تفسير سورة سورة هود من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـتفسير ابن عطية
.
لمؤلفه
ابن عطية
.
المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود عليه السلام١
هذه سورة مكية إلا قوله تعالى ' فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ' وقوله ' أولئك يؤمنون به ' ونزلت في ابن سلام وأصحابه وقوله «إن الحسنات يذهبن السيئات »٢ نزلت في شأن الثمار. وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل٣ على أن الأولى تشبه المكي. وإذا أردت بهود اسم السورة لم ينصرف، كما تفعل إذا سميت امرأة ب ( عمرو ) و( زيد ) وإذا أردت سورة هود صرفت٤.
هذه سورة مكية إلا قوله تعالى ' فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ' وقوله ' أولئك يؤمنون به ' ونزلت في ابن سلام وأصحابه وقوله «إن الحسنات يذهبن السيئات »٢ نزلت في شأن الثمار. وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل٣ على أن الأولى تشبه المكي. وإذا أردت بهود اسم السورة لم ينصرف، كما تفعل إذا سميت امرأة ب ( عمرو ) و( زيد ) وإذا أردت سورة هود صرفت٤.
١ - أسند أبو محمد الدارمي في مسنده وأبو داود في مراسيله، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان: عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (اقرءوا سورة هود يوم الجمعة)، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)، قال: هذا حديث حسن غريب..
٢ - الآية الأولى رقمها (١٢)، والثانية رقمها (١٧)، والثالثة رقمها (١١٤) من السورة..
٣ - وعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد أن هذه السورة مكية كلها..
٤ - عيسى بن عمر يقول: "هذه هود" بالتنوين على أنه اسم للسورة، وكذا إن سميت امرأة بـ (زيد)، لأنه لما سكن وسطه خفّ فصرف..
٢ - الآية الأولى رقمها (١٢)، والثانية رقمها (١٧)، والثالثة رقمها (١١٤) من السورة..
٣ - وعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد أن هذه السورة مكية كلها..
٤ - عيسى بن عمر يقول: "هذه هود" بالتنوين على أنه اسم للسورة، وكذا إن سميت امرأة بـ (زيد)، لأنه لما سكن وسطه خفّ فصرف..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة هودهذه سورة مكية إلا قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:
الآية ١٢]، وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: الآية ١٧]، ونزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤]، نزلت في شأن الثمار وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل، على أن الأولى تشبه المكي.
وإذا أردت ب «هود» اسم السورة لم ينصرف كما تفعل إذا سميت امرأة بعمرو وزيد وإذا أردت سورة هود صرفت.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي حم [غافر: ١، فصلت: ١، الشورى: ١، الزخرف: ١، الدخان: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١] وفي ن وَالْقَلَمِ [القلم: ١].
وكِتابٌ مرتفع على خبر الابتداء، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب» والمراد بالكتاب القرآن.
وأُحْكِمَتْ معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد ﷺ في أزمنة مختلفة ف ثُمَّ على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي
148
هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: فُصِّلَتْ معناه فسرت، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير- فيما روي عنه-: «ثم فصلت» بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين:
أحدهما: «فصلت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى. والثاني فصلت بين المحق والمبطل من الناس.
ومِنْ لَدُنْ معناه من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات: يقال: لدن ولدن بسكون الدال: وقرىء بهما. مِنْ لَدُنْ، ويقال: «لد» بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال «لدا»، بدال منونة مقصورة. ويقال: «لد» بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة.
وحَكِيمٍ أي محكم، وخَبِيرٍ أي ذو خبرة بالأمور أجمع، أَلَّا تَعْبُدُوا أن في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع: ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: تفصيله ألا تعبدوا وقيل: على البدل من لفظ الآيات.
وقوله تعالى: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي من عقابه وبثوابه: وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم وأَنِ معطوفة على التي قبلها.
ومعنى الآية: استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. وثُمَّ مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء، وقرأ ابن محيصن «يمتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم: «إن هذه القراءات بالنون»، وفي هذا نظر. ومَتاعاً مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وقيل نصب بتعدي يُمَتِّعْكُمْ لأنك تقول: متعت زيدا ثوبا. ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى» : هو أجل الموت معناه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية: «واليوم الكبير» - على هذا- هو يوم القيامة.
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، و «اليوم الكبير» - على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم محصل والأجل واحد.
وقوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به وفَضْلَهُ، يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي
أحدهما: «فصلت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى. والثاني فصلت بين المحق والمبطل من الناس.
ومِنْ لَدُنْ معناه من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات: يقال: لدن ولدن بسكون الدال: وقرىء بهما. مِنْ لَدُنْ، ويقال: «لد» بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال «لدا»، بدال منونة مقصورة. ويقال: «لد» بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة.
وحَكِيمٍ أي محكم، وخَبِيرٍ أي ذو خبرة بالأمور أجمع، أَلَّا تَعْبُدُوا أن في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع: ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: تفصيله ألا تعبدوا وقيل: على البدل من لفظ الآيات.
وقوله تعالى: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي من عقابه وبثوابه: وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم وأَنِ معطوفة على التي قبلها.
ومعنى الآية: استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. وثُمَّ مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء، وقرأ ابن محيصن «يمتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم: «إن هذه القراءات بالنون»، وفي هذا نظر. ومَتاعاً مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وقيل نصب بتعدي يُمَتِّعْكُمْ لأنك تقول: متعت زيدا ثوبا. ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى» : هو أجل الموت معناه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية: «واليوم الكبير» - على هذا- هو يوم القيامة.
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، و «اليوم الكبير» - على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم محصل والأجل واحد.
وقوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به وفَضْلَهُ، يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي
149
الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين، وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور لمن شاء، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال: ويل لمن غلبت آحاده عشراته. ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقا للمعنى الأول.
وقرأ جمهور «وإن تولّوا» بفتح التاء واللام، فبعضهم قال الغيبة، أي فقل لهم: إني أخاف عليكم، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر:
«وإن تولوا» بضم التاء واللام وإسكان الواو.
وقوله تعالى: فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، توعد بيوم القيامة: ويحتمل أن يريد به يوما من الدنيا كبدر وغيره.
وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ توعد، وهو يؤيد أن «اليوم الكبير» يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية. وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله ﷺ تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.
وصُدُورَهُمْ منصوبة على هذا ب يَثْنُونَ. وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها.
فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.
وقرأ سعيد بن جبير «يثنون» بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس «ليثنوه»، وقرأ ابن عباس أيضا ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك «تثنوني صدورهم» برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في يَثْنُونَ، وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما
وقرأ جمهور «وإن تولّوا» بفتح التاء واللام، فبعضهم قال الغيبة، أي فقل لهم: إني أخاف عليكم، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر:
«وإن تولوا» بضم التاء واللام وإسكان الواو.
وقوله تعالى: فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، توعد بيوم القيامة: ويحتمل أن يريد به يوما من الدنيا كبدر وغيره.
وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ توعد، وهو يؤيد أن «اليوم الكبير» يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية. وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله ﷺ تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.
وصُدُورَهُمْ منصوبة على هذا ب يَثْنُونَ. وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها.
فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.
