، فلا يستطيعون الوصول الى الحق.
ورفاتا: الرفات ما تكسر وبَلَى من كل شيء. يكبر في صدروكم: يستبعد قبوله، ذرأكم: أوجدكم. فيسيغضون اليك رؤوسهم: يحركون رؤوسهم تعجبا وسخرية.
في هذه الآيات حكاية عن هؤلاء المعاندين المنكرين للحياة الآخرة، وقالوا أإذا كنا عظاما وحطاما هل نبعث في الآرخة خلقا جديدا!! قل ايها النبي: لو كنتم حجارة او حديدا، او خلقا اكبر مما تنكره قلوبكم لبُعثتم، فسيقولون: من يعيدنا؟ قل: يعيدكم الذي خلقكم اول مرة. فسيحركون اليك رؤوسهم تعجبا، ويقولون استهزاء: متى هذا البعث الذي يعدنا به؟ قل لهم: عسى ان يكون قريبا، يوم يبعثكم من قبوركم، بقدرته، ولله الحمد على كل حال، وتظنون ما لبثتم الا قليلا.
ان الحياة الآخرة ذات هدف عظيم، هو المجازاة على اعمال الدنيا، خيرا كانت اوشرا، فان للانسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهه الثلاثة تسجَّل باكملها، فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر من عضو من اعضائنا يجل في سجل ويمكن عرضه في اي وقت من الاوقات بكل تفاصيله.
ان الاكتشافات الجديدة قربت هذه لامور، فان «الكمبيوتر» العقل الالكتروني، يخزن ملايين المعلومات، فيكف بسجل الله القدير؟...
ينزغ بينهم: يفسد بينهم. الوكيل: المفوض اليه الأمر. الزبور: الكتاب الذي انزل على داود. الوسيلة: القربة الى الله. محذورا: يخاف منه.
﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
قل ايها الرسول وعلِّم الناس ان يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى، كما قال تعالى: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ [النحل: ١٢٦] «والكلمة الطيبة صدقة» والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب.
﴿إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾.
ان الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما فضى ذلك الى عناد الخصوم وازدياد فسادهم. فان الشيطان عدو كبير لبني الانسان فاحذروه.
﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾.
ربكم اعلم باحوالكم ان يشأ يهِدكم للايمان قيرحمكم، وإن يشأ يعذبكم، وما جعلنا امرهم وموكولا اليك يا محمد فتجبرهم على الايمان، وانما ارسلناك بشيرا ونذيرا.
﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾.
إن ربك اعلم باحوال من في السموات والارض جميعا، فيختار منهم لنبوته من يشاء، والانبياء ليسوا سواء، فقد فضل الله بعضهم على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين، وفضل داود بالنبوة والكتاب الذي انزل عليه لا بالملك، لان داود كان ملكا نبيا، فالفضل الذي اوتيه بالنبوة.
﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً﴾.
قل ايها الرسول لهؤلاء الذين يعبودن المخلوقين، ويزعمون انهم آلهة، ادعوا من شئتم منهم ان يكشفوا عنكم البلاء، فانهم لا يستطيعون ذلك، ولا يقدرون ان يحولوه عنكم اذا نزل بكم.
﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾.
ان هؤلاء المعبودين من دون الله، يتقربون الى الله، ويحرص كل منهم ان يكون اقرب الى الله، يطمعون في رحمته، ويخافون عذابه، ان عذاب الله مخيف يجب ان يبتعد عنه الانسان بالطاعة والتقوى.
الناقة: مبصرة: معجزة فيها دلالة واضحة. قظلموا بها: فكفروا بها. احاط بالناس: احاطت بهم قدرته.
﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾.
وقد جرت سُنتنا ان نهلك كل قرية ظالمة بمن فيها، او نعذب اهلها عذابا شديدا بالقتل وغيره، فليحذر قومك ذلك، فقد جرى بذلك قضاؤنا، وسُطر ذلك في اللوح المحفوظ.
﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾.
كان كفار قريش يقولون: يا محمد، تزعم انه كان قبلك انبياء منهم من سُخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإنْ سرك ان نؤمن بك ونصدقك فادع ربك ان يجعل لنا الصفا ذهبا. فقال: ما منعنا من ارسال الآيات التي سألوها الا تذكيب الاولين بمثلها، فان ارسلناها، وكذبوا بها، ارسلنا عليهم العذاب واستأصلناهم.
﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ﴾.
وقد كنا ارسلنا الناقة الى قوم ثمود فنحروها، فكفروا، فانزلنا عليهم العذاب فأبدناهم. ﴿بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ فالآيات التي يرسلها الله ما هي الا لتخويف الظالمين ليعتبروا بها.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس﴾.
واذكر ايها النبي اذ اوحينا اليك ان ربك هو القادر على عباده، فهم في قبضته، فبلّغ رسالتك ولا تخف من احد فهو يعصمك منهم، فالله ناصرك ومؤيدك.
في صحيح البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «وما جعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس» قال: هي رؤيا عين أُريها النبي ﷺ ليلة أُسِرى به الى بيت المقدس. «والشجرة الملعونة في القرآن» هي شجرة الزقوم «.
فقد افتن اناس من المسلمين ليلة الاسراء فارتدوا، وقامت ضجة كبرى في مكة كما مر في اول هذه السورة، وكان ابو جهل يقول: ان محمدا توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم انها تنبت شجرة، وتعلمون ان النار ترحق الشجر!! وهؤلاء لا يعلمون أَنَّ الحياة الأخرى تختلف عن حياتنا كل الاختلاف ولكنهم ضلوا فلم يؤمنوا وفُتنا بالاسراء، وفتنوا بالشجرة.
﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً﴾ ونخوف هؤلاء الضالين، فما يزيدهم هذا التخويف الا تماديا في الطغيان والضلال. والشجرة الملعونة ولا ذنب لها، والمعنى ملعون آكلها، وهذا التعبير كثير في كلام العرب.
أرأيتك: اخبرني. لأحتنكن: لاقودنهم كما اقود الدواب. موفورا. مكملا، تاما. واستفزر من استطعت: واستخف من استطعت. وأَجلب عليهم: صِح عليهم، وافرغ جهدك في جميع انواع الاغراء. بخيلك ورجلك: بفرسانك ومشاتك من جنودك.
تقدم الكلام على حسد ابليس لآدم، وأن العداوة قديمة ومنشؤها الحسد، ففي سورة البقرة ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ [البقرة: ٣٤] وكذلك في سورة الاعراف من الآية ١١ الى الآية ١٨، والحسد بلية قديمة، ومحنة عظيمة للخلق.
وخلاصة هذه الآيات: واذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تعظيم وتفضيل فسجدوا الا ابليس، تكبرّ ان يسجد، لأن آدم من طين وابليس من نار، ثم طلب من الله ان يمهله الى يوم القيامة وقال ان هذا الذي كرَّمته علي، لانتقمُ من ذريته، واجعلهم يفسدون ويفسقون. فقال الله له: اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤهكم جميعا، وهيج من سئت منهم بصياحك واجمع عليهم اعوانك من راكب وارجل، وشاركهم في الاموال والاولاد، بحلمهم على كسبها من الطريق المحرم، وعدْهم الوعود الخلابة، وما وعود الشيطان الا كذبا وزورا وغرورا.
أما عبادي المخلصون لي، فليس لك على اغوائهم قدرة، فانا وكيلهم وكفيتهم امرك،
قراءات:
قرأ حفص وحده: «ورجلك» بكسر الجيم، والباقون بستكينها.
يزجي: يسوق، يجري. الضر: الخوف. ضل: غاب. ان يخسف بكم: يجعل البر يغور بكم. حاصبا: ريحا فيها حصباء وحجارة. قاصفا من الريح: ريحا تكسر الشجر وغيره. التبيع: المطالب بالثأر.
