تفسير سورة الإسراء

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم.
تفسير سورة الإسراء. ١
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات :٢ قوله عز وجل :" وإن كادوا ليفتنونك "، وقوله :" وإن كادوا ليستفزونك "، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ ثقيف، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله عز وجل :" وقل رب أدخلني مدخل صدق "، وقوله عز وجل :" إن ربك أحاط بالناس " وقال مقاتل : وقوله عز وجل :" إن الذين أوتوا العلم من قبله ". قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف :" إنهن من العِتاق الأُوَل، وهن في تِلاَدِي "، ٣ يريد أنهن من قديم كسبه.
١ الذي في الأصول: (تفسير سورة سبحان)، وقد آثرنا الاسم المألوف الذي سميت به في المصاحف المطبوعة. وتسمى أيضا سورة (بني إسرائيل)، وبه سماها الطبري في تفسيره، وقد أخرج النحاس، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت سورة بني إسرائيل بمكة..
٢ الذي في الأصول: (تفسير سورة سبحان)، وقد آثرنا الاسم المألوف الذي سميت به في المصاحف المطبوعة. وتسمى أيضا سورة (بني إسرائيل)، وبه سماها الطبري في تفسيره، وقد أخرج النحاس، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت سورة بني إسرائيل بمكة..
٣ أخرجه البخاري، وابن الضريس، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، واللفظ "الدر الدر" يذكر ثلاث سور هي: بنوا إسرائيل والكهف ومريم، وذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير"، وزاد محقق القرطبي أيضا سورة "مريم"..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الإسراء
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: ٧٣]، وقوله:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الإسراء: ٧٦]، نزلت حين جاء رسول الله ﷺ وفد ثقيف، وحين قالت اليهود ليس هذه بأرض الأنبياء، وقوله عز وجل: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: ٨٠]، وقوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]، وقال مقاتل وقوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: ٨٥]، قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف، إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن من قديم كسبه.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده، وهو محمد عليه السلام، ويظهر أن أَسْرى هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره، أسرى الملائكة بعبده، وكذلك يقلق أن يسند أَسْرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعيا، وأتيته هرولة» حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، وأَسْرى في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذا اللفظ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته وفَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ [النحل: ٢٦] ويحتمل أن يكون أَسْرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: ١٧] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابيا، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله ﷺ لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته، إلا في صعوده إلى السماء، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري
434
بنفس رسول الله ﷺ ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل، وجوزه الحسن وابن إسحاق، والحديث، قال القاضي أبو محمد، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري: البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشا التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هاني: لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا، واحتج أيضا بأن في بعض الأحاديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام، وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيرا، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله:
سُبْحانَ مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى سُبْحانَ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفا، هذا كله مذهب سيبويه فيه، وقالت فرقة: قال القاضي أبو محمد: نصبه على النداء كأنه قال: «يا سبحان»، قال القاضي أبو محمد الذي، وهذا ضعيف ومعناه تنزيها لله، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي ﷺ ما معنى سبحان الله؟ قال: «تنزيها لله من كل سوء»، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيها فوقع سُبْحانَ مكان قولك تنزيها، وقال قوم من المفسرين: أَسْرى فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام»، وقوله من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، قال أنس بن مالك: أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال: هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال: «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة»، الحديث بطوله. وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان»، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال: أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب، وقالت فرقة: الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: ٢٧] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت: كان رسول الله ﷺ ليلة الإسراء في بيتي، وروي بعضها عن النبي عليه السلام، أنه قال: «خرج سقف بيتي» وهذا يلتئم مع قول أم هاني، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام، وقاله قتادة، وقيل بعام ونصف، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك
435
في رجب، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي ﷺ ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه: وذلك قبل الوحي إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك، والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، مسجد بيت المقدس، وسماه الْأَقْصَى أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة، ويحتمل أن يريد ب الْأَقْصَى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة. و «البركة حوله» هي من جهتين، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس» وقوله:
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يريد لنري محمدا بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب، ويحتمل أن يريد لنري محمدا للناس آية، أي يكون النبي ﷺ آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة. وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمدا في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هُوَ السَّمِيعُ لما تقولون الْبَصِيرُ بأفعالكم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٤]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
عطف قوله: وَآتَيْنا على ما في قوله أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] من تقدير الخبر، كأنه قال أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، والْكِتابَ التوراة، والضمير في جَعَلْناهُ يحتمل أن يعود على الْكِتابَ ويحتمل أن يعود على مُوسَى. وقوله أَلَّا تَتَّخِذُوا يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب بتقدير كراهية أن موضع خفض بتقدير لأن لا تتخذوا، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي كما قال أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص: ٦] فهي في هذا مع أمر موسى وهي في آياتنا هذه مع نهي، والمعنى مع هذه التقديرات فعلنا ذلك لئلا تتخذوا يا ذرية، ويحتمل أن يكون ذُرِّيَّةَ مفعولا، ويحتمل أن تكون «أن» زائدة ويضمر في الكلام قول تقديره قلنا لهم: لا تتخذوا، وأما أن يضمر القول ولا تجعل «أن» زائدة فلا يتجه، لأن ما بعد القول إما يكون جملة تحكى، وإما أن يكون ترجمة عن كلام لا هو بعينه، فيعمل القول في الترجمة كما تقول لمن قال: لا إله إلا الله قلت حقا، وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا ليس بواحد من هذين، قاله أبو علي وقرأ جمهور الناس «تتخذوا» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وحده «ألا يتخذوا» بالياء على لفظ الغائب، وهي قراءة بن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبي رجاء، و «الوكيل» هنا فعيل من التوكل أي
436
متوكلا عليه في الأمور، فهو ند لله بهذا الوجه، قال مجاهد وَكِيلًا شريكا، وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضا بكسرها، وكل هذا بشد الراء والياء، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة، وذُرِّيَّةَ وزنها فعولة، أصلها ذرورة، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء، وكل هؤلاء قرؤوا ذُرِّيَّةَ بالنصب، وذلك متجه إما على المفعول ب «يتخذوا» ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلها من دون الله، وإما على النداء أي يا ذرية، فهذه مخاطبة للعالم، قال قوم: وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ «تتخذوا» بالتاء من فوق، ولا يجوز على قراءة من قرأ «يتخذوا» بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني، وإما على البدل من قوله وَكِيلًا وهذا أيضا فيه تكلف، وقرأت فرقة «ذرية» بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في «يتخذوا» وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت: ضربتك زيدا على البدل لم يجز، وقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش: اسم نوح عبد الجبار، وقال ابن الكلبي: اسمه فرج، ووصفه ب «الشكر» لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة، وقوله: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، قال الطبري: معنى قَضَيْنا فرغنا وحكي عن غيره أنه قال: قَضَيْنا هنا بمعنى أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا قَضَيْنا معناه في أم الكتاب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: وإنما يلبس في هذا المكان تعدية قَضَيْنا ب إِلى، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى. فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعا في إيجاز، جعل قَضَيْنا دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ معناه أعلمناهم، وقال مرة: معناه قضينا عليهم. والْكِتابِ هنا التوراة لأن القسم في قوله لَتُفْسِدُنَّ غير متوجه مع أن يجعل الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب» على الجمع، قال أبو حاتم: قراءة الناس على الإفراد، وقرأ الجمهور «لتفسدن» بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي «لتفسدن» بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتفسدن» بضم التاء وفتح السين وضم الدال. قوله وَلَتَعْلُنَّ أي لتتجبرون عن طاعة
437
الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل: كان بين «المرتين» آخر الأولى وأول الثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤبدا بأنبياء وقيل سبعون سنة.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥ الى ٧]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
الضمير في قوله أُولاهُما عائد على قوله مَرَّتَيْنِ [الإسراء: ٤] وعبر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجىء «الوعد» مطلقا فجائز أن يقع في الشر، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن «عبيدا»، واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا عيونه: أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، كذا قال ابن إسحاق وابن جبير، وقال ابن عباس: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخرا ملك اسمه خردوس، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء، وقيل غزاهم أولا صنحابين ملك رومة، وقيل بختنصر، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة:
إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء، وصورة قتله: أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك تمني علي ما أردت، فقولي رأس يحيى بن زكرياء: ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب
438
حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفا، هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة: أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمدا ﷺ وبشر به فابتدره بنو إسرائيل، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشارا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصا، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم: ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرا هو سابور ذو الأكناف، وقال أيضا ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران، وآخر، وقال مجاهد: إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس «فجاس خلال الديار» وتغلب ولكن لم يكن قتال، ولا قتل في بني إسرائيل، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر، وقوله عز وجل فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وهي المنازل والمساكن. وقوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأولى غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال، وقد قال مؤرج، «جاسوا خلال الأزقة»، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصا طويلا منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها، وقوله بَعَثْنا يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاهم وقرأ الناس «فجاسوا» بالجيم، وقرأ أبو السمال «فحاسوا» بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال إنما القراءة «جاسوا» بالجيم فقال «جاسوا وحاسوا» واحد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: «خلال»، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «خلل» ونصبه في الوجهين على الظرف، وقوله ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل رَدَدْنا موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبلة بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم، قال قتادة: كانوا أَكْثَرَ نَفِيراً في زمن داود عليه السلام، و «نفير» يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلا بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافرا.
قال القاضي أبو محمد: وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي ينفر سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري: [المتقارب]
439
فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
وقالوا: لا في العير ولا في النفير، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله إِنْ أَحْسَنْتُمْ والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلما ولا تسرعا إليكم، ووَعْدُ الْآخِرَةِ معناه من المرتين المذكورتين، وقوله لِيَسُوؤُا اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم لِيَسُوؤُا فهي لام كي كلها، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد»، وقرأ الجمهور: «ليسوءوا» بالياء جمع همزة وبين واوين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوء» بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء» بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن» بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب «لنسوءن»، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب «ليسيء» بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم» على الإفراد، وخص ذكر «الوجوه» لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر، والْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس، و «تبر» معناه أفسد بقسم وركوب رأس، وقوله ما عَلَوْا أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل ما ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد، و «تبر» معناه رد الشيء فتاتا كتبر الذهب والحديد، ونحوه وهو مفتتة.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨ الى ١١]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل عَسى رَبُّكُمْ إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أَنْ يَرْحَمَكُمْ وعَسى ترّج في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك، و «الحصير» فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد، وقتادة وغيرهما، ويقال «الحصير» أيضا من الحصر للملك ومنه قول لبيد: [الكامل]
ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح: [الطويل]
قليلا تتلى حاجة ثم غولبت على كل معروش الحصيرين بادن
وقال الحسن البصري في الآية: أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس.
قال القاضي أبو محمد: وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر، وقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ
440
الآية، يَهْدِي في هذه الآية بمعنى يرشد، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو، و «التي» يريد بها الحالة والطريقة، وقالت فرقة، لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال «التي هي أقوم» من كل حال تجعل بإزائها، والاقتصار على أَقْوَمُ ولم يذكر من كذا إيجاز، والمعنى مفهوم، أي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام، وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات: و «الأجر الكبير» الجنة، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة، وقوله إِنَّ الأولى في موضع نصب ب يُبَشِّرُ، وإِنَّ الثانية عطف على الأولى، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين، بشرهم القرآن بالجنة، وأن الكفار لهم عذاب أليم، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى، هذا الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وقرأ الجمهور، «ويبشّر» بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين، وقرأ ابن مسعود ويحيى بن وثاب وطلحة «ويبشر» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وأَعْتَدْنا معناه أحضرنا وأعددنا ومنه العتاد، و «الأليم» الموجع، وقوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ الآية، سقطت الواو من يَدْعُ في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية، والْإِنْسانُ هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره، وقال سلمان الفارسي وابن عباس:
إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلا لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذوو عجلة موروثة من أبيكم، ويروى أن النبي ﷺ جعل أسيرا في قيد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك؟ فقال: ألم القيد، فقالت: فأرخت من ربطه فسكت، ثم نامت، فتحيل في الانحلال وفر، فطلبه رسول الله ﷺ عند الصبح، فأخبر الخبر، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه، لأني بشر أغضب وأعجل، فلترد سودة يديها، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢]، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا، وقالت فرقة: معنى هذه الآية: معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه، لكنه يقصر حينئذ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: ١٢].
441
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
«الآية» العلامة المنصوبة للنظر والعبرة، وقوله فَمَحَوْنا قالت فرقة: سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلفه وكونه منيرا فقط، وقالت فرقة، وهو الظاهر: إن قوله فَمَحَوْنا إنما يريد في أصل خلقته، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية آيَتَيْنِ فقط، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه، وقوله مُبْصِرَةً مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام، فكذلك «آية مبصرة» أي يبصر بها ومعها، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّاء: ما السواد الذي في القمر؟ فقال له علي: قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصرا ليبتغي الناس الرزق، وفصل الله، وجعل القمر مخالفا للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس، وقوله كُلَّ شَيْءٍ منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلا وقيل: وكُلَّ عطف على وَالْحِسابَ فهو معمول لِتَعْلَمُوا، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه، وقوله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ الآية، قوله كُلَّ منصوب بفعل مقدر، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد «طيره في عنقه»، قال ابن عباس طائِرَهُ ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيرا، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء. وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «لا عدوى ولا طيرة».