وقرأ سعيد بن جبير «يثنون» بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس «ليثنوه»، وقرأ ابن عباس أيضا ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك «تثنوني صدورهم» برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في يَثْنُونَ، وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما
150
تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك. وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوما كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. وقرأ ابن عباس- فيما روى ابن عيينة- «تثنو» بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي» بتقديم النون على الثاء، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنون» بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة، وقرأ أيضا هما ومجاهد فيما روي عنه «تثنان» بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع: وأصل «تثنون» تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها، وأما «تثنان» فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا: اثنانت كما قالوا احمار وابياض، والضمير في مِنْهُ عائد على الله تعالى، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، ويَسْتَغْشُونَ معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء: [البسيط]
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» ومن هذا الاستعمال قول النابغة: [الطويل]
وذات الصُّدُورِ: ما فيها، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدها كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى.
وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ... الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. و «الدابة» ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى: [الطويل]
وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقول فِي الْأَرْضِ إنما هو لأنه الأقرب لحسهم: والطائر والعائم إنما هو في الأرض، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما.
وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافا للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.
وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلا. و «المستقر» : صلب الأب:
و «المستودع» بطن الأم، وقيل «المستقر» : المأوى، و «المستودع» القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل «المستقر»، ما حصل موجودا من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد.
أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها | وتارة أتغشّى فضل أطماري |
على حين عاتبت المشيب على الصبا | وقلت ألمّا أصح والشيب وازع |
وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ... الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. و «الدابة» ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى: [الطويل]
نياف كغصن البان ترتج إن مشت | دبيب قطا البطحاء في كل منهل |
وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافا للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.
وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلا. و «المستقر» : صلب الأب:
و «المستودع» بطن الأم، وقيل «المستقر» : المأوى، و «المستودع» القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل «المستقر»، ما حصل موجودا من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد.
151
قال القاضي أبو محمد: و «المستقر» على هذا- مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى. وقوله: فِي كِتابٍ إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال بعض الناس: هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧ الى ٨]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
قال أكثر أهل التفسير: «الأيام» هي من أيام الدنيا، وقالت فرقة: هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار، والأول أرجح.
وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق، فروى أبو هريرة- فيما أسند الطبري- أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال:
خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم، وفي الدلائل لثابت: وكان خلق آدم في يوم الجمعة، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه. ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد، وقال قوم: خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة. نهجا إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان العرش على الماء، وكان الماء على الريح.
وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ متعلق ب خَلَقَ والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس: هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا القائل: أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر.
وقرأ عيسى الثقفي: «ولئن قلت» بضم التاء، وقرأ الجمهور «قلت» بفتح التاء.
ومعنى الآية: أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم: إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا: هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧ الى ٨]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
قال أكثر أهل التفسير: «الأيام» هي من أيام الدنيا، وقالت فرقة: هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار، والأول أرجح.
وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق، فروى أبو هريرة- فيما أسند الطبري- أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال:
خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم، وفي الدلائل لثابت: وكان خلق آدم في يوم الجمعة، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه. ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد، وقال قوم: خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة. نهجا إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان العرش على الماء، وكان الماء على الريح.
وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ متعلق ب خَلَقَ والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس: هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا القائل: أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر.
وقرأ عيسى الثقفي: «ولئن قلت» بضم التاء، وقرأ الجمهور «قلت» بفتح التاء.
ومعنى الآية: أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم: إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا: هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من
جملة المقرين بهذا، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
واللام في لَئِنْ مؤذنة بأن اللام في لَيَقُولَنَّ لام قسم لا جواب شرط.
وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر» وقرأت فرقة «ساحر» وقد تقدم.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الآية، المعنى: ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب؟ على جهة التكذيب. و «الأمة» في هذه الآية: المدة كما قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥]. قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس ونحدث فيها أخرى، فهي على هذه المدة الطويلة.
ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده شيء ولا يصرفه. وحاقَ معناه: حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه ويَوْمَ منتصب بقوله: مَصْرُوفاً.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
أَذَقْنَا هاهنا مستعارة، لأن «الرحمة» هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. والْإِنْسانَ هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.
ويؤس وكَفُورٌ بناءان للمبالغة، وكَفُورٌ هاهنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضا بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.
وقال بعض الناس في هذه الآية: الْإِنْسانَ إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة كَفُورٌ، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.
و «النعماء» تشمل الصحة والمال ونحو ذلك و «الضراء» من الضر وهو أيضا شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.
ولفظة ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي تقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.
والسَّيِّئاتُ هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.
واللام في لَئِنْ مؤذنة بأن اللام في لَيَقُولَنَّ لام قسم لا جواب شرط.
وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر» وقرأت فرقة «ساحر» وقد تقدم.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الآية، المعنى: ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب؟ على جهة التكذيب. و «الأمة» في هذه الآية: المدة كما قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥]. قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس ونحدث فيها أخرى، فهي على هذه المدة الطويلة.
ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده شيء ولا يصرفه. وحاقَ معناه: حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه ويَوْمَ منتصب بقوله: مَصْرُوفاً.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
أَذَقْنَا هاهنا مستعارة، لأن «الرحمة» هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. والْإِنْسانَ هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.
ويؤس وكَفُورٌ بناءان للمبالغة، وكَفُورٌ هاهنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضا بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.
وقال بعض الناس في هذه الآية: الْإِنْسانَ إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة كَفُورٌ، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.
و «النعماء» تشمل الصحة والمال ونحو ذلك و «الضراء» من الضر وهو أيضا شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.
ولفظة ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي تقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.
والسَّيِّئاتُ هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.
وقرأت فرقة «لفرح» بكسر الراء، وقرأت فرقة «لفرح» بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس: ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية، هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس: ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم.
واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله: وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. و «الصبر» و «العمل الصالح» لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضا عليها وحضا، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٣]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيه ﷺ على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها، وليس المعنى أنه ﷺ هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
و «لعلك» هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يُوحى إِلَيْكَ هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره ويحتمل أن يكون النبي ﷺ قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب ضائِقٌ دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارِكٌ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا لأنه وصف لازم، وضائِقٌ وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في بِهِ عائد على «البعض»، ويحتمل أن يعود على «ها» وأَنْ في موضع نصب على تقدير كراهة أن و «الكنز» هاهنا: المال: وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية، هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس: ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم.
واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله: وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. و «الصبر» و «العمل الصالح» لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضا عليها وحضا، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٣]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيه ﷺ على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها، وليس المعنى أنه ﷺ هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
و «لعلك» هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يُوحى إِلَيْكَ هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره ويحتمل أن يكون النبي ﷺ قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب ضائِقٌ دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارِكٌ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا لأنه وصف لازم، وضائِقٌ وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في بِهِ عائد على «البعض»، ويحتمل أن يعود على «ها» وأَنْ في موضع نصب على تقدير كراهة أن و «الكنز» هاهنا: المال: وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود.
ثم أنسه تعالى بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ... الآية، هذه أَمْ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، و «الافتراء» أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرِ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣، يونس: ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: افْتَراهُ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
ومَنِ في قوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريد في أن القرآن مفترى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٤ الى ١٦]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
لهذه الآية تأويلان:
أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي ﷺ للكفار أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ويأتي قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمكنا.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ... الآية، هذه أَمْ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، و «الافتراء» أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرِ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣، يونس: ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: افْتَراهُ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
ومَنِ في قوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريد في أن القرآن مفترى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٤ الى ١٦]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
لهذه الآية تأويلان:
أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي ﷺ للكفار أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ويأتي قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمكنا.
155
والثاني: أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين: أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله، وهذا على معنى دوموا على علمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك. قال مجاهد: قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: بِعِلْمِ اللَّهِ يحتمل معنيين:
أحدهما: بإذنه وعلى علم منه.
والثاني: أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تقرير.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا... الآية، قالت فرقة: ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة: هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين: وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله ﷺ في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال: صدق الله ورسوله: وتلا: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها... الآية، إلى قوله: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله يُرِيدُ يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك: فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.
قال القاضي أبو محمد: فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية أُولئِكَ.
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى يُرِيدُ عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصدا آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله: لَيْسَ لَهُمْ بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أنس بن مالك: هي في أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم.
وقرأ جمهور الناس: «نوف» بنون العظمة وقرأ طلحة وميمون بن مهران «يوف» بياء الغائب.
ويُبْخَسُونَ معناه: يعطون أقل من ثوابهم، وحَبِطَ معناه: يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتل حبطا أو يلم»، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله: فِيها عائد
وقوله تعالى: بِعِلْمِ اللَّهِ يحتمل معنيين:
أحدهما: بإذنه وعلى علم منه.
والثاني: أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تقرير.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا... الآية، قالت فرقة: ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة: هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين: وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله ﷺ في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال: صدق الله ورسوله: وتلا: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها... الآية، إلى قوله: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله يُرِيدُ يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك: فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.
قال القاضي أبو محمد: فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية أُولئِكَ.
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى يُرِيدُ عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصدا آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله: لَيْسَ لَهُمْ بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أنس بن مالك: هي في أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم.
وقرأ جمهور الناس: «نوف» بنون العظمة وقرأ طلحة وميمون بن مهران «يوف» بياء الغائب.
ويُبْخَسُونَ معناه: يعطون أقل من ثوابهم، وحَبِطَ معناه: يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتل حبطا أو يلم»، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله: فِيها عائد
156
على الدنيا في الأولين وفي الثالثة عائد على الآخرة، ويحتمل أن يعود في الثلاثة على الدنيا ويحتمل أن تعود الثانية على الأعمال.
وقرأ جمهور الناس: «وباطل» بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ أبيّ وابن مسعود: «وباطلا» بالنصب قال أبو حاتم: ثبتت في أربعة مصاحف، والعامل فيه يَعْمَلُونَ وما زائدة، التقدير: وباطلا كانوا يعملون. والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
اختلف المتأولون في المراد بقوله: أَفَمَنْ فقالت فرقة: المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة المراد محمد ﷺ خاصة. وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس: المراد بذلك محمد ﷺ والمؤمنون جميعا.
وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة» فقالت فرقة: المراد بذلك القران، أي على جلية بسبب القرآن، وقالت فرقة: المراد محمد ﷺ والهاء في «البيّنة» للمبالغة كهاء علامة ونسابة.
وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد» فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة: هو جبريل.
وقال الحسين بن علي: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد أيضا: هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل.
وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي ذلك عنه، وقالت فرقة: هو الإنجيل، وقالت فرقة: هو القرآن، وقالت فرقة: هو إعجاز القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ويتصرف قوله يَتْلُوهُ على معنيين: بمعنى يقرأ، وبمعنى يتبعه، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد» ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل.
فإذا قلنا إن قوله: أَفَمَنْ يراد به المؤمنون، فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة» محمد ﷺ صح أن يترتب «الشاهد» الإنجيل ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد ﷺ وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة
وقرأ جمهور الناس: «وباطل» بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ أبيّ وابن مسعود: «وباطلا» بالنصب قال أبو حاتم: ثبتت في أربعة مصاحف، والعامل فيه يَعْمَلُونَ وما زائدة، التقدير: وباطلا كانوا يعملون. والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
اختلف المتأولون في المراد بقوله: أَفَمَنْ فقالت فرقة: المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة المراد محمد ﷺ خاصة. وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس: المراد بذلك محمد ﷺ والمؤمنون جميعا.
وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة» فقالت فرقة: المراد بذلك القران، أي على جلية بسبب القرآن، وقالت فرقة: المراد محمد ﷺ والهاء في «البيّنة» للمبالغة كهاء علامة ونسابة.
وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد» فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة: هو جبريل.
وقال الحسين بن علي: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد أيضا: هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل.
وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي ذلك عنه، وقالت فرقة: هو الإنجيل، وقالت فرقة: هو القرآن، وقالت فرقة: هو إعجاز القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ويتصرف قوله يَتْلُوهُ على معنيين: بمعنى يقرأ، وبمعنى يتبعه، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد» ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل.
فإذا قلنا إن قوله: أَفَمَنْ يراد به المؤمنون، فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة» محمد ﷺ صح أن يترتب «الشاهد» الإنجيل ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد ﷺ وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة
157
فيه، وأن يترتب الملك ويكون الضمير في مِنْهُ عائدا على البيّنة التي قدرناها محمدا ﷺ وأن يترتب القرآن ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير في مِنْهُ على الرب.
وإن جعلنا «البيّنة» القرآن على أن أَفَمَنْ هم المؤمنون- صح أن يترتب «الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك. ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه: وصح أن يترتب «الشاهد» الإعجاز، ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير فى مِنْهُ على القرآن.
وإذا جعلنا أَفَمَنْ للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت «البيّنة» القرآن، وترتب «الشاهد» لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وترتب الإنجيل، وترتب جبريل والملك، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترتب الإعجاز. ويتأول يَتْلُوهُ بحسب «الشاهد» كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله أُولئِكَ فإنا إذا جعلنا قوله: أَفَمَنْ للنبي ﷺ وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وهو شبه ليس بالقوي.
والأصح في الآية أن يكون قوله: أَفَمَنْ للمؤمنين، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد» بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلا في قوله: أَفَمَنْ. وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله.
وقرأ جمهور الناس «كتاب» بالرفع وقرأ الكلبي وغيره «كتابا» بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد» الإنجيل معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم- بحسب الخلاف- و «الإنجيل» و «من قبل» كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم.
ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد» القرآن، وتطرد الألفاظ بعد ذلك، ومن نصب «كتابا» قدر «الشاهد» جبريل عليه السلام، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى.
قال القاضي أبو محمد: وهنا اعتراض يقال: إذ قال مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أو «كتاب» بالنصب على القراءتين. والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن- فلم لم يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال: أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله، والإنجيل ليس كذلك: فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى: وهذا يجري مع قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الأحقاف: ٣٠] ومع قول النجاشي: إن هذا، والذي جاء به موسى، لخرج من مشكاة واحدة فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة، ونصب إِماماً على الحال من كِتابُ مُوسى، والْأَحْزابِ هاهنا يراد به جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» فقلت: أين مصداق هذا من كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي ﷺ طلبت مصداقه في كتاب الله.
وإن جعلنا «البيّنة» القرآن على أن أَفَمَنْ هم المؤمنون- صح أن يترتب «الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك. ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه: وصح أن يترتب «الشاهد» الإعجاز، ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير فى مِنْهُ على القرآن.
وإذا جعلنا أَفَمَنْ للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت «البيّنة» القرآن، وترتب «الشاهد» لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وترتب الإنجيل، وترتب جبريل والملك، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترتب الإعجاز. ويتأول يَتْلُوهُ بحسب «الشاهد» كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله أُولئِكَ فإنا إذا جعلنا قوله: أَفَمَنْ للنبي ﷺ وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وهو شبه ليس بالقوي.
والأصح في الآية أن يكون قوله: أَفَمَنْ للمؤمنين، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد» بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلا في قوله: أَفَمَنْ. وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله.
وقرأ جمهور الناس «كتاب» بالرفع وقرأ الكلبي وغيره «كتابا» بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد» الإنجيل معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم- بحسب الخلاف- و «الإنجيل» و «من قبل» كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم.
ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد» القرآن، وتطرد الألفاظ بعد ذلك، ومن نصب «كتابا» قدر «الشاهد» جبريل عليه السلام، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى.
قال القاضي أبو محمد: وهنا اعتراض يقال: إذ قال مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أو «كتاب» بالنصب على القراءتين. والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن- فلم لم يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال: أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله، والإنجيل ليس كذلك: فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى: وهذا يجري مع قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الأحقاف: ٣٠] ومع قول النجاشي: إن هذا، والذي جاء به موسى، لخرج من مشكاة واحدة فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة، ونصب إِماماً على الحال من كِتابُ مُوسى، والْأَحْزابِ هاهنا يراد به جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» فقلت: أين مصداق هذا من كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي ﷺ طلبت مصداقه في كتاب الله.
158
قال القاضي أبو محمد: والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون أَفَمَنْ للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم، إذ قد تقدم ذكر الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود: ١٦]، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم، و «البيّنة» القرآن وما تضمن. و «الشاهد» محمد ﷺ أو جبريل إذا دخل النبي في قوله: أَفَمَنْ أو الإنجيل والضمير في يَتْلُوهُ للبيّنة، وفي مِنْهُ للرب تعالى، والضمير في قَبْلِهِ للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفا محتمل.
وقرأ الجمهور «في مرية» بكسر الميم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مرية» بضم الميم، وهما لغتان في الشك، والضمير في مِنْهُ عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بيّن.
وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه، ونحو هذا، في معنى الحذف، قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: ٣١]، لكان هذا القرآن، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
التقدير لرددناه ولم نصغ إليه.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)
قوله: وَمَنْ استفهام بمعنى التقرير، وكأنه قال: لا أحد أظلم ممن افترى كذبا، والمراد ب مَنْ الكفرة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويفترون في غير ما شيء، وقوله: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عبارة عن الإشادة بهم والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة.
وقوله: يَقُولُ الْأَشْهادُ قالت فرقة: يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة، فيجيء قوله: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ إخبارا عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة: الْأَشْهادُ بمعنى الشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم، وروي في نحو هذا حديث: «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» فيجيء قوله: هؤُلاءِ- على هذا التأويل- استفهاما عنهم وتثبتا فيهم كما تقول إذا رأيت مجرما قد عوقب: هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك، ويحتمل الإخبار عنهم.
وقرأ الجمهور «في مرية» بكسر الميم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مرية» بضم الميم، وهما لغتان في الشك، والضمير في مِنْهُ عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بيّن.
وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه، ونحو هذا، في معنى الحذف، قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: ٣١]، لكان هذا القرآن، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله | سواك ولكن لم نجد لك مدفعا |
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)
قوله: وَمَنْ استفهام بمعنى التقرير، وكأنه قال: لا أحد أظلم ممن افترى كذبا، والمراد ب مَنْ الكفرة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويفترون في غير ما شيء، وقوله: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عبارة عن الإشادة بهم والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة.
وقوله: يَقُولُ الْأَشْهادُ قالت فرقة: يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة، فيجيء قوله: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ إخبارا عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة: الْأَشْهادُ بمعنى الشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم، وروي في نحو هذا حديث: «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» فيجيء قوله: هؤُلاءِ- على هذا التأويل- استفهاما عنهم وتثبتا فيهم كما تقول إذا رأيت مجرما قد عوقب: هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك، ويحتمل الإخبار عنهم.
159
وقوله: أَلا استفتاح كلام، و «اللعنة» الإبعاد، والَّذِينَ نعت ل الظَّالِمِينَ ويحتمل الرفع على تقدير هم الذين، ويَصُدُّونَ يحتمل أن يقدر متعديا على معنى: يصدون الناس ويمنعونهم من سبيل الله، ويحتمل أن يقدر غير متعد على معنى يصدون هم، أن يعرضون. وسَبِيلِ اللَّهِ شريعته، ويَبْغُونَها معناه يطلبون لها كما تقول بغيتك خيرا أو شرا أي طلبت لك، وعِوَجاً على هذا مفعول: ويحتمل أن يكون المعنى: ويبغون السبيل على عوج، أي فهم لا يهتدون أبدا ف عِوَجاً على هذا مصدر في موضع الحال، والعوج الانحراف والميل المؤدي إلى الفساد، وكرر قوله:
هُمْ على جهة التأكيد، وهي جملة في موضع خبر الابتداء الأول: وليس هذا موضع الفصل لأن الفصل إنما يكون بين معرفتين، أو معرفة وفكرة تقارب المعرفة، لأنها تفصل ما بين أن يكون ما بعدها صفة أو خبرا وتخلصه للخبر. ومُعْجِزِينَ معناه: مفلتين لا يقدر عليهم. وخص ذكر الْأَرْضِ لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه لا يستطيع النفوذ منها. وقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يحتمل معنيين:
أحدهما: أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائنا من كان.
والثاني: أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء.
ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان. ويُضاعَفُ فعل مستأنف وليس بصفة.
وقوله: وما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ يحتمل خمسة أوجه:
أحدها: أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ولا يبصرون كذلك.
والثاني: أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي ﷺ فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشد الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله ﷺ حتى ردهم عن ذلك مشيختهم.
والثالث: أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها- على التأويل المقدم- أن تكون أولياء.
وما في هذه الوجوه نافية.
والرابع: أن يكون التقدير: يضاعف لهم العذاب بما كانوا: بحذف الجار، وتكون ما مصدرية، وهذا قول فيه تحامل. قاله الفراء، وقرنه بقوله: أجازيك ما صنعت بي.
والخامس: أن تكون ما ظرفية، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقد أعلمت
هُمْ على جهة التأكيد، وهي جملة في موضع خبر الابتداء الأول: وليس هذا موضع الفصل لأن الفصل إنما يكون بين معرفتين، أو معرفة وفكرة تقارب المعرفة، لأنها تفصل ما بين أن يكون ما بعدها صفة أو خبرا وتخلصه للخبر. ومُعْجِزِينَ معناه: مفلتين لا يقدر عليهم. وخص ذكر الْأَرْضِ لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه لا يستطيع النفوذ منها. وقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يحتمل معنيين:
أحدهما: أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائنا من كان.
والثاني: أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء.
ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان. ويُضاعَفُ فعل مستأنف وليس بصفة.
وقوله: وما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ يحتمل خمسة أوجه:
أحدها: أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ولا يبصرون كذلك.
والثاني: أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي ﷺ فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشد الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله ﷺ حتى ردهم عن ذلك مشيختهم.
والثالث: أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها- على التأويل المقدم- أن تكون أولياء.
وما في هذه الوجوه نافية.
والرابع: أن يكون التقدير: يضاعف لهم العذاب بما كانوا: بحذف الجار، وتكون ما مصدرية، وهذا قول فيه تحامل. قاله الفراء، وقرنه بقوله: أجازيك ما صنعت بي.
والخامس: أن تكون ما ظرفية، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقد أعلمت
160
الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبدا فالعذاب- إذن- متماد أبدا.
وقدم السَّمْعَ في هذه الآية على «البصر» لأن حاسته أشرف من حاسة البصر، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران النفس، وضَلَ
معناه:
تلف ولم يجدوه حيث أملوه. ولا جَرَمَ لفظة مركبة من: لا، ومن: جَرَمَ بنيتا.
ومعنى لا جَرَمَ: حق. هذا مذهب سيبويه والخليل. وقال بعض النحويين:
معناها: لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج: لا رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، وجَرَمَ معناه: كسب، أي كسب فعلهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
. فموضع «أن» على مذهب سيبويه رفع: وموضعها على مذهب الزجاج- نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.
قال القاضي أبو محمد: فكأن جَرَمَ على هذا من معنى القطع، تقول: جرمت أي قطعت: وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وجريمة القوم كاسبهم.
وأما قول الشاعر جرير:
فيحتمل الوجهين: ويختلف معنى البيت.
وفي لا جَرَمَ لغات: يقول بعض العرب: لا ذا جرم، وبعضهم: لا أن ذا جرم، وبعضهم: لا عن ذا جرم، وبعضهم: لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله.
وأَخْبَتُوا قيل معناه: خشعوا، قاله قتادة، وقيل: أنابوا، قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد، وقيل: خافوا، قاله ابن عباس أيضا، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته.
وقدم السَّمْعَ في هذه الآية على «البصر» لأن حاسته أشرف من حاسة البصر، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران النفس، وضَلَ
معناه:
تلف ولم يجدوه حيث أملوه. ولا جَرَمَ لفظة مركبة من: لا، ومن: جَرَمَ بنيتا.
ومعنى لا جَرَمَ: حق. هذا مذهب سيبويه والخليل. وقال بعض النحويين:
معناها: لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج: لا رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، وجَرَمَ معناه: كسب، أي كسب فعلهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
. فموضع «أن» على مذهب سيبويه رفع: وموضعها على مذهب الزجاج- نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.
قال القاضي أبو محمد: فكأن جَرَمَ على هذا من معنى القطع، تقول: جرمت أي قطعت: وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر: [الطويل]
جريمتنا هض في رأس نيق | ترى لعظام ما جمعت صليبا |
وأما قول الشاعر جرير:
ولقد طعنت أبا أميمة طعنة | جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا |
وفي لا جَرَمَ لغات: يقول بعض العرب: لا ذا جرم، وبعضهم: لا أن ذا جرم، وبعضهم: لا عن ذا جرم، وبعضهم: لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله.
وأَخْبَتُوا قيل معناه: خشعوا، قاله قتادة، وقيل: أنابوا، قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد، وقيل: خافوا، قاله ابن عباس أيضا، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته.
وقوله إِلى رَبِّهِمْ قيل: هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم. وقيل: المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم، و «الفريقان» الكافرون والمؤمنون: شبه الكافر بالأعمى وَالْأَصَمِّ، وشبه المؤمن ب الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ فهو على هذا تمثيل بمثالين. وقال بعض المتأولين: التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول: جاءني زيد العاقل والكريم، وأنت تريده بعينه فهو على هذا تمثيل بمثال واحد.
ومَثَلًا نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالا.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد ﷺ ببدع من الرسل.
وروي أن نوحا عليه السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «إني» بكسر الألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول، والمعنى: قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثم يجيء قوله أَنْ لا تَعْبُدُوا محمولا ل أَرْسَلْنا، أي أرسلنا نوحا بأن لا تعبدوا إلا الله، واعترض أثناء الكلام بقوله:
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وفتح الألف على إعمال أَرْسَلْنا في «أن» أي بأني لكم نذير. قال أبو علي:
وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام: أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.
و «النذير» المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها ومُبِينٌ من أبان يبين.
وقوله أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الآية.
وأَلِيمٍ معناه مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزا إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم: نهار صائم وليل قائم.
ومَثَلًا نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالا.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد ﷺ ببدع من الرسل.
وروي أن نوحا عليه السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «إني» بكسر الألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول، والمعنى: قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثم يجيء قوله أَنْ لا تَعْبُدُوا محمولا ل أَرْسَلْنا، أي أرسلنا نوحا بأن لا تعبدوا إلا الله، واعترض أثناء الكلام بقوله:
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وفتح الألف على إعمال أَرْسَلْنا في «أن» أي بأني لكم نذير. قال أبو علي:
وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام: أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.
و «النذير» المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها ومُبِينٌ من أبان يبين.
وقوله أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الآية.
وأَلِيمٍ معناه مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزا إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم: نهار صائم وليل قائم.
162
والْمَلَأُ الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونحوه، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور، وكل جماعة كبيرة ملأ.
ولما قال لهم نوح: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ... قالوا:
و «الأراذل» جمع أرذل، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم على هذا أن يقال: أراذيل وإذا ثبتت الياء في جمع صيرف فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها. وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له، ولا يبالى ما يقول ولا ما يقال له.
وقرأ الجمهور «بادي الرأي» بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلا، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي» بالهمز من بدأ يبدأ.
قال القاضي أبو محمد: وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول: أما بادىء بدء فإني أحمد الله، وأما بادي بدي بغير همز فيهما، وقال الراجز: [الرجز]
وقال الآخر: وقد علتني ذرأة بادي بدي.
وقرأ الجمهور بهمز «الرأي» وقرأ أبو عمرو بترك همزه. بادِيَ نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفا كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبدا على معنى واحد، وفي المصدر كقولك: جهد نفسي أحب كذا وكذا.
وتعلق قوله: بادِيَ الرَّأْيِ يحتمل ستة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب نَراكَ بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادِيَ الرَّأْيِ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.
والثاني: أن يتعلق بقوله: اتَّبَعَكَ أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ثم يحتمل على هذا قوله: بادِيَ الرَّأْيِ معنيين:
أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك. وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.
والوجه الثالث: من تعلق قوله بادِيَ الرَّأْيِ أن يتعلق بقوله: أَراذِلُنا أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، ويبادي الرأي يعلم ذلك منهم، ويحتمل أن يكون قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ وصفا منهم لنوح، أي تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة، ويحتمل أن يكون
ولما قال لهم نوح: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ... قالوا:
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا | أي والله لا يبعث رسولا من البشر، فأحالوا الجائز على الله تعالى. |
وقرأ الجمهور «بادي الرأي» بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلا، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي» بالهمز من بدأ يبدأ.
قال القاضي أبو محمد: وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول: أما بادىء بدء فإني أحمد الله، وأما بادي بدي بغير همز فيهما، وقال الراجز: [الرجز]
أضحى لخالي شبهي بادي بدي | وصار للفحل لساني ويدي |
وقرأ الجمهور بهمز «الرأي» وقرأ أبو عمرو بترك همزه. بادِيَ نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفا كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبدا على معنى واحد، وفي المصدر كقولك: جهد نفسي أحب كذا وكذا.
وتعلق قوله: بادِيَ الرَّأْيِ يحتمل ستة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب نَراكَ بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادِيَ الرَّأْيِ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.
والثاني: أن يتعلق بقوله: اتَّبَعَكَ أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ثم يحتمل على هذا قوله: بادِيَ الرَّأْيِ معنيين:
أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك. وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.
والوجه الثالث: من تعلق قوله بادِيَ الرَّأْيِ أن يتعلق بقوله: أَراذِلُنا أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، ويبادي الرأي يعلم ذلك منهم، ويحتمل أن يكون قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ وصفا منهم لنوح، أي تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة، ويحتمل أن يكون
163
اعتراضا في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجيء جميع هذا ستة معان، ويجوز التعلق في هذا الوجه «بقال».
ومعنى وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال:
بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيحتمل أنهم خاطبوا نوحا ومن آمن معه من قومه، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
هذه الآية كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولا وثانيا على جهة التقرير. وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه.
وقوله عَلى بَيِّنَةٍ أي على أمر بيّن جلي، والهاء في بَيِّنَةٍ للمبالغة كعلامة ونسابة، و «إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله مِنْ عِنْدِهِ تأكيد، كما قال:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة.
وقرأ جمهور الناس «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى:
أحد هما: خفيت، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له: الغمام لأنه يغمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء».
والمعنى الثاني: أن تكون الإرادة: فعميتم أنتم عنها، لكنه قلب، كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
قال أبو علي: وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: ٤٧] وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعمّيت» بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء ويحتمل القلب المذكور.
ومعنى وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال:
بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيحتمل أنهم خاطبوا نوحا ومن آمن معه من قومه، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
هذه الآية كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولا وثانيا على جهة التقرير. وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه.
وقوله عَلى بَيِّنَةٍ أي على أمر بيّن جلي، والهاء في بَيِّنَةٍ للمبالغة كعلامة ونسابة، و «إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله مِنْ عِنْدِهِ تأكيد، كما قال:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة.
وقرأ جمهور الناس «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى:
أحد هما: خفيت، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له: الغمام لأنه يغمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء».
والمعنى الثاني: أن تكون الإرادة: فعميتم أنتم عنها، لكنه قلب، كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ترى النور فيها مدخل الظل رأسه | وسائره باد إلى الشمس أجمع |
وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم». قال أبو حاتم: روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت» بالواو خفيفة.
وقوله: أَنُلْزِمُكُمُوها يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: معناه أن وجبها عليكم، وقوله في ذلك خطأ.
وفي قراءة أبي بن كعب: «أنلزمكموها من شطر أنفسنا»، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا».
وقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله ﷺ بطرد تباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش.
وقوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه.
وقوله يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ... الآية هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)
قوله: وَلا أَقُولُ عطف على قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا [هود: ٢٩]، ومعنى هذه الآية: أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له، فلست أقول عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له، فإن سمي ذلك- على جهة التجوز- مختزنا فيشبه. ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض. وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو، وقال ابن عباس وغيره: عتت على الخزان. فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن. ثم قال: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، ثم انحط على هاتين فقال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي ﷺ وهي مسألة اختلاف. وظواهر القرآن على ما قلناه.
قال القاضي أبو محمد: وإن أخذنا قوله وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على حد أن لو قال: ولا أقول إني
وقوله: أَنُلْزِمُكُمُوها يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: معناه أن وجبها عليكم، وقوله في ذلك خطأ.
وفي قراءة أبي بن كعب: «أنلزمكموها من شطر أنفسنا»، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا».
وقوله يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا | الآية الضمير في عَلَيْهِ عائد على التبليغ. |
وقوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه.
وقوله يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ... الآية هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)
قوله: وَلا أَقُولُ عطف على قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا [هود: ٢٩]، ومعنى هذه الآية: أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له، فلست أقول عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له، فإن سمي ذلك- على جهة التجوز- مختزنا فيشبه. ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض. وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو، وقال ابن عباس وغيره: عتت على الخزان. فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن. ثم قال: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، ثم انحط على هاتين فقال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي ﷺ وهي مسألة اختلاف. وظواهر القرآن على ما قلناه.
قال القاضي أبو محمد: وإن أخذنا قوله وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على حد أن لو قال: ولا أقول إني
كوكب أو نحوه- زالت طريقة التفضيل، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا.
وتَزْدَرِي أصله تزتري (تفتعل) من زرى يزري ومعنى تَزْدَرِي: تحتقر. و «الخير» هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال وقد قال بعض المفسرين: حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه.
وقوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تسليم لله تعالى، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك، وقال بعض المتأولين: هي رد على قولهم: اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم.
قال القاضي أبو محمد: حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفا، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، ثم قال: إِنِّي إِذاً لو فعلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الشيء في غير موضعه.
وقوله: يا نُوحُ... ، الآية معناه: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه: حبل مجدول، أي ممرّ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه و «الجدال» فعال، مصدر فاعل، وهو يقع من اثنين، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة، فتركت الياء من فيعال ورفضت. ومن الجدال ما هو محمود، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي، ومن ذلك هذه الآية، ومنه قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] إلى غير ذلك من الأمثلة. ومن الجدال ما هو مكروه، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، وكرهه العلماء، والله المستعان.
وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جدلنا» بغير ألف، وبفتح الجيم، ذكره أبو حاتم.
والمراد بقولهم ما تَعِدُنا العذاب والهلاك، والمفعول الثاني ل تَعِدُنا مضمر تقديره بما تعدناه.
ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
المعنى: ليس ذلك بيدي ولا إلىّ توفيته، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من
وتَزْدَرِي أصله تزتري (تفتعل) من زرى يزري ومعنى تَزْدَرِي: تحتقر. و «الخير» هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال وقد قال بعض المفسرين: حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه.
وقوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تسليم لله تعالى، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك، وقال بعض المتأولين: هي رد على قولهم: اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم.
قال القاضي أبو محمد: حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفا، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، ثم قال: إِنِّي إِذاً لو فعلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الشيء في غير موضعه.
وقوله: يا نُوحُ... ، الآية معناه: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه: حبل مجدول، أي ممرّ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه و «الجدال» فعال، مصدر فاعل، وهو يقع من اثنين، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة، فتركت الياء من فيعال ورفضت. ومن الجدال ما هو محمود، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي، ومن ذلك هذه الآية، ومنه قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] إلى غير ذلك من الأمثلة. ومن الجدال ما هو مكروه، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، وكرهه العلماء، والله المستعان.
وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جدلنا» بغير ألف، وبفتح الجيم، ذكره أبو حاتم.
والمراد بقولهم ما تَعِدُنا العذاب والهلاك، والمفعول الثاني ل تَعِدُنا مضمر تقديره بما تعدناه.
ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
المعنى: ليس ذلك بيدي ولا إلىّ توفيته، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من
المنعة بحال من يفلت أو يعتصم بمنج، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين. وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو ب نُصْحِي، وتعلق الآخر هو ب «لا ينفع». والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه، والمنصح الإبرة، والمخيط يقال له منصح ونصاح: وقالت فرقة معنى قوله يُغْوِيَكُمْ: يضلكم، من قولهم غوى الرجل يغوى، ومنه قول الشاعر [المرقش] :[الطويل]
وإذا كان هذا معنى اللفظة، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد.
وقالت فرقة معنى قوله: يُغْوِيَكُمْ: يهلككم، والغوى المرض والهلاك وفي لغة طيّىء: أصبح فلان غاويا، أي مريضا، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعا، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥] ونحوها.
قال القاضي أبو محمد: ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقا وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب.
وقوله: هُوَ رَبُّكُمْ، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ... الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد ﷺ مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افتري القرآن وافتري هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطردا، ويكون الضمير في قوله افْتَراهُ عائدا إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك ثم يطرد باقي الآية على هذا.
وأَمْ هي التي بمعنى بل يقولون، و «الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال: جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغي لائما |
وقالت فرقة معنى قوله: يُغْوِيَكُمْ: يهلككم، والغوى المرض والهلاك وفي لغة طيّىء: أصبح فلان غاويا، أي مريضا، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعا، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥] ونحوها.
قال القاضي أبو محمد: ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقا وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب.
وقوله: هُوَ رَبُّكُمْ، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ... الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد ﷺ مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افتري القرآن وافتري هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطردا، ويكون الضمير في قوله افْتَراهُ عائدا إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك ثم يطرد باقي الآية على هذا.
وأَمْ هي التي بمعنى بل يقولون، و «الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال: جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
طريد عشيرة ووهين ذنب | بما جرمت يدي وجنى لساني |
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
167
قرأ أبو البرهسم: «وأوحى» بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، «إنه» بكسر الهمزة، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول: يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا رواه عبيد بن عمير وغيره، وهذه الآية هي التي أيأست نوحا عليه السلام من قومه، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦].
وتَبْتَئِسْ من البؤس تفتعل، ومعناه: لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر- وهو لبيد بن ربيعة-:
[مجزوء الكامل]
في مأتم كنعاج حا... رة تبتئس بما لقينا
حارة: موضع.
قال القاضي أبو محمد: وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قاله ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد ﷺ بقوله:
«أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي». فلا بد أن نقرر كثيرا من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلا قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحا هو أول الرسل إلى أهل الأرض ولا يمكن أيضا أن نقول: عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥].
والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول: إن نوحا عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول: إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد ﷺ ثم نقول: إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجودا مستقرا.
فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه: فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]، أي
وتَبْتَئِسْ من البؤس تفتعل، ومعناه: لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر- وهو لبيد بن ربيعة-:
[مجزوء الكامل]
في مأتم كنعاج حا... رة تبتئس بما لقينا
حارة: موضع.
قال القاضي أبو محمد: وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قاله ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد ﷺ بقوله:
«أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي». فلا بد أن نقرر كثيرا من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلا قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحا هو أول الرسل إلى أهل الأرض ولا يمكن أيضا أن نقول: عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥].
والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول: إن نوحا عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول: إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد ﷺ ثم نقول: إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجودا مستقرا.
فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه: فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]، أي
168
حتى نوجده، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم.
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عطف على قوله: فَلا تَبْتَئِسْ والْفُلْكَ: السفينة، وجمعها أيضا فلك، وليس هو لفظا للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول: فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصور»، تريد «يا منصور»، فرخمت على لغة من يقول: يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم.
وقوله: بِأَعْيُنِنا يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى: فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات: ٢٣] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله: لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩]، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله بِأَعْيُنِنا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير.
وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغما.
وقوله وَوَحْيِنا معناه: وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضا أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر: لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكا بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث:
كان راز سفينة نوح عليه السّلام جبريل عليه السّلام والراز: القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله وَوَحْيِنا أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ مغن عن ذلك. والَّذِينَ ظَلَمُوا هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج: وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.
قوله عز وجل:
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عطف على قوله: فَلا تَبْتَئِسْ والْفُلْكَ: السفينة، وجمعها أيضا فلك، وليس هو لفظا للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول: فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصور»، تريد «يا منصور»، فرخمت على لغة من يقول: يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم.
وقوله: بِأَعْيُنِنا يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى: فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات: ٢٣] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله: لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩]، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله بِأَعْيُنِنا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير.
وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغما.
وقوله وَوَحْيِنا معناه: وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضا أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر: لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكا بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث:
كان راز سفينة نوح عليه السّلام جبريل عليه السّلام والراز: القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله وَوَحْيِنا أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ مغن عن ذلك. والَّذِينَ ظَلَمُوا هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج: وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.
قوله عز وجل:
169
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)التقدير: فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال، إذ في خلالها وقع مرورهم، قال ابن عباس: صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص. وروي أن عودها من الساج وأن نوحا عليه السّلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان، وعرضها ستمائة ذراع، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل: طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، ذكره قتادة، وروي غير هذا مما لم يثبت، فاختصرت ذكره، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات: طبقة للناس، وطبقة للبهائم، وطبقة للطير، إلى غير ذلك في حديث طويل.
و «الملأ» هنا الجماعة، وسَخِرُوا معناه استجهلوه، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت- فوجه الاستجهال واضح. وبذلك تظاهرت التفاسير وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجارا بعد النبوة؟!!.
وقوله فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ قال الطبري: يريد في الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل الكلام، بل هو الأرجح، أن يريد: إنا نسخر منكم الآن، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه، ثم جاء قوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديدا، والسخر: الاستجهال مع استهزاء، ومصدره: سخرى بضم السين، والمصدر من السخرة والتسخير سخرى بكسرها.
و «العذاب المخزي» هو الغرق، و «المقيم» هو عذاب الآخرة، وحكى الزهراوي أنه يقرأ «ويحل» بضم الحاء، ويقرأ «ويحل» بكسرها، بمعنى ويجب. ومَنْ في موضع نصب ب تَعْلَمُونَ. وجاز أن يكون تَعْلَمُونَ بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد.
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا الآية، الأمر هاهنا يحتمل أن بكون واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر، فمعناه أمرنا للماء بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة وفارَ معناه انبعث بقوة واختلف الناس في التَّنُّورُ، فقالت فرقة- وهي الأكثر- منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالت فرقة: كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فورانا، وأحرى بذلك. وروي أنه كان تنور آدم عليه السّلام خلص إلى نوح فكان يوقد
170
فيه، وقال النقاش: اسم المستوقد التنور بكل لغة وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقيل: إن موضع تنور نوح عليه السّلام كان بالهند، وقيل: كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة: التنور وجه الأرض، ويقال له: تنور الأرض، وقال قتادة: التَّنُّورُ: أعالي الأرض، وقالت فرقة: التَّنُّورُ: عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: التَّنُّورُ مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة: التَّنُّورُ هو الفجر، المعنى: إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة: الكلام مجاز وإنما أراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي ﷺ لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضا مستوقد النار، فلا فرق بين حمي وفارَ إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ [الملك: ٧]، فلا فرق بين الوطيس والتنور.
وقرأ حفص عن عاصم «من كلّ زوجين اثنين» بتنوين كُلٍّ وقرأ الباقون «من كلّ زوجين» بإضافة كُلٍّ إلى زَوْجَيْنِ. فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير: من كل حيوان أو نحوه، وأعمل «الحمل» في زَوْجَيْنِ، وجاء قوله: اثْنَيْنِ تأكيدا- كما قال: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: ٥١]. ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل» في قوله اثْنَيْنِ، وجاء قوله زَوْجَيْنِ بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى: احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان: وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الأنعام: ١٤٣، الزمر: ٦] ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم: ٤٥]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]
وهكذا يأخذ العدديون: الزوج أيضا في كلام العرب النوع كقوله: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٧] وقوله: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: ٣٦] إلى غير ذلك.
وروي في قصص هذه الآية أن نوحا عليه السّلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما ادخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السّلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها.
وروي أن نوحا عليه السّلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحا وأهله ذلك الأذى وهذا يجيء منه أن نوع
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقيل: إن موضع تنور نوح عليه السّلام كان بالهند، وقيل: كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة: التنور وجه الأرض، ويقال له: تنور الأرض، وقال قتادة: التَّنُّورُ: أعالي الأرض، وقالت فرقة: التَّنُّورُ: عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: التَّنُّورُ مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة: التَّنُّورُ هو الفجر، المعنى: إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة: الكلام مجاز وإنما أراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي ﷺ لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضا مستوقد النار، فلا فرق بين حمي وفارَ إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ [الملك: ٧]، فلا فرق بين الوطيس والتنور.
وقرأ حفص عن عاصم «من كلّ زوجين اثنين» بتنوين كُلٍّ وقرأ الباقون «من كلّ زوجين» بإضافة كُلٍّ إلى زَوْجَيْنِ. فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير: من كل حيوان أو نحوه، وأعمل «الحمل» في زَوْجَيْنِ، وجاء قوله: اثْنَيْنِ تأكيدا- كما قال: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: ٥١]. ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل» في قوله اثْنَيْنِ، وجاء قوله زَوْجَيْنِ بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى: احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان: وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الأنعام: ١٤٣، الزمر: ٦] ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم: ٤٥]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]
من كل محفوف يظل عصيه | زوج عليه كلة وقرامها |
وروي في قصص هذه الآية أن نوحا عليه السّلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما ادخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السّلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها.
وروي أن نوحا عليه السّلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحا وأهله ذلك الأذى وهذا يجيء منه أن نوع
171
الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحا أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضا أن الفأر خرج من أنف الخنزير.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم كيف كان.
وقوله: وَأَهْلَكَ عطف على ما عمل فيه احْمِلْ و «الأهل» هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفا ثم ذكر مَنْ آمَنَ وليس من الأهل واختلف في الذي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. والْقَوْلُ هاهنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: وَمَنْ آمَنَ عطف على قوله: وَأَهْلَكَ ثم قال إخبارا عن حالهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ واختلف في ذلك «القليل» فقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السّلام ثلاثة من بنيه: سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي ﷺ أنه قال: سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
المعنى وَقالَ نوح- حين أمر بالحمل في السفينة- لمن آمن معه: ارْكَبُوا فِيها فأنث الضمير، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر.
وفي مصحف أبيّ «على اسم الله». وقوله: بِسْمِ اللَّهِ يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله: ارْكَبُوا كما تقول: خرج زيد بثيابه وبسلاحه، أي اركبوا متبركين بالله تعالى، ويكون قوله: مَجْراها وَمُرْساها ظرفين، أي وقت إجرائها وإرسائها. كما تقول العرب: الحمد لله سرارك وإهلالك وخفوق النجم ومقدم الحاج، فهذه ظرفية زمان، والعامل في هذا الظرف ما في بِسْمِ اللَّهِ من معنى الفعل، ويصح أن يكون قوله: بِسْمِ اللَّهِ في موضع خبر ومَجْراها وَمُرْساها ابتداء مصدران كأنه قال: اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها، وتكون هذه الجملة- على هذا- في موضع حال من الضمير في قوله فِيها، ولا يصح أن يكون حالا من الضمير في قوله: ارْكَبُوا لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه: وعلى هذا التأويل قال الضحاك: إن نوحا كان إذا أراد جري السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال: بِسْمِ اللَّهِ فتقف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم كيف كان.
وقوله: وَأَهْلَكَ عطف على ما عمل فيه احْمِلْ و «الأهل» هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفا ثم ذكر مَنْ آمَنَ وليس من الأهل واختلف في الذي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. والْقَوْلُ هاهنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: وَمَنْ آمَنَ عطف على قوله: وَأَهْلَكَ ثم قال إخبارا عن حالهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ واختلف في ذلك «القليل» فقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السّلام ثلاثة من بنيه: سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي ﷺ أنه قال: سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
المعنى وَقالَ نوح- حين أمر بالحمل في السفينة- لمن آمن معه: ارْكَبُوا فِيها فأنث الضمير، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر.
وفي مصحف أبيّ «على اسم الله». وقوله: بِسْمِ اللَّهِ يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله: ارْكَبُوا كما تقول: خرج زيد بثيابه وبسلاحه، أي اركبوا متبركين بالله تعالى، ويكون قوله: مَجْراها وَمُرْساها ظرفين، أي وقت إجرائها وإرسائها. كما تقول العرب: الحمد لله سرارك وإهلالك وخفوق النجم ومقدم الحاج، فهذه ظرفية زمان، والعامل في هذا الظرف ما في بِسْمِ اللَّهِ من معنى الفعل، ويصح أن يكون قوله: بِسْمِ اللَّهِ في موضع خبر ومَجْراها وَمُرْساها ابتداء مصدران كأنه قال: اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها، وتكون هذه الجملة- على هذا- في موضع حال من الضمير في قوله فِيها، ولا يصح أن يكون حالا من الضمير في قوله: ارْكَبُوا لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه: وعلى هذا التأويل قال الضحاك: إن نوحا كان إذا أراد جري السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال: بِسْمِ اللَّهِ فتقف.
172
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم- في رواية أبي بكر وابن عامر: «مجراها ومرساها» بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «مجراها» بفتح الميم وكسر الراء، وكلهم ضم الميم من «مرساها» وقرأ الأعمش وابن مسعود «مجراها ومرساها» بفتح الميمين، وذلك من الجري والرسو وهذه ظرفية مكان، ومن ذلك قول عنترة: [الكامل]
واختار الطبري قراءة «مجراها» بفتح الميم الأولى وضم الثانية، ورجحها بقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي، ولم يقرأ أحد، «تجري» وهي قراءة ابن مسعود أيضا رواها عنه أبو وائل ومسروق. وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاري والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام:
«مجريها ومرسيها» وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله بِسْمِ اللَّهِ.
وقوله إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم.
وقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ الآية، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطرفيه، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع، فهكذا كان التقاء الماء، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعا وقيل خمسة عشرة ذراعا وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق: ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا؟.
وقرأت فرقة: «ابنه» على إضافة الابن إلى نوح، وهذا قول من يقول: هو ابنه لصلبه، وقد قال قوم:
إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حنانا منه وتلطفا، وقرأ ابن عباس «ابنه» بسكون الهاء، وهذا على لغة لأزد السراة ومنه قول الشاعر: [الطويل] ومطواي مشتاقان له أرقان وقرأ السدي «ابناه» قال أبو الفتح: ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية، وقرأ عروة بن الزبير أيضا وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنه» على تقدير ابنها، فحذف الألف تخفيفا وهي لغة ومنها قول الشاعر: [البسيط]
وعمرت حرسا قبل مجرا داحس | لو كان للنفس اللجوج خلود |
فصبرت نفسا عند ذلك حرة | ترسو إذا نفس الجبان تطلع |
«مجريها ومرسيها» وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله بِسْمِ اللَّهِ.
وقوله إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم.
وقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ الآية، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطرفيه، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع، فهكذا كان التقاء الماء، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعا وقيل خمسة عشرة ذراعا وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق: ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا؟.
وقرأت فرقة: «ابنه» على إضافة الابن إلى نوح، وهذا قول من يقول: هو ابنه لصلبه، وقد قال قوم:
إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حنانا منه وتلطفا، وقرأ ابن عباس «ابنه» بسكون الهاء، وهذا على لغة لأزد السراة ومنه قول الشاعر: [الطويل] ومطواي مشتاقان له أرقان وقرأ السدي «ابناه» قال أبو الفتح: ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية، وقرأ عروة بن الزبير أيضا وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنه» على تقدير ابنها، فحذف الألف تخفيفا وهي لغة ومنها قول الشاعر: [البسيط]