﴿رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك الآيات....﴾.
ربكم الذي يجري لكم السفن في البحر لتطلبوا الربح بالتجارة والحصول على ما ليس عنكم من محصول المم وصناعتها، انه دائم الرحمة بكم. واذا خفتم الغرق وانتم في البحر ذهب عن ذاكرتكم كل ما تعبدون من دون الله، والتجأتم اليه وحده، فلما انجاكم الى البر أعرضتم وعدتم الى ما كنتم عليه، ان شأن الانسان الكفر وجحد النعمة. وقد مر نظير هذا في سورة يونس الآية ٢٢ وما بعدها.
افأمنتم وقد نجوتم الى البر ان يخسفه بكم فتغرور بكم الارض، او يرسل عليكم ريحا تفذقكم بالحصباء ثم لا تجدون من يحميكم منه!؟ ام أمنتم ان يعيدكم في البحر مرة اخرى، فيرسل عليكم ريحا لا تمر على شيء الا قصفته، فيغرقكم بسبب كفركم وجحودكم نعمة الله حين انجاكم من قبل، ثم لا تجدون من يطالبنا بما فعلنا بكم!.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «ان نخسف بكم، او نرسل عليكم، ام امنتم ان نعيدكم، فنرسل عليكم» بالنون في هذه جميعا، والباقون بالياء.
بإمامهم: بكتابهم الذي فيه اعمال. وله معنى آخر: بامامهم: صاحب رسالتهم كأن يقول ادعوا اصحاب ابراهيم، اعوا ابتاع موسى الخ.... الفتيل: اصل الفتيل: الخيط الضئيل الذي على نواة التمر، والمقصود به هنا الشيء الذي لا قيمة له. أعمى: اعمى البصيرة.
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ الآية....﴾.
ولقد كرمنا بني آدم بحسن الصورة، واعتدال القوام، وبالمواهب العقلية والنطق والتفكير، وحملناهم برا وبحرا وجوا ولا نجدري ما يستجد من مواصلات في المستقبل لان الله تعالى يقول: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٩] وزرقناهم من الطيبات المستلذة، وفضلناهم على كثير من المخلوقات.
﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ اذكر ايها النبي لقومك يوم ندعو كل قوم باسم زعيمهم فيقال يا اصحاب موسى. يا أهل القرآن، ليتسلموا كتب اعمالهم، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه وهم السعداء فأولئك يقرأون كتابهم مسرورين، ولا ينقص من اجرهم شيء.
﴿وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾.
ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب والبصيرة فسيبقى على حالته ويكون في الآخرة اكثر عمى وابعد مدى في الضلال، وابعد عن سبيل الخير.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: اعْمِي بالامالة
كدت تركن اليهم: قربت من الميل اليهم. ضعف الحياة: عذابا مضاعفا في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. لا يلبثون: لا يبقون. خلافك: بعدك. تحويلا: تبديلا.
﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾.
لقد حاول المشركون من قريش، ومن ثقيف وغيرهم ان يساوموا الرسول الكريم بان يتساهل معهم في عدم شتم آلهتهم، وبعضم قال له ان يتمسح بالهتهم حتى يدخلوا في دينه. قد تكررت هذه المحاولات، وقاروبا ان يخدعوك، ولو انك اتبعت ما يريدون لاتخذوك صديقا، ولكنك رسولنا الامين.
﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾.
وهذا نص واضح ان الرسول ﷺ لم يجبهم الى اغرائهم.
﴿إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾.
وهذا وعيد شديد للرسول، فلو قاربتَ الركون اليهم، لجمعنا عليك عذاب الدنيا وضاعفناه، وعذاب الآخرة وضاعفناه، ثم لا تجد من ينصرك ويمنع عنك العذاب.
﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
ولقد قارب اهل مكة ان يزعجوك ويخرجوك من مكة بالقوة، ولو انهم فعلوا ذلك واخرجوك لا يبقون بعدك الا زمانا قليلا.
﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾.
وهكذا مضت سنتنا مع الرسل الذين ارسلناهم قبلك... اهلكنا اقوامهم الذين اخرجوا رسلهم. ان سنتنا في هذه الحياة لا تتبدل. وقد اُخرج الرسول ﷺ من مكة، ولم يَمْضِ على اخراجه سنة ونصف حتى كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش واهلكهم الله.
وبعض المفسرين يقول ان هذه الآية مدنية، وان اليهود هم الذين ضايقوه وهمَّ بترك المدينة، ولكن هذا بعيد.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص: «خلافك» والباقون: «خلفك» والمعنى واحد.
دلوك الشمس: زوالها عن منتصف السماء في النهار. غسق الليل: شدة الظلمة. قرآن الفجر: صلاة الصبح. التهجد: صلاة الليل. نافلة لك: صلاة زائدة عن الفريضة. مقاما محمودا: مقاما عاليا يحمده الناس. زهق: زال واضمحل.
﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل﴾.
الصلاة لب العبادة، فحافظ عليها وأدّها على احسن وجه، من زوال الشمس من وسط السماء الى ظلمة الليل، وهذا الوقت يشمل الصلوات الاربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. ﴿وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً﴾.
وصلاة الصبح فان الملائكة تشهدها. وقد بينت السنة من اقوال الرسول الكريم وافعاله تفاصيل هذه الاوقات وكيفية ادائها واقامتها.
﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾.
وصلّ من الليل صلاة زائدة عن الفريضة بقدر ما تستطيع. وبهذه الصلاة، وبهذه الصلة الدائمة بالله. يقيمك ربك يوم القيامة في مقام سام يحمدك فيه الخلائق. وفي هذا تعليم لنا أن نتعبد ونقوم بالليل، فاذا كان الرسول الكريم مأموراً بذلك فنحن أولى واحوج.
﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾.
وقل رب أدخلني فيما حملته من اعباء الرسالة ادخلا مُرضيا، واخرجني مخرجاً حسنا مرضيّا (وهذا دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعو به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه اليه) واجعل لي قوةً أعلي بها دينك ورسالتك التي حمّلتني اياها.
﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً﴾.
وقل جاء الحق بالاسلام، وذهب الباطل واضمحل، ان الباطل مضمحل زائل دائما.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد».
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن....﴾.
نأى بجانبه: استكبر. شاكلته: مذهبه وطريقته. يئوسا: شديد اليأس. أهدى سبيلا: اقوم طريقا.
ونزل عليك ايها الرسول من القرآن ما هو شفاء لأدواء النفوس ورحمة للمؤمنين، ولا اصابته مصيبة الا خسرانا لكفرهم وعنادهم.
واذا انعمنا على الانسان بالصحة والسعة بطر واستكبر وبعُدَ كأنه مستغن عنا، واذا اصابته مصيبة كان كثير اليأس والقنوط من رحمة الله.
ولما ذكر حال الضالين والمهتدين ختم ببيان ان كلاً يسير على مذهبه فقال:
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ...﴾.
قل أيها النبي: كل منا يعمل ويسير على طريقته، وعلى ما طُبع علهي من الخير والشر، وربكم أعلم من كل واحد بمن هو سائر على الطريق المستقيم.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح....﴾.
ويسألك قومك عن حقيقة الروح، قل الروح من علم ربي الذي استأثر به، وما مُنحتم من العلم الا شيئا قليلا.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «ونأى بجانبه» بالامالة. وقرأ ابن عامر: «وناء بجانبه» من الفعل ناء ينوء.
الظهير: المعين. طرَّفنا: كررنا القول ورددناه بوجوه مختلفة. الكفور: الجحود.
