تفسير سورة هود

اللباب
تفسير سورة سورة هود من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة هود-عليه الصلاة والسلام-
قال ابن عباس : هي مكية إلا قوله :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾١ [ هود : ١١٤ ].
وهنا سؤالان :
الأول : أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة، وهي قصة موسى-عليه الصلاة والسلام- وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة ؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " -عليه السلام- كما سميت سورة يوسف- عليه الصلاة والسلام-، وسورة " نوح " -عليه الصلاة والسلام.
السؤال الثاني : أن في هذه السورة قصصا كثيرة، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها ؟.

فصل


يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه، وذلك باعتبارين :
وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعيّن منعه من الصرف، وهذا رأي الخليل وسيبويه. وكذلك " نوح "، و " لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما، فتقول : قرأت هود ونوح، وتبركت بهود، ونوح، ولوط.
فإن قلت : قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : هند ودعد، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : نوح ولوط حكمه الصرف وتركه، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح.
فالجواب : أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتّم منعه، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو : ماه وجور.
وهود ونوح من هذا القبيل، فإن " هود " في الأصل لمذكر، وكذلك نوح، ثم سمي بهما السورة، وهي مؤنثة، وإن كان تأنيثها مجازيا، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه، فتقول : قرأت هودا ونوحا يعني : سورة هود وسورة نوح، وقد جوّز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر، وفيه ضعف، ولا خفاء أنك قصدت ب " هود " و " نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه. وقد عقد النحويون لأسماء السور، والألفاظ، والأحياء والقبائل، والأماكن باب في منع الصرف وعدمه، حاصله : أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة، أو كلمة منعت. وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا، أو غير سورة، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٧٦) وعزاه إلى النحاس في تاريخه وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن بن عباس..

«كِتَابٌ» يجوز أن يكون خبراً ل: «ألف لام راء»، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ.
قال الزجاج: هذا غلطٌ؛ لأنَّ «الر» ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب: وهذا اعتراضٌ فاسدٌ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره: ذلك كتابٌ.
قال ابن الخطيب: «وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين» :
الأول: أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله: «الر» كلاماً باطلاً لا فائدة فيه.
والثاني: أنك إذا قلت: هذا كتابٌ، فقولك: «هذا» يكون إشارة إلى الآيات المذكورات، وذلك هو قوله: «الر» فيصير حينئذ «الر» مخبراً عنه بأنه ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾. وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ٢] قوله: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ في محلِّ رفع صفةً ل «كِتابٌ»، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ، أي: صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ، كقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ٢]. ويجوز أن يكونَ من قولهم: «أحْكمتُ الدَّابَّة» إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ؛ كقول جريرٍ: [الكامل]
427
٢٩٤١ - أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا
فالمعنى: أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ.
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ، والمعنى: أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً.
ويجوز أن يكون قوله: «أحْكِمَتْ» أي: لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها.
قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
قوله: «ثُمَّ فُصِّلَتْ» «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ.
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية «فَصَلَتْ» بفتحتين خفيفة العين.
قال أبو البقاء: والمعنى: فرقَتْ، كقوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، أي: فارق وفسَّرها غيرهُ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ، وهو أحسنُ.
وجعل الزمخشريُّ «ثم» للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ، فقال: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» ؟
قلت: ليس معناها التَّراخِي في الوقت، ولكن في الحالِ، كما تقولُ: هي محكمةٌ أحسن الإحكام، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل، وفلانٌ كريمُ الأصل، ثُمَّ كريمُ الفعل.
وقرىء أيضاً: «أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ» بإسناد الفعلين إلى «تاءِ» المتكلم، ونصب «آياته» مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياته، ثم فصَّلتها، حكى هذه القراءة الزمخشري.

فصل


قال الحسن: أحكمت بالأمْر والنَّهي، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ: أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض.
وقال مجاهدٌ: «فُصِّلتْ» أي: فسرت
428
وقيل: «فُصِّلَتْ» أي: أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ﴾ [الأعراف: ١٣٣]، وقيل: جعلت فصولاً: حلالاً، وحراماً، وأمثالاً، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً.

فصل


احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قال: المحكم هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن، لَمْ يصحَّ ذلك؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ، ولا يجوز أن يقال: كان موجُوداً غير محكم، ثم جعله الله مُحْكَماً؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ.
الثاني: أنَّ قوله: «فُصِّلَتْ» يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل.
الثالث: قوله تعالى: ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، والمرادُ من عنده، والقديمُ لا يقال: إنَّهُ حصل من عند قديم آخر؛ لأنَّهما إن كانا قديمين، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
قوله: «مِن لَّدُنْ» أي: من عند، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل «كِتَابٌ» وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني: «أحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من باب التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزَّمخشري فقال: وأن يكون صلة «أحكمت» «فُصِّلتْ»، أي: من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا، والمعنى: أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها، أي: شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ.
قال أبُو حيان: لا يريدُ أنَّ «مِنْ لدُن» متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً: ويجُوزُ أن يكون مفعولاً، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ.
قوله: «أن لا تَعْبدُوا» فيه أوجهٌ:
أحدها: أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة، و «لا تَعْبُدُوا» جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل «أنْ» المخففة، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ.
والثاني: أنَّها المصدرية النَّاصبة، ووصلت هنا بالنَّهي، ويجوز أن تكون «لا» نافية،
429
والفعل بعدها منصوبٌ ب «أنْ» نفسها، وعلى هذه التقادير ف «أنْ» : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعاملُ: إمَّا «فُصِّلتْ» وهو المشهورُ، وإمَّا «أحْكِمَتْ» عند الكوفيين.
فتكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنَّ المعنى: أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا. ف «أنْ لا تعبدُوا» هو المفعول الثاني ل «ضمَّن» والأولُ قام قمام الفاعل.
والرفع فمن أوجه:
أحدها: أنَّها مبتدأٌ، وخبرها محذوفٌ، فقيل: تقديره: من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
وقيل: تقديره: في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله.
والثاني: خبر مبتدأ محذوف، فقيل: تقديره: تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله.
وقيل: تقديره: هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته».
قال أبو حيَّان: وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ «آيات» أو من موضعها، يعني: أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ، وهي مسألة خلافٍ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى، فيقال: ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ، ورفعها باعتبار اللفظ، أمْ لا؟.
مذهبان، المشهور مراعاة اللفظ فقط.
الوجه الثالث: أن تكون مفسرة؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول؛ فكأنَّه قيل: لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم، وهذا أظهرُ الأقوالِ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار.
قوله: «مِنْهُ» في هذا الضمير وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ يعودُ على الله تعالى، أي: إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير، نذير للعاصين، وبشير للمطيعين.
قال أبو حيان: فيكون في موضع الصِّفةِ، فيتعلقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ، فيكف تجعل صفةً ل «نذير» ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحالِ، والتقدير: كائناً من جهته.
الثاني: أنَّهُ يعودُ على الكتابِ، أي: نذيرٌ لكم من مخالفته، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان:
أحدهما: أنَّه حالٌ من نذير، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم.
والثاني: أنه متعلقٌ بنفس نذير، أي: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
430
وقدَّم الإنذار؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ.
قوله: ﴿وَأَنِ استغفروا﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها عطفٌ على «أن» الأولى، سواء كانت «لا» بعدها نَفْياً أو نَهْياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «أنْ» هذه.
والثاني: أن تكون منصوبةً على الإغراءِ.
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه: ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة، ويدل عليه قوله: ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ كأنه قال: ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى:
﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤].
قوله: ﴿ثُمَّ توبوا﴾ عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار، و «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» في قوله ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها، كقوله: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ [الأحقاف: ١٣].
قال شهابُ الدِّين: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «تُوبُوا» ب «أخْلِصُوا التَّوبة».
قال الفراء: «ثُمَّ» ههنا بمعنى الواو، أي: وتوبوا إليه، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار.
وقيل: وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف.
وقيل: إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب.
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر.
قوله: «يُمَتِّعكُم» جوابُ الأمرِ. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ: هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [البقرة: ٤٠].
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن «يُمْتِعُكُم» بالتخفيف من أمتع.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ ﴿فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً﴾ بالتخفيف كهذه القراءة [البقرة: ١٢٦].
قوله «متَاعاً» في نصبه وجهان:
431
أحدهما: أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ، إذ التقديرُ: تَمْتِيعاً، فهو كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧].
والثاني: أن ينصب على المفعول به، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به، فهو كقولك: «متعت زيداً أثواباً».
قال المفسِّرون: يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ «إلى أجلٍ مُسَمًّى» إلى حين الموتِ. فإن قيل: أليس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر»
؟. وقال أيضاً: «خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ».
وقال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا، فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار.
الثاني: أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارةُ بقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ﴾
[طه: ١٣٢].
الثالث: أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه، وأَمِنَ من زوال محبوبه.
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧].
فإن قيل: هل يدل قوله ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ على أنَّ للعبدِ أجليْنِ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟.
فالجواب: لا، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً.
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
قوله: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ «كُلَّ» مفعول أوَّل، و «فَضلهُ» مفعولٌ ثانٍ.
432
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك. والضَّمير في «فَضْلَهُ» يجوز أن يعود على الله تعالى، أي: يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله، أي: ثوابهُ، وأن يعود على لفظِ «كُلّ»، أي: يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله، لا يبخَسُ منه شيئاً، أي: جزاء عمله.
قال المفسِّرون: ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة.
وقال أبو العالية: من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال.
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة، ومن زادت سيئاته على حسناته، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته، كان من أهْلِ الأعرافِ، ثم يدخلون الجنة».
ثم قال: ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ وهو يومُ القيامةِ.
وقرأ الجمهور «تَولَّوْا» بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة، وفيها احتمالان:
أحدهما: أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: «تَنَزَّلُ».
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ، وهذا هو الظَّاهر. ولذلك جاء الخطابُ في قوله: «عليْكُم».
والثاني: أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: إنِّي أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإنِّي أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضمِّ التَّاءِ، وفتح الواوِ وضم اللام، وهو مضارعُ «ولَّى» ؛ كقولك: زكَّى يزكِّي.
ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير، والأصلُ «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدحْرجُوا، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ، فحذفت فالتقى ساكنان؛ فحذفت الياءُ، لأنَّهما أولهما؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير؛ فصار وزنهُ «تُفُعُّوا» بحذف لامه، والواو قائمةٌ مقام الفاعل.
وقرأ الأعرجُ «تُولُوا» بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع «أوْلَى»، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى.
433
و «كَبِيرٍ» صفةٌ ل «يَوْمٍ» مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ.
وقيل: بل «كَبيرٍ» صفةٌ ل «عذابَ» فهو منصوبٌ، وإنَّما خفض على الجوارِ؛ كقوله: «هذا جُحر ضبٍّ خربٍ» بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل «جُحْرٌ» ؛ وقول امرىء القيس: [الطويل]
٢٩٤٢ - كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ
بجر «مُزَمَّل» وهو صفةٌ ل «كبير». وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة.
ثم قال: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
وهذا فيه تهديدٌ وبشارة، فالتَّهديد قوله ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ﴾ يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه، ولا مانع لمشيئته، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل، وأمَّا البشارةُ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم، وعلى ضعف تام، وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة، ومنه المثل المشهور «إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ».
434
قوله :" أن لا تَعْبدُوا " فيه أوجهٌ :
أحدها : أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة، و " لا تَعْبُدُوا " جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل " أنْ " المخففة، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ.
والثاني : أنَّها المصدرية النَّاصبة، ووصلت هنا بالنَّهي، ويجوز أن تكون " لا " نافية، والفعل بعدها منصوبٌ ب " أنْ " نفسها، وعلى هذه التقادير ف " أنْ " : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل : لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعاملُ : إمَّا " فُصِّلتْ " وهو المشهورُ، وإمَّا " أحْكِمَتْ " عند الكوفيين.
فتكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنَّ المعنى : أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا. ف " أنْ لا تعبدُوا " هو المفعول الثاني ل " ضمَّن " والأولُ قام قمام الفاعل.
والرفع فمن أوجه :
أحدها : أنَّها مبتدأٌ، وخبرها محذوفٌ، فقيل : تقديره : من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
وقيل : تقديره : في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله.
والثاني : خبر مبتدأ محذوف، فقيل : تقديره : تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله.
وقيل : تقديره : هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله.
والثالث : أنه مرفوعٌ على البدل من " آياته ".
قال أبو حيَّان : وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ " آيات " أو من موضعها، يعني : أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ، وهي مسألة خلافٍ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى، فيقال : ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ، ورفعها باعتبار اللفظ، أمْ لا ؟.
مذهبان، المشهور مراعاة اللفظ فقط.
الوجه الثالث : أن تكون مفسرة ؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول ؛ فكأنَّه قيل : لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم، وهذا أظهرُ الأقوالِ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار.
قوله :" مِنْهُ " في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ يعودُ على الله تعالى، أي : إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير، نذير للعاصين، وبشير للمطيعين.
قال أبو حيان : فيكون في موضع الصِّفةِ، فيتعلقُ بمحذوفٍ، أي : كائن من جهته، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد ؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ، فيكف تجعل صفةً ل " نذير " ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ، فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحالِ، والتقدير : كائناً من جهته.
الثاني : أنَّهُ يعودُ على الكتابِ، أي : نذيرٌ لكم من مخالفته، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من نذير، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم.
والثاني : أنه متعلقٌ بنفس نذير، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
وقدَّم الإنذار ؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ.
قوله :﴿ وَأَنِ استغفروا ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها عطفٌ على " أن " الأولى، سواء كانت " لا " بعدها نَفْياً أو نَهْياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى " أنْ " هذه.
والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ.
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة، ويدل عليه قوله :﴿ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ].
قوله :﴿ ثُمَّ توبوا ﴾ عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار، و " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " في قوله ﴿ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها، كقوله :﴿ ثُمَّ استقاموا ﴾ [ الأحقاف : ١٣ ].
قال شهابُ الدِّين١ : قوله :" أو استغفروا " إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل " تُوبُوا " ب " أخْلِصُوا التَّوبة ".
قال الفراء :" ثُمَّ " ههنا بمعنى الواو، أي : وتوبوا إليه، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار.
وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف.
وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب.
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر.
قوله :" يُمَتِّعكُم " جوابُ الأمرِ. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : ٤٠ ].
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن٢ " يُمْتِعُكُم " بالتخفيف من أمتع.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ ﴿ فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً ﴾ بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : ١٢٦ ].
قوله " متَاعاً " في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً، فهو كقوله :﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ].
والثاني : أن ينصب على المفعول به، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به، فهو كقولك :" متعت زيداً أثواباً ".
قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ " إلى أجلٍ مُسَمًّى " إلى حين الموتِ. فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :" الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر " ؟.
وقال أيضاً :" خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ ".
وقال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا، فكيف الجمع بينهما ؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار.
الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارةُ بقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾
[ طه : ١٣٢ ].
الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه، وأَمِنَ من زوال محبوبه.
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ].
فإن قيل : هل يدل قوله ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ على أنَّ للعبدِ أجليْنِ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير ؟.
فالجواب : لا، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً.
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾.
قوله :﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ " كُلَّ " مفعول أوَّل، و " فَضلهُ " مفعولٌ ثانٍ.
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك. والضَّمير في " فَضْلَهُ " يجوز أن يعود على الله تعالى، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله، أي : ثوابهُ، وأن يعود على لفظِ " كُلّ "، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله، لا يبخَسُ منه شيئاً، أي : جزاء عمله.
قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة.
وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة ؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال.
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - :" مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة، ومن٣ زادت سيئاته على حسناته، دخل النَّار، ومن استوت حسناته وسيئاته، كان من أهْلِ الأعرافِ، ثم يدخلون الجنة " ٤.
ثم قال :﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ وهو يومُ القيامةِ.
وقرأ الجمهور " تَولَّوْا " بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو :" تَنَزَّلُ ".
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ، وهذا هو الظَّاهر. ولذلك جاء الخطابُ في قوله :" عليْكُم ".
والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر٥ :" تُوَلُّوا " بضمِّ التَّاءِ، وفتح الواوِ وضم اللام، وهو مضارعُ " ولَّى " ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي.
ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر :" وإن تُوُلُّوا " بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه ؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً ؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير، والأصلُ " تُوُلِّيُوا " نحو : تُدحْرجُوا، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ، فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياءُ، لأنَّهما أولهما ؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير ؛ فصار وزنهُ " تُفُعُّوا " بحذف لامه، والواو قائمةٌ مقام الفاعل.
وقرأ الأعرجُ٦ " تُولُوا " بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع " أوْلَى "، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى.
و " كَبِيرٍ " صفةٌ ل " يَوْمٍ " مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ.
وقيل : بل " كَبيرٍ " صفةٌ ل " عذابَ " فهو منصوبٌ، وإنَّما خفض على الجوارِ ؛ كقوله :" هذا جُحر ضبٍّ خربٍ " بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل " جُحْرٌ " ؛ وقول امرىء القيس :[ الطويل ]
كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ٧
بجر " مُزَمَّل " وهو صفةٌ ل " كبير ". وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة.
١ ينظر: الدر المصون ٤/٧٧..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤٩، البحر المحيط ٥/٢٠٢، الدر المصون ٤/٧٧..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٣)..
٤ انظر المصدر السابق..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٥٠ والبحر المحيط ٥/٢٠٢ والدر المصون ٤/٧٧..
٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٠٢ والدر المصون ٤/٧٧..
٧ تقدم..
ثم قال :﴿ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وهذا فيه تهديدٌ وبشارة، فالتَّهديد قوله ﴿ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ ﴾ يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه، ولا مانع لمشيئته، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل، وأمَّا البشارةُ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم، وعلى ضعف تام، وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك ؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة، ومنه المثل المشهور " إذَا ملكْتَ فأسْجِحْ ".
لمَّا قال: «وإن تولَّوْا» عن عبادة الله وطاعته، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ﴾ يعني الكُفَّار ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ يقال: ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته.
وقرأ الجمهور: بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة، وهو مضارع «ثَنَى يَثْني ثَنْياً»، أي طوى وَزَوى، و «صُدُورهم» مفعول به، والمعنى: يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله، والأصل «يَثْنِيُونَ» فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين.
وقرأ سعيدُ بن جبير «يُثْنُون» وهو مضارع «أثْنَى» كأكرم.
واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ: ماضيه أثنى، ولا يعرفُ في اللغةِ، إلاَّ أنْ يقال: معناه عرضُوها للانثناء، كما يقال: أبعت الفرسَ: إذا عرضته للبيع.
وقال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب، إلاَّ أن يرادَ به، وجدتُهَا مثْنِيَّة، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه، ولعلَّه فتح النون، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب «
434
صُدُورَهُم» بنزع الخافض، ويجُوزُ على ذلك أن يكون «صُدُورَهُم» رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله: ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي: ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ «يُثْنَون» فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قوله: وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك، فعلى هذا يكونُ «صُدورهُم» منصُوباً بنزعِ الخافضِ، أي: في صدورهم، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك: ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ. ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب «صُدُورهُم» على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وعليُّ بنُ الحسين، وابناه زيد، ومحمد، وابنه جعفر، ومجاهد، وابن يعمر، وعبد الرحمن بن أبزى، وأبو الأسود «تَثنَوْني» مضارع «اثْنَوْنَى» على وزنِ «افْعَوْعَلَ» من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ، «صُدُورهُم» بالرَّفع على الفاعلية.
ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق: «يَثْنَوْنَى صدورهم» بالياءِ والتَّاءِ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ.
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش «تَثْنَوِنُّ» بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل: «تَثْنَوْنِنُ» بوزن «تَفْعَوْعِلُ» من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ، يريد مطاوعة نوفسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم.
و «صدورهم» بالرَّفع على الفاعلية.
وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل «تطمئن».
وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة.
والثاني: أن وكنه «تَفْعَيِيلٌ» من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم، وذلك أنَّهُ مضارع ل «اثْنَان» مثل احْمَارَّ واصفارَّ، وقد تقدَّم [يونس: ٢٤] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٤٣ -.............................................. بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ
435
فجاء مضارع «اثْنَأنَّ» على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ.
وأمَّا «صُدورُهم» فبالرَّفع على ما تقدَّم.
وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون. صُدورَهُم بالنَّصْبِ.
قال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا أعرف وجهه يقال: «ثَنَيْتُ» ولم أسمعْ «ثَنَأتُ»، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول: «أعْطات» في «أعْطَيْتُ»، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول: ﴿ولا الضَّأْلين﴾ [الفاتحة: ٧].
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «تَثْنَوِى» بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة «تَرْعَوِى» وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ: ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه، أي: كففته فارعَوَى، أي: فانكفَّ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر.
وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق «يَنْثُونَ» بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً «لَتَثْنَونِ» بلام التأكيد في خبر «إنَّ» وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة «تَفْعَوْعِلُ»، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدْرِ وما أدْرِ. و «صُدورهم»، فاعل كما تقدم.
وقرأ طائفة: «تَثنؤنَّ» بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها، فصار اللفظُ «تَثْنَوونَ» ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم: «أجُوه» في «وُجُوه» و «أقِّتَتْ» في «وقِّتَت» فصار «تَثْنَؤونَ»، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها؛ فصار «تَثْنَؤنَّ» كما ترى و «صُدورَهُم» منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة.
قوله تعالى: ﴿لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ فيه وجهان:
436
أحدهما: أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب «يَثْنُونَ» كذا قاله الحوفيُّ، والمعنى: أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ. وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه.
والثاني: أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ.
قال الزمخشريُّ: «لِيَسْتخُفُوا منهُ» يعنى ويريدون: ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ، ونظيرُ إضمار «يريدون» لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣] معناه: «فضرب فانفلق».
قال شهاب الدين: وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل «فضرب فانفلق»، وأمَّا في هذه، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ.
والضَّميرُ في «مِنْهُط فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب»
يَثْنُونَ «.
والثاني: أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ.
قوله: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ، فقدَّره الزمخشري ب»
يريدون «كما تقدم، فقال: ومعنى (ألا حين يستغشون ثيابهم) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله، كقول نُوحٍ ﴿جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: ٧]، وقدَّره أبو البقاء فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم) : يستخفون.
والثاني: أنَّ النَّاصب له»
يَعْلَمُ «، أي: ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت.
وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ.
و»
ما «يجُوزُ أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى» الذي «، والعائدُ محذوفٌ، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ، وكان رجلاً حلو
437
الكلام حلو المنظر، يلقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يحبُّ، وينطوي له بقلبه على ما يكره.
فقوله: ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ.
قال عبدُ الله بنُ شداد: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطَّى وجهه، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال قتادة: كانوا يخفون صدورهم، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره.
وقيل: كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحْنِي ظهرهُ، ويتغشَّى بثوبه، ويقول: هل يعلمُ الله ما في قلبي.
وقال السُّدي: «يَثْنُونَ صُدورَهُمْ» أي: يُعرضُون بقلوبهم، من قولهم: ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي: من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقال مجاهدٌ: من الله عَزَّ وَجَلَّ.
﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ يغطون رؤوسهم بثيابهم و «ألا» كلمة تنبيه أي: ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾.
قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها: إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يخفى علينا حالهم.
وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ قال: كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السَّماءِ؛ فنزل ذلك فيهم.
لمَّا ذكر أنه: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات.
438
قال الزجاجُ: الدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوان، مأخوذ من الدَّبيبِ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث، هذا موضوعها اللُّغوي، و «مِنْ» صلة، ﴿إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. وقيل: «على» بمعنى «من» أي: من الله رزقها.
قال مجاهدٌ: ما جاءها من رزق فمن الله، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً. ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ قال ابنُ مقسم: ويروى عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «مُسْتقرَّهَا» المكانُ الذي تأوي إليه، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً «ومُسْتوْدعهَا» الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعودٍ: المستقرُّ: أرحامُ الأمَّهات، والمستودع: أصلابُ الآباء. ورواه سعيدُ بن جبيرٍ، وعليُّ بن أبي طلحة، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس. وقيل: المستقر: الجنة أو النار، والمستودع: القبر، لقوله تعالى في صفة الجنة، والنار ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ [الفرقان: ٧٦] ﴿سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ [الفرقان: ٦٦].
﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. قال الزَّجَّاجُ: «معناه: كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله».
وقيل: كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.
قوله: ﴿مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ يجوزُ أن يكونا مصدرين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوزُ أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكون «مُستوْدعهَا» اسم مفعول لتعدِّي فعله، ولا يجوز ذلك في «مُسْتَقَر» ؛ لأنَّ فعله لازمٌ، نظيره في المصدرية قول الشاعر: [الوافر]
٢٩٤٤ - ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي...............................
أي: تَسْريحي.
و «كُلُّ» المضافُ إليه محذوفٌ تقديره: كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين.
439
قال الزجاجُ : الدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوان، مأخوذ من الدَّبيبِ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث، هذا موضوعها اللُّغوي، و " مِنْ " صلة، ﴿ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. وقيل :" على " بمعنى " من " أي : من الله رزقها.
قال مجاهدٌ : ما جاءها من رزق فمن الله، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً١. ﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ قال ابنُ مقسم : ويروى عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - " مُسْتقرَّهَا " المكانُ الذي تأوي إليه، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً " ومُسْتوْدعهَا " الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت٢. وقال عبد الله بن مسعودٍ : المستقرُّ : أرحامُ الأمَّهات، والمستودع : المكان الذي تموت فيه، وقال عطاء : المستقر أرحام الأمهات، والمستودع أصلابُ الآباء٣. ورواه سعيدُ بن جبيرٍ، وعليُّ بن أبي طلحة، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس. وقيل : المستقر : الجنة أو النار، والمستودع : القبر، لقوله تعالى في صفة الجنة، والنار ﴿ حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾٤ [ الفرقان : ٧٦ ] ﴿ سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ].
﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾. قال الزَّجَّاجُ :" معناه : كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله ".
وقيل : كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.
قوله :﴿ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ يجوزُ أن يكونا مصدرين، أي : استقرارها واستيداعها، ويجوزُ أن يكونا مكانين، أي : مكان استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكون " مُستوْدعهَا " اسم مفعول لتعدِّي فعله، ولا يجوز ذلك في " مُسْتَقَر " ؛ لأنَّ فعله لازمٌ، نظيره في المصدرية قول الشاعر :[ الوافر ]
ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي ***. . . ٥
أي : تَسْريحي.
و " كُلُّ " المضافُ إليه محذوفٌ تقديره : كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣-٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ أخرجه الطبري (٧/٤) والحاكم (٢/٣٤١) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٤)..

٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٤)..
٥ تقدم..
لمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقدم كونه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه قادراً على المقدورات وقد مضى تفسير ﴿خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أول يونس.
قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله - عزَّ وجلَّ - ياقوتةٌ خضراء، ثمَّ نظر إليها بالهيبة فصار ماءً يرتعدُ، ثمَّ خلق الرِّيح؛ فجعل الماء على متنها، ثمَّ وضع العرش على الماء. وقال غيره: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - كان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وخلق القلم؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه.
قالت المعتزلةُ: في الآية دلالة على وجودِ الملائكة قبل خلق السموات والأرض، لأن خلقهما: إمَّا أن يكون لمنفعة، أو لا لمنفعة والثاني عبث، فينبغي أنَّهُ خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إمَّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محالٌ، لكونه متعالياً عن النفع والضر؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصٌّ بالغير، فوجب كون الغير حيّاً؛ لأنَّ غير الحيِّ لا ينتفع، وكلُّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة.
فإن قيل: ما الفائدةُ في ذكر أنَّ عرشهُ كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض؟.
فالجوابُ أنَّ فيه دلالةً على كمالِ القدرة من وجوه:
أحدها: أنَّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماءِ؛ فلولا أنه تعالى قادرٌ على إمساكِ الثَّقيل بغير عمدٍ لما صحَّ ذلك.
وثانيها: أنَّه تعالى أمسك الماءَ لا على قرار، وإلاَّ لزم أن يكون أجسام العالمِ غير متناهية فدل على كمال القدرة.
وثالثها: أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فدل على كمال القدرة.
قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» في هذه اللاَّم وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديره: أعلم ذلك ليبْلُوكمْ، وقيل: ثمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقةُ لهما لمنافع يعودُ عليكم نفعها في الدُّنيا دون الآخرة، وفعل ذلك ليبلوكم.
440
وقيل: تقديره: وخلقكم ليبلوكم.
والثاني: أنها متعلقةٌ ب «خلقكم».
قال الزمخشريُّ: أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النِّعمِ ويُكلِّفهم فعل الطَّاعاتِ واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبة، ولمَّا أشبه ذلك اختبارَ المختبر قال «ليبلُوَكمْ»، يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلي. واعلم أنه لمَّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنَّ الابتلاء والامتحان يوجب الرَّحمة والثَّواب للمحسن والعقاب للمسيء، وذلك لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالمعادِ والقيامة، فعند هذا خطاب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف، وكرم ومجد وبجل، وعظم، وقال: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: إنكم تنكرونَ هذا الكلام، وتحكمون بفساد القول بالبعث.
قوله: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّهُ متعلقٌ بقوله «لِيَبْلُوكُمْ».
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعل البلوى؟ قلتُ: لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقولُ: انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً؛ لأنَّ النَّظر والاستماع من طرق العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه، فهو ملابسٌ له، وقد أخذه أبو حيَّان في تمثيله بقوله: «واسْتمِعْ» فقال: «لَمْ أعلمْ أحداً ذكر أنَّ» استمع «يعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القُلُوب» سَلْ «، و» انْظُر «وفي جواز تعليق» رَأى «البصرية خلاف».
قوله: «ولَئِن قُلْتَ» هذه لامُ التَّوطئة للقسم، و «ليَقُولنَّ» جوابه، وحذف جوابُ الشَّرط لدلالة جواب القسم عليه، و «إنَّكُم» محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرَت في قراءةِ الجمهور.
وقرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري:
أحدهما: أنها بمعنى «لَعَلَّ» قال: من قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحْماً، أي: لعلَّك، أي: ولئنْ قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعُوا بعثَكُم وظنُّوه، ولا تَبُثُّوا القول بإنكاره، لقالوا.
والثاني: أن تُضَمِّنَ قلت معنى: «ذكَرْتَ» يعني فتفتح الهمزة، لأنَّها مفعولُ «ذَكَرْتَ» قوله: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ﴾ قد تقدَّم أنَّه قُرىء «سِحْر» و «سَاحر»، فمن قرأ «سِحْرٌ» ف «هذا» إشارةٌ إلى البَعْثِ المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن، لأنَّهُ ناطقٌ بالبعثِ ومن قرأ «
441
سَاحِر» فالإشارةُ ب «هذا» إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويجوز أن يُرادَ ب «هذا» في القراءة الأولى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون جعلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلاَّ ذُو سحرٍ، ويجوز أن يراد ب «سَاحِر» نفسُ القرآن مجازاً كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» و «جَدَّ جَدُّهُ».
فإن قيل: كيف يمكن وصفُ هذا القول بأنه سِحْرٌ؟
فالجواب: من وجوه.
أحدها: قال القفال: معناه أنَّ هذا القول خديعة منكم، وضَعْتُمُوهُ لمنع الناس من لذَّاتِ الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقيادِ لكُم والدُّخُول تحت طاعتكم.
وثانيها: أن قولهم ﴿نْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ معناه: أنَّ السِّحر أمرٌ باطلٌ، قال تعالى حاكياً عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: ٨١].
وثالثها: أنَّ القرآن هو الحاكمُ بحصول البعثِ، وطعنُوا في القرآن بكونه سِحْراً، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع.
ورابعها: قراءة حمزة والكسائي «إن هذا إلاَّ ساحرٌ» والسَّاحرُ كاذبٌ.
442
قال الحسنُ: حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء: ما الذي حبسهُ عنَّا؟.
وقيل: المرادُ بالعذاب: ما نزل بهم يوم بدرٍ.
وأصل «الأمَّة» الجماعة، قال تعالى: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس﴾ [القصص: ٢٣] وقوله: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، أي: انقضاء أمة، فكأنَّهُ قال: إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى.
وقيل: اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ، وهو القصد، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه. ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ أي شيء يحبسه، يقولون ذلك، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً، يعنُون أنه ليس بشيء.
قوله: «لَيَقولُنَّ» هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً، إذ الأصل: «لَيَقُولُوننَّ» النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال،
442
فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
و «مَا يَحْبِسُهُ» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يَحْبِسُهُ» خبره، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله: «ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ» «يَوْمَ» منصوبٌ ب «مَصْرُوفاً» الذي هو خبرُ «ليس»، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس» عليهما، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل، و «يوم» منصوب ب «مَصْرُوفاً» وقد تقدَّم على «ليس» فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ.
وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين:
أحدهما: أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره.
والثاني: أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ٩، ١٠] ف «اليتيمَ» منصوبٌ ب «تَقْهَرْ»، و «السَّائِل» منصوبٌ ب «تَنْهَرْ» وقد تقدَّما على «لا» النَّاهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على «لا»، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به.
قال أبُو حيَّان: وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليسَ» عليها، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر: [الطويل]
٢٩٤٥ - فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ
واسمُ «ليس» ضميرٌ عائدٌ على «العذاب»، وكذلك فاعل «يأتيهم»، والتقدير: ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في «يَوْمَ يأتيهم» محذوفٌ تقديره: أي: لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام.
قال: ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ وذكر «حَاقَ» بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة.
443
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾ الآية.
لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب، فقال: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان﴾. وقيل: المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى ﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [العصر: ٢، ٣] ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً﴾ [المعارج: ١٩] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز.
قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية: يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله، فأنت كفورٌ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط.
وقيل: المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.
وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله: ﴿ذَهَبَ السيئات عنيا﴾ وذلك جزاءة على الله تعالى، ووصفه بكونه فرحاً ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ [القصص: ٧٦] وصفه بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين. وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنَّ لفظ «الإذَاقة والذَّوق» يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾ نعمة وسعة ﴿ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ﴾ سلبناها منه ﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ في الشِّدة كفور بالنعمة.
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ﴾ قال الوَاحديُّ: النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو: حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء.
444
والمعنى: إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه: ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عنيا﴾ زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح: لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.

فصل


اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس.
فأمَّا الأوَّلُ: فهو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ [هود: ٩] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ.
وأمَّا المسلمُ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه، فلا ييأس، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن، وأكمل ممَّا كانت، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً.
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة.
قوله: «لفرحٌ» قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ، وهو قياسُ اسم الفاعل من «فَعِلَ» اللاَّزم بكسر العين نحو: أشِرَ فهو أشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ، وقرئ شاذاً «لَفَرُحٌ» بضمِّ الرَّاء نحو: يَقِظٌ ويَقُظٌ، وندِس وندُس.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه.
والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ.
والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ وهو منقطعٌ أيضاً. والمعنى: أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين.
قال الفراء: هو استثناءٌ منقطع معناه: لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا.
445
ثم قال: ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ يجوزُ أن يكون «مَغْفِرةٌ» مبتدأ، و «لهُم» الخبرُ، والجملة خبر «أولئكَ»، ويجوز أن يكون «لَهُم» خبر «أولئكَ» و «مَغْفِرَةٌ» فاعلٌ بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين:
أحدهما: زوال العقاب بقوله: «لَهُم مَغْفرةٌ» والثاني: الفوز بالثَّواب بقوله «وأجْرٌ كبيرٌ».
قوله: «فَلَعَلَّكَ» الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب.
وقيل: هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - «لعلَّنا أعْجلنَاكَ».
فإن قيل: «فَلعَلَّك» كلمة شك فما فائدتها؟.
فالجوابُ: أنَّ المراد منها الزَّجرُ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه، ويقول لولده: لعلك تقصر فيما أمرتك، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وقوله: «وضَائِقٌ» نسقٌ على «تَاركٌ»، وعدل عن «ضيِّق» وإن كان أكثر من «ضائق».
قال الزمخشريُّ: ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت: سائِدٌ وجائدٌ.
قال أبُو حيَّان: وليس هذا الحكمُ مختصّاص بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حَاسِن وثَاقِل وسامِن في: «حَسُن وثقُلَ وسمُن» ؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل]
٢٩٤٦ - بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا
وقيل: إنَّما عدل عن «ضيِّق» إلى «ضَائِقٌ» ليناسب وزن «تَارِكٌ».
والهاءُ في «به» تعود على «بعض». وقيل: على «ما». وقيل: على التَّكذيب و «صَدْرُكَ» مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في «لعَلَّكَ» ؛ فيكون قد أخبر بخبرين:
أحدهما: مفرد، والثاني: جملة عطفت على مفردٍ، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائمٌ، وأبوه منطلقٌ».
قوله: «أن يقُولُوا» في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنَّ» بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافة أن يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، أو بأن يقولوا.
446
وقال أبو البقاء: لأن يقُولُوا أي: لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟.
و «لَوْلاَ» تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول.

فصل


المعنى: فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا: ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ يعنى سب الآلهة: ﴿وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ أي: ولعلَّ يضيق صدرك ﴿أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا: يا محمد: اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل: إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والرغض من ذكر هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل: الكنز كيف ينزل؟
فالجواب: أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ: إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ
447
عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
ومعنى «وكيلٌ» : حفيظ أي: يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠] إلى قوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٣].
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣].
لمَّا طلبوا منه المعجز قال: معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً.
وفي «أمْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب «بَلْ» والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراهُ لما يوحى.
والثاني: أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟
قوله»
مِثْلِهِ «نعت ل» سُورٍ «و» مثل «وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون: ٧٤] ويجوز المطابقة. قال تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ﴾ [الواقعة: ٢٢، ٢٣] وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨].
قال ابن الخطيب:»
مِثلِهِ «بمعنى» مثاله «حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في» مِثْلِهِ «تعود لما يوحى أيضاً، و» مُفْترياتٍ «صفة ل» سُورٍ «جمع» مُفْتراة «ك» مُصْطفيَات «في» مُصْطَفاة «فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.

فصل


قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود، فقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه
448
إشكال، لأنَّ هذه السُّورة مكية، وبعض السُّور المتقدمة مدنية، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور.
فإن قيل: قد قال في سورة يونس ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨] وقد عجزوا عنهُ. فكيف قال ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ﴾ فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهماً؛ فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟.
فالجوابُ: قد قيل: نزلت سورة هودٍ أولاً، وأنكر المبردُ هذا وقال: بل سورة يونس أولاً، وقال: ومعنى قوله في سورة يونس: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨] أي: مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هودٍ: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد (فأتوا بعشر سور مثله) من غير وعْدٍ ووعيدٍ، وإنما هي مجرد بلاغة.

فصل


اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً، فقيل: هو الفصاحةُ وقيل: الأسلوب، وقيل: عدم التناقض، وقيل: اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة، واستدلُّوا بهذه الآية، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم، أو الإخابر عن الغيوب، أو عدم التناقض لم يكن لقوله: «مفترياتٍ» معنى، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال: ﴿وادعوا مَنِ استطعتم﴾ واستعينوا بمن استطعتم ﴿وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ يا أصحاب محمد، وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ أي: الكفار، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا.
قوله: ﴿فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ﴾ «ما» يجوز أن تكون كافة مهيئة، وفي «أنزِلَ» ضميرٌ يعودُ على ﴿مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ [هود: ١٢]، و «بعلْم» حال أي: ملتبساً بعلمه، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل «أنّ» والخبرُ الجارُّ تقديره: فاعلموا أن تنزيله، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ.
وقرأ زيد بن علي «نزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نزَّل» ضميرُ الله تعالى، و ﴿وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ، وجملة النَّفي خبرها.
449

فصل


إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين، فالمعنى: ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ، على أنه منزَّل من عند الله.
وقوله: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي: مخلصون، وقيل: فيه إضمار، أي: فقولوا أيُّها المسلمون للكفار: اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله، يعني القرآن.
وقيل: أنزله، وفيه علمه، وإن قيل: إن هذا الخطاب مع الكفار، فالمعنى: إن الذين تدعونهم من دون الله، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن، إنما أنزل بعلمه، فهل أنتم مسلمون، فقد وقعت الحجة عليكم، وأن لا إله إلا هو، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو.
﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ لفظهُ استفهام، ومعناه أمر، أي: أسلموا.
قال بعض المفسِّرين: وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول، وهذا لا يحتاج إلى إضمار، وأيضاً: فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى، وأيضاً: فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله: ﴿مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله﴾، وأيضاً فالأول أمر بالثبات.
فإن قيل: أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية، وأين ما فيها من الجزاء؟
فالجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى، فقال: لو كان متفرًى على الله تعالى، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله، ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنَّهُ من الله، فقوله (إنا أنزل بعلم الله) : كنايةٌ عن كون من عند الله، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم: هذا الحكم جدير بعلمي.
فإن قيل: أي تعلُّق لقوله: ﴿وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ بعجزهم عن المعارضة؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة، ومن كان كذلك، فقد بطلت إلهيته، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم، فكان قوله: ﴿وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام.
وثانيها: أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلام عليه - فكأنَّهُ قيل: لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ.
450
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو، واتركُوا الإصرار على الكفر، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤].
451
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ ﴾ قال الوَاحديُّ : النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها ؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو : حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء.
والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه :﴿ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني ﴾ زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح : لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.

فصل


اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس.
فأمَّا الأوَّلُ : فهو المراد بقوله عز وجل :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴾ [ هود : ٩ ] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً ؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ. وأمَّا المسلمُ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه، فلا ييأس، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن، وأكمل ممَّا كانت، وأمَّا أن الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً.
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً ؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة.
قوله :" لفرحٌ " قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ، وهو قياسُ اسم الفاعل من " فَعِلَ " اللاَّزم بكسر العين نحو : أشِرَ فهو أشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ، وقرئ٢ شاذاً " لَفَرُحٌ " بضمِّ الرَّاء نحو : يَقِظٌ ويَقُظٌ، وندِس وندُس.
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٥٤، البحر المحيط ٥/٢٧، الدر المصون ٤/٨٢..
قوله :﴿ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه.
والثاني : أنَّهُ منقطعٌ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ.
والثالث : أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله :﴿ أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ وهو منقطعٌ أيضاً. والمعنى : أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين.
قال الفراء : هو استثناءٌ منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات ؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا.
ثم قال :﴿ أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ يجوزُ أن يكون " مَغْفِرةٌ " مبتدأ، و " لهُم " الخبرُ، والجملة خبر " أولئكَ "، ويجوز أن يكون " لَهُم " خبر " أولئكَ " و " مَغْفِرَةٌ " فاعلٌ بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين :
أحدهما : زوال العقاب بقوله :" لَهُم مَغْفرةٌ " والثاني : الفوز بالثَّواب بقوله " وأجْرٌ كبيرٌ ".
قوله :" فَلَعَلَّكَ " الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب.
وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - " لعلَّنا أعْجلنَاكَ ".
فإن قيل :" فَلعَلَّك " كلمة شك فما فائدتها ؟.
فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وقوله :" وضَائِقٌ " نسقٌ على " تَاركٌ "، وعدل عن " ضيِّق " وإن كان أكثر من " ضائق ".
قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ.
قال أبُو حيَّان١ : وليس هذا الحكمُ مختصّا بهذه الألفاظ ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في :" حَسُن وثقُلَ وسمُن " ؛ وأنشد قول الشاعر :[ الطويل ]
بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا٢
وقيل : إنَّما عدل عن " ضيِّق " إلى " ضَائِقٌ " ليناسب وزن " تَارِكٌ ".
والهاءُ في " به " تعود على " بعض ". وقيل : على " ما ". وقيل : على التَّكذيب و " صَدْرُكَ " مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في " لعَلَّكَ " ؛ فيكون قد أخبر بخبرين :
أحدهما : مفرد، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ، إذ هي بمعناه، فهو نظير :" إنَّ زيداً قائمٌ، وأبوه منطلقٌ ".
قوله :" أن يقُولُوا " في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أنَّ " بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، أو بأن يقولوا.
وقال أبو البقاء٣ : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب ؟.
و " لَوْلاَ " تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول.

فصل


المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ ﴾ يعنى سب الآلهة :﴿ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ أي : ولعلَّ يضيق صدرك ﴿ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية٤.
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ ﴾ شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟
فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
ومعنى " وكيلٌ " : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ].
١ ينظر: الدر المصون ٤/٨٣..
٢ البيت للسمهري. ينظر: البحر المحيط ٥/٢٠٨. وروح المعاني ١٢/١٩ والكشاف ٢/٣٨٢ والدر المصون ٤/٨٣..
٣ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/٣٥..
٤ ذكره الرازي في تفسيره (١٧/١٥٤)..
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ].
لمَّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً.
وفي " أمْ " هذه وجهان :
أحدهما : أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب " بَلْ " والهمزة، فالتقدير : بل أتقولون افتراه. والضمير في " افتراهُ لما يوحى.
والثاني : أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله ؟.
قوله " مِثْلِهِ " نعت ل " سُورٍ " و " مثل " وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى :﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾ [ المؤمنون : ٧٤ ] ويجوز المطابقة. قال تعالى :﴿ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ ﴾ [ الواقعة : ٢٢، ٢٣ ] وقال تعالى :﴿ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ].
قال ابن الخطيب١ :" مِثلِهِ " بمعنى " مثاله " حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع ؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في " مِثْلِهِ " تعود لما يوحى أيضاً، و " مُفْترياتٍ " صفة ل " سُورٍ " جمع " مُفْتراة " ك " مُصْطفيَات " في " مُصْطَفاة " فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.

فصل


قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود٢، فقوله عز وجل :﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه إشكال، لأنَّ هذه السُّورة مكية، وبعض السُّور المتقدمة مدنية، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام ؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور.
فإن قيل : قد قال في سورة يونس ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وقد عجزوا عنهُ. فكيف قال ﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ ﴾ فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهماً ؛ فيعجز، فيقول : أعطني عشرة ؟.
فالجوابُ : قد قيل : نزلت سورة هودٍ أولاً، وأنكر المبردُ هذا وقال : بل سورة يونس أولاً، وقال : ومعنى قوله في سورة يونس :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] أي : مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هودٍ : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد ( فأتوا بعشر سور مثله ) من غير وعْدٍ ووعيدٍ، وإنما هي مجرد بلاغة.

فصل


اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً، فقيل : هو الفصاحةُ وقيل : الأسلوب، وقيل : عدم التناقض، وقيل : اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة، واستدلُّوا بهذه الآية، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم، أو الإخبار عن الغيوب، أو عدم التناقض لم يكن لقوله :" مفترياتٍ " معنى، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك ؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال :﴿ وادعوا مَنِ استطعتم ﴾ واستعينوا بمن استطعتم ﴿ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾ يا أصحاب محمد، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده –.
١ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/١٥٦..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٧/١٥٦)..
والمرادُ بقوله :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾ أي : الكفار، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا.
قوله :﴿ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ ﴾ " ما " يجوز أن تكون كافة مهيئة، وفي " أنزِلَ " ضميرٌ يعودُ على ﴿ مَا يوحى إِلَيْكَ ﴾ [ هود : ١٢ ]، و " بعلْم " حال أي : ملتبساً بعلمه، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل " أنّ " والخبرُ الجارُّ تقديره : فاعلموا أن تنزيله، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ١.
وقرأ زيد بن علي " نزَّل " بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل " نزَّل " ضميرُ الله تعالى، و﴿ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ نسقٌ على " أنَّ " قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ، وجملة النَّفي خبرها.

فصل


إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين، فالمعنى : ابقوا على العلم الذي أنتم عليه ؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ، على أنه منزَّل من عند الله.
وقوله :﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ أي : مخلصون، وقيل : فيه إضمار، أي : فقولوا أيُّها المسلمون للكفار : اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله، يعني القرآن.
وقيل : أنزله، وفيه علمه، وإن قيل : إن هذا الخطاب مع الكفار، فالمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار ؛ أن هذا القرآن، إنما أنزل بعلمه، فهل أنتم مسلمون، فقد وقعت الحجة عليكم، وأن لا إله إلا هو، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو.
﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ لفظهُ استفهام، ومعناه أمر، أي : أسلموا.
قال بعض المفسِّرين : وهذا القول أولى ؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول، وهذا لا يحتاج إلى إضمار، وأيضاً : فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى، وأيضاً : فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله :﴿ مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله ﴾، وأيضاً فالأول أمر بالثبات.
فإن قيل : أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية، وأين ما فيها من الجزاء ؟
فالجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى، فقال : لو كان متفرًى على الله تعالى، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله، ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنَّهُ من الله، فقوله ( إنا أنزل بعلم الله ) : كنايةٌ عن كون من عند الله، ومن قبله ؛ كما يقول الحاكم : هذا الحكم جدير بعلمي.
فإن قيل : أي تعلُّق لقوله :﴿ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ بعجزهم عن المعارضة ؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة، ومن كان كذلك، فقد بطلت إلهيته، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم، فكان قوله :﴿ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام.
وثانيها : أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه - فكأنَّهُ قيل : لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ.
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو، واتركُوا الإصرار على الكفر، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ].
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٠٩، والدر المصون ٤/٨٤..
قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا﴾ الآية.
قيل: إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله: ﴿أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٦] وهذا ليس إلاَّ للكفار، فيكون التقدير: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي: تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا.
واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم: المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة.
وقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المرادُ اليهود والنَّصارى.
وقال القاضي: المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها.
وعمل الخير قسمان:
العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر، وصلة الرَّحمِ، والصَّدقة، وبناء القناطر، وتسوية الطرق، ودفع الشر، وإجراء الأنهار، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، وهي من أعمال الخير، فقد تصدرُ من المسلم والكافر.
وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها.
وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار.
وقيل: الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته.
451
ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية ﴿أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار﴾ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ المراد: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة، والأفعال الباطلة.
والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ» قيل: وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال: «وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ».
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ».
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ: ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ: يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، والنَّهَارِ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ: فلانٌ قارىءٌ، وقدْ قِيل ذلِكَ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ: وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ، فيقُولُ: كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ، وقد قِيلَ ذلك، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول: قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال: فلانٌ فارسٌ».
ثم ضربَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركبتي وقال: «يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ».
وقد روي أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال الراوي: فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال: صدق الله ورسوله ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ [هود: ١٥].

فصل


نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء:
أنَّ معنى هذه الآية: هو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ»، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ، وكذلك كل من كان في معناه.
452
قوله: «نُوَفِّ».
الجمهور على «نُوفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء من «وفَّى يُوفِّي».
وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ، وزيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من «أوْفَى يُوفِي»، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى.
وقرئ «تُوفَّ» بضم التاء، وفتح الفاء مشددة من «وُفِّيَ يُوَفَّى» مبنياً للمفعول.
«أعْمَالهم» بالرَّلإع قائماً مقام الفاعل. وانجزم «نُوَفِّ» على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ، كما في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠].
وزعم الفرَّاء أنَّ «كان» هذه زائدة، ولذلك جزم جوابه، ولعلَّ هذا لا يصحُّ، إذ لو كانت زائدة لكان «يُرِيدُ» هو الشَّرط، ولو كان الشَّرط، لانجزم، فكان يقال: «مَنْ كَان يُرِدْ» وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع «كان» خاصة، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير «كان» ؛ قال زهير: [الطويل]
٢٩٤٧ - ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ
وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك.
وقرأ الحسنُ «نُوفِي» بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من «أوْفَى»، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله: [الوافر]
٢٩٤٨ - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ
على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ [يوسف: ٩٠] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله: [الطويل].
٢٩٤٩ - وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً... نَقُولُ جِهَاراً: ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
453
وكقول زهير: [البسيط]
٢٩٥٠ - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ
وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم، وهو مذهب سيبويه، أو على نيَّة الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ.
ومعنى ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ أي: نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها.
﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.
«روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال:» إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً «.
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾ في الدنيا ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار، والمؤمن لا يخلدُ، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨].
قوله: ﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾ يجوز أن يتعلَّق»
فِيهَا «ب» حَبِطَ «والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة، ويجوزُ أن يتعلَّق ب» صَنَعُوا «فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله: ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ [هود: ١٥].
و»
ما «في» مَا صَنَعُوا «يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكون مصدرية، أي: وحبط صنعهم.
قوله: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ قرأ الجمهورُ برفع الباطل، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون»
بَاطِلٌ «خبراً مقدماص، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «مبتدأ مؤخَّر، و» ما «تحتملُ أن تكون مصدرية، أي: وباطلٌ كونهم عاملين، وأن تكون بمعنى» الذي «والعائدُ محذوفٌ، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ، عطف هذه الجملة على ما قبلها.
الثاني: أن يكون»
باطل «مبتدأ، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «خبرهُ، قال مكي، ولم يذكر غيره، وفيه نظر.
454
الثالث: أن يكون» بَاطِلٌ «عطفاً على الأخبار قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و» ما كانُوا يَعْمَلُونَ «فاعلٌ ب» بَاطِلٌ «، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي» وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ «جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على» حَبطَ «.
وقرأ أبيّ وابن مسعود:»
وبَاطلاً «.
قال مكيّ:»
وهي في مصحفهما كذلك «.
ونقلها الزمخشري عن عاصم»
وبَاطِلاً «نصباً، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ ب»
يَعْمَلُون «و» ما «مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح، وفيه تقديمُ معمولِ خبر» كان «على» كان «وهي مسألةُ خلافٍ، والصحيحُ جوازها، كقوله تعالى
﴿أهؤلاء
إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾
[سبأ: ٤٠]، فالظاهرُ أنَّ «إيَّاكُمْ»
منصوب ب «يَعْبُدُون».
والثاني: أن تكون «ما» إبهامية، وتنتصب ب «يَعْمَلُون» ومعناه: «باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون».
والثالث: أن يكون «بَاطِلاً» بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها، ولذلك قدَّرها ب «باطلاً أيَّ باطلٍ» فهو كقوله: [المديد]
٢٩٥١ -............................ وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ
و «لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ»، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: ﴿مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ [البقرة: ٢٦].
455
قوله تعالى :﴿ أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا ﴾ في الدنيا ﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار، والمؤمن لا يخلدُ، لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ].
قوله :﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا ﴾ يجوز أن يتعلَّق " فِيهَا " ب " حَبِطَ " والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة، ويجوزُ أن يتعلَّق ب " صَنَعُوا " فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله :﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ﴾ [ هود : ١٥ ].
و " ما " في " مَا صَنَعُوا " يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي : الذي صنعوه، وأن تكون مصدرية، أي : وحبط صنعهم.
قوله :﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قرأ الجمهورُ برفع الباطل، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون " بَاطِلٌ " خبراً مقدماص، و " مَا كانُوا يَعْمَلُون " مبتدأ مؤخَّر، و " ما " تحتملُ أن تكون مصدرية، أي : وباطلٌ كونهم عاملين، وأن تكون بمعنى " الذي " والعائدُ محذوفٌ، أي : يعملونه، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ، عطف هذه الجملة على ما قبلها.
الثاني : أن يكون " باطل " مبتدأ، و " مَا كانُوا يَعْمَلُون " خبرهُ، قال مكي، ولم يذكر غيره، وفيه نظر.
الثالث : أن يكون " بَاطِلٌ " عطفاً على الأخبار قبله، أي : أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و " ما كانُوا يَعْمَلُونَ " فاعلٌ ب " بَاطِلٌ "، ويرجح هذا ما قرأ١ به زيد بن علي " وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ " جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على " حَبطَ ".
وقرأ أبيّ٢ وابن مسعود :" وبَاطلاً ".
قال مكيّ٣ :" وهي في مصحفهما كذلك ".
ونقلها الزمخشري عن عاصم " وبَاطِلاً " نصباً، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ ب " يَعْمَلُون " و " ما " مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح، وفيه تقديمُ معمولِ خبر " كان " على " كان " وهي مسألةُ خلافٍ، والصحيحُ جوازها، كقوله تعالى
﴿ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ [ سبأ : ٤٠ ]، فالظاهرُ أنَّ " إيَّاكُمْ " منصوب ب " يَعْبُدُون ".
والثاني : أن تكون " ما " إبهامية، وتنتصب ب " يَعْمَلُون " ومعناه :" باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون ".
والثالث : أن يكون " بَاطِلاً " بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله " ما " إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها، ولذلك قدَّرها ب " باطلاً أيَّ باطلٍ " فهو كقوله :[ المديد ]
. . . *** وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ٤
و " لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ "، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى :﴿ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ﴾ [ البقرة : ٢٦ ].
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢١١، والدر المصون ٤/٨٥..
٢ نقلها الزمخشري عن عاصم ينظر: الكشاف ٢/٣٨٤ والمحرر الوجيز ٣/١٥٧ والبحر المحيط ٥/٢١١ والدر المصون ٤/٨٥..
٣ ينظر: المشكل ١/٣٩٤..
٤ تقدم..
قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ الآية.
وتقدير تعلقهما بما قبلها: (أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها).
وقوله: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، تقديره: أفمن كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ، وأحسن منه (أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ﴾ [فاطر: ٨]، ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾ [الزمر: ٩] إلى غير ذلك، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير.
الثاني: - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: «أمن كان يريد الحياة الدنيا، وزينتها كمن كان على بينةٍ»، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم.
يريد: أن بين الفريقين تفاوتاً، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام، وحرفِ العطفِ، وهو مبتدأ أيضاً، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره.
قوله: «ويَتْلُوهُ» اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يَتْلوهُ»، وفي «مِنْهُ»، وفي «قَبْلِهِ» : فقيل: الهاء في «يَتْلُوهُ» تعودُ على «مَنْ»، والمراد به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الضميران في «مِنْهُ»، و «قَبلهِ»، والمراد بالشَّاهد لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ، أي: ويتلو محمَّداً - أي: صِدْقَ محمدٍ - لسانه «ومِنْ قَبْلِهِ» أي: قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: الشَّاهدُ جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والضميرُ في «مِنْهُ» لله - تعالى -، وفي قبله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: الشَّاهدُ الإنجيلُ، و «كِتابُ مُوسَى» - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عطف عى «شاهدٌ»، والمعنى: أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله: «مِنْ قَبْلِهِ»، والتقدير: شاهدٌ منهُ، وكتابُ موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [٥٨].
وقيل: الضميرُ في «يتْلوهُ» للقرآن، وفي «مِنْهُ» لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ، وهو لسانهُ، أو من جبريل والهاء في «مِنْ قبلِهِ» أيضاً للقرآن.
وقيل الهاءُ في «يَتْلُوهُ» تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة.
وقيل: المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن. وقيل غير ذلك.
456
وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي «كِتابَ مُوسَى» بالنَّصْب وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في «يَتْلوهُ»، أي: يتلوه، ويتلو كتابَ مُوسَى، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف.
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ. قال أبُو البقاء: «وقد تمَّ الكلامُ عند قوله» منهُ «و» كتابُ مُوسَى «، أي:» ويتلُو كتابَ مُوسَى «فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف، فلذلك قدَّر فعلاً».
و «إماماً ورحمةً» منصوبان على الحالِ من «كِتابُ مُوسَى» سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً.
و «أولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة، جمع على معناها، وهذا إن أريد ب «مَنْ كَانَ» النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله: [الطويل]
٢٩٥٢ - فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ................................
والهاءُ في «بِهِ» يجوزُ أن تعود على «كِتَابُ مُوسَى» وهو أقربُ مذكورِ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الهاء في «بِهِ» الثانية.
و «الأحْزَابُ» الجماعةُ التي فيها غلظةٌ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك، وفيه وصفُ حمار الوحش ب «حَزَابِيَة» لغلظه. والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس.

فصل


قيل: في الآية حذف، والتقدير: «أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها»، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ.
والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ: النبي - صلوات الله وسلامه عليه -. ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ أي: يتبعه من يشهد له بصدقه.
واختلفوا في هذا الشَّاهد: فقال ابنُ عبَّاسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّه جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال الحسنُ وقتادةُ: هو لسانُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
457
وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال: هو ملك يحفظه ويسدده.
وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ: هو القرآن ونظمه.
وقيل: هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي: «مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن»، فقال له رجلٌ: «أي شيء نزل فيك» ؟ قال: «ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ».
وقيل: هو الإنجيلُ. و «مِنْ قَبْلِهِ» أي: من قبل مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: من قبل نزول القرآن. ﴿كِتَابُ موسى﴾ أي: كان كتاب موسى ﴿إَمَاماً وَرَحْمَةً﴾ لمن اتَّبعهُ، أي التَّوراة، وهي مصدقةٌ للقرآن، شاهدةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يعني: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ﴾ أي: بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل بالقرآن «مِنَ الأحزابِ» من الكفَّار وأهْلِ المللِ، ﴿فالنار مَوْعِدُهُ﴾ اسمُ مكانِ وعده؛ قال حسَّانُ: [البسيط]
٢٩٥٣ - أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ «.
﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ أي: شكٍّ، و»
المِرْيَة «بكسر الميم وضمِّها الشكُّ، لغتان:
أشهرهما الكسرُ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ، وبها قرأ الجمهور. والضَّمُّ لغةُ وتميم، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي.
والمعنى: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ أي: من صحَّة هذا الدِّين، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى -.
وقيل: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ من أنَّ موعد الكفار النَّارُ.
458
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ الآية.
أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ [الأنعام: ٢١] يعنى: القرآن،» أولَئِكَ «يعنى: الكاذبين والمكذبين.
﴿يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ﴾ فيسألهم عن إيمانهم، وخصَّهم بهذا العرض، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى: ﴿وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً﴾ [الكهف: ٤٨] ؛ لأنهم يعرضون، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم: ﴿هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ﴾ فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه.
و»
الأشهادُ «جمعُ شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف.
والمرادُ ب»
الأشهادِ «قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة.
وقال قتادةُ، ومقاتلٌ:»
الأشْهَادُ «النَّاس.
وقيل: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
فإن قيل: إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان؛ فكيف قال ﴿يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ﴾ فالجوابُ: أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب، والسؤال، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ -.
روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا؟ فيقول: نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ، قال: فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون، فيقُولُ الأشْهَادُ: هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ «.
﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ يمنعون عن دين الله ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي: إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر، والضَّلال، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق، وإلقاءِ
459
الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العاصي: يبغي عوجاً، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ.
ثم قال: ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾.
قال الزَّجَّاجُ: «كرر كلمة» هُمْ «توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ».
﴿أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ﴾.
قال الواحديُّ: «معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد، يقال: أعجزني فلانٌ: أي: منعني من مرادي، ومعنى ﴿مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ أي: لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات».
وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «سَابقين».
وقال مقاتلٌ: «فائتين».
﴿فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا.
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ أي: يُزادُ في عذابهم. وقيل: تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير.
وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور.
قوله: ﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع﴾ يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً.
والثاني: أن تكون مصدرية، وفيها حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: أنَّها قائمةٌ مقام الظرف، أي: مُدة استطاعتهم، وتكونُ «مَا» منصوبة ب «يُضاعَفُ»، أي: لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار.
والثاني: أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من «أنْ» و «أنّ» اختيها، وإليه ذهب الفرَّاءُ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب «يُضَاعَفُ» أي: يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون، ويبصرون، ولا ينتفعون.
والثالث: أن تكون «ما» بمعنى «الَّذي»، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد.
والجملة من قوله: «يُضاعَفُ» مستأنفة.
وقيل: إنَّ الضمير في قوله «مَا كَانُوا» يعودُ على «أوْليَاء» وهم آلهتهم، أي: فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء، فعلى هذا يكون ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ معترضاً.
460

فصل


احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان.
روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.
أمَّا في الدنيا ففي قوله ﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾.
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: ٤٢].
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
قوله: «لا جَرَمَ» في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ:
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من «لا» النَّافية و «جَرَم» وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو «حقَّ» فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى -: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢] أي: حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم.
الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة «لا رجُل» في كون «لا» نافية للجنس، و «جَرَمَ» اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ.
الثالث: - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي: في خسرانهم.
الرابع: أنَّ «لا» نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله: «لا» كما تُرَدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ [البلد: ١] وقوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي «جرم أنَّ لهُم كَذَا»، و «جرم» فعل ماضٍ معناه «كسب»، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى إذْ هو بمعنى «كَسَبَ» ؛ قال الشاعر: [الوافر]
461
٢٩٥٤ - نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا
أي: بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [٦] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال: [الوافر]
٢٩٥٥ - جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية: كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله «لا» ثم يبتدأ ب «جَرَمَ» بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس: أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون «جَرَمَ» بمعنى «القطع» تقول: جرمتُ أي: قطعت، فيكون «جَرَمَ» اسمَ «لا» مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم، وخبرها «أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: فيقال: لا جِرمَ بكسر الجمي، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢] على وزن لا كرم، يعني بضمِّ الراءِ، ولا جرَ، قال: «حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا:»
سَو ترى «أي: سوف ترى».
وقوله: ﴿هُمُ الأخسرون﴾ يجوز أن يكون «هُمُ» فصلاً، وأن يكون توكيداً، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره، والجملةُ خبر «أنَّ».
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ﴾ لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين، والموصولُ اسم «إنَّ»، والجملةُ من قوله ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة﴾ خبرها.
والإخْبَاتُ: الاطمئنان والتذلُّل، والتَّواضع، والخضوع، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ، أي المنخفضُ من الأرض، وأخْبَتَ الرَّجلُ: دخل في مكانٍ خبت، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل: خَبَتَ ذكرهُ، أي: خَمَدَ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث؛ قال الشاعر: [الخفيف]
462
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة، الزمخشري وغيره.
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري: «وقيل: التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ».
ومن مجيء «الخَبْت» بمعنى المكان المطمئن قوله: [الوافر]
٢٩٥٦ - يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ
٢٩٥٧ - أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا
وفي تركيب البيت قلقٌ، وحلُّهُ: لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ، ففاعل «قتل» ضمير يعودُ على «أخاك».
و «أخْبَت» يتعدَّى ب «إلى» كهذه الآية، وباللاَّم كقوله تعالى: ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٤] ومعنى الآية:
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - خافُوا.
وقال قتادةُ: تابُوا وقال مجاهدٌ: اطمأنُّوا.
وقيل: خشعُوا إلى ربِّهم. ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
463
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ الآية.
أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ.
﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ [ الأنعام : ٢١ ] يعنى : القرآن، " أولَئِكَ " يعنى : الكاذبين والمكذبين.
﴿ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ ﴾ فيسألهم عن إيمانهم، وخصَّهم بهذا العرض، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً ﴾ [ الكهف : ٤٨ ] ؛ لأنهم يعرضون، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم :﴿ هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ ﴾ فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه.
و " الأشهادُ " جمعُ شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف.
والمرادُ ب " الأشهادِ " قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة١.
وقال قتادةُ، ومقاتلٌ :" الأشْهَادُ " النَّاس٢.
وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
فإن قيل : إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان ؛ فكيف قال ﴿ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ ﴾ فالجوابُ : أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب، والسؤال، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ-.
روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ، فيقُولُ : أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا ؟ فيقول : نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ، قال : فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون، فيقُولُ الأشْهَادُ : هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ " ٣.
١ أخرجه الطبري في"تفسيره" (٦/٢٢)..
٢ أخرجه الطبري (٧/٢٢)..
٣ أخرجه البخاري (٨/٢٠٤-٢٠٥) كتاب التفسير حديث (٧٦٨٠) ومسلم (٤/٢١٢٠) كتاب التوبة: باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله حديث (٥٢/٢٧٦٨) والطبري في تفسيره (٧/٢٢-٢٣) عن ابن عمر.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨٨) وزاد نسبته إلى ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات"..

﴿ الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ يمنعون عن دين الله ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي : إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر، والضَّلال، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق، وإلقاءِ الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة ؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجاً، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ.
ثم قال :﴿ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
قال الزَّجَّاجُ :" كرر كلمة " هُمْ " توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ ".
﴿ أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ ﴾.
قال الواحديُّ :" معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد، يقال : أعجزني فلانٌ : أي : منعني من مرادي، ومعنى ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ أي : لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات ".
وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - " سَابقين " ١.
وقال مقاتلٌ :" فائتين " ٢.
﴿ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا.
﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾ أي : يُزادُ في عذابهم. وقيل : تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير.
وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور.
قوله :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع ﴾ يجوز في " ما " هذه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً.
والثاني : أن تكون مصدرية، وفيها حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : أنَّها قائمةٌ مقام الظرف، أي : مُدة استطاعتهم، وتكونُ " مَا " منصوبة ب " يُضاعَفُ "، أي : لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار.
والثاني : أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من " أنْ " و " أنّ " اختيها، وإليه ذهب الفرَّاءُ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب " يُضَاعَفُ " أي : يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون، ويبصرون، ولا ينتفعون.
والثالث : أن تكون " ما " بمعنى " الَّذي "، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً، أي : بالذي كانوا، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد.
والجملة من قوله :" يُضاعَفُ " مستأنفة.
وقيل : إنَّ الضمير في قوله " مَا كَانُوا " يعودُ على " أوْليَاء " وهم آلهتهم، أي : فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء، فعلى هذا يكون ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾ معترضاً.

فصل


احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان.
روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.
أمَّا في الدنيا ففي قوله ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾.
وأمَّا في الآخرة ففي٣ قوله - عز وجل - ﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [ القلم : ٤٢ ].
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٨)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨٩) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٨)..
ثم قال تعالى :﴿ أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
قوله :" لا جَرَمَ " في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ :
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من " لا " النَّافية و " جَرَم " وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو " حقَّ " فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى - :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ [ النحل : ٦٢ ] أي : حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم.
الوجه الثاني : أنَّ " لا جَرَمَ " بمنزلة " لا رجُل " في كون " لا " نافية للجنس، و " جَرَمَ " اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر " لا " النافية، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ.
الثالث :- كالذي قبله - إلاَّ أنَّ " أنَّ " وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير : لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي : في خسرانهم.
الرابع : أنَّ " لا " نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله :" لا " كما تُرَدُّ " لا " هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - ﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ [ البلد : ١ ] وقوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي " جرم أنَّ لهُم كَذَا "، و " جرم " فعل ماضٍ معناه " كسب "، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و " أنَّ " وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى إذْ هو بمعنى " كَسَبَ " ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا١
أي : بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [ ٦ ] وجريمةُ القوم كاسبهم ؛ قال :[ الوافر ]
جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا٢
فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله " لا " ثم يبتدأ ب " جَرَمَ " بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون " جَرَمَ " بمعنى " القطع " تقول : جرمتُ أي : قطعت، فيكون " جَرَمَ " اسمَ " لا " مبنياً معها على الفتح ؛ كما تقدَّم، وخبرها " أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي : لا منع من خسرانهم ؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجيم، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ [ النحل : ٦٢ ] على وزن لا كرم، يعني بضمِّ الراءِ، ولا جرَ، قال :" حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا :" سَو ترى " أي : سوف ترى ".
وقوله :﴿ هُمُ الأخسرون ﴾ يجوز أن يكون " هُمُ " فصلاً، وأن يكون توكيداً، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره، والجملةُ خبر " أنَّ ".
١ ينظر في البحر المحيط ٥/٢١٣ وروح المعاني ١٢/٣٣ والزاهر ١/٣٧٥ والقرطبي ٩/١٥ والدر المصون ٤/٨٨..
٢ البيت لأبي خراش الهذلي. ينظر: ديوان الهذليين (١/١٣٣) وشرح أشعار الهذليين ٣/١٢٠٥ والبحر المحيط ٥/٢١٣ واللسان (جرم) والدر المصون ٤/٨٨..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ ﴾ لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين، والموصولُ اسم " إنَّ "، والجملةُ من قوله ﴿ أولئك أَصْحَابُ الجنة ﴾ خبرها.
والإخْبَاتُ : الاطمئنان والتذلُّل، والتَّواضع، والخضوع، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ، أي المنخفضُ من الأرض، وأخْبَتَ الرَّجلُ : دخل في مكانٍ خبت، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل : خَبَتَ ذكرهُ، أي : خَمَدَ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث ؛ قال الشاعر :[ الخفيف ]
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ١
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة، الزمخشري وغيره.
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري :" وقيل : التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ ".
ومن مجيء " الخَبْت " بمعنى المكان المطمئن قوله :[ الوافر ]
أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا٢
وفي تركيب البيت قلقٌ، وحلُّهُ : لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ، ففاعل " قتل " ضمير يعودُ على " أخاك ".
و " أخْبَت " يتعدَّى ب " إلى " كهذه الآية، وباللاَّم كقوله تعالى :﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الحج : ٥٤ ] ومعنى الآية :
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - خافُوا٣.
وقال قتادةُ : تابُوا٤ وقال مجاهدٌ : اطمأنُّوا٥.
وقيل : خشعُوا إلى ربِّهم. ﴿ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
١ البيت للسموأل ينظر: اللسان [خبن] والكشاف ٢/٣٨٧ والدر المصون ٤/٨٩..
٢ البيت لقيس بن عوانة أو لبشر بن عوانة. ينظر: أمالي ابن الشجري ٢/١٩٢ وشواهد الكشاف ٢/٣٢٠ والدر المصون ٤/٨٩..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٨٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٩)..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٩)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٩٠) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ..
لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً.
﴿مَثَلُ الفريقين﴾ مبتدأ، و ﴿كالأعمى﴾ خبره، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر، فتقدَّر ب «مثل»، تقديره: مثلُ الفريقين مثل الأعمى.
ويجوزُ أن تكون «مَثَلُ» بمعنى «صفة»، ومعنى الكافِ معنى «مِثْل»، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى.
وقوله: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى﴾ يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَرِ، والصَّمَم بالسَّمْع، وهو من الطِّباق، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد
463
بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه، وحينئذٍ يكون قوله: ﴿كالأعمى والأصم﴾ وقوله: ﴿والبصير والسميع﴾ من بابِ عطف الصفات؛ كقوله: [المتقارب]
٢٩٥٨ - إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو من اللفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ، على أن تكون الواو في «والأصَمِّ» وفي «والسَّمِيع» لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله: [السريع]
٢٩٥٩ -....................... الصْ... صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ
يريد بقوله: «اللَّف» أنه لفَّ المؤمنين، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله: «الفريقين» ولو فسَّرهما لقال: مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان: لفظتان متقابلتان، اللَّفُّ والنشرُ، أشار لقول امرىء القيس: [الطويل]
٢٩٦٠ - كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أصلُ الكلامِ: كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ: العُنَّابُ، واليابس منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير، ليس هذا موضعه.
وأشار بقوله: «الصَّابح فالغانم» إلى قوله: [السريع]
٢٩٦١ - يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ
وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة.
فإن قيل: لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن؟
فالجوابُ: لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار، فلذلك قدَّم تمثيلهم.
فإن قيل: ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير، والأصم والسَّميع، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟.
فالجوابُ: بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر
464
محسوس، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ.
قوله: مَثَلاً «تمييز، وهو منقولٌ من الفاعليَّة، والأصلُ: هل يستوي مثلهما، كقوله تعالى ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
465
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ الآية.
اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد.
قوله ﴿إِنَّي لَكُمْ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة «إني»، والباقون بكسرها.
465
فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ، أي: «بأنِّي لَكُمْ».
قال الفارسيُّ: في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ.
قال ابن عطيَّة: وفي هذا نظر، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك.
وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال: الأصل: بأنِّي، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنَّهُ، لكنَّهُ جاء على طريق الالفتات.
ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ.
وقال الزمخشري: الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: ﴿إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالكسر، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح «كأنَّ» والمعنى على الكسر في قولك «إنَّ زيداً كالأسد»، وأمَّا الكسرُ، فعلى إضمار القول، أي: فقال، وكثيراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشَّواهد.
و «النذيرُ» قيل: المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله، والأمر بعبادته - جل ذكره -؛ لأنَّ قوله ﴿أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ استثناء من النَّهْي، فهو يوجب نفي غير المستثنى، وإيجاب المستثنى.
قوله: ﴿أَن لاَّ تعبدوا﴾ كقوله: ﴿أَن لاَّ تعبدوا﴾ في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح «أني» تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون بدلاً من قوله: «أنِّي لَكُم»، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا.
والثاني: أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها: إمَّا «أرْسَلناهُ» وإما «نَذِيرٌ».
وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل «أرسلنا» ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها.
قوله: «أليم» إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ.
قال أبُو حيَّان: «وهذا على أن يكون» ألِيم «صفةُ مبالغةٍ من» ألِمَ «وهو من كثر ألمه، وإن كان» ألِيم «بمعنى:» مُؤلم «فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة».
466

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بعث نوح بعد أربعين سنة، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة.
وقال مقاتلٌ: بعث وهو ابن مائة سنة.
وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة.
وقيل: ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة.
قوله: ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ﴾.
«المَلأُ» هم الأشراف والرُّؤساء. «مَا نَراكَ» يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك: «اتَّبَعَكَ» في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً، وعلى الثَّاين في محل نصب على الحال، و «قَدْ» مقدرةٌ عند من يشترط ذلك.
و «الأراذِلُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ جمع الجمع.
والثاني: جَمْعٌ فقط.
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أرْذُلٍِ»، و «أرْذُل» جمع ل «رَذْلٍ» نحو: كَلْب وأكْلُب وأكالب.
وقيل: بل جمع ل «أرْذَال»، و «أرْذَال» جمع ل «رَذْل» أيضاً.
والقائلون بأنه ليس جمع جمع، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جمعٌ ل «أرْذل»، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق.
وقال بعضهم: هو جمع «أرْذَل» الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء ﴿أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾ [الأنعام: ١٢٣] و «أحاسنكم أخلاقاً».
ويقال: رجل رَذْل ورُذَال، ك «رَخْل» و «رُخَال» وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ.
قال الواحديُّ: هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته. والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا: هو الأرْذَلُ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة.
قوله: «بَادِيَ الرَّأي» قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ «بَادِىءَ» بالهمز، والباقون بياءٍ
467
صريحة مكان الهمزة. فأما الهمزُ فمعناه: أول الرَّأي، أي: أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل، بل من أولِ وهلةٍ. وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر، والمعنى: ظاهر الرَّأي دون باطنه، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه، وهو في المعنى كالأولِ.
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه:
أحدها: «نَرَاكَ»، أي: وما نَراكَ في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين.
والثاني - من الأوجه الثلاثة -: أن يكون منصوباً ب «اتَّبَعَكَ»، أي: ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك.
والثاني: أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك.
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه «أرَاذِلُنَا» والمعنى: أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة.
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ «إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ».
ثم القائل بكون «بَادِيَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ، قال مكيّ: وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في «فَعِيل» نحو: قَرِيب ومليء، و «فاعل وفعيل» متعاقبان ك: رَاحِم ورَحِيم، وعَالِم وعَلِيم، وحسُن ذلك في «فَاعِل» لإضافته إلى الرأي، والرأي يضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو: «أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ» أي: «في جَهْد».
قال الزمخشريُّ: وانتصابه على الظَّرف، أصله: وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه.
الوجه الثاني - من السَّبعة -: أن لا ينتصب على المفعول به، حذف معه حرفُ الجر مثل: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥].
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ.
468
الثالث من السَّبعة: أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديره: رُؤية بدءٍ: أو ظهور، أو اتباع بدءٍ أو ظهور، أو رذالة بدءٍ.
الرابع من السبعة: أن يكون نعتاً ل «بَشَر»، أي: ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي، أي: ظاهرهُ، أو مبتدئاً فيه. وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة.
الخامس: أنَّهُ حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ»، أي: وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه، ولا حصانة لك.
السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كأنَّهُم قالوا: يا بَادِي الرَّأي، أي: ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به، والاستقلال له.
السابع: أنَّ العامل فيه مضمر، تقديره: أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي، ذكره أبُو البقاءِ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ. واعلم أنَّك إذا نصبت «بَادِيَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، نصبت «بَادِيَ» على الظرف أوالمصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، وهو أنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو: مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ، أو مستثنى نحو: قَامَ القومُ إلاَّ زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و «بَادِي الرَّأي» ليس شيئاً من ذلك.
قال مكي: لو قلت في الكلام: ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد «إلاَّ» لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب «إلاَّ» إلى مفعولين، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز، ولذلك لو قلت: استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو «مع» لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف، فيجوز وصولُ الفعل.
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ.
والرَّأيُ: يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل.

فصل


اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شُبُهَاتٍ:
الأولى: أنَّهُم قالوا: إنَّه بشرٌ مثلهم، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين.
الثانية: كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛
469
فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١].
الثالثة: قولهم: ﴿وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ، وتقدَّم الكلامُ على «الملأ» وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [٦٦].
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر.
وأمَّا قولهم ﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ فهذا أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ، ولا بالمناصب العاليةِ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة.
وأمَّا قولهم: ﴿وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ فهو أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة.
ثم قال لنُوح وأتباعه ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة.
وقيل: خطاب مع الأرَاذِلِ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾.
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى، والمعنى: أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ وهي إمَّا النبوة، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: صارت مظنة خفيت، والتبست عليكم.
قوله: «مِّن ربي» نعتٌ ل «بَيِّنَة»، أي: بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي.
قوله: «رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ» يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل «رَحْمَةً» وأن يكون متعلقاً ب «آتَانِي».
470
قوله: «فَعُمِّيَتْ» قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح، والتخفيف. فأمَّا القراءة الأولى فأصلها: عماهَا اللهُ عليكم، أي: أبْهمها عقوبة لكم، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل «فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم».
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي «فَعَمَاهَا» من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي.
وروي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً.
قال الزمخشريُّ: فإذا قلتَ ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ [النمل: ١٣] جعلت عمياء، قال تعالى: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ الآية؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ: فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ.
وقيل: هذا من باب القلبِ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول: أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي، وأدخلت الخاتم في إصبعي، وهو كثيرٌ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه، وأنشدوا على ذلك: [الطويل]
٢٩٦٢ - تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه......................................
قال أبُو علي: وهذا ممَّا يُقْلَبُ، إذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: ٤٧].
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ.
وأمَّا الآيةُ ف «أخْلَفَ» يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ.
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب «عَنْ» دُونَ «عَلَى»، ألا ترى أنك تقولك «عَمِيتُ عن كذَا» لا «عَلَى كَذَا».
471
واختلف في الضَّمير في «عُمِّيَتْ» هل هو عائدٌ على «البَيِّنة»، أو على «الرَّحْمَة»، أو عليهما معاً؟.
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد، وإذا قيل بأنه عائدٌ على «البيِّنة» فيكون قوله ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّهُ، ﴿على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ﴾.
قال الزمخشريُّ: وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة، وبالرَّحمة النبوَّة.
فإن قلت: فقوله «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقدَّرَ: فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة. انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيْتُمْ» هذه في الأنعام، وتلخيصهُ هنا أنَّ «أرأيتُم» يطلب «البيِّنة» منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب «عَلَى» فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا، فحذف المفعولُ الأوَّل، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه.
قوله: «أنُلْزمُكُمُوهَا» أتى هنا بالضَّميرين متصلين، وتقدَّم ضميرُ الخطاب؛ لأنَّهُ أخص، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان «أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً».
وقال الزمخشريُّ: يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله: «أنُلْزِمكم إيَّاهَا» ونحوه ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ [البقرة: ١٣٧] ويجوز «فَسَيكفيك إيَّاهُمْ»، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ.
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ، ويضعف سكونها، وعليه «أرَاهُمْني البَاطِل».
وقال أبُو البقاءِ: وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال: «ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم، وهو الأصلُ في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم» انتهى.
وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه، وغيره يأباه.
472
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج.
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس: [السريع]
٢٩٦٣ - فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ..............................
وكذا قال الزمخشري أيضاً.
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل، وسيبويه، وحُذَّاقِ البصرييين؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ.
قال شهابُ الدِّين: وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ: «أنُلُزِمْكُمُوهَا» بسكون هذه الميم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [٥٤]، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً؟.
و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أولهما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة.
و ﴿وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعل، أو لأحدِ المفعولين.
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك.
والمعنى: «أنلزمكم البينة، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا». قال قتادةُ: «لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا، ولكن لم يقدروا».
قوله تعالى: ﴿وياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً﴾.
الضَّمير في «عَلَيْهِ» يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من «نَذِيرٌ»، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة، وأن يعود على التَّبليغ.
وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية، وهي قولهم: اتَّبَعَك الأرَاذل، فقال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً، أو غنياً، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً، لم يتفاوت الحال في ذلك.
ويحتمل أنَّه قال لهم: إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظَّن منكم خطأ، وإنِّي لا
473
أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٠٩].
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين﴾ قرىء «بطَاردٍ الذينَ» بتنوين «طارد».
قال الزمخشري: على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه.
قال أبُو حيَّان: يُمكن أن يقال: ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان:
أحدهما: الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه.
والآخر: شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى.
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ استئنافٌ يفيدُ التَّعليل، وقوله: «تَجْهَلُون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ.

فصل


قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾ كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا»، وأيضاً قولهم ﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم.
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً:
منها: أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة.
ومنها: أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة.
ومنها: أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني.
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال: ﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾.
ثم قال: ﴿وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ﴾ [هود: ٣٠] من يمنعني من عذاب الله ﴿إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ تتَّعِظُونَ.
474
والمعنى: على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي﴾ [الأنعام: ٥٢].
زالجوابُ: يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة.
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ فآتي منها ما تطلبون، ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ فأخبركم بما تُريدُونَ.
وقيل: إنَّهم لمَّا قالوا لنوح: إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: لا أقول لكم: عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، ﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ هذا جواب لقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾ [هود: ٢٧] وقيل معناه: لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا: لأنَّ الإنسان إذا قال: لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً﴾ وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال: لا أقولُ للذين يحتقرونهم: لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي: توفيقاً وإيماناً وأجراً ﴿الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي.
وقوله: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ﴾ كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ معطوفٌ على ﴿عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ أي: لا أقول: عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ: أنَا أعلمُ الغَيْبَ».
قوله: «تَزْدَرِي» تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي: حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد
475
الزَّاي وهو مطرد، ويقالك «زَرَيْتُ عَليْهِ» إذا عبته، و «أزْرَيْتُ بِهِ» أي: قصَّرت به. وعائدُ الموصول محذوفٌ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر: [الوافر]
٢٩٦٤ - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
وقال الشارع أيضاً: [الوافر]
٢٩٦٥ - يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير
واللاَّمُ في «للَّذينَ» للتَّعليل، أي: لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يُؤتيكُم» بالخطاب.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾.
قرأ ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «جَدَلنا» كقوله: ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف: ٥٤].
ونقل أبو البقاء أنه قرىء «جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا» بغير ألفٍ فيهما، وقال: «هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ».
وقوله: «بِمَا تَعِدُنَا» يجوزُ أن يكون «ما» بمعنى «الذي»، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعدناه.
ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي: بوعدك إيَّانا.
وقوله: «إن كنت» جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو «فَأتِنَا».

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا: ﴿فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ ثُمَّ إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أجابهم بقوله:
﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ﴾ [هود: ٣٣] أي: أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه، أي: لا يمنعه.
476
ثم قال: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي﴾ إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، أي: يضلكم، قوله: ﴿إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ﴾ قد تقدَّم حكم توالي الشرطين، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل، وقال الزمخشريُّ هنا: «إنْ كانَ اللهُ» جزاؤه ما دل عليه قوله: «لا يَنْفعُكم نُصْحِي».
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه؛ فوصل بشرطٍ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله: «إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني».
وقال أبو البقاء: حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو: «إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ» فقولك: «إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك» جوابُ «إنْ أتَيْتَني» جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني، وقد جاء في القرآن منه ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي﴾ [الأحزاب: ٥٠].
قال شهابُ الدِّين: أما قوله: «إنْ وهبَتْ... إنْ أرادَ» فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة، لمَّا وهبت أراد نكاحها، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها، فوهبت، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه.
وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب «نُصْحِي» وتعلُّقُ الآخر ب «لا يَنْفَعُ».
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا يَنْفَعُكُمْ» لأنَّهُ عقبهُ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير: وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي. وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو: إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي.
وقرأ الجمهور: «نُصْحي» بضم النونِ، وهو يحتملُ وجهين:
أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني: أنه اسمٌ لا مصدرٌ.
وقرأ عيسى بن عمر «نَصْحي» بفتح النُّون، وهو مصدرٌ فقط.
477
وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللهُ» وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون «إنْ» شرطيةً بل هي نافيةٌ، والمعنى: «ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ».
قال شهابُ الدِّين: لا اظن أحداً يرضى بهذه المقالة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾.
قال شهابُ الدِّين: لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾.
قالت المعتزلةُ: ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا مسلمٌ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء، والنزاع ما وقع إلا فيه؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم، بل فوَّضَ الاختيار إليهم، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم.
الثاني: لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم؛ لأنَّهم يقولون له: إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك، ولا في اجتهادك فائدةٌ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا؛ فقد جعلتنا مغلُوبين، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات:
الأول: أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله؛ فعند هذا قال نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون.
ومثاله: أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه، فيقول الولد: لا أقدرُ على غير ما أنا عليه؛ فيقول الوالدُ: فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره، بل على وجه الإنكار لذلك.
الثاني: قال الحسنُ: معنى «يُغْويكُم» أي: يُعَذِّبكم والمعنى: لا ينفعكم نُصْحِي
478
اليوم إذا نزل بكُم العذابُ؛ فأمنتم في ذلك الوقت؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ.
الثالث: قال الجُبائي: الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله: ﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩]، أي: خيبة من خير الآخرة؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٩٦٦ -....................................... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا
الرابع: أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ، وتمادى فيه، منعه الله الألطاف، وفوَّضه إلى نفسه؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال: إنَّ الله أغواه، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات، فلا فائدة في الإعادة، ثَم قال: ﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم بأعمالكم، وهذا نهاية الوعيد والتهديد.
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ اختلقه، وافتعله، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
[وقال مقاتلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم.
﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ أي: إثْمِي ووبال جرمي، والإجرامُ: كسب الذَّنب، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنَّ المعنى: فعليَّ عقاب إجْرامي، وفي الآية محذوفٌ آخر، وهو أنَّ المعنى: إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه.
قوله: «فَعَلَيَّ إجْرَامِي» : مبتدأٌ وخبرٌ، أو فعلٌ وفاعلٌ.
والجمهورُ على كسر همزة «إجْرَامِي»، وهو مصدر أجْرَمَ، وأجْرمَ هو الفاشي، ويجوزُ «جَرَمَ» ثلاثياً وأنشدوا: [الوافر]
479
وقرىء في الشاذّ «أجْرَامِي» بفتحها، حكاهُ النَّحَّاس، وخرَّجه على أنَّه جمعُ «جُرْم» كقفل وأقْفَال، واعلم أنَّ قوله ﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ.
480
قوله :﴿ أَن لاَّ تعبدوا ﴾ كقوله :﴿ أَن لاَّ تعبدوا ﴾ في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح " أني " تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون بدلاً من قوله :" أنِّي لَكُم "، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا.
والثاني : أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها : إمَّا " أرْسَلناهُ " وإما " نَذِيرٌ ".
وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل " أرسلنا " ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها.
قوله :" أليم " إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله ؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ.
قال أبُو حيَّان١ :" وهذا على أن يكون " ألِيم " صفةُ مبالغةٍ من " ألِمَ " وهو من كثر ألمه، وإن كان " ألِيم " بمعنى :" مُؤلم " فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة ".

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - بعث نوح بعد أربعين سنة، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة٢.
وقال مقاتلٌ : بعث وهو ابن مائة سنة.
وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة.
وقيل : ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه٣ تسعمائة سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢١٥..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٩) عن ابن عباس..
٣ انظر المصدر السابق..
قوله :﴿ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ ﴾.
" المَلأُ " هم الأشراف والرُّؤساء. " مَا نَراكَ " يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك :" اتَّبَعَكَ " في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً، وعلى الثَّاني في محل نصب على الحال، و " قَدْ " مقدرةٌ عند من يشترط ذلك.
و " الأراذِلُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ جمع الجمع.
والثاني : جَمْعٌ فقط.
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل " أرْذُلٍِ "، و " أرْذُل " جمع ل " رَذْلٍ " نحو : كَلْب وأكْلُب وأكالب.
وقيل : بل جمع ل " أرْذَال "، و " أرْذَال " جمع ل " رَذْل " أيضاً.
والقائلون بأنه ليس جمع جمع، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جمعٌ ل " أرْذل "، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق.
وقال بعضهم : هو جمع " أرْذَل " الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء ﴿ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ] و " أحاسنكم أخلاقاً ".
ويقال : رجل رَذْل ورُذَال، ك " رَخْل " و " رُخَال " وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ.
قال الواحديُّ : هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته. والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا : هو الأرْذَلُ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة.
قوله :" بَادِيَ الرَّأي " قرأ أبو عمرو١ وعيسى الثَّقفيُّ " بَادِىءَ " بالهمز، والباقون بياءٍ صريحة مكان الهمزة. فأما الهمزُ فمعناه : أول الرَّأي، أي : أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل، بل من أولِ وهلةٍ. وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز ؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر، والمعنى : ظاهر الرَّأي دون باطنه، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه، وهو في المعنى كالأولِ.
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها :" نَرَاكَ "، أي : وما نَراكَ في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين.
والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً ب " اتَّبَعَكَ "، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم، وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك.
والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك.
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه " أرَاذِلُنَا " والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك، أي : إنَّ رذالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة.
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ " إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ ".
ثم القائل بكون " بَادِيَ " ظرفاً يحتاج إلى اعتذار، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في " فَعِيل " نحو : قَرِيب ومليء، و " فاعل وفعيل " متعاقبان ك : رَاحِم ورَحِيم، وعَالِم وعَلِيم، وحسُن ذلك في " فَاعِل " لإضافته إلى الرأي، والرأي يضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو :" أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ " أي :" في جَهْد ".
قال الزمخشريُّ٢ : وانتصابه على الظَّرف، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه.
الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن لا ينتصب على المفعول به، حذف معه حرفُ الجر مثل :﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ].
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ.
الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور، أو اتباع بدءٍ أو ظهور، أو رذالة بدءٍ.
الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً ل " بَشَر "، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي، أي : ظاهرهُ، أو مبتدئاً فيه. وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة.
الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول " اتَّبَعَكَ "، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه، ولا حصانة لك.
السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - عليه الصلاة والسلام -، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به، والاستقلال له.
السابع : أنَّ العامل فيه مضمر، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي، ذكره أبُو البقاءِ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ. واعلم أنَّك إذا نصبت " بَادِيَ " على الظرف أو المصدر بما قبل " إلاَّ " احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، وهو أنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يكون معمولاً لما قبلها، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و " بَادِي الرَّأي " ليس شيئاً من ذلك.
قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً ؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد " إلاَّ " لم يَجُزْ ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب " إلاَّ " إلى مفعولين، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو " مع " لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف، فيجوز وصولُ الفعل.
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ.
والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل.

فصل


اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - شُبُهَاتٍ :
الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطَّاعة لجميع العاملين.
الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ، وأصحاب الصنائع الخسيسة ؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ].
الثالثة : قولهم :﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة ؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ، وتقدَّم الكلامُ على " الملأ " وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ ٦٦ ].
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته ؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه ؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل ؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر.
وأمَّا قولهم ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ فهذا أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ، ولا بالمناصب العاليةِ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة.
وأمَّا قولهم :﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ فهو أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة.
ثم قال لنُوح وأتباعه ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة.
وقيل : خطاب مع الأرَاذِلِ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم.
١ ينظر: الحجة ٤/٣١٦ وإعراب القراءات السبع ١/٢٧٨ وحجة القراءات ص (٣٣٨) والإتحاف ٢/١٢٤ والمحرر الوجيز ٣/١٦٣ والبحر المحيط ٤/٢١٥ والدر المصون ٤/٩١..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٣٨٨..
قوله تعالى :﴿ قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴾.
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ ﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴾ وهي إمَّا النبوة، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة ﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي : صارت مظنة خفيت، والتبست عليكم.
قوله :" مِّن ربي " نعتٌ ل " بَيِّنَة "، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي.
قوله :" رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ " يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل " رَحْمَةً " وأن يكون متعلقاً ب " آتَانِي ".
قوله :" فَعُمِّيَتْ " قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم، والباقون١ بالفتح، والتخفيف. فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم، أي : أبْهمها عقوبة لكم، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل " فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم ".
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن٢ وعليّ والسُّلمي " فَعَمَاهَا " من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي.
وروي عن الأعمش وابن وثاب٣ " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً.
قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة، قال تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾ [ النمل : ١٣ ] جعلت عمياء، قال تعالى :﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية ؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ.
وقيل : هذا من باب القلبِ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي، وأدخلت الخاتم في إصبعي، وهو كثيرٌ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه، وأنشدوا على ذلك :[ الطويل ]
تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه ***. . . ٤
قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ، إذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ [ إبراهيم : ٤٧ ].
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ.
وأمَّا الآيةُ ف " أخْلَفَ " يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ.
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب " عَنْ " دُونَ " عَلَى "، ألا ترى أنك تقول :" عَمِيتُ عن كذَا " لا " عَلَى كَذَا ".
واختلف في الضَّمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائدٌ على " البَيِّنة "، أو على " الرَّحْمَة "، أو عليهما معاً ؟.
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد، وإذا قيل بأنه عائدٌ على " البيِّنة " فيكون قوله ﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴾ جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّهُ، ﴿ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي فَعُمِّيَتْ ﴾.
وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والأصل :" على بينة من ربي وآتاني رحمة فعميت ".
قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة، وبالرَّحمة النبوَّة.
فإن قلت : فقوله " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا ؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة. انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على " أرأيْتُمْ " هذه في الأنعام، وتلخيصهُ هنا أنَّ " أرأيتُم " يطلب " البيِّنة " منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب " عَلَى " فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا، فحذف المفعولُ الأوَّل، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه.
قوله :" أنُلْزمُكُمُوهَا " أتى هنا بالضَّميرين متصلين، وتقدَّم ضميرُ الخطاب ؛ لأنَّهُ أخص، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان " أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً ".
وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله :" أنُلْزِمكم إيَّاهَا " ونحوه ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] ويجوز " فَسَيكفيك إيَّاهُمْ "، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ.
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ، ويضعف سكونها، وعليه " أرَاهُمْني البَاطِل ".
وقال أبُو البقاءِ٥ : وقرئ بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال :" ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم، وهو الأصلُ في ميم الجمع، وقرئ بإسكان الميم " انتهى.
وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه، وغيره يأباه.
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج.
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرئ القيس :[ السريع ]
فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ***. . . ٦
وكذا قال الزمخشري أيضاً.
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل، وسيبويه، وحُذَّاقِ البصريين ؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ.
قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ :" أنُلُزِمْكُمُوهَا " بسكون هذه الميم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ ٥٤ ]، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً ؟.
و " ألزم " يتعدَّى لاثنين، أولهما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة.
و﴿ أَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعل، أو لأحدِ المفعولين.
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك.
والمعنى :" أنلزمكم البينة، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا ". قال قتادةُ :" لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا، ولكن لم يقدروا ".
١ ينظر: الحجة ٤/٣٢١ وإعراب القراءت السبع ١/٢٧٩ وحجة القراءات ص (٣٣٩) والإتحاف ٢/١٢٤ والبحر المحيط ٥/٢١٧ والدر المصون ٤/٩٣..
٢ وقرأ بها الأعمش أيضا ينظر: البحر المحيط ٥/٢١٧ والدر المصون ٤/٩٣..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٦٥ والبحر المحيط ٥/٢١٧ والدر المصون ٤/٩٣..
٤ صدر بيت وعجزه:
وسائره باد إلى الشمس أجمع ***...
ينظر: الكتاب ١/١٨١ وأمالي المرتضى ١/١٨١ والهمع ٢/١٢٣ والخزانة ٤/٢٣٥ وتأويل المشكل (١٩٤) والدرر ٢/١٥٦ وروح المعاني ١٢/٣٩ والبحر المحيط ٥/٢١٦..

٥ وحكي عن أبي عمرو: إسكان الميم ينظر: الكشاف ٢/٣٩٠ والبحر المحيط ٥/٢١٧ والدر المصون ٤/٩٤..
٦ تقدم..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ﴾.
الضَّمير في " عَلَيْهِ " يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من " نَذِيرٌ "، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة، وأن يعود على التَّبليغ.
وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية، وهي قولهم : اتَّبَعَك الأرَاذل، فقال : أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً، أو غنياً، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً، لم يتفاوت الحال في ذلك.
ويحتمل أنَّه قال لهم : إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظَّن منكم خطأ، وإنِّي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٠٩ ]، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بهذا الظن الفاسد.
قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ﴾ قرئ١ " بطَاردٍ الذينَ " بتنوين " طارد ".
قال الزمخشري٢ : على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه.
قال أبُو حيَّان : يُمكن أن يقال : ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان :
أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه.
والآخر : شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى.
وقوله :﴿ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ استئنافٌ يفيدُ التَّعليل، وقوله :" تَجْهَلُون " صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ.

فصل


قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا ﴾ كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ، فقال صلى الله عليه وسلم :" ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا "، وأيضاً قولهم ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم ؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم.
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً :
منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم ؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة.
ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة.
ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة ؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني.
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال :﴿ ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٠، والبحر المحيط ٥/٢١٨، والدر المصون ٤/٩٥..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٠..
ثم قال :﴿ ويا قوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ [ هود : ٣٠ ] من يمنعني من عذاب الله ﴿ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ تتَّعِظُونَ.
والمعنى : على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله ؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ].
والجوابُ : يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة.
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال :﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ﴾ فآتي منها ما تطلبون، ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ فأخبركم بما تُريدُونَ.
وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - عليه الصلاة والسلام - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، ﴿ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ هذا جواب لقولهم :﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾ [ هود : ٢٧ ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال :﴿ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً ﴾ وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً ﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة ؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي.
وقوله :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله :﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال :" إنَّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ معطوفٌ على ﴿ عِندِي خَزَآئِنُ الله ﴾ أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ ".
قوله :" تَزْدَرِي " تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي : حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد، ويقالك " زَرَيْتُ عَليْهِ " إذا عبته، و " أزْرَيْتُ بِهِ " أي : قصَّرت به. وعائدُ الموصول محذوفٌ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ *** وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ١
وقال الشارع أيضاً :[ الوافر ]
يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ *** حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير٢
واللاَّمُ في " للَّذينَ " للتَّعليل، أي : لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس " لن يُؤتيكُم " بالخطاب.
١ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/٢١٩ واللسان (نحف) والدر المصون ٤/٩٥.
ويروى عجزه:
وتحت ثيابه رجل مرير ***....

٢ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/٢١٩ والقرطبي ٩/٢٠ والدر المصون ٤/٩٥..
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾.
قرأ ابنُ عبَّاس١ - رضي الله عنهما - " جَدَلنا " كقوله :﴿ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٤ ].
ونقل أبو البقاء أنه قرىء " جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا " بغير ألفٍ فيهما، وقال :" هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ ".
وقوله :" بِمَا تَعِدُنَا " يجوزُ أن يكون " ما " بمعنى " الذي "، فالعائدُ محذوفٌ، أي : تَعدناه.
ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي : بوعدك إيَّانا.
وقوله :" إن كنت " جوابه محذوفٌ أو متقدِّم وهو " فَأتِنَا ".

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا :﴿ فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ ثُمَّ إنه - عليه الصلاة والسلام - أجابهم بقوله :
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٦٦، البحر المحيط ٥/٢١٩، الدر المصون ٤/٩٦..
﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ ﴾ [ هود : ٣٣ ] أي : أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه، أي : لا يمنعه.
ثم قال :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي ﴾ إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، أي : يضلكم، قوله :﴿ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ﴾ قد تقدَّم حكم توالي الشرطين، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل، وقال الزمخشريُّ هنا :" إنْ كانَ اللهُ " جزاؤه ما دل عليه قوله :" لا يَنْفعُكم نُصْحِي ".
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه ؛ فوصل بشرطٍ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله :" إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني ".
وقال أبو البقاء١ : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو :" إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ " فقولك :" إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك " جوابُ " إنْ أتَيْتَني " جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني، وقد جاء في القرآن منه ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ].
قال شهابُ الدِّين٢ : أما قوله :" إنْ وهبَتْ. . . إنْ أرادَ " فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة، لمَّا وهبت أراد نكاحها، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها، فوهبت، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه.
وقال ابنُ عطيَّة٣ هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب " نُصْحِي " وتعلُّقُ الآخر ب " لا يَنْفَعُ ".
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله :" ولا يَنْفَعُكُمْ " لأنَّهُ عقبهُ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي. وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي.
وقرأ الجمهور :" نُصْحي " بضم النونِ، وهو يحتملُ وجهين :
أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ.
وقرأ عيسى٤ بن عمر " نَصْحي " بفتح النُّون، وهو مصدرٌ فقط.
وفي غضون كلام الزمخشري :" إذا عرف اللهُ " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون " إنْ " شرطيةً بل هي نافيةٌ، والمعنى :" ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ ".
قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه ؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾.
قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مسلمٌ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء، والنزاع ما وقع إلا فيه ؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم، بل فوَّضَ الاختيار إليهم، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم.
الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم ؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم ؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك، ولا في اجتهادك فائدةٌ ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا ؛ فقد جعلتنا مغلُوبين، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة ؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام - ؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات :
الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله ؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون. ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه ؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره، بل على وجه الإنكار لذلك.
الثاني : قال الحسنُ : معنى " يُغْويكُم " أي : يُعَذِّبكم٥ والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ ؛ فأمنتم في ذلك الوقت ؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ.
الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله :﴿ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ﴾ [ مريم : ٥٩ ]، أي : خيبة من خير الآخرة ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
. . . *** ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا٦
الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ، وتمادى فيه، منعه الله الألطاف، وفوَّضه إلى نفسه ؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات، فلا فائدة في الإعادة، ثَم قال :﴿ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فيجازيكم بأعمالكم، وهذا نهاية الوعيد والتهديد.
١ ينظر: الإملاء ٢/٣٨..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٩٦..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٦٧..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٢١٩، والدر المصون ٤/٦..
٥ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٧/١٧٥)..
٦ عجز بيت للمرقش وصدره:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ***...
ينظر: الخزانة ١/٣٣٩، ١١/٤٥٣ واللسان (غوى) والتفسير الكبير للرازي ١٧/٢١٩..

قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ اختلقه، وافتعله، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رضي الله عنهما١ -.
[ وقال مقاتلٌ - رضي الله عنه - : يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه٢ ]٣ والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم.
﴿ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ أي : إثْمِي ووبال جرمي، والإجرامُ : كسب الذَّنب، وهذا من باب حذف المضاف ؛ لأنَّ المعنى : فعليَّ عقاب إجْرامي، وفي الآية محذوفٌ آخر، وهو أنَّ المعنى : إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه.
قوله :" فَعَلَيَّ إجْرَامِي " : مبتدأٌ وخبرٌ، أو فعلٌ وفاعلٌ.
والجمهورُ على كسر همزة " إجْرَامِي "، وهو مصدر أجْرَمَ، وأجْرمَ هو الفاشي، ويجوزُ " جَرَمَ " ثلاثياً وأنشدوا :[ الوافر ]
٢٩٦٧ - طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي
طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي٤
وقرئ٥ في الشاذّ " أجْرَامِي " بفتحها، حكاهُ النَّحَّاس، وخرَّجه على أنَّه جمعُ " جُرْم " كقفل وأقْفَال، واعلم أنَّ قوله ﴿ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨١)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ سقط في أ..
٤ البيت للهيردان. ينظر: اللسان (جرم) ومجاز القرآن ١/٢٨٨ وروح المعاني ١٢/٤٨ والقرطبي ٩/٢١ والدر المصون ٤/٩٧ وتفسير الطبري ٢١/١٨ تاج العروس [جرم]..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٢٠، والدر المصون ٤/٩٧..
قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ﴾ الجمهور على «أوحِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل ﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ﴾ أي: أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم.
وقرأ أبو البرهسم «أوْحَى» مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى -، «إنَّهُ» بكسر الهمزة وفيها وجهان:
أحدهما: - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول.
والثاني: - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول.
قوله «فَلاَ تَبْتَئِسْ» هو تفتعل من البُؤسِ، ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال: ابتأسَ فلانٌ، أي: بلغه ما يكرهه؛ قال: [البسيط]
480
وقال آخر: [البسيط]
٢٩٦٨ - مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ
٢٩٦٩ - وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ

فصل


دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً.
والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً، مع أنَّهم كانوا مأمورين به، وأيضاً: فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه، وقد أخبر أنَّهُ ﴿... لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ فينبغي أن يقال: إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين.
قوله تعالى: ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾.
«بأعْينِنَا» حالٌ من فاعل «اصْنَع» أي: محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ.
وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي: الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ. وقرأ طلحةُ بنُ مصرف «بأعْيُنَّا» مدغمة.

فصل


قوله تعالى: ﴿واصنع الفلك﴾ الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له.
وأما قوله: «بأعْيُنِنَا» فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ:
481
أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٩].
وثانيها: أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين، كقولك: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها: أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء، والأبعاض؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل، وهو من وجوه:
الأول: معنى «بِأعْيُنِنَا» أي: بنزول الملك؛ فيعرفه بخبر السفينة، يقال: فلان عين فلان أي: ناظر عليه.
والثاني: أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ، فلهذا قال المفسِّرون: معناه: بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك، ويملك دفع السُّوء عنك.
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين:
أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.
والثاني: أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها.
وقوله: «وَوَحْيِنَا» إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة.
وقوله: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ فقيل: لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]. وقيل: «لا تُخَاطِبْنِي» في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً.
وقيل: المرادُ ب «الذينَ ظلمُوا» بانه وامرأته.
قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك﴾ قيل: هذا حكايةُ حال ماضيه أي: في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل: ألتقديرُ: وأقبل يصنع الفلك، فاقتصر على قوله: «يَصْنَع». قيل: إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال: إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك، فقال: كيف أصنع ولست بنجَّارٍ؟ فقال: إنَّ ربَّك يقولُ: اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي، فأخذ القدوم، وجعل يصنعُ ولا يخطئ. وقيل: أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر.
روي أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى.
وقيل: في أربعين سنة، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر.
قال البغويُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين
482
ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذراع [وعرضها خمسين ذراعاً.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع].
وقيل: ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ.
واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع، فالسفلى للدَّواب والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعليا للطيور، ولها غطاء من فوق يطبق عليها.
قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه، ولما يحتاجون إليه، ولحصول زوجين لكلّ حيوان؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم.
قوله: «وَكُلَّمَا مَرَّ» العاملُ في «كُلَّمَا» «سَخِرَ»، و «قَالَ» مستأنف، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في «كُلَّما» «قال»، و «سَخِرُوا» على هذا إمَّا صفة ل «مَلأ»، وإمَّا بدلٌ مِنْ «مرَّ»، وهو بعيدٌ جدّاً، إذ ليس «سَخِرَ» نوعاً من المرور، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملةُ من قوله «كُلَّما» إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ.

فصل


اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون، فقيل: إنهم كاوا يقولون له: كنت تدَّعي الرسالة، فصرت نجَّاراً. وقيل: كانوا يقولون: لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وقيل: إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل: إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً، وكانوا يقولون له: ليس ههنا ماء، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية.
وقيل: إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم، وكان ينذرهم بالغرقِ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة، سخرُوا منه، وكل هذه الوجوه محتملة.
483
ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ أي: مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل: إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا.
فإن قيل: كيف تجُوزُ السخرية من النبي؟.
فالجوابُ: هذا ازدواج للكلام يعنى: إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب.
وقيل: معناه: إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم.
وقيل: سمى المقابلة سخرية كقوله ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].
قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾.
في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولة.
والثاني: أن تكون استفهاميَّة، وعلى كلا التقديرين ف «تَعْلَمُونَ» إمَّا من باب اليقينِ، فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد.
فإذا كانت هذه عرفانية و «مَنْ» استفهامية كانت «مَنْ»، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت «تَعْلَمُونَ» متعديةً لاثنين، و «مَنْ» موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة: «وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحدِ».
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل، وأمَّا حذف الاختصار، فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و «مَنْ» موصولةٌ فأمرها واضحٌ.
قوله: «وَيَحِلُّ عليْهِ» أي: يجبُ عليه، وينزل به «عذابٌ مقيمٌ» دائم. وحكى الزهراويُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ويَحُلُّ» بضمِّ الحاءِ، بمعنى يجبُ أيضاً.
قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ عذابنا، أو وقته، أو قولنا «كن».
﴿وَفَارَ التنور﴾ اختلفوا في التَّنور: قال عكرمةُ والزهري: هو وجه الأرض، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح: إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك.
484
وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: التنور طلوع الفجر، ونور الصَّباح وقيل: التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل: «فَارَ التَّنُّورُ» يحتمل أن يكون معناه: اشتدَّ الحر كما يقالُ: حمي الوطيسُ.
ومعنى الآية: إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة.
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ: إنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسِّرين، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس.
قال الحسنُ: كان تَنُّوراً من حجارةٍ، كانت حواء تخبزُ فيه، فصار إلى نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ: إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة. وقال مقاتلٌ بموضع يقال له: عين وَرْدة بالشَّام وقيل: عين بالهند.
قال الزمخشريُّ: «حتَّى» هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء، ووقعت غاية لقوله ﴿وَيَصْنَعُ الفلك﴾ أي: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في «التَّنُّور» قيل: للعهدِ. وقيل: للجنس.
ووزن «تَنُّور» قيل: «تَفْعُول» من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفاً، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويعزى هذا لثعلب.
وقيل: وزنه «فَعُّول» ويعزى لأبي علي الفارسيِّ. وقيل: هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون.
ومعنى «فَارَ» أي: غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ، فالمرادُ: فار الماءُ في التَّنور.
قال اللَّيْثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ: وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب، فيصير عربيّاً، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل» تَنَرَ «، ولا يعرفُ في كلام العرب» تنر «وهو نظير ما دخل في كلام العرب من
485
كلام العجم الدِّيباج والدِّينار، والسُّندس، والإستبرق، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها؛ فصارت عربيةً». قيل: إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة.
قوله: ﴿قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ قرأ العامَّة بإضافة «كُل» ل «زَوْجَيْنِ».
وقرأ حفص بتنوين «كُل»، فأمَّا العامة فقيل: إنَّ مفعول «احْمِلْ» «اثْنَيْن»، و «مِنْ» كُلِّ زَوْجَيْنِ «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول؛ لأنه كان صفة للنَّكرة، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل: بل» مِنْ «زائدة، و» كُل «مفعول به، و» اثْنَيْن «نعت ل» زَوْجَيْن «على التَّأكيدِ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة» مِنْ «مطلقاً، أو في كلامٍ موجب.
وقيل: قوله:»
زَوْجَيْن «بمعنى العُمومِ أي: من كُل ما له ازدواجٌ، هذا معنى قوله: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ وهو قولُ الفارسيِّ وغيره.
قال ابنُ عطيَّة: ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ.
قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩]، ويقال للمرأة زوجٌ، قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١] يعني المرأة، وهو زوجها، وقال: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى﴾ [النجم: ٤٥] فالواحدُ يقال له: زوجٌ، قال تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين﴾ [الأنعام: ١٤٣]، ﴿وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين﴾ [الأنعام: ١٤٤].
فالزَّوجان: عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج، يقال زوج خفٍّ، وزوج نَعْلِ، والمراد بالزَّوجين ههنا: الذَّكر والأنثى.
وأمَّا قراءة حفص فمعناها: من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف، و»
زَوْجَيْن «مفعولٌ به، و» اثْنَيْنِ «نعتٌ على التأكيد، كقوله ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ [النحل: ٥١]، و» مِنْ كُلّ «على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب» احْمِلْ «وهو الظَّاهرُ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من» زَوْجَيْنِ «وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة» قَدْ أفْلَحَ «.

فصل


اختلفوا في أنه هل دخل في قوله: «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ»
غير الحيوانِ أم لا؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخلوه لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه.
486
قال ابنُ الخطيب: «وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال: لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى، وذلك أنَّ نُوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد، إذا حملته؟ قال الله - تعالى -:» فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى «وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر، وليست به حُمَّى».
وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف يطمئن، أو تطمئن المواشي، ومعنا الأسد، فسلَّط الله عليه الحمى، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسدِ، فعطس الأسد فخرجت الهرة؛ فتخبأت الفأرة منها.
قوله: «وأهْلَك» نسقٌ على «اثْنَيْنِ» في قراءة من أضاف «كُل» ل «زَوْجَيْنِ»، وعلى «زَوْجَيْنِ» في قراءة من نوَّن «كُل» وقوله: «إلاَّ من سبقَ» استثناءٌ متصل في موجب، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور.
وقوله: «وَمَنْ آمَنَ» مفعول به نسقاً على مفعول «احْمِلْ».

فصل


روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب: كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيجعلهما في السفينة.
والمراد بأهله: ولده وعياله ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ بالهلاك يعني: امرأته واعلة وابنه كنعان.
«ومَنْ آمَنَ» يعنى: واحمل من آمن بك، قال تعالى: ﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾. قال قتادةُ بنين سام وحام ويافث ونساؤهم.
وقال الأعمشُ: كانوا سبعة: نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه: سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان به، وأزواجهم جميعاً.
487
وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً، وبنيه الثلاث ونساءهُم.
فجميعهم ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصف نساء.
وعن ابن عباسٍ: كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، يقال: إنَّ في ناحية «المَوْصِل» قريةً، يقال لها: قريةُ الثَّمانين، سمِّيت بذلك؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها، فسُمِّيت بهم.
قال مقاتلٌ: حمل نوحٌ معه جسد آدم، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء.
وقال الحسنُ: لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات، والبقِّ، والبعوض؛ فلم يحمل منه. ثم قال تعالى ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ يعني: حكم الله عليه بالهلاك، وهو ابنه، وزوجته، وكانا كافرين، فأما ابنه فهو يام، وتسميه أهل الكتاب: كنعان، فهو الذي انعزل عنه، أما امرأةُ نوحٍ، فهي أمِّ أولاده كلهم: حام، وسام، ويافث، وهو أدرك؛ انعزل، وغرق، وعابر، وقد مات قبل الطوفان، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك.
فإن قيل: الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟
فالجوابُ: أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به.
فإن قيل: الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله: ﴿إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤] ؟ فالجواب: كلا اللفظين جائز، والتقدير - ههنا -: وما آمن معه إلا نفر قليل.

فصل


احتجوا بقوله ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب، لأنَّ قوله ﴿سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ﴾ يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله، فهو كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه».
488
قال تعالى: ﴿وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا﴾.
يجُوزُ أن يكون فاعلُ «قَالَ» ضمير نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي: وقال الله لنوح ومنه معهُ. و «فِيهَا» متعلقٌ ب «ارْكَبُوا» وعُدِّي ب «في» لتضَمُّنه معنى «ادخلوا فيها راكبين» أو سيروا فيها.
وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل: «في» زائدة للتَّوكيد.
والركوب: العلو على ظهر الشيءِ، ومنه ركوب الدَّابة، وركوب السَّفينة، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، ويقال: ركبه الدَّين. قال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة: رُكَّابَ السَّفينة، وأمَّا الركبانُ، والأركُوبُ، والرَّكْبُ: فركَّابُ الدَّوابِّ.
قال الواحدي: ولفظة «فِي» في قوله «ارْكَبُوا فيهَا» لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال: ركبت السفينة ولا يقال: ركبت في السَّفينة، بل الوجهُ أن يقول مفعول «ارْكَبُوا» محذوف والتقدير: «اركبوا الماء في السَّفينة».
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال: اركبوها، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة.
قال قتادةُ: ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ.
قوله: ﴿بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾.
يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل «اركبوا» أو من «ها» في «فيها» ويكونُ «مجراها»، و «مرساها» فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكون «بِسْمِ اللهِ» خبراً مقدَّماً، و «مَجْراها» مبتدأ مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء، وغيره. إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل «ارْكَبُوا» قال: ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل «اركبُوا» ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في «اركبُوا» لأن المضمر في «بِسْمِ اللهِ» إنْ جعلته خبراً ل «مَجْراهَا» فإنَّما يعودُ على المبتدأ، وهو مجراها، وإن رفعت «مَجْرَاهَا» بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في «مَجْراهَا» وإنما تعودُ على الضمير في «فِيهَا».
489
وإذا نصبت «مَجْرَاهَا» على الظرف عمل فيه «بِسْمِ الله» وكانت الجملةُ حالاً من فعل «ارْكَبُوا».
وقيل: بِسْمِ اللهِ «حال من فاعل» ارْكَبُوا «و» مَجْراهَا ومُرْسَاهَا «في موضع الظرف المكاني، أو الزماني. والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها، ورُسُوِّها، أو وقت جريانها ورسوِّها.
والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه»
بِسْمِ اللهِ «من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين، أو الوقتين.
قال مكي: ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما»
ارْكَبُوا «؛ لأنه لم يُرِدْ: اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي، والرسُوِّ، إنَّما المعنى: سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ.
ويجُوزُ أيضاً أن يكون»
مَجْرَاهَا ومُرْسَاها «مصدرين، و» بِسْمِ الله «حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي: استقرَّ بسم الله إجراؤها، وإرساؤها، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من» هَا «في» فيها «لوجود الرابط، ولا يكونُ حالاً من فاعل» اركبُوا «لعدم الرَّابط. وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً.
ويجوز أن يكون ﴿بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله.
فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله.
قال بعضُ المفسِّرين: كان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا أراد إجراء السفينة قال: «بِسْمِ اللهِ مجرَاها»
فتجري، وإذا أراد أن ترسُو قال: «بِسْمِ الله مرْساهَا» فترسو، فالجملتان محكيتان ب «قَالَ».
وقرأ الأخوان وحفص «مَجْرَاها» بفتح الميم، والباقون بضمها. واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم «مُرْسَاها». وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي وزيد بن علي، والأعمش «مَرْسَاها» بفتح الميم أيضاً.
فالضمُّ فيهما، لأنهما من «أجْرَى وأرْسَى»، والفتح لأنَّهُما من «جَرَتْ ورَسَتْ» وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثابٍ، ومجاهدٌ، وأبو رجاء، والكلبي، والجحدري، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء، والسين بعدهما ياء صريحة،
490
وهما اسما فاعلين من «أجرى وأرسى»، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله.
قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء، ومكي: إنَّهما نعتان للهِ - تعالى -، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة، وقال الخليلُ: «إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة، فلا تتمحَّض».
وقال مكي: «ولو جعلت» مَجْراهَا «، و» مُرْسَاها «في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى».
والرُّسوُّ: الثَّبات، والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا؛ قال: [الكامل]
٢٩٧٠ - فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع
أي: تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فيه سؤال، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر، فكيف يليق به هذا الذكر؟.
والجوابُ: لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات، وفي جميع الأحوال، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله، وفضله، وإحسانه، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته.
قوله: «وهِيَ تَجْرِي» في هذه الجملةِ، ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك.
والثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في «بِسْمِ اللهِ» أي: جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية.
الثالث: أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم اتَّصل قوله: «وهِيَ تَجْرِي بهِمْ» ؟ قلت: بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله: «اركبُوا فيها بسْمِ الله» كأنَّهُ قيل: فركبوا فيها يقولون: «بسم الله وهي تجري بهم».
وقوله «بِهِمْ» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَجْرِي».
491
والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله: «أي: تجْرِي وهُمْ فيها».
وقوله: «كالْجِبَالِ» صفة ل «مَوْجٍ».

فصل


قال ابن جرير، وغيره: إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً.
والمَوْجُ جمع «مَوْجة» والموج: ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح. وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة.
فإن قيل: الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ.
فالجوابُ: أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج.
قوله تعالى: ﴿ونادى نُوحٌ ابنه﴾ الجمهور على كسْرِ تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين.
وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة، وقال: «هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ».
وقرأ العامَّةُ: «ابنهُ» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية.
وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة؛ وأنشد: [البسيط]
٢٩٧١ - وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا
وبعضهم لا يخُصُّه بها، وقال ابن عطية: إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة؛ ومنه قوله: [الطويل]
٢٩٧٢ -............................... ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ
وقال بعضهم: «هي لغة عُقَيْل، وبني كلاب».
وقرأ السدي: «ابْنَاهُ» بألف وهاء السكت، قال ابنُ جنِّي: «وهو على النّداء».
وقال أبو البقاء: «ابناه» على الترثِّي وليس بندبة؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة.
492
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزة النِّداء، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ «يَا» لأنَّها أم الباب.
وقوله: «الترثِّي» هو قريبٌ في المعنى من الندبة.
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [حرف] النداء من المندوب، وهذا شبيهٌ به.
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه -: «ابنها» إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله: «ليْسَ من أهلكَ»، وقوله: «ابْنِي» و ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: ٤٥] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن، وجماعة.
وقرأ محمد بن عليّ، وعروة بن الزبير: «ابْنَهَ» بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلها، إلاَّ أنه حذف ألف «ها» مجتزئاً عنها بالفتحةِ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة، قال ابن عطيَّة: «هي لغةٌ» ؛ وأنشد: [البسيط]
٢٩٧٣ - إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ
يريد: تَبِيعهَا «فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك -: [الوافر]
٢٩٧٤ - فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي بِلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي
يريد:»
يَا لَهْفَا «فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة:» يا غُلامَ «في: يا غُلامَا.
وسيأتي في نحو ﴿ياأبت﴾ [يوسف: ٤] بالفتح: هل ثمَّ الفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدَّم خلاف في نحو: يا ابن أمَّ، ويا ابن عمَّ: هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف، وفيه نظر.
قوله: ﴿وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ جملةٌ في موضع نصب على الحالِ، وصاحبها هو»
ابْنَهُ «والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به.
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة، وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو
493
المصدر. قال أبو البقاء:» ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح «.
قال شهابُ الدِّ] ن: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد؟.
وأصله: من العَزْل، وهو التَّنحية، والإبعاد تقول: كنت بمعزلٍ عن كذا، أي: بموضع قد عُزِل منه، قيل: كان بمعزلٍ عن السفينة، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق.
وقيل: كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه، وقيل: كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم.

فصل


اختلفوا في أنه هل كان ابناً له؟ فقيل: كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً، وهذا ليس ببعيد؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان كافراً، فكذلك ههنا.
فإن قيل: لمَّا دَعَا وقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦] فكيف نادى ابنه مع كفره؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّهُ كان ينافقُ أباه؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ؛ فلذلك ناداه، ولولا ذلك لما أحب نجاته.
الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان، فكان قوله: ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان، وتأكد هذا بقوله: ﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ أي: تابعهم في الكفر، واركب مع المؤمنين.
الثالث: أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء، والذي تقدَّم من قوله: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ [هود: ٤٠] كان كالمجمل، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه.
وقيل: كان ابن امرأته، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة.
وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال: ﴿إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: ٤٥] وأنت تقولُ: ما كان ابناً له، فقال: لَمْ يقل: إنَّ ابني منِّي، وإنَّما قال: من أهلي، وهذا يدلُّ على قولي.
494
وقيل: ولد على فراشه، قالوا: لقوله تعالى في امرأة نوح، وامرأة لوط ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ [التحريم: ١٠].
قال ابن الخطيب: وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ [التحريم: ١٠] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه.
قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف كانت تلك الخيانةُ، فقال: كانت امرأة نوح تقول: زَوْجي مجنونٌ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه، إذا نزلُوا به، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ﴾ [النور: ٢٦] وقوله: ﴿والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾ [النور: ٣].
قوله: ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ قرأ البزيُّ، وقالون، وخلاَّد بإظهار باء «ارْكَب» قبل ميم «مَنَعَنَا» والباقون بإدغامها في الميم، وقرأ عاصم هنا «يَا بُنَيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك. والباقون: بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان، وهو قوله: ﴿يابني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قوله: ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ [لقمان: ١٧] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول. هذا ضبط القراءة.
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل: أصلها: «يَا بُنَيَّا» بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم. وقيل: بل حذفت لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ «ارْكَبْ» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان. وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة، ولا بقراءة البزِّي في «لقمان»، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ. وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً.
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ، وإما لالتقاء الساكنين، وقد تقدَّم فسادهُ. وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ، ولا شكَّ أنَّ
495
السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ، ولا يقالُ: فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات: الأولى للتَّصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام «ابن» ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها.

فصل


لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال: ﴿سآويا إلى جَبَلٍ﴾ سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل ﴿يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾ يمنعني من الغرقِ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر، فعند هذا قال نوحٌ: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي: من عذابِ الله ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾. وههنا سؤال:
وهو أن الذي رَحِمَهُ اللَّهُ معصومٌ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟
والجواب من وجوه:
الأول: أنَّهُ استثناءٌ منقطع، وذلك أن تجعل «عَاصماً» على حقيقته، و «مَنْ رَحِمَ» هو المعصوم، وفي «رَحِمَ» ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو «مَنْ» حذف لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله، لكن من رَحِمَهُ اللَّهُ فهو معصوم.
الثاني: أن يكون المراد ب «مَنْ رَحِمَ» هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ.
الثالث: أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: ﴿مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] أي: مَدْقُوق؛ وأنشدوا: [المتقارب]
٢٩٧٥ - بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي: مَفْتُوناً، و «مَنْ» مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه يُعْصَمُ.
الرابع: أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النَّسب، أي: ذا عِصْمَة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمراد به هنا المعصوم.
496
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره: لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ «لا» فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصم موجودٌ.
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيُّ: ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق «منْ أمْرِ اللهِ».
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال: فأمَّا خبرُ «لا» فلا يجوزُ أن يكون «اليَوْمَ» ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ «مِنْ أمْرِ الله» و «اليَوْمَ» معمولُ «مِنْ أمْرِ اللهِ».
وأمَّا اليَوْمَ «و» مِنْ أمْرِ الله «فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً، ويجوزُ في» اليَوْمَ «أن يتعلق بنفس» مِنْ أمْرِ الله «لكونه بمعنى الفعل.
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون»
اليَوْمَ «نعتاً ل» عَاصِمَ «وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة.
وقرىء»
إلاَّ مَنْ رُحِمَ «مبنيّاً للمفعول، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ» مَنْ رَحمَ «في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم، كما تقدَّم تأويلهُ. ولا يجوزُ أن يكون» اليوْمَ «ولا» مِنْ أمْرِ الله «متعلقين ب» عَاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب، ومتى أعرب نُوِّن، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم» لا «معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ﴾ فصار ﴿مِنَ المغرقين﴾.
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر ذراعاً.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ﴾ قيل: هذا مجاز، لأنَّها موات. وقيل: جعل فيها ما تُمَيَّز به. والذي قال إنَّه مجازٌ قال: لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة وصفها، واشتمال المعاني فيها.
والبلعُ معروفٌ. والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها: بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء.
قيل: والفصيحُ»
بَلِعَ «بكسر اللام» يَبْلَع «بفتحها. والإقلاعُ: الإمساك، ومنه» أقْلَعَت الحُمَّى «. وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تره وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان، يقال: غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً، ومغاضاً إذا نقص، وغضته أنا. وهذا من باب فَعَلَ
497
الشيءُ وفعلتهُ أنا. ومثله فغر الفَمُ وفغرته، ودلع اللسانُ ودلعتهُ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه، وفعله لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ [الرعد: ٨]، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ] بنفسه.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالموصل، وقيل: بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ، منه قول عمرو بن نفيل: [البسيط]
٢٩٧٦ - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
قال شهابُ الدين: ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ.
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء» الجُودِيْ «.
قال ابنُ عطيَّة: وهما لغتان: والصَّوابُ أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي.
قوله»
بُعْداً «منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر، أي: وقيل: ابعدُوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال: [الطويل]
٢٩٧٧ - يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو «سَقْياً لَكَ وَرَعْياً»
، وإمَّا أن تتعلق ب «قيل»، أي: لأجلهم هذا القول.
قال الزمخشري: ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يقضي ذلك الامر الهائل إلاَّ هو، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: «ابلَعِي وأقلعي»، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ.
498

فصل


في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى -.
فأولها: قوله: «وقِيلَ» وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ.
وثانيها: قوله: ﴿ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي﴾ فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته.
وثالثها: أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات، فقوله: «يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ» مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً.
ورابعها: قوله: ﴿وَقُضِيَ الأمر﴾ ومعناه: أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة.
ولقائل أن يقول: لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة.
الجوابُ الثاني: أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة.
وقوله: ﴿وَقُضِيَ الأمر﴾ أي: فرغ منه، وهو هلاك القوم.
وقوله: ﴿واستوت عَلَى الجودي﴾ أي: استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي. قيل: استوت يَوْمَ عاشوراء.
499
﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ قيل: هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ. وقيل: من كلام نوح وأصحابه؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لمَّا عرف نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين؛ فأصبحوا ذات يومٍ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعبر عنهم.
500
قوله تعالى :﴿ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾.
" بأعْينِنَا " حالٌ من فاعل " اصْنَع " أي : محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ.
وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ. وقرأ طلحةُ بنُ١ مصرف " بأعْيُنَّا " مدغمة.

فصل


قوله تعالى :﴿ واصنع الفلك ﴾ الظَّاهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له.
وأما قوله :" بأعْيُنِنَا " فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ :
أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قوله تعالى :﴿ وَلِتُصْنَعَ على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين، كقولك : قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء، والأبعاض ؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل، وهو من وجوه :
الأول : معنى " بِأعْيُنِنَا " أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه.
والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك، ويملك دفع السُّوء عنك.
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين :
أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.
والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها.
وقوله :" وَوَحْيِنَا " إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة.
وقوله :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحكم، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]. وقيل :" لا تُخَاطِبْنِي " في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً.
وقيل : المرادُ ب " الذينَ ظلمُوا " بانه وامرأته.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٦٠ والبحر المحيط ٥/٢٢١ والدر المصون ٤/٩٧..
قوله :﴿ وَيَصْنَعُ الفلك ﴾ قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل : التقديرُ : وأقبل يصنع الفلك، فاقتصر على قوله :" يَصْنَع ". قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي، فأخذ القدوم، وجعل يصنعُ ولا يخطئ. وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر.
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى.
وقيل : في أربعين سنة، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر.
قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع١ [ وعرضها خمسين ذراعاً.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع ]٢.
وقيل : ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ.
واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع، فالسفلى للدَّواب والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعليا للطيور، ولها غطاء من فوق يطبق عليها.
قال ابنُ الخطيب٣ - رحمه الله - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه، ولما يحتاجون إليه، ولحصول زوجين لكلّ حيوان ؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم.
قوله :" وَكُلَّمَا مَرَّ " العاملُ في " كُلَّمَا " " سَخِرَ "، و " قَالَ " مستأنف، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل : بل العامل في " كُلَّما " " قال "، و " سَخِرُوا " على هذا إمَّا صفة ل " مَلأ "، وإمَّا بدلٌ مِنْ " مرَّ "، وهو بعيدٌ جدّاً، إذ ليس " سَخِرَ " نوعاً من المرور، ولا هو هو فكيف يبدل منه ؟ والجملةُ من قوله " كُلَّما " إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ.

فصل


اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون، فقيل : إنهم كانوا يقولون له : كنت تدَّعي الرسالة، فصرت نجَّاراً. وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وقيل : إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل : إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية.
وقيل : إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم، وكان ينذرهم بالغرقِ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة، سخرُوا منه، وكل هذه الوجوه محتملة.
ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول :﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ أي : مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل : إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا.
فإن قيل : كيف تجُوزُ السخرية من النبي ؟.
فالجوابُ : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب.
وقيل : معناه : إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم.
وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله ﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٣٥)..
٢ سقط في أ..
٣ ينظر: تفسير الفخر الرازي (١٧/٧٩)..
قوله :﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾.
في " مَنْ " وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة.
والثاني : أن تكون استفهاميَّة، وعلى كلا التقديرين ف " تَعْلَمُونَ " إمَّا من باب اليقينِ، فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد.
فإذا كانت هذه عرفانية و " مَنْ " استفهامية كانت " مَنْ "، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت " تَعْلَمُونَ " متعديةً لاثنين، و " مَنْ " موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة :" وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحدِ ".
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة ؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل، وأمَّا حذف الاختصار، فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و " مَنْ " موصولةٌ فأمرها واضحٌ.
قوله :" وَيَحِلُّ عليْهِ " أي : يجبُ عليه، وينزل به " عذابٌ مقيمٌ " دائم. وحكى الزهراويُّ - رضي الله عنه - :" ويَحُلُّ " بضمِّ الحاءِ، بمعنى يجبُ أيضاً.
قوله :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ عذابنا، أو وقته، أو قولنا " كن ".
﴿ وَفَارَ التنور ﴾ اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض١، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك.
وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر، ونور الصَّباح٢ وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل :" فَارَ التَّنُّورُ " يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ.
ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة.
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه٣. وهو قول أكثر المفسِّرين، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس٤.
قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ، كانت حواء تخبزُ فيه، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام -٥ واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة٦ وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة٧. وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام٨ وقيل : عين بالهند.
قال الزمخشريُّ :" حتَّى " هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء، ووقعت غاية لقوله ﴿ وَيَصْنَعُ الفلك ﴾ أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في " التَّنُّور " قيل : للعهدِ. وقيل : للجنس.
ووزن " تَنُّور " قيل :" تَفْعُول " من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفاً، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويعزى هذا لثعلب.
وقيل : وزنه " فَعُّول " ويعزى لأبي علي الفارسيِّ. وقيل : هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون.
ومعنى " فَارَ " أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور.
قال اللَّيْثُ - رحمه الله - :" التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب، فيصير عربيّاً، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل " تَنَرَ "، ولا يعرفُ في كلام العرب " تنر " وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار، والسُّندس، والإستبرق، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها ؛ فصارت عربيةً ". قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة.
قوله :﴿ قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ قرأ العامَّة بإضافة " كُل " ل " زَوْجَيْنِ ".
وقرأ حفص٩ بتنوين " كُل "، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول " احْمِلْ " " اثْنَيْن "، و " مِنْ " كُلِّ زَوْجَيْنِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول ؛ لأنه كان صفة للنَّكرة، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل " مِنْ " زائدة، و " كُل " مفعول به، و " اثْنَيْن " نعت ل " زَوْجَيْن " على التَّأكيدِ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة " مِنْ " مطلقاً، أو في كلامٍ موجب.
وقيل : قوله :" زَوْجَيْن " بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ، هذا معنى قوله :﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ﴾ وهو قولُ الفارسيِّ وغيره.
قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ.
قال - سبحانه وتعالى - :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ]، ويقال للمرأة زوجٌ، قال تعالى :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ] يعني المرأة، وهو زوجها، وقال :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى ﴾ [ النجم : ٤٥ ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ، قال تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ]، ﴿ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين ﴾ [ الأنعام : ١٤٤ ].
فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج، يقال زوج خفٍّ، وزوج نَعْلِ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى.
وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف، و " زَوْجَيْن " مفعولٌ به، و " اثْنَيْنِ " نعتٌ على التأكيد، كقوله ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ [ النحل : ٥١ ]، و " مِنْ كُلّ " على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب " احْمِلْ " وهو الظَّاهرُ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " زَوْجَيْنِ " وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة " قَدْ أفْلَحَ ".

فصل


اختلفوا في أنه هل دخل في قوله :" زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " غير الحيوانِ أم لا ؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخوله لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه.
قال ابنُ الخطيب :" وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد، إذا حملته ؟ قال الله - تعالى - :" فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى " ١٠ وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر، وليست به حُمَّى ".
وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين، قال أصحابه : وكيف يطمئن، أو تطمئن المواشي، ومعنا الأسد، فسلَّط الله عليه الحمى، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسدِ، فعطس الأسد فخرجت الهرة ؛ فتخبأت الفأرة منها١١.
قوله :" وأهْلَك " نسقٌ على " اثْنَيْنِ " في قراءة من أضاف " كُل " ل " زَوْجَيْنِ "، وعلى " زَوْجَيْنِ " في قراءة من نوَّن " كُل " وقوله :" إلاَّ من سبقَ " استثناءٌ متصل في موجب، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور.
وقوله :" وَمَنْ آمَنَ " مفعول به نسقاً على مفعول " احْمِلْ ".

فصل


روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين ؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيجعلهما في السفينة.
والمراد بأهله : ولده وعياله ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان.
" ومَنْ آمَنَ " يعنى : واحمل من آمن بك، قال تعالى :﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾. قال قتادةُ وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي : لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين سام وحام ويافث١٢ ونساؤهم.
وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن١٣ وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه : سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان به، وأزواجهم جميعاً١٤.
وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً، وبنيه الثلاث ونساءهُم١٥.
فجميعهم ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصف نساء.
وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، يقال : إنَّ في ناحية " المَوْصِل " قريةً، يقال لها : قريةُ الثَّمانين، سمِّيت بذلك ؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها، فسُمِّيت بهم١٦.
قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء١٧.
وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين ؛ فالحشرات، والبقِّ، والبعوض ؛ فلم يحمل منه١٨. ثم قال تعالى ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ يعني : حكم الله عليه بالهلاك، وهو ابنه، وزوجته، وكانا كافرين، فأما ابنه فهو يام، وتسميه أهل الكتاب : كنعان، فهو الذي انعزل عنه، أما امرأةُ نوحٍ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام، وسام، ويافث، وهو أدرك ؛ انعزل، وغرق، وعابر، وقد مات قبل الطوفان، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك.
فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات ؟
فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات ؛ فلهذا وقع الابتداء به.
فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله :﴿ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [ الشعراء : ٥٤ ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل.

فصل


احتجوا بقوله ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الواجب، لأنَّ قوله ﴿ سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ ﴾ يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - :" السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه " ١٩.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٣٨-٣٩) عن ابن عباس وعكرمة والضحاك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٩٦) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٣)..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٣٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٩٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٣)..

٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٠) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والشعبي.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٣)..

٤ انظر الأثر السابق..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٣)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٠) عن مجاهد والشعبي وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٣) عنهما..
٧ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٩٥) وعزاه إلى أبي الشيخ..
٨ ذكر الرازي في "تفسيره" (١٧/١٨٠)..
٩ ينظر: الحجة ٤/٣٢٤ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٠ وحجة القراءات ٣٣٩ والإتحاف ٢/١٢٥ والمحرر الوجيز ٣/١٧١ والبحر المحيط ٥/٢٢٣ والدر المصون ٤/٩٨..
١٠ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٧/١٨١)..
١١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٩٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٢-٤٣) عن قتادة وابن جريج وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٠١) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٣)..
١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٤) وأخرجه الطبري (٧/٤٣)..
١٥ انظر المصدر السابق..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٠١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
١٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٤)..
١٨ انظر المصدر السابق..
١٩ أخرجه البزار (٢١٥٠-كشف) والطبراني في "الصغير" (٢/٥) والبيهقي في "الاعتقاد" ص (١٣٩) من حديث أبي هريرة.
وله شاهد من حديث ابن مسعود مرفوعا:
أخرجه ابن أبي عاصم (١٧٨) والقضاعي في "مسند الشهاب" (٧٦) وأخرجه مسلم (٢٦٤٥) عن ابن مسعود موقوفا..

قال تعالى :﴿ وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا ﴾.
يجُوزُ أن يكون فاعلُ " قَالَ " ضمير نوح - عليه الصلاة والسلام -، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي : وقال الله لنوح ومنه معهُ. و " فِيهَا " متعلقٌ ب " ارْكَبُوا " وعُدِّي ب " في " لتضَمُّنه معنى " ادخلوا فيها راكبين " أو سيروا فيها.
وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها. وقيل :" في " زائدة للتَّوكيد.
والركوب : العلو على ظهر الشيءِ، ومنه ركوب الدَّابة، وركوب السَّفينة، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، ويقال : ركبه الدَّين. قال الليثُ - رحمه الله - : وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة : رُكَّابَ السَّفينة، وأمَّا الركبانُ، والأركُوبُ، والرَّكْبُ : فركَّابُ الدَّوابِّ.
قال الواحدي : ولفظة " فِي " في قوله " ارْكَبُوا فيهَا " لا يجوز أن تكون من صلة الركوب ؛ لأنَّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السَّفينة، بل الوجهُ أن يقول مفعول " ارْكَبُوا " محذوف والتقدير :" اركبوا الماء في السَّفينة ".
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة.
قال قتادةُ : ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب ؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ١.
قوله :﴿ بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾.
يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل " اركبوا " أو من " ها " في " فيها " ويكونُ " مجراها "، و " مرساها " فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكون " بِسْمِ اللهِ " خبراً مقدَّماً، و " مَجْراها " مبتدأ مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء، وغيره. إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل " ارْكَبُوا " قال : ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل " اركبُوا " ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في " اركبُوا " لأن المضمر في " بِسْمِ اللهِ " إنْ جعلته خبراً ل " مَجْراهَا " فإنَّما يعودُ على المبتدأ، وهو مجراها، وإن رفعت " مَجْرَاهَا " بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في " مَجْراهَا " وإنما تعودُ على الضمير في " فِيهَا ".
وإذا نصبت " مَجْرَاهَا " على الظرف عمل فيه " بِسْمِ الله " وكانت الجملةُ حالاً من فعل " ارْكَبُوا ".
وقيل : بِسْمِ اللهِ " حال من فاعل " ارْكَبُوا " و " مَجْراهَا ومُرْسَاهَا " في موضع الظرف المكاني، أو الزماني. والتقدير : اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها، ورُسُوِّها، أو وقت جريانها ورسوِّها.
والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه " بِسْمِ اللهِ " من الاستقرار، والتقدير : اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين، أو الوقتين.
قال مكي : ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما " ارْكَبُوا " ؛ لأنه لم يُرِدْ : اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي، والرسُوِّ، إنَّما المعنى : سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ.
ويجُوزُ أيضاً أن يكون " مَجْرَاهَا ومُرْسَاها " مصدرين، و " بِسْمِ الله " حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي : استقرَّ بسم الله إجراؤها، وإرساؤها، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من " هَا " في " فيها " لوجود الرابط، ولا يكونُ حالاً من فاعل " اركبُوا " لعدم الرَّابط. وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً.
ويجوز أن يكون ﴿ بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله.
فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله.
قال بعضُ المفسِّرين : كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أراد إجراء السفينة قال :" بِسْمِ اللهِ مجرَاها " فتجري، وإذا أراد أن ترسُو قال :" بِسْمِ الله مرْساهَا " فترسو، فالجملتان محكيتان ب " قَالَ ".
وقرأ الأخوان وحفص " مَجْرَاها " بفتح الميم، والباقون٢ بضمها. واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم " مُرْسَاها ". وقرأ ابن مسعود، وعيسى٣ الثقفي وزيد بن علي، والأعمش " مَرْسَاها " بفتح الميم أيضاً.
فالضمُّ فيهما، لأنهما من " أجْرَى وأرْسَى "، والفتح لأنَّهُما من " جَرَتْ ورَسَتْ " وهما : إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثابٍ، ومجاهدٌ، وأبو رجاء، والكلبي٤، والجحدري، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء، والسين بعدهما ياء صريحة، وهما اسما فاعلين من " أجرى وأرسى "، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله.
قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء، ومكي : إنَّهما نعتان للهِ - تعالى -، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة، وقال الخليلُ :" إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة، فلا تتمحَّض ".
وقال مكي :" ولو جعلت " مَجْراهَا "، و " مُرْسَاها " في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى ".
والرُّسوُّ : الثَّبات، والاستقرار، يقال : رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا ؛ قال :[ الكامل ]
فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً *** تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع٥
أي : تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
قوله :﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فيه سؤال، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر، فكيف يليق به هذا الذكر ؟.
والجوابُ : لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات، وفي جميع الأحوال، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله، وفضله، وإحسانه، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٦)..
٢ ينظر: الحجة ٤/٣٢٩ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٠ وحجة القراءات ٣٤٠ والإتحاف ٢/١٢٥، ١٢٦، والمحرر الوجيز ٣/١٧٣ والبحر المحيط ٥/٢٢٥ والدر المصون ٤/٩٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧٣ والبحر المحيط ٥/٢٢٥، ٢٢٦ والدر المصون ٤/٩٩..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧٣ والبحر المحيط ٥/٢٢٦ والدر المصون ٤/٩٩..
٥ البيت لعنترة. ورواية الديوان (٤٩):
فصبرت عارفة لذلك حرة ***...
ينظر: البحر المحيط ٥/٢٢٤ واللسان (صبر) وروح المعاني ١٢/٥٧ والتهذيب ٢/٣٤٤ والدر المصون ٤/١٠٠..

قوله :" وهِيَ تَجْرِي " في هذه الجملةِ، ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك.
والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في " بِسْمِ اللهِ " أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية.
الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله :" وهِيَ تَجْرِي بهِمْ " ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله :" اركبُوا فيها بسْمِ الله " كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون :" بسم الله وهي تجري بهم ".
وقوله " بِهِمْ " يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب " تَجْرِي ".
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله :" أي : تجْرِي وهُمْ فيها ".
وقوله :" كالْجِبَالِ " صفة ل " مَوْجٍ ".

فصل


قال ابن جرير، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً.
والمَوْجُ جمع " مَوْجة " والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح. وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة.
فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ.
فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج.
قوله تعالى :﴿ ونادى نُوحٌ ابنه ﴾ الجمهور على كسْرِ تنوين " نوح " لالتقاء الساكنين.
وقرأ١ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة، وقال :" هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ ".
وقرأ العامَّةُ :" ابنهُ " بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية.
وقرأ ابنُ عباس٢ بسكون الهاء. قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة ؛ وأنشد :[ البسيط ]
وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ *** إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا٣
وبعضهم لا يخُصُّه بها، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة ؛ ومنه قوله :[ الطويل ]
. . . *** ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ٤
وقال بعضهم :" هي لغة عُقَيْل، وبني كلاب ".
وقرأ السدي٥ :" ابْنَاهُ " بألف وهاء السكت، قال ابنُ جنِّي :" وهو على النّداء ".
وقال أبو البقاء٦ :" ابناه " على الترثِّي وليس بندبة ؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة.
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا ؟ إن عنى همزة النِّداء، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ " يَا " لأنَّها أم الباب.
وقوله :" الترثِّي " هو قريبٌ في المعنى من الندبة.
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب، وهذا شبيهٌ به.
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه٧ - :" ابنها " إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله :" ليْسَ من أهلكَ "، وقوله :" ابْنِي " و﴿ مِنْ أَهْلِي ﴾ [ هود : ٤٥ ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن، وجماعة.
وقرأ محمد بن عليّ٨، وعروة بن الزبير :" ابْنَهَ " بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلها، إلاَّ أنه حذف ألف " ها " مجتزئاً عنها بالفتحةِ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة، قال ابن عطيَّة :" هي لغةٌ " ؛ وأنشد :[ البسيط ]
إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا *** أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ٩
يريد : تَبِيعهَا " فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله :- وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - :[ الوافر ]
فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي *** بِلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي١٠
يريد :" يَا لَهْفَا " فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة :" يا غُلامَ " في : يا غُلامَا.
وسيأتي في نحو ﴿ ياأبت ﴾ [ يوسف : ٤ ] بالفتح : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة أم لا ؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا ؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف، وفيه نظر.
قوله :﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ جملةٌ في موضع نصب على الحالِ، وصاحبها هو " ابْنَهُ " والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به.
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة، وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء١١ :" ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح ".
قال شهابُ الدِّين١٢ : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد ؟.
وأصله : من العَزْل، وهو التَّنحية، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا، أي : بموضع قد عُزِل منه، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق.
وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم.

فصل


اختلفوا في أنه هل كان ابناً له ؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً، فكذلك ههنا.
فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] فكيف نادى ابنه مع كفره ؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه ؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ ؛ فلذلك ناداه، ولولا ذلك لما أحب نجاته.
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان، فكان قوله :﴿ يا بني اركب مَّعَنَا ﴾ كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان، وتأكد هذا بقوله :﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين ﴾ أي : تابعهم في الكفر، واركب مع المؤمنين.
الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء، والذي تقدَّم من قوله :﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ [ هود : ٤٠ ] كان كالمجمل، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه.
وقيل : كان ابن امرأته، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة.
وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال :﴿ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي ﴾ [ هود : ٤٥ ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي، وإنَّما قال : من أهلي، وهذا يدلُّ على قولي١٣.
وقيل : ولد على فراشه، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح، وامرأة لوط ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [ التحريم : ١٠ ].
قال ابن الخطيب١٤ : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن.
وأمَّا قوله تعالى :﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [ التحريم : ١٠ ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه.
قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه، إذا نزلُوا به١٥، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى :﴿ الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ ﴾ [ النور : ٢٦ ] وقوله :﴿ والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ [ النور : ٣ ].
قوله :﴿ يا بني اركب مَّعَنَا ﴾ قرأ البزيُّ، وقالون١٦، وخلاَّد بإظهار باء " ارْكَب " قبل ميم " مَنَعَنَا " والباقون بإدغامها في الميم، وقرأ عاصم هنا١٧ " يَا بُنَيَّ " بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك. والباقون : بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير ؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان، وهو قوله :﴿ يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله ﴾ [ لقمان : ١٣ ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قوله :﴿ يا بني أَقِمِ الصلاة ﴾ [ لقمان : ١٧ ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول. هذا ضبط القراءة.
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها :" يَا بُنَيَّا " بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم. وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ " ارْكَبْ " وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان. وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة، ولا بقراءة البزِّي في " لقمان "، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ. وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً.
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ، وإما لالتقاء الساكنين، وقد تقدَّم فسادهُ. وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول ؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام " ابن " ما هي ؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧٤ والبحر المحيط ٥/٢٢٦ والدر المصون ٤/١٠٠..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧٣ والبحر المحيط ٥/٢٢٦ والدر المصون ٤/١٠٠..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٦، والمحرر الوجيز ٣/١٧٣، والبحر المحيط ٥/٢٢٦، والدر المصون ٤/١٠٠..
٦ ينظر: الإملاء ٢/٣٩..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٦، والدر المصون ٤/١٠٠..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٦، المحرر الوجيز ٣/١٧٣، البحر المحيط ٥/٢٢٧، الدر المصون ٤/١٠٠..
٩ ينظر: البيت في خزانة الأدب ٥/٢٧٣٢ ورصف المباني ص ١٥ وسر صناعة الإعراب ص ١٢٧ وشرح شواهد الشافية ص ٢٤٠ واللسان (ركب) وروح المعاني ١٢/٥٨ والبحر المحيط ٥/٢٢٦ والدر المصون ٤/١٠٠..
١٠ تقدم..
١١ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/٣٩..
١٢ ينظر: الدر المصون ٤/١٠١..
١٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٩/٣٢)..
١٤ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/١٨٥..
١٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٧) وعزاه إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس وسيأتي تخريجه في موضعه..
١٦ ينظر: الدر المصون ٤/١٠١..
١٧ ينظر: الحجة ٤/٣٣٣ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٢ وحجة القراءات ٣٤٠ والإتحاف ٢/١٢٦ والمحرر الوجيز ٣/١٧٤ والبحر المحيط ٥/٢٢٧ والدر المصون ٤/١٠١..

فصل


لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال :﴿ سآوي إلى جَبَلٍ ﴾ سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل ﴿ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء ﴾ يمنعني من الغرقِ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر، فعند هذا قال نوحٌ :﴿ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله ﴾ أي : من عذابِ الله ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾. وههنا سؤال :
وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم ؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع، وذلك أن تجعل " عَاصماً " على حقيقته، و " مَنْ رَحِمَ " هو المعصوم، وفي " رَحِمَ " ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو " مَنْ " حذف لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله، لكن من رحمه الله فهو معصوم.
الثاني : أن يكون المراد ب " مَنْ رَحِمَ " هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ.
الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو :﴿ مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٦ ] أي : مَدْقُوق ؛ وأنشدوا :[ المتقارب ]
بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا١
أي : مَفْتُوناً، و " مَنْ " مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رحمه الله فإنَّه يُعْصَمُ.
الرابع : أن يكون " عاصم " هنا بمعنى النَّسب، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمراد به هنا المعصوم.
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ " لا " فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير : لا عاصم موجودٌ.
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق " منْ أمْرِ اللهِ ".
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ " لا " فلا يجوزُ أن يكون " اليَوْمَ " ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ " مِنْ أمْرِ الله " و " اليَوْمَ " معمولُ " مِنْ أمْرِ اللهِ ".
وأمَّا اليَوْمَ " و " مِنْ أمْرِ الله " فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً، ويجوزُ في " اليَوْمَ " أن يتعلق بنفس " مِنْ أمْرِ الله " لكونه بمعنى الفعل.
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون " اليَوْمَ " نعتاً ل " عَاصِمَ " وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة٢.
وقرىء " إلاَّ مَنْ رُحِمَ " مبنيّاً للمفعول، وهي مقويةٌ لقول من يدعي أنَّ " مَنْ رَحمَ " في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم، كما تقدَّم تأويلهُ. ولا يجوزُ أن يكون " اليوْمَ " ولا " مِنْ أمْرِ الله " متعلقين ب " عَاصم " وكذلك الواحد منهما ؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب، ومتى أعرب نُوِّن، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم " لا " معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً.
ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ ﴾ فصار ﴿ مِنَ المغرقين ﴾.
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً، وقيل : خمسة عشر ذراعاً.
١ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/٢٢٧ واللسان (فتن) وروح المعاني ١٢/٩٠ والقرطبي ٩/٢٨ والدر المصون ٤/١٠٢..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٣٩٧، البحر المحيط ٥/٢٢٨، والدر المصون ٤/١٠٢..
قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ ﴾ قيل : هذا مجاز، لأنَّها موات. وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به. والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة وصفها، واشتمال المعاني فيها.
والبلعُ معروفٌ. والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء.
قيل : والفصيحُ " بَلِعَ " بكسر اللام " يَبْلَع " بفتحها. والإقلاعُ : الإمساك، ومنه " أقْلَعَت الحُمَّى ". وقيل : أقلع عن الشيء، أي : تره وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ : النقصان، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً، ومغاضاً إذا نقص، وغضته أنا. وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا. ومثله فغر الفَمُ وفغرته، ودلع اللسانُ ودلعتهُ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه، وفعله لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرحام ﴾ [ الرعد : ٨ ]، أي : تَنْقُص. وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّي بنفسه.
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ، منه قول عمرو بن نفيل :[ البسيط ]
سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ١
قال شهابُ الدين٢ : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ.
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء " الجُودِيْ ".
قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي.
قوله " بُعْداً " منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال :[ الطويل ]
يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ٣
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو " سَقْياً لَكَ وَرَعْياً "، وإمَّا أن تتعلق ب " قيل "، أي : لأجلهم هذا القول.
قال الزمخشري٤ : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل إلاَّ هو، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله :" ابلَعِي وأقلعي "، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ.

فصل


في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى -.
فأولها : قوله :" وقِيلَ " وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر ؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ.
وثانيها : قوله :﴿ يا أرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي ﴾ فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته.
وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات، فقوله :" يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ " مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً.
ورابعها : قوله :﴿ وَقُضِيَ الأمر ﴾ ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة.
ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة.
الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة.
وقوله :﴿ وَقُضِيَ الأمر ﴾ أي : فرغ منه، وهو هلاك القوم.
وقوله :﴿ واستوت عَلَى الجودي ﴾ أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي. قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء.
﴿ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ. وقيل : من كلام نوح وأصحابه ؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين ؛ فأصبحوا ذات يومٍ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم.
١ البيت لورقة بن نوفل ينظر: الأغاني ٣/١١٥ وخزانة الأدب ٣/٣٣٨، ٧/٢٣٤، ٢٣٦، ٢٣٨، ٢٤٣، والدرر ٣/٦٩ ولأمية بن أبي الصلت ينظر: ديوانه (٣٠) والكتاب ١/٣٢٦ واللسان (سبح) ولزيد بن عمرو بن نفيل ينظر شرح أبيات سيبويه ١/١٩٤ والدر المصون ٤/١٠٣ وبلا نسبة في شرح المفصل ١/٣٧، ١٢، ٤/٣٦، والمقتضب ٣/٢١٧ وهمع الهوامع ١/١٩٠..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧٦، والبحر المحيط ٥/٢٢٩ والدر المصون ٤/١٠٤..
٣ ينظر البيت في الدر المصون ٤/١٠٣..
٤ ينظر: تفسير الكشاف ٢/٣٩٨..
قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ﴾ الآية.
قوله: «فَقَالَ» عطفٌ على «نَادَى». قال الزمخشريُّ: فإن قلت: وإن كان النداءُ هو قوله «رَبّ» فكيف عطف «فقال رَبّ» على «نَادَى» بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ [مريم: ٣]- ﴿قَالَ رَبِّ﴾ [مريم: ٤] بغير فاء.

فصل


تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا؟ فقوله: ﴿رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾ وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق﴾ لا خلف فيه ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك؛ قال الله: ﴿يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل، أنه كان ابناً له، وجب أن يكون المراد: ليس من أهل دينك. وقيل: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
قوله: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ : قرأ الكسائيُّ «عَمِلَط فعلاً ماضياً، و» غيرَ «نَصْباً.
500
والباقون:» عَمَلٌ «بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ، و» غَيْرُ «بالرَّفع.
فقراءةُ الكسائي: الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ، وفاعل»
عَمِلَ «ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و» غَيْرَ «مفعولٌ به. ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: عمل عملاً غير صالح كقوله ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ [المؤمنون: ٥١]. وقيل: إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ:
أظهرها: أنَّه عائدٌ على ابن نوح، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في»
رجل عدل «، و» زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ «.
والثاني: أنه يعودُ على النداء المفهوم منق وله:»
ونَادَى «أي: نداؤك وسؤالك.
وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ. وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام -؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال:»
ليسَ بذاك «ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد.
الثالث: أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله:»
اركب مَعَنَا «.
الرابع: أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب، وكونه مع المؤمنين، أي: إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلاَّ قيل: إنَّه عملٌ فاسدٌ. قلت: لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك.
قوله: ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِي﴾ قرأ نافع وابن عامرٍ «فلا تَسْألنِّ»
بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء. وابن كثير بتشديدها مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو، ودون ياء في الحالين للكوفيين. وفي الكهف ﴿فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ﴾ [الكهف: ٧٠]
501
قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ، فلا يوافق فيها فتحها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ.
فمن خفَّف النون، فهي نونُ الوقاية وحدها، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد.
وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم، والباقون جعلوه. فلزمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سَأَلَ» يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم، والثاني ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
قوله: «أن تكون» على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن، وقوله: ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يجوزُ في «بِهِ» أن يتعلَّق ب «عِلْم».
قال الفارسيُّ: ويكون مثل قوله: [الرجز]
٢٩٧٨ - كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا... ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به «لَكَ»، والباء بمعنى «في»، أي ما ليس لك به علمٌ. وفيه نظرٌ.
ثم قال: ﴿إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ يعني أن تدعو بهلاك الكفار، ثم تسأل نجاة كافر ﴿قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك.
قوله: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي﴾ لم تمنع «لا» من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو: «جِئْتُ بلا زادٍ» قال أبو البقاء: «لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك» مَا «فإنَّها تنفي ما في الحالِ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل» إنْ «عليها».
قوله
: ﴿قِيلَ
يانوح
الخلافُ المتقدم في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ﴾ [البقرة: ١٣ و٩١] وشبهه عائدٌ هنا، أي: في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل.
قوله: «بِسَلاَمٍ» حالٌ من فالع «اهْبِطْ» أي: مُلْتَبساً بسلامٍ. و «مِنا» صفةٌ ل: «سَلام» فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس «سلام»، وابتداءُ الغاية مجازٌ، وكذلك «عَلَيْكَ» يجوز أن يكون صفة ل «بَركات» أو متعلقاً بها.
ومعنى «اهْبِطْ» انزل من السفينة، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً، ثم بالبركةِ ثانياً.
502
والبركة: ثبوت الخير ومنه بروك البعير، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها، ومنه ﴿تَبَارَكَ الله﴾ [الأعراف: ٥٤] أي: ثبت تعظيمه وقيل: البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: ﴿وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ قيل: المرادُ الذين معه، وذرياتهم، وقيل: ذريَّة من معهُ.
قوله ﴿مِّمَّن مَّعَكَ﴾ يجوز في «مَنْ» أن تكون لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ.
وقُرِىء «اهْبُط» بضمِّ الباءِ، وقد تقدَّم أول البقرة، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - «وبركة» بالتوحيد.
قوله: «وأمم» يجوزُ أن يكون مبتدأ، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» خبره، وفي مسوغ الابتداء وجهان:
أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم: «السَّمْن منوان بدرهم» ف «مَنَوان» مبتدأٌ وصفَ ب «منه» تقديراً.
والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «النَّاسُ رجلان: رجلٌ أهَنْتُ، وآخرُ أكْرَمْتُ» ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
٢٩٧٩ - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في «اهْبِطْ» وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل، قاله أبو البقاء. قال أبو حيَّان: وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين؛ لقوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ. وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ، في قوله ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] لأمرٍ صناعي، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» على هذا صفةٌ ل «أمم»، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ: كما تقولُ: كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس «ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق.
واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ.
ثم قال: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ [آل عمران: ٤٤] في آل عمران. و «تلك»
في محلِّ رفع على الابتداء، و ﴿مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ الخبر، و «نُوحِيهَا إليْكَ» خبر ثان.
503
قوله: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في «إليك» وأن تكون حالاً من المفعول في «نُوحيهَا» وأن تكون خبراً بعد خبر.
والمعنى: ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك، أي: إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها، كقول الإنسان لآخر: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل: أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟.
فالجواب: أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال تعالى: «فاصْبِرْ» يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار «إنَّ العافيةَ» آخر الأمر والنّصر والظّفر «لِلْمُتَّقين».
فإن قيل: إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها، فما فائدة هذا التكرار؟.
فالجوابُ: أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر، فكن، يا مُحمَّدُ، كذلك لتنال المقصود، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ.
504
قال الله :﴿ يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل، أنه كان ابناً له، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك. وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ : قرأ١ الكسائيُّ " عَمِلَط فعلاً ماضياً، و " غيرَ " نَصْباً.
والباقون :" عَمَلٌ " بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ، و " غَيْرُ " بالرَّفع.
فقراءةُ الكسائي : الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ، وفاعل " عَمِلَ " ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و " غَيْرَ " مفعولٌ به. ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره : عمل عملاً غير صالح كقوله ﴿ واعملوا صَالِحاً ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ]. وقيل : إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ :
أظهرها : أنَّه عائدٌ على ابن نوح، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في " رجل عدل "، و " زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ ".
والثاني : أنه يعودُ على النداء المفهوم من قوله :" ونَادَى " أي : نداؤك وسؤالك.
وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ. وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ٢، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام - ؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال :" ليسَ بذاك " ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد.
الثالث : أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله :" اركب مَعَنَا ".
الرابع : أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب، وكونه مع المؤمنين، أي : إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عليه الصلاة والسلام -، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى.
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلاَّ قيل : إنَّه عملٌ فاسدٌ. قلت : لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك.
قوله :﴿ فَلاَ تَسْأَلْنِي ﴾ قرأ نافع وابن عامرٍ " فلا تَسْألنِّ " بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء. وابن كثير بتشديدها مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو، ودون ياء في الحالين للكوفيين٣. وفي الكهف ﴿ فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ ﴾ [ الكهف : ٧٠ ] قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم ؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ، فلا يوافق فيها فتحها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ.
فمن خفَّف النون، فهي نونُ الوقاية وحدها، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد.
وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم، والباقون جعلوه. فلزمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ " سَأَلَ " يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم، والثاني ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾.
قوله :" أن تكون " على حذف حرف الجر، أي : مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن، وقوله :﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ يجوزُ في " بِهِ " أن يتعلَّق ب " عِلْم ".
قال الفارسيُّ : ويكون مثل قوله :[ الرجز ]
كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا٤ ***. . .
ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به " لَكَ "، والباء بمعنى " في "، أي ما ليس لك به علمٌ. وفيه نظرٌ.
ثم قال :﴿ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ يعني أن تدعو بهلاك الكفار، ثم تسأل نجاة كافر.
١ ينظر: الحجة ٤/٣٤١ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٣ وحجة القراءات ٣٤١ وقرأ بها أيضا يعقوب ينظر: الإتحاف ٢/١٢٧ والمحرر الوجيز ٣/١٧٧ والبحر المحيط ٥/٢٢٩ والدر المصون ٤/١٠٤..
٢ في أ: عقيم..
٣ ينظر اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٤/٣٤٤، ٣٤٥ ص ٣٤٣، ٣٤٤ والإتحاف ٣٢/١٢٧ والمحرر الوجيز ٣/١٧٧ والبحر المحيط ٥/٢٣٠ والدر المصون ٤/١٠٤..
٤ تقدم..
﴿ قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾ وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك.
قوله :﴿ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي ﴾ لم تمنع " لا " من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو :" جِئْتُ بلا زادٍ " قال أبو البقاء :" لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك " مَا " فإنَّها تنفي ما في الحالِ ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل " إنْ " عليها ".
قوله :﴿ قِيلَ يا نوح ﴾ الخلافُ المتقدم في قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ ﴾ [ البقرة : ١٣ و ٩١ ] وشبهه عائدٌ هنا، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل.
قوله :" بِسَلاَمٍ " حالٌ من فاعل " اهْبِطْ " أي : مُلْتَبساً بسلامٍ. و " مِنا " صفةٌ ل :" سَلام " فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس " سلام "، وابتداءُ الغاية مجازٌ، وكذلك " عَلَيْكَ " يجوز أن يكون صفة ل " بَركات " أو متعلقاً بها.
ومعنى " اهْبِطْ " انزل من السفينة، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً، ثم بالبركةِ ثانياً.
والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها، ومنه ﴿ تَبَارَكَ الله ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال :﴿ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾ قيل : المرادُ الذين معه، وذرياتهم، وقيل : ذريَّة من معهُ.
قوله ﴿ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾ يجوز في " مَنْ " أن تكون لابتداء الغاية، أي : ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة ؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ.
وقُرِىء " اهْبُط " بضمِّ الباءِ، وقد تقدَّم أول البقرة، وقرأ١ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - " وبركة " بالتوحيد.
قوله :" وأمم " يجوزُ أن يكون مبتدأ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " خبره، وفي مسوغ الابتداء وجهان :
أحدهما : الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم، أي : ممَّن معك كقولهم :" السَّمْن منوان بدرهم " ف " مَنَوان " مبتدأٌ وصفَ ب " منه " تقديراً.
والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو :" النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ، وآخرُ أكْرَمْتُ " ومنه قول امرئ القيس :[ الطويل ]
إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ٢
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في " اهْبِطْ " وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل، قاله أبو البقاء. قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين ؛ لقوله :﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾ ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ، وأخبر عنهم بالحال التي يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ. وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ، في قوله ﴿ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] لأمرٍ صناعي، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " على هذا صفةٌ ل " أمم "، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس " ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق.
واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٣١، والدر المصون ٤/١٠٥..
٢ تقدم..
ثم قال :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ﴾ وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله ﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] في آل عمران. و " تلك " في محلِّ رفع على الابتداء، و﴿ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ﴾ الخبر، و " نُوحِيهَا إليْكَ " خبر ثان.
قوله :﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في " إليك " وأن تكون حالاً من المفعول في " نُوحيهَا " وأن تكون خبراً بعد خبر.
والمعنى : ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك، أي : إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها، كقول الإنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك.
فإن قيل : أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم ؟.
فالجواب : أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة.
ثم قال تعالى :" فاصْبِرْ " يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار " إنَّ العافيةَ " آخر الأمر والنّصر والظّفر " لِلْمُتَّقين ".
فإن قيل : إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها، فما فائدة هذا التكرار ؟.
فالجوابُ : أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظهر ثُمَّ في العاقبةِ ظهر، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر، فكن، يا مُحمَّدُ، كذلك لتنال المقصود، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ.
قوله تعالى: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ القصَّةُ: معطوفان على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى
504
قَوْمِهِ} [هود: ٢٥] في عطف مرفوع على مرفوع ومجرور، كقولك: ضرب زيدٌ عمراً، وبكرٌ خالداً وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرور نحو: «ضَرَبْتُ زيداً، وفي السُّوق عَمْراً» فيجيءُ الخلافُ المشهورُ.
وقيل: بل هو على إضمار فعلٍ، أي: وأرْسَلْنَا هوداً، وهذا أوفق لطولِ الفصلِ.
و «هوداً» بدلٌ أو عطفُ بيان لأخيهم.
وقرأ ابنُ محيصنٍ «يَا قَوْمُ» بضم الميم، وهي لغةُ بعضهم يبنُون المضاف للياء على الضَّم كقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضمِّ الياء، ولا يجوز أن يكون غير مضافٍ للياءِ كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
وقوله: ﴿مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ تقدّضم في الأعراف.

فصل


كان هود أخاهم في النسب لا في الدِّين؛ لأنه كان من قبيلةِ عادٍ، وهم قبيلةٌ من العربِ بناحية اليمنِ، كما يقالُ للرَّجُلِ: يا أخا تميم، ويا أخا سليمٍ، والمرادُ رجلٌ منهم.
فإن قيل: إنَّه تعالى قال في ابن نُوح ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] فبيَّن أنَّ قرابة النَّسبِ لا تفيدُ إذا لم تَحْصُلْ قرابةُ الدِّين، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدِّين، فما الفرقُ بينهما؟.
فالجوابُ: أنَّ المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّ قومهُ كانُوا يستبعدُون في محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنَّهُ واحدٌ من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله، فذكر الله تعالى أنَّ هوداً كان واحداً من عاد، وأنَّ صالحاً كان واحداً من ثمود، لإزالة هذا الاستبعاد.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله﴾ [الأعراف: ٦٥] وحدُوا الله، ولا تعبدُوا غيرهُ.
فإن قيل: كيف دعاهم إلى عبادةِ قبل إقامةِ الدَّلالة على ثبوت الإله تعالى؟.
فالجواب: أنَّ دلائل ثُبوتِ وجود الله تعالى ظاهرة، وهي دلائلُ الآفاق والأنفس، وقلَّما تُوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله؛ ولذلك قال تبارك وتعالى في صفة الكفار: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥].
ثم قال: «إنْ أنتُمْ» ما أنتم «إلاَّ مُفْتَرُونَ» كاذبُون في إشراككم.
ثم قال: ﴿ياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي: على تبليغ الرسالة جُعْلاً ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني﴾ وهذا عينُ ما ذكره نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
505
قرأ نافع، والبزي بفتح ياء «فَطَرني»، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها. ومعنى «فَطَرني» خلقني، ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان.
ثم قال: ﴿وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ﴾ آمنوا به، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان.
وقال الأصمُّ: ﴿استغفروا رَبَّكُمْ﴾ أي: سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم.
قوله: ﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ نصب «مِدْرَاراً» على الحالِ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ:
أحدها: أنَّ المراد بالسَّماء السحاب، فذكَّر على المعنى.
الثاني: أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك: صَبُور، وشكُور، وفعيل.
الثالث: أنَّ الهاءَ حذفت من «مِفْعَال» على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام.
والمعنى: يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ. ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾ أي: شدة مع شدَّتكم. وقيل: المراد بالقوَّة: المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هودٌ: إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ، والولدَ، فذلك قوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ والمِدْرَارُ: بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة.
فإن قيل: إنَّ هوداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ، فالأمْثل» فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة، والأخرويَّةِ عليها، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن.
فالجوابُ: لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ.
قوله: ﴿إلى قُوَّتِكُمْ﴾ يجوز أن يتعلق ب «يَزِدْكُم» على التَّضمين، أي: يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل «قُوَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وقدَّرهُ أبو البقاءِ: «مُضافةً إلى قُوَّتِكُم»، وهذا يأباهُ النحاةُ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون
506
المطلق في مثله، أو تجعل «إلى» بمعنى «مع» أي: مع قُوَّتكم، كقوله: ﴿إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢].
ثم قال: ﴿وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾ أي: ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر.
﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول. والباء في «بيِّنَةٍ» يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ: مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ.
قوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ أي: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، فيكون «عَنْ قَوْلِكَ» حالٌ من الضمير في «تَارِكي» ويجُوزُ أن تكون «عَنْ» للتَّعْليل كهي في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ [التوبة: ١١٤]، أي: إلاَّ لأجل موعدةٍ. والمعنى هنا: بتاركي آلهتنا لقولك، فيتعلَّق بنفس «تاركي».
وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختار الأول، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره.
قوله: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بمصدِّقين.
﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾ الظَّاهر أن ما بعد «إلاَّ» مفعولٌ بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك «ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ». قوال أبُو البقاءِ: «الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، التقدير: إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً، أي: ما نذكر إلاَّ هذا القول».
وهذا غيرُ مرضٍ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ.
وقال الزمخشريُّ: «اعْتراكَ» مفعول «نَقُول» و «إلاَّ» لغوٌ، أي: ما نقُولُ إلاَّ قولنا «اعْتَرَاكَ». انتهى.
يعنى بقوله: «لغوٌ» أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «تَقُول» هذا الظَّاهرُ.
ويقال: اعتراهُ يعتريه إذا أصابه، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه، والأصلُ: اعترو مِنْ العَرْو، مثل: اغتَزَو من الغَزْو، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ.
والمعنى: أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا، فجعلتكَ مجنوناً، وأفسدت عقلك، ثم قال لهم هودٌ: ﴿إني أُشْهِدُ الله﴾ على نفسي ﴿واشهدوا﴾ يا قومي ﴿أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ من دُونهِ، يعنى: الأوثان.
507
قوله: ﴿أَنِّي بريء﴾ يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال؛ لأنَّ «أشْهِدُ» يطلبه، و «اشْهَدُوا» يطلبه أيضاً، والتقديرُ: أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من باب إعمال الثاني؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم.
و «مِمَّا تُشْرِكُونَ» يجوز أن تكون «ما» مصدريةً، أي: من إشراككم آلهةٌ من دُونه، أو بمعنى «الَّذي»، أي: من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه، أي: أنتم الذين تجعلُونها شركاء.
وقوله: «جَمِيعاً» حالٌ من فاعل «فَكِيدُونِي»، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء «فَكِيدُونِي» في الحالين، وحذفوها في المرسلات.
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقومه: ﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١] إلى قوله: ﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ [يونس: ٧١].
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام، وقال لهم: بالغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداءِ، وهذا هو المراد بقوله: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أي: اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم.
﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ قال الأزهريُّ: «النَّاصيةُ عند العربِ: مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته».
ونصَوْتُ الرَّجلَ: أخذتُ بناصيته، فلامُها واو، ويقال: ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة، والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان، أي: إنَّه مطيعٌ له.
ومعنى «آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ» قال الضحاكُ: «مُحْيِيهَا ومُمِيتها». وقال الفرَّاء: «مالكها والقادر عليها» وقال القتيبيُّ: «بقهرها».
﴿إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يعني: وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقيل: معناه دين ربِّي صراط مستقيم. وقيل: فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.
«فإن تولَّوْا» أي: تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله: «
508
أبْلَغْتُكُم» ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال: «ويُحْتَمل أن يكون» تَولَّوا «ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ».
قال شهابُ الدِّين: «ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات: وهو أن يكون على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: قد أبْلَغْتَكم، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج» فإن تُولُّوا «بضمِّ التَّاءِ واللام، مضارع» ولَّى «، والأصل: تُوَلِّيُوا فأعِلّ.
وقال الزمخشريُّ:»
فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التَّولِّي، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ؟.
قلت: معناه، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب «.
قوله:»
وَيَسْتَخْلِفُ «العامَّةُ على رفعه استئنافاً. وقال أبو البقاءِ: هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ. وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بتسكينه، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات.
والثاني: أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله: ﴿فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٦] وقد تقدَّم تحقيقه، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر.
والمعنى: إن تتولوا أهلككم الله، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ.
قوله:»
ولا تَضُرُّونهُ «العامَّةُ: على النُّون؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم، وابن مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ» يَسْتَخْلف «جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في» تَضُرُّونَهُ «جوَّز الوجهين في» يَسْتَخْلف «.
و «شيئاً»
مصدرٌ، أي: شيئاً من الضَّرر.
والمعنى: أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء.
وقيل: لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرُّون أنفسكم {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ
509
شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها. وقيل: يحفظني من شركم ومكركم. وقيل: حفيظ من الهلاكِ إذا شاء، ويهلك إذا شاء.
قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي: عذابنا، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ، عذَّبهم الله بها سبع ليال، وثمانية أيَّام، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧].
﴿نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ وكانُوا أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» بنعمة مِنَّا. وقيل: المراد بالرحمة: ما هداهُم إليه من الإيمان. وقيل: المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى.
ثم قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى: هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ.
والمرادُ بقوله: «ونَجَّيْنَاهُم» أي: حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ.
510
ثم قال :﴿ يا قوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي : على تبليغ الرسالة جُعْلاً ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني ﴾ وهذا عينُ ما ذكره نوح - عليه الصلاة والسلام -.
قرأ نافع١، والبزي بفتح ياء " فَطَرني "، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها. ومعنى " فَطَرني " خلقني، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان.
١ ينظر: الدر المصون ٤/١٠٦..
ثم قال :﴿ ويا قوم استغفروا رَبَّكُمْ ﴾ آمنوا به، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان.
وقال الأصمُّ :﴿ استغفروا رَبَّكُمْ ﴾ أي : سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم.
قوله :﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ نصب " مِدْرَاراً " على الحالِ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ :
أحدها : أنَّ المراد بالسَّماء السحاب، فذكَّر على المعنى.
الثاني : أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك : صَبُور، وشكُور، وفعيل.
الثالث : أنَّ الهاءَ حذفت من " مِفْعَال " على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام.
والمعنى : يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ. ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ أي : شدة مع شدَّتكم. وقيل : المراد بالقوَّة : المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هودٌ : إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ، والولدَ، فذلك قوله تعالى :﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ والمِدْرَارُ : بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة.
فإن قيل : إنَّ هوداً - عليه الصلاة والسلام - قال : لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - " خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ، فالأمْثل " ١ فكيف الجمعُ بينهما ؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة، والأخرويَّةِ عليها، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها ؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن.
فالجوابُ : لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ.
قوله :﴿ إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ يجوز أن يتعلق ب " يَزِدْكُم " على التَّضمين، أي : يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل " قُوَّة " فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وقدَّرهُ أبو البقاءِ :" مُضافةً إلى قُوَّتِكُم "، وهذا يأباهُ النحاةُ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون المطلق في مثله، أو تجعل " إلى " بمعنى " مع " أي : مع قُوَّتكم، كقوله :﴿ إلى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [ النساء : ٢ ].
ثم قال :﴿ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾ أي : ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر.
١ ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (٦٧٨٣) بلفظ أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وعزاه لابن حبان عن أبي سعيد..
﴿ قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول. والباء في " بيِّنَةٍ " يجوزُ أن تكون للتَّعدية ؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط.
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ ؛ إذ التقديرُ : مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ.
قوله :﴿ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾ أي : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، فيكون " عَنْ قَوْلِكَ " حالٌ من الضمير في " تَارِكي " ويجُوزُ أن تكون " عَنْ " للتَّعْليل كهي في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، أي : إلاَّ لأجل موعدةٍ. والمعنى هنا : بتاركي آلهتنا لقولك، فيتعلَّق بنفس " تاركي ". وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختار الأول، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره.
قوله :﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ بمصدِّقين.
﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسوء ﴾ الظَّاهر أن ما بعد " إلاَّ " مفعولٌ بالقول قبله، إذ المرادُ : إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك " ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ ". قوال أبُو البقاءِ :" الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، التقدير : إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً، أي : ما نذكر إلاَّ هذا القول ".
وهذا غيرُ مرضٍ ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ.
وقال الزمخشريُّ١ :" اعْتراكَ " مفعول " نَقُول " و " إلاَّ " لغوٌ، أي : ما نقُولُ إلاَّ قولنا " اعْتَرَاكَ ". انتهى.
يعنى بقوله :" لغوٌ " أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب " نَقُول " هذا الظَّاهرُ.
ويقال : اعتراهُ يعتريه إذا أصابه، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه، والأصلُ : اعترو مِنْ العَرْو، مثل : اغتَزَو من الغَزْو، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ.
والمعنى : أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا، فجعلتكَ مجنوناً، وأفسدت عقلك، ثم قال لهم هودٌ :﴿ إني أُشْهِدُ الله ﴾ على نفسي ﴿ واشهدوا ﴾ يا قومي ﴿ أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ من دُونهِ، يعنى : الأوثان.
قوله :﴿ أَنِّي برياء ﴾ يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال ؛ لأنَّ " أشْهِدُ " يطلبه، و " اشْهَدُوا " يطلبه أيضاً، والتقديرُ : أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من باب إعمال الثاني ؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم.
و " مِمَّا تُشْرِكُونَ " يجوز أن تكون " ما " مصدريةً، أي : من إشراككم آلهةٌ من دُونه، أو بمعنى " الَّذي "، أي : من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه، أي : أنتم الذين تجعلُونها شركاء.
١ ينظر: تفسير الكشاف ٢/٤٠٣..
وقوله :" جَمِيعاً " حالٌ من فاعل " فَكِيدُونِي "، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء " فَكِيدُونِي " في الحالين، وحذفوها في المرسلات.
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عليه الصلاة والسلام - لقومه :﴿ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ﴾ [ يونس : ٧١ ] إلى قوله :﴿ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ [ يونس : ٧١ ].
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام، وقال لهم : بالغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداءِ، وهذا هو المراد بقوله :﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ أي : اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم.
﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ قال الأزهريُّ :" النَّاصيةُ عند العربِ : مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته ".
ونصَوْتُ الرَّجلَ : أخذتُ بناصيته، فلامُها واو، ويقال : ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة، والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان، أي : إنَّه مطيعٌ له.
ومعنى " آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ " قال الضحاكُ :" مُحْيِيهَا ومُمِيتها " ١. وقال الفرَّاء :" مالكها والقادر عليها " وقال القتيبيُّ :" بقهرها ".
﴿ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ يعني : وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقيل : معناه دين ربِّي صراط مستقيم. وقيل : فيه إضمار، أي : إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٨٨-٣٨٩)..
" فإن تولَّوْا " أي : تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله :" أبْلَغْتُكُم " ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال :" ويُحْتَمل أن يكون " تَولَّوا " ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ ".
قال شهابُ الدِّين١ :" ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات : وهو أن يكون على إضمار القولِ، أي : فقل لهم : قد أبْلَغْتَكم، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج " فإن تُولُّوا " بضمِّ التَّاءِ واللام، مضارع " ولَّى "، والأصل : تُوَلِّيُوا فأعِلّ.
وقال الزمخشريُّ٢ :" فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التَّولِّي، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ ؟.
قلت : معناه، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب ".
قوله :" وَيَسْتَخْلِفُ " العامَّةُ على رفعه استئنافاً. وقال أبو البقاءِ٣ : هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ. وقرأ عبد الله بن مسعودٍ٤ - رضي الله عنه - بتسكينه، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات.
والثاني : أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله :﴿ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ] وقد تقدَّم تحقيقه، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر.
والمعنى : إن تتولوا أهلككم الله، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ.
قوله :" ولا تَضُرُّونهُ " العامَّةُ : على النُّون ؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم، وابن مسعودٍ بحذفها٥، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ " يَسْتَخْلف " جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره ؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في " تَضُرُّونَهُ " جوَّز الوجهين في " يَسْتَخْلف ".
و " شيئاً " مصدرٌ، أي : شيئاً من الضَّرر.
والمعنى : أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء.
وقيل : لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرُّون أنفسكم ﴿ إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ أي : يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها. وقيل : يحفظني من شركم ومكركم. وقيل : حفيظ من الهلاكِ إذا شاء، ويهلك إذا شاء.
١ ينظر: الدر المصون ٤/١٠٨..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٤٠٤..
٣ ينظر: الإملاء ٢/٤١..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٤٠٤ ورويت عن عاصم هكذا في المحرر الوجيز ٣/١٨٢ والبحر المحيط ٥/٢٣٤ وينظر: الدر المصون ٤/١٠٨..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٤٠٤ والبحر المحيط ٥/٢٣٤ والدر المصون ٤/١٠٨..
قوله :﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ أي : عذابنا، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ، عذَّبهم الله بها سبع ليال، وثمانية أيَّام، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ].
﴿ نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ وكانُوا أربعة آلاف " بِرَحْمَةٍ مِنَّا " بنعمة مِنَّا. وقيل : المراد بالرحمة : ما هداهُم إليه من الإيمان. وقيل : المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى.
ثم قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى : هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ.
والمرادُ بقوله :" ونَجَّيْنَاهُم " أي : حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ.
ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا.
قوله: «جَحَدُوا» جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها، و «جَحَدَ» يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى «كَفَر»، فيُعدَّى بحرفه، كما ضمَّن «كَفَر» معنى «جَحَدَ» فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك: «كَفَرُوا ربَّهُمْ».
وقيل: إنَّ «كَفَر» ك «شَكَر» في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى.
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ.
الأولى: قوله: ﴿جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي: جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ.
والثانية: قوله: ﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ ومعناه: أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
والثالثة: قوله: ﴿واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ والمعنى: أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [المؤمنون: ٣٣].
وتقدَّم اشتقاقُ «الجبّار» [المائدة: ٢٢]. والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند: المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم: «عَنَدَ يَعْنِد» إذا حاد
510
عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب. ومنه «عندي» الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب، من قولك: عندي كذا، أي: في جانبي.
ثم قال: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً﴾ أي: أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة: هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ.
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال: ﴿ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾ أي: كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل: هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم.
ثم قال: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ قيل: بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل: هلاكاً. وللبعد معنيان:
أحدهما: ضدَّ القربِ، يقال منه: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً.
والآخر: بمعنى الهلاك فيقال منه: بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً.
فإن قيل: اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة﴾ فما فائدةُ قوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ ؟.
فالجواب: كانوا عاديَيْن.
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله ﴿أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠].
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ.
وقيل: المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد.
511
ثم قال :﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً ﴾ أي : أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة : هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ.
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الأحوال فقال :﴿ ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ أي : كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل : هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم.
ثم قال :﴿ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ قيل : بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل : هلاكاً. وللبعد معنيان :
أحدهما : ضدَّ القربِ، يقال منه : بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً.
والآخر : بمعنى الهلاك فيقال منه : بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً.
فإن قيل : اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال :﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة ﴾ فما فائدةُ قوله :﴿ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ ؟.
فالجواب : كانوا عاديَيْن.
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله ﴿ أَهْلَكَ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ].
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ.
وقيل : المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد.
قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ القصة.
الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها. والعامَّةُ على منع «ثمُود» الصَّرْف هنا لعلَّتين: وهما
511
العلمية والتَّأنيث، ذهبُوا به مذهب القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه، ذهبا به مذهب الحي، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى.
قوله: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ يجُوزُ أن تكون «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابنُ الخطيب: «وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم، فالإنسان مخلوق من الدَّم، والدَّم إنما تولد من الأغذية، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض».
أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن عذائهم وسبب حياتهم من الأرض.
وقيل: «من» بمعنى «في» ولا حاجة إليه.
قوله: ﴿واستعمركم فِيهَا﴾ أي جعلكم عمَّارها وسكانها. قال الضحاكُ: «أطَالَ أعماركم فيها». وقال مجاهدٌ: أعمركم من العمرى. أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ. وقال قتادةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «اسكنكم فيها». قال ابنُ العربي: «قال بعضُ علمائنا: الاستعمارُ: طلبُ العمارة، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب، قال القاضي أبو بكرٍ: تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها: استفعل بمعنى: طلبُ الفعل كقوله: اسْتَحْمَلْتُه أي: طلبت من حملاناً، وبمعنى اعتقد؛ كقوله: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً، أو وجدتُه سهلاً، واستعظمتهُ أي: وجدته عظيماً، وبمعنى أصبت كقوله: استجدته أي: أصبته جيداً، وبمعنى» فَعَلَ «؛ كقوله: قرَّ في المكانِ، واستقر، قالوا وقوله: [ ﴿يَسْتَهْزِءُونَ﴾ [الأنعام: ٥] و ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ [الصافات: ١٤] منه، فقوله تعالى: ﴿واستعمركم فِيهَا﴾ أي: خلقكم لعمارتها، لا على معنى: استجدته واستسهلته، أي: أصبته جيداً، وسهلاً، وهذا يستحيل] في حقِّ الخالق، فيرجع إلى أنَّه حلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها، فإن هذا لا يجوز في حقه» ويصحُّ أن يقال: استدعى عمارتها، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى.
ثم قال: ﴿فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ وقد تقدَّم تفسيره. ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ أي:
512
أقربُ بالعلم والسمعِ «مجيب» دعاء المحتاجين بفضله، ورحمته.
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل ﴿قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا﴾ أي: كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا. وقيل: كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم، ويقرِّرُ طريقتهم، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا: ﴿أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الآلهة، فتمسَّكُوا بطريق التقليد.
ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥].
قوله: ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ﴾ مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل، ويجوز «وإنَّا» بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [إبراهيم: ٩]. وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من «إنَّ» ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع «ن»، فحذها مع «ن» أولى، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ: «مَنْ قال» إنَّنَا «أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين» نَا «فاجتمع ثلاثُ نونات، ومن قال:» إنا «استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة، وأبقى الأوليين» انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك.
قوله: «مُرِيبٍ» اسم فاعل من «أرَاب» يجوز أن يكون متعدِّياً من «أرابهُ»، أي: أوقعه في الرِّيبة، أو قاصراً من «أرابَ الرَّجلُ» أي: صار ذا ريبة. ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
والشَّك: أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات، والمُريب: هو الذي يظن به السوء والمعنى: أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ.
قوله: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً﴾ تقدَّم نظيره [يونس: ٥٠]، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره: أأعْصيه ويدل عليه «إنْ عَصَيْتُه». وقال ابنُ عطيَّة: هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل «أرَأيْتُم».
قال أبُو حيَّان: «والذي تقرَّر أنَّ» أرَأيْتَ «ضُمِّن معنى» أخْبِرْنِي «، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي» عَلِمْتُ «وأخواتها».
قوله: ﴿إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي﴾ ورد بحرف الشَّك، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال: قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ، وانظُرُوا إن تابعتكم، وعصيتُ أمر ربِّي، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير.
قوله: «غَيْرَ تَخْسِير» الظاهرُ أنَّ «غَيْرَ» مفعولٌ ثانٍ
513
ل «تَزِيدُونَنِي».
قال أبُو البقاءِ: «الأقْوَى هنا أن تكُون» غير «استثناءً في المعنى، وهو مفعولٌ ثانٍ ل» تَزِيدُونَنِي «، أي: فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً.
ويجوز أن تكون «غير»
صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، أي شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى.
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ، والمعنى: غير أن أخسركُم، أي: أنسبكم إلى التَّخْسير، قال الزمخشريُّ.
قال الحسنُ بن الفضلِ: لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ وإنَّما المعنى: فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ.
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة: النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ.
وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قالهُ ابن عبَّاسٍ.
قوله تعالى: ﴿وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾ الآية.
«لَكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيةً» ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ تتعلَّقُ «لَكُمْ» ؟ قلتُ: ب «آيَةٌ» حالاً منها متقدمة، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ.
قال أبُو حيَّان: وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق «لكُم» ب «آية» كان معمولاً ل «آية» وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قال شهابُ الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟.
و «آيةً» نصب على الحالِ بمعنى علامة، والنَّاصبُ لها: إمَّا «ها» التَّنبيه، او اسمُ الإشارة، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.

فصل


اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء، وولدت في الحال ولداً مثلها.
وهذه معجزة عظيمة من وجوه:
الأول: خلقُهَا من الصَّخْرة.
وثانيها: خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل.
514
وثالثها: خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة.
ورابعها: أنَّهُ كان لها شرب يوم.
وخامسها: أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم.
ثم قال: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ من العشب، والنبات، فليس عليكم مؤنتها.
وقرىء «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحالِ.
﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾، ولا تصيبوها بعقر «فيَأخُذَكُمْ» إن قتلتموها «عذابٌ قريبٌ» يريد اليوم الثالث.
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ﴾ لهُم صالح: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ﴾ أي: في دياركم، فالمراد بالدَّار: البلد، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار، لأنَّه يدار فيها، أي: يتصرف، يقال: ديار بكر أي: بلادهم.
وقيل: المراد بالدِّيار: دار الدُّنيا، وقيل: هو جمع «دارة» كساحة وساحٍ وسُوحٍ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت: [الوافر]
٢٩٨٠ - لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي

فصل


قال القرطبيُّ: «استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة».
والتَّمتع: التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ. ﴿ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾، [أي: غير كذب].
قوله: «مَكْذُوب» يجُوزُ أن يكون مصدراص على زنة مفعولٍ، وقد جاء منه أليفاظ نحو: المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: غير مكذوبٍ فيه، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله «يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقول الشاعر: [الطويل]
٢٩٨١ - ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه
والثاني: أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به، فقد صُدِّق.
515

فصل


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال: تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال».
فإن قيل: كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب: ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
قوله ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي: عذابنا، وتقدَّم الكلامُ على مثله.
قوله: ﴿ومِنْ خِزْيِ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: ونجَّيْنَاهم من خزي. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على «نَجَّيْنَا» ؛ لأنَّ تقديره: ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: ٥٨] أي: وكانت التنجيةُ من خزي. وقال غيرهُ: «إنَّه متعلقٌ ب» نَجَّيْنَا «الأول».
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة.
وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم «يومئذٍ» على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٨٢ - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ
وقرأ الباقون: بخفض الميم.
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ «يَوْم» مضاف إلى «إذْ»، و «إذْ» مبني، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا، وأمَّا الكسرُ: فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر، تقولُ: «جئتك إذ الشَّمس طالعة»، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين.
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة «الخِزْيِ» إلى «اليوم»، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة.
516
وكذلك الخلافُ جارٍ في ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١١].
وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين «خِزْي» و «يَوْمَئِذ» نصب على الظَّرف ب «الخِزْي»، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل ﴿مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ [الآية: ٨٩] بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين «فَزَعٍ» ونصب «يَومئذ» به.
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل «يومئذ» أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ، أو فتحة بناء، و «إذْ» مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره: إذا جاء أمرنا.
وقال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة.
قال أبُو حيان: وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة، ولا ما يكونُ فيها، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ.
قال شهابُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً، وهذه من المعنوية.
والخِزْي: الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين: ﴿ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا﴾ [المائدة: ٣٣].
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز﴾ وإنَّما حسن ذلكن لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً.
قوله: ﴿وَأَخَذَ الذين﴾ : حُذِفت تاءُ التَّأنيث: إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح، والصَّيْحةُ: فعله يدل على المرَّة من الصِّياح، وهي الصوتُ الشديدُ: صاح يصيح صِيَاحاً، أي: صوَّت بقوة.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المُرادُ الصَّاعقة. وقيل: صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم.
وجثومهم: سقوطهم على وجوههم.
وقيل: الجثومُ: السُّكون، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات.
517
فإن قيل: ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟.
فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُ الموت.
وثانيها: أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت.
وثالثها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
ثم قال تعالى: ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ كأنَّهُم لم يُوجدوا. والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال: غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به.
قوله: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ﴾ قرأ حمزة وحفص هنا ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ﴾، وفي الفرقان: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ﴾ [الآية: ٣٨] وفي العنكبوت: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ﴾ [الآية: ٣٧]، وفي النجم: ﴿وَثَمُودَ فَمَآ أبقى﴾ [الآية: ٥١] جميعُ ذلك بمنع الصرف، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم.
وقوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع: [الوافر]
٢٩٨٣ - ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا
وأنشد على الصَّرف قوله: [الطويل]
٢٩٨٤ - دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف.
518
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل ﴿ قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا ﴾ أي : كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا. وقيل : كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم، ويقرِّرُ طريقتهم، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا :﴿ أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ من الآلهة، فتمسَّكُوا بطريق التقليد.
ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
قوله :﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ ﴾ مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل، ويجوز " وإنَّا " بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [ إبراهيم : ٩ ]. وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من " إنَّ " ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع " نا "، فحذها مع " نا " أولى، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ :" مَنْ قال " إنَّنَا " أخرج الحرف على أصله ؛ لأنَّ كتابة المتكلمين " نَا " فاجتمع ثلاثُ نونات، ومن قال :" إنا " استثقل اجتماعها ؛ فأسقط الثالثة، وأبقى الأوليين " انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك.
قوله :" مُرِيبٍ " اسم فاعل من " أرَاب " يجوز أن يكون متعدِّياً من " أرابهُ "، أي : أوقعه في الرِّيبة، أو قاصراً من " أرابَ الرَّجلُ " أي : صار ذا ريبة. ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
والشَّك : أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات، والمُريب : هو الذي يظن به السوء والمعنى : أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ.
قوله :﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً ﴾ تقدَّم نظيره [ يونس : ٥٠ ]، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره : أأعْصيه ويدل عليه " إنْ عَصَيْتُه ". وقال ابنُ عطيَّة : هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل " أرَأيْتُم ".
قال أبُو حيَّان١ :" والذي تقرَّر أنَّ " أرَأيْتَ " ضُمِّن معنى " أخْبِرْنِي "، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي " عَلِمْتُ " وأخواتها ".
قوله :﴿ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي ﴾ ورد بحرف الشَّك، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ ؛ فكأنه قال : قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ، وانظُرُوا إن تابعتكم، وعصيتُ أمر ربِّي، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير.
قوله :" غَيْرَ تَخْسِير " الظاهرُ أنَّ " غَيْرَ " مفعولٌ ثانٍ ل " تَزِيدُونَنِي ".
قال أبُو البقاءِ٢ :" الأقْوَى هنا أن تكُون " غير " استثناءً في المعنى، وهو مفعولٌ ثانٍ ل " تَزِيدُونَنِي "، أي : فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً.
ويجوز أن تكون " غير " صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، أي شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى.
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ، والمعنى : غير أن أخسركُم، أي : أنسبكم إلى التَّخْسير، قال الزمخشريُّ.
قال الحسنُ بن الفضلِ : لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال :﴿ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ وإنَّما المعنى : فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ٣.
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة : النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ.
وقيل : هو على حذف مضافٍ، أي : غير بضارِّه تخسيركم، قالهُ ابن عبَّاسٍ٤.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٠..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٤١..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩١)..
٤ انظر المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً ﴾ الآية.
" لَكُمْ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " آيةً " ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
قال الزَّمخشريُّ١ : فإن قلت : بِمَ تتعلَّقُ " لَكُمْ " ؟ قلتُ : ب " آيَةٌ " حالاً منها متقدمة، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ.
قال أبُو حيَّان : وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق " لكُم " ب " آية " كان معمولاً ل " آية " وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قال شهابُ الدِّين - رحمه الله - : ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ ؟.
و " آيةً " نصب على الحالِ بمعنى علامة، والنَّاصبُ لها : إمَّا " ها " التَّنبيه، او اسمُ الإشارة، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.

فصل


اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ، فدعا صالحٌ ؛ فخرجت ناقة عشراء، وولدت في الحال ولداً مثلها.
وهذه معجزة عظيمة من وجوه :
الأول : خلقُهَا من الصَّخْرة.
وثانيها : خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل.
وثالثها : خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة.
ورابعها : أنَّهُ كان لها شرب يوم.
وخامسها : أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم.
ثم قال :﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله ﴾ من العشب، والنبات، فليس عليكم مؤنتها.
وقرىء " تأكلُ " بالرفع : إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحالِ.
﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء ﴾، ولا تصيبوها بعقر " فيَأخُذَكُمْ " إن قتلتموها " عذابٌ قريبٌ " يريد اليوم الثالث.
١ ينظر: الكشاف ٢/٤٠٨..
﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ لهُم ﴾ صالح :﴿ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ﴾ أي : في دياركم، فالمراد بالدَّار : البلد، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار، لأنَّه يدار فيها، أي : يتصرف، يقال : ديار بكر أي : بلادهم.
وقيل : المراد بالدِّيار : دار الدُّنيا، وقيل : هو جمع " دارة " كساحة وساحٍ وسُوحٍ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت :[ الوافر ]
لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي١

فصل


قال القرطبيُّ :" استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر ؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة ".
والتَّمتع : التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ. ﴿ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾، [ أي : غير كذب ]٢.
قوله :" مَكْذُوب " يجُوزُ أن يكون مصدرا على زنة مفعولٍ، وقد جاء منه أليفاظ نحو : المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : غير مكذوبٍ فيه، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله " يَوْمٌ مَشْهُودٌ " وقول الشاعر :[ الطويل ]
ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه٣
والثاني : أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب ؛ لأنَّه قد وُفي به، فقد صُدِّق.

فصل


قال ابن عباس - رضي الله عنهما - :" لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام، قالوا وما علامةُ ذلك ؟ قال : تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال " ٤.
فإن قيل : كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ، ثم يبقون مصرين على الكفر ؟ فالجواب : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
١ ينظر البيت في ديوانه (٣٣١) والبحر المحيط ٥/٢٤٠ وروح المعاني ١٢/٩١ واللسان (دور) والتهذيب ١٤/١٥٤ (دار) والدر المصون ٤/١١٠..
٢ سقط في ب..
٣ تقدم..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩١)..
قوله ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ أي : عذابنا، وتقدَّم الكلامُ على مثله.
قوله :﴿ ومِنْ خِزْيِ ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي : ونجَّيْنَاهم من خزي. وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : علام عطف ؟ قلت : على " نَجَّيْنَا " ؛ لأنَّ تقديره : ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ هود : ٥٨ ] أي : وكانت التنجيةُ من خزي. وقال غيرهُ :" إنَّه متعلقٌ ب " نَجَّيْنَا " الأول ".
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش ؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة.
وقرأ نافعٌ١ والكسائيُّ بفتح ميم " يومئذٍ " على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله :[ الطويل ]
عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ٢
وقرأ الباقون : بخفض الميم.
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ " يَوْم " مضاف إلى " إذْ "، و " إذْ " مبني، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا، وأمَّا الكسرُ : فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر، تقولُ :" جئتك إذ الشَّمس طالعة "، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين.
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة " الخِزْيِ " إلى " اليوم "، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة.
وكذلك الخلافُ جارٍ في ﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ [ المعارج : ١١ ].
وقرأ طلحة٣ وأبانُ بن تغلب بتنوين " خِزْي " و " يَوْمَئِذ " نصب على الظَّرف ب " الخِزْي "، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل ﴿ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ [ الآية : ٨٩ ] بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين " فَزَعٍ " ونصب " يَومئذ " به.
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل " يومئذ " أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ، أو فتحة بناء، و " إذْ " مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره : إذا جاء أمرنا.
وقال الزمخشريُّ : ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة.
قال أبُو حيان٤ : وهذا ليس بجيِّدٍ ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة، ولا ما يكونُ فيها، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ.
قال شهابُ الدِّينِ٥ - رحمه الله - : قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً، وهذه من المعنوية.
والخِزْي : الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين :﴿ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا ﴾ [ المائدة : ٣٣ ].
ثم قال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز ﴾ وإنَّما حسن ذلك، لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً.
١ ينظر: الحجة ٤/٣٤٦، ٣٤٧ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٤ وحجة القراءات ٣٤٤ وقرأ بها أيضا أبو جعفر في الإتحاف ٢/١٢٩ وينظر: المحرر الوجيز ٣/١٨٦ والبحر المحيط ٥/٢٤١ والدر المصون ٤/١١١..
٢ تقدم..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤١ والدر المصون ٤/١١١..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤١..
٥ ينظر: الدر المصون ٤/١١..
قوله :﴿ وَأَخَذَ الذين ﴾ : حُذِفت تاءُ التَّأنيث : إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح، والصَّيْحةُ : فعله يدل على المرَّة من الصِّياح، وهي الصوتُ الشديدُ : صاح يصيح صِيَاحاً، أي : صوَّت بقوة.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : المُرادُ الصَّاعقة١. وقيل : صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم.
وجثومهم : سقوطهم على وجوههم.
وقيل : الجثومُ : السُّكون، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات.
فإن قيل : ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت ؟.
فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُث الموت.
وثانيها : أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت.
وثالثها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/١٨)..
ثم قال تعالى :﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ كأنَّهُم لم يُوجدوا. والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال : غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ ﴾ قرأ حمزة١ وحفص هنا ﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ ﴾، وفي الفرقان :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ ﴾ [ الآية : ٣٨ ] وفي العنكبوت :﴿ وَعَاداً وَثَمُودا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُم ﴾ } [ الآية : ٣٧ ]، وفي النجم :﴿ وَثَمُودا فَمَآ أبقى ﴾ [ الآية : ٥١ ] جميعُ ذلك بمنع الصرف، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم.
وقوله :﴿ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾ منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه٢، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ، أو إلى الأبِ الأكبرِ ؛ وأنشد على المنع :[ الوافر ]
ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا٣
وأنشد على الصَّرف قوله :[ الطويل ]
دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا٤
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف.
١ ينظر: الحجة ٤/٣٥٤ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٦ وحجة القراءات ٣٤٤ وأيضا قرأ بها يعقوب ينظر: الإتحاف ٢/١٢٩ وينظر: المحرر الوجيز ٣/١٨٧ والبحر المحيط ٥/٢٤١ والدر المصون ٤/١١١..
٢ ينظر: الحجة ٤/٣٥٤ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٨ وحجة القراءات ٣٤٤ وقرأ بها أيضا الأعمش ينظر: الإتحاف ٢/١٢٠ وينظر: المحرر الوجيز ٣/١٨٧ والبحر المحيط ٥/٢٤١ والدر المصون ٤/١١١..
٣ ينظر البيت في الدر المصون ٤/١١١..
٤ ينظر البيت في الدر المصون ٤/١١٢..
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ القصة.
قال النحويون: دخلت كلمة «قَدْ» ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة، و «قَدْ» للتوقع، ودخلت اللاَّم في «لَقَدْ» تأكيداً للخبر.

فصل


لفظ «رُسُلُنَا» جمع وأقله ثلاثة، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ -.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وهم المذكورون في الذَّاريات ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الذاريات: ٢٤] وفي الحجر ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحجر: ٥١].
وقال الضحَّاكُ:»
كانوا تسعة «. وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -» كان جبريل ومعه سبعة «وقال السُّديُّ:» أحد عشر ملكاً «وقال مقاتل:» كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم «.
»
بالبشرى «بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل: بسلامة لوطٍ، وأهلاك قومه.
قوله: ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ : في نصبه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعولٌ به، ثم هو محتملٌ لأمرينِ:
أحدهما: أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام.
الثاني: أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨].
وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول، تقديره: قالوا: سَلَّمْنَا سلاماً، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجب الإضمار.
قوله:»
سَلاَمٌ «في رفعه وجهان:
519
أحدهما: أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم.
والثاني: أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي: أمْرِي أو قَوْلِي سلام.
وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [الفاتحة: ٢]، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٨٥ - إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ: طَعْمُ مُدَامَةٍ........................
وقرأ الاخوان:» قَالَ سِلْم «هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم.
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف، قال الفرَّاءُ:»
هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ «؛ وأنشد [الطويل]
٢٩٨٦ - مَرَرْنَا فَقُلْنَا:
إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
يريد: سلامٌ؛ بدليل: فسلَّمَتْ.
وقال الفارسي:»
السِّلْم «بالكسر ضد الحربِ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم، أنكرهم، وأوجس منهم خيفة، فقال: أنا سِلْم، أي: مُسَالمكم غيرُ محارب لكم، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟
قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال: ﴿قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ والفاءُ للتَّعقيب، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام.

فصل


أكثر ما يستعمل «سلامٌ عليكم»
منكّراً؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم: خير بين يديك.
فإن قيل: كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ؟.
520
فالجوابُ: إذا وصفت جاز، فإذا قلت: «سلامٌ عليكم» فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام، فكأنه سلام كامل تام عليك، ونظيره قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧] وقوله: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] وقوله: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤].
وأما قوله: ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾ [طه: ٤٧] فالمراد منه الماهية والحقيقة.
قال ابنُ الخطيب: قوله: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أكملُ من قوله: «السَّلامُ عليْكُم» ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية.
قوله: «فَمَا لَبِثَ» يجُوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبِثَ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنَّه ضميرُ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فَمَا لَبِثَ إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّرُوه بالباء وب «عَنْ» وب «في»، أي: فمَا تأخَّر في أنْ، أو بأن، أو عن أن.
والثاني: أنَّ الفاعل قوله: «انْ جَاءَ»، والتقدير: فَما لبثَ، أي: ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين.
وثاني الأوجه: أنَّها مصدريةٌ.
وثالثها: أنَّها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره: فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه.
قال القرطبيُّ: قوله: «أنْ جَاءَ» معناه: حتَّى جَاءَ.
والحَنِيذُ: المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة، يقال: حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ، أي: مَحْنُوذة.
وقيل: حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق.
ثم قال: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ أي: إلى العِجْلِ. وقال الفرَّاءُ: إلى الطَّعامِ وهو العجل.
قوله: «نَكِرَهُمْ» أي: أنكرهم، فهما بمعنى واحد؛ وأنشدوا: [البسيط]
521
وفرَّق بعضهم بينهما فقال: الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني، وجعل البيت من ذلك، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ، وهما يُبْصرانِ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ: [الكامل]
٢٩٨٧ - وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
٢٩٨٨ - فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ
والإيجاس: حديث النَّفس، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ.
وقال الأخفش: «خَامَر قلبه». وقال الفرَّاء: «اسْتَشْعَرَ وأحسَّ».
والوَجَسُ: ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا أي: خطر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ؛ وأنشدوا على ذلك وقله: [الطويل]
٢٩٨٩ - وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
و «خفية» مفعول به أي: أحس خيفة أو أضمر خيفة.

فصل


اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام؛ لأنهم ملائكةٌ، والملائكةُ لا يأكلون، ولا يشربون، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف، ليَكونوا على صفة يحبها؛ لأنه كان يحب الضيافة، وأمَّا إبراهيم، فإما أن يقال: إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر، أو يقال: إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران:
أحدهما: أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس، فلما امتنعوا عن الأكل، خاف أن يريدوا به مكروهاً.
والثاني: أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر، وقدَّم إليه طعاماً، فإن أكل حصل الأمن، وإن لم يأكل، حصل الخوفُ.
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة، فسبب خوفه أمران:
أحدهما: أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه.
والثاني: أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.
والأول أقرب؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ، وأيضاً: فإنَّهُ رآهم في صورة
522
البشر، قالوا: لا تخف يا إبراهيم، إنَّا ملائكة الله، أرسلنا إلى قوم لوط.

فصل


في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال، ثم يُتبِعُهُ بغيره، إن كان له جدةٌ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به، والضيافة من مكارم الأخلاق، وإبراهيم أوَّل من أضاف، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ».
وإكرام الجار ليس بواجب، فكذلك الضَيْفُ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ.»
وقال ابن العربيِّ: وقد قال قَوْمٌ: إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام، ثم نُسِخَتْ.

فصل


اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة، فذهب الشافعيُّ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالكٌ: ليس على أهل الحضر ضيافة.
قال سُحْنُون: إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى، وأمَّا أهل الحضر، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ؛ لما روى ابنُ عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ».
قال القرطبيُّ: «قال أبوعمر بن عبد البرِّ: وهذا حديثٌ لا يصحُّ» قال ابنُ العربي: «الضيافة حقيقة فرض على الكفاية».

فصل


ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة، كما فعل إبراهيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف، طاب نفس الضَّيف للأكل.
523
قوله: ﴿وامرأته قَآئِمَةٌ﴾ في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع: «أرْسِلْنَا».
وقال أبو البقاءِ: من ضمير الفاعل في «أرْسِلْنَا». وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل «قالُوا» أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته، وهي ابنة عم إبراهيم.
وقوله: «وَهِي قَائمةٌ» أي تخدمُ الأضياف؛ وإبراهيم جالس معهم، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: «وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ».
قوله: «فَضَحِكَتْ» العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان، يقال: ضَحِكَ وضَحَكَ، وقال المهدويُّ: «الفتح غير معروف»، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ.
واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي: إنَّ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خاف قالت الملائكة ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ فعظم سرورها بسبب سرورهِ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم «لا تَخَفْ» فكان كالبشارة فقيل لها: نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان، وقيل: لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم، لحقها السُّرور، فضحكت.
وقيل: بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ: إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ابن مائة سنة، وإمَّا على سبيل السُّرور، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
وقيل: إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه.
وقيل: هذا على التقديم والتأخير تقديره: وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق، فضحكت سروراً بتلك البشارة، فقدَّم الضَّحكَ، ومعناه التَّأخير، يقالُ ضحكت الأرنب، بمعنى: حَاضَتْ.
وقال مجاهدٌ وعكرمة: «ضَحِكَتْ» بمعنى: حَاضَتْ. وأنكره أبو عبيدة، وأبو عبيد، والفرَّاء.
524
قال ابنُ الأنباري: «هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم، حكى اللُّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية» فَضَحِكَتْ «طمثت، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ: من ضحاك الطَّلعةِ، يقال: ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت، وأنشدوا: [المتقارب]
٢٩٩٠ - وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وقال آخر: [الطويل]
٢٩٩١ - وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا
أي: حَائِضاً.
وضَحِكت الكافُورَةُ: تَشَقَّقَتْ. وضَحِكَت الشَّجَرةُ: سَالَ صَمْغُهَا، وضَحِكَ الحَوْضُ: امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن «ضَحَكَ»
بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال: «بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال: ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء».
قوله: ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها.
فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا، فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله: «إسْحَاق». قال الزمخشريُّ: كأنَّهُ قيل: وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله: [الطويل]
٢٩٩٢ - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً... ولا نَاعبٍ.............................
يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرَّ، ولكنه لا ينقاس.
وقيل: منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي.
وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ «بإسحاقَ» ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله: «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً على ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦].
والفرقُ بين هذا والوجه الأول: أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى: «وَهَبْنَا» توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم.
525
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاقَ» والمعنى: أنَّها بُشِّرت بهما.
وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ: وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف، والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ.
ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال: «وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف». قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به.
وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه:
أحدها: أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ «موجود أو مولود» وقدَّره غيره ب: كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال: «الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ».
والثاني: أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء على رأي الأخفش.
والثالث: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مدخل له في البشارة.
والرابع: أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ، أو بفعل مقدر.
وفي لفظ «وَرَاء» قولان:
أظهرهما: وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه «بَعْد» أي: بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة.
والثاني: أنَّ الوراء: ولد الولد.

فصل


ذكر المفسِّرون أنَّ «إسحاق» ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة. وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو، وتسمية العرب «العِيصَ» وهو والدُ الرُّوم الثانية، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل.
قوله: ﴿قَالَتْ ياويلتا﴾ الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن «يَا وَيْلَتِي» بصريح الياء. وقيل: هي ألف
526
الندبة، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ. وكذلك الألف في «يَا وَيْلَتَا» و «يَا عَجَبَا».
قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ، ويقال: وَيلٌ لفلان، أي الخزي والهلاك.
[قال سيبويه: «وَيْح» زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ، و «وَيْل» ] لمن وقع فيه.
قال الخليلُ: ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ «وَيْح»، و «وَيْد»، و «وَيْه»، وهذه كلمات متقاربة في المعنى.
قوله: «أَأَلِدُ» قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمر «آلد» بهمزة ومدة، والبقاون: بهمزتين بلا مدٍّ وقوله: ﴿وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «ألِدُ» أي: كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها؟.
والجمهورُ على نصب «شَيْخاً» وفيه وجهان:
المشهورُ أنَّهُ حالٌ، والعاملُ فيه: إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ. وإمَّا كلاهما.
والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة.
وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شَيْخٌ» بالرَّفْع، وذكروا فيه أوجهاً: إمَّا خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هَذَا» و «بَعْلي» بيانٌ، أو بدلٌ، أو «شيخٌ» بدلٌ من «بَعْلي»، أو «بَعْلِي» مبتدأ و «شَيْخٌ» خبره، والجملة خبر الأول، أو «شَيْخٌ» خبر مبتدأ مضمر أي: هو شيخٌ.
والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ، ويقال: شَيْخَة قليلاً؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٩٣ - وتَضْحَكُ مِنِّ] شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ....................................
وله جموعٌ كثيرة، فالصَّريحُ منها: أشياخ وشُيُوخ وشِيخان، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة.
ومن أسماءِ جمعه: مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً.
وبَعْلُهَا: زوجها، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها.
قال الواحدي: وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة «هذا» للإشارة، فكان قوله ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ قائمٌ مقام أن يقال: أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً.
والمقصُودُ: تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة.
527
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
فإن قيل: كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ؟.
فالجواب: أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ.
ثم قالت الملائكةُ: ﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي: لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان.
قوله: ﴿رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت﴾ أي: بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى: رحمةُ الله عليكم متكاثرة، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة، وهي النبوة، والمعجزات القاهرةُ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فلا تعجبي من ذلك. وقيل: هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة.
وقيل: على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة. و «البركاتُ» جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ.
فإن قيل: ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات؟.
فالجواب: قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٧].
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ، فهو شيءٌ واحدٌ، فلا معنى لجَمْعِهِ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه.
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم، وأمَّا البركةُ: فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ، وهو قوله: السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
وقوله: «عَلَيْكُم» حكى سيبويه «عَلَيْكم» بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ.
قوله: «أهْلَ البيتِ» في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مُنَادَى.
والثاني: أنه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النَّصبين فرقٌ:
528
وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ، أو ذمٍّ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ، ولا الذَّم؛ كقوله: [الرجز]
٢٩٩٤ - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ... كذا قاله أبو حيَّان، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظرٌ. ثم قال: إنه حميدٌ مجيدٌ، فالحميد: المحمود، والمجيدُ: فعيل، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة، ويقال: مَجُد ك: شَرُف وأصله: الرِّفْعَة.
وقيل: من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً، أي: شَبِعَتْ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي: [الوافر]
٢٩٩٥ - تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ
[أي] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ.
وقيل: مَجَد الشَّيءُ: أي: حَسُنَتْ أوصافُهُ.
وقال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي: كثَّرَهُ».
والمجيدُ: المَاجدُ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ.
قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾، أي: الفزعُ؛ قال الشَّاعرُ: [الطويل]
٢٩٩٦ - إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال: رَاعَهُ يَرُوعُه، أي: أفزعهُ؛ قال عنترةُ: [الكامل]
٢٩٩٧ - ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع: افتعل منه؛ قال النابغة: [البسيط]
٢٩٩٨ - فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ. ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ؛ وفي الحديث: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي».
قوله: ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ عطف على «ذَهَبَ»، وجوابُ «لمَّا» على هذا محذوفٌ
529
أي: فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فطن لمجادلتهم، وقوله: «يَجَادِلُنَا» على هذا جملةٌ مستأنفةٌ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف.
وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يُجَادلنا، أو أخذ يُجَادلُنَا، ف «يُجَادِلُنَا» على هذا حالٌ من فاعل «أقبل».
وقيل: جوابها قوله: «يُجَادلُنَا» وأوقع المضارع موقع الماضي.
وقيل: الجوابُ قوله: ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ والواوُ زائدةٌ. وقيل: «يُجَادِلُنَا» حال من «إبراهيم»، وكذلك قوله: ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ و «قَدْ» مقدرةٌ. ويجُوزُ أن يكون «يُجَادِلُنَا» حالاً من ضمير المفعول في «جَاءءَتْهُ». و «فِي قَوْمِ لُوطٍ» أي: في شأنهم.
قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾.
هذا أوَّلُ قصة قوم لوط، والمعنى: أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد، أخذ يُجَادلنا أي: رسلنا، بمعنى: يكلمنا؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم، وكانت مجادلته أن قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا: لا.
قال: أو أربعون. قالوا: لا.
قال: أو ثلاثون. قالوا لا. حتَّى بلغ العشرة.
قالوا: لا. قال: أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته﴾ [العنكبوت: ٣٢].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾.
والحليم: الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ، أو يقال: من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ﴾ أي: أعرض عن هذا المقال، ف ﴿إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾، أي: عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك ﴿إِنَّهُمْ آتِيهِمْ﴾ : نازلٌ بهم ﴿عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾، أي: غير مصروف عنهم.
قوله: ﴿آتِيهِمْ عَذَابٌ﴾ يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل «إنَّهُمْ»، ويجوز أن يكون «آتِيهِمْ» الخبر «عَذابٌ» المبتدأ، وجاز
530
ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ، ولتنكير «آتِيهِمْ» ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ.
ويجُوزُ أن يكون «آتِيهِمْ» خبر «إنَّ»، و «عذابٌ» فاعلٌ به، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم «وإنَّهُمْ أتاهُمْ» بلفظ الفعل الماضي.
531
ثم قال :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ ﴾ أي : إلى العِجْلِ. وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل.
قوله :" نَكِرَهُمْ " أي : أنكرهم، فهما بمعنى واحد ؛ وأنشدوا :[ البسيط ]
وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا١
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني، وجعل البيت من ذلك، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ، وهما يُبْصرانِ ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ :[ الكامل ]
فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ٢
والإيجاس : حديث النَّفس، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ.
وقال الأخفش :" خَامَر قلبه ". وقال الفرَّاء :" اسْتَشْعَرَ وأحسَّ ".
والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ ؛ وأنشدوا على ذلك وقوله :[ الطويل ]
وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ٣
و " خفية " مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة.

فصل


اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام ؛ لأنهم ملائكةٌ، والملائكةُ لا يأكلون، ولا يشربون، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف، ليَكونوا على صفة يحبها ؛ لأنه كان يحب الضيافة، وأمَّا إبراهيم، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر، أو يقال : إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران :
أحدهما : أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس، فلما امتنعوا عن الأكل، خاف أن يريدوا به مكروهاً.
والثاني : أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر، وقدَّم إليه طعاماً، فإن أكل حصل الأمن، وإن لم يأكل، حصل الخوفُ.
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة، فسبب خوفه أمران :
أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه.
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.
والأول أقرب ؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ، وأيضاً : فإنَّهُ رآهم في صورة البشر، قالوا : لا تخف يا إبراهيم، إنَّا ملائكة الله، أرسلنا إلى قوم لوط.

فصل


في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال، ثم يُتبِعُهُ بغيره، إن كان له جدةٌ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به، والضيافة من مكارم الأخلاق، وإبراهيم أوَّل من أضاف، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " ٤.
وإكرام الجار ليس بواجب، فكذلك الضَيْفُ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عليه الصلاة والسلام - :" لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ٥.
وقال ابن العربيِّ : وقد قال قَوْمٌ : إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام، ثم نُسِخَتْ.

فصل


اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة، فذهب الشافعيُّ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالكٌ : ليس على أهل الحضر ضيافة.
قال سُحْنُون : إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى، وأمَّا أهل الحضر، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ ؛ لما روى ابنُ عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ " ٦.
قال القرطبيُّ :" قال أبوعمر بن عبد البرِّ : وهذا حديثٌ لا يصحُّ " قال ابنُ العربي :" الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ".

فصل


ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل ؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة، كما فعل إبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف، طاب نفس الضَّيف للأكل.
١ البيت للأعشى. ينظر: ديوانه (١٣٧) والمحتسب ٢/٢٩٨ والخصائص ٣/٣١٠ ومجاز القرآن ١/٢٩٣، والبحر المحيط ٥/٢٤٢ وروح المعاني ١٢/٩٠ والتهذيب ١٠/١٩١ وإعراب النحاس ٢/٢٩٢ والدر المصون ٤/١١٣ الموشح ٥٢ الصحاح [نكر] التاج [نكر] الأغاني ١٦/١٨..
٢ ينظر البيت في ديوان الهذليين ١/٨ وشرح ديوان الهذليين ١/٢٢ واللسان (جرشع) والبحر المحيط ٥/٢٤٢ والدر المصون ٤/١١٣..
٣ البيت لطرفة بن العبد ينظر: ديوانه (٢٦) والتهذيب ١٤/٧٢ واللسان (ندد) والبحر المحيط ٥/٢٣٧ والدر المصون ٤/١١٣..
٤ أخرجه مالك ٢/٩٢٩، في كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: باب جامع ما جاء في الطعام والشراب (٢٢)، وأخرجه البخاري ١٠/٤٤٥ في الأدب: باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠١٩) و١٠/٥٣١، (٦١٣٥)، ومسلم ٣/١٣٥٣، في اللقطة: باب الضيافة ونحوها (١٤/٤٨)، (١٥/٤٨)..
٥ أخرجه أبو داود (٣٧٥٠) وابن ماجه (٣٦٧٧) والبيهقي (٩/١٩٧) وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (٤/١٥٩) وقال: وإسناده على شرط الصحيح..
٦ أخرجه ابن عدي في "الكامل" (١/٢٧١) والقضاعي في "مسند الشهاب" (٢٨٤) من طريق إبراهيم بن عبد الله ابن أخي عبد الرزاق عن سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.
وهذا حديث موضوع إبراهيم بن عبد الله ابن أخي عبد الرزاق كذاب..

قوله :﴿ وامرأته قَآئِمَةٌ ﴾ في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع :" أرْسِلْنَا ".
وقال أبو البقاءِ : من ضمير الفاعل في " أرْسِلْنَا ". وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل " قالُوا " أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته، وهي ابنة عم إبراهيم.
وقوله :" وَهِي قَائمةٌ " أي تخدمُ الأضياف ؛ وإبراهيم جالس معهم، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود :" وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ ".
قوله :" فَضَحِكَتْ " العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة١ - بفتحها وهي لغتان، يقال : ضَحِكَ وضَحَكَ، وقال المهدويُّ :" الفتح غير معروف "، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ.
واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي : إنَّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما خاف قالت الملائكة ﴿ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ فعظم سرورها بسبب سرورهِ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم " لا تَخَفْ " فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان، وقيل : لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم، لحقها السُّرور، فضحكت.
وقيل : بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ : إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ابن مائة سنة، وإمَّا على سبيل السُّرور، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
وقيل : إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه.
وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق، فضحكت سروراً بتلك البشارة، فقدَّم الضَّحكَ، ومعناه التَّأخير، يقالُ ضحكت الأرنب، بمعنى : حَاضَتْ.
وقال مجاهدٌ وعكرمة :" ضَحِكَتْ " بمعنى : حَاضَتْ٢. وأنكره أبو عبيدة، وأبو عبيد، والفرَّاء.
قال ابنُ الأنباري :" هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم، حكى اللُّيثُ - رحمه الله - في هذه الآية " فَضَحِكَتْ " طمثت، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ : من ضحاك الطَّلعةِ، يقال : ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت، وأنشدوا :[ المتقارب ]
وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا٣
وقال آخر :[ الطويل ]
وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا٤
أي : حَائِضاً.
وضَحِكت الكافُورَةُ : تَشَقَّقَتْ. وضَحِكَت الشَّجَرةُ : سَالَ صَمْغُهَا، وضَحِكَ الحَوْضُ : امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن " ضَحَكَ " بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال :" بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال : ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء ".
قوله :﴿ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون٥ برفعها.
فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا، فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله :" إسْحَاق ". قال الزمخشريُّ : كأنَّهُ قيل : وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله :[ الطويل ]
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ولا نَاعبٍ. . . ٦
يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر " ليس " فجرَّ، ولكنه لا ينقاس.
وقيل : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي : وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي.
وقيل : هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ " بإسحاقَ " ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله :" وَأَرْجُلَكُمْ " بالنصب عطفاً على ﴿ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٦ ].
والفرقُ بين هذا والوجه الأول : أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى :" وَهَبْنَا " توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم.
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على " بإسحاقَ " والمعنى : أنَّها بُشِّرت بهما.
وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ : وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف، والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ.
ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال :" وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض ؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف ". قوله :" بإعادة الخافض " ليس ذلك لازماً، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به.
وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه :
أحدها : أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ " موجود أو مولود " وقدَّره غيره ب : كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال :" الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ ".
والثاني : أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء على رأي الأخفش.
والثالث : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مدخل له في البشارة.
والرابع : أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ، أو بفعل مقدر.
وفي لفظ " وَرَاء " قولان :
أظهرهما : وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه " بَعْد " أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة.
والثاني : أنَّ الوراء : ولد الولد.

فصل


ذكر المفسِّرون أنَّ " إسحاق " ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة. وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو، وتسمية العرب " العِيصَ " وهو والدُ الرُّوم الثانية، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل.
١ ينظر: الكشاف ٢/٤١١ والمحرر الوجيز ٣/١٨٩ والبحر المحيط ٥/٢٤٣ والدر المصون ٤/١١٤..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٧٢) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦١٦) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ..
٣ ينظر البيت في المحتسب ١/٣٢٣ واللسان "ضحك" وروح المعاني ١٢/٩٨ والقرطبي ٩/٤٥ والدر المصون ٤/١١٤..
٤ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/٢٣٧ وروح المعاني ١٢/٩٨ والدر المصون ٤/١١٤.
٥ ينظر: الحجة ٤/٣٦٤ وإعراب القراءات السبع ١/٢٨٨ وحجة القراءات ٣٤٧ والإتحاف ٢/١٣١ والمحرر الوجيز ٣/١٨٩ وقرأ بها أيضا زيد بن علي ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٤ والدر المصون ٤/١١٤..
٦ تقدم..
قوله :﴿ قَالَتْ يا ويلتا ﴾ الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن١ " يَا وَيْلَتِي " بصريح الياء. وقيل : هي ألف الندبة، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ. وكذلك الألف في " يَا وَيْلَتَا " و " يَا عَجَبَا ".
قال القفال - رحمه الله - : أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ، ويقال : وَيلٌ لفلان، أي الخزي والهلاك.
[ قال سيبويه :" وَيْح " زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ، و " وَيْل " ]٢ لمن وقع فيه.
قال الخليلُ : ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ " وَيْح "، و " وَيْد "، و " وَيْه "، وهذه كلمات متقاربة في المعنى.
قوله :" أَأَلِدُ " قرأ ابنُ كثير ونافع٣ وأبو عمر " آلد " بهمزة ومدة، والبقاون : بهمزتين بلا مدٍّ وقوله :﴿ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " ألِدُ " أي : كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها ؟.
والجمهورُ على نصب " شَيْخاً " وفيه وجهان :
المشهورُ أنَّهُ حالٌ، والعاملُ فيه : إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ. وإمَّا كلاهما.
والثاني : أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة.
وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن٤ مسعود " شَيْخٌ " بالرَّفْع، وذكروا فيه أوجهاً : إمَّا خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض، أو خبر " هَذَا " و " بَعْلي " بيانٌ، أو بدلٌ، أو " شيخٌ " بدلٌ من " بَعْلي "، أو " بَعْلِي " مبتدأ و " شَيْخٌ " خبره، والجملة خبر الأول، أو " شَيْخٌ " خبر مبتدأ مضمر أي : هو شيخٌ.
والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ، ويقال : شَيْخَة قليلاً ؛ كقوله :[ الطويل ]
وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ ***. . . ٥
وله جموعٌ كثيرة، فالصَّريحُ منها : أشياخ وشُيُوخ وشِيخان، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة.
ومن أسماءِ جمعه : مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً.
وبَعْلُهَا : زوجها، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها.
قال الواحدي : وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة " هذا " للإشارة، فكان قوله ﴿ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ قائمٌ مقام أن يقال : أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً.
والمقصُودُ : تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة.
ثم قال :﴿ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾.
فإن قيل : كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى ؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ ؟.
فالجواب : أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ.
١ ينظر: الكشاف ٢/٤١١ والبحر المحيط ٥/٢٤٤ والدر المصون ٤/١١٥..
٢ سقط في أ..
٣ ينظر: الإتحاف ٢/١٣٢..
٤ ينظر: المحرر الوجيز٣/١٩١ والبحر المحيط ٥/٢٤٤ والدر المصون ٤/١١٥..
٥ تقدم..
ثم قالت الملائكةُ :﴿ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ أي : لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان.
قوله :﴿ رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت ﴾ أي : بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى : رحمةُ الله عليكم متكاثرة، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة، وهي النبوة، والمعجزات القاهرةُ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فلا تعجبي من ذلك. وقيل : هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة.
وقيل : على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة. و " البركاتُ " جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ.
فإن قيل : ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات ؟.
فالجواب : قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ].
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ، فهو شيءٌ واحدٌ، فلا معنى لجَمْعِهِ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه.
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم، وأمَّا البركةُ : فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها ؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ، وهو قوله : السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
وقوله :" عَلَيْكُم " حكى سيبويه " عَلَيْكم " بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ.
قوله :" أهْلَ البيتِ " في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مُنَادَى.
والثاني : أنه منصوبٌ على المدح. وقيل : على الاختصاص، وبين النَّصبين فرقٌ : وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ، أو ذمٍّ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ، ولا الذَّم ؛ كقوله :[ الرجز ]
بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ١ ***. . .
كذا قاله أبو حيَّان، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظرٌ. ثم قال : إنه حميدٌ مجيدٌ، فالحميد : المحمود، والمجيدُ : فعيل، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة، ويقال : مَجُد ك : شَرُف وأصله : الرِّفْعَة.
وقيل : من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً، أي : شَبِعَتْ ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي :[ الوافر ]
تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ *** بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ٢
[ أي ] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ.
وقيل : مَجَد الشَّيءُ : أي : حَسُنَتْ أوصافُهُ.
وقال الليثُ - رحمه الله - :" أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي : كثَّرَهُ ".
والمجيدُ : المَاجدُ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ.
١ تقدم..
٢ ينظر البيت في اللسان (مجد) وروح المعاني ١٢/١٠٢ والبحر المحيط ٥/٢٣٧ والدر المصون ٤/١١٦..
قوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع ﴾، أي : الفزعُ ؛ قال الشَّاعرُ :[ الطويل ]
إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا١
يقال : رَاعَهُ يَرُوعُه، أي : أفزعهُ ؛ قال عنترةُ :[ الكامل ]
ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ٢
وارتاع : افتعل منه ؛ قال النابغة :[ البسيط ]
فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ٣
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ. ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ ؛ وفي الحديث :" إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي ".
قوله :﴿ وَجَآءَتْهُ البشرى ﴾ عطف على " ذَهَبَ "، وجوابُ " لمَّا " على هذا محذوفٌ أي : فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فطن لمجادلتهم، وقوله :" يَجَادِلُنَا " على هذا جملةٌ مستأنفةٌ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف.
وقيل : تقديرُ الجواب : أقبل يُجَادلنا، أو أخذ يُجَادلُنَا، ف " يُجَادِلُنَا " على هذا حالٌ من فاعل " أقبل ".
وقيل : جوابها قوله :" يُجَادلُنَا " وأوقع المضارع موقع الماضي.
وقيل : الجوابُ قوله :﴿ وَجَآءَتْهُ البشرى ﴾ والواوُ زائدةٌ. وقيل :" يُجَادِلُنَا " حال من " إبراهيم "، وكذلك قوله :﴿ وَجَآءَتْهُ البشرى ﴾ و " قَدْ " مقدرةٌ. ويجُوزُ أن يكون " يُجَادِلُنَا " حالاً من ضمير المفعول في " جَاءءَتْهُ ". و " فِي قَوْمِ لُوطٍ " أي : في شأنهم.
قوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع ﴾.
هذا أوَّلُ قصة قوم لوط، والمعنى : أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد، أخذ يُجَادلنا أي : رسلنا، بمعنى : يكلمنا ؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾ ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم، وكانت مجادلته أن قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا : لا.
قال : أو أربعون. قالوا : لا.
قال : أو ثلاثون. قالوا لا. حتَّى بلغ العشرة.
قالوا : لا. قال : أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا. فعند ذلك ﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ].
١ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/٢٣٨ وروح المعاني ١٢/١٠٢ والدر المصون ٤/١١٦..
٢ ينظر البيت في ديوانه (١٠٧) وشرح القصائد العشر (٣٢٧) وروح المعاني ١٢/١٠٢ واللسان (خمم) والتهذيب ٧/١٧ وجمهرة أشعار العرب ٢/٥٣ والدر المصون ٤/١١٦ والبحر المحيط ٥/٢٣٨..
٣ ينظر البيت في ديوانه (١٩) والقرطبي ٩/٤٩ والبحر المحيط ٥/٢٣٨ والدر المصون ٤/١١٦..
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾.
والحليم : الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ، أو يقال : من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ.
فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - :﴿ يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذآ ﴾ أي : أعرض عن هذا المقال، ف ﴿ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ ﴾، أي : عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك ﴿ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ ﴾ : نازلٌ بهم ﴿ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾، أي : غير مصروف عنهم.
قوله :﴿ آتِيهِمْ عَذَابٌ ﴾ يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل " إنَّهُمْ "، ويجوز أن يكون " آتِيهِمْ " الخبر " عَذابٌ " المبتدأ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ، ولتنكير " آتِيهِمْ " ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ.
ويجُوزُ أن يكون " آتِيهِمْ " خبر " إنَّ "، و " عذابٌ " فاعلٌ به، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم " وإنَّهُمْ أتاهُمْ " بلفظ الفعل الماضي.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: انطلقُوا من عند إبراهيم إلى «لُوطٍ» [و] بين القريتين أربعة فراسخَ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه.
قوله: ﴿سياء بِهِمْ﴾ فعلٌ مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير «لُوطٍ» من قولك: «سَاءَنِي كَذا» أي: حصل لي سُوءٌ، و «بِهِمْ» متعلقٌ به، أي: بسببهم، يقال: سؤته فسيء كما يقال: سَرَرْتُه فَسُرَّ، ومعناهُ: سَاءَهُ مَجِيئُهم وسَاءَ يَسُوءُ فعل لازم.
قال الزجاجُ: «أصله» سُوىءَ بِهِمْ «إلاَّ أنَّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين».
و «ذَرْعاً» نصبٌ على التَّمييز، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، اشتقاقاً من الذِّراع، تُوسِّع فيه فوضع موضع الطَّاقة والجهد. فقيل: ضاقَ ذَرْعُه، أي طاقته؛ قال: [البسيط]
٢٩٩٩ -................................. فاقْدِرْ بِذرْعِكَ وانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقد يقعُ الذِّراعُ موقعهُ؛ قال: [الوافر]
531
قيل: هو كنايةٌ عن ضيق الصَّدْرِ.
وقوله: «عَصِيبٌ» العَصِبُ والعَصبْصَبُ والعَصُوب: اليومُ الشَّديدُ الكثيرُ الشَّرَّ، الملتفُّ بعضه ببعض قال: [الوافر]
٣٠٠٠ - إذَا التَّيَّازُ ذُو العضلاتِ قُلْنَا إلَيْكَ إلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذِرَاعا
٣٠٠١ - وكُنْتَ لِزازَ خَصْمِكَ لَمْ أعَرِّدْ وَقَدْ سَلكُوكَ في يومٍ عَصِيبِ
وعن أبي عبيدة: «سُمِّي عصيباً؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ». كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي: حشدوا والعِصَابةُ: الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة.
والمعنى: أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي: قَلْباً.
يقال: ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا، إذا وقع في مكروهٍ، ولا يطيقُ الخُروج منه.
قوله: ﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ﴾ «يُهْرَعُونَ» في محلِّ نصب على الحال. والعامَّةُ على «يُهْرَعُونَ» مبنياً للمفعول. وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة «هَرَع» والإهراعُ: الإسْراعُ.
ويقالُ: هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز.
وقال الهرويُّ: هَرَعَ وأهرع: استحث.
وقيل: «الإهراعُ: هو الإسْرَاع مع الرّعدة».
قيل: هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ، ولا يعرف له فاعل نحو: أولع فلان، وأرْعِدَ زَيْدٌ، وزُهي عمرٌو من الزهو.
وقيل: لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها. فتأويلُ أولع فلانٌ أي: أولعهُ حبُّه، وأرْعدَ زيدٌ أي: أرعده غضبه، وزُهي عَمْرٌو أي: جعله ما لهُ زاهياً، وأهرع خوفه، أو حرصه.

فصل


روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف «جَاءَهُ قَوْمُهُ» مسرعين ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ أي: من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون
532
الرِّجال في أدبارهم، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام -: حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان ﴿ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ يعني: بالتزويج.
قوله
: ﴿هؤلاء
بَنَاتِي﴾
جملةٌ برأسها، و ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ جملةٌ أخرى، ويجُوزُ أن يكون «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي» بدلٌ أو عطفُ بيان، وهُنَّ مبتدأ، و «أطْهَرُ» خبره، والجملة خبر الأول. ويجوز أن يكون «هُنَّ» فصلاً، و «أطْهَرُ» خبر: إمَّا ل «هَؤلاءِ»، وإمَّا ل «بَنَاتِي» والجملةُ خبر الأوَّلِ.
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ، وسعيدُ بنُ جبير، وعيسى بن عمر، والسُّدي «أطْهَرَ» بالنَّصْب، وخُرِّجَتْ على الحالِ، فقيل: «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي هُنَّ» جملة في محلِّ خبره، و «أطْهَرَ» حال، والعاملُ: إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ.
وقيل: «هُنَّ» فصلٌ بين الحالِ وصاحبها، وجعل من ذلك قولهم: «أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً» ومنعه بعضُ النحويين، وخرج الآية على أنَّ «لَكُم» خبر «هُنَّ» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ «نَضِيجَةٌ» منصوبة ب «كَانَ» مضمرة.

فصل


قال قتادةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «المرادُ بناته لصلبه»، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.
وقال الحسنُ بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: أراد نساءهم، وأضاف إلى نفسه؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب « ﴿النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٦] وهو أب لهم» وهذا القول أولى؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ، وأيضاً: فلم يكن له إلاَّ بنتان، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق.
533
فإن قيل: ظاهرُ قوله: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ يقتضي كون عملهم طاهراً، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل.
فالجوابُ: هذا جارٍ مجرى قولنا: الله أكبرُ، والمرادُ: أنَّهُ كبيرٌ، وكقوله: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ [الصافات: ٦٢] ولا خير فيها، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ، قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلى وأجلُّ ولا مقاربة بين الله والصنم.
قوله: ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ قرأ أبُو عمرو ونافع بإثبات ياء الإضافة في «تُخْزُونِ» على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها.
والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك: رجالٌ صومٌ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يثنى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان.
والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله: ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء﴾ [النور: ٣٢].

فصل


قال ابنُ عباسٍ: المرادُ: خافوا الله، ولا تفضحوني في أضيافي، يريد: أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ.
وقيل: معناه لا تخجلوني فيهم؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف، يقال: خزي الرجل إذا استحيا.
ثم قال: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ أي: صالح سديدٌ يقول الحق، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. وقال عكرمةُ: رجل يقول: لا إله إلاَّ الله.
وقال ابن إسحاق: رجل يأمُرُ بالمعروفِ، وينهى عن المنكر.
﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ يا لوطُ ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾، أي: لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح. قيل: ما لنا في بناتك من حاجةٍ، ولا شهوةٍ. وقيل: ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ.
534
قوله: «مِنْ حقٍّ» يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله: «ما نُرِيدُ» يجُوزُ أن تكون «ما» مصدرية، وأن تكون موصولة بمعنى «الَّذي». والعلم عرفانٌ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوزُ أن تكون «ما» استفهامية، وهي معلقة للعلم قبلها.
والمعنى: إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال.
قوله: «لَوْ أنَّ» جوابها محذوفٌ تقديره: لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ [الرعد: ٣١] قوله: «أَوْ آوِي» يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أنِّي آوي، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على «قُوَّةً» ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤].
واستضعف أبو البقاءِ هذا الوجه بعدم نصبه. وقد تقدَّم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة، وأبي جعفر: «أوْ آوِيَ» بالنصب كقوله: [الطويل]
٣٠٠٢ - ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا
وقولها: [الوافر]
٣٠٠٣ - للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ «أنَّ» مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد «لَوْ» عند المبرد، والتقدير: ول يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ.
وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ «أنَّ» في محلِّ الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً.
وقيل: «أوْ» بمعنى «بل» وهذا عند الكوفيين.
و «بِكُمْ» متعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «قُوَّة»، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة، ولا يجوزُ أن يتعلق ب «قُوَّةً» لأنها مصدرٌ.
والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره، ويجمع على أركان وأرْكُن؛ قال: [الرجز]
٣٠٠٤ - وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ...
535

فصل


المعنى: لو أنَّ لي قوة البدنِ، أو القوَّة بالأتباع، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ [الأنفال: ٦٠] والمراد السلاح. ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ أي: موضع حصين، وقيل: أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ.
فإن قيل: كيف عطف الفعل على الاسم؟.
فالجوابُ قد تقدَّم.
قال أبُو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته». «وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ «.
قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أغلق لوطٌ بابه، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار، فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم: ﴿قَالُواْ يالوط﴾ إنَّ ركنك شديدٌ ﴿إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ﴾ بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك، فافتح الباب، ودعنا وإيَّاهم؛ ففتح الباب ودخلوا، واستأذن جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ربه - عزَّو جلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها؛ فنشر جناحيه، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو براق الثَّنايا، أجلى الجبين، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً، وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق، فانصرفوا وهم يقولون: النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض، سحرونا، وجَعلوا يقولون: يا لوطُ كما أنت حتى تصبح، وسترى ما تلقى منَّا غداً، فقال لوطٌ للملائكةِ: متى موعد هلاكهم؛ فقالوا: الصُّبح، قال: أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا ﴿أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ﴾.
قوله: «فَأَسْرِ»
قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ: (فأسر بأهلك) هنا وفي الحجر، وفي الدخان (فاسر بعبادي)، وقوله: (أن اسر) في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء.
والباقُون: «فأسْرِ» بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان
536
من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال: سَرَى، ومنه ﴿والليل إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤]، وأسْرَى، ومنه: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قولُ أبي عبيدٍ.
وقيل: أسْرَى لأولِ الليل، وسرى لآخره، وهو قولُ اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأمَّا «سَارَ» فمختص بالنَّهار، وليس مقلُوباً من «سَرَى».
فإن قيل «السُّرى» لا يكون إلاَّ بالليل، فما الفائدةُ في قوله: ﴿بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ قال: هو آخر الليل سحر وقال قتادةُ: بعد طائفة من اللَّيلِ.
وتقدم في سورة يونس.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ في الالتفات وجهان:
أحدهما: نظر الإنسان إلى ما وراءه، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها.
والثاني: أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ؛ كقوله تعالى: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ [يونس: ٧٨] أي: لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ.
قوله: ﴿إِلاَّ امرأتك﴾ قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو برفع «امْرأتُكَ» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ. أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان:
أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسنُ من النَّصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجب.
537
وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة، فإنَّها لم تُنْه عنه، وهذا لا يجُوزُ، ولوْ كان الكلامُ «ولا يَلْتَفِت» برفع «يَلْتَفتْ» يعني على أن تكون «لا» نافيةً، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً، لكنَّهُ لم يقرأ برفع «يَلْتَفِتُ» أحد.
واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ.
وقال: «إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من» أحد «سواءً رفعت المرأة أو نصبتها».
وهذا صحيحٌ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد»، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من «بِأَهْلِكَ» ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها.
وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل «أحَد» وهو في المعنى للوط - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذ التقدير: لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحَدٌ» النَّهْيُ ل «أحد» وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: لا تدعْ أحداً يقومُ.
فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً معناه: فدعهُ يقوم. وفيه نظرٌ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
والثاني: أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع.
وقال أبو شامة: قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء، ولنسرُدْ كلامه قال:»
الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة، قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ [الحجر: ٦٥] الآية.
فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [هود] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصبُ والرفعُ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز، وعليه الأكثر، والرَّفعُ لغةُ تميم، وعليه اثنان من القراء «.
قال أبُو حيَّان:»
هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ، وجعل اسثناءً منقطعاً، كان من
538
المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلاَّ» من غير الجنس المستثنى، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً.
قال شهابُ الدِّين: «أمَّا قوله:» إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة، والذي قاله النُّاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ، وهذا ليس من ذاك، فكيف يعترض به على أبي شامة؟».
وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مستثنى من «بأهلكَ»، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً.
وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه، «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك» ولم يذكر قوله ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾.
والثاني: أنَّهُ مستثنى منْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح.
وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا.
والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة.
وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنَّه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين».
قال أبُو حيَّان: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ».
539
قال شهابُ الدِّين: «وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها، ومن قال إنَّه لم يسر بها، أي: لَمْ يأمرها، ولم يأخذها، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال: إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب النَّاسُ بهذا، وهو حسنٌ».
وقال أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّهث قيل: فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا، وليس فيها:» ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ «فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال: فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح».
وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته.
قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا﴾ الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ، «مُصِيبُهَا» خبرٌ مقدَّم، و «مَا أصَابَهُمْ» مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى «الذي»، والجملة خبرُ «إنَّ» ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها.
وأعرب أبو حيان: «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «مَا أصَابهُمْ» الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة: فإنَّ الموصول معرفة، فينبغي أن يكون المبتدأ: «مُصِيبُهَا» نكرةً؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «ما» الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنَّهُ قائمٌ أبواك».
قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ﴾ أي: موعد إهلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر «الصُّبُح» بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [الأنعام: ٩٦].
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ قيل: المراد حقيقتهُ، وقيل: المرادُ بالأمر العذابُ، قال بعضهم: لا يمكن حملهُ هنا على العذاب؛ لأن قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا﴾، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً، والعذاب الجزاءُ، والشرط غير الجزاء، فالأمر غير العذاب، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي؛ ويدل على ذلك قول الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا
540
إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: ٧٠] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم.
فإن قيل: لو كان كذلك، لقال: «فلما جاء أمرنا، جعلوا عاليها سافلها»، لأن الفعل صدر عن المأمور.
فالجواب: أن فعل العبد فعل الله تعالى، وأيضاً: فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله، وبأقداره، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب.
قوله: ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير، و «سِجِّيلٍ» قيل: هو في الأصل مركَّب من «سنك وكل» وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب، وغُيِّرت حروفهُ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّ] وان والاستبرق. وقيل: «سِجِّيل» اسمٌ للسَّماء، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ، لوصفه ب «مَنْضُودٍ». وقيل: من أسْجَلَ، أي: أرسل فيكون «فِعِّيلاً»، وقيل: هو من التسجيل، والمعنى: أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب. وقيل: «سِجِّيل» موضع الحجارةِ، وهي جبالٌ مخصوصة. قال تعالى: ﴿مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣].
قال الحسن: كان أصل الحجر هو الطين فشددت.
و «مَنضُودٍ» صفةٌ ل «سِجِّيلٍ». والنَّضد: جعلُ بعضهُ فوق بعضٍ، ومنه ﴿وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٩] أي: متراكب، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة.
«مُسَوَّمَةً» نعتٌ ل «حِجَارة»، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ «مِنْ سِجِّيل» صفةٌ ل «حِجَارة»، والأولى أن يجعل حالاً من «حِجَارة»، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف.
والتَّسْويم: العلامةُ. قيل: عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [١٤] في قوله: ﴿والخيل المسومة﴾ وقال الحسنُ والسديُّ: كان عليها أمثال الخواتيم. قال أبو صالحٍ: رأيتُ منها عند أم هانىء، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع. وقال ابنُ جريجٍ: كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض.
و «عِنْدَ» إمَّا منصوبٌ ب «مُسَوَّمَةً»، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل «مُسَوَّمَةً».
وقله: «ومَا هِيَ» الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة. وقيل: يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ، ولَمْ يُؤنِّثْ «
541
بِبَعيدٍ» إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة، أي: وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام، وهي قريب من مكَّة، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ، والمراد بالآية كفار مكة، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة.
قال أنس بن مالك سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل عن هذا فقال: «مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ».
وقال قتادةُ وعكرمةُ: يعنى ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً. روي: أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ، ودخل رجلٌ منهم الحرم، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج؛ فأصابه فأهلكه.
542
قوله :﴿ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ ﴾ " يُهْرَعُونَ " في محلِّ نصب على الحال. والعامَّةُ على " يُهْرَعُونَ " مبنياً للمفعول. وقرأ فرقة١ بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة " هَرَع " والإهراعُ : الإسْراعُ.
ويقالُ : هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز.
وقال الهرويُّ : هَرَعَ وأهرع : استحث.
وقيل :" الإهراعُ : هو الإسْرَاع مع الرّعدة ".
قيل : هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان، وأرْعِدَ زَيْدٌ، وزُهي عمرٌو من الزهو.
وقيل : لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها. فتأويلُ أولع فلانٌ أي : أولعهُ حبُّه، وأرْعدَ زيدٌ أي : أرعده غضبه، وزُهي عَمْرٌو أي : جعله ما لهُ زاهياً، وأهرع خوفه، أو حرصه.

فصل


روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف " جَاءَهُ قَوْمُهُ " مسرعين ﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات ﴾ أي : من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون الرِّجال في أدبارهم، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام - : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان ﴿ يا قوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ يعني : بالتزويج.
قوله :﴿ هؤلاء بَنَاتِي ﴾ جملةٌ برأسها، و﴿ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ جملةٌ أخرى، ويجُوزُ أن يكون " هؤلاءِ " مبتدأ، و " بَنَاتِي " بدلٌ أو عطفُ بيان، وهُنَّ مبتدأ، و " أطْهَرُ " خبره، والجملة خبر الأول. ويجوز أن يكون " هُنَّ " فصلاً، و " أطْهَرُ " خبر : إمَّا ل " هَؤلاءِ "، وإمَّا ل " بَنَاتِي " والجملةُ خبر الأوَّلِ.
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ، وسعيدُ بنُ جبير٢، وعيسى بن عمر، والسُّدي " أطْهَرَ " بالنَّصْب، وخُرِّجَتْ على الحالِ، فقيل :" هؤلاءِ " مبتدأ، و " بَنَاتِي هُنَّ " جملة في محلِّ خبره، و " أطْهَرَ " حال، والعاملُ : إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ.
وقيل :" هُنَّ " فصلٌ بين الحالِ وصاحبها، وجعل من ذلك قولهم :" أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً " ومنعه بعضُ النحويين، وخرج الآية على أنَّ " لَكُم " خبر " هُنَّ " فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ " نَضِيجَةٌ " منصوبة ب " كَانَ " مضمرة.

فصل


قال قتادةُ - رحمه الله - :" المرادُ بناته لصلبه "، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.
وقال الحسنُ بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام٣.
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : أراد نساءهم، وأضاف إلى نفسه ؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته٤ وفي قراءة أبي بن كعب " ﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] وهو أب لهم " وهذا القول أولى ؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ، وأيضاً : فلم يكن له إلاَّ بنتان، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز ؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق.
فإن قيل : ظاهرُ قوله :﴿ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ يقتضي كون عملهم طاهراً، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل.
فالجوابُ : هذا جارٍ مجرى قولنا : الله أكبرُ، والمرادُ : أنَّهُ كبيرٌ، وكقوله :﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم ﴾ [ الصافات : ٦٢ ] ولا خير فيها، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلى وأجلُّ٥ ولا مقاربة بين الله والصنم.
قوله :﴿ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ قرأ أبُو عمرو٦ ونافع بإثبات ياء الإضافة في " تُخْزُونِ " على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها.
والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك : رجالٌ صومٌ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يثنى فيقال : ضيفان، ويجمع فيقال : أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان.
والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله :﴿ أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء ﴾ [ النور : ٣٢ ].

فصل


قال ابنُ عباسٍ : المرادُ : خافوا الله، ولا تفضحوني في أضيافي٧، يريد : أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ.
وقيل : معناه لا تخجلوني فيهم ؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف، يقال : خزي الرجل إذا استحيا.
ثم قال :﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ أي : صالح سديدٌ يقول الحق، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. وقال عكرمةُ : رجل يقول : لا إله إلاَّ الله٨.
وقال ابن إسحاق : رجل يأمُرُ بالمعروفِ، وينهى عن المنكر٩.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٩٤ والبحر المحيط ٥/٢٤٦..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٩٤ والبحر المحيط ٥/٢٤٧ والدر المصون ٤/١١٨..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٥)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٨٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٢٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٥)..
٥ أخرجه أحمد (١/٤٦٣)..
٦ وقرأ بها أيضا نافع في الوصل ينظر: إعراب القراءات السبع ١/٢٩٧..
٧ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٢٨)..
٨ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٥) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٢١) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات".
وذكره أيضا عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ..

٩ انظر المصادر السابقة..
﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ يا لوطُ ﴿ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ﴾، أي : لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح. قيل : ما لنا في بناتك من حاجةٍ، ولا شهوةٍ. وقيل :﴿ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ﴾ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ.
قوله :" مِنْ حقٍّ " يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و " مِنْ " مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله :" ما نُرِيدُ " يجُوزُ أن تكون " ما " مصدرية، وأن تكون موصولة بمعنى " الَّذي ". والعلم عرفانٌ ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي : لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوزُ أن تكون " ما " استفهامية، وهي معلقة للعلم قبلها.
والمعنى : إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال.
قوله :" لَوْ أنَّ " جوابها محذوفٌ تقديره : لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ ﴾ [ الرعد : ٣١ ] قوله :" أَوْ آوِي " يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى، تقديره : أو أنِّي آوي، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على " قُوَّةً " ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت " أنْ " رفع الفعلُ كقوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ﴾ [ الروم : ٢٤ ].
واستضعف أبو البقاءِ١ هذا الوجه بعدم نصبه. وقد تقدَّم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة، وأبي جعفر :" أوْ آوِيَ " بالنصب كقوله :[ الطويل ]
ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ *** وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا٢
وقولها :[ الوافر ]
للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي *** أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ٣
ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ " أنَّ " مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد " لَوْ " عند المبرد، والتقدير : لو يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى ؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ.
وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ " أنَّ " في محلِّ الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً.
وقيل :" أوْ " بمعنى " بل " وهذا عند الكوفيين.
و " بِكُمْ " متعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من " قُوَّة "، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة، ولا يجوزُ أن يتعلق ب " قُوَّةً " لأنها مصدرٌ.
والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره، ويجمع على أركان وأرْكُن ؛ قال :[ الرجز ]
وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ٤ ***. . .

فصل


المعنى : لو أنَّ لي قوة البدنِ، أو القوَّة بالأتباع، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] والمراد السلاح. ﴿ أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ أي : موضع حصين، وقيل : أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ.
فإن قيل : كيف عطف الفعل على الاسم ؟.
فالجوابُ قد تقدَّم.
قال أبُو هريرة - رضي الله عنه - :" ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته " ٥. " وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ " ٦.
قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رضي الله عنهم - : أغلق لوطٌ بابه، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار.
١ ينظر: الإملاء ٢/٤٣..
٢ تقدم..
٣ تقدم..
٤ البيت لرؤبة بن العجاج ينظر: ديوانه ص ١٤٦ والكتاب ٣/٥٧٨ ولسانه العرب (ركن) والمقرب ٢/١٠٨ والدر المصون ٤/١١٨..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٥) عن أبي هريرة وأخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٨٥) عن ابن جريج مثله..
٦ أخرجه البخاري (٦/٤٧٣) كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله عز وجل: ونبئهم عن ضيف إبراهيم (٣٣٧٢)..
فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم :﴿ قَالُوا يا لوط ﴾ إنَّ ركنك شديدٌ ﴿ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ ﴾ بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك، فافتح الباب، ودعنا وإيَّاهم ؛ ففتح الباب ودخلوا، واستأذن جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - ربه - عزَّ وجلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها ؛ فنشر جناحيه، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو براق الثَّنايا، أجلى الجبين، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً، وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق، فانصرفوا وهم يقولون : النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض، سحرونا، وجَعلوا يقولون : يا لوطُ كما أنت حتى تصبح، وسترى ما تلقى منَّا غداً، فقال لوطٌ للملائكةِ : متى موعد هلاكهم ؛ فقالوا : الصُّبح، قال : أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا ﴿ أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ ﴾.
قوله :" فَأَسْرِ " قرأ نافعٌ١ وابنُ كثيرٍ :( فأسر بأهلك ) هنا وفي الحجر، وفي الدخان ( فاسر بعبادي )، وقوله :( أن اسر ) في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء.
والباقُون :" فأسْرِ " بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال : سَرَى، ومنه ﴿ والليل إِذَا يَسْرِ ﴾ [ الفجر : ٤ ]، وأسْرَى، ومنه :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ١ ] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ ؟ خلافٌ فقيل : هما بمعنى واحدٍ، وهو قولُ أبي عبيدٍ.
وقيل : أسْرَى لأولِ الليل، وسرى لآخره، وهو قولُ اللَّيْثِ - رحمه الله - وأمَّا " سَارَ " فمختص بالنَّهار، وليس مقلُوباً من " سَرَى ".
فإن قيل " السُّرى " لا يكون إلاَّ بالليل، فما الفائدةُ في قوله :﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل ﴾ ؟
فالجواب : أنه لو لم يقل " بقطع من الليل " جاز أن يكون أوله.
قوله :" بأهلك " يجوز أن تكون الباء للتعدية، وأن تكون للحال أي : مصاحبا لهم.
وقوله :" بقطع " حال من " أهلك " أي : مصاحبين لقطع، على أن المراد به الظلمة وقيل : الباء بمعنى " في ".
والقطع : نصف الليل ؛ لأنه قطعة منه مساوية لباقيه ؛ وأنشد :[ الوافر ]
٣٠٠٥- ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد٢
وقال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- : أخبرني عن قول الله- عز وجل-﴿ بقطع من الليل ﴾ قال : هو آخر الليل سحر٣ وقال قتادةُ : بعد طائفة من اللَّيلِ٤.
وتقدم في سورة يونس.
ثم قال :﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾ في الالتفات وجهان :
أحدهما : نظر الإنسان إلى ما وراءه، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها.
والثاني : أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ ؛ كقوله تعالى :﴿ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ﴾ [ يونس : ٧٨ ] أي : لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ.
قوله :﴿ إِلاَّ امرأتك ﴾ قرأ ابنُ كثير٥، وأبو عمرو برفع " امْرأتُكَ " والباقون بنصبها. وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ. أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان :
أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من " أحد " وهو أحسنُ من النَّصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجب.
وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة، فإنَّها لم تُنْه عنه، وهذا لا يجُوزُ، ولوْ كان الكلامُ " ولا يَلْتَفِت " برفع " يَلْتَفتْ " يعني على أن تكون " لا " نافيةً، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً، لكنَّهُ لم يقرأ برفع " يَلْتَفِتُ " أحد.
واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ.
وقال :" إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من " أحد " سواءً رفعت المرأة أو نصبتها ".
وهذا صحيحٌ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من " أحد "، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من " بِأَهْلِكَ " ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها.
وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل " أحَد " وهو في المعنى للوط - عليه الصلاة والسلام -، إذ التقدير : لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ، كقولك لخادمك :" لا يَقُمْ أحَدٌ " النَّهْيُ ل " أحد " وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى : لا تدعْ أحداً يقومُ.
فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك :" لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً " معناه : فدعهُ يقوم. وفيه نظرٌ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
والثاني : أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع.
وقال أبو شامة : قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء، ولنسرُدْ كلامه قال :" الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى : لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة، قال تعالى :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ [ الحجر : ٦٥ ] الآية.
فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [ هود ] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصبُ والرفعُ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز، وعليه الأكثر، والرَّفعُ لغةُ تميم، وعليه اثنان من القراء ".
قال أبُو حيَّان٦ :" هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ، وجعل اسثناءً منقطعاً، كان من المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّجهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد " إلاَّ " من غير الجنس المستثنى، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً.
قال شهابُ الدِّين٧ :" أمَّا قوله :" إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل " ليس بمسلَّم، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة، والذي قاله النُّحاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو : ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ، وهذا ليس من ذاك، فكيف يعترض به على أبي شامة ؟ ".
وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مستثنى من " بأهلكَ "، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى : وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً.
وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه، " فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك " ولم يذكر قوله ﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾.
والثاني : أنَّهُ مستثنى منْ " أحد " وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ]، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح.
وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا.
والثالث : أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة.
وقال الزمخشري٨ :" وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنَّه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين ".
قال أبُو حيَّان٩ :" وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ ".
قال شهابُ الدِّين١٠ :" وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها، ومن قال إنَّه لم يسر بها، أي : لَمْ يأمرها، ولم يأخذها، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال : إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب النَّاسُ بهذا، وهو حسنٌ ".
وقال أبو شامة :" ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّه قيل : فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا، وليس فيها :" ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ " فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال : فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح ".
وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته.
قوله :﴿ إِنَّهُ مُصِيبُهَا ﴾ الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ، " مُصِيبُهَا " خبرٌ مقدَّم، و " مَا أصَابَهُمْ " مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى " الذي "، والجملة خبرُ " إنَّ " ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها.
وأعرب أبو حيان١١ :" مُصِيبُهَا " مبتدأ، و " مَا أصَابهُمْ " الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة : فإنَّ الموصول معرفة، فينبغي أن يكون المبتدأ :" مُصِيبُهَا " نكرةً ؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ، ومن حيث المعنى : إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون " مُصِيبُهَا " مبتدأ، و " ما " الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو :" إنَّهُ قائمٌ أبواك ".
قوله :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ﴾ أي : موعد إهلاكهم. وقرأ عيسى١٢ بن عمر " الصُّبُح " بضمتين فقيل : لغتان، وقيل : بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [ الأنع
١ ينظر: الحجة ٤/٣٦٧ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩١ وحجة القراءات ٣٤٧ وقرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر: الإتحاف ٢/١٣٢ والبحر المحيط ٥/٢٤٨ والدر المصون ٤/١١٩..
٢ البيت لمالك بن كنانة. ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٨ والقرطبي ٩/٥٤ وروح المعاني ١٢/١٠٩ والدر المصون ٤/١١٩..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٢٣) وعزاه إلى ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٢٦٣) وعزاه إلى عبد الرزاق..
٥ ينظر: الحجة ٤/٣٦٩ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٢ وحجة القراءات ٣٤٧ والإتحاف ٢/١٣٣ والمحرر الوجيز ٣/١٩٦، والبحر المحيط ٥/٢٤٨ والدر المصون ٤/١١٩..
٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٩..
٧ ينظر: الدر المصون ٤/١٢٠..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٤١٦..
٩ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٩..
١٠ ينظر: الدر المصون ٤/١٢٠..
١١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٩..
١٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٤٨، والدر المصون ٤/١٢١..
قوله :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ قيل : المراد حقيقتهُ، وقيل : المرادُ بالأمر العذابُ، قال بعضهم : لا يمكن حملهُ هنا على العذاب ؛ لأن قوله :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا ﴾، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً، والعذاب الجزاءُ، والشرط غير الجزاء، فالأمر غير العذاب، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي ؛ ويدل على ذلك قول الملائكة :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم.
فإن قيل : لو كان كذلك، لقال :" فلما جاء أمرنا، جعلوا عاليها سافلها "، لأن الفعل صدر عن المأمور.
فالجواب : أن فعل العبد فعل الله تعالى، وأيضاً : فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله، وبأقداره، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى ؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب.
قوله :﴿ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾ مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير، و " سِجِّيلٍ " قيل : هو في الأصل مركَّب من " سنك وكل " وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب، وغُيِّرت حروفهُ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّيوان والاستبرق. وقيل :" سِجِّيل " اسمٌ للسَّماء، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ، لوصفه ب " مَنْضُودٍ ". وقيل : من أسْجَلَ، أي : أرسل فيكون " فِعِّيلاً "، وقيل : هو من التسجيل، والمعنى : أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ١ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب. وقيل :" سِجِّيل " موضع الحجارةِ، وهي جبالٌ مخصوصة. قال تعالى :﴿ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ [ النور : ٤٣ ].
قال الحسن : كان أصل الحجر هو الطين فشددت٢.
و " مَنضُودٍ " صفةٌ ل " سِجِّيلٍ ". والنَّضد : جعلُ الشيء بعضهُ فوق بعضٍ، ومنه ﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ [ الواقعة : ٢٩ ] أي : متراكب، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٧)..
٢ ذكره الطبري في "تفسيره" (٧/٩٣) والبغوي (٢/٣٩٧)..
" مُسَوَّمَةً " نعتٌ ل " حِجَارة "، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ " مِنْ سِجِّيل " صفةٌ ل " حِجَارة "، والأولى أن يجعل حالاً من " حِجَارة "، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف.
والتَّسْويم : العلامةُ. قيل : عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [ ١٤ ] في قوله :﴿ والخيل المسومة ﴾.
وقال الحسنُ والسديُّ : كان عليها أمثال الخواتيم١. قال أبو صالحٍ : رأيتُ منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع. وقال ابنُ جريجٍ : كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض.
و " عِنْدَ " إمَّا منصوبٌ ب " مُسَوَّمَةً "، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل " مُسَوَّمَةً ".
وقله :" ومَا هِيَ " الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة. وقيل : يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور. وقيل : يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ، ولَمْ يُؤنِّثْ " بِبَعيدٍ " إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره : وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة، أي : وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام، وهي قريب من مكَّة، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ، والمراد بالآية كفار مكة، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة.
قال أنس بن مالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا فقال :" مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ " ٢.
وقال قتادةُ وعكرمةُ : يعنى ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً٣. روي : أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ، ودخل رجلٌ منهم الحرم، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج ؛ فأصابه فأهلكه.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٣٢)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٩٥) عن قتادة والسدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٢٦) عن قتادة وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
قوله تعالى: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ القصة.
أي: وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام -، ثم صار اسماً للقبيلةِ.
وقال كثير من المفسِّرين: مَدْيَنُ اسم مدينة، وعلى هذا فتقديره: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف «أهل»، كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] أي: أهل القرية.
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد، ولذلك قال شعيبٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم، فالأهم، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان، دعاهم إلى تركِ هذه العادة، فقال: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾.
قوله: «وَلاَ تَنْقُصُوا» :«نَقَصَ» يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ: نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه، وحقَّهُ، وهو هنا كذلك، إذ المرادُ: ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى.
والمعنى: لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون «المِكْيَال» مفعولاً أول، والثاني محذوفٌ، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله تعالى: ﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ: موسرين في نعمة. وقال مجاهدٌ: كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة، وغلاء الأسعار، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا.
﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ يحيطُ بكم فيهلككم.
قال ابنُ عبَّاسٍ: أخافُ: أي: أعلم.
وقال غيره: المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ.
قوله: «محيطٍ» صفة لليوم، ووصف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢].
قال الزمخشري: إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال: لأنَّ
543
اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
وزعم قومٌ: أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون: التقدير: عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاءِ: وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
واختلفوا في المراد بهذا العذاب: فقيل: عذاب يوم القيامةِ. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم.
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها.
قوله: ﴿ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾ أي: بالعدل.
فإن قيل: وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ ثم قال ﴿أَوْفُواْ المكيال والميزان﴾، وهو عين الأول، ثم قال: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني: قوله: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ نهي عن التنقيص، وقوله: ﴿أَوْفُواْ المكيال والميزان﴾ أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ: صل قرابتك، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما: ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ وفي
544
الثانية قال: ﴿أَوْفُواْ المكيال والميزان﴾ والإيفاءُ: عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ: إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس.
فالحاصلُ: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض.
وقوله: «بالقسط» يعني: بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل.
والبخس: هو النَّقْضُ.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾.
فإن قيل: العثوُّ: الفسادُ التَّامُّ، فقوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ جار مجرى قولك: ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني: أن يكون المرادُ من قوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ مصالح الأديان والشرائع.
ثم قال: ﴿بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ العامَّة على تشديد ياء «بقيَّة». وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة: «هي لغةٌ».
وهذا لا ينبغي أن يقال، بل يقال: إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ «فِعَل» بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه: «فَعِل» بكسر العين نحو: سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل: سجيَّة، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك «بقيَّة وبقِية» أي: بالتَّشديد والتَّخفيف.
قال المفسِّرون «بقيَّةُ اللهِ» هي تقواه. قال ابنُ عباسٍ: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهدٌ: «بقيَّةُ اللهِ» يعنى
545
طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداص.
قوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ قال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ» يعنى: على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين.
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل.
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: إنِّي نصحتكم، وأرشدتكم إلى الخير، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل: لمَّا قال لهم: إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له: ﴿أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم، «أصلاتُكَ» بغير واو. والباقون بالواو على الجمع.
قوله: ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ﴾ العامَّةُ على نون الجماعةِ، أو التعظيم في «نَفْعلُ» و «نشاءُ».
وقرأ زيد بنُ عليّ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول «نَتْرُكَ» وهو «ما» الموصولةُ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما. و «أوْ» للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عطفه على مفعول «تأمُركَ» ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ، إذ يصير التقديرُ: أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا.
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول «تأمُركَ»، وأن يكون معطوفاً على مفعول «نترك»، والتقديرُ: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان: «أن تفعل» معطوفاً على مفعول: «تأمُرُكَ» فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول: «نَتْرُكَ» وهي
546
قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول «تأمُرك»، وهي قراءةُ النُّون في «نفعلُ» والتاء في «تشاء»، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في «تشاء» أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره».
واعلم أنَّ قوله: ﴿أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله: ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.

فصل


قيل: المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل: أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى: دينُك يأمرك بذلك. وقيل: المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم: أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾.
قال ابن عباس: أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون: للديغ سليم، وللفلاة مفازة.
وقيل: قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس «لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك»، وقيل: الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل: على الصِّحَّة أي: إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح: ﴿قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا﴾ [هود: ٦٢].
قوله: «أَرَأَيْتُمْ» قد تقدَّم مراراً [يونس: ٥٠]. وقال الزمخشريُّ هنا: فإنْ قلت: أين جوابُ «ارأيْتُم» وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟.
547
قال أبُو حيَّان: وتسميةُ هذا جواباً ل «أرَأيتُمْ» ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل «أرَأَيْتُم» لأنَّ «أرَأَيْتُمْ» إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ: «أرأيتك زيداً ما صنع» وقال الحوفيُّ: «وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره: أأعدلُ عمَّا أنا عليه».
وقال ابنُ عطيَّة: «وجوابُ الشَّرط الذي في قوله:» إنْ كُنتُ «محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة».
قال أبُو حيان: وليس قوله: «أضَلَّ» جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيْتُمْ» وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها.

فصل


المعنى ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ بصيرة وبيان من ربِّي ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ حلالاً.
قيل: كان شعيب كثير المالِ الحلال.
وقيل: الرزق الحسنُ: العلم والمعرفة أي: لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.
قوله: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشريُّ: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُولِّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ: «خالفَنِي إلى الماءِ»، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.
فيجوزُ أن يكون قوله: «أنْ أخَالِفَكُمْ» في موضع مفعول ب «أُرِيدُ»، أي: وما أريد مُخالفتكُم، ويكون «فاعل» بمعنى «فعل» نحو: جاوتُ الشَّيء وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكون خلفاً منكم.
548
وقوله: ﴿إلى مَآ أَنْهَاكُمْ﴾ يتعلَّق ب «أخَالِفَكُمْ»، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون «أنْ أخالِفكثمُ» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريدُ» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.
ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به ب «أُرِيد»، ويقدَّر مائلاً إلى.
والمعنى: وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه: ﴿إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت﴾.
قوله: ﴿مَا استطعت﴾ يجوزُ ما «مَا» هذه الوجوه:
أحدهما: أن تكون مصدرية ظرفية أي: مدة استطاعتي.
والثاني: أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» بدلاً من «الإصلاح» والتقديرُ: إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح.
الثالث: أن يكون على حذفِ مضاف، أي: إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ.
الرابع: أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي: إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله: [المتقارب]
٣٠٠٦ - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في «عليهِ» و «إليهِ» للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.

فصل


اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ
549
والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله: ﴿وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله﴾ والتوفيق تسيهل سبيل الخير «عليْهِ توكَّلْتُ» اعتدمت «وإلَيْهِ أنيبُ» أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل: في المَعَادِ.
قوله: ﴿لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من «جرم» ثلاثيًّا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من «أجرم» وقد تقدَّم [هود ٢٢] أنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل: كسب، فيقال: جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو: كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي: كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله: [الكامل]
٣٠٠٧ - ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.
والثاني: هو «أنْ يصيبكُم» أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق.
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام «مِثْلُ» رفعاً على أنَّه فاعل «يُصِيبَكُم» وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى:
﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] وكقوله: [البسيط]
٣٠٠٨ - لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام: ٩٤].
والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.

فصل


والمعنى: لا يكسبنكم «شِقَاقِي» خلافي: «أنْ يُصِيبكم» عاب الاستئصال في الدنيا «
550
مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح» من الغرقِ، وقوم هود من الريح، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ، وقوم لوط من الخسْفِ.
قوله: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ أتى ب «بَعِيد» مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ: إمَّا لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم، وإمَّا باعتبار زمانٍ، أي: بزمانً بعيد، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب، وإمَّا باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهمان أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدّره الزمخشريُّ، وتبعه أبو حيَّان، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ. وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في «قَرِيب» و «بَعِيد» و «قَلِيل» و «كَثير» بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل، والنَّهيق ونحوهما.
ثم قال: ﴿واستغفروا رَبَّكُمْ﴾ أي: من عبادة الأوثان، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾ بأوليائه: «وَدُودٌ» الوَدُود: بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا، وودَاداً، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي: أحبًّه وآثره.
والمشهورُ «وَدِدْت» بكسر العين، وسمع الكسائي «وَدَدْت» بفتحها، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي: يَوَدّ عباده ويرحمهم.
وقيل: بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون ألياءهُ، فهم بمنزلة «المُوادِّ» مجازاً.
قال ابنُ الأنباري: الوَدُودُ - في أسماءِ الله تعالى - المُحِبُّ لعبادِهِ، من قولهم: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ.
قال الأزهريُّ - في «شرح كتاب أسماء الله الحسنى» -: ويجوزُ أن يكون «وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول، أي: إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ.
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله، ويصده عن التَّهاون في تبليغه.
ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً.
ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح،
551
والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ، فلو كانت هذه الجعوة باطلة لما اشتغل بها، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال: لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك، وهذا تقرير في غاية الكمال.
قوله: ﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾.
قيل: المعنى: ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ [الأنعام: ٢٥] وقيل: إنَّهم فهموه، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه: ما أدري ما تقولُ.
وقيل: ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة.

فصل


استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه: اسمٌ لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين، وقيل: إنَّه اسم لملطلق الفهم، يقال: اوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين، أي: فَهْماً. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» أي: يفهمه تأويله.
ثم قال: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ قيل: الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه.
وقيل: هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل، وأيضاً فقوله: «فِينَا» يُبءطل هه الوجوه؛ لأنَّهم لو قالوا: إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كمان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم، وأيضاً قولهم بعد ذلك «ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ» فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة.
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه، لما بيَّناه.
قال بعضُ المعتزلةِ: لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن
552
النَّجاسات، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ، ولا يقعُ الرَّهْطُ، والعَصَب، والنَّفَر، إلاَّ على الرِّجالِ.
وقال الزمخشريُّ: «من الثَّلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السِّبعةِ»، ويجمع على «أرْهُط» و «أرْهُط» على «أرَاهِط» ؛ قال: [مجزوء الكامل]
٣٠٠٩ - يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا
قال الرُّمَّانِيُّ: وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه «التَّرْهيطُ» وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده.

فصل


المعنى: ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك.
والرَّجْمُ في اللغة: عبارة عن الرّمي، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى: ﴿رَجْماً بالغيب﴾ [الكهف: ٢٢] وقوله: ﴿وَيَقْذِفُونَ بالغيب﴾ [سبأ: ٥٣]، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وقد يكون بالطرد، قال تعالى: ﴿رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى: لقتلناك، أو لشتمناك وطردناك.
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ قال الزمخشريُّ «وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل: وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم:» أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ «ولو قيلَ:» ومَا عَزَزْتَ عليْنَا «لم يصحَّ هذا الجوابُ».
والمعنى: أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك.
واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحدة بالشتم والسَّفاهة.
قوله: ﴿ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾
اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالتقتل، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه.
553
قال: أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ، أي: حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي.
قوله: ﴿واتخذتموه﴾ يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين.
أوهما: «الهاء»
والثاني: «ظِهْرِيًّا» ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و «ظِهْريًّا» حالٌ، وأن تكون المتعدية لواحدة؛ فيكون «ظِهْرِيًّا» حالاً فقط.
ويجوز في «وَراكُم» أن يكون ظرفاً للاتخاذ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا «، والضمير في» اتِّخَذْتُمُوهُ «يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريًّا، أي: منبوذةً وراء ظهورهم.
والظَّهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى»
الظَّهْر «والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى» أمْس «،» وإمْسِيّ «بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدَّالِ.
وقي: الضَّميرُ يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي: عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله
تعالى
: ﴿وياقوم
اعملوا
على مَكَانَتِكُمْ﴾
الآية.
المكانةُ: الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، وكل ما في وسعكم، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ»
أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطي في فعله.
قوله: ﴿مَن يَأْتِيهِ﴾ تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح. قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب «تَعْلَمُون» -: «والأوَّلُ أحسنُ» ثم قال: «ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة».
وهي قوله: ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾.
قال أبُو حيَّان: «لا يتعيَّن ذلك، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها، والتقديرُ: سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ، وأيُّنَا هو كاذبٌ».
554
قال الزمخشريُّ: فإن قُلت: أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» ؟.
قلت: إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت عما مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ «.
ثم قال: ﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ أي: وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ. والرقيب: بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ الآية.
قال الزمخشريُّ: فإن قتل: ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت: قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح﴾ [هود: ٨١] ﴿ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: ٦٥] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ:»
وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ «، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ».
قوله: ﴿نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾.
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال: لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم.
وقوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين.
وفي وله: ﴿بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ وجهان:
الأول: أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته.
والثاني: أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال: ﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ وعرَّف «الصَّيحة» بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ تقدم
555
الكلام على ذلك [هود: ٦٧، ٦٨] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
قوله: ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ العامَّةُ: على كسر العين من «بَعِدَ يَبْعَد» بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال: [الطويل]
٣٠١٠ - يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا: «بَعْد» بالضمِّ ضد القرب، و «بَعِد» بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين.
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة «بَعْدت» بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر: [الكامل]
٣٠١١ - مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ
وقال النَّحَّاسُ: المعروفُ في اللغةِ: بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، وإذا هلك، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب.
وقال ابنُ قتيبة: بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي: «بَعُد» يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و «بَعِد» في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري: مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ: [الطويل]
٣٠١٢ - يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا
قيل: يروى «لا تَبْعُدْ» بالوجهين.
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا: ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان: [الكامل]
556
قوله :﴿ ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط ﴾ أي : بالعدل.
فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان ﴾ ثم قال ﴿ أَوْفُواْ المكيال والميزان ﴾، وهو عين الأول، ثم قال :﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ ﴾، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ ؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني : قوله :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان ﴾ نهي عن التنقيص، وقوله :﴿ أَوْفُواْ المكيال والميزان ﴾ أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ : صل قرابتك، ولا تقطعهم ؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم ؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع من التطفيف، ومنع الحقوق، فكانت المبايعات محرمة بالكلية، لأجل هذا منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً :﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ ﴾ فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان ﴾ وفي الثانية قال :﴿ أَوْفُواْ المكيال والميزان ﴾ والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس.
فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض.
وقوله :" بالقسط " يعني : بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل.
والبخس : هو النَّقْصُ.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾.
فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ، فقوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين.
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني : أن يكون المرادُ من قوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ مصالح دنياكم وآخرتكم.
والثالث :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ مصالح الأديان والشرائع.
ثم قال :﴿ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ العامَّة على تشديد ياء " بقيَّة ". وقرأ١ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة :" هي لغةٌ ".
وهذا لا ينبغي أن يقال، بل يقال : إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ " فِعَل " بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه :" فَعِل " بكسر العين نحو : سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل : سجيَّة، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك " بقيَّة وبقِية " أي : بالتَّشديد والتَّخفيف.
قال المفسِّرون " بقيَّةُ اللهِ " هي تقواه. قال ابنُ عباسٍ : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف٢. وقال مجاهدٌ :" بقيَّةُ اللهِ " يعنى طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل ؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبدا٣.
قوله :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - :" وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ " يعنى : على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين.
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل.
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً.
قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ أي : إنِّي نصحتكم، وأرشدتكم إلى الخير، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل : لمَّا قال لهم : إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٩٩، والبحر المحيط ٥/٢٥٣..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٨)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٩٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٢٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد..
قالوا له :﴿ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾ قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم، " أصلاتُكَ " بغير واو. والباقون١ بالواو على الجمع.
قوله :﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ ﴾ العامَّةُ على نون الجماعةِ، أو التعظيم في " نَفْعلُ " و " نشاءُ ".
وقرأ زيد بنُ عليّ، وابنُ أبي عبلة والضحاك٢ بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن٣ وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول " نَتْرُكَ " وهو " ما " الموصولةُ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما. و " أوْ " للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عطفه على مفعول " تأمُركَ " ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ، إذ يصير التقديرُ : أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا.
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول " تأمُركَ "، وأن يكون معطوفاً على مفعول " نترك "، والتقديرُ : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان :" أن تفعل " معطوفاً على مفعول :" تأمُرُكَ " فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول :" نَتْرُكَ " وهي قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول " تأمُرك "، وهي قراءةُ النُّون في " نفعلُ " والتاء في " تشاء "، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في " تشاء " أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان ؛ لأنه كان يأمرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ :" المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره ".
واعلم أنَّ قوله :﴿ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله :﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.

فصل


قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان ؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين ؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق ؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّابق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك. وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد ﴾.
قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي ؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم، وللفلاة مفازة٤.
وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس " لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك "، وقيل : الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح :﴿ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا ﴾ [ هود : ٦٢ ].
١ ينظر: الحجة ٣٤٨ والإتحاف ٢/١٣٤ وقرأ بها أيضا ابن وثاب ينظر: البحر المحيط ٥/٢٥٤..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٤١٩، والمحرر الوجيز ٣/٢٠٠ والبحر المحيط ٥/٢٥٤ والدر المصون ٤/١٢٣..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٠ والبحر المحيط ٥/٢٥٤ والدر المصون ٤/١٢٣..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٩٨)..
قوله :" أَرَأَيْتُمْ " قد تقدَّم مراراً [ يونس : ٥٠ ]. وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ " أرأيْتُم " وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح ؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك ؟.
قال أبُو حيَّان١ : وتسميةُ هذا جواباً ل " أرَأيتُمْ " ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّاني ل " أرَأَيْتُم " لأنَّ " أرَأَيْتُمْ " إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ :" أرأيتك زيداً ما صنع " وقال الحوفيُّ :" وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه ".
وقال ابنُ عطيَّة٢ :" وجوابُ الشَّرط الذي في قوله :" إنْ كُنتُ " محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة ".
قال أبُو حيان : وليس قوله :" أضَلَّ " جواباً للشَّرط ؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل " أرأيْتُمْ " وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها.

فصل


المعنى ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ بصيرة وبيان من ربِّي ﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ﴾ حلالاً.
قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال.
وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.
قوله :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ﴾ قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولِّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ :" خالفَنِي إلى الماءِ "، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته ؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.
فيجوزُ أن يكون قوله :" أنْ أخَالِفَكُمْ " في موضع مفعول ب " أُرِيدُ "، أي : وما أريد مُخالفتكُم، ويكون " فاعل " بمعنى " فعل " نحو : جاوزتُ الشَّيء وجُزْته، أي : وما أريد أن أخالفكم، أي : أكون خلفاً منكم.
وقوله :﴿ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ ﴾ يتعلَّق ب " أخَالِفَكُمْ "، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون " أنْ أخالِفكمُ " مفعولاً من أجله، وتتعلق " إلى " بقوله " أريدُ " بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.
ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به ب " أُرِيد "، ويقدَّر مائلاً إلى.
والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه :﴿ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت ﴾.
قوله :﴿ مَا استطعت ﴾ يجوزُ ما " مَا " هذه الوجوه :
أحدهما : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي.
والثاني : أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " بدلاً من " الإصلاح " والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح.
الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ.
الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه ؛ كقوله :[ المتقارب ]
٣٠١٣ - إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ
ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ٣
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في " عليهِ " و " إليهِ " للاختصاص أي : عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.

فصل


اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس ؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله :﴿ وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله ﴾ والتوفيق تسيهل سبيل الخير " عليْهِ توكَّلْتُ " اعتدمت " وإلَيْهِ أنيبُ " أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل : في المَعَادِ.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٥٤..
٢ ينظر: المحرر الوجيز٣/٢٠١..
٣ ينظر البيت في الكتاب ١/١٩٩ وأوضح المسالك ٢/٤٢٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٥/٥٩ والتصريح ٢/٦٣ والمنصف ٣/٧١ والهمع ٢/٩٣ والدرر ٢/٥٢ والأشموني ٢/٢٨٤ والخزانة ٨/١٢٧ وروح المعاني ١٢/١٢٠ والبحر ٥/٢٥٥ والمقرب لابن عصفور ١٤٤ وشذور الذهب ٣٨٤ والدر المصون ٤/١٢٣..
قوله :﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من " جرم " ثلاثيًّا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من " أجرم " وقد تقدَّم [ هود ٢٢ ] أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب ؛ وأنشد الزَّمخشري على تعدِّية لاثنين قوله :[ الكامل ]
ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا١
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.
والثاني : هو " أنْ يصيبكُم " أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق.
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام " مِثْلُ " رفعاً على أنَّه فاعل " يُصِيبَكُم " وقرأ مجاهدٌ٢ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح ؛ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله تعالى :
﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٣ ] وكقوله :[ البسيط ]
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ حمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ٣
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [ الأنعام : ٩٤ ].
والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.

فصل


والمعنى : لا يكسبنكم " شِقَاقِي " خلافي :" أنْ يُصِيبكم " عذاب الاستئصال في الدنيا " مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح " من الغرقِ، وقوم هود من الريح، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ، وقوم لوط من الخسْفِ.
قوله :﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ أتى ب " بَعِيد " مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ : إمَّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم، وإمَّا باعتبار زمانٍ، أي : بزمانً بعيد، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب، وإمَّا باعتبار مكان، أي : بمكان بعيد ؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهما، أي : بشيءٍ بعيد، كذا قدّره الزمخشريُّ، وتبعه أبو حيَّان، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ. وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في " قَرِيب " و " بَعِيد " و " قَلِيل " و " كَثير " بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل، والنَّهيق ونحوهما.
١ نسب البيت لأبي أسماء بن الضريبة الفزاري ولعطية بن عوف ينظر: الكتاب ٧/١٣٨ والمقتضب ٢/٣٥١ وشرح الرضي ٢/٣٦٢ والمخصص ١٣/١١٧ ومجاز القرآن ١/١٤٧ والخزانة ١٠/٢٨٣ والجمهرة ٢/٨٤ وروح المعاني ١٢/١٢١ والتهذيب ١/٦٥ وشرح الكافية ٢/٣٦٢ والدر المصون ٤/٢٤ والاقتضاب (٣١٢) واللسان التاج [جرم]..
٢ نقلها الزمخشري عن نافع في الكشاف ٢/٤٢٢ وقرأ بها أيضا ابن أبي إسحاق ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٢ والبحر المحيط ٥/٢٥٥ والدر المصون ٤/١٢٥..
٣ تقدم..
ثم قال :﴿ واستغفروا رَبَّكُمْ ﴾ أي : من عبادة الأوثان، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ﴾ بأوليائه :" وَدُودٌ " الوَدُود : بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا، وودَاداً، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي : أحبًّه وآثره.
والمشهورُ " وَدِدْت " بكسر العين، وسمع الكسائي " وَدَدْت " بفتحها، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي : يَوَدّ عباده ويرحمهم.
وقيل : بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون أولياءهُ، فهم بمنزلة " المُوادِّ " مجازاً.
قال ابنُ الأنباري : الوَدُودُ- في أسماءِ الله تعالى- المُحِبُّ لعبادِهِ، من قولهم : وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ.
قال الأزهريُّ١ - في " شرح كتاب أسماء الله الحسنى " - : ويجوزُ أن يكون " وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول، أي : إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
قال ابن الخطيب٢ : واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ.
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله، ويصده عن التَّهاون في تبليغه.
ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً.
ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح، والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله :﴿ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة ؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق ؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك، وهذا تقرير في غاية الكمال.
١ ينظر: تهذيب اللغة ١٤/٤٣٤..
٢ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٣٩..
قوله :﴿ قَالُواْ يا شعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ ﴾.
قيل : المعنى : ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه، كقوله :﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] وقيل : إنَّهم فهموه، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه : ما أدري ما تقولُ.
وقيل : ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة.

فصل


استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه : اسمٌ لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين، وقيل : إنَّه اسم لملطلق الفهم، يقال : أوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين، أي : فَهْماً. قال عليه الصلاة والسلام :" يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " ١ أي : يفهمه تأويله.
ثم قال :﴿ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ﴾ قيل : الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه.
وقيل : هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل، وأيضاً فقوله :" فِينَا " يُبطل هذا الوجه ؛ لأنَّهم لو قالوا : إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كان فاسداً ؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم، وأيضاً قولهم بعد ذلك " ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ " فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة ؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة.
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام-. وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه، لما بيَّناه.
قال بعضُ المعتزلةِ : لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ " الرهط " جماعةُ الرجل. وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ، ولا يقعُ الرَّهْطُ، والعَصَب، والنَّفَر، إلاَّ على الرِّجالِ.
وقال الزمخشريُّ :" من الثَّلاثة إلى العشرة، وقيل : إلى السِّبعةِ "، ويجمع على " أرْهُط " و " أرْهُط " على " أرَاهِط " ؛ قال :[ مجزوء الكامل ]
يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا٢
قال الرُّمَّانِيُّ : وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه " التَّرْهيطُ " وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع ؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده.

فصل


المعنى : ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك.
والرَّجْمُ في اللغة : عبارة عن الرّمي، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى :﴿ رَجْماً بالغيب ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] وقوله :﴿ وَيَقْذِفُونَ بالغيب ﴾ [ سبأ : ٥٣ ]، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وقد يكون بالطرد، قال تعالى :﴿ رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك، أو لشتمناك وطردناك.
قوله :﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ قال الزمخشريُّ٣ " وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل : وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا ؛ فلذلك قال في جوابهم :" أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ " ولو قيلَ :" ومَا عَزَزْتَ عليْنَا " لم يصحَّ هذا الجوابُ ".
والمعنى : أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك.
واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحجة بالشتم والسَّفاهة.
١ أخرجه البخاري (١/١٩٧) كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا حديث (٧١) ومسلم (٢/٧١٨-٧١٩) كتاب الزكاة: باب النهي عن المسألة حديث (٨٩/١٠٣٧) من حديث معاوية..
٢ البيت لسعيد بن مالك: ينظر: الكتاب ٢/٢٠٧ والخصائص ٣/١٠٦ وجمل الزجاجي (١٨٨) والمحتسب ٢/٩٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٢/١٠، ١٠٥ وأمالي ابن الشجري ١/٢٥٧ والمغني ١/٢١٦ والتصريح ١/١٩٩ والتهذيب ٦/١٧٦ ومقاييس اللغة ٢/٤٥١ واللسان (رهط) وشرح الحماسة ١/١٩٢ والدر المصون ٤/١٢٥..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٤٢٣-٤٢٤..
قوله :﴿ يا قوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾
اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالقتل، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه.
قال : أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ، أي : حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي.
قوله :﴿ واتخذتموه ﴾ يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين.
أوهما :" الهاء ".
والثاني :" ظِهْرِيًّا " ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و " ظِهْريًّا " حالٌ، وأن تكون المتعدية لواحدة ؛ فيكون " ظِهْرِيًّا " حالاً فقط.
ويجوز في " وَراكُم " أن يكون ظرفاً للاتخاذ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا "، والضمير في " اتِّخَذْتُمُوهُ " يعودُ على الله ؛ لأنَّهم يجهلون صفاته، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظِهْريًّا، أي : منبوذةً وراء ظهورهم.
والظَّهْرِيُّ : هو المنسوبُ إلى " الظَّهْر " والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى " أمْس "، " وإمْسِيّ " بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر : دُهْرِيّ بضم الدَّالِ.
وقي : الضَّميرُ يعودُ على العصيان، أي : واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي.
ثم قال :﴿ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ أي : عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله تعالى :﴿ ويا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ ﴾ الآية.
المكانةُ : الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، وكل ما في وسعكم، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة. " سَوْفَ تَعْلَمُونَ " أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطي في فعله.
قوله :﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح. قال ابنُ عطيَّة١ - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب " تَعْلَمُون " - :" والأوَّلُ أحسنُ " ثم قال :" ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة ".
وهي قوله :﴿ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ﴾.
قال أبُو حيَّان٢ :" لا يتعيَّن ذلك، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها، والتقديرُ : سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ، وأيُّنَا هو كاذبٌ ".
قال الزمشخريُّ٣ : فإن قُلت : أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في " سَوْفَ تَعْلَمُونَ " ؟.
قلت : إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت عما مكانتك ؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ ".
ثم قال :﴿ وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ أي : وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ. والرقيب : بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٥٧..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٤٢٤..
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ الآية.
قال الزمخشريُّ : فإن قتل : ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ ؟ قلت : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح ﴾ [ هود : ٨١ ]، ﴿ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ :" وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ "، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ ".
قوله :﴿ نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾.
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال : لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح، فأمَّا قوم صالح ؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم١.
وقوله :﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التقديرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين.
وفي قوله :﴿ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ وجهان :
الأول : أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته.
والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال :﴿ وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ وعرَّف " الصَّيحة " بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل ﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ تقدم الكلام على ذلك [ هود : ٦٧، ٦٨ ] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود ؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٦٢١٩) عن ابن عباس..
قوله :﴿ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ العامَّةُ : على كسر العين من " بَعِدَ يَبْعَد " بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ؛ قال :[ الطويل ]
يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ١
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا :" بَعْد " بالضمِّ ضد القرب، و " بَعِد " بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين.
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة " بَعْدت " ٢ بالضم أخذه من ضدِّ القرب ؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر :[ الكامل ]
مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ٣
وقال النَّحَّاسُ٤ : المعروفُ في اللغةِ : بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، وإذا هلك، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب.
وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكة، وبَعُد يَبعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي :" بَعُد " يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و " بَعِد " في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهما : بَعُدَ يَبْعدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ ؛ وأنشدوا قول مالكٍ :[ الطويل ]
يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا٥
قيل : يروى " لا تَبْعُدْ " بالوجهين.
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان :[ الكامل ]
إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ٦
١ تقدم..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٤٢٥ والمحرر الوجيز ٣/٤٢٥ والمحرر الوجيز ٣/٢٠٤ والبحر المحيط ٥/٢٥٧ والدر المصون ٤/١٢٧..
٣ ينظر البيت في حاشية الشهاب على البيضاوي ٥/١٣٢ وروح المعاني ١٢/١٢٩ والدر المصون ٤/١٢٧..
٤ ينظر: إعراب القرآن ٢/١٠٩..
٥ ينظر البيت في أمالي القالي ٣/١٣٧ والبحر المحيط ٥/٢٥٨ والمغني ١/٢٤٧ واللسان "بعد" وروح المعاني ١٢/٢٩ والدر المصون ٤/١٢٧..
٦ ينظر البيتان في ديوانه (٢١٤) والأغاني ٤/١٦٩ والبحر المحيط ٥/٢٥٨ وروح المعاني ١٢/١٣٠ وعيون الأخبار ١/١٦٩ والدر المصون ٤/١٢٧..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ القصة.
قيل: المراد ب «الآيات» التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائع والأحكام، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ.
وقيل: المرادُ ب «الآيات» المعجزات، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله: ﴿إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ﴾ [يونس: ٦٨] وقوله: و ﴿مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ [يوسف: ٤٠] وقيل: المرادُ بالسلطان المبين: العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات، وهي: العصا، واليدُ البيضاءُ، والطُّوفان، والجرادُ والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان، فقيل: لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره.
وقال الزَّجّاج: السُّلطان هو الحُجَّةُ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به، ومنه قيل للزَّيت السَّليط. وقيل: مشتقٌ من التَّسليط، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم، إلاَّأنَّ سلطنة العلماءِ أكمل، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل، وسلطنة الملوك تقبلهما، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء.
فإن قيل: إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل، ولامُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهورن فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟.
فالجوابُ: أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّنْ، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين.
وكانت معجزةُ موسى هكذا، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين.
ثم قال: ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي: جماعته. ﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن﴾ قيل: أمره إياهم بالكفر بموسى، وقيل: الأمر الطريق.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي: بمُرشدٍ إلى خيرٍ.
وقيل: ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ.
ثم وصفه فقال: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة﴾ يقالُ: قدمَ فلانٌ فلاناً بمعى تقدَّمهُ،
557
ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ: قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ، ومنه: مقدَّمة الجيش.
والمعنى: أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا، وكذلك مقدمهم إلى النَّار، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله: ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي: وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ، ويكون قوله: «يَقْدمُ قومُه» تبييناً لذلك وإيضاحاً، أي: كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟.
قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ﴾ يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال، وذلك أنَّ «يقدمُ» يصلح أن تسلَّط على «النَّارِ» بحرف الجر، أي: يقدمُ قومه إلى النَّار، وكذا: «أوْرَدهُم» يصحُّ تسلّثطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب «إلى» ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل «أوْرَدَ» لاستئنافه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال.
والهمزةُ في «أوْرَدَ» للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٣].
وقيل: أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل: بل هو ماض على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار. قال تعالى: ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ [غافر: ٤٦] وقيل: أوردهم موجبها وأسبابها، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرُود، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي.
ويُطلق ايضاً على الواردِ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النَّارُ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل «نِعْمَ» و «بِئْسَ» ومخصوصهما شرطٌ، لا يقال: نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس. وقيل: بل المورود صفة للوردِ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره: بئس الوردُ المورود النَّارُ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ، وابنُ عطيَّة، وهو ظاهر كلام الزمخشري.
وقيل: التقديرُ: بئس القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» المرادُ به الجمعُ الواردُون، قال تعالى: ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ [مريم: ٨٦] والمورود صفةٌ لهم، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو «هم»، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه: كيف يراد بالورد الجمع الواردُون، ثم يقولُ: والمورودُ صفةٌ لهم؟.
وفي وصف مخصوص «نِعمَ» و «بِئْسَ» خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي.
558
قال الواحديُّ: لفظ «النار» مؤنث، ينبغي أن يقال: وبئست الورد المورود، إلاَّ أنَّ لفظ «الورد» مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين، كما تقولُ: نعم المنزلُ دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار.

فصل


والمعنى: أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنَّار ضدُّه.
ثم قال: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً﴾ أي: أنَّ اللَّعن من الله، والملائكة، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم، كقوله: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين﴾ [القصص: ٤٢].
ثم قال: ﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾ والكلامُ فيه كالذي قبله. وقوله: ﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ عطفٌ على موضع «في هَذِه» والمعنى: أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا، ويبتدأ بقوله «بِئْس».
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم: هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً، وقبح إرفاد آخراً. وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال «بِئْسَ» فيما تقدم عليها، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله: [الكامل]
٣٠١٤ - ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر
وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ: العطاءُ والمعونةُ، ومنه رفاده قريش، رَفَدْتُه أرْقِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها: أعْطَيته وأعنته. وقيل بالفت مصدر، وبالكسر اسم، كأنَّهُ نحو: الرِّعْي والذِّبْح ويقال: رفَدْت الحائِطَ، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإعانةِ.
559
ثم قال :﴿ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَأيهِ ﴾ أي : جماعته. ﴿ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن ﴾ قيل : أمره إياهم بالكفر بموسى، وقيل : الأمر الطريق.
ثم قال :﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ أي : بمُرشدٍ إلى خيرٍ.
وقيل : ذو رشد ؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ.
ثم وصفه فقال :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة ﴾ يقالُ : قدمَ فلانٌ فلاناً بمعنى تقدَّمهُ، ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ : قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ، ومنه : مقدَّمة الجيش.
والمعنى : أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا، وكذلك مقدمهم إلى النَّار، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله :﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ أي : وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ، ويكون قوله :" يَقْدمُ قومُه " تبييناً لذلك وإيضاحاً، أي : كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا ؟.
قوله :﴿ فَأَوْرَدَهُمُ ﴾ يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال، وذلك أنَّ " يقدمُ " يصلح أن تسلَّط على " النَّارِ " بحرف الجر، أي : يقدمُ قومه إلى النَّار، وكذا :" أوْرَدهُم " يصحُّ تسلّطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب " إلى " ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل " أوْرَدَ " لاستئنافه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى ؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال.
والهمزةُ في " أوْرَدَ " للتعدية ؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ، قال تعالى :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ [ القصص : ٢٣ ].
وقيل : أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل : بل هو ماض على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار. قال تعالى :﴿ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ [ غافر : ٤٦ ] وقيل : أوردهم موجبها وأسبابها، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ.
والوِرْد : يكون مصدراً بمعنى الوُرُود، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي.
ويُطلق أيضاً على الواردِ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ : وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النَّارُ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير ؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل " نِعْمَ " و " بِئْسَ " ومخصوصهما شرطٌ، لا يقال : نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس. وقيل : بل المورود صفة للوردِ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره : بئس الوردُ المورود النَّارُ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ١، وابنُ عطيَّة٢، وهو ظاهر كلام الزمخشري٣.
وقيل : التقديرُ : بئس القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا " الورد " المرادُ به الجمعُ الواردُون، قال تعالى :﴿ وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً ﴾ [ مريم : ٨٦ ] والمورود صفةٌ لهم، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو " هم "، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه : كيف يراد بالورد الجمع الواردُون، ثم يقولُ : والمورودُ صفةٌ لهم ؟.
وفي وصف مخصوص " نِعمَ " و " بِئْسَ " خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي.
قال الواحديُّ : لفظ " النار " مؤنث، فكان ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود، إلاَّ أنَّ لفظ " الورد " مذكر ؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين، كما تقولُ : نعم المنزلُ دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكَّر عنى المنزل ومن أنَّث عنى الدَّار.

فصل


والمعنى : أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنَّار ضدُّه.
١ ينظر: الإملاء ٢/٤٥..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٥..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٤٢٦..
ثم قال :﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً ﴾ أي : أنَّ اللَّعن من الله، والملائكة، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم، كقوله :﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين ﴾ [ القصص : ٤٢ ].
ثم قال :﴿ بِئْسَ الرفد المرفود ﴾ والكلامُ فيه كالذي قبله. وقوله :﴿ وَيَوْمَ القيامة ﴾ عطفٌ على موضع " في هَذِه " والمعنى : أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا، ويبتدأ بقوله " بِئْس ".
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم : هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً، وقبح إرفاد آخراً. وهذا لايصحُّ ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال " بِئْسَ " فيما تقدم عليها، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها ؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز ؛ كقوله :[ الكامل ]
ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر١
وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ : العطاءُ والمعونةُ، ومنه رفاده قريش، رَفَدْتُه أرْفدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها : أعْطَيته وأعنته. وقيل : بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنَّهُ نحو : الرِّعْي والذِّبْح. ويقال : رفَدْت الحائِطَ، أي : دَعَمْتُه، وهو من معنى الإعانةِ.
١ البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر: ديوانه (٥٤) والكتاب ٣/٢٧١ وجمل الزجاجي (٢٧٣) والإنصاف ٢/٥٣٥ والمقتضب ٣/٣٧٠ وشرح ديوان الحماسة ١/٦٢ وشرح ديوان الحماسة ١/٦٢ وشرح المفصل لابن يعيش ٤/٢٦ ومجاز القرآن ٢/٢٧ والبحر المحيط ٥/٢٥٩ والخزانة ٦/٣١٦ وروح المعاني ١٢/١٣٥ والتهذيب ١٣/١٧ والدر المصون ٤/١٢٨. وينسب لأوس بن حجر في ديوانه ص ١٣٩..
قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ﴾ الآية.
«ذلك» إشارة إلى الغائبِ، والمرادُ منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي
559
حاضرة إلاَّ أنَّ الجواب عنه تقدَّم في قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢].
ولفظ «ذلك» إشارة إلى الواحد والجماعة، كقوله: ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨].
ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناهُ هو كذا وكذا.
قال الزمخشريُّ: «ذلك» مبتدأ، و «نقُصُّهُ عليْكَ» خبرٌ بعد خبر، أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك وقال شهابُ الدِّين: يجُوزُ أن يكون «نَقُصُّه» خبراً و «مِنْ أنباء» حال، ويجوزُ العكسُ، قيل: وثمَّ مضافٌ محذوف، أي من أنباءِ أهل القرى، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله: «ومَا طَلمْنَاهُم».
ثم قال: ويجُوزُ في «ذلك» أوجه:
أحدهما: أنَّه مبتدأ كما تقدم [هود: ٤٩].
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره «نَقُصُّه» فهو من باب الاشتغال، أي: نقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرآن وقد تقدَّم في قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ [يوسف: ٤٤] أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
قوله: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ «حصيدٌ» مبتد محذوفُ الخبر، لدلالة خبر الأوَّلِ عليه، أي: ومنها حصيد، وهذا لضرورة المعنى.
و «الحَصِيدُ» بمعنى المحصودِ، وجمعه: حَصْدَى وحِصَادٌ مثل: مريضٌ ومَرْضَ ومِرَاضٌ، وهذا قول الأخفشِ، ولكن باب «فَعِيل»، و «فَعْلَى» أن يكون في العقلاء؛ نحو: قَتِيل وقَتْلَى. والضميرُ في «مِنْهَا» عائدٌ على القرى، شبه ما بقي من آثار القرى وجدارنها بالزرع القائم على ساقة، وما عقا منها وبطل بالحصيد.
والمعنى: أنَّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتَّة.
قال بعضُ المفسرين: القائمُ: العامر، والحصيدُ: الخرابُ: وقيل: القائمُ ما بقيت حيطانه، وسقطت سقوفهن وحصيد: انمحى أثره. وقال ماقتلٌ: قائم يرى له أثر، وحصيد لا يرى له أثر.
ثم قال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ بالعذاب والإهلاك: ﴿ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ بالكُفْر والمعصية وقيل: الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله، بل هو عدلٌ وحكمةٌ؛ لأنَّ القوم أولاً أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب.
وقال ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى.
560
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي: ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة.
قوله: ﴿لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي: عذاب ربك.
قال الزمخشريُّ: «لمَّا» منصوب ب «أغْنَتْ» وهو بناءً منه على أنَّ «لمَّا» ظرفية.
والظَّاهر أنَّ «مَا» نافية، أي: لم تُغْن. ويجوز أن تكون استفهاميةً، و «يَدْعُونَ» حكاية حال، أي: التي كانُوا يدعُون، و «مَا زادُهُمْ» الضًَّميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم.
والتَّتبِيْتُ: التَّخسيرُ، يقالُ: تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران. يقال تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه، فيستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه «تَبَّتْ يدا أبيِي لهبٍ وتبَّ».
وتَبَّيْتُهُ تَتْبِيباً، أي: خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ:
٣١٠٥ - ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ
وقيل: التَّتْبيب: التَّدْمير. والمعنى: أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ، ولا دفع ضرٍر، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك، وهذا أعظم الخسران.
قوله: ﴿وكذلك﴾ خبرٌ مقدَّم، و «أخْذُ» مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثلُ ذلك الأخْذِ أي: أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك.
و «إذا ظرفُ متحِّض، ناصبه المصدر قبله، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب» القُرَى «، و» أخْذ «الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ.
وقرأ عاصمٌ وأبو رجاء والجحدريُّ»
أَخَذَ ربك، إذا أخذَ «جعلهُما فعلين ماضيين، و» رَبُّك «فاعل وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب» إذَا «.
قال ابن عطيَّة وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد، واستمراره في الزَّمانِ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي.
وقوله:»
وهِيَ ظالمةٌ «جملةٌ حاليّة. والضميرُ في» وهِيَ ظالمةٌ «عائد إلى القُرَى، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها، كقوله: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ [الأنبياء: ١١] ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٥٨].
561
ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله: ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ.
562
ثم قال :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ بالعذاب والإهلاك :﴿ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ بالكُفْر والمعصية وقيل : الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله، بل هو عدلٌ وحكمةٌ ؛ لأنَّ القوم أولاً ظلموا أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب.
وقال ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى١.
﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي : ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة.
قوله :﴿ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ أي : عذاب ربك.
قال الزمخشريُّ :" لمَّا " منصوب ب " أغْنَتْ " وهو بناءً منه على أنَّ " لمَّا " ظرفية.
والظَّاهر أنَّ " مَا " نافية، أي : لم تُغْن. ويجوز أن تكون استفهاميةً، و " يَدْعُونَ " حكاية حال، أي : التي كانُوا يدعُون، و " مَا زادُهُمْ " الضًَّميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء ؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم.
والتَّتبِيْبُ : التَّخسيرُ، يقالُ : تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران. يقال : تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه، فيستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه { تَبَّتْ يدا أبي لهبٍ وتبَّ ".
وتَبّبتُهُ تَتْبِيباً، أي : خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ :
ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ٢
وقيل : التَّتْبيب : التَّدْمير. والمعنى : أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ، ولا دفع ضرٍر، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك، وهذا أعظم الخسران.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٤٦)..
٢ ينظر البيت في ديوانه (٢٧١) والقرطبي ٩/٦٤ والبحر المحيط ٥/٢٥٢ والدر المصون ٤/١٣٠..
قوله :﴿ وكذلك ﴾ خبرٌ مقدَّم، و " أخْذُ " مبتدأ مؤخر، والتقدير : ومثلُ ذلك الأخْذِ أي : أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك.
و " إذا " ظرفُ متمحِّض، ناصبه المصدر قبله، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب " القُرَى "، و " أخْذ " الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ.
وقرأ عاصمٌ١ وأبو رجاء والجحدريُّ " أَخَذَ ربك، إذا أخذَ " جعلهُما فعلين ماضيين، و " رَبُّك " فاعل. وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب " إذَا " ٢.
قال ابن عطيَّة٣ : وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد، واستمراره في الزَّمانِ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي.
وقوله :" وهِيَ ظالمةٌ " جملةٌ حاليّة. والضميرُ في " وهِيَ ظالمةٌ " عائد إلى القُرَى، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها، كقوله :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ﴾ [ الأنبياء : ١١ ] ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ [ القصص : ٥٨ ].
ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله :﴿ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٦٠ والدر المصون ٤/١٢٩..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٦١ والدر المصون ٤/١٢٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٦..
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ قال القفال: تقرير الكلام أن يقال: إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء، وإشراكهم بالله، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ، كان أولى. وهذا قولُ كثير من المفسِّرين.
قال ابنُ الخطيب: وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ، والأصوبُ عندي أن يقال: العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات، لا فاعلٌ مختارٌ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق، والخسق، والمسخ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمرُ كذلك، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء.
فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب
562
واتصالاتها، وحينئذ يسمع هذه القصص، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾.
قوله تعالى: ﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ﴾ «ذلك» : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله: ﴿عَذَابَ الآخرة﴾ و «مَجْموعٌ» صفةٌ ل «اليوم» جرت على غير من هي له، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو «الناس» وهذا هو الإعراب نحو: «مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ».
وأعرب ابن عطيَّة «النَّاس» مبتدأ مؤخراً، و «مَجْمُوعٌ» خبره مقدماً عليه. وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقالُ: النَّاسُ قائمون ومضربون، ولا لليوم، أي: النَّاس مجموع له، و «مَشْهُودٌ» متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله.
وقوله: ﴿مَّشْهُودٌ﴾ من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله: [الطويل]
٣٠١٦ - ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
والأصلُ: مشهودٌ فيه، وشهدْنَا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصلُ إلى المفعول به.
قال الزمخشريُّ: «فإن قتل: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت: لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة» قال ابنُ عبَّاسٍ: يشهده البر والفاجرُ. وقيل: يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ.
قوله: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾ الضَّميرُ يعود على «يَوْم».
وقال الحوفيُّ: «على الجزاءِ» وقرأ الأعمش: «ومَا يُؤخِّره» - بالياء - أي: الله تعالى «إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ» وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب.
قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ «يَأتِي» بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً.
563
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة: قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً.
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا: لا أدْرِ، ولا أبَالِ.
وقال الزمخشريُّ «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ».
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك: [الرجز]
٣٠١٧ - كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما
والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه:
أحدها: أنه «لا تكلَّمُ» والتقديرُ: لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره.
الثاني: أن ينتصب ب «اذْكُر» مقدراً.
والثالث: أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله: ﴿إِلاَّ لأَجَلٍ﴾ أي: ينتهي الأجل يوم يأتي.
والرابع: أنَّهُ منصوبٌ ب «لا تكلَّمُ» مقدَّراً، ولا حاجة إليه.
والجملةُ من قوله: «لا تكلَّمُ» في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مَشْهُود» أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه، قاله الحوفيُّ.
وقال ابن عطيَّة: «لا تكلَّمُ نفسٌ» يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في «يَأتِ» وهو العائدُ على قوله: ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ﴾، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تكلمُ نفسٌ فيه، ويصحُّ أن يكون قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ صفةً لقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾.
وفاعل «يَأتِ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ ضميرُ «يَوْم» المتقدِّم.
والثاني: أنَّه ضمير الله تعالى كقوله:
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾ [البقرة: ٢١٠] وقوله: «أوْ يَأتِي ربُّكَ».
والضميرُ في قوله: «فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على» النَّاس «في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾ وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا، قال: لأن ذلك
564
معلومٌ، ولأنَّ قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ يدلُّ عليه» وكذا قال ابنُ عطية.
وقوله: ﴿وَسَعِيدٌ﴾ خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: ﴿ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: ١٠٠].

فصل


هذه الآية توهم المناقضة لقوله ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١] ولقوله ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥ - ٣٦] وقوله: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
والجواب: قال بعضهم: إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى: ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً﴾ [النبأ: ٣٨] وقيل: إنَّ ذلك اليوم يوم طويل، وله مواقف، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم، وفي بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
وقيل: ورد المنع عن الكلام مطلقاً، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد.
قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ قال الزمخشريُّ: الضميرُ في قوله: «مِنْهُمْ» لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ، ولأنَّ قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾.
واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ.
وجوابه: أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال: إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ.
وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه.
565

فصل


«روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرجناعلى جنازة، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبيده مخصرةٌ، فجاء، فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال:» ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة، أو النَّار، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً، أو سعيدةً «قال: فقال رجلٌ: أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال:» لا، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة «
ثم تلا: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ [الليل: ٥ - ١٠].
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ﴾ الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من «شَقى»
فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً، فيقال: شقاهُ الله، كما يقالُ: أشقاء الله وقوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ في هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا.
والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي «فَفِي النَّار».
الثاني: أنها حالٌ من «النَّار» و «الزَّفير» بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشّهيق «آخره قال رؤبة: [الرجز]
٣٠١٨ - حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس: الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير: إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ، لشدَّته.
وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ: [الطويل]
566
وقيل الشَّهيقُ: النَّفس الممتدُّ، مأخوذٌ من قولهم:» جبلٌ شاهقٌ أي: عالٍ «.
وقال اللَّيْثُ: الزَّفير: أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس، وهو قريبٌ من قولهم: تنفَّس الصعداء.
قال ابن الخطيب: إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ، وحينئذٍ يرتفع صدره، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر.
فعلى قول الأطباء: الزَّفير: هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق: هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد.
وقال أبُو العالية والربيع بن أنس: الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصدر وقيل: الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس: الزَّفيرُ الصوت الشديد، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ: الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ: الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم، وهو قوله تعالى:
﴿كُلَّمَآ
أرادوا
أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾
[السجدة: ٢٠] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق.
وقال أبو مسلم: الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب، وربما تبعه الغشية، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبَّاس في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ أي: ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع.
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ منصوبٌ على الحال المقدرة.
567
قال شهاب الدِّينِ: «ولا حاجَة إلى قولهم» مقدّرة «، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول، بخلافه هنا».
قوله: ﴿مَا دَامَتِ﴾ «ما» مصدرية ظرفية، أي: مدَّة دوامهما. و «دَامَ» هنا تامةٌ، لأنَّها بمعنى: بَقِيت.

فصل


اختلفوا في تأويل هذا، قالت طائفة منهم الضحَّاك: المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما، والسماء كل ما علاك وأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، قال تعالى: «وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء» وقيل: أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم: «لا آتيك ما جنَّ ليلٌ، أو سَالَ سيلٌ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار».
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش.

فصل


قال ابن الخطيب: قال قوم: إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ، وله نهاية، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: قوله: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.
والثاني: قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء، ومنها قوله تعالى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً﴾ [النبأ٢٣] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً، والأحقابُ معدودة.
وأمَّا العقلُ فمن وجهين:
الأول: أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ.
الثاني: أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً.
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض، ولا إلى غيره؛ لأن أهل
568
الجنَّة مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز
وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين، رواه عنهم ابنُ تيمية.
وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ، فذكروا جوابين:
أحدهما: قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ [إبراهيم: ٤٨] وقوله: ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ [الزمر: ٧٤] وأيضاً: لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات.
ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه، إلاّ أنَّا نقُولُ: لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة، ودوام أرضهم هو السَّمعُ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ، فكذا ههنا.
الوجه الثاني - في الجواب - قالوا: إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم: لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طَمَا البَحرُ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام.
ولقائل أن يقول: هل تسلمون أنَّ قول القائل: ﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله﴾ يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون: إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض، ويمنع، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ
569
السَّمواتِ والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ.
قال: والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو «، ألا ترى أنَّا نقول: إن كان هذا إنسان فهو حيوان، فإذا قلنا: لكنَّهُ إنسان، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً، فكذا ههنا إذا قلنا: متى دامت السموات والأرض دام عقابهم، فإذا قلنا: لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أمَّا إذا قلنا: لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم.
فإن قالوا: إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات، أو لم تبقَ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر.
وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فذكروا عنه أجوبة:
أحدهما: قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله ألبتَّة، كقولك: والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه.
ولقائل أن يقول: هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال: لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
وثانيها: قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير، وبأنواعٍ آخر من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] والدَّليل عليه قوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨] وفي مقابله قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] أي: يفعلُ بهم ما
570
يردُ من العذاب، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له.
قال أبو حيَّان: ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء، وأمَّا أهلُ الجن! ة، فلا يخرجون من الجنَّة، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء.
قال شهاب الدين: والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً.
وثالثها: أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾.
والمعنى: إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها.
ورابعها: إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ، وهو قوله: «فَفِي النَّارِ» و «فَفِي الجنَّة» لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ.
وخامسها: أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو: ﴿خَالِدِينَ﴾، وعلى هذين القولين تكون «ما» واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك، أو على أنواع من يعقلُ كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] والمرادُ ب «مَا» حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً.
وسادسها: قال ابنُ عطيَّة: قيل: إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ، فهو كقوله: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط، كأنه قال: إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ، ولا منقطع.
وسابعها: هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ﴾ وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه: أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى، وهي تخلون العصاة المؤمنين، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ.
وثامنها: أنَّ «إلاَّ» حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، والمعنى: وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك.
وتاسعها: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، فيقدَّرُ ب «لكن» أو ب «سوى»، ونظروه بقولك: «لي عليك ألفا درهم، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك» أي: سوى تلك، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك.
وقيل: سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه.
عاشرها: أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا.
571
وحادي عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة.
وثاني عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر.
وثالث: عشرها: أنَّه استثاءٌ من قوله: «فَفِي النَّارِ» كأَّنَّه قال: إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
ورابع عشرها: أنَّ «إلاَّ ما شاء» بمنزلة: كما شاء؛ كقوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢]، أي: كما سلف.
وخامس عشرها: أن معناه: لو شك ربُّك، لأخرجهم منها، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود، فتكون «ما» نافية.
وسادس عشرها: أنَّه استثناء من قوله: ﴿فَفِي النار﴾ و ﴿فَفِي الجنة﴾، أي: إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة، فلسُوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها.
قال أبو حيَّان: يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ، كأنَّه تعالى يقول: اظهرتُ القهر والقدرة، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة.
قوله: ﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ﴾
572
قرأ الأخوان حفصٌ «سُعِدُوا» بضمِّ السين. والباقون بفتحها، فالأولى من قولهم: عسده اللَّهُ، أي: أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ: سعده الله بمعنى أسعده.
وقال الجوهريُّ: سَعِد فهو سَعِيد ك: سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري: ورد سعده الله فو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد.
وقيل: يقال: سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي.
وحكي عن الكسائي أنَّه قال: هما لغتنان بمعنى يعني: فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاءِ: يقال: سُعِدَ الرجلُ، كما يقال: أسعده الله وقال بعضهم: احتجَّ الكسائيُّ بقولهم: «مَسْعو» قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم حذف «فهي» وسُمِّي به.
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي «سُعِدوا» مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه.
قال مكيُّ: قراءةُ حمزة والكسائي «سُعدِدوا» بضمِّ السِّين حملاً على قوله: «مسعود» وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم: «مسود»، إنَّما جاء على حذف الزَّواد: كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم: أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال: سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء: وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ.

فصل


قال ابنُ الخطيب: الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ﴾ [التوبة: ٧٢] إلى أن قال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢].
قوله: ﴿عَطَآءً﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله: ففِي الجنَّةِ خالدينَ «يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل: يعطيهم عطاءً، و» عطاء «اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله: {والله
573
أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: ١٧]، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي: فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال: عطوتُ معنى: تناولتُ. و» غَيرَ مجذُوذِ «نعته، والمجذوذُ: المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى: قطع الأرض المستوية، ومنه: جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال:» وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل: جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه «والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو: عتا وعثَا، وكتب وكثب.

فصل


قال ابن زيد: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار.
وقال ابن مسعود: ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة: ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً.
قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ أي: شك»
مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ «لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أحوال الكفار من قومه، فقال:» فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ «وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و» ما «في» مِمَّا يعبُدُونَ «و» مِمَّا يعبدُ آباؤنَا «مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال» ما يعبدون إلاَّ كما يعبد «، وفيه إضمار، أي: كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل،» وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم «حقَّهم من الجزاء» غير منقُوص «ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد: إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب.
قوله «غير منقُوصٍ»
حالٌ من «نَصِيبهُم» وفي ذلك احتمالان:
أحدهما: أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص، فقد استفيد معناها من عاملها، وهو شأنُ المؤكدة.
والثاني: أن تكون حالاً مبنة.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف نُصب «غيْر منقُوصٍ» حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ: يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقصٌ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ: «وفَّيْتُه شطر
574
حقَّه، وثُلثَ حقِّه، وحقِّه كاملاً وناقصاً» فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيَّان قال: هذه مغلطة، إذا قال: «وفيته شطر حقِّه» فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر، وكذا في الثُلُث، والمعنى: أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأما قوله: «وحقِّه كاملاً وناقصاً» فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية. قال شهابُ الدِّين: «وفي منع الشيخ أن يقال:» وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً «نظرٌ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية».
575
قوله :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ ﴾ الضَّميرُ يعود على " يَوْم ".
وقال الحوفيُّ :" على الجزاءِ " وقرأ١ الأعمش :" ومَا يُؤخِّره " - بالياء - أي : الله تعالى " إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ " وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٦ والبحر المحيط ٥/٢٦١ والدر المصون ٤/١٣٠..
قوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِ ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ " يَأتِي " ١ بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً.
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً.
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه ؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا : لا أدْرِ، ولا أبَالِ.
وقال الزمخشريُّ " والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ ".
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك :[ الرجز ]
٣٠١٩ - بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ
كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما٢
والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه :
أحدها : أنه " لا تكلَّمُ " والتقديرُ : لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره.
الثاني : أن ينتصب ب " اذْكُر " مقدراً.
والثالث : أن ينتصب بالانتهاءِ المحذوف في قوله :﴿ إِلاَّ لأَجَلٍ ﴾ أي : ينتهي الأجل يوم يأتي.
والرابع : أنَّهُ منصوبٌ ب " لا تكلَّمُ " مقدَّراً، ولا حاجة إليه.
والجملةُ من قوله :" لا تكلَّمُ " في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في " مَشْهُود " أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير : لا تكلَُّم نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه، قاله الحوفيُّ.
وقال ابن عطيَّة٣ :" لا تكلَّمُ نفسٌ " يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في " يَأتِ " وهو العائدُ على قوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ ﴾، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره : لا تكلمُ نفسٌ فيه، ويصحُّ أن يكون قوله :﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾ صفةً لقوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِ ﴾.
وفاعل " يَأتِ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ ضميرُ " يَوْم " المتقدِّم.
والثاني : أنَّه ضمير الله تعالى كقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] وقوله :" أوْ يَأتِي ربُّكَ ".
والضميرُ في قوله :" فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على " النَّاس " في قوله :﴿ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس ﴾ وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا، قال : لأن ذلك معلومٌ، ولأنَّ قوله :﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾ يدلُّ عليه " وكذا قال ابنُ عطية.
وقوله :﴿ وَسَعِيدٌ ﴾ خبره محذوف : أي : ومنهم سعيدٌ، كقوله :﴿ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٠ ].

فصل


هذه الآية توهم المناقضة لقوله ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾ [ النحل : ١١١ ] ولقوله ﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥- ٣٦ ] وقوله :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
والجواب : قال بعضهم : إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ، فهو محمولٌ على ذكر الأعذار الكاذبة الباطلة، وحيث ورد الإذن في الكلام، فهو محمول على الجوابات الصَّحيحة ؛ قال تعالى :﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٨ ] وقيل : إنَّ ذلك اليوم يوم طويل، وله مواقف، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم، وفي بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
وقيل : ورد المنع عن الكلام مطلقاً، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد.
قوله :﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ قال الزمخشريُّ٤ : الضميرُ في قوله :" مِنْهُمْ " لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا ؛ لأنَه مفهومٌ، ولأنَّ قوله :﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ يدلُّ عليه ؛ ولأنه مذكورٌ في قوله :﴿ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس ﴾.
واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ.
وجوابه : أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم ؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال : إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً ؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضة القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص يدلُّ على أنَّهُ غيرُ موجودٍ.
وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث ؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه.

فصل


" روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال : خرجنا على جنازة، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرةٌ، فجاء، فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال :" ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة، أو النَّار، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً، أو سعيدةً " قال : فقال رجلٌ : أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل ؟ قال :" لا، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة " ثم تلا :﴿ فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾٥ [ الليل : ٥- ١٠ ].
١ ينظر: الحجة ٤/٣٧٣ وأيضا قرأ بالياء في الوصل أبو جعفر وقرأ بها في الحالتين أيضا يعقوب ينظر: الإتحاف ٢/١٣٥ والمحرر الوجيز ٣/٢٠٦ والبحر المحيط ٥/٢٦١. والدر المصون ٤/١٣٠..
٢ ينظر البيتان في الخصائص ٣/٩٠ والإنصاف ١/٣٨٧ وأمالي الشجري ٢/٧٢ والمنصف ٢/٧٢ واللسان (ليق) والبحر المحيط ٥/٢٦٢ وروح المعاني ١٢/١٣٩ ومعاني الفراء ٢/٢٧ والأضداد لابن الأنباري ٦٤ وإعراب النحاس ٢/٣٠٢ والقرطبي ٩/٤٥ والدر المصون ٤/١٣٠..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٠٧..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٤٢٩..
٥ أخرجه البخاري ٣/٢٦٧ كتاب الجنائز: باب موعظة المحدث عند القبر (١٣٦٢) وفي ٨/٥٧٨ كتاب التفسير: باب (فأما من أعطى واتقى) (٤٩٤٥)، وأطرافه في (٤٩٤٦) (٤٩٤٧) (٤٩٤٨) (٤٩٤٩)..
قوله :﴿ فَأَمَّا الذين شَقُواْ ﴾ الجمهورُ على فتح الشين ؛ لأنَّهُ من " شَقى " فعلٌ قاصر وقرأ الحسن١ بضمها فاستعمله متعدِّياً، فيقال : شقاهُ الله، كما يقالُ : أشقاء الله وقوله :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ﴾ في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار : ماذا يكون لهم ؟ فقيل : لهم كذا.
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي " فَفِي النَّار ".
الثاني : أنها حالٌ من " النَّار " و " الزَّفير " بمنزلة ابتداء صوت الحمار، و " الشّهيق " آخره قال رؤبة :[ الرجز ]
حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ *** حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ٢
وقال ابن فارس : الزَّفيرُ ضد الشَّهيق ؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير : إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ، لشدَّته.
وقال الزمخشري نحوه ؛ وأنشد للشَّمَّاخِ :[ الطويل ]
بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ *** زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ٣
وقيل الشَّهيقُ : النَّفس الممتدُّ، مأخوذٌ من قولهم :" جبلٌ شاهقٌ أي : عالٍ ".
وقال اللَّيْثُ : الزَّفير : أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس، وهو قريبٌ من قولهم : تنفَّس الصعداء.
قال ابن الخطيب٤ : إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب، فتقوى الحرارةُ وتعظم، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة، فلهذا السَّبب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ، وحينئذٍ يرتفع صدره، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ ؛ استولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة ؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر.
فعلى قول الأطباء : الزَّفير : هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه، والشَّهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد.
وقال أبُو العالية والربيع بن أنس : الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصدر٥ وقيل : الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس : الزَّفيرُ الصوت الشديد، والشَّهيق الصوت الضعيف٦ وقال الضحاك ومقاتلٌ : الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، إذا ردَّهُ في صدره٧ وقال الحسنُ : الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسفل من جهنَّم، وهو قوله تعالى :
﴿ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] فارتفاعهم في النَّار هو الزَّفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق٨.
وقال أبو مسلم : الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب، وربما تبعه الغشية، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبَّاس في قوله :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾ أي : ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع.
١ ينظر: الكشاف ٢/٤٣٠ والبحر المحيط ٥/٤٦٤، والدر المصون ٤/١٣١..
٢ ينظر: ديوانه (١٠٦) برواية:
حشرج في الصدر سحيلا ***...
وروح المعاني ١٢/١٤١ واللسان (حشرج) والبحر المحيط ٥/٢٥٢ والدر المصون ٤/١٣٢..

٣ البيت في ديوانه برواية:
بعيد مدى التطريب أول نهاقه *** سحيل وأخراه حي المحشرج
ينظر: ديوانه (٨٨) وروح المعاني ١٢/١٢٦ والبحر المحيط ٥/٢٥٢ والكشاف ٢/٤٣٠ والدر المصون ٤/١٣٢..

٤ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٥٠..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١١٤) عن أبي العالية وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٢)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١١٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٣٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ والبيهقي في "البعث والنشور"..
٧ أخرجه الطبري (٧/١١٤) عن قتادة بمعناه.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٢) عن الضحاك ومقاتل..

٨ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٥٠) عن الحسن..
قوله :﴿ خَالِدِينَ ﴾ منصوبٌ على الحال المقدرة.
قال شهاب الدِّينِ :" ولا حاجَة إلى قولهم " مقدّرة "، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله :﴿ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول، بخلافه هنا ".
قوله :﴿ مَا دَامَتِ ﴾ " ما " مصدرية ظرفية، أي : مدَّة دوامهما. و " دَامَ " هنا تامةٌ، لأنَّها بمعنى : بَقِيت.

فصل


اختلفوا في تأويل هذا، قالت طائفة منهم الضحَّاك : المعنى ما دامت سماواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما، والسماء كل ما علاك وأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، قال تعالى :" وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء " ١ وقيل : أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا ؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم :" لا آتيك ما جنَّ ليلٌ، أو سَالَ سيلٌ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار ".
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- : أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش، وأنَّ السماوات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش٢.

فصل


قال ابن الخطيب٣ : قال قوم : إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ، وله نهاية، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآية، والاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : قوله :﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السماوات والأرض، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السماوات والأرض متناهية ؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.
والثاني : قوله :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء، ومنها قوله تعالى :﴿ لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً ﴾ [ النبأ : ٢٣ ] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً، والأحقابُ معدودة.
وأمَّا العقلُ فمن وجهين :
الأول : أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ.
الثاني : أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً.
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر، ولا إلى ذلك المعاقب ؛ لأنَّهُ في حقِّه ضرر محض، ولا إلى غيره ؛ لأن أهل الجنَّة مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم ؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ ؛ فوجب أن لا يجوز.
وهذا قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم- وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين، رواه عنهم ابنُ تيمية.
وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ، فذكروا جوابين :
أحدهما : قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها، قالوا : والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ] وقوله :﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] وأيضاً : لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم ؛ وذلك هو الأرض والسَّماوات.
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه، ووجود السَّماوات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة : أقصى ما في الباب أن يقال : لمَّا ثبت بالقرآن وجود سماوات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما ؛ وجب الاعترافُ به، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه، إلاّ أنَّا نقُولُ : لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سماوات أهل الآخرة، ودوام أرضهم هو السَّمعُ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ، فكذا ههنا.
الوجه الثاني- في الجواب- قالوا : إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض، وقولهم : ما اختلف الليل والنهار، وما طَمَا البَحرُ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام.
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أنَّ قول القائل :﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله ﴾، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السماوات ؟ أو تقولون : إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن كان الأوَّل ؛ فالإشكال لازم ؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السماوات والأرض، ويمنع، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السماوات، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السماوات، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السَّماواتِ والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ.
قال : والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّماوات والأرض دائمتين، كان كونهم في النَّار باقياً، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشروط، ألا ترى أنَّا نقول : إن كان هذا إنسان فهو حيوان، فإذا قلنا : لكنَّهُ إنسان، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان ؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئاً، فكذا ههنا إذا قلنا : متى دامت السماوات والأرض دام عقابهم، فإذا قلنا : لكن السماوات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أمَّا إذا قلنا : لكنه ما بقيت السَّماوات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم.
فإن قالوا : إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّماوات، أو لم تبقَ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة.
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا ؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر.
وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ فذكروا عنه أجوبة :
أحدهما : قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله ألبتَّة، كقولك : والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيفٌ ؛ لأنه إذا قال : لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك، معناه : لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا ؟ بخلاف قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
وثانيها : قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء ؟ قلت : هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنَّة، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير، وبأنواعٍ آخر من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ]، والدَّليل عليه قوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] وفي مقابله قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ هود : ١٠٧ ] أي : يفعلُ بهم ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له. قال أبو حيَّان : ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى ؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء، وأمَّا أهلُ الجنة، فلا يخرجون من الجنَّة، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء.
قال شهاب الدين : والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما ؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً.
وثالثها : أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾.
والمعنى : إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها.
ورابعها : إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ، وهو قوله :" فَفِي النَّارِ " و " فَفِي الجنَّة "، لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ.
وخامسها : أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو :﴿ خَالِدِينَ ﴾، وعلى هذين القولين تكون " ما " واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك، أو على أنواع من يعقلُ كقوله :﴿ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ] والمرادُ ب " مَا " حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم، أو أصحابُ الأعراف ؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً.
وسادسها : قال ابنُ عطيَّة : قيل : إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ، فهو كقوله :﴿ لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ ﴾ [ الفتح : ٢٧ ] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط، كأنه قال : إن شاء الله ؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ، ولا منقطع.
وسابعها : هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ، ويروى عن ابن مسعودٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ربك ﴾ وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه : أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى، وهي تخلو العصاة المؤمنين، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ.
وثامنها : أنَّ " إلاَّ " حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، والمعنى : وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك.
وتاسعها : أنَّ الاستثناء منقطعٌ، فيقدَّرُ ب " لكن " أو ب " سوى "، ونظروه بقولك :" لي عليك ألفا درهم، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك " أي : سوى تلك، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك.
وقيل : سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمهرير ونحوه.
عاشرها : أنه استثناءٌ من مدَّة السماوات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا.
وحا
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٢)..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٩/٦٦)..
٣ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٥١..
قوله :﴿ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ ﴾.
قرأ الأخوان حفصٌ " سُعِدُوا " بضمِّ السين. والباقون١ بفتحها، فالأولى من قولهم : سعده اللَّهُ، أي : أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ : سعده الله بمعنى أسعده.
وقال الجوهريُّ : سَعِد فهو سَعِيد ك : سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري : ورد سعده الله فهو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد.
وقيل : يقال : سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي.
وحكي عن الكسائي أنَّه قال : هما لغتنان بمعنى يعني : فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاءِ : يقال : سُعِدَ الرجلُ، كما يقال : جُنَّ وقيل : سعده لغة مهجورة.
وقد ضعّف جماعة قراءة الأخوين. قال المهدوي : من قرأ " سعدوا " فهو محمول على مسعود، وهو شاذ قليل ؛ لأنه لا يقال : سعده الله، إنما يقال : أسعده الله وقال بعضهم : احتجَّ الكسائيُّ بقولهم :" مَسْعود " قيل : ولا حُجَّة فيه ؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم حذف " فيه " وسُمِّي به.
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي " سُعِدوا " مع علمه بالعربيَّةِ، والعجبُ من تعجُّبه.
قال مكيُّ : قراءةُ حمزة والكسائي " سُعدِوا " بضمِّ السِّين حملاً على قولهم :" مسعود " وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم :" مسعود "، إنَّما جاء على حذف الزَّوائد : كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقال : سعده الله، وهو مثل قولهم : أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال : سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء : وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ.

فصل


قال ابنُ الخطيب٢ : الاستثناءُ في باب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله :﴿ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] إلى أن قال :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
قوله :﴿ عَطَآءً ﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملة قبله ؛ لأن قوله : ففِي الجنَّةِ خالدينَ " يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل : يعطيهم عطاءً، و " عطاء " اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله :﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ]، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي : فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال : عطوتُ معنى : تناولتُ. و " غَيرَ مجذُوذِ " نعته، والمجذوذُ : المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذلك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى : قطع الأرض المستوية، ومنه : جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال :" وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل : جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه " والظَّاهر أنَّ المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو : عتا وعثَا، وكتب وكثب.

فصل


قال ابن زيد : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار.
وقال ابن مسعود : ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة : ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئة أبداً.
١ ينظر: الحجة ٤/٣٧٨ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٣ وحجة القراءات ٣٤٩ والإتحاف ٢/١٣٥ والمحرر الوجيز ٣/٢٠٩ وقرأ بها أيضا ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش ينظر: البحر المحيط ٥/٤٦٤ وينظر: الدر المصون ٤/١٣١..
٢ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٥٤..
قوله :﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ ﴾ أي : شك " مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ " لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - عليه الصلاة والسلام- أحوال الكفار من قومه، فقال :" فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ " وحذف النون ؛ لكثرة الاستعمال ؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و " ما " في " مِمَّا يعبُدُونَ " و " مِمَّا يعبدُ آباؤنَا " مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال " ما يعبدون إلاَّ كما يعبد "، وفيه إضمار، أي : كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل، " وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم " حقَّهم من الجزاء " غير منقُوص " ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد : إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب.
قوله " غير منقُوصٍ " حالٌ من " نَصِيبهُم " وفي ذلك احتمالان :
أحدهما : أن تكون حالاً مؤكِّدة ؛ لأن لفظ التوفية يشعرُ بعدم النقص، فقد استفيد معناها من عاملها، وهو شأنُ المؤكدة.
والثاني : أن تكون حالاً مبينة.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف نُصب " غيْر منقُوصٍ " حالاً عن النَّصيب المُوفَّى ؟ قلتُ : يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقصٌ، ويوفَّى وهو كامل ؛ ألا تراك تقولُ :" وفَّيْتُه شطر حقَّه، وثُلثَ حقِّه، وحقِّه كاملاً وناقصاً " فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيَّان قال : هذه مغلطة، إذا قال :" وفيته شطر حقِّه " فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر، وكذا في الثُلُث، والمعنى : أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأما قوله :" وحقِّه كاملاً وناقصاً " أما كاملا فصحيح، وهي حال مؤكدة ؛ لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما " وناقصا " فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية. قال شهابُ الدِّين :" وفي منع الشيخ أن يقال :" وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً " نظرٌ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم ؛ لأ المراد بالتَّوفية مطلقُ التَّأدية ".
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن إصرار كُفَّار مكَّة على إنكارِ التَّوحيدِ، وبيَّن إصرارهم على إنكار نُبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتكذبيهم بكتابة، بيَّن أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا على هذه السيرة الفاجرةِ، مع كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وضرب لذلك مثلاً، وهي إنزالُ التوراة على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم، وذلك يدلُّ على أنَّ عادة الخلق هكذا.
قوله: ﴿فاختلف فِيهِ﴾ أي: في الكتابِ، و «في» على بابها من الظَّرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١١] أي: يُكثِّرهم بسببه. ومعنى اختلافهم فيه: أي: فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن، يُغَزِّي نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: «فِي» بمعنى «عَلَى» ويكون الضًَّمير لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فاختلف عليه «ولْولاَ كملةٌ سبقتْ من ربِّكَ» في تأخير العذاب عنهم: «لقُضِيَ بينَهُم» أي: لعذَّبُوا في الحالِ، لكن قضاؤه أخَّر ذلك عنهم في دنياهم.
وقيل: معناه أنَّ الله إنَّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة، وإلاَََّ لكان الواجب تمييز المُحقِّ من المبطل في دار الدنيا.
وقيل: المعنى ولولا أنَّ رحمته سبقت غضبه، وإلاَّ لقضي بينهم. ثم قال: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ يعني أنَّ كفَّار مكَّة لفي شكِّ من هذا القرآن «مُريبٍ» من أراب إذا
575
حصل الرِّيب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدَّم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم﴾ الآية.
هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمّا» فقرأها مشدَّدةً هنا وفي «يس» وفي سورة الزخرف، وفي سورة الطارق، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً، فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ «وإنْ» و «لمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف «إنْ» وثقَّل «لمَّا» وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا «إنَّ» وخففا «لما» فهذه أربعُ مرات للقراءة في هذين الحرفين، هذا في المتواتر.
وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر:
إحداهما: قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كلٌّ» بتخفيفها، ورفع «كل»، و «لمَّا» بالتشديد.
الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم «لمَّا» مشددة منونة، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف «إنَّ» ولا تشديدها.
الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ» بتخفيف «إن» ورفع «كل».
الرابعة: قال أبو حاتم: الذي في مصحف أبي «وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ» وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال «إن» المخففة، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب. قال سيبويه: «حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب
576
من يقول:» إنْ عمراً لمُنْطلقٌ «؛ كما قالوا: [الهزج].
٣٠٢٠ -..................... كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان
قال: وَوَجْهُه من القياس: أنَّ»
إنْ «مُشبهةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ، نحو:» لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً «» فلا تكُ في مريةٍ «وكذلك: لا أدْر.
قال شهابُ الدٍّين: وهذا مذهبُ البصريين، أعني: أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل، وأن تهمل ك:»
إنْ «والأكثرُ الإهمالُ، وقد أجمع عليه في قوله: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٣٢] وبعضها يجبُ إعماله ك» أنْ «بالفتح، و» كأنْ «ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمي بارز إلا ضرورة، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك» لكن «.
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في»
إن «المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم؛ بدليل هذه القراءة المتواترة؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر: [الطويل]
٣٠٢١ -................. كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم
وقال الفراء: لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ؛ كقوله: [الطويل]
٣٠٢٢ - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني طلاقكِ لمء أبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال:»
لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه، وقول الآخر: [الرجز]
٣٠٢٣ - كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ... الرَّشاء: الحَبْلُ. والخُلْبُ: اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب»
إنْ «.
وأمَّا»
لما «في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ» إنْ «الدَّاخلةُ في الخبر،» ومَا «يجوز أن تكون موصولة بمعنى» الذي «واقعةً على ما يعقلُ، كقوله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]، فأوقع» ما «على العاقل، واللاَّمُ في» ليُوفِّينَّهُمْ «جوابُ قسم مضمر، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ، والتقديرُ: وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ، ويجوز أن تكون» ما «نكرةً موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل» ما «والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم.
والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل «إنْ»
.
577
وقال بعضهم: اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب «ما»، كما فصل بالألف بين النُّونين في «يَضْربانِّ» وبين الهمزتين؛ نحو: آأنْت، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ «ما» هنا زائدٌ جيء بها للفصل، إصلاحاً للفظ، وعبارةُ الفارسي مؤذنةٌ بهذا، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام «إنْ» فقال: العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ، والخبرُ هنا هو القسمُ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللاَّمان، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم، فصلوا بينهما ب «مَا» كما فصلُوا بين «إنَّ» واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال: واللاَّم في «لما» موطئةٌ للقسم، و «ما» مزيدةٌ.
وقال أبُو شامة: واللاَّمُ في «لما» هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية. وفي هذا نطرٌ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها؛ نحو: إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ، فلا التباسَ بالنَّافية، فلا يقال: إنَّها فارقةٌ.
فتلخص في كلِّ من «اللاَّم»، و «ما» ثلاثة أوجه:
أحدهما: في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِعلى خبر «أن».
الثاني: لام موطئة للقسم.
الثالث: أنها جواب القسم كررت تأكيداً. وأحدهما في «ما» : أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين. وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه:
أحدهما: قولُ الفرَّاءِ وجماعة من نحاة البصرة، والكوفة، وهو أنَّ الأصل «لمِنْ مَا» بكسر الميم على أنَّها «مِنْ» الجارة، دخلت على «ما» الموصولة، أو الموصوفة، كما تقرَّر، أي: لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم: «ما» وجب إدغامها؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال، فخففت الكلمة بحذف إحداها، فصار اللفظ كما ترى «لمَّا» قال نصر بن علي الشيرازي: «وصل» مِنْ «الجارَّة ب» مَا «فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فحذفت إحداهُنَّ فبقى» لمَّا «بالتشديد». قال: و «ما» هنا بمعنى «مَنْ» وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ، كما قال تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] أي: من طاب، والمعنى: وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم.
وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال: «حذفت الميم المكسورة، والتقدير: لمنْ خلق ليوفينَّهم».
الثاني: قول المهدويّ ومكي: أن يكون الأصل: «لمَنْ مَا» بفتح ميم: «مَنْ» على أنَّها موصولة، أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ، قال: فقلبت النون ميماً، وأدغمت في الميم
578
التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميماتن فحذفت الوسطى منهنَّ، وهي المبدلةُ من النون، فقيل: «لمَّا» قال مكي والتقديرُ: وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ «لمَنْ مَا» ثُم قلبت النُّونُ ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال: وهذا القولُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ «مَنْ» لايجوزُ بعضها؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين.
وقال النحاسُ: قال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال: إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو: «قدم مالك» فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال: على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في «لمنْ مَا» ولمْ يحذف منها شيءٌ، وذلك في قوله تعالى: ﴿وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [هود: ٤٨] فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ.
قال شهابُ الدين: اجتمع في «أمم ممَّن معك» ثمانيةُ ميماتٍ، وذلك أنَّ «أمماً» فيها ميمان وتنوين، والتنوين يقلب يميماً لإدغامه في ميم «مِنْ» ومعنا نونان: نونُ «مِنْ» الجارة، ونون «مَنْ» الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما، ومعنا ميم «طمعك» فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداهما عن تنوين، واثنتان نون، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل «لمَّا» «لِمنْ ما» بقول الشَّاعر: [الطويل]
٣٠٢٤ - وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ
وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٥٢ - وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ
وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ: ﴿وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم﴾ [الآية: ٨١] بتشديد «لمَّا» أنَّ الأصل: «لمن ما» ففعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته، فالتفت إليه. وقال أبو شامة: وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] إنَّ أصله: لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ، وأدغمت النون في النُّون، وكذا في قولهم: أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً. وفيما قاله نظرٌ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير
579
بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ، ثم قال أبو شامة: وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني: الفرَّاء، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من «لمَّا» في معنى واحد، فقالك «ثُمَّ تُخفَّفُ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ ﴿والَغْ يَعِظُكُم﴾ [النحل: ٩٠] بحذف الياء عند الياء؛ أنشدني الكسائيُّ: [الوافر].
٣٠٢٦ - وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات «. قال شهابُ الدِّين: الأولى أن يقال: حذفت ياءُ الإضافة من»
لَدَيّ «فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في» لَدَى «وهو مثلُ قراءةِ من قرأ ﴿يا بُنَيْ﴾ [هود: ٤٢] بالإسكان على ما سبق، وأمَّا الياءُ من» يَتَبَاشرُونَ «فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفرَّاءُ: [الرجز]
٣٠٢٧ - كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ... يريد: إلى القادمِ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف»
إلى «حذفت لالتقاءِ الساكنينِ، وذلك أنَّ ألف» إلى «ساكنةٌ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة، وهمزة الوصل حذفت درجاً، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان: لام» إلى «ولام التعريف، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى حذف الأولى؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف، فلم يبق من حرف» إلى «غير الهمزة فاتصلت بلام» القادمِ «فبقيت الهمزة على كسرها؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة» مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ «بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً؛ لأنها همزة قطع. قال أبُو شامة: وهذا قريبٌ من قولهم:» مِلْكذبِ «و» عَلْماءِ بنُو فُلانٍ «و» بَلْعَنْبَرِ «يريدون: من الكذبِ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ، وبنُو العَنْبرِ، قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يريدُ قوله: [المنسرح]
٣٠٢٨ - أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ
المأكلة: الرِّسالة، وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٢٩ - أ - فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ
الغُرْلة القُلفة، وقول الآخر: [الخفيف]
580
٣٠٢٩ - ب - نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ
يريد: مِن الجنِّ. قال التبريزي في شرح الحماسة: وهذا مقيسٌ، وهو أن لام التعريف، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن؛ تقول: أكلتُ مالخُبْزِ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ.
وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون» مِنْ «لا تحذف إلاَّ ضرورة، وأنشد: [المنسرح]
٣٠٣٠ -............................. ملْكَذب
الثالث: أنَّ أصلها»
لمَا «بالتَّخفيف، ثمَّ شددت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان، قال الزَّجَّاج:» وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو: «رُبَ» في «رُبَّ» وقيل: في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها، كما قالوا: رأيتُ فرجًّا، وقصبًّا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميمُ هنا حشوٌ؛ لأنَّ الألف بعدها، إلاَّ أن يقال: إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر؛ كقوله: [الرجز]
٣٠٣١ - مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا... يريد: القَصَبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ، وضعَّف الحرف؛ وكذلك قوله: [الرجز]
٣٠٣٢ - بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ
شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف: «لمَّا» فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا.
الرابع: أنَّ أصلها «لمًّا» بالتنوين ثم بين منهُ «فَعْلى» فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث، لم تصرفه، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ، وذلك كما قالوا في «تَتْرى» بالتنوين وعدمه، وهو مأخوذ من قولك: لَمَمْتُهُ: أي جمعتُهُ، والتقدير: وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ، ويكون «جَميعاً» فيه معنى التوكيد ك «كل»، ولا شكَّ أنَّ «جميعاً» يفيدُ معنى زائداً على «كل» عند
581
بعضهم قال: ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ: «لمَّا» بالتنوين.
الخامس: أنَّ الأصل «لمًَّا» بالتنوين أيضاَ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً، ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيدة قال: لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف، وسيأتي توجيه قراءة «لمَّا» بالتنوين.
وقال ابنُ الحاجبِ: «استعمالُ» لمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ، فإن قيل:» لمَّا «فعلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّا «المُنْصَرف فهو أبعدُ، إذ لا يعرفُ» لمَّا «فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال، وهو خلافُ الإجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بستقيم».
السادس: أنَّ «لمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قالهُ أبو الفتح وغيره، وهذا وجهٌ لا اعتبار به، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضيف أيضاً، وهو أنَّ «إلاَّ» تأتي زائدة. _ _ السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما»، و «لمَّا» بمعنى «إلاّ» فهي كقوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] أي: ما كلُّ نفس إلاَّ عليها ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥] أي: ما كل ذلك إلا متاع. واعترض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تنصبُ الاسم بعدها، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ «كلاًّ» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ: وإن أرى كلاًّ، وإن أعلمُ ونحوه، قال: ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ، ولذلك اختلف في مثل: [الوافر]
٣٠٣٣ - ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ
هل هو منصوب بفعل مقدَّر، أو نوِّن ضروةً؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ، واختار يونس التنوين للضَّرورة، وقدَّرهُ بعضهم بعد «لمَّا» من لفظ: «ليُوفِّينَّهُم»، والتقدير: وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يعمل فيما قبلها، واستدل على مجيء: «لمَّا» بمعنى: «إلاَّ» بنصِّ الخليل وسبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج. قال بعضهم: وهي لغةُ هذيل، يقلولون: سألتك بالله لمَّا فعلت أي: إلاَّ فعلت.
وأنكر الفرَّاء وأبو عبيدة وردود: «لمَّ» بمعنى: «إلاًّ» قال أبو عبيدٍ: «أمَّا من شدَّد» لمَّا «بتأويل» إلاَّ «فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول: قام القوم
582
لمَّا أخاك، يريدُ: إلاَّ أخاكَ، وهذا غيرُ موجودٍ» وقال الفرَّاءُ: «وأمَّا من جعل» لمَّا «بمنزلة» إلاَّ «فهو وجهُ ضعيفٌ، وقد قالت العربُ في اليمين: بالله لمَّا قمت عنا، وإلاَّ قمت معنا، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر، ولا غير غيره، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام: ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً» فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّاط بمعنى» إلاَّ «مُطلقاً، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفرسي في ذلك، فقال - في تشديد» لمَّا «ههنا -:» لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى «إلاَّ»، لأنَّ «لمَّا» هذه لا تفارق القسم «وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّضم من نحو: نشدتك بالله لمَّا فعلت، وأسألك بالله لمَّا فعلت. وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ تشديد» لمَّا «ضعيفٌ سواء شدَّدت» إن «أم خفَّفت، قال:» لأنَّه قد نُصِبَ بها «كلاً»، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة، وكا لا يَحْسُن: إنَّ زيداً إلاَّ منطلق؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة، فكذا لا يحسن: إنَّ زيداً لمَّا منطلق، لأنَّهُ بمعناه، وإنَّما ساغ: نشدتُك الله إلاَّ فعلت، ولمَّا فعلت؛ لأنَّ معناه الطَّلب، فكأنَّهُ قال: ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل
﴿تَالله تَفْتَأُ﴾ [يوسف: ٨٥]، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم: «شرُّ أهرُّ ذا ناب» أي: ما أهرَّه إلاَّ شرُّ، قال: «وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب».
وقال الكسائي: لا أعرف وجه التَّثقيل في «لمَّا» قال الفرسيُّ: ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال: اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرفُ لها وجهاً. _ _ الثامن: قال الزَّجَّاجُ: قال بعضهم قَوْلاً، ولا يجوز غيره: أنَّ «لمَّا» في معنى «إلاَ» مثل ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى «إنْ زيدٌ لمنطلق: ما زيدٌ إلاَّ منطلق»، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملها النَّصيب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة، والمعنى نفيٌ ب «إنْ» وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى «إلاَّ» و «لمَّا» بمعنى «إلاَّ»، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز «إلاَّ» في مثل هذا التركيب، فكيف يجُوزُ «لمَّا» التي بمعناها؟. وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفصل ففيها وجوه:
أحدهما: أنَّها «إنَّ» المشددة على حالها، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها، وأمَّا «لمَّا» فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل «لَمِنْ مَا» بالكسر، أو لَمَنْ مَا «بالفتح، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا، والقولُ بكونها بمعنى» إلاَّ «مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره.
583
الثاني: قال المازنيُّ: إنَّ» هيا لمخففة ثقلت: وهي نافيةٌ معنى «مَا» كما خففت «إنَّ» ومعناها المثقلة، «ولمَّا» بمعنى «إلاَّ» وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاًّ» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا تنصبُ.
قال أبُو عمرو بنُ الحاجب - في أماليه -: «لمَّا» هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قلوهم: «خرجتُ ولمَّا، وسافرتُ ولمَّا» وهو سائغٌ فصيح، ويكونُ المعنى: وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥]، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله: ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن»، قال: «والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ».
قال شهابُ الديِّن: وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ «لمَّا» يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ، قالوا: لأنَّها لنفي قَدْ فعل، وقد يحذف بعدها الفعل؛ كقوله: [الكامل]
٣٠٣٤ - أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنذَ رِكَابنَا لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ
أي: وكأن قد زالت، فكذلك منْفيهُ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ، على حذف مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معانِي الشِّعر» قول الشَّاعِر: [الوافر]
٣٠٣٥ - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ
قال: «قوله:» بَدْءاً «أي: سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا».
قال: وقوله: «ولمَّا» أي: ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا، فإنِّي سدتُ بعدهم؛ كقول الآخر: [الكامل]
٣٠٣٦ - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ
ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد
قال ونظير السُّكُوتِ على «لمَّا» دون فعلها السكُّوتُ على «قَدْ» دون فعلها في قول النابغة: [الكامل]
٣٠٣٧ - أفِدَ التًّرَحُّلُ..................................
قال شهابُ الدِّين: وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خففها.
584
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو، والكسائي فواضحةٌ جدًّا، فإنَّها «إنَّ» المشدَّدة عملت عملها، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر «إنَّ»، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم، وقد تقدَّم وقوعُ «ما» على العُقلاء؟ ِ مُقرَّرا، ونظيرُ هذه الآية: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] غير أنَّ اللاَّم في «لمنْ» داخلةٌ على الاسم، وفي «لمَّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم: «مَا» هذه زئادةٌ زيدت للفصل بين اللامين، لام التَّوكيد، ولام القسم، وقيل: اللاَّم ُ في «لمَّا» موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ.
وقال الفرَّاء عند ذكر هذه الآية -: جَعَلَ «مَا» اسماً للنَّاس كما جاز ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] ثم جعل اللاَّم التيفيها جواباً ل «إنَّ» وجعل اللاَّم التي في «ليُوفِّينَّهُمْ» لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين «مَا» وصلتها، كما تقول: هذا من ليَذْهبنَّ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه، ومثله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢].
ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال: إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه، نحو: إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ؛ ومثله: [الطويل]
٣٠٣٨ - ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا
قال: أدخلها في «بَعْد» وليس بموضعها، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ: «إنِّي ليحمد الله لصالحٌ».
وقال الفارسيُّ - في توجيه القراءة -: «وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب» كُلاًّ «ب» إنَّ «وأدخل لام الابتداء في الخبر، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى، وهي التي يُتلقَّى بها القسم، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين» إنَّ «واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل، ومثله في الكلام: إن زيداً لينطلقنَّ».
فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه.
قال المبردُ - وهي جرأةٌ منه - «هذا لحنٌ» يعين تشديد «لمَّا» قال: «لأنَّ العرب لا تقول: إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ» وهو مردودٌ عليه.
قال أبو حيان: وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو: إنَّ زيداً لمَّا
585
خارج، هذا المثالُ لحنٌ. قال شهابُ الدِّين: إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن تصدده، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت «لمَّا» المشددة على خبر «إنَّ» فليس كذلك، بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفرٍ: القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه، ولا «لمَّا لأضربنَّه» قال: وقال الكسائي: «اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً» وقد تقدم ذلك، وقتدم أيضاً أنَّ الفرسي قال: كما لا يحسن: إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق؛ لأنَّ «إلاَّ» إيجاب بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن:
إنَّ زيداً لما منطلق، لأنه بمعناه، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت إلى آخر كلامه. وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي.
وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه «وإنْ كلٌّ لمَّا» بتخفيف «إنْ» ورفع «كل» على أنَّها «إن» النافية «وكل» مبتدأ، و «لمَّا» مشددة بمعنى «إلاَّ»، و «ليُوفِّينَّهُم» جوابُ قسمٍ حذوف، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ [يس: ٣٢] ومثله ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥]، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ «لمَّا» بمنزلةِ «إلاَّ» فقد تقدَّمت أدلته.
وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم «لمَّا» بالتشديد منونة ف «لمَّا» فيها مصدرٌ من قولهم: «لمَمْتُه - أي: جمعته - لمَّا» ومنه قوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩] ثم في تخريجه وجهان:
أحدهما: ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكون منصوباً بقوله: «ليُوفِّينَّهُمْ» على حدِّ قولهم: قياماً لأقومنَّ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ، والتقديرُ: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق.
والثاني: ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو: أن يكون وصفاً ل «كُلّ» وصفاً بالمصدر مبالغة، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه «كل» نكرةً، ليصحَّ وصفُ «كل» بالنَّكرةِ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ «كل»، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩] فوقع «لمَّا» نعتاً ل «أكْلاً» وهو نكرةٌ.
قال أبو علي: ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ. وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاًّ» كما يتبعها أجمعون، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل «كُلاًّ» فإنه قال: «وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ» كقوله: «أكْلاً لمًّا» والمعنى: وإن كلاًّ ملمومين بمعنى: مجموعين، كأنه قيل: وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملاائكة
586
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ: يدٌ صناعيُّ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد: أنَّهُ صفةٌ ل «كُلاًّ» ولذلك قدَّرهُ: بمجموعين، وقد تقدَّم في بعض توجيهات «لمَّا» بالتَّشديد من غير تنوين، أنَّ المنون أصلا، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرف ما فيه وخبر «إنْ» على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف «إنْ» فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ في النَّفي، و «كل» مبتدأ، و «ليُوفِّينَّهُم» مع قسمة المقدَّر خبرها، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصيرُ التقديرُ بدون «مِنْ» :«وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم» والتنوين في «كلاً» عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري: يعني: وإنَّ كُلُّهُم، وإنَّ جميع المختلفين فه. وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ «لمًّا» بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ، لا يقدَّر المضافُ إليه «كل» إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ.
التوكيد ب «إنَّط وب» كُلّ «وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر» إنَّ «وبزيداة» ما «عل رأي، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددة، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي، ووعداً صالحاً للطَّائع.
وقرأ العامَّةُ: «يَعْمَلُون»
بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين، وقرأ ابنُ هرمز «بِمَا تعملُونَ» بالخطابِ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم.

فصل


معنى الآية: أنَّ من عجلت عقوبته، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ، وقوله: ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ توكيد للوعْدِ والوعيد، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان.
587
قوله تعالى: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ الآية.
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله «فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ» وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال، سواء كان مختصَّا به، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا.
قال ابنُ الخطيب: وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ.
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.
فأولها: معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين، والوقوفُ عليه صعبٌ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم - في جميع القرآن آية أشق من هذه، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «شيبَّني هُود وأخواتها» وروى عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام، فقلت لهُ: روي عنك أنك قلت: «شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها» فقال: نَعَمْ «قلت: وبأي آية؟ فقال: قوله:» فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ «.
قوله: ﴿كَمَآ أُمِرْتَ﴾ الكافُ في محلِّ النصب، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ: أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي
588
أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها. وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر.
واستفعل هنا للطَّلب، كأنه قيل: اطلب الإقامة على الدِّين، كما تقول: استغفر أي: اطلب الغفران.
قوله: ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنَّهُ منصوب على المفعول به، كذا ذكره أبو البقاء ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك، وفي هذا المعنى نقوٌّ عن ظاهر اللفظ.
والثاني: أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في «اسْتَقمْ»، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله: ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٢٥]، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفرادات، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ، وليستقم من تاب مَعَكَ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر.
وقال الواحدي: محلها ابتداء تقديره: ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ

فصل


معنى الآية: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ على دين ربِّك، والعمل به، والدُّعاء إليه، كما أمرت، ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ أي: مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا، قال عمرُ بنُ الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي، ولا تروغ روغان الثَّعلب.
روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك، قال:» قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ «.

فصل


هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه، لقوله: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾، ولمَّا»
ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به.
قال ابنُ الخطيبِ: وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه، لقوله تعالى -: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه.
589
ثم قال: ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾ أي: لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل: لا تغلُوا فتزيدُوا على أمرت ونهيت والطُّغيان: تجاوز الحدًّ. وقيل: لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تواضعوا لله ولا تتكبورا على أحد» ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرأ العامَّة «تَعْمَلُونَ» بالتَّاء «جرياً على الخطابِ المتقدم.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تركنوا﴾ قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف، والماضي من هذا «رَكِن»
بكسر العين ك «عَلِمَ، وهذه الفصحى، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره:» وهي لغةُ قريش «وقرأ أبو عمرو في رواية:» تِرْكَنُوا «بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله:» نَسْتعِينُ «.
وقرأ قتادةُ، وطلحةُ، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو»
تَرْكُنُوا «بضمِّ العين وهو مضارع» رَكَنَ «بفتحها ك: قَتَلَ يَقْتُل، وقال بعضهم: هو من التَّداخُلِ، يعني من نطق ب» رَكَنَ «بكسر العين قال:» يَرْكُن «بضمها، وكان من حقِّه أن يفتحَ، فلمذَا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من:» رَكِنض «بالكسرِ، ومن ضمَّها أخذه من» رَكَنَ «بالفتح، ولذلك قال الراغبُ:» والصحيحُ أن يقال: رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع «وشذَّ أيضاً قولهم: رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما، وهو التداخل؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال:» رَكِنَ «بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم، و» ركَنَ «بفتحها، وهي لغة قيس وتميم، وزاد الكسائيُّ:» ونَجْد «وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ، والكسرُ، والضمُّ. وقرأ ابنُ أبي عبلة:» تُرْكَنُوا «مبنياً للمفعول من: أرْكَنَهُ إذا أمالهُ، فهو من باب» لا أرَيَنَّكَ ههنا «و ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ الأعراف: ٢] وقد تقدم.
والرُّكُونُ: المَيْلِ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه.
قوله: ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ منصوبٌ بإضمار»
أنْ «في جوابِ النهي. وقرأ ابنُ وثاب وعلقمةُ، والأعمشُ في آخرين» فَتِمَسَّكُمُ «بكسر التَّاءِ.
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً، أي: تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم.
590
ويجوز أن تكون مستأنفة و» مِنْ أولياءَ «» مِنْ «فيه زائدةٌ، إمَّا في الفاعل، وإمَّا في المبتدأ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ - أحدها النَّفيُ - رفع الفاعل.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ؛ لأنه مرفوع، إذ هو من باب عطف الجمل، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ. وقرأ زيد بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بحذف نون الرفع، عطفه على»
تمسَّكُم «، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف، فتكون معترضةً، وأتى ب» ثمَّ «تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة.

فصل


معنى الآية: قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:»
ولا تميلُوا «.
والرُّكُونُ: هو المحبَّة والميل بالقلب. وقال أبو العاليةِ: لا ترضوا بأعمالهم.
وقال السدي: لا تداهِنُوا الظَّلمة.
وعن كرمة: لا تطيعوهم وقيل لاتسكنوا إلى الذين ظلمُوا «فتَتَمسَّكُم»
، فتصيبكم «النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ» أي: ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ.
قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾ الآية.
لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة.
قوله: ﴿طَرَفَيِ النهار﴾ ظرفٌ ل «أقِم» ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين، والطرف، وإن لم يكن ظرفاً، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية.
وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضمِّ الزاي، وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرفة، وظُلَم في جمع ظُلمه. وقرأ أبو جعفر وابنُ أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه:
591
أحدهما: أنَّهُ جمع «زُلْفَة» أيضاً، والضَّمُّ للإتباع، كما قالوا: بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء.
الثاني: أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك: عُنُق.
الثالث: أنه جمعُ «زَلِيف» قال أبو البقاءِ: «وقد نُطِف به»، يعني أنَّهم قالوا زَليف، و «فعيل» يجمعُ على «فُعُل» نحو: رَغِيف ورغف، وقَضِيب وقضُب.
وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم.
والثاني: أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو: بُسْرة وبُسْ من غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن محيصنٍ وأيضاً في رواية: «وزُلْفَى» بزنة: «حُبْلَى» جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى، أو الساعة الزُّلْفَى، أي: القريبة.
وقد قيل: إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجرياص الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ.
وفي انتصاب: «زُلَفاً» وجهان:
أظهرهم: أنه نسقٌ على «طَرفي» فينتصب الظَّرف، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة.
والثاني: أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة.
قال الزمخشريُّ - بعد أن ذكر القراءات المتقدمة -: وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النَّهار، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل.
والزُّلفةُ: أول ساعات الليل، قاله ثعلبُ. وقال الأخفش وابنُ قتيبة: «الزلف: ساعات الليل وآناؤه، وكلُّ ساعة منه زلفة» فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ؛ وقال العداد: [الرجز]
٣٠٣٩ - ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا
سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا...
592
وأصلُ الكلمة من «الزُلْفَى» والقرب، يقال: أزْلفه فازْدلفَ، أي: قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين﴾ [الشعراء: ٦٤] وفي الحديث: «ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ».
وقال الرَّاعب: والزُّلفةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوة، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها، والمزالِفُ: المراقي: وسُمِّيت ليلة الزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة. وقوله: «من اللَّيل» صفةٌ ل «زُلَفاً».

فصل


معنى «طَرَفَي النَّهارِ» أي: الغداوة والعشي. قال مجاهدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: طرفا النهار الصبح، والظهر، والعصر «وزُلفاً من اللَّيْل» يعني: صلاة المغرب والعشاء.
وقال الحسنُ: طرفا النَّهارِ: الصبح، والظهر والعصر «وزُلفاً من اللَّيل» المغرب والعشاء وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: طرفا النهار الغداوة والعشي، يعني صلاة الصبح والمغرب.

فصل


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس، والطَّرف الثاني غروب الشمس.
فالأول: هو صلاة الفجر.
والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب؛ لأنها داخلة تحت قوله: ﴿وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر.
وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار، وبينا أنَّ طرفي النهار هم الزمان الأول لطلوع الشمس، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية، فوجب حلمه على المجاز، وهو أن يكون المرادُ: إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ،
593
وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة، كان حملُ اللفظ عليه أولى.

فصل


قال أبو بكر الباقلاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين:
الأول: أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً.
فإن قيل: قوله ﴿وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ يوجب صلوات أخرى.
قلت: لا نُسلِّمُ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف، وذلك كثير في القرآن والشعر.
الوجه الثاني: أنه تعالى قال: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب، فبتقدير أن يقال: إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه.

فصل


قيل قي قوله تعالى: ﴿وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة، والمغربُ والعشاءُ وقتان؛ فجيب الحكمُ بوجوب الوتر.
قوله: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ قال ابن عبَّاسِ: إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط الجتناب الكبائر ووري عن مجاهدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إنَّ الحسنات هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر، قال: أتتني امرأة تبتاع تَمْراً، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا؛ فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا، فأَيْتُ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن الصحابة أجمعين - فذكرتُ ذلك له فقال: اسْتُرْ على نفسك وتب، فأتيتُ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقالك اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ، فأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرتُ ذلك، فقال:»
أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا؟ «حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى
594
أوحي إليه ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾ الآية، فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألِهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال:» بَلْ للنَّاسِ عامَّة «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول:» الصَّواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ «.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:»
أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ «؟ قالوا: لا، قال:» فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا «.

فصل


احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات، وأجلها، وأعظمها، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾ أي: ذلك الذي ذكرناه، وقيل: إشارة إلى القرآن»
ذِكْرَى «موعظة،» للذَّاكرينَ «أي: لمن ذكره» واصْبِرْ «يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى.
وقيل: على الصَّلاة، نظيرهُ: قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢] ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ في أعمالهم، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -»
يعني المصلِّينَ «.
595
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم ﴾ الآية.
هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير١ وأبو بكر عن عاصم " وإنْ " بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا " لمّا " فقرأها مشدَّدةً هنا وفي " يس " وفي سورة الزخرف، وفي سورة الطارق، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً، فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط، والباقون قرءوا٢ جميع ذلك بالتخفيف، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ " وإنْ " و " لمَا " مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف " إنْ " وثقَّل " لمَّا "، وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا " إنَّ " و " لمَّا " معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا " إنَّ " وخففا " لما " فهذه أربعُ مرات للقراء في هذين الحرفين، هذا في المتواتر.
وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر :
إحداها : قراءة أبيّ والحسن٣ وأبان بن تغلب " وإنْ كلٌّ " بتخفيفها، ورفع " كل "، و " لمَّا " بالتشديد.
الثانية : قراءة اليزيدي٤ وسليمان بن أرقم " لمَّا " مشددة منونة، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف " إنَّ " ولا تشديدها.
الثالثة : قراءة الأعمش٥ وهي في حرف ابن مسعود كذلك :" وإنْ كلٌّ " بتخفيف " إن " ورفع " كل ".
الرابعة : قال أبو٦ حاتم : الذي في مصحف أبي " وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ " وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات ؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال " إن " المخففة، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب. قال سيبويه :" حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب من يقول :" إنْ عمراً لمُنْطلقٌ " ؛ كما قالوا :[ الهزج ].
. . . *** كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان٧
قال : وَوَجْهُه من القياس : أنَّ " إنْ " مُشبهةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ، نحو :" لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً " " فلا تكُ في مريةٍ " وكذلك : لا أدْر.
قال شهابُ الدٍّين٨ : وهذا مذهبُ البصريين، أعني : أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل، وأن تهمل ك :" إنْ " والأكثرُ الإهمالُ، وقد أجمع عليه في قوله :﴿ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ [ يس : ٣٢ ] وبعضها يجبُ إعماله ك " أنْ " بالفتح، و " كأنْ " ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمير بارز إلا ضرورة، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك " لكن ".
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في " إن " المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم ؛ بدليل هذه القراءة المتواترة ؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر :[ الطويل ]
. . . *** كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم٩
وقال الفراء : لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ ؛ كقوله :[ الطويل ]
فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني *** طلاقكِ لم أبْخَلْ وأنتِ صديقُ١٠
قال :" لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع " وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه، وقول الآخر :[ الرجز ]
كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ١١ ***. . .
الرَّشاء : الحَبْلُ. والخُلْبُ : اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب " إنْ ".
وأمَّا " لما " في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ " إنْ " الدَّاخلةُ في الخبر، و " مَا " يجوز أن تكون موصولة بمعنى " الذي " واقعةً على ما يعقلُ، كقوله تعالى :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ]، فأوقع " ما " على العاقل، واللاَّمُ في " ليُوفِّينَّهُمْ " جوابُ قسم مضمر، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ، والتقديرُ : وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ، ويجوز أن تكون " ما " نكرةً موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل " ما " والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم. والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل " إنْ ".
وقال بعضهم : اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب " ما "، كما فصل بالألف بين النُّونين في " يَضْربانِّ " وبين الهمزتين ؛ نحو : آأنْت، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ " ما " هنا زائدٌة جيء بها للفصل، إصلاحاً للفظ، وعبارةُ الفارسي١٢ مؤذنةٌ بهذا، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام " إنْ " فقال : العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ، والخبرُ هنا هو القسمُ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللاَّمان، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم، فصلوا بينهما ب " مَا " كما فصلُوا بين " إنَّ " واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال : واللاَّم في " لما " موطئةٌ للقسم، و " ما " مزيدةٌ.
وقال أبُو شامة : واللاَّمُ في " لما " هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية. وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها ؛ نحو : إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ، فلا التباسَ بالنَّافية، فلا يقال : إنَّها فارقةٌ.
فتلخص في كلِّ من " اللاَّم "، و " ما " ثلاثة أوجه :
أحدهما : في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِ على خبر " أن ".
الثاني : لام موطئة للقسم.
الثالث : أنها جواب القسم كررت تأكيداً. وأحدها في " ما " : أنها موصولة. الثاني : أنها نكرة الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين. وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه :
أحدها : قولُ الفرَّاءِ١٣ وجماعة من نحاة البصرة، والكوفة، وهو أنَّ الأصل " لمِنْ مَا " بكسر الميم على أنَّها " مِنْ " الجارة، دخلت على " ما " الموصولة، أو الموصوفة، كما تقرَّر، أي : لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم :" ما " وجب إدغامها ؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال، فخففت الكلمة بحذف إحداها، فصار اللفظ كما ترى " لمَّا " قال نصر بن علي الشيرازي :" وصل " مِنْ " الجارَّة ب " مَا " فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فحذفت إحداهُنَّ فبقى " لمَّا " بالتشديد ". قال : و " ما " هنا بمعنى " مَنْ " وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ، كما قال تعالى :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ] أي : من طاب، والمعنى : وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم.
وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال :" حذفت الميم المكسورة، والتقدير : لمنْ خلق ليوفينَّهم ".
الثاني : قول المهدويّ ومكي : أن يكون الأصل :" لمَنْ مَا " بفتح ميم :" مَنْ " على أنَّها موصولة، أو موصوفة، و " ما " بعدها مزيدةٌ، قال : فقلبت النون ميماً، وأدغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى منهنَّ، وهي المبدلةُ من النون، فقيل :" لمَّا " قال مكي١٤ والتقديرُ : وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ " لمَنْ مَا " ثُم قلبت النُّونُ ميما، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال : وهذا القولُ ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ " مَنْ " لايجوزُ بعضها ؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين.
وقال النحاسُ١٥ : قال أبو إسحاق : هذا خطأ ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من " مَنْ " فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو :" قدم مالك " فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال : على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في " لمنْ مَا " ولمْ يحذف منها شيءٌ، وذلك في قوله تعالى :﴿ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾ [ هود : ٤٨ ]، فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ.
قال شهابُ الدين١٦ : اجتمع في " أمم ممَّن معك " ثمانيةُ ميماتٍ، وذلك أنَّ " أمماً " فيها ميمان وتنوين، والتنوين يقلب ميماً لإدغامه في ميم " مِنْ " ومعنا نونان : نونُ " مِنْ " الجارة، ونون " مَنْ " الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما، ومعنا ميم " معك " فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل " لمَّا " " لِمنْ ما " بقول الشَّاعر :[ الطويل ]
وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة *** عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ١٧
وقول الآخر :[ الطويل ]
وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ١٨
وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ :﴿ وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم ﴾ [ الآية : ٨١ ] بتشديد " لمَّا " أنَّ الأصل :" لمن ما " ففعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته، فالتفت إليه. وقال أبو شامة : وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله ﴿ لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي ﴾ [ الكهف : ٣٨ ] إنَّ أصله : لكن أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ، وأدغمت النون في النُّون، وكذا في قولهم : أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً. وفيما قاله نظرٌ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني : الفرَّاء، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من " لمَّا " في معنى واحد، فقال :" ثُمَّ تُخفَّفُ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ ﴿ والبَغْ يَعِظُكُم ﴾ [ النحل : ٩٠ ] بحذف الياء عند الياء ؛ أنشدني الكسائيُّ :[ الوافر ].
وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا *** لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا١٩
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات ".
قال شهابُ الدِّين٢٠ : الأولى أن يقال : حذفت ياءُ الإضافة من " لَدَيّ " فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في " لَدَى " وهو مثلُ قراءةِ من قرأ ﴿ يا بُنَيْ ﴾ [ هود : ٤٢ ] بالإسكان على ما سبق، وأمَّا الياءُ من " يَتَبَاشرُونَ " فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفرَّاءُ :[ الرجز ]
كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ٢١ ***. . .
يريد : إلى القادمِ ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف " إلى " حذفت لالتقاءِ الساكنينِ، وذلك أنَّ ألف " إلى " ساكنةٌ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة، وهمزة الوصل حذفت درجاً، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام " إلى " ولام التعريف، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى حذف الأولى ؛ لأنَّ الثانية دال
١ ينظر: الحجة ٤/٣٨٠ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٤ وحجة القراءات ٣٥٠ والإتحاف ٢/١٣٥-١٣٦ والمحرر الوجيز ٣/٢٠١ والبحر المحيط ٥/٢٦٦ وينظر: الدر المصون ٤/١٣٥..
٢ ينظر: اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٤/٣٨٠، وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٤ وحجة القراءات ص٣٥١-٣٥٢ والإتحاف ٢/١٣٥، ١٣٦ وينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٠ وينظر: أيضا الخلاف في البحر المحيط ٥/٢٦٦ وينظر: الدر المصون ٤/١٣٥..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٠، والبحر المحيط ٥/٢٦٦، والدر المصون ٤/١٣٥..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٤٣٢ والمحرر الوجيز ٣/٢١٠ والبحر المحيط ٥/٢٦٦ والدر المصون ٤/١٣٥..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٠ والبحر المحيط ٥/٢٦٦ والدر المصون ٤/١٣٥..
٦ ينظر: السابق..
٧ تقدم..
٨ ينظر: الدر المصون ٤/١٣٦..
٩ تقدم..
١٠ تقدم..
١١ تقدم..
١٢ ينظر: الحجة ٤/٣٨٥..
١٣ ينظر: معاني الفراء ٢/٢٩..
١٤ ينظر: المشكل ١/١٤٥..
١٥ ينظر: إعراب القرآن ٢/١١٥..
١٦ ينظر: الدر المصون ٤/١٣٧..
١٧ تقدم..
١٨ ينظر البيت في روح المعاني ١٢/١٥٠ والفراء ٢/٢٩ والقرطبي ٩/٧٠ والطبري ١٥/٤٩٤ والدر المصون ٤/١٣٨..
١٩ ينظر البيت في معاني الفراء ٢/٩٢ وتفسير الطبري ١٥/٤٩٥ وإبراز المعاني ٥٢٢٥ والدر المصون ٤/١٣٨..
٢٠ ينظر: الدر المصون ٤/١٣٨..
٢١ ينظر البيت في معاني الفراء ٢/٩٢ وجامع البيان ١٥/٤٩٥ واللسان (قدم) والدر المصون ٤/١٣٨..
قوله تعالى :﴿ فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ الآية.
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله " فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ " وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال، سواء كان مختصَّا به، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا.
قال ابنُ الخطيب : وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم، وهو أنَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لا يقبلُ القسمة في العرض، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ.
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.
فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لكل واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين، والوقوفُ عليه صعبٌ ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة، وبتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ- رضي الله عنه- : ما نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم- في جميع القرآن آية أشق من هذه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :" شيبَّني هُود وأخواتها " ١ وروى عن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت لهُ : روي عنك أنك قلت :" شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها " فقال : نَعَمْ " قلت : وبأي آية ؟ فقال : قوله :" فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ " ٢.
قوله :﴿ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ الكافُ في محلِّ النصب، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ : أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها. وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر.
واستفعل هنا للطَّلب، كأنه قيل : اطلب الإقامة على الدِّين، كما تقول : استغفر أي : اطلب الغفران.
قوله :﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾ في " مَنْ " وجهان، أحدهما : أنَّهُ منصوب على المفعول به، كذا ذكره أبو البقاء٣ ويصير المعنى : استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك، وفي هذا المعنى نبوٌّ عن ظاهر اللفظ.
والثاني : أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في " اسْتَقمْ "، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله :﴿ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ]، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ، وليستقم من تاب مَعَكَ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر.
وقال الواحدي : محلها ابتداء تقديره : ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ.

فصل


معنى الآية :﴿ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ ﴾ على دين ربِّك، والعمل به، والدُّعاء إليه، كما أمرت، ﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾ أي : مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا، قال عمرُ بنُ الخطاب- رضي الله عنه- : الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي، ولا تروغ روغان الثَّعلب٤.
روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي- رضي الله عنه- قال :" قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك، قال :" قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ " ٥.

فصل


هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه، لقوله :﴿ فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ ﴾، ولمَّا " ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به.
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه، لقوله تعالى- :﴿ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ ﴾ فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾ أي : لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل : لا تغلُوا فتزيدُوا على ما أمرت ونهيت. والطُّغيان : تجاوز الحدًّ. وقيل : لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ. وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما- :" تواضعوا لله ولا تتكبروا على أحد " ٦ ﴿ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ قرأ العامَّة " تَعْمَلُونَ " بالتَّاء " جرياً على الخطابِ المتقدم.
وقرأ الحسن والأعمش٧ وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في ﴿ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
١ أخرجه الترمذي في "الشمائل" رقم (٤١) وأبو يعلى (٢/١٨٤) رقم (٨٨) والبغوي في "شرح السنة" (٧/٣٧٥) والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/١٢٣) رقم (٣١٨) من حديث أبي جحيفة.
وله شاهد من حديث أبي بكر:
أخرجه أبو يعلى (١/١٢) رقم (١٠٧) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/٣٧) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.
وله شاهد آخر من حديث ابن عباس:
أخرجه الترمذي (٣٢٩٣) والحاكم (٢/٤٧٦) وصححه..

٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٧٨) وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان..
٣ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/٤٧..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٤)..
٥ أخرجه مسلم ١/٦٥ كتاب الإيمان باب جامع أوصاف الإسلام (٦٢/٣٨). وأخرجه أحمد في المسند ٣/٤١٣ وابن ماجه ٢/٣١٤ بزيادة في آخره: قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال: هذا (٣٩٧٢) والترمذي بالزيادة المذكورة ٤/٥٢٤-٥٢٥ (٢٤١٠). وقال: هذا حديث صحيح. وقد روي عن غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٥٧)..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ٥/٢٦٨ والدر المصون ٤/١٤٤..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تركنوا ﴾ قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف، والماضي من هذا " رَكِن " بكسر العين ك " عَلِمَ، وهذه الفصحى، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره :" وهي لغةُ قريش " وقرأ أبو عمرو في رواية :" تِرْكَنُوا " بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله :" نَسْتعِينُ " ١.
وقرأ قتادةُ، وطلحةُ، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو " تَرْكُنُوا " بضمِّ العين وهو مضارع " رَكَنَ " بفتحها ك : قَتَلَ يَقْتُل، وقال بعضهم : هو من التَّداخُلِ، يعني من نطق ب " رَكَنَ " بكسر العين قال :" يَرْكُن " بضمها، وكان من حقِّه أن يفتحَ، فلما ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من :" رَكِنَ " بالكسرِ، ومن ضمَّها أخذه من " رَكَنَ " بالفتح، ولذلك قال الراغبُ :" والصحيحُ أن يقال : رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع ". وشذَّ أيضاً قولهم : رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما، وهو التداخل ؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال :" رَكِنَ " بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم، و " ركَنَ " بفتحها، وهي لغة قيس وتميم، وزاد الكسائيُّ :" ونَجْد " وفي المضارع ثلاثٌ : الفتحُ، والكسرُ، والضمُّ. وقرأ ابنُ أبي٢ عبلة :" تُرْكَنُوا " مبنياً للمفعول من : أرْكَنَهُ إذا أمالهُ، فهو من باب " لا أرَيَنَّكَ ههنا " و﴿ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾ الأعراف : ٢ ] وقد تقدم.
والرُّكُونُ : المَيْلِ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه.
قوله :﴿ فَتَمَسَّكُمُ ﴾ منصوبٌ بإضمار " أنْ " في جوابِ النهي. وقرأ ابنُ وثاب٣ وعلقمةُ، والأعمشُ في آخرين " فَتِمَسَّكُمُ " بكسر التَّاءِ.
قوله :﴿ وَمَا لَكُمْ ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً، أي : تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم.
ويجوز أن تكون مستأنفة و " مِنْ أولياءَ " " مِنْ " فيه زائدةٌ، إمَّا في الفاعل، وإمَّا في المبتدأ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ- أحدها النَّفيُ- رفع الفاعل.
قوله :﴿ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ ؛ لأنه مرفوع، إذ هو من باب عطف الجمل، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ. وقرأ زيد بن علي٤ - رضي الله عنهما- بحذف نون الرفع، عطفه على " تمسَّكُم "، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف، فتكون معترضةً، وأتى ب " ثمَّ " تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة.

فصل


معنى الآية : قال ابن عبَّاسٍ- رضي الله عنهما- :" ولا تميلُوا " ٥.
والرُّكُونُ : هو المحبَّة والميل بالقلب. وقال أبو العاليةِ : لا ترضوا بأعمالهم٦.
وقال السدي : لا تداهِنُوا الظَّلمة٧.
وعن كرمة : لا تطيعوهم٨ وقيل لا تسكنوا إلى الذين ظلمُوا " فتَمسَّكُم "، فتصيبكم " النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ " أي : ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ٥/٢٦٨ والدر المصون ٤/١٤٤..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٤٣٣ والبحر المحيط ٥/٢٦٨ والدر المصون ٤/١٤٤، ١٤٥..
٣ وقرأ بها أيضا يحيى وحمزة ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ٥/٢٦٩ ولم يذكر يحيى وينظر: الدر المصون ٤/١٤٥..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٦٩ والدر المصون ٤/١٤٥..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٢٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٣٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٢٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٣٧) وعزاه إلى أبي الشيخ..
٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٤)..
٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٣٧) وعزاه إلى أبي الشيخ عن عكرمة..
قوله تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار ﴾ الآية.
لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة.
قوله :﴿ طَرَفَيِ النهار ﴾ ظرفٌ ل " أقِم " ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل : أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين، والطرف، وإن لم يكن ظرفاً، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية.
وقرأ العامَّةُ " زُلَفاً " بضمِّ الزاي، وفتح اللام، وهي جمعُ " زُلْة " بسكون اللام، نحو : غُرَف في جمع غُرفة، وظُلَم في جمع ظُلمه. وقرأ أبو جعفر١ وابنُ أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه :
أحدهما : أنَّهُ جمع " زُلْفَة " أيضاً، والضَّمُّ للإتباع، كما قالوا : بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء.
الثاني : أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك : عُنُق.
الثالث : أنه جمعُ " زَلِيف " قال أبو البقاءِ :" وقد نُطِف به "، يعني أنَّهم قالوا زَليف، و " فعيل " يجمعُ على " فُعُل " نحو : رَغِيف ورغف، وقَضِيب وقضُب.
وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم٢ وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم.
والثاني : أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو : بُسْرة وبُسْر من غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن٣ محيصنٍ وأيضاً في رواية :" وزُلْفَى " بزنة :" حُبْلَى " جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى ؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى، أو الساعة الزُّلْفَى، أي : القريبة.
وقد قيل : إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجريا الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ.
وقال الزمخشري : والزلفى بمعنى الزلفة، كما أن القربى بمعنى القربة يعني : أنه مما تعاقب فيه تاء التأنيث وألفه.
وفي انتصاب :" زُلَفاً " وجهان :
أظهرهما : أنه نسقٌ على " طَرفي " فينتصب الظَّرف، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة.
والثاني : أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة.
قال الزمخشريُّ٤- بعد أن ذكر القراءات المتقدمة- : وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل، وقيل : زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي : أقم الصلاة طرفي النَّهار، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل.
والزُّلفةُ : أول ساعات الليل، قاله ثعلبُ. وقال الأخفش وابنُ قتيبة :" الزلف : ساعات الليل وآناؤه، وكلُّ ساعة منه زلفة " فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ ؛ وقال العداد :[ الرجز ]
ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا *** طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا
سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا٥ ***. . .
وأصلُ الكلمة من " الزُلْفَى " والقرب، يقال : أزْلفه فازْدلفَ، أي : قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى :﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين ﴾ [ الشعراء : ٦٤ ] وفي الحديث :" ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ " ٦.
وقال الرَّاغب٧ : والزُّلفةُ : المَنْزِلَةُ والحُظْوة، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها، والمزالِفُ : المراقي : وسُمِّيت ليلة المزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة. وقوله :" من اللَّيل " صفةٌ ل " زُلَفاً ".

فصل


معنى " طَرَفَي النَّهارِ " أي : الغداوة والعشي. قال مجاهدٌ- رحمه الله- : طرفا النهار الصبح، والظهر، والعصر " وزُلفاً من اللَّيْل " يعني : صلاة المغرب والعشاء.
وقال الحسنُ : طرفا النَّهارِ : الصبح، والظهر والعصر " وزُلفاً من اللَّيل " المغرب والعشاء وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : طرفا النهار الغداوة والعشي، يعني صلاة الصبح والمغرب٨.

فصل


قال ابن الخطيب٩ - رحمه الله- :" الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس، والطَّرف الثاني غروب الشمس.
فالأول : هو صلاة الفجر.
والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب ؛ لأنها داخلة تحت قوله :﴿ وَزُلَفاً مِّنَ الليل ﴾ فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر.
وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل ؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار، وبينا أنَّ طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية، فوجب حمله على المجاز، وهو أن يكون المرادُ : إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار ؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ، وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة، كان حملُ اللفظ عليه أولى.

فصل


قال أبو بكر الباقلاني - رضي الله عنه- : إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين :
الأول : أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار ؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً.
فإن قيل : قوله ﴿ وَزُلَفاً مِّنَ الليل ﴾ يوجب صلوات أخرى.
قلت : لا نُسلِّمُ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف، وذلك كثير في القرآن والشعر.
الوجه الثاني : أنه تعالى قال :﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب، فبتقدير أن يقال : إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه.

فصل


قيل قي قوله تعالى :﴿ وَزُلَفاً مِّنَ الليل ﴾ أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل ؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة، والمغربُ والعشاءُ وقتان ؛ فيجب الحكمُ بوجوب الوتر.
قوله :﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ قال ابن عبَّاسِ : إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط اجتناب الكبائر١٠. وروي عن مجاهدٍ - رحمه الله - :" إنَّ الحسنات هي قول العبد : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر١١.
وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر، قال : أتتني امرأة تبتاع تَمْراً، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا ؛ فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا، فأَيْتُ أبا بكر- رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين- فذكرتُ ذلك له فقال : اسْتُرْ على نفسك وتب، فأتيتُ عمر - رضي الله عنه- فقال : اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك، فقال :" أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا ؟ " حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أوحي إليه ﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار ﴾ الآية، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألِهذا خاصة أم للناس عامة ؟ قال :" بَلْ للنَّاسِ عامَّة " ١٢ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" الصَّواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ " ١٣.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال :" أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحدكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ " ؟ قالوا : لا، قال :" فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا " ١٤.

فصل


احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية ؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات، وأجلها، وأعظمها، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان ؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ أي : ذلك الذي ذكرناه، وقيل : إشارة إلى القرآن " ذِكْرَى " موعظة، " للذَّاكرينَ " أي : لمن ذكره
١ قرأ به أيضا طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ولم يقرأ بها ابن محيصن ٥/٢٧٠ وينظر القراءة في الدر المصون ٤/١٤٥..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ٥/٢٧٠ والدر المصون ٤/١٤٥..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٢ والبحر المحيط ٥/٢٧٠ والدر المصون ٤/١٤٥..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٤٣٥..
٥ تقدم..
٦ ينظر: المفردات ٤/٢..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٢٥)..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٢٥) عن الحسن وابن زيد وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٥) عن ابن عباس..
٩ ينظر: الفخر الرازي ١٧/٥٨..
١٠ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٥)..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٣١)..
١٢ أخرجه الترمذي (٥/٢٧٢-٢٧٣) كتاب التفسير: سورة هود حديث (٣١١٥) والنسائي في الكبرى (٦/٣٦٦) رقم (١١٢٤٨) والطبري في "تفسيره" (٧/١٣٤).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٣٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..

١٣ أخرجه مسلم ١/٢٠٩، كتاب الطهارة: باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (١٦/٢٣٣) والترمذي ١/٤١٨-٤١٩ كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (٢١٤) وأحمد ٢/٤٨٤..
١٤ أخرجه البخاري ٢/١١، كتاب مواقيت الصلاة باب الصلوات الخمس كفارة (٥٢٨)، ومسلم ١/٤٦٢-٤٦٣ كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا ويرفع به الدرجات (٢٨٣/٦٦٧) والترمذي ١/٤١٨، كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (٢١٤)، وأحمد، ٢/٤٨٤..
" واصْبِرْ " يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى.
وقيل : على الصَّلاة، نظيرهُ : قوله تعالى :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ﴾ [ طه : ١٣٢ ] ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾ في أعمالهم، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما- " يعني المصلِّينَ " ١.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٩/٧٥)..
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ﴾ من الآية.
لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران:
الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، فقال: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ﴾، «لوْلاَ» تخضيضيه دخلها معنى التَّفجُّع عليهم، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] وما يروى عن الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: كل ما كان في القرآن من «لَوْلاَ» فمعناه «هَلاَّ» إلاَّ التي في الصافات «لوْلاَ أنَّهُ»، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ﴾ [القلم: ٤٩] ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ [الإسراء: ٧٤] ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ﴾ [الفتح: ٢٥].
و «مِنَ القُرونِ» يجوز أن يتعلَّق ب «كان» ؛ لأنَّها هنا تامَّة، إذا المعنى: فهلاَّ وُجِد من القُرونِ، أو حدث، أو نحو ذلك، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من: «أُولُوا بقيَّةٍ» لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ، و «مِن قَبْلِكُم» حالٌ من «القُرُون» و «يَنْهَون» حالٌ من «أولوا بقيَّة» لتخصُّصه بالإضافةِ، ويجوز أن يكون نعتاً ل «أُولُوا بقيَّّةٍ» وهو أولى.
ويضعفُ أن تكون «كان» هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق «من القُرونِ» بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ؛ لأنَّ «كَانَ» النَّاقصة لا تعملُ عند جمهورالنُّحاةِ، ويكون «يَنْهَوْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «كان».
وقرأ العامَّةُ «بقيَّة» بفتح الباء وتشديد الياءِ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها صفةٌ على «فَعِيلة» للمبالغةِ، بمعنى «فاعل» ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره: «بقيَّة» في قولهم: فلان بقيةُ النَّاس، وبقيةُ الكرام؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة: [البسيط]
٣٠٤٠ - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ....................
وفي المثل: «في الزَّويا خبايا، وفي الرِّجالِ بَقايَا».
596
والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه. والمعنى: فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله.
وقرأت فرقةٌ «بَقِيَة» بتخفيفِ الياءِ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك: شَجِيَة من شَجِي، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي: باقية وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة «بُقْية» بضمِّ الفاء وسكون العين.
وقُرِئَ «بَقْيَة» على المرَّة من المصدر. و «فِي الأرْضِ» متعلقٌ بالفسادِ، والمصدرُ المقترن ب «أل» يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من «الفَسادِ».

فصل


المعنى: فهلاَّ «كان مِنَ القُرونِ» التي أهلكناهم، «مِن قَبْلكُمْ» أولُوا تمييز وقيل: أولُوا طاعة وقيل: أولُوا خير، يقال: فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة. و «ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ» أي: يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ، ومعناه جحداً، أي: لم يكن فيهم أولُو بقية.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى.
قال الزمخشريُّ: معناه: ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال: فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ: إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم، كما تقولُ: هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن. فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد، وهو معنَّى فاسدٌ.
والثاني: أن يكون متًّصِلاً، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب، وإن كان غير النصب أولى.
597
قال الزمخشري: فإن قلت: في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم، فكأنَّهُ قيل: ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد.
ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ «إلاَّ قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ، كقوله: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦].
وقال الفراء: المعنى: فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً.
ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و «مِنْ» في: «مِمَّنْ أنْجَيْنَا» للتبعيض. ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال: حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم، بدليل قوله: ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥].
فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «: قَلِيلاً».
وعلى الثاني: يتعلق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: ﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ﴾ هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال.
قرأ العامَّةُ: «اتَّبَعَ» بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ، وياءٍ، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ.
والثاني: أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت: علام عطف قوله: ﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ ؟ قلت: إن كان معناه: واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم، فهو عطفٌ على «نُهُوا» وإنْ كان معناه: واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ، فالواو للحال، كأنَّه قيل: أنْجَيْنَا القليل، وقد اتتبع الذين ظلموا جزاءهم.
فجوز في قوله: «مَا أتْرِفُوا» وجهين:
أحدهما: أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ، و «مَا» واقعة على الشَّوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم.
والثاني: أنَّهُ على حذف مضاف، أي: جزاء ما أتْرِفُوا، ورتَّب على هذين الوجهين القول في «واتَّبَع».
598
والإتْراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة، يقال: صبيُّ مترفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل: التَّرفُّهُ: التوسُّع في النِّعمةِ.
وقال مقاتلٌ: «أتْرِفُوا» خُوَّلُوا.
وقال الفراء: عُوِّدُوا، أي: واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم، وإيثار اللذات على الآخرة.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو جعفر «وأتْبعَ» بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمعفول، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف، أي: أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه.
و «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في» فيه «عليه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: جزاء إترافهم.
قوله»
وكانُوا مُجْرمينَ «كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن تكون عطفاً على»
أْرِفُوا «إذا جعلنا» ما «مصدرية، أي: اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين.
والثاني: أنه عطفٌ على»
اتَّبَعَ «، أي: اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك، لأنَّ تابعَ الشَّواتِ مغمورٌ بالآثامِ.
الثالث: أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان:»
ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو؛ لأنه آخرُ آيةٍ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر «.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ﴾ الآية.
في»
لِيُهْلِكَ «الوجهان المشهوران، وهما: زيادة اللام في خبر:» كان «دلالةً على التَّأكيد - كما هو رأي الكوفيين - أو كونها متعلقة بخبر» كان «المحذوف، وهو مذهبُ البصريي، و» بِظُلْمِ «متعلق ب» يُهْلِكَ «والباءُ سببيةٌ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل» لِيُهْلِكَ «، وقوله» وأهْلُهَا مُصْلِحُون «جملة حالية.

فصل


قيل: المرادُ بالظلم هنا: الشرك، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
599
والمعنى: أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، ولهذا قال الفقهاءُ: إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ ولاشح، ويقالُ: إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال، لما حكى الله تعالى عنهم من إياءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة: إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم.
وقيل: معنى الآية: أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه، وهم مُصْلِحثونَ في أعملاهم، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات، وهذا بمعنى قول المعتزلة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ كلهم على دين واحدٍ، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ على أديان شتَّى، من يهوديِّ، ونصرانيِّ، ومجوسيِّ، ومشركِ، ومسلم، وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ ظاهرهُ أنه متَّصلٌ، وهو استثناءٌ من فاعل «يَزالُون»، أو من الضَّمير في «مُختلفينَ» وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن من رحمَ، لم يختلفُوا، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك.
قوله: «ولذلِكَ» في المشار إليه أقوال كثيرة.
أظهرها: أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب «مُخْتلفينَ» ؛ كقوله: [الوافر].
٣٠٤١ - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
رجع الضَّمير في «إليه» على السَّفة «، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خلقهم، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.
وقيل: المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله:»
رَحِمَ «وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك.

فصل


قال الحسنُ وعطاء: وللاختلاف خلقهم قال أشهب: سألتُ مالكاً رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذه الاية فقال: خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير. قال أبو عبيدة: الذي
600
أختاره قول من قال: خلق فريقاً لرحمته، وفريقاُ لعذابه، ويُؤيده قوله تعالى:» وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين «.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً «.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٌ، وقتادة، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: وللرَّحمةِ خلقهم، يعني الذين رحمه وقال الفراء: خلق أهل الرَّحْمةِ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون، وأهل الحقِّ متَّفقُون، فخلق أهل الحق للاتفقا، وأهل الباطل للاختلاف.
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ، قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم لوجوه:
الأول: أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما:
والثاني: لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث: أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
فإن قيل: لو كان المراد، وللرَّحمة خلقهم لقال: ولتك خلقهم، ولم يقل: وللك خلقهم قلنا: إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ، كقوله: ﴿هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ [الكهف: ٩٨] وقوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾ [الأعراف: ٥٦].

فصل


احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّبخلقِ الله تعالى بهذه الآية، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار، فلم يبق إلاَّ أن يقال: تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾
قال القاضي معناه: إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة، والثواب
601
في رَحِمَهُ اللَّهُ بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ بأن يصير من أهل الجنة، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرة السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ.
وأمَّا الثاني - وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلا في حقِّ المؤمن - فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً عل تلك الألطاف، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة غلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعمل عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد، وكون الآخر ليس كذلك، وإنَّما يصح هذا العلم إذاعرف ذلك المعتقد كيف يكون، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ وتم حكم ربك ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ فقوله: «أجْمَعِينَ» تأكيد، والأكثر أن يسبق ب «كُل» وقد جاء هنا دونها.
والجنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاء فيه للمبالغة.
وقيل: الجنَّةُ جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل «كَمْءِ» للجمع، و «كَمْأة» للواحد.
قوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ﴾ الآية.
لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
أحدهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه؛ كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه القصص، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه، وأمكنه الصبر عليه.
602
والفائدة الثانية: قوله ﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ﴾ في نصبه أوجه:
أحدها: أنه مفعولٌ به، والمضاف إليه محذوفٌ، عوض منه التنوين، تقديره: وكلُّ نبأ نقصُّ عليك.
و «مِنْ أنباءِ» بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة.
وقوله: ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من: «كُلاًّ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر: أي: هو ما نُثَبِّتُ، أو منصوبٌ بإضمار أعني.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدر، أي: كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ، و «مِنْ أنباءِ» صفةٌ: أو بيان، و «ما نُثَبتُ» هو مفعول «نَقُصُّ».
الثالث: كما تقدم، إلاَّ أنه يجعل «ما» صلة، والتقدير: وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك، كذا أعربه أبو حيان وقلا: كَهِي في قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣].
الرابع: أن يكون «كُلاًّ» منصوباً على الحال من «ما نُثَبِّتُ» وهي في معنى: «جَمِيعاً» وقيل: بل هي حال من الضمير في «بِهِ» وقيل: بل هي حالٌ من «أنْبَاء» وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه؛ كقوله تعالى: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] في قراءة من نصب «مَطويَّاتٍ» وقول الآخر: [الكامل]
٣٠٤٢ - رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ
والمعنى: وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل، أي: من أخبارهم، وأخبار الأمم نقصها عليك؛ لنثبت به فؤادك؛ لنزيدك يقيناً، ونقوي قلبك، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه.
﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق﴾ قال الحسنُ وقتادةُ: في هذه الدنيا وقال الأكثرون: في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور.
وقيل: في هذه الآية.
والمراد به «الحق» البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة، «مَوْعظةٌ» أي: وجاءتك موعظة «وذكْرى للمُؤمنينَ» والمرادُ ب «الذكرى» الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة.
603
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ ﴾ الآية.
في " لِيُهْلِكَ " الوجهان المشهوران، وهما : زيادة اللام في خبر :" كان " دلالةً على التَّأكيد- كما هو رأي الكوفيين- أو كونها متعلقة بخبر " كان " المحذوف، وهو مذهبُ البصريين، و " بِظُلْمِ " متعلق ب " يُهْلِكَ " والباءُ سببيةٌ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل " لِيُهْلِكَ "، وقوله " وأهْلُهَا مُصْلِحُون " جملة حالية.

فصل


قيل : المرادُ بالظلم هنا : الشرك، قال تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] والمعنى : أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، ولهذا قال الفقهاءُ : إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ والشح، ويقالُ : إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال، لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة : إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم.
وقيل : معنى الآية : أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه، وهم مُصْلِحونَ في أعمالهم، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات، وهذا بمعنى قول المعتزلة.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ كلهم على دين واحدٍ، ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ على أديان شتَّى، من يهوديِّ، ونصرانيِّ، ومجوسيِّ، ومشركِ، ومسلم، وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله :﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ ظاهرهُ أنه متَّصلٌ، وهو استثناءٌ من فاعل " يَزالُون "، أو من الضَّمير في " مُختلفينَ " وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي : لكن من رحمَ، لم يختلفُوا، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك.
قوله :" ولذلِكَ " في المشار إليه أقوال كثيرة.
أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب " مُخْتلفينَ " ؛ كقوله :[ الوافر ]
إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ١
رجع الضَّمير في " إليه " على السَّفه "، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.
وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله :" رَحِمَ " وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس -رضي الله عنهما- : كقوله :﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قولٌ مرجوحٌ ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك.

فصل


قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً -رحمه الله - عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير. قال أبو عبيدة : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته، وفريقاُ لعذابه، ويُؤيده قوله تعالى :" وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".
وقوله صلى الله عليه وسلم :" خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً " ٢.
وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهدٌ، وقتادة، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم، يعني الذين رحمهم٣. وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون، وأهل الحقِّ متَّفقُون، فخلق أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف.
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم لوجوه :
الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما :
والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث : أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
فإن قيل : لو كان المراد، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم، ولم يقل : ولذلك خلقهم قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ، كقوله :﴿ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾ [ الكهف : ٩٨ ] وقوله :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ].

فصل


احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّ بخلقِ الله تعالى بهذه الآية، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾.
قال القاضي٤ معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة، والثواب فيرحمه الله بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ بأن يصير من أهل الجنة، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرى السّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ.
وأمَّا الثاني- وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلها في حقِّ المؤمن- فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن ؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه ؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى ؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعلم عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد، وكون الآخر ليس كذلك، وإنَّما يصح هذا العلم إذا عرف ذلك المعتقد كيف يكون، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ وتم حكم ربك ﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ فقوله :" أجْمَعِينَ " تأكيد، والأكثر أن يسبق ب " كُل " وقد جاء هنا دونها.
والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد، والتاء فيه للمبالغة.
وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل " كَمْءِ " للجمع، و " كَمْأة " للواحد.
١ تقدم..
٢ تقدم..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٤٠) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٤٥) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٤٠٦)..

٤ ينظر: الفخر الرازي ١٧/٦٢..
قوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ ﴾ الآية.
لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
أحدهما : تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى ؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه ؛ كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه، وأمكنه الصبر عليه.
والفائدة الثانية : قوله ﴿ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ ﴾ في نصبه أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به، والمضاف إليه محذوفٌ، عوض منه التنوين، تقديره : وكلُّ نبأ نقصُّ عليك.
و " مِنْ أنباءِ " بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة.
وقوله :﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من :" كُلاًّ " وأن يكون خبر مبتدأ مضمر : أي : هو ما نُثَبِّتُ، أو منصوبٌ بإضمار أعني.
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدر، أي : كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ، و " مِنْ أنباءِ " صفةٌ : أو بيان، و " ما نُثَبتُ " هو مفعول " نَقُصُّ ".
الثالث : كما تقدم، إلاَّ أنه يجعل " ما " صلة، والتقدير : وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك، كذا أعربه أبو حيان وقال : كَهِي في قوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣ ].
الرابع : أن يكون " كُلاًّ " منصوباً على الحال من " ما نُثَبِّتُ " وهي في معنى :" جَمِيعاً " وقيل : بل هي حال من الضمير في " بِهِ " وقيل : بل هي حالٌ من " أنْبَاء " وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه ؛ كقوله تعالى :﴿ والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] في قراءة من نصب " مَطويَّاتٍ " وقول الآخر :[ الكامل ]
رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ١
والمعنى : وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل، أي : من أخبارهم، وأخبار الأمم نقصها عليك ؛ لنثبت به فؤادك ؛ لنزيدك يقيناً، ونقوي قلبك، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه.
﴿ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق ﴾ قال الحسنُ وقتادةُ : في هذه الدنيا٢. وقال الأكثرون : في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور.
وقيل : في هذه الآية.
والمراد به " الحق " البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة، " مَوْعظةٌ " أي : وجاءتك موعظة " وذكْرى للمُؤمنينَ " والمرادُ ب " الذكرى " الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة.
١ البيت للنابغة الذبياني. ينظر: ديوانه ص ٥٥ وجمهرة اللغة ص٨٢٥ والمقاصد النحوية ٣/١٧٠ وشرح الأشموني ١/٢٥٢ والخزانة ٦/٣٣٣ والدر المصون ٤/١٤٩..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٤٤) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٦٤٦) عن قتادة وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وذكره أيضا (٣/٦٤٦) عن الحسن وعزاه إلى أبي الشيخ..

ثم قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾.
وهذا تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنَّه تعالى لمَّا بالغ في الإعذار والإنذار والتَّرغيب والتَّرهيب، أبتع ذلك بأن قال للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة: ﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾ وهذا عين ما حكاه عن شعيب - عليه السلام - أنه قال لقومه ﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: ٩٣]. والمعنى: افعلوا كلَّ ما تقدرُون عليه في حقِّي من الشر، فنحن أيضاً عاملون.
وقوله: «اعملُوا» وإن كان صيغته صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد به التَّهديد، كقوله: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٤] وكقوله: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] «وانتَظِرُوا» ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وانتَظِرُوا» اهلاك ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» لكم العذاب وقيل: «انتظرُوا» ما يحلُّ بنا من رحمة الله «إنَّا مُنتضِرُونَ» ما يحل بكم من نقمته.
ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال: ﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ [هود: ١٢٣] أي: علم ما غاب من العبادِ، أي: أن علمه نافذ في جمعي الكفليات والجزئيات، والمعدومات، والموجودات ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه﴾ في المعاد.
قرأ نافع وحفص «يُرجَع» بضم الياءِ وفتح الجيم، أي: يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي: يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر ﴿فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ وثق به ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص «تَعْمَلُون» بالخطاب، لأنَّ قبله «اعْمَلُوا» والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: ﴿لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.
604
قال كعبُ الإحبار: خاتمة التَّوارة خاتمة سورة هود روى عكرمة عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا رسول الله قد شبت، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «شَيَّبتْنِي هُودٌ والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتَساءَلُون، وإذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها الحاقَّةُ، والواقعةُ، وعمَّ يتساءَلُون، وهل أتاكَ حديث الغاشيةِ».
قال الحكيم: الغزع يورث الشَّيْب، وذلك أنَّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسدِ، وتحت كُلِّ شعره منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزغُ رطوبته يبست المنابع؛ فَيبس الشَّعر وابيض، كما ترى الزَّرعَ بسقائه، فإذا ذهب سقاءهُ يبس فابيض، وإنَّما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبْس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله بالأهوال؛ فتبل وينشَّف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، ومنه تشيب؛ قال تعالى:
﴿يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾ [المزمل: ١٧] وقال الأصمُّ: ما حلَّ بهم من عاجل أمر الله، فأهلُ اليقين إذا اتلوها تراءى على قلوبهم من ملكهِ وسلطانهِ البطش بأعدائهِ، فلو ماتُوا من الفزع لحق له، ولكن الله - تبارك وتعالى - يلطف بهم في الأيان حتَّى يقرؤوا كلامهُ، وكذلك لآخر آية في سورة هود، فإنَّ تلاوة هذه السُّورة ما يكشف لقلوب العارفين سلطانهُ وبطشهُ ما تذهل منه النفوس، وتشيب منه الرءوس.
قال القرطبيُّ: وقيل: إنِّ الذي شَيَّبَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من سورة «هود» قوله تعالى: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ [هود: ١١٢] وقال عمرو بن أبي عمرو العبادي: قال يزيد بن أبان رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام فقرأت عليه سورة هود، فلمَّا ختمتها قال لي «يا يزيدُ قرأت فأيْنَ البُكاء» واسند أبو محمد الدَّارمي في مسنده عن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقْرؤُوا سُورة هود يوم الجمعة» والله أعلم.
605
سورة يوسف
3
" وانتَظِرُوا " ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف " إنَّا مُنتَظِرُونَ " ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- :" وانتَظِرُوا " الهلاك ف " إنَّا مُنتَظِرُونَ " لكم العذاب وقيل :" انتظرُوا " ما يحلُّ بنا من رحمة الله " إنَّا مُنتضِرُونَ " ما يحل بكم من نقمته١.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٨/٦٥) عن ابن عباس..
ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال :﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾ [ هود : ١٢٣ ] أي : علم ما غاب من العبادِ، أي : أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات، والمعدومات، والموجودات ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه ﴾ في المعاد.
قرأ نافع١ وحفص " يُرجَع " بضم الياءِ وفتح الجيم، أي : يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي : يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر. ﴿ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ وثق به. ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص " تَعْمَلُون " بالخطاب، لأنَّ قبله " اعْمَلُوا " والباقون٢ بالغيبة رجوعاً على قوله :﴿ لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.
١ ينظر: السبعة ٣٤ والحجة ٤/٣٨٨ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٦ وحجة القراءات ٣٥٣ والإتحاف ٢/١٣٧ والمحرر الوجيز ٣/٢١٧ والبحر المحيط ٥/٥٧٤ والدر المصون ٤/١٤٩..
٢ ينظر: السبعة ٣٤٠ وما بين معقوفين فيه والحجة ٤/٣٨٩ وإعراب القراءات السبع ١/٢٩٦ وحجة القراءات ٣٥٣ وقرأ بها أيضا أبو جعفر ويعقوب في الإتحاف ٢/١٣٧ وقرأ بها الأعرج والحسين وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وقتادة والجحدري واختلف عن الحسن وعيسى ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢١٧ والبحر المحيط ٥/٢٧٥ وتنظر القراءة في الدر المصون ٤/١٤٩..
Icon