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب «الطائر»، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في أمور على الطائر الميمون، وبأسعد طائر ومنه ما طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله ﷺ في الهجرة عثمان بن مظعون، أي كان ذلك حظنا، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير
والشر وأبطل ذلك قول النبي ﷺ «لا عدوى ولا طيرة»، وقوله فِي عُنُقِهِ جرى أيضا على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزاما وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم: دمي في عنق فلان وكقول الأعشى:
والشعر قلدته سلامة ذا فائش والشيء حيثما جعلا
وهذا كثير، ونحوه جعلهم ما كان تكسبا وجناية وإثما منسوبا إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس «ونخرج» بنون العظمة «كتابا» بالنصب، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن:
و «يخرج» بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل «كتابا» أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب، وقرأ الحسن من هؤلاء «كتاب» بالرفع، وقرأ أبو جعفر أيضا «ويخرج» بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله، «كتابا» أي طائره، وقرأ أيضا «كتابا»، وقرأت فرقة «ويخرج» بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله، وفي مصحف أبي بن كعب «في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا»، وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته، وقرأ الجمهور «يلقاه» بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف، وقرأ ابن عامر وحده، «يلقّاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف، وأبي جعفر والجحدري، وقوله اقْرَأْ كِتابَكَ حذف من الكلام يقال له اختصار الدلالة الظاهرة عليه، و «الحسيب» الحاسب ونصبه على التمييز، وأسند الطبري عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أو قلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصل مع آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه، وهذا هو قول ابن عباس وقال قتادة في قوله: اقْرَأْ كِتابَكَ إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة: اكفروا بمحمد وإثمكم علي، فنزلت هذه الآية: أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة، ووِزْرَ معناه حمل، والوزر الثقل، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي
443
عليه، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت، وسببه كما كانت العرب تفعل وقوله وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا قالت فرقة هي الجمهور: هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار، وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا المعنى: أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة، ويؤيد هذا ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى [الملك: ٨- ٩]، وظاهر كُلَّما [الملك: ٨] الحصر، وكقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤]، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار، وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف، وقوله وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
الآية، في مصحف أبي «بعثنا أكابر مجرميها»، و «القرية»، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، وليست من قرأ الذي هو مهموز، وإن كان فيها جمعا معنى الجمع، وقرأ الجمهور «أمرنا» على صيغة الماضي من أمر ضد نهى، وقرأ نافع، وابن كثير في بعض ما روي عنهما، «آمرنا» بمد الهمزة بمعنى كثرنا، ورويت عن الحسن، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج، وقرأ بها ابن إسحاق، تقول العرب: أمر القوم إذا كثروا، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف: «أمّرنا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الطبري: القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير، والثانية معناها كثرناهم، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس، قال القاضي أبو محمد: قال أبو علي الفارسي: الجيد في «آمرنا» أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم، قال «وآمرنا» مبالغة في «أمرنا» بالهمزة، و «أمّرنا» مبالغة فيه بالتضعيف، ولا وجه لكون «أمّرنا» من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحدا بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم.
قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة، وسواهم تبع لهم وأما «أمّرنا» من الإمارة فمتوجه على وجهين، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكا هو أميره، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
444
ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص، إن علي أميرا لا أقطع أمرا دونه، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره، ومنه قول الآخر: [الكامل]
إذا كان هادي الفتى في البلاد صدر القناة أطاع الأميرا
والناس يلحون الأمير إذ هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
وأيضا فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفا ففسق ثم ولي مثله بعده، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «أمرنا» بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس، ولا أتحقق وجها لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للقل والنفد
ومنه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، ورد القراء هذه القراءة، وقد حكي أمر متعديا عن أبي زيد الأنصاري، و «المترف» الغني من المال المتنعم، والترفه النعمة، وفي مصحف أبي بن كعب: «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها»، وقوله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم، والتدمير الإهلاك، مع طمس الآثار وهدم البناء، ومنه قول الفرزدق: [المتقارب]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا رغا دهرا فدمرهم دمارا
وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا الآية كَمْ في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله مِنَ الْقُرُونِ مثال لقريش ووعيد، أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم، واختلف الناس في القرن، فقال ابن سيرين: عن النبي عليه السلام أربعون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال عبد الله بن أبي أوفى القرن مائة وعشرون سنة، وقالت طائفة القرن مائة سنة، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله عليه السلام «خير الناس قرني»، وروى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن بسر، قال وضع رسول الله ﷺ يده على رأسي، وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قلت: كم القرن؟ قال مائة سنة، قال محمد بن القاسم، فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة ومات رحمه الله، والباء في قوله بِرَبِّكَ زائدة التقدير وكفى بربك، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وكأنها تعطي معنى اكتف بربك أي ما أكفاه في هذا، وقد تجيء كَفى دون باء كقول الشاعر: [الطويل] كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا وكقول الآخر: [الطويل]
ويخبرني عن غائب الأمر هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
قوله عز وجل:
445

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢٢]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ «نشاء» بالنون، وقوله لِمَنْ نُرِيدُ شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته، وقرأ الجمهور: «نشاء» بالنون، وقرأ نافع أيضا «يشاء» بالياء، و «المدحور» المهان المبعد المذلل المسخوط عليه، وقوله وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ الآية، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان وبها وبالله ورسالاته.
قال القاضي أبو محمد: وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملا ولا سعيا إلا أثاب عليه وغفر بسببه، ومنه قول النبي ﷺ في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فغفر له، وقوله كُلًّا نُمِدُّ الآية نصب كُلًّا ب نُمِدُّ، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه، ومددته إذا زدت فيه من نوعه، وقيل هما بمعنى واحد، يقال مد وأمد. وهؤُلاءِ بدل من قوله كُلًّا فهو في موضع نصب، وقوله مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد ب «العطاء» رزق الدنيا، وهذا هو تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، ويتناسب هذا المعنى مع قوله وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه، و «المحظور» الممنوع. وقوله انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوما الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار، وهذا قول الطبري: وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عز وجل أن التفصيل الأكبر إنما يكون في الآخرة. وقوله أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد، أي أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها، وكذلك قوله أَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
قال القاضي أبو محمد: وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين، وأسند الطبري في ذلك حديثا نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها.
قال القاضي أبو محمد: ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحدا، ولا يتمنى ذلك بدلا، وقوله لا تَجْعَلْ الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، و «الخذلان» في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر، و «المخذول» الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. والخاذل من الظبا التي تترك ولدها، ومن هذه اللفظة قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما وسعى فلم أر مثله مخذولا
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
قَضى في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول إن المعنى وَقَضى رَبُّكَ أمره أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكما، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك» وهي قراءة أصحابه، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك، وقال عن ميمون بن مهران: إنه قال إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، وقال لو قلنا هذا الطعن الزنادقة في مصحفنا، والضمير في تَعْبُدُوا لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له: إنه طلق امرأته ثلاثا فقال له الحسن: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال له الرجل قضي ذلك علي، فقال له الحسن وكان فصيحا، ما قضى الله أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس: تكلم الحسن في القدر.
447
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون قَضى على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في قوله تَعْبُدُوا للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة، لكن على التأويل الأول يكون قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عطفا على «أن» الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مقطوعا من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين، وإِمَّا شرطية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ»، وروي عن ابن ذكوان «يبلغن» بتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله أَحَدُهُما فاعلا، وقوله أَوْ كِلاهُما معطوفا عليه، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله أَحَدُهُما بدلا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر: [الطويل]
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
ويجوز أن يكون أَحَدُهُما فاعلا وقوله أَوْ كِلاهُما عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلا في القرآن، وقرأ أبو عمرو «أفّ» بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفّ» بالكسر والتنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفّ» بفتح الفاء، وقرأ أبو السمال «أفّ» بضم الفاء، وقرأ ابن عباس «أف» خفيفة، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف» بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة، «وأفّا» بالنصب والتنوين «وأفي» بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير، «وأفا» بألف بعد الفتحة، «وأفّ» بسكون الفاء المشددة «وأف» مثل رب، ومن العرب من يميل «أفا»، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه».
قال القاضي أبو محمد: ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالا لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه في نفسها، وإنما هي مثال الأعظم منها، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن، و «الأف» وسخ الأظفار، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله وفَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما. وتقول أُفٍّ.
قال القاضي أبو محمد: والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه، وقال أبو الهدّاج النجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ، وقوله وَاخْفِضْ لَهُما
448
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذُّلِّ هنا ولم يذكر في قوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٢١٥] وذلك بحسب عظم الحق هنا، وقرأ الجمهور «الذّل» بضم الذال، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذل» بكسر الذال، ورويت عن عاصم بن أبي النجود، و «الذل» في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله ﷺ قال: «أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له».
وقوله مِنَ الرَّحْمَةِ، مِنَ هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا، ويصح أن يكون لابتداء الغاية، ثم أمر الله عباده بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ، وقوله رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله، واختلفت عبارة الناس في «الأوابين»، فقالت فرقة هم المصلحون، وقال ابن عباس: هم المسبحون، وقال أيضا: هم المطيعون المحسنون، وقال ابن المنكدر:
هم الذين يصلون العشاء والمغرب، وذلك أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال: «تلك صلاة الأوابين»، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه، وقال عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبدا إلى طاعة الله تعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وفسر الجمهور «الأوابين» بالرجاعين إلى الخير، وقال ابن جبير: أراد بقوله غفورا للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه، وقالت فرقة «خفض الجناح» هو ألا يمتنع من شيء يريدانه.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
اختلف المتأولون في «ذي القربى»، فقال الجمهور: الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة
449
والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم، وقال علي بن الحسين في هذه: هم قرابة النبي عليه السلام، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أبين، ويعضده العطف ب الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. وَابْنَ السَّبِيلِ هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا، «وابن السبيل» في آية الصدقة أخص، و «التبذير» إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح، وهو من البذر، ويحتمل قوله تعالى: الْمُبَذِّرِينَ أن يكون اسم جنس، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين، وذكره النقاش، وقوله تعالى: إِخْوانَ يعني أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في فساد والشيطان أبدا ساع في فساد، وإِخْوانَ جمع أخ من غير النسب، وقد يشذ، ومنه قوله تعالى في سورة النور أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ [النور: ٣١] والإخوة جمع أخ في النسب وقد يشذ، ومنه قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وقرأ الحسن والضحاك «إخوان الشيطان» على الإفراد، وكذلك في مصحف أنس بن مالك، ثم ذكر تعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعبا بينا، وقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ، الضمير في عَنْهُمُ عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحد، فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله ﷺ بالإعراض تأدبا منه في أن لا يرده تصريحا، وانتظار الرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه، أن يكون يؤنسه بالقول الميسور، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى والتأنيس بالميعاد الحسن والدعاء في توسعة الله تبارك وتعالى وعطائه، وروي أنه عليه السلام كان يقول بعد نزول هذه الآية، إذا لم يكن عنده ما يعطي: يرزقنا الله وإياكم من فضله، ف «الرحمة» على هذا التأويل الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وقال ابن زيد «الرحمة» الأجر والثواب، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله ﷺ فيأبى أن يعطيهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم قَوْلًا مَيْسُوراً يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض أهل التأويل الأول، نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه، و «الميسور» مفعول من لفظة اليسر، تقول يسرت لك كذا إذا أعددته، وقوله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ الآية، روي عن قالون «كل البصط» بالصاد، ورواه الأعشى عن أبي بكر، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل «الغل إلى العنق»، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل، وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل البخيل والمتصدق»، والحديث بكامله، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي، و «المسحور» المنفه الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
450
ومنه البصر الحسير وهو الكال، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه، وقال قتادة: «التبذير» النفقة في معصية الله، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيرا، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا فيه نظر، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهي عنه. ولا يقال في المعصية ولا تبذر، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا: التبذير الإنفاق وفي غير حق، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالا ونحوه، ومن كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع، وهذه من آيات فقه الحال، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس، وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الآية، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة، وَيَقْدِرُ معناه ويضيف، وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري: إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
قرأ الأعمش وابن وثاب «ولا تقتّلوا» بتضعيف الفعل، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، وهو قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: ٨]، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغذو أحدهم كلبه ويقتل ولده، وخَشْيَةَ نصب على المفعول من أجله، و «الإملاق» الفقر وعدم الملك، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود، وقرأ الجمهور «خطئا» بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر، وقرأ ابن عامر «خطئا» بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لهد الوجى لم كن عونا على السرى ولا زال منها ظالع وحسير
الخطء فاحشة والبر نافلة كعجوة غرست في الأرض تؤتبر
قال الزجاج يقال خطىء الرجل يخطأ خطأ مثل أثم إثما فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه، وقال بعض العلماء خطىء معناه واقع الذنب عامدا، ومنه قوله تعالى: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الحاقة: ٣٧]، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد، ومنه قوله تعالى: إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: ٢٨٦]، وقال أبو علي
451
الفارسي: وقد يقع هذا موضع هذا، وهذا موضع هذا، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر: [الوافر]
عبادك يخطئون وأنت رب... كريم لا يليق بك الذموم
وخطىء بمعنى لم يتعمد في قول الآخر: [الكامل]
والناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
وقد روي عن ابن عامر «خطأ» بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة، وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة، وهي قراءة الأعرج بخلاف، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجها، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو علي الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، فمنه قول الشاعر: [المتقارب]
تخاطأت النبل احشاءه... وخر يومي فلم أعجل
وقول الآخر في صفة كماة: [الطويل]
تخاطأه القنّاص حتى وجدته... وخرطومه في منقع الماء راسب
فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل، وقرأ الحسن فيما روي عنه «خطاء» بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم، قال أبو الفتح: الخطاء من اخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وقرأ الحسن بخلاف «خطا» بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز، وقرأ أبو رجاء والزهري «خطا» بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء، وقوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى تحريم. والزِّنى يمد ويقصر فمن قصره الآية، وهي لغة جميع كتاب الله، ومن مده قول الفرزدق: [الطويل]
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا
ويروى أبا خالد، و «الفاحشة» ما يستتر به من المعاصي لقبحه، وسَبِيلًا نصب على التمييز، التقدير وساء سبيله سبيلا، أي لأنه يؤدي إلى النار، وقوله وَلا تَقْتُلُوا وما قبله من الأفعال جزم بالنهي، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا [الإسراء: ٢٣] والأول أصوب وأبرع للمعنى، والألف واللام التي في النَّفْسَ هي للجنس، و «الحق» الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي ﷺ في قوله: لا يحل دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى.
قال القاضي أبو محمد: وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها، فمنها قطع الطريق، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة، ومن ذلك الزندقة، ومسألة ترك الصّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية، وقوله تعالى:
452
مَظْلُوماً نصب على الحال، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة، و «الولي» القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء، ولهن ذلك عند أخرى، و «السلطان» الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو، قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة: «السلطان» القود، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف» بالياء، وهي قراءة الجمهور، أي الولي لا يتعدى أمر الله، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل، أو يقتل اثنين بواحد، وغير وذلك من وجوه التعدي، وهذا كله كانت العرب تفعله، فلذلك وقع التحذير منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة، رجل قتل غير قاتل وليه، أو قتل بذحل الجاهلية، أو قتل في حرم الله»، وقالت فرقة: المراد بقوله فَلا يُسْرِفْ القاتل الذي يتضمنه الكلام، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفسا فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل» بالتاء من فوق، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة، قال الطبري: على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده، أي فلا تقتلوا غير القاتل.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية، «فلا يسرف» بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي، والمراد هذا التأويل فقط.
قال القاضي أبو محمد: وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبي بن كعب: «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا»، والضمير في قوله إِنَّهُ عائد على الولي، وقيل على المقتول، وهو عندي أرجح الأقوال، لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن أبدا الظلم كقوله عليه السلام:
«ونصر المظلوم وإبرار القسم»، وكقوله «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، إلى كثير من الأمثلة: وقيل على القتل، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد المقصد، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي، والْيَتِيمِ الفرد من الأبناء، واليتم الانفراد، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه، قال ابن السكيت: اليتم في البشر من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، وفي كتاب الماوردي، أن اليتم في
453
البشر من قبل الأم أيضا، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة، قال ابن سيده: وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم، وأنشد في ذلك: [الطويل]
فبت أشوي ظبيتي وحليلتي طربا وجرو الذيب يتمان جائع
ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان، وفي الحديث «لا يتم بعد حلم»، وقوله إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يريد إلا بأحسن الحالات.
قال القاضي أبو محمد: وذلك في الوصي الغني، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئا على جهة الانتفاع به، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يتسلف منه، فإذا أيسر رد فيه، وقال ابن المسيب، لا يشرب الماء من مال اليتيم، قيل له فما معنى فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: ٦] ؟ قال: إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه، وقال مجاهد: لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه، قال: وقوله فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ذاته] معناه من مال نفسه، وقال أبو يوسف: لعل قوله فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ذاته] منسوخ بقوله لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] [النساء: ٢٩] وقال ابن عباس: يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه، ويلط الحوض ويجد النخل، وينشد الضالة فليأكل غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب، وقال زيد بن أسلم: يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه استعارة للتقلل، وقال مالك رحمه الله وغيره: يأخذ منه أجرة بقدر تعبه، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه، فنزلت وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: ٢٢٠] وقوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية الإمساك عن مال اليتيم، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى، وما بعد هذه الغايات أبدا موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ﷺ بيدي، وبعث بها، فلم يحرم علي رسول الله ﷺ شيء أحله الله له حتى نحر الهدي، و «الأشد» جمع شد عند سيبويه، وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ، ف «الأشد» في مذهب مالك أمران، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك، والرشد في المال، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطا لماله، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه.
قال القاضي أبو محمد: ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة، وقال أبو إسحاق الزجاج «الأشد»
454
في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله، وقوله بِالْعَهْدِ لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، وقوله إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي مطلوبا ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا؟
وقوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ الآية، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول: يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان.
قال القاضي أبو محمد: وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه، و «القسطاس» قال الحسن هو القبان، ويقال القفان وهو القلسطون، ويقال القرسطون، وقيل: «القسطاس» الميزان صغيرا كان أو كبيرا، وقال مجاهد «القسطاس» العدل، وكان يقول هي لغة رومية، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «القسطاس» بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «القسطاس» بكسر القاف، وهما لغتان، واللفظة منه للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها، وقرأت فرقة «القصطاس» بالصاد.
قال القاضي أبو محمد: وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة، وكل ذلك أنها استعارات للعدل، وقوله: في ميزان القيامة مردود، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان.
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولا مان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وعظ جميل، و «التأويل» في هذه الآية المآل. قاله قتادة، ويحتمل أن يكون «التأويل» مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذا لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع، وقوله وَلا تَقْفُ معناه ولا تقل ولا تتبع.
قال القاضي أبو محمد: لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»، ونقول فلان قفوتي أي موضع تهمتي، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي أي ما رميت به، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه، وقد قال ابن عباس أيضا ومجاهد: وَلا تَقْفُ معناه، ولا ترم، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
455
ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا
وقال الكميت: [الوافر]
ولا أرم البرى بغير ذنب ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول قفوت الأثر، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت، وتقول قفت الأثر، ومن هذا: هو القائف، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث، فمعنى الآية، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية، وقرأ الجمهور «ولا تقف»، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء، وقرأ الجراح «والفآد» بفتح الفاء وهي لغة، وأنكرها أبو حاتم وغيره، وعبر عن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ب أُولئِكَ لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها ب أُولئِكَ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل، عبر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك»، وأنشد هو والطبري: [الكامل]
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام، والضمير في عَنْهُ يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان، وبصره، وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود الضمير في عَنْهُ على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولا، فهو على حذف مضاف.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
قرأ الجمهور «مرحا» بفتح الراء مصدر من مرح يمرح إذا تسبب مسرورا بدنياه مقبلا على راحته،
456
فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولا، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فقصرك نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق، وخوطب النبي ﷺ بهذه الآية والمراد الناس كلهم.
قال القاضي أبو محمد: وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزها دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة، فليس ذلك بداخل في هذه الآية، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب «مرحا» بكسر الراء على بناء اسم الفاعل، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق، وهو أن قوله لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته، إذ المشي في الأرض لا يفارقه، فلم ينه إلا عن يكون مرحا، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحا فيترتب في «المرح» بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال، وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر:
[المتقارب]
وخرق تجاوزت مجهوله... بوجناء خرق تشكى الكلالا
ويقال لثقب الأرض، وليس هذا المعنى في الآية، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق وقرأ الجراح الأعرابي «تخرق» بضم الراء، وقال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة، وقوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وأبو جعفر والأعرج «سيئة»، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومسروق «سيئه» على إضافة سيىء إلى الضمير، والإشارة على القراءة الأولى إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقول أف وقذف الناس والمرح وغير ذلك، والإشارة على القراءة الثانية إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيّء منه بأنه مكروه عند الله تعالى، فأما من قرأ «سيئه» بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين: وسيىء اسم كانَ ومَكْرُوهاً خبرها، وأما من قرأ «سيئة» فهي الخبر ل كانَ، واختلف الناس في إعراب قوله مَكْرُوهاً، فقالت فرقة هو خبر ثان ل كانَ حمله على لفظ كل، و «سيئة» محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل، وقال بعضهم هو نعت ل سَيِّئُهُ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر.
قال القاضي أبو محمد: وضعف أبو علي الفارسي هذا، وقال إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى أن قول الشاعر: [المتقارب]
457
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم، ولو قال قائل، أبقل أرض لم يكن قبيحا، قال أبو علي ولكن يجوز في قوله مَكْرُوهاً أن يكون بدلا من سَيِّئُهُ، قال ويجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في قوله عِنْدَ رَبِّكَ ويكون قوله عِنْدَ رَبِّكَ في موضع الصفة ل سَيِّئُهُ، وقرأ عبد الله بن مسعود «كان سيئاته»، وروي عنه «كان سيئات» بغير هاء، وروي عنه «كان خبيثة»، وذهب الطبري إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولا:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: ٢٣] وليس ذلك بالبين، قوله ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ الآية.
الإشارة ب ذلِكَ إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق، والْحِكْمَةِ قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة، ثم عطف قوله وَلا تَجْعَلْ على ما تقدم من النواهي، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد كل من سمع الآية من البشر، و «المدحور»، المهان المبعد، وقوله أَفَأَصْفاكُمْ الآية، خطاب للعرب التي كانت تقول الملائكة بنات الله، فقررهم الله على هذه الحجة، أي أنتم أيها البشر لكم الأعلى من النسل ولله الإناث؟ فلما ظهر هذا التباعد الذي في قولهم عظم الله عليهم فساد ما يقولونه وشنعته، ومعناه عظيما في المنكر والوخامة، و «أصفاكم» معناه جعلكم أصحاب الصفوة، وحكى الطبري عن قتادة عن بعض أهل العلم أنه قال: نزلت هذه الآية في اليهود لأنهم قالوا هذه المقالة من أن الملائكة بنات الله.
قال القاضي أبو محمد: والأول هو الذي عليه جمهور المفسرين.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
قرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء على معنى صرّفنا فيه الحكم والمواعظ، وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله، وقال بعض من شدد الراء: إن قوله فِي زائد، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن، وهذا ضعيف، وقرأ الجمهور «ليذّكّروا» وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة طلحة ويحيى والأعمش، وما في ضمن الآية من ترج وطماعية فهو في حق البشر وبحسب ظنهم فيمن يفعل الله معه هذا، و «النفور» عبارة عن شدة الإعراض تشبيها بنفور الدابة، وهو في هذه الآية مصدر لا غير، وروي أن في الإنجيل في معنى هذه الآية:
يا بني إسرائيل شوقناكم فلم تشتاقوا ونحنا لكم فلم تبكوا. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ الآية إحبار بالحجة، واختلف الناس في معنى قوله لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فحكى الطبري وغيره من المفسرين أن معناه لطلب هؤلاء الآلهة الزلفى إلى ذي العرش والقربة إليه بطاعته، فيكون السبيل على هذا التأويل بمعناها في قوله فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: ١٩]، وقال سعيد بن جبير وأبو علي
458
الفارسي والنقاش وقاله المتكلمون أبو منصور وغيره، إن معنى الكلام، لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته، وعلى هذا التأويل تكون الآية بيانا للتمانع، وجارية مع قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢].
قال القاضي أبو محمد: ونقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى غيره، وذلك على ما قال أبو المعالي وغيره: إنا لو فرضناه لفرضنا أن يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان، ومستحيل أن لا تنفذ جميعا، فيكون الجسم لا متحركا ولا ساكنا، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر فالذي لم تتم إرادته ليس بإله، فإن قيل نفرضهما لا يختلفان، قلنا اختلافهما جائز غير ممتنع عقلا، والجائز في حكم الواقع، ودليل آخر، إنه لو كان الاثنان لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة، وكذلك إلى ما لا نهاية، ودليل آخر أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به إلا قدرة واحدة، لا يصح فيها اشتراك، والآخر كذلك دأبا، فكل جزء إنما يخترعه واحد، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بالياء من تحت، وقرأ الجمهور «كما تقولون»، وسُبْحانَهُ مصدر بفعل متروك إظهاره، فهو بمعنى التنزيه، موضعه هنا موضع تنزه، فلذلك عطف الفعل عليه في قوله وَتَعالى، والتعالي تفاعل أما في الشاهد والأجرام فهو من اثنين، لأن الإنسان إذا صعد في منزله أو في جبل فكأن ذلك يعاليه، وهو يعالي ويرتقي، وأما في ذكر الله تعالى فالتعالي هو بالقدر لا بالإضافة إلى شيء آخر، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «عما يقولون» بالياء، وقرأ حمزة والكسائي «تقولون» بالتاء من فوق. وعُلُوًّا، مصدر على غير الفعل، فهو كقوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وهذا كثير، وقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ الآية، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم، والاشتراك الذي أنتم بسبيله، السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل، وهو التسبيح، وقوله مَنْ فِيهِنَّ يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها، في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي ينزه الله ويحمده ويمجده، واختلف أهل العلم في التسبيح، فقالت فرقة هو تجوز، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى:
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ [ص: ١٨] وقالت فرقة مِنْ شَيْءٍ لفظ عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات البحتة، فمن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام، وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح، فمذ صارت خوانا مدهونا أو نحوه صارت جمادا، وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمرا مفقوها، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه.
قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله لا تَفْقَهُونَ الكفار والغفلة، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن: بلغني أن معنى هذه
459
الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات، سبحت له الأرض، سبح كذا، سبح كذا، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: «يسبح له» بالياء، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح» بالتاء، والقراءتان حسنتان، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات»، وقوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فيه تنبيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة، أي تقولون قولا ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فلذلك أمهلكم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
هذه الآية تحتمل معنيين: أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجابا، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين، وقوله مَسْتُوراً أظهر ما فيه أن يكون نعتا للحجاب، أي مستورا عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين، وقيل التقدير مستورا به على حذف العائد وقال الأخفش مَسْتُوراً بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويأمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لغير داعية إليه، تكلف، وليس مثاله بمسلم، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، وهذا معترض بأن المبالغة أبدا إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول، فلو قال حجابا حاجبا لكان التنظير صحيحا، وقوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الآية، الأكنة جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، ومنه كنانة النبل، و «الوقر» الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه، وقوله وَإِذا ذَكَرْتَ الآية، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرّ كفار مكة من سماع ذلك إنكارا له واستبشاعا، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها، وقال بعض العلماء: إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال «يا معشر قريش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم»، فولوا ونفروا، فنزلت الآية، وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ، وقوله نُفُوراً يصح أن يكون مصدرا في موضع الحال، ويصح أن يكون جمع نافر كشاهد وشهود، لأن فعولا من أبنية فاعل في
الصفات، ونصبه على الحال، أي نافرين، وقوله أَنْ يَفْقَهُوهُ أَنْ نصب على المفعول أي «كراهة أن»، أو «منع أن»، والضمير في يَفْقَهُوهُ عائد على الْقُرْآنِ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت:
إنما عنى بقوله: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص». وقوله نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال، أو بإعراض وتغافل واستخفاف، فالضمير في بِهِ عائد على «ما»، وهي بمعنى الذي، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم، والعامل في إِذْ الأولى وفي المعطوفة عليها يَسْتَمِعُونَ الأول، وقوله وَإِذْ هُمْ نَجْوى وصفهم بالمصدر، كما قالوا: قوم رضى وعدل، وقيل المراد بقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم، وقوله مَسْحُوراً الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم، وأقواله الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون: ٢٥] ونحو هذا، وقال أبو عبيدة: مَسْحُوراً معناه ذا سحر، وهي الرية يقال لها سحر وسحر بضم السين، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري.
ومنه قولهم للجبان: انتفخ سحره، لأن الفازع تنتفخ ريته، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية، قال: ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره: مسحور ومسحر، ومنه قول امرئ القيس: [الوافر] ونسحر بالطعام وبالشراب وقول لبيد: [الطويل]
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحّر
ومنه السحور، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر، ويشبه أن يكون من السحر، كالصبوح من الصباح، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السّحر، بكسر السين، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
ضرب المثل له هو قولهم مسحور، ساحر، مجنون، متكهن، لأنه لم يكن عندهم متيقنا بأحد هذه،
461
فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر، ثم حكم الله عليهم بالضلال، وقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا يحتمل معنيين: أحدهما لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، فتجري الآية مجرى قوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الإسراء: ٤٦] [الأنعام: ٢٥] ونحو هذا، والآخر: لا يستطيعون سبيلا إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه، وقوله إِذا كُنَّا عِظاماً الآية، هذه الآية في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد، و «الرفات» من الأشياء: ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى، وقربه من حالة التراب، يقال: رفت رفتا فهو مرفوت، وفعال: بناء لهذا المعنى، كالحطام، والفتات، والرصاص، والرضاض، والدقاق، ونحوه، وقال ابن عباس: رُفاتاً غبارا، وقال مجاهد: ترابا، واختلف القراء في هذين الاستفهامين: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أيذا كنا ترابا أينا» جميعا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة، ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ الثانية «إنا» مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة: «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما، وقرأ ابن عامر «إذا كنا»، مكسورة الألف من غير استفهام «ء إنا» يهمز، ثم يمد، ثم يهمز. ويروى عنه مثل قراءة حمزة، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات، وجَدِيداً صفة لما قرب حدوثه من الأشياء، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة، لغة ضعيفة، كذا قال سيبويه، وقوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً الآية، المعنى: قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي، لا بد من بعثكم، وقوله كُونُوا هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل، وبهذه الآية مثل بعضهم، وفي هذا عندي نظر: وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب، كقوله تعالى: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران: ١٦٨]، ونحوه، وأما هذه الآية، فمعناها: كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا، الذي فطركم كذلك، هو يعيدكم، وقال مجاهد أراد ب «الخلق»، الذي يكبر في الصدور: السماوات والأرض والجبال، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك: أراد الموت، وقال قتادة ومجاهد: بل أحال على فكرتهم عموما، ورجحه الطبري، وهذا هو الأصح، لأنه بدأ بشيء صلب، ثم تدرج القول إلى أقوى منه، ثم أحال على فكرهم، إن شاؤوا في أشد من الحديد، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى، من حيث خلقهم، واخترعهم من تراب، فكذلك يعيدهم إذا شاء، لا رب غيره، وقوله فَسَيُنْغِضُونَ معناه:
يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب، قال ابن عباس: والاستهزاء. قال الزجاج: تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا
ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة: [الطويل]
462
قال الطبري وابن سلام وعَسى من الله واجبة والمعنى: وهو قريب.
قال القاضي أبو محمد: وهذه إنما هي من النبي عليه السلام، ولكنها بأمر الله، فيقربها ذلك من الوجوب، وكذلك قال عليه السلام «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وفي ضمن اللفظ توعد لهم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
يَوْمَ: بدل من قوله قَرِيباً [الإسراء: ٥١]، ويظهر أن يكون المعنى: هو يوم، جوابا لقولهم:
مَتى هُوَ [ذاته] ويريد: يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور، ليقام الساعة، وقوله فَتَسْتَجِيبُونَ أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة، وقوله: بِحَمْدِهِ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه:
بأمره، وكذلك قال ابن جريج، وقال قتادة معناه: بطاعته ومعرفته، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جميع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى بِحَمْدِهِ: إما أن جميع العالمين، كما قال ابن جبير، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته، وإما أن قوله بِحَمْدِهِ هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله، فكان النبي ﷺ يقول لهم في هذه الآيات:
عسى، أن الساعة قريبة، يوم تدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه، وقوله تعالى: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يحتمل معنيين:
أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلا لمغيب علم مقدار الزمن عنهم، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول الطبري، واحتج بقوله تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون: ١١٢- ١١٣]، والآخر: أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم: يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلا، من حيث هو منقض منحصر، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها: متاع قليل، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق هاهنا لأنه في شيء قد وقع، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود، وفي الكلام تقوية للبعث، كأنه يقول: أنت أيها المكذب بالحشر، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبدا، لا بد أن تدعى للبعث، فتقوم، وترى أنك إنما لبثت قليلا منقضيا منصرما، وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلا. وقوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي الآية اختلف النحويون في قوله يَقُولُوا فمذهب سيبويه، أنه جواب شرط مقدر تقديره: وقل لعبادي: إنك إن تقل لهم يقولوا، وهذا على أصله، في أن الأمر لا يجاب، وإنما يجاب معه شرط مقدر، ومذهب الأخفش: أن الأمر
463
يجاب، وأن قوله هاهنا يَقُولُوا إنما هو جواب قُلْ.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل قُلْ مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي: قولوا التي هي أحسن وإنما يصح بأن يكون قُلْ أمرا بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ، كأنه قال بين لعبادي، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد: أن يَقُولُوا جواب لأمر محذوف، تقديره: وقل لعبادي «قولوا التي هي أحسن» يقولوا فحذف وطوي الكلام، ومذهب الزجاج: أن يَقُولُوا جزم بالأمر، بتقدير قُلْ لِعِبادِي ليقولوا، فحذفت اللام لتقدم الأمر، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه: أن مذهب أبي عثمان المازني في يَقُولُوا أنه فعل مبني، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر لأن المعنى قُلْ لِعِبادِي قولوا، واختلف الناس في الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فقالت فرقة: هي لا إله إلا الله، ويلزم على هذا أن يكون قوله لِعِبادِي يريد به جميع الخلق، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله. ويجيء قوله بعد ذلك إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غير مناسب للمعنى، إلا على تكره، بأن يجعل بَيْنَهُمْ بمعنى خلالهم، وأثناءهم، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال، وقال الجمهور: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن: يقول: يغفر الله لك، يرحمك الله، وقوله لِعِبادِي خاص بالمؤمنين، فكأن الآية بمعنى قوله عليه السلام، «وكونوا عباد الله إخوانا» ثم اختلفوا، فقالت فرقة: أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب، وخفض الجناح، وإلانة القول، واطراح نزغات الشيطان، وقالت فرقة: إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بإلانة القول للمشركين بمكة، أيام المهادنة، وسبب الآية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله، فكاد أن يثير فتنة، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وقرأ الجمهور:
«ينزغ» بفتح الزاي، وقرأ طلحة بن مصرف: «ينزغ»، بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم: لعلها لغة، والقراءة بالفتح، ومعنى النزغ: حركة الشيطان بسرعة ليوجب فسادا، ومنه قول النبي عليه السلام «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده» فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة، و «عداوة الشيطان البينة» هي قصته مع آدم عليه السلام فما بعد، وقوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة وذلك أن هذه المخاطبة في قوله رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ هي لكفار مكة بدليل قوله وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم، ورجاهم وخوفهم، ومعنى يَرْحَمْكُمْ بالتوبة عليكم من الكفر، قاله ابن جريج وغيره، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنما عليك البلاغ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد، فتتناسب الآيات بهذا التأويل ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم، فهذه إشارة إلى محمد ﷺ وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشرا، المعنى: لا تنكروا أمر محمد عليه السلام، وإن أوتي قرآنا، فقد فضل النبيون، وأوتي داود زبورا، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، وتفضيل بعض الرسل، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد
464
أفضل البشر، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس، وإما أن يكون التفضيل مقسما فيهم: أعطي هذا التكليم، وأعطيت هذه الخلفة، ومحمد الخمس، وعيسى الإحياء، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق، وقوله بِمَنْ فِي السَّماواتِ، الباء متعلقة بفعل تقديره: علم بمن في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب أَعْلَمُ لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب أَعْلَمُ ولا يلتفت لدليل الخطاب وقرأ الجمهور: «زبورا» بفتح الزاي، وهو فعول بمعنى مفعول، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زبورا» بضم الزاي، وله وجهان: أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد، كما قالوا في جمع ظريف، ظروف، والآخر، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر، سمي بمصدر زبر يزبر، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور، فكأنه قال: آتينا داود كتبا، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيرا، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، في آخر كتاب مسلم: «وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له»، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
الذين أمر رسول الله ﷺ أن يقول لهم في هذه الآية، ليسوا عبدة الأصنام، وإنما هم عبدة من يعقل، واختلف في ذلك. فقال ابن عباس: هي في عبدة العزيز والمسيح وأمه ونحوهم، وقال ابن عباس أيضا، وابن مسعود: هي في عبدة الملائكة، وقال ابن مسعود أيضا: هي في عبدة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أولئك الشياطين، وعبدتهم بقوا يعبدونهم فنزلت الآية في ذلك.
وقال ابن عباس أيضا: هي في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزيز والمسيح وأمه، وأي ذلك كان، فمعنى الآية: قل لهؤلاء الكفرة ادْعُوا عند الشدائد، والضُّرِّ هؤلاء المعبودين، فإنهم لا يملكون كشفه ولا تحويله عنكم، ثم أخبرهم على قراءة ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء، أو أخبر النبي عليه السلام على قراءة الجمهور، «يدعون» بالياء من تحت، أن هؤلاء المعبودين، يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم، وقرأ ابن مسعود «إلى ربك»، والضمير في رَبِّهِمُ للمتبعين أو
465
للجميع، والْوَسِيلَةَ، هي القربة، وسبب الوصول إلى البغية، وتوسل الرجل: إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما، وقال عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ومنه قول النبي عليه السلام: «من سأل الله لي الوسيلة» الحديث. وأَيُّهُمْ ابتداء، وأَقْرَبُ خبر، وأُولئِكَ يراد به المعبودون وهو: ابتداء خبره يَبْتَغُونَ والضمير في يَدْعُونَ للكفار، وفي يَبْتَغُونَ للمعبودين، والتقدير: نظرهم ووكدهم أيهم أقرب وهذا كما قال عمر بن الخطاب في حديث الراية بخيبر: فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها أي يتبارون في طلب القرب، وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله، وقال ابن فورك وغيره: إن الكلام من قوله أُولئِكَ الَّذِينَ راجع إلى النبيين المتقدم ذكرهم، ف يَدْعُونَ على هذا من الدعاء، بمعنى الطلبة إلى الله، والضمائر لهم في يَدْعُونَ وفي يَبْتَغُونَ وباقي الآية بين. وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ الآية: أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، هذا مع السلامة وأخذها جزءا أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة ومِنْ لبيان الجنس، وقيل المراد الخصوص وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظالمة، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم، وذكر لهلاك كل قطر منها صفة، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك، والمعلوم أن كل قرية تهلك، إما من جهة القحوط والخسف غرقا، وإما من الفتن، أو منهما، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل، فأما ما هلك بالفتنة، فعن ظلم ولا بد، إما في كفر أو معاص، أو تقصير في دفاع، وحزامة، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء، وكذلك الخسف. وقوله مُهْلِكُوها الضمير لها، وفي ضمن ذلك الأهل، وقوله مُعَذِّبُوها هو على حذف مضاف، فإنه لا يعذب إلا الأهل، وقوله فِي الْكِتابِ يريد في سابق القضاء، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ، و «المسطور» المكتوب إسطارا، وقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ الآية، هذه العبارة في معناها هي على ظاهر ما تفهم العرب، فسمى سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعا، وأن الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، والتقدير: وما منعنا الإرسال إلا التكذيب، وسبب هذه الآية أن قريشا اقترحوا على رسول الله ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهبا، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض، فأوحى الله إلى محمد عليه السلام، إن شئت أن أفعل ذلك لهم، فإن تأخروا عن الإيمان عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول الله ﷺ «بل تستأني بهم يا رب»، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستيناء، إذ قد سلفت عادته بمعاجلة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا، قال الزجاج: أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة، بقوله بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: ٤٦]، فهذه الآية تنظر إلى ذلك، ثم ذكر أمر ثمرد، احتجاجا إن قال منهم قائل نحن كنا نؤمن لو جاءتنا آية اقترحناها ولا نكفر بوجه، فذكر الله تعالى ثمود، بمعنى: لا تؤمنون إن تظلموا بالآية كما ظلمت ثمود بالناقة، وقرأ الجمهور: «ثمود» بغير
466
تنوين، قال هارون: أهل الكوفة ينونون «ثمودا» في كل وجه، قال أبو حاتم: لا تنون العامة والعلماء بالقرآن «ثمود» في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة، ونحن نقرؤها بغير ألف، وقوله مُبْصِرَةً على جهة النسب أي معها إبصار، كما قال: آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: ١٢] أي معها إبصار ممن ينظر، وهذا عبارة عن بيان أمرها، ووضوح إعجازها، وقرأ قوم «مبصرة» بضم الميم وفتح الصاد، حكاه الزجاج، ومعناه متبينة، وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد، وهي مفعلة من البصر ومثله قول عنترة: [الكامل].
الكفر مخبثة لنفس المنعم وقوله فَظَلَمُوا بِها أي وضعوا الفعل غير موضعه، أي بعقرها، وقيل بالكفر في أمرها، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يرسل بِالْآياتِ غير المقترحة تَخْوِيفاً للعباد، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك، قال الحسن والموت الذريع، وروي أن الكوفة رجفت في مدة عبد الله بن مسعود. فقال: أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه، ومن هذا قول النبي عليه السلام في الكسوف: «فافزعوا إلى الصلاة» الحديث، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام: فقسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية، وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد غبا كالرعد والكسوف ونحوه، وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوءة، وإنما يعتبر به توهما لما سلف منه.
قوله عزّ وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
قال الطبري: معنى قوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم، أي فالتبليغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده، توطئة له، فأقول: اختلف الناس في الرُّؤْيَا، فقال الجمهور: هي رؤيا عين ويقظة، وهي ما رأى رسول الله ﷺ في ليلة الإسراء، قالوا: فلما أخبر رسول الله ﷺ صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفار إن هذا لعجيب تحث الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا، يحسن أن يكون معنى قوله وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي: في إضلالهم وهدايتهم، وأن كل واحد ميسر لما
467
خلق له، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر، ولا تحزن عليهم، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل «رؤيا»، إذ هما مصدران من رأى، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك.
وقالت عائشة الرُّؤْيَا في الإسراء رؤيا منام، وهذا قول الجمهور على خلافه، وهذه الآية تقتضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها، وقد ذكر هذا مستوعبا في صدر السورة، وقال ابن عباس: الرُّؤْيَا التي في هذه الآية، هي رؤيا رسول الله ﷺ أنه يدخل مكة، فعجل في سنة الحديبية فرد، فافتتن المسلمون بذلك، فنزلت الآيات، وقال سهل بن سعد: إنما هذه «الرؤيا» أن رسول الله ﷺ كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا، ويجيء قوله أَحاطَ بِالنَّاسِ أي بأقداره، وأن كل ما قدره نافذ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الأنبياء: ١١١]، وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه «الرؤيا» عثمان بن عفان، ولا عمر بن عبد العزيز، ولا معاوية، وقوله وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ: معطوفة على قوله الرُّؤْيَا، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة وَالشَّجَرَةَ هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد، ثم أمر أبو جهل جارية له، فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه تزقموا، فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدق من سبق له الإيمان، كما روي أن أبا بكر الصديق، قيل له، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق، فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه، قال: أين عقولكم، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير. وقالت فرقة: وَالشَّجَرَةَ: إشارة إلى القوم المذكورين قبل في الرُّؤْيَا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف محدث، وليس هذا عن سهل بن سعد، ولا مثله، وقال الطبري عن ابن عباس: إن الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ يريد الملعون آكلها، لأنها لم يجر لها ذكر.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يريد الْمَلْعُونَةَ، هنا فأكد الأمر بقوله فِي الْقُرْآنِ وقالت فرقة: الْمَلْعُونَةَ، المبعدة المكروهة، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، وأيضا فما ينبت في أصل الجحيم، فهو في نهاية البعد من رحمة الله، وقوله وَنُخَوِّفُهُمْ يريد: إما كفار مكة، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم، «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا» والأول منها أصوب كما قلنا قبل، وقوله فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت، وفي نحوه وقرأ الأعمش «ويخوفهم» وقرأ الجمهور و «ونخوفهم» بالنون.
468
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
المعنى: واذكر إذ قلنا، وكذلك إِذْ [الإسراء: ٦٠] في الآية المتقدمة: هي منصوبة بفعل مضمر، وقد تقدم في غير موضع ذكر خلق آدم وأمر السجود، واختلف في قوله إِلَّا إِبْلِيسَ فقيل هو استثناء منقطع، لأن إِبْلِيسَ لم يكن من الملائكة، وقيل هو متصل لأن إبليس من الملائكة، وقوله طِيناً يصح أن يكون تمييزا، ويصح أن يكون حالا، وقاس إِبْلِيسَ في هذه النازلة فأخطأ، وذلك أنه رأى الفضيلة لنفسه، من حيث رأى النار أفضل من الطين، وجهل أن الفضائل في الأشياء، إنما تكون حيث خصصها الله تعالى، ولا ينظر إلى أصولها. وذكر الطبري عن ابن عباس أن إبليس هو الذي أمره الله فأخذ من الأرض طينة آدم، والمشهور أنه ملك الموت، وكفر إبليس في أن جهل صفة العدل من الله تعالى، حين لحقته الأنفة، والكبر، وكان أصل ذلك الحسد، ولذلك قيل: إن أول ما عصي الله بالحسد، وظهر ذلك من إبليس، من قوله أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: ١١] حسبما ذكر الله في آية أخرى. فهذا هو النص بأن فعلك غير مستقيم، والكاف في قوله أَرَأَيْتَكَ هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه، لا موضع لها من الإعراب، فهي زائدة، ومعنى أرأيت: أتأملت ونحوه، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد، وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني، ومثل بقوله أرأيتك زيدا أبو من هو؟ وقاله الزجاج: في آياتِنا [طه: ٥٦] ولم يمثل، وقول سيبويه: صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية، فهي كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله، وقرأ ابن كثير «أخرتني» بياء في الوصل والوقف، وهذا هو الأصل، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف، كمثل قول الأعشى: [المتقارب]
ظعائن لم يسكن أكناف قرية بسيف ولم تنغض بهن القناطر
فهل يمنعني ارتياد البلاد من حذر الموت أن يأتين
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «أخرتن» بحذف الياء في الوصل والوقوف، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه، لكونها ياء متطرفة قبلها كسرة، ومنه قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: ١٠٥] وقوله لَأَحْتَنِكَنَّ معناه: لأميلن
469
ولأجرن، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد، وألسنة تحتنك المال، أي تجتره، ومنه قول الشاعر:
نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت ومن هذا الشعر، قال الطبري لَأَحْتَنِكَنَّ معناه: لاستأصلن، وعبر ابن عباس في ذلك ب «لأستولين»، وقال ابن زيد لأضلن، وهذا بدل اللفظ لا تفسير، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض، كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله، وقوله: اذْهَبْ وما بعده من الأوامر، هو صيغة افعل من التهديد، كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وتَبِعَكَ معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله جَزاءً مصدر في موضع الحال، و «الموفور» المكمل وَاسْتَفْزِزْ معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير:
كما استغاث بسيىء فز غيطلة خاف العيون فلم ينظر به الحشك
و «الصوت» هنا: قيل هو الغناء والمزامير والملاهي، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي، فهي مضافة إلى الشَّيْطانُ، قاله مجاهد، وقيل معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك، قال ابن عباس: صوته، كل داع إلى معصية الله، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك. وقوله وَأَجْلِبْ أي هول والجلبة: الصوت الكثير المختلط الهائل، وقرأ الحسن: «واجلب» بوصل الألف وضم اللام. وقوله بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قيل هذا مجاز واستعارة، بمعنى: اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل معناه: أن له من الجن خيلا ورجلا، قاله قتادة، وقيل المراد: فرسان الناس ورجالتهم، المتصرفون في الباطل، ، فإنهم كلهم أعوان لإبليس على غيرهم، قاله مجاهد وقرأ الجمهور «ورجلك» بسكون الجيم، وهو جمع راجل، كتاجر وتجر، وصاحب وصحب، وشارب وشرب، وقرأ حفص عن عاصم: «ورجلك» بكسر الجيم على وزن فعل، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه، وهي صفة تقول فلان يمشي رجلا، غير راكب، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
أنا أقاتل عن ديني على فرسي ولا كذا رجلا إلا بأصحابي
وقرأ قتادة وعكرمة: «ورجالك». وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ عام: لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فإن ذلك المصرف في المعصية، هو خط إبليس، فمن ذلك البحائر وشبهها، ومن ذلك مهر البغي، وثمن الخمر، وحلوان الكاهن، والربا، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأبا. وقوله وَالْأَوْلادِ عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس، وعبد الجدي، وأبا الكويفر، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر،
470
وغير هذا، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله. وقوله وَعِدْهُمْ أي منّهم بما لا يتم لهم، وبأنهم غير مبعوثين، فهذه مشاركة في النفوس، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم غُرُوراً منه، لأنه لا يغني عنهم شيئا، وقوله إِنَّ عِبادِي الآية، قول من الله تعالى لإبليس، وقوله عِبادِي يريد المؤمنين في الكفر، والمتقين في المعاصي، وخصهم باسم العباد، وإن كان اسما عاما لجميع الخلق، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب:
هذا ابني، على معنى التنبيه منه والتشريف له، ومنه قول النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص:
«هذا خالي فليرني امرؤ خاله»، و «السلطان» الملكة والتغلب، وتفسيره هنا بالحجة قلق، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: وَكَفى بِرَبِّكَ يا محمد حافظا للمؤمنين، وقيما على هدايتهم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
«الإزجاء» : سوق الثقيل السير، إما لضعف أو ثقل حمل أو غيره، فالإبل الضعاف تزجى، ومنه قول الفرزدق: [البسيط] على زواحف تزجيها محاسير والسحاب تزجى ومنه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور: ٤٣] والبضاعة المزجاة هي التي تحتاج لاختلالها أن تساق بشفاعة وتدفع بمعاون إلى الذي يقبضها، وإزجاء الْفُلْكَ سوقه بالريح اللينة والمجاديف، والْفُلْكَ والْبَحْرِ الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب الاسم على هذا المشهور، والْفُلْكَ تجري فيها. وقوله لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لفظ يعم البصر، وطلب الأجر، في حج أو غزو ونحوه، ولا خلاف في جواز ركوبه للحج والجهاد والمعاش، واختلف في وجوبه للحج، أعني الكثير منه، واختلف في كراهيته للثروة وتزيد المال، وقد روي عنه أنه قال «البحر لا أركبه أبدا»، وهذا حديث يحتمل أنه رأي رآه لنفسه، ويحتمل أنه أوحي إليه ذلك، وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده.
والضُّرُّ لفظ يعم خوف الغرق، والامتساك في المشي، وأهول حالاته: اضطرابه وتموجه. وقوله ضَلَّ معناه تلف وفقد، وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلها من دون الله، والمعنى في هذه الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوفقهم الله من ذلك على حالة البحر. وقوله
أَعْرَضْتُمْ أي لم تفكروا في صنع الله وقت حاجتكم إليه، وقوله كَفُوراً أي بالنعم. والْإِنْسانُ هنا للجنس، وكل أحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب، وقال الزجاج الْإِنْسانُ يراد به الكفار، وهذا غير بارع. وقوله أَفَأَمِنْتُمْ الآية، المعنى أَفَأَمِنْتُمْ أيها المعرضون الناسون الشدة، حين صرتم إلى الرخاء «أن يخسف الله بكم مكانكم من البر» إذا أنتم في قبضة القدرة في البحر والبر. و «الحاصب» العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل: [الكامل]
ترمي العصاة بحاصب من ثلجها حتى يبيت على العضاه جمالا
ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط، والحصب: الرمي بالحصباء، وهي الحجارة الصغار، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يخسف» بالياء على معنى يخسف الله، وكذلك «يرسل» و «يعيد» و «يرسل» و «يغرق»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ذلك كله بالنون، وقرأ أبو جعفر ومجاهد «تغرقكم» بالتاء أي الريح، وقرأ حميد «نغرقكم» بالنون حقيقة وأدغم القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن وقرأ الحسن وأبو رجاء «يغرّقكم» بشد الراء. و «الوكيل» القائم بالأمور، و «القاصف» الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه، وتارَةً، جمعها تارات وتير، معناه: مرة أخرى، وقرأ أبو جعفر: «من الرياح» بالجمع.
و «التبيع» الذي يطلب ثأرا أو دينا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها ضوامن عزم لزهن تبيع
ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام: «إذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع» فالمعنى لا تحدون من يتبع فعلنا بكم ويطلب نصرتكم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٥]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
كَرَّمْنا تضعيف كرم، فالمعنى: جعلنا لهم كرما، أي شرفا وفضلا، وهذا هو كرم نفي النقصان، لا كرم المال وإنما هو كما تقول: ثوب كريم، أي جمة محاسنه.
472
قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه: وهذه الآية، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان، والحيوان والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، وحملهم فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ جميعا، والرزق مِنَ الطَّيِّباتِ، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان أن يأكل لحما نيا، أو طعاما غير مركب، و «الرزق»، كل ما صح الانتفاع به، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا: «التفضيل» هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم، وقال غيره: وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان، ويمشي قائما، ونحو هذا من التفضيل، وهذا كله غير محذق وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم، كجري الفرس، وسمعه، وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد وكرم الديك، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله، وبه يعرف الله عز وجل، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه، وقالت فرقة: هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس، من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
، [النساء: ١٧٢] وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع، وقوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا الآية، يحتمل قوله يَوْمَ أن يكون منصوبا على الظرف، والعامل فيه: فعل مضمر تقديره أنكر، أو فعل يدل عليه، قوله وَلا يُظْلَمُونَ تقديره «ولا يظلمون يوم ندعو». ثم فسره يُظْلَمُونَ الأخير، ويصح أن يعمل فيه وَفَضَّلْناهُمْ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا، ولا يعمل فيه نَدْعُوا لأنه مضاف إليه، ويحتمل أن يكون يَوْمَ منصوبا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعا بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله فَمَنْ أُوتِيَ إلى قوله وَمَنْ كانَ. وقرأ الجمهور «ندعو» بنون العظمة، وقرأ مجاهد «يدعو»، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم. وقرأ الحسن «يدعو» بضم الياء وسكون الواو، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب، يقلبون هذه الألف واوا، فيقولون افعو حبلو، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن: «كل» بالرفع، على معنى يدعى كل، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن، أنه قرأ «يدعى كل» وأُناسٍ اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقوله بِإِمامِهِمْ يحتمل أن يريد باسم إمامهم، ويحتمل أن يريد مع إمامهم، فعلى التأويل الأول: يقال يا أمة محمد، ويا أتباع فرعون، ونحو هذا، وعلى التأويل الثاني: تجيء كل أمة معها إمامها، من هاد أو مضل، واختلف المفسرون في «الإمام»، فقال مجاهد وقتادة: نبيهم، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم، وقال ابن عباس والحسن:
كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقالت فرقة: متبعهم، من هاد أو مضل، ولفظة «الإمام» تعم هذا كله، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدى به في المقصد، ومنه قيل لخيط البناء إمام، قال الشاعر يصف قدحا: [الطويل]
وقومته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام
ومنه قيل للطريق إمام، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
473
بِيَمِينِهِ
حقيقة في أن في يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار، وقوله يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها، وقوله وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا أقل ولا أكثر، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور. كقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، [الإسراء: ٢٣] وكقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] وهذا كثير ومعنى الآية: أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئا، و «الفتيل» هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر، وقوله وَمَنْ كانَ، الآية، قال محمد بن أبي موسى: الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها، فهو في أمور الآخرة وشأنها أَعْمى.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أَعْمى الثاني أن يكون بمنزلة الأول، على أنه تشبيه بأعمى البصر، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل، أي أشد عمى، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد: الإشارة بهذه إلى الدنيا، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف، أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون: فهو في يوم القيامة أعمى، على معنى أنه حيران، لا يتوجه له صواب، ولا يلوح له نجح، قال مجاهد «فهو في الآخرة أعمى» عن حجته.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أن الإشارة ب هذِهِ إلى الدنيا، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، وبهذا التأويل، تكون معادلة للتي قبلها، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، وإذا جعلنا قوله فِي الْآخِرَةِ بمعنى في شأن الآخرة، لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «أعمى» في الموضعين، بغير إمالة، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني، وتأوله بمعنى أشد عمى، ولذلك لم يمله، قال أبو علي: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، وأَعْمى ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا، فليس يتم إلا في قولنا من كذا، فهو إذا ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل قوله عطفا عليه وَأَضَلُّ سَبِيلًا فإنما عطف أَضَلُّ الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به، وإنما جعله في الآخرة أَضَلُّ سَبِيلًا، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو، وهو في الآخرة، لا يمكنه ذلك، فهو أَضَلُّ سَبِيلًا، وأشد حيرة، وأقرب إلى العذاب، وقول سيبويه رحمه الله: لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل، وذكر مكي في هذه الآية، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال، والله المعين. وقوله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية، إِنْ هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة، واللام في قوله لَيَفْتِنُونَكَ لام تأكيد، وإِنْ هذه عند الفراء بمعنى ما، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله كادُوا قيل هو لقريش وقيل لثقيف، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
474
ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أيضا أوثاننا على معنى التشرع بذلك، قال الطبري وغيره: فهمّ رسول الله ﷺ أن يظهر لهم ذلك، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج: فقال رسول الله ﷺ في نفسه «وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي»، وقال ابن إسحاق وغيره، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه، وقالوا له: أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: ٩].
وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه، وأما لثقيف، فقال ابن عباس وغيره:
لأنهم طلبوا من رسول الله ﷺ أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب، فقل: أوحى الله ذلك إلي، فنزلت الآية في ذلك، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية، وقد روي ذلك، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد: وجميع ما أريد من النبي ﷺ بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه، إما في معجز وإما في غير معجز، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع. وقوله وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم، وقوله لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ الآية، تعديد نعمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله ﷺ لما نزلت هذه الآية قال «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين». و «الركون» شد الظهر إلى الأمر أو الحزم على جهة السكون إليه، كما يفعل الإنسان بالركن من الجدران ومنه قوله تعالى حكاية.
أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: ٨٠]، وقرأ الجمهور «تركن» بفتح الكاف، وقرأ ابن مصرف وقتادة وعبد الله بن أبي إسحاق «تركن» بضم الكاف، ورسول الله ﷺ لم يركن، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعا منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباري إلى أن معناه لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت، ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم بذلك عن النبي عليه السلام، فحمل اللفظ ما لا يحتمل، وقوله شَيْئاً قَلِيلًا يبطل ذلك، وهذا الهم من النبي عليه السلام إنما كانت خطرة مما لا يمكن دفعه، ولذلك قيل كِدْتَ، وهي تعطي أنه لم يقع ركون، ثم قيل شَيْئاً قَلِيلًا إذ كانت المقاربة التي تتضمنها كِدْتَ قليلة خطرة لم تتأكد في النفس، وهذا الهمّ هو كهمّ يوسف عليه السلام، والقول فيهما واحد وقوله إِذاً لَأَذَقْناكَ الآية، يبطل أيضا ما ذهب إليه ابن الأنباري، وقوله ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
قال القاضي أبو محمد: على معنى أن ما يستحقه هذا المذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه لك، وهذا التضعيف شائع مع النبي عليه السلام في أجره، وفي ألمه وعقاب أزواجه، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
475

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
قال حضرمي الضمير في كادُوا ليهود المدينة وناحيتها، كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء بالشام، ولكنك تخاف الروم، فإن كنت نبيا، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء، فنزلت الآية في ذلك، وأخبر الله عز وجل أن رسول الله ﷺ لو خرج لم يلبثهم بعده إِلَّا قَلِيلًا، وحكى النقاش أن رسول الله ﷺ خرج بسبب قولهم، وعسكر بذي الحليفة، وأقام ينتظر أصحابه، فنزلت الآية عليه، فرجع، وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة، وقالت فرقة الضمير في كادُوا هو لقريش، وحكى الزجاج أن «استفزازهم» هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله، والْأَرْضِ على هذا عامة في الدنيا، كأنه قال لِيُخْرِجُوكَ من الدنيا، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة، إما مكة وإما المدينة، كما قال تعالى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: ٣٣]. فإنما معناه من الأرض التي فيها تصرفهم وتمعسهم، وقال ابن عباس وقتادة: واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول الله ﷺ من مكة، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك، ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه إِلَّا قَلِيلًا يوم بدر، وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها، لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وأن لا يستأصلها، أذن لرسوله بالهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله لا يقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم، قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا، فذهب مجاهد رحمه الله إلى أن الضمير في يَلْبَثُونَ عام في جميعهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون، وإعمال إِذاً، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون، وقرأ عطاء بن أبي رباح «يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام وشد الباء، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء، وقرأ عطاء «بعدك إلا قليلا»، وقرأ الجمهور «خلفك»، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم «خلافك»، والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
عقب الرذاذ خلافها فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
ومنه قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ٨١]، على بعض تأويلاته أي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف لأن التقدير في آياتنا خلاف خروجك، وفي بيت الشاعر خلاف انبساط الشمس أو نحوه، قال أبو علي: أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليست أحداثا فلم يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النصب، كقوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا
476
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ
[الجن: ١١]، وقوله يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: ٣]، وقوله سُنَّةَ نصب على المصدر، وقال الفراء نصبه على حذف الخافض، لأن المعنى كسنة، فحذفت الكاف ونصب ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله قَلِيلًا، ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها الهلاك فلم تلبث بعده إلا قليلا، وقوله أَقِمِ الصَّلاةَ الآية، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة، فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: «دلوك الشمس» زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقِ اللَّيْلِ أشير به إلى المغرب والعشاء، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «أتاني جبريل لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حين زالت فصلى بي الظهر»، وروى جابر أن النبي ﷺ خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس، وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم:
«دلوك الشمس» غروبها، والإشارة بذلك إلى المغرب، وغَسَقِ اللَّيْلِ اجتماع ظلمته، فالإشارة إلى العتمة، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات، وهما من جهة اللغة حسنان، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل، فذكر الله الصلوات التي في حالة «الدلوك» وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في غَسَقِ اللَّيْلِ، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن أيدالك الرجل امرأته يريد أيميل بها إلى المطل في دينها فقال له الحسن نعم إذا كان ملفجا، أي عديما، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
مصابيح ليست باللواتي تقودها... نجوم ولا بالآفلات الدوالك
ومن ذلك قول الشاعر: [الرجز]
هذا مكان قدمي رباح... غدوة حتى دلكت براح
يروى براح بكسر الباء، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبدا لينظر كيف ميلها وما بقي لها، وهذا نحو قول الحجاج: [الرجز]
والشمس قد كادت تكون دنفا... دفعها بالراح كي تزحلقا
وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال: دلكت براح يعني براح مكانا. قال: فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم، وإن كان من كلام راو فأهل الغريب أعلم بذلك، ويروى أن البيت الأول: «غدوة حتى هلكت براح»، بفتح الباء على وزن قطام وحذام، وهو اسم من أسماء الشمس، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته، وقال الشاعر: [المديد] آب هذا الليل إذ غسقا
477
وقال ابن عباس: غَسَقِ اللَّيْلِ بدؤه، ونصب قوله وَقُرْآنَ بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن، ويصح أن ينصب عطفا على الصلاة، أي «وأقم قرآن الفجر»، وعبر عن صلاة الصبح خاصة ب «القرآن» لأن القرآن هو عظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها، ويصح أن ينصب قوله وَقُرْآنَ على الإغراء وقوله إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر»، الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره، وعلى القول بذلك مضى الجمهور، وذكر الطبري حديثا عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء، في قوله كانَ مَشْهُوداً قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل، ونحو هذا مما ليس بالقوي، وقوله وَمِنَ اللَّيْلِ مِنَ للتبعيض، التقدير ووقتا من الليل أي وقم وقتا، والضمير في بِهِ عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على «القرآن» وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق، لكن جرى مضافا إلى الفجر، وفَتَهَجَّدْ معناه: فاطرح الهجود عنك، والهجود النوم، يقال هجد يهجد بضم الجيم هجودا إذا نام، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود
ومنه قول الحطيئة: [الطويل]
فحياك ود ما هداك لفتية وخوص بأعلى ذي طوالة هجد
وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث، ومثله فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: ٦٥] معناه تندمون، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي انبساط النفس وسرورها، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك، فالمعنى وقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود: «التهجد» بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو إنما «التهجد» بعد رقدة، وقال الحسن: «التهجد» ما كان بعد العشاء الآخرة، وقوله نافِلَةً لَكَ قال ابن عباس وغيره: معناه زيادة لك في الفرض، قالوا: وكان قيام الليل فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله «أقم الصلوات» الآية. وقال مجاهد: إنما هي نافِلَةً للنبي ﷺ لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، وبين أن النبي ﷺ منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقربا أشرف من نوافل أمته، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث، وإما أن تحط بها خطاياهم، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة، كنصراني يسلم وصبي يحتلم، وضعف الطبري قول مجاهد. وقوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً عزة من الله عز وجل لرسوله، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام، والحديث بطوله في البخاري ومسلم، فلذلك اختصرناه، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال: «أنا سيد، ولد آدم
478
ولا فخر». وعَسى من الله واجبة، ومَقاماً نصب على الظرف، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي ﷺ يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف، فيذهب لذلك، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار، فمعناه الاقتضاب والاختصار. لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».
قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها، أو يقال إن كل مقام منها محمود، قال النقاش: لرسول الله ﷺ ثلاث شفاعات، شفاعة العامة، وشفاعة السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر، والمشهور أنهما شفاعتان فقط، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت: «المقام المحمود» هو أن الله عز وجل يجلس محمدا معه على عرشه، وروت في ذلك حديثا، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد، ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا.
قال القاضي أبو محمد: من أنكر جوازه على تأويله.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه رَبِّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص، ثم اختلفوا في تعيينه، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: أراد أَدْخِلْنِي المدينة وَأَخْرِجْنِي من مكة، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم، وقال أبو صالح ومجاهد: أَدْخِلْنِي في أمر تبليغ الشرع وَأَخْرِجْنِي منه بالأداء التام، وقال ابن عباس: الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله، أصوب، وقرأ الجمهور «مدخل» «ومخرج» بضم الميم، فهو جرى على أَدْخِلْنِي
479
وَأَخْرِجْنِي وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد، «مدخل» «ومخرج» بفتح الميم، فليس بجار على أَدْخِلْنِي ولكن التقدير «أدخلني فأدخل مدخل»، لأنه إنما يجري على دخل، و «الصدق» هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن، وقوله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال مجاهد وغيره: حجة، يريد تنصرني ببيانها على الكفار، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفا ينصر دين الله، فطلب رسول الله ﷺ ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته، وقوله وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ الآية، قال قتادة: الْحَقُّ القرآن، والْباطِلُ الشيطان، وقالت فرقة: الْحَقُّ الإيمان، والْباطِلُ الكفر، وقال ابن جريج: الْحَقُّ الجهاد، والْباطِلُ الشرك، وقيل غير ذلك، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه، وَزَهَقَ الكفر بجميع ما انطوى فيه، والْباطِلُ كل ما لا تنال به غاية نافعة. وقوله كانَ زَهُوقاً ليست كانَ إشارة إلى زمن مضى، بل المعنى كان وهو يكون، وهذا كقولك كان الله عليما قادرا ونحو هذا، وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها، وقرأ الجمهور «وننزل» بالنون، وقرأ مجاهد «وينزل» بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص، وقوله مِنَ الْقُرْآنِ يصح أن تكون مِنَ لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال وننزل ما فيه شفاء مِنَ الْقُرْآنِ وأنكر بعض المتأولين أن يكون مِنَ للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه.
قال القاضي أبو محمد: وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ شيئا شيئا ما فيه كله شِفاءٌ، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه، ويحتمل أن يراد ب «الشفاء» نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه، وكونه رحمته ظاهر، وقوله وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً معنى أنه عليهم عمى، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن. وقوله وَإِذا أَنْعَمْنا الآية، الْإِنْسانِ في هذه الآية لا يراد به العموم، وإنما يراد به بعضه وهم الكفرة، وهذا كما تقول عند غضب: لا خير في الأصدقاء ولا أمانة في الناس، فأنت تعم مبالغة، ومرادك البعض، وهذا بحسب ذكر الظالمين، و «الخسار» في الآية قبل فاتصل ذكر الكفرة، ويحتمل أن يكون الْإِنْسانِ في هذه الآية عاما للجنس، على معنى أن هذا الخلق الذميم في سجيته، فالكافر يبالغ في الإعراض والعاصي يأخذ بحظه منه، وقد قال رسول الله ﷺ في مؤمن: «فأعرض فأعرض الله عنه»، ومعنى أَعْرَضَ ولانا عرضه، ونأى أي بعد، وهذه استعارة، وذلك أنه يفعل أفعال المعرض النائي في تركه الإيمان بالله وشكر نعمه عليه، وقرأ ابن عامر وحده «وناء»، ومعناه نهض أي متباعدا، هذا قول طائفة، وقالت أخرى هو قلب الهمزة بعد الألف من نَأى بعينه وهي لغة كرأى وراء، ومن هذه اللفظة، قول الشاعر في صفة رام: [الرجز]
480
أي نهض متوركا على شماله، والذي عندي أن «ناء ونأى» فعلان متباينان، وناء بجانبه عبارة عن التحيز والاستبداد، ونأى عبارة عن البعد والفراق، ثم وصف الكفرة بأنهم إذا مسهم شر من مرض أو مصيبة في مال أو غير ذلك يئسوا من حيث لا يؤمنون بالله ولا يرجون تصرف أقداره، ثم قال عز وجل قُلْ يا محمد كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي على طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه وهو شكله ومثل له، وهذه الآية تدل دلالة ما على أن الْإِنْسانِ أولا لم يرد به العموم، أي إن الكفار بهذه الصفات، والمؤمنون بخلافها، وكل منهم يعمل على ما يليق به، والرب تعالى أعلم بالمهتدي، وقال مجاهد: عَلى شاكِلَتِهِ معناه على طبيعته، وقال أيضا معناه على حدته، وقال ابن عباس: معناه على ناحيته، وقال قتادة:
معناه على ناحيته وعلى ما ينوي، وقال ابن زيد: معناه على دينه، وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة وفي قوله فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا توعد بين.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
الضمير في يَسْئَلُونَكَ قيل هو لليهود وإن الآية مدنية، وروى عبد الله بن مسعود، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر على حرث بالمدينة، ويروى على خرب، وإذا فيه جماعة من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه، ولا يطلع عليه أحدا من عباده، قال ابن مسعود: وقال بعضهم: لا تسألوه لئلا يأتي فيه بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته، قال فسألوه فوقف رسول الله ﷺ متوكئا على عسيب، فظننت أنه يوحى إليه، ثم تلا عليهم الآية، وقيل الآية مكية والضمير لقريش، وذلك أنهم قالوا: نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، فقال اليهود لهما: جرباه بثلاث مسائل، سلوه عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب، وإن سكت عن الروح فهو نبي، فسألته قريش عن الروح، فيروى أن النبي ﷺ قال لهم «غدا أخبركم به»، ولم يقل إن شاء الله، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوما، معاتبة على وعده لهم دون استثناء، ثم نزلت هذه الآية، واختلف الناس في الرُّوحِ المسئول عنه أي روح هو؟ فقالت فرقة هي الجمهور: وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي؟ ف الرُّوحِ اسم جنس على هذا، وهذا هو الصواب، وهو المشكل الذي لا تفسير له، وقال قتادة: الرُّوحِ المسئول عنه جبريل، قال وكان ابن عباس يكتمه، وقالت فرقة عيسى ابن مريم، وقال علي بن أبي طالب: «ملك له سبعون ألف وجه في كل
481
وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة»، ذكره الطبري، وما أظن هذا القول يصح عن علي، وقالت فرقة الرُّوحِ القرآن، وهذه كلها أقوال مفسرة، والأول أظهرها وأصوبها، وقوله مِنْ أَمْرِ رَبِّي يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون «الأمر» اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها، فهي إضافة خلق إلى خالق، والثاني أن يكون مصدرا من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمرا بالكون فكان.
وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا»، ورواها ابن مسعود عن النبي ﷺ وقرأ الجمهور «وما أوتيتم»، واختلف فيمن خوطب بذلك، فقالت فرقة: السائلون فقط، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود، وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود، وقالت فرقة: العالم كله، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له قُلِ الرُّوحُ إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل، ويحتمل أيضا أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جدا، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر»، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور، أي إما لا ينقص علمنا شيئا من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص، إذ نقصه غير محسوس، فكأنه معدوم، فهذا احتمال، ولكن فيه نظر، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فعارضهم رسول الله ﷺ بعلم الله، فغلبوا، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فعارضهم رسول الله ﷺ بعلم الله، فغلبوا، وقد نص رسول الله ﷺ بقوله في بعض الأحاديث «كلّا» يعني أن المراد ب أُوتِيتُمْ جميع العالم، وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك؟ فقال «كلّا»، وفي هذا المعنى نزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: ٢٧]، حكى ذلك الطبري رحمه الله، وقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا الآية فيها شدة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عتاب على قوله غدا أعلمكم، فأمر بأن يقول إن الروح من أمر ربه فيذعن بالتسليم لله في أنه يعلم بما شاء، ويمسك عن عباده ما شاء، ثم قيل له وَما أُوتِيتُمْ أنت يا محمد وجميع الخلائق مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فالله يعلم من علمه بما شاء ويدع ما شاء، ولئن شاء لذهب بالوحي الذي أتاك، ثم لا ناصر لك منه، أي فليس بعظيم أن لا تجيء بتفسير في الروح الذي أردت أن تفسره للناس ووعدتهم بذلك، وروى ابن مسعود أنه ستخرج ريح حمراء من قبل الشام فتزيل القرآن من المصاحف ومن الصدور وتذهب به، ثم يتلو هذه الآية. أراد ابن مسعود بتلاوة الآية أن يبدي أن الأمر جائز الوقوع ليظهر مصداق خبره من كتاب الله تعالى. و «الوكيل» القائم بالأمر في الانتصار أو المخاصمة ونحو ذلك من وجود النفع، وقوله إِلَّا رَحْمَةً استثناء منقطع، أي لكن رحمة من ربك تمسك ذلك عليك، وهذا الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصا ما، وليس كالمتصل، لأن المتصل يخصص من الجنس أو الجملة، والمنقطع
482
يخصص أجنبيا من ذلك، ولا ينكر وقوع المنقطع في القرآن إلا أعجمي، وقد حكي ذلك عن ابن خويز منداد، ثم عدد عليه عز وجل كبر فضله في اختصاصه بالنبوة وحمايته من المشركين إلى غير ذلك مما لا يحصى. وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنسا وجنا على ذلك لم يقدروا عليه، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص
، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان، وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ في موضع رفع، ولا متلقية قسما، واللام في قوله لَئِنِ مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحيانا، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط، ويجيء الفعل المنفي مجزوما، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش: [البسيط]
حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله
لئن منيت بنا عن غر معركة لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل
و «الظهير» المعين، ومنه قوله عز وجل وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التحريم: ٤] الآية: وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن، ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة، وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا، ولكل حصل علم قطعي، لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر، فحصل للجميع القطع، لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله: يعد الناسبون إلى تميم.
الأبيات كلها، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق في قول الفرزدق: على م تلفتين، وفي قوله: تلفت أنها تحت ابن قين.
وألا ترى إلى قول الأعرابي: عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [التكاثر: ٢] فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت، ومنه قول الأعرابي للأصمعي: من أحوج الكريم إلى أن يقسم؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر، وأمثلة ذلك محفوظة، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة، وكونهم فيها النهاية، كما كان السحر في زمن موسى، والطب في زمن عيسى، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ المحاد منهم إلى السيف، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة، وكذلك التحدي بالعشر السور، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة، وقيد العشر بالافتراء لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات، ولم يذكر
483
الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل، بل قال إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: ٢٣] على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٢]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)
هذه الآية تنبه على فضل الله في القرآن على العالم، وتوبيخ للكفار منهم على قبيح فعلهم، وتصريف القول هو ترديد البيان عن المعنى، وقرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء، وقرأ الحسن «صرفنا» بفتح الراء خفيفة، وقوله مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يجوز أن تكون مِنْ لابتداء الغاية، ويكون المفعول ب صَرَّفْنا مقدرا تقديره «ولقد صرفنا في هذا القرآن التنبيه والعبر من كل مثل ضربناه»، ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة، التقدير «ولقد صرفنا كل مثل»، وهذا كقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: ١٢٥]. وقوله فَأَبى عبارة عن تكسب الكفار الكفر وإعراضهم عن الإيمان، وفي العبارة يأبى تغليظ، والكفر بالخلق والاختراع هو من فعل الله تعالى، وبالتكسب والدؤوب هو من الإنسان، وكُفُوراً مصدر كالخروج. وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «حتى تفجّر»، وقرأ عاصم وحمزة الكسائي حتى «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم، وفي القرآن فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠]، وانفجر مطاوع فجر فهذا مما يقوي القراءة الثانية، وأما الأولى فتقتضي المبالغة في التفجير. و «الينبوع» الماء النابع، وهي صفة مبالغة إنما تقع للماء الكثير، وطلبت قريش هذا من رسول الله ﷺ بمكة، وإياها عنوا ب الْأَرْضِ، وإنما يراد بإطلاق لفظة الْأَرْضِ هنا الأرض التي يكون فيها المعنى المتكلم فيه، كقوله أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: ٣٣] فإنما يريد من أرض تصرفهم وقطعهم السبل ومعاشهم، وكذلك أيضا اقتراحهم الجنة إنما هو بمكة لامتناع ذلك فيها، وإلا ففي سائر البلاد كان ذلك يمكنه وإنما طلبوه بأمر إلهي في ذلك الموضع الجدب، وقرأ الجمهور «جنة»، وقرأ «حبة» المهدوي، وقوله فَتُفَجِّرَ. تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، كغلقت الأبواب، وخِلالَها ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها، وروي في قول هذه المقالة لرسول الله ﷺ حديث طويل، مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيرا من المال إن أراد الغنى، أو يطبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم رسول الله ﷺ عند ذلك
إلى الله، وقال «إنما جئتكم عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم، فإن سمعتم وأطعتم فحسن، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء»، فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعمه حقا ففجر ينبوعا ونؤمن لك، ولتكن لك جنة إلى غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا كله إلى الله، ولا يلزمني هذا ولا غيره، وإنما أنا مستسلم لأمر الله»، هذا هو معنى الحديث. وفي الألفاظ اختلاف وروايات متشعبة يطول سوق جميعها، فاختصرت لذلك. وقوله تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الآية، قرأ الجمهور «أو تسقط» بضم التاء، «السماء» نصب، وقرأ مجاهد «أو تسقط السماء» برفع «السماء» وإسناد الفعل إليها، وقوله كَما زَعَمْتَ إشارة إلى ما تلي عليهم قبل ذلك في قوله عز وجل إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: ٩]، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «كسفا» بسكون السين إلا في الروم، فإنهم حركوها، ومعناه قطعا واحدا، قال مجاهد: السماء جميعا وتقول العرب: كسفت الثوب ونحوه قطعته، ف «الكسف» بفتح السين المصدر، والكسف الشيء المقطوع، قال الزجاج: المعنى أو تسقط السماء علينا قطعا، واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته.
قال القاضي أبو محمد: وليس بمعروف في دواوين اللغة كسف بمعنى غطى، وإنما هو بمعنى قطع، وكأن كسوف الشمس والقمر قطع منهما، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «كسفا» بفتح السين أي قطعا جمع كسفه، وقوله قَبِيلًا قيل معناه مقابلة وعيانا، وقيل معناه ضامنا وزعيما بتصديقك، ومنه القبالة وهي الضمان والقبيل، والمتقبل الضامن، وقيل معناه نوعا وجنسا لا نظير له عندنا، وقرأ الأعرج «قبلا» وقيل بمعنى المقابلة.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
قال المفسرون: «الزخرف» الذهب في هذا الموضع، والزخرف ما تزين به، كان بذهب أو غيره، ومنه حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها [يونس: ٢٤] وفي قراءة عبد الله بن مسعود «أو يكون لك بيت من ذهب»، قال مجاهد ما كنا نعرف الزخرف حتى قرأنا في حرف عبد الله «من ذهب»، وقوله فِي السَّماءِ يريد في الهواء علوا، والعرب تسمي الهواء علوا سماء لأنه في حيز السمو. ويحتمل أن يريدوا السماء المعروفة، وهو أظهر لأنه أعلمهم أن إله الخلق فيها وأنه تأتيه خبرها، وتَرْقى معناه تصعد، والرقي الصعود، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنا لا أؤمن لك حتى تأتي بكتاب أراك هابطا به فيه من الله عز وجل إلى عبد الله بن أبي أمية، وروي أن جماعتهم طلبت هذا النحو منه، فأمره الله عز وجل أن يقول سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها له من الإتيان مع
الملائكة قبيلا، ومن أن يخاطبكم بكتاب كما أردتم، ومن أن اقترح أنا عليه هذه الأشياء، وهل أنا إلا بشر منكم، أرسلت إليكم بالشريعة، فإنما علي التبليغ فقط، وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» على معنى الخبر عن رسول الله ﷺ أنه سبح عند قولهم، وقوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه السلام والبشر، كأنه يقول متعجبا منهم ما شاء الله كان، ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يستند إلى حجة، وبعثة البشر رسلا غير بدع ولا غريب، فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يسكنونها مُطْمَئِنِّينَ، أي وادعين فيها مقيمين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طباعهم من رؤيته، ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما أراد الله جري أحوالهم على معتادها.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
روى البخاري أن الملأ من قريش الذين قالوا لرسول الله ﷺ المقالات التي تقدم ذكرها من عرض الملك عليه والغنى وغير ذلك، قالوا له في آخر قولهم: فلتجىء معك طائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوتك، قال المهدوي: روي أنهم قالوا له: فمن يشهد لك؟.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى أقوالهم إنما هو طلب شهادة دون أن يذكروها، ففي ذلك نزلت الآية، أي الله يشهد بيني وبينكم الذي له الخبر والبصر لجميعنا صادقنا وكاذبنا، ثم رد الأمر إلى خلق الله تعالى واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر، أي ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ، وفي قوله فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وعيد، ثم أخبر عز وجل أنهم يحشرون على الوجوه عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، وهذا قد اختلف فيه، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة، وقيل هي حقيقة كلها، وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك، ويقال للمنصرف عن أمر خائفا مهموما: انصرف على وجهه، ويقال للبعير المتفه كأنما يمشي على وجهه، ومن قال ذلك في الآية حقيقة، قال: أقدرهم الله على النقلة على الوجوه، كما أقدر في الدنيا على النقلة على الأقدام، وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا أن يمشيه في
الآخرة على وجهه» ؟ قال قتادة: بلى وعزة ربنا، وقوله كُلَّما خَبَتْ أي كلما فرغت من إحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون، ثم تثور، فتلك «زيادة السعير» قاله ابن عباس، فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور، وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله، وخمدت معناه سكن الجمر وضعف، وهمدت معناه طفيت جملة، ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الهزج]
أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو إذا ما خبت يلقى عليها المندل الرطب
ومنه قول عدي بن زيد: [الخفيف]
وسطة كاليراع أو سرج المج دل طورا تخبو وطورا تثير
ومنه قول القطامي:
فتخبو ساعة وتهب ساعا وقوله ذلِكَ جَزاؤُهُمْ الآية، الإشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم، وقوله بِآياتِنا يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد عليه السلام، ويعم آيات القرآن وما تضمن من خبر وأمر ونهي، ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن، ووجه تخصيصه التعظيم له والتنبيه على خطارة الكفر في إنكاره، وقد تقدم اختلاف القراء في الاستفهامين في غير هذا الموضع، و «الرفات» بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب، و «البعث» تحريك الشيء الساكن، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للحال بزعمهم.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)
هذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من البعث، وذلك أنهم قرروا على خلق الله تعالى واختراعه لهذه الجملة التي البشر جزء منها، فهم لا ينكرون ذلك، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلقه للكل وإخراجه من خمول العدم وينكرون إعادته للبعض؟ فحصل الأمر في حيز الجواز، وأخبر الصادق الذي قامت دلائل معجزاته بوقوع ذلك الجائز، و «الرؤية» في هذه الآية رؤية القلب، و «الأجل» هنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت، و «الأجل» على هذا التأويل اسم جنس لأنه وضعه موضع الآجال، ومقصد هذا الكلام بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه، وبتقرير ذلك يقوى جواز بعثه لهم حين يشاء لا إله إلا هو، وقوله فَأَبَى عبارة عن تكسبهم وجنوحهم، وقد مضى تفسير هذه الآيات آنفا، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
487
تَمْلِكُونَ
الآية حكم لو أن يليها الفعل إما مظهرا وإما مضمرا يفسره الظاهر بعد ذلك، فالتقدير هنا، قل لو تملكون خزائن، ف أَنْتُمْ رفع على تبع الضمير، و «الرحمة» في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق، ومن هذا سميت رَحْمَةِ، والْإِنْفاقِ المعروف ذهاب المال وهو مؤد إلى الفقر، فكأن المعنى خشية عاقبة الإنفاق، وقال بعض اللغويين أنفق الرجل معناه افتقر كما تقول أترب وأقتر، وقوله «وكان الإنسان قتورا» أي ممسكا، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تعالى تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو مخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الرحمة الأرزاق، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته، وبهذا النظر تتلبس هذه الآية بما قبلها، والله ولي التوفيق برحمته، ومن الإقتار قول أبي داود: [الخفيف]
لا أعد الإقتار عدما ولكن فقد من قد رزئته الإعدام
وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفوا في الأربع، فقال ابن عباس: هي يده ولسانه حين انحلت عقدته، وعصاه والبحر، وقال محمد بن كعب القرطبي: هي البحر والعصا والطمسة والحجر، وقال سألني عن ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبرته، فقال لي: وما الطمسة؟ فقلت دعا موسى وآمن هارون فطمس الله أموالهم وردها حجارة، فقال عمر: وهل يكون الفقه إلا هكذا؟ ثم دعا بخريطة فيها غرائب كانت لعبد العزيز بن مروان، جمعها بمصر، فاستخرج منها الحوزة والبيضة والعدسة وهي كلها حجر كانت من بقايا أموال آل فرعون، وقال الضحاك: هي إلقاء العصا مرتين، واليد، وعقدة لسانه، وقال عكرمة ومطر الوراق، والشعبي: هي العصا واليد والسنون ونقص الثمرات، وقال الحسن: هي العصا في كونها ثعبانا وتلقف العصا ما يأفكون، وقال ابن عباس: هي السنون في بواديهم، ونقص الثمرات في قراهم، واليد، والعصا، وروى مطرف عن مالك أنها العصا، واليد، والجبل إذ نتق، والبحر، وروى ابن وهب عنه مكان البحر الحجر، والذي يلزم من الآية أن الله تعالى خص من آيات موسى إذ هي كثيرة جدا تنيف على أربع وعشرين، تسعا بالذكر ووصفها بالبيان ولم يعينها، واختلف العلماء في تعيينها بحسب اجتهادهم في بيانها أو روايتهم التوقيف في ذلك، وقالت فرقة آيات موسى إنما أريد بها آيات التوراة التي هي أوامر ونواه، روى في هذا صفوان بن عسال، أن يهود المدينة قال لآخر: سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لا تقل إنه نبي، فإنه لو سمعك صار له أربع أعين، قال: فسارا إلى رسول الله ﷺ فسألاه، فقال «هن أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت»، وقرأ الجمهور «فاسأل بني إسرائيل» وروي عن الكسائي «فسل» على لغة من قال سأل يسأل، وهذا كله على معنى الأمر لمحمد صلى
الله عليه وسلم، أي اسأل معاصريك عما أعلمناك به من غيب القصة، ثم قال إِذْ جاءَهُمْ يريد آباءهم، وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم، ويحتمل أن يريد فَسْئَلْ
488
بَنِي إِسْرائِيلَ
الأولين الذين جاءهم موسى وتكون إحالته إياه على سؤالهم بطلب إخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم نحو قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: ٤٥] وهذا كما تقول لمن تعظه: سل الأمم الخالية هل بقي منها مخلد؟ ونحو هذا مما يجعل النظر فيه مكان السؤال، قال الحسن: سؤالك نظرك في القرآن وقرأ ابن عباس «فسأل بني إسرائيل» أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب، وقوله مَسْحُوراً اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة هو مفعول على بابه، أي إنك قد سحرت، فكلامك مختل، وما تأتي به غير مستقيم، وقال الطبري: هو مفعول بمعنى فاعل كما قال حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: ٤٥] وكما قالوا مشؤوم وميمون وإنما هو شايم ويأمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يتخرج إلا على النسب أي ذا سحر ملكته وعلمته، فأنت تأتي بهذه الغرائب لذلك، وهذه مخاطبة تنقص، فيستقيم أن يكون مَسْحُوراً مفعولا على ظاهره، وعلى أن يكون بمعنى ساحر يعارضنا ما حكي عنهم أنهم قالوا له على جهة المدح يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزخرف: ٤٩] فإما أن يكون القائلون هنالك ليس فيهم فرعون وإما أن يكون فيهم لكنه تنقل من تنقصه إلى تعظيمه، وفي هذا نظر.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنه قرأ «علمت» بتاء المتكلم مضمومة، وقال ما علم عدو الله قط، وإنما علم موسى، وتتقوى هذه القراءة لمن تأول مَسْحُوراً [الإسراء: ١٠١] على بابه، فلما رماه فرعون بأنه قد سحر ففسد نظره وعقله وكلامه، رد هو عليه بأنه يعلم آيات الله، وأنه ليس بمسحور، بل محرر لما يأتي به، وهي قراءة الكسائي، وقرأ الجمهور «لقد علمت» بتاء المخاطب مفتوحة، فكأن موسى عليه السلام رماه بأنه يكفر عنادا، ومن قال بوقوع الكفر عنادا فله تعلق بهذه الآية، وجعلها كقوله عز وجل: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤]، وقد حكى الطبري ذلك عن ابن عباس، ونحا إلى ذلك الزجاج، وهي معرضة للاحتمال على أن يكون قول موسى عليه السلام إبلاغا على فرعون في التوبيخ، أي أنت بحال من يعلم هذا، وهي من الوضوح بحيث تعلمها، ولم يكن ذلك على جهة الخبر عن علم فرعون، ومن يريد من الآية وقوع الكفر عنادا فإنما يجعل هذا خبرا من موسى عن علم فرعون، والإشارة ب هؤُلاءِ إلى التسع الآيات، وقوله بَصائِرَ جمع بصيرة، وهي الطريقة أي طرائق يهتدى بها، وكذلك غلب على البصيرة أنها تستعمل في طريقة النفس في نظرها واعتقادها، ونصب بَصائِرَ على الحال، و «المثبور» المهلك، قاله مجاهد، وقال ابن عباس والضحاك هو المغلوب، وقال ابن زيد هو المخبول، وروي عن ابن عباس أنه فسره بالملعون، وقال بعض العلماء: كان موسى عليه
السلام في أول أمره يجزع، ويؤمر بالقول اللين، ويطلب الوزير، فلما تقوت نفسه بقوى النبوءة، تجلد وقابل فرعون بأكثر مما أمره به بحسب اجتهاده الجائر له، قال ابن زيد: اجترأ موسى أن يقول له فوق ما أمره الله به، وقالت فرقة بل «المثبور» المغلوب المختدع، وما كان موسى عليه السلام ليكون لعانا، ومن اللفظة قول عبد الله بن الزبعرى: [الخفيف]
إذا جاري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبورا
وقوله عز وجل فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ الآية، يَسْتَفِزَّهُمْ معناه يستخفهم ويقلعهم، إما بقتل أو بإجلاء، والْأَرْضِ أرض مصر، وقد تقدم أنه متى ذكرت الأرض عموما فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.
قال القاضي أبو محمد: واقتضبت هذه الآية قصص موسى مع فرعون وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره، وذلك طرفاه، أراد فرعون غلبتهم وقتلهم وهذا كان بدء الأمر «فأغرقه» الله وأغرق جنوده وهذا كان نهاية الأمر، ثم ذكر تعالى أمر «بني إسرائيل» بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام، ووَعْدُ الْآخِرَةِ هو يوم القيامة، و «اللفيف» الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض، فليس ثم قبائل ولا انحياز، قال بعض اللغويين: هو من أسماء الجموع ولا واحد له من لفظه، وقال الطبري هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفا ولَفِيفاً وفي هذا نظر فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨)
الضمير في قوله أَنْزَلْناهُ عائد على القرآن المذكور، وفي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الإسراء: ٨٩] ويجوز أن يكون الكلام آنفا. وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢].
وهذا كثير، قال الزهراوي: معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس بِالْحَقِّ في نفسه، وقوله وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، يريد بِالْحَقِّ في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل، وقوله وَقُرْآناً مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي «وفرقنا قرآنا»، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في أَرْسَلْناكَ من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا لمعنى واحد، وقرأ جمهور من الناس «فرقناه» بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف، وحميد وعمرو بن فائد «فرّقناه» بتشديد الراء، إلا أن
في قراءة ابن مسعود وأبيّ «فرقناه عليه لتقرأه» أي أنزلناه شيئا بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل عَلى مُكْثٍ
أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي عَلى مُكْثٍ وتطاول في المدة شيئا بعد شيء، وقوله وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية، وأجمع القراء على ضم الميم من مُكْثٍ، ويقال مكث ومكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله قُلْ آمِنُوا بِهِ الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي ﷺ وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن حسب الضمير في بِهِ، ويبين ذلك قوله إِذا يُتْلى، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله إِذا يُتْلى، وقوله لِلْأَذْقانِ أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحى، و «الأذقان» أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم سباع من الطير العوادي وتنتف
وإِنْ في قوله إِنْ كانَ هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلّا، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا مخلصا للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
491
هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة، وحكى الطبري عن التميمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية كلها، وقوله قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله ﷺ يدعو «يا الله يا الرحمن»، فقالوا كان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس، وقال مكحول: تهجد رسول الله ﷺ ليلة، فقال في دعائه «يا رحمن يا رحيم»، فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك، وقرأ طلحة بن مصرف «أيّا ما تدعوا فله الأسماء»، أي وله سائر الأسماء الحسنى، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث، وقد روي أن لله تسعة وتسعين اسما الحديث، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى، ثم أمر رسول الله ﷺ أن «لا يجهر» بصلاته وأن «لا يخافت بها»، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به، هذه هي حقيقته، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة: هي الدعاء، وقال ابن عباس أيضا: هي قراءة القرآن في الصلاة، فهذا على حذف مضاف، التقدير وَلا تَجْهَرْ بقراءة صلاتك، قال: والسبب أن رسول الله ﷺ جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فأمر رسول الله ﷺ بالوسط، ليسمع أصحابه المصلون معه، ويذهب عنه أذى المشركين، قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم، فنزلت الآية في ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية، قيل لأبي بكر: ارفع أنت قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا، وقالت عائشة أيضا: «الصلاة» يراد بها في هذه الآية التشهد، وقال ابن عباس والحسن: المراد والمعنى: ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حالة، وقال ابن زيد: معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه، ويخفض أحيانا فيسكت من خلفه، وقال ابن عباس في الآية: إن معناها وَلا تَجْهَرْ بصلاة النهار وَلا تُخافِتْ بصلاة الليل، واتبع سبيلا من امتثال الأمر كما رسم لك، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلا يرد هذا، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك، وقوله تعالى:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزير وعيسى
492
والملائكة ذرية لله سبحانه وتعالى عن أقوالهم، ورادة على العرب في قولهم لولا أولياء الله لذل وقيد لفظ الآية نفي الولاية لله عز وجل بطريق الذل وعلى جهة الانتصار، إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالحي عباده، قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد، وقوله وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، ثم أكدها بالمصدر تحقيقا لها وإبلاغا في معناها، وروى مطرف عن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة.
نجز تفسير سورة سبحان والحمد لله رب العالمين
493
Icon