ولو أردنا ان نمحو من صدرك القرآن الذي اوحينا اليك، لفعلنا، ثم لا تجد من ينصرك، ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما. قل لهم ايها النبي متحديا ان يأوا بمثله، لئن اجتمعت الإنس والجن وتعاونا على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يستطيعون، ولو كانوا متعاونين.
ولقد نوعنا مناهج البيان بوجوه مختلفة للناس في هذا القرآن، فآبى اكثر الناس الا الجحود والانكار، والاعراض عن الحق.
الينبوع: النبع، عين الماء. كسفا: جمع كسفة كَقِطْعَة لفظا ومعنى. قبيلا: مقابلين، تأتي بهم عيانا. الزخرف: الزينة، الذهب. ترقى: تصعد.
وقالوا في تَعنُّتِهم لن نؤمن لك يا محمد حتى تخرج لنا ماء من عين تفجّرنا لا ينضب ماؤها.
او يكون لك في مكة بستان من نخيل وعنب فتجرى الانهار وسطه، او تسقط السماء فوق رؤوسنا كما زعمتَ ان الله توعّدنا بذلك، او تأتي بالله والملائكة نقابلهم نراهم مواجهة ليشهدوا على صحة ما تقول لنا.
او يكون لك بيت مزخرف من ذهب، او تصعد في السماء. ولن نصدقك في هذا الحل الا اذا جئتنا بكتاب من الله يقرر فيه صدقك نقرؤه. قل لهم ايها الرسول: سبحان ربي ان يتحكم فيه احد، او يشاركه في قدرته، فهل انا الا بشر رسول من الذين يرسلهم بما يلائم احوالهم ويصلح شئونهم، وما منع مشركي مكة ان يؤمنوا لما جاءهم الرسول بالهدى.
الا زعمهم جهلاً مهم ان قالوا: كيف يبعث الله رسولا من البشر، قل لهم ايها الرول: لوك ان في الارض بدل البشر ملائكة يعيشون مستقرين فيها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا من جنسهم، فان الحكمة الالهية اقتضت ان يرسل لكم جنس ما يناسبه من الرسل.
قل: يكفي ان الله شاهد على صدق رسالتي اليكم، انه كان بعباده خبيرا يعمل احوالهم، بصيرا لاتخفى علي منهم خافية.
قراءات:
قرأ الكوفيون ويعقوب: «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم. والباقون: «تفجر» بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة.
قراءات:
قرأ اهل المدينة وابن عامر وعاصم: «كسفا» بكسر الكاف وفتح السين. والباقون «كسفا» باسكان السين.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: «قال سبحان ربي» والباقون: «قل سبحان ربي».
خبت: سكن لهيبها. السعير: اللهيب. خشية الانفاق: خوف الفقر. قتورا: شديد البخل.
ومن تيولاّه الله بالهداية فهو المهتدي، ومن يقضي علهيم بالضلال فلن تجد لهم من ينقذهم، ونحشرهم يوم القيامة فيُسبحون على وجوههم، لا نيطقون ولا يرون ولا يسمعون، منزلهم جنهمُ كلما سكن ليهبها زدناها توقدا واشتعالا. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الاعراف ١٧٨.
أَغَفِلوا ولم يعلموا ان الله الذي خلق هذا الكون موما فيه، قادر على ان يخلق مثله! والذي يقدر على خلق مثل هذه السموات والارض يقدر عل اعادتهم. وهو اهون عليه. لقد جعل لاعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلاً مضروبا ومدة مقدرة، وبعد اقامة الحجة عليهم ابوا الا تماديا في ضلالهم وكفرهم. وتقدم فقي نفس السورة نفس المعنى الآية ٥٠.
ثم بين حرصهم على الدنيا، وتمسكهم بها وشحهم بانهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبخلوا فقال:
﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.....﴾.
قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين لو كنتم تملكون خزائن رزق الله وسائر نعمه لبخلتم مخافة نفادها بالانفاق، والانسان مطبوع على شدة الحرص والبخل والله هو الغني الرزاق.
