تفسير سورة النبأ

اللباب
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثة وسبعون كلمة، وسبعمائة وسبعون حرفا.

مكية، وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثة وسبعون كلمة، وسبعمائة وسبعون حرفا. قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ قد تقدم أن البزي يدخل هاء السكت عوضاً من ألف «ما» الاستفهامية في الوقف.
ونقل عن ابن كثير أنه يقرأ «عمه» - بالهاء - وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عبد الله، وأبي، وعكرمة وعيسى: «عمّا» بإثبات الألف، وقد تقدم أنه يجوز ضرورة وفي قليل من الكلام؛ ومنه قوله: [الوافر]
٥٠٦٧ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمنِي لَئيمٌ كَخِنْزيرٍ تَمرَّغَ في رَمَادِ
وتقدم أن الزمخشري جعل منه ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ [يس: ٢٧] في «يس»، و «عم» فيه قولان:
أظهرهما: أنه متعلق ب «يَتَساءَلون».
قال أبو إسحاق: الكلام تام في قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب، فيقول: يتساءلون عن النبأ العظيم فاقتضى إيجاز القرآن، وبلاغته أن يبادر المحتجّ بالجواب الذي يقتