تفسير سورة الطور

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الطور من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٥٢ ) سورة الطور مكية
وآياتها تسع وأربعون
هي مكية بإجماع من المفسرين والرواة. ١
١ روى الأئمة عن جُبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الطّور
وهي مكية بإجماع من المفسرين والرواة.
قوله تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيها منها وتشريفا، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها، وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله.
وَالطُّورِ قال بعض أهل اللغة: كل جبل: طور، فكأنه أقسم بالجبال، إذ هو اسم جنس وقال آخرون: «الطور» كل جبل أجرد لا ينبت شجرا. وقال مجاهد في كتاب الطبري: «الطور» الجبل بالسريانية، وهذا ضعيف، لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا، ولا خلاف أن في الشام جبلا يسمى ب «الطور»، وهو طور سيناء. وقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال. إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال إني مهبط على أحدكم أمري. يريد رسالة موسى عليه السلام، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال حسبي الله، فأهبط الله الأمر عليه. ويقال إنه بمدين. وقال مقاتل بن حيان هما طوران. والكتاب المسطور: معناه بإجماع: المكتوب أسطارا.
واختلف الناس في هذا المكتوب المقسم به، فقال بعض المفسرين: هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه ما تفعله وتصرفه في العالم.
وقال آخرون: بل أقسم الله تعالى بالقرآن، فإنه قد كان علم أنه يتخلد فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ.
وقال آخرون: أقسم بالكتب القديمة المنزلة: الإنجيل والتوراة والزبور. وقال الفراء فيما حكى الرماني: أقسم بالصحف التي تعطى وتؤخذ يوم القيامة بالأيمان والشمائل. وقال قوم: أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا بغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
185
وكتب بعض الناس، «مصطورا» بالصاد. والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف، والجمهور على السين. والرق: الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان. والمنشور: خلاف المطوي، وقد يحتمل أن يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته. وقرأ أبو السمال: «في رق» بكسر الراء.
واختلف الناس في الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فقال الحسن بن أبي الحسن البصري: هي الكعبة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة: هو بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة، ويقال الضريح، ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء. قال جبريل عليه السلام:
هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم وبهذا عمارته. ويروى أنه في السماء السابعة. وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك. وهي كلها على خط مع الكعبة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: السماء وَالسَّقْفِ طول في انحناء، ومنه أسقف النصارى، ومنه السقف، لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء.
واختلف الناس في معنى: الْمَسْجُورِ فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه: الموقد نارا. وروي أن البحر هو جهنم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي: أين جهنم؟ فقال هي البحر، فقال علي:
ما أظنه إلا صادقا، وقرأ: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، ومنه ما روي عن النبي ﷺ «أن البحر طبق جهنم». قال الثعلبي: وروي أن النبي ﷺ قال: «لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر نارا».
وفي حديث آخر: «فإن البحر نار في نار». وقال قتادة: الْمَسْجُورِ المملوء. وهذا معروف في اللغة. ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم: سجرت التنور معناه: ملأتها بما يحترق ويتقد و: الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء ماء، وهكذا هو معرض للعبرة، ومن هذا قول النمر بن تولب: [المتقارب]
إذا شاء طالع مسجورة... ترى حولها النبع والسماسما
سقتها رواعد من صي... ف وإن من خريف فلن يعدما
يصف ثورا أو عينا مملوءة ماء، وقال ابن عباس: هو الذي ذهب ماؤه ف الْمَسْجُورِ: الفارغ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل يوقد البحر نارا يوم القيامة فذلك هو سجره. وقال ابن عباس أيضا: الْمَسْجُورِ: المحبوس، ومنه ساجور الكلب: وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض. وقال علي بن أبي طالب أيضا وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش، والجمهور على أنه بحر الدنيا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير: ٦].
186
وقال منذر بن سعيد: إن المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحرا لسعتها وتموجها كما قال ﷺ في الفرس: «وإن وجدناه لبحر» والقسم واقع على قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ويريد عذاب الآخرة للكفار. قال قتادة: والعامل في: يَوْمَ «واقع» ويجوز أن يكون العامل فيه دافِعٍ، والأول أبين. وقال مكي: لا يعمل فيه دافِعٍ. و: تَمُورُ معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة، والغبار الموار: الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح، ثم هو كله إلى الذهاب، ومنه قول الأعرابي:
وغادرت التراب مورا يصف سنة قحط. وأنشد معمر بن المثنى بيت الأعشى: [البسيط] مور السحابة لا ريث ولا عجل أراد مضيها، وقال الضحاك: تَمُورُ تموج. وقال مجاهد: تدور. وقال ابن عباس: تشقق، وهذه كلها تفاسير بالمعنى، لأن السماء العلو يعتريها هذا كله، وسير الجبال هو في أول الأمر، ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش والفاء في قوله: فَوَيْلٌ عاطفة جملة على جملة وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين. والويل: السوء والمشقة والهم الأطول، ويروى أن في جهنم واديا يسمى: ويلا والخوض التخبط في الأباطيل، يشبه بخوض الماء، ومنه قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا [الأنعام: ٦٨] و: يَوْمَ الثاني بدل من: يَوْمَئِذٍ و: يُدَعُّونَ قال ابن عباس معناه: يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة، ومنه قوله تعالى: يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: ٢] وفي الكلام محذوف مختصر تقديره: يقال لهم هذه النار، وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع وقرأ أبو رجاء العطاردي: «يوم يدعون إلى نار جهنم» من الدعاء بسكون الدال وفتح العين.
قوله عز وجل:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
لما قيل لهم هذه النار، وقفوا بعد ذلك على الجهتين التي يمكن منها دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثم سحر يلبس ذات المرء، وإما أن يكون في بصر الناظر اختلال، وأمرهم بصليها على جهة التقريع، ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: اصبروا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي عذابكم حتم، فسواء جزعكم وصبركم لا بد من جزاء أعمالكم. وقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ الآية يحتمل أن يكون خطاب أهل النار، فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم، ويحتمل وهو الأظهر أن يكون إخبارا لمحمد ﷺ ومعاصريه لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقب ذلك بنعيم
المتقين ليبين الفرق ويقع التحريض على الإيمان. والمتقون هنا: متقو الشرك. لأنهم لا بد من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية، حتى أن المتقين على الإطلاق هم في حكم الآية قطعا على الله بحكم خبره الصادق.
وقرأ الجمهور: «فاكهين» ومعناه: فرحين مسرورين. وقال أبو عبيدة: هو من باب لابن وتامر أي لهم فاكهة.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى الأول أبرع.
وقرأ خالد فيما حكى أبو حاتم «فاكهين» والفكه والفاكه: المسرور المتنعم.
وقوله: بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ: أي من إنعامه ورضاه عنهم وقوله: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ هذا متمكن ومتقي المعاصي الذي لا يدخل النار ويكون متقي الشرك الذي ينفذ عليه الوعيد بمعنى:
ووقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم. ويحتمل أن يكون الْجَحِيمِ من طبقات جهنم ليست بمأوى للعصاة المؤمنين، بل هي مختصة بالكفرة فهم وإن عذبوا في نار فليسوا في عذاب الجحيم.
وقرأ جمهور الناس: «ووقاهم» بتخفيف القاف. وقرأ أبو حيوة: «ووقّاهم» بتشديدها على المبالغة، وذلك كله مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وما يضره والمعنى: يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ معناه: أن رتب الجنة ونعيمها هو بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده، والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء، وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجابا، لكنه قد جعلها أمارة على من سبق تنعيمه، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال. وقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ نصب على الحال على حد قوله: فاكِهِينَ والعامل في هاتين الحالتين الفعل المقدر في قوله: فِي جَنَّاتٍ ويجوز غير هذا، وفي ذلك نظر، وقرأ أبو السمال: «على سرر» بفتح الراء الأولى. و: زَوَّجْناهُمْ معناه: جعلنا لكل فرد منهم زوجا، والحور: جمع حوراء، وهي البيضاء القوية بياض بياض العين وسواد سوادها، و «العين» جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالهما.
وفي قراءة ابن مسعود وإبراهيم النخعي: «وزوجناهم بعيس عين»، قال أبو الفتح: العيساء البيضاء. وقرأ عكرمة: «وزوجناهم حورا عينا». وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ «بعيس عين» على إضافة «عيس» إلى «عين».
قوله عز وجل:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
188
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة: «واتبعتهم ذريتهم» «بهم ذريتهم». وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى، «وأتبعناهم ذريتهم» «بهم ذرياتهم». وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة. وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك: «واتبعتهم ذريتهم» «بهم ذريتهم». وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك: «وأتبعناهم ذريتهم» «بهم ذريتهم». فكون الذرية جمعا في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات، وكون المعنى يقتضي انتشار أو كثرة حسن جمع الذرية في قراءة «ذرياتهم».
واختلف الناس في معنى الآية، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور: أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان. فيكونون مؤمنين كآبائهم. وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء.
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي ﷺ فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي «أن الله تعالى يرحم الآباء رعيا للأبناء الصالحين». وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١] وفي هذا نظر. وقال ابن عباس أيضا والضحاك معنى هذه الآية: أن الله تعالى يحلق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين. يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة. وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال: الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء. وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار. وحكى الطبري قولا معناه أن الضمير في قوله: بِهِمْ عائد على ذرية، والضمير الذي بعده في: ذُرِّيَّتُهُمْ عائد على الَّذِينَ أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار. وهذا قول مستكره.
وقوله: بِإِيمانٍ هو في موضع الحال. فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار. فالحال من الضمير في قوله: اتَّبَعَتْهُمْ فهو من المفعولين، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول. لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء. ولفظة أَلْحَقْنا تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
وقرأ جمهور القراء: «ألتناهم» بفتح الألف من ألت. وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل: «ألتناهم» من ألت بكسر اللام. وقرأ الأعرج: «ألتناهم» على وزن أفعلناهم. وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: «لتناهم» من لات، وهي قراءة ابن مصرف. ورواها القواس عن ابن كثير، وتحتمل قراءة من قرأ: «ألتناهم» بالفتح أن تكون من ألات، فإنه قال: ألات يليت إلاتة. ولات يليت ليتا. وآلت يولت إيلاتا، وألت يألت. وولت يلت ولتا. وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية: أن الله يلحق المقصر بالمحسن، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور، ويحتمل قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
189
شَيْءٍ بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح، ويكون الضمير في عَمَلِهِمْ عائد على الأبناء، وهذا تأويل ابن زيد، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ، والرهين المرتهن، وفي هذه الألفاظ وعيد.
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ: «وما لتناهم» بغير ألف وفتح اللام. قال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه. وأمددت الشيء: إذا سربت إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه. وقوله:
مِمَّا يَشْتَهُونَ إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحما نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يخزن ولا يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ. وبالجملة: لا كلفة في الجنة، و: يَتَنازَعُونَ معناه: يتعاطون، ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
والكأس: الإناء وفيه الشراب. ولا يقال في فارغ كأس، قاله الزجاج.
وقرأ جمهور من السبعة وغيرهم «لا لغو» بالرفع «ولا تأثيم» كذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن: «لا لغو ولا تأثيم» بالنصب على التبرية وعلى الوجهين. فقوله فِيها هو في موضع الخبر، وأغنى خبر الأولين عن ذكر خبر الثاني. واللغو: السقط من القول. والتأثيم: يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شرابها، وذلك كله مرتفع في الآخرة. و: «اللؤلؤ المكنون» أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه. وقال ابن جبير: أراد أنه الذي في الصدف لم تنله الأيدي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون، فكيف المخدومون؟ قال: «هم كالقمر ليلة البدر». ثم وصف عنهم أنهم في جملة تنعمهم يتساءلون عن أحوالهم وما قال كل أحد منهم، وأنهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم فيها عذاب الآخرة. وحكى الطبري عن ابن عباس قال: تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية. والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب.
وقرأ أبو حيوة: «ووقانا» بشد القاف. وقراءة الجمهور بتخفيفها. وأمال عيسى الثقفي: «ووقانا» بتخفيف القاف.
و: السَّمُومِ الحار. قال الرماني: هو الذي يبلغ مسام الإنسان، وهو النار في هذه الآية. وقد يقال في حر الشمس وفي الريح سموم. وقال الحسن: السَّمُومِ اسم من أسماء جهنم و: نَدْعُوهُ يحتمل أن يريد نعبده، ويحسن هذا على قراءة من قرأ: «أنه» بفتح الألف. وهي قراءة نافع. بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل أنه. وقرأ باقي السبعة والأعرج وجماعة «أنه» على القطع والاستئناف، ويحسن مع هذه القراءة أن يكون نَدْعُوهُ بمعنى نعبده. أو بمعنى الدعاء نفسه، ومن رأى:
نَدْعُوهُ بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل أن يجعل قوله: «أنه» بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا.
و: الْبَرُّ هو الذي يبر ويحسن، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
190
قوله عز وجل:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦)
هذا أمر لرسول الله ﷺ بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة، ثم قال مؤنسا له:
فَما أَنْتَ بإنعام الله عليك أو لطفه بك بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين، فنسبت محمدا ﷺ إلى ذلك فنفى الله تعالى عنه ذلك.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ الآية، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد ﷺ حتى قال قائل منهم: تربصوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم، فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك، والتربص: الانتظار ومنه قول الشاعر: [الطويل]
جاءت من البيض زعر لا لباس لها إلا الدهاس وأم برة وأب
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وأنشد الطبري: [الطويل] لعلها سيهلك عنها زوجها أو ستجنح وقوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا وعيد في صيغة أمر، و: الْمَنُونِ من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس، ومن أسماء الدهر أيضا، وبه فسر مجاهد وقال الأصمعي: الْمَنُونِ واحد لا جمع له وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له.
قال القاضي أبو محمد: والريب هنا: الحوادث والمصائب، لأنها تريب من نزلت به ومنه قول النبي ﷺ في أمر ابنته فاطمة حين ذكر أن عليا يتزوج بنت أبي جهل: «إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها». يقال أراب وراب، ومنه: [الطويل] فقد رابني منها الغداة سفورها وقول الآخر: [المتقارب] وقد رابني قولها يا هناه وأمر الله تعالى نبيه ﷺ بتوعدهم بقوله: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ وقوله تعالى: بِهذا يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من
الكفر وعبادة الأصنام. والأحلام: العقول. و: أَمْ المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام، وقدرها مجاهد ب «بل». والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر ببل، والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم: إنها لا بل أم شاء، ومنها ما هي معادلة، وذلك قوله: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ.
وقرأ مجاهد: «بل هم قوم طاغون» وهو معنى قراءة الناس، إلا أن العبارة ب أَمْ خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ. وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: ما في سورة «الطور» من أَمْ كله استفهام وليست بعطف. و: تَقَوَّلَهُ معناه: قال عن الغير إنه قاله. فهي عبارة عن كذب مخصوص. ثم عجزهم تعالى بقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز.
واختلف الناس هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فقال شداد: يسمون أهل الصرفة كانت قادرة وصرفت، وقال الجمهور: لم تكن قط قادرة ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله. لأن البشر لا يفارقه النسيان والسهو والجهل والله تعالى محيط علمه بكل شيء.
فإذا ترتبت اللفظة في القرآن، علم بالإحاطة التي يصلح أن تليها ويحسن معها المعنى. وذلك متعذر في البشر، والهاء في مِثْلِهِ عائدة على القرآن.
وقرأ الجحدري «بحديث مثله» بإضافة الحديث إلى مثل. فالهاء على هذا عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال الطبري معناه: أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه. وقال آخرون معناه: خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب. فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون. وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة، أي لغير علة.
ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم: أهم الذين خلقوا الأشياء؟ فهم لذلك يتكبرون، ثم خصص من الأشياء السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم لا يُوقِنُونَ ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين.
قوله عز وجل:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٧ الى ٤٤]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤)
قوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة غير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها. قال الزهراوي وقيل يريد ب «الخزائن» : العلم، وهذا قول حسن إذا تأمل وبسط. وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته،
و: «المصيطر» المسلط القاهر، وبذلك فسر ابن عباس وأصله السين، ولكن كتبه بعض الناس. وقرأه بالصاد مراعاة للطاء ليتناسب النطق. وحكى أبو عبيدة: تسيطرت علي إذا اتخذتني خولا. والسلم: السبب الذي يصعد به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال. ومنه قول ابن مقبل: [البسيط]
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا تبنى له في السماوات السلاليم
وحكى الرماني قال: لا يقال سلم لما يبنى من الأدراج، وإنما السلم المشبك، وبيت الشعر يرد عليه، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي عليه ومنه، وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك وقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ الآية، معناه: أم هم أهل الفضيلة علينا فيلزم لذلك انتخاؤهم وتكبرهم، ثم قال تعالى:
أَمْ تَسْأَلُهُمْ يا محمد على الإيمان بالله وشرعه أجرة يثقلهم غرمها فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوجب غرامتهم ثم قال تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ علم الْغَيْبُ فهم يبينون ذلك للناس سننا وشرعا يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم. وقيل المعنى: فهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به، و: يَكْتُبُونَ بمعنى يحكمون، وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به. ثم قال تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنهم هُمُ الْمَكِيدُونَ، أي المغلوبون، فسمى غلبتهم كَيْداً إذ كانت عقوبة الكيد. ثم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعصمهم ويمنعهم منهم ويدفع في صدر إهلاكهم. ثم نزه تعالى نفسه عَمَّا يُشْرِكُونَ به من الأصنام والأوثان، وهذه الأشياء التي وقفهم تعالى عليها حصرت جميع المعاني التي توجب الانتخاء والتكبر والبعد من الائتمار، فوقفهم تعالى عليها أي ليست لهم ولا بقي شيء يوجب ذلك إلا أنهم قوم طاغون. وهذه صفة فيها تكسبهم وإيثارهم فيتعلق بذلك عقابهم. ثم وصفهم تعالى بأنهم على الغاية من العتو والتمسك بالأقوال الباطلة في قوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً الآية، وذلك أن قريشا كان في جملة ما اقترحت به أن تنزل من السماء عليها كسف وهي القطع، واحدها كسفة، وتجمع أيضا على كسف كثمرة وتمر، قال الرماني: هي التي تكون بقدر ما يكسف ضوء الشمس. فأخبر الله عنهم في هذه الآية أنهم لو رأوا كسفا ساقِطاً حسب اقتراحهم لبلغ بهم العتو والجهل والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم وغيرهم ويقولوا هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ. أي كثيف قد تراكم بعضه فوق بعض، ولهذه الآية نظائر في آيات أخر.
قوله عز وجل:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
قوله: فَذَرْهُمْ وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف.
وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو بخلاف عنه «يلقوا»، والجمهور على «يلاقوا».
193
واختلف الناس في اليوم الذي توعدوا به، فقال بعض المتأولين: هو موتهم واحدا واحدا وهذا على تجوز، والصعق: التعذب في الجملة وإن كان الاستعمال قد كثر فيه فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه. ويحتمل أن يكون اليوم الذي توعدوا به يوم بدر، لأنهم عذبوا فيه، وقال الجمهور: التوعد بيوم القيامة، لأن فيه صعقة تعم جميع الخلائق، لكن لا محالة أن بين صعقة المؤمن وصعقة الكافر فرقا.
وقرأ جمهور القراء: «يصعقون» من صعق الرجل بكسر العين. وقرأ أبو عبد الرحمن: «يصعقون» بفتح الياء وكسر العين. وقرأ عاصم وابن عامر وأهل مكة في قول شبل: «يصعقون» بضم الياء، وذلك من أصعق الرجل غيره. وحكى الأخفش: صعق الرجل بضم الصاد وكسر العين.
قال أبو علي: فجائز أن يكون منه فهو مثل يضربون، قال أبو حاتم: وفتح أهل مكة الياء في قول إسماعيل. و: يُغْنِي يكون منه غناء ودفاع.
ثم أخبر تعالى بأنهم لهم دون هذا اليوم، أي قبله عذاب، واختلف الناس في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره: هو بدر والفتح ونحوه. وقال مجاهد: هو الجوع الذي أصاب قريشا. وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضا: هو عذاب القبر، ونزع ابن عباس وجود عذاب القبر بهذه الآية. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا في الأجسام وفي الأحبة وفي الأموال، هي للمؤمنين رحمة وللكافرين عذاب، وفي قراءة ابن مسعود:
دون ذلك قريبا وَلكِنَّ لا يَعْلَمُونَ. ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكم الله والمضي على نذارته ووعده بقوله: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، ومعناه بإدراكنا وأعين حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه الملك بعين، وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا. وقرأ أبو السمال: «بأعينا» بنون واحدة مشددة.
واختلف الناس في قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فقال أبو الأحوص عوف بن مالك: هو التسبيح المعروف، أن يقول في كل قيام له سبحان الله وبحمده. وقال عطاء: المعنى: حين تقوم من كل مجلس.
وقال ابن زيد: التسبيح هنا هو صلاة النوافل. وقال الضحاك وابن زيد: هذه إشارات إلى الصلاة المفروضة ف حِينَ تَقُومُ: الظهر والعصر، أي حِينَ تَقُومُ من نوم القائلة. وَمِنَ اللَّيْلِ المغرب والعشاء. وَإِدْبارَ النُّجُومِ الصبح. ومن قال هي النوافل جعل إدبارهم النُّجُومِ: ركعتي الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة، منهم عمر وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن رضي الله عنهم. وقد روي مرفوعا ومن جعله التسبيح المعروف، جعل قوله: حِينَ تَقُومُ مثالا، أي حين تقوم وحين تقعد وفي كل تصرفك. وحكى منذر عن الضحاك أن المعنى: حِينَ تَقُومُ في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام فقل.
«سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، الحديث».
وقرأ سالم بن أبي الجعد ويعقوب: «وأدبار» بفتح الهمزة بمعنى: وأعقاب، ومنه قول الشاعر [قيس بن الملوح] :[الطويل]
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وقرأ جمهور الناس: «وإدبار» بكسر الهمزة.
194
Icon