مسحورا: مخبول العقل. بصائر: حججا وبينات. مثبورا: هالكا. يستفزهم: يخرجهم من الارض. جئنا بكم فليفا: جميعاً.
ولول أوتي هؤلاء من الآيات ما اقترحوا، لما آمنوا بها، ولقد آتينا موسى تسع آيات هي: العصا، واليد البيضاء. والطوفان. والجراد والضفادع والقمل والدم. والجدب ونقص الثمار وفلق البحر، وابنجاس الماء من الحجر. ونتوق الجبل كانه مظلة. وخطابه لربه، واسأل بني اسرائيل لما جاءهم، فانهم مع كل ذلك كفروا وقال فرعون لموسى: اني اظنك مسحورا. قال موسى: لقد علمتَ يا فرعون ان الذي انزل الآيات هو الله خالق هذا الكون وربه. وهي دائل واضحة تبصرك بصدقي، ولكنك تكابر وتعاند، واني لأظنك يا فرعون هالكا. فتمادى فرعون بطغيانه، افارد ان يخرج موسى وبني اسرائيل من ارض مصر فاغرقناه مع جنوده جميعا.
قراءات:
قرأ الكسائي: «لقد علمت» بضم التاء والباقون: بفتحها.
ونجينا موسى وقومه، وقلنا من بعد اغراق فرعون لبني اسرائيل، اسكنوا حيث شئتم بمصر او الشام، وكان المفروض ان يشكروا الله ان خلصهم من ذلك البلا الكبير، ولكنهم لم يلبثوا ان عبدوا العجل من دون الله، وبدلوا نعمة الله كفرا، فاذا جاء وقت الحياة الاخرى جئنا بكم من قبوركم جميعا ثم نحكم بينكم بالعدل.
فرقناه: انزلناه مفرقا. على مكث: على مهل وبتأَنٍ يخرّون للاذقان: يسقطون على وجوهه. خفت الرجل بقراءته: لم يرفع صوته با. لاتخافت بها: اقرأها بوضوح.
ولقد انزل الله هذا القرآن قائما بالحق، فنزل ليقر الحق في الارض ويثبته، فالحق مادة، والحق غايته. فأنزلناه مؤيدا بالحكمة الآلهية. وما ارسلناك ايها النبي الا بمشرا من آمن بالجنة، ونذيرا لم نجحد بالنار.
وقد فرقنا هذا القرآن ونلزناهُ منجَّما على مدة طويلة، لتقرأه على الناس على مهل، ليفهموه. نزلناه شيئا بعد شيء تنزيلا مؤكدا لا شبهة فيه.
ثم هدد الله تعالى اولئك الجاحدين على لسان نبيه بقوله:
﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا﴾.
قل لاولئك الضالين اختروا لانفسكم ما تحبون من الايمان بالقرآن وعدمه، ان الذين اوتوا العمل وقرأوا الكتب السابقة، يخرون لله سجدا، شكرا له على انجاز وعده بارسالك، حين يتلى عليهم القرآن، ويقولون في سجودهم:
﴿سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾ ان وعده كان محققا.
ويخرون للاذقان باكين من خشية الله ايتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعط خشوعا وخضوعا. وهنا موضع سجدة.
قُلْ ايها الرسول هؤلاء المشركين: سموا الله، او سموا الرحمن فبأيّ اسم تمسونه فهو حسن، ثم امر رسوله الكريم ﷺ أن يقرأ بصلاته صلاة متوسطة لا يرفع صوته بها ولا يسر كثيرا.
وتختم السورة كما بدئت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتزيهه عن الحاجة الى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.
﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾.
فالله سبحانه وتعالى غني عن كل معين ان نصير او شريك او ولد، وهو مالك هذا الملك، وهو اكبر من كل شيء، فكبره تكبيرا.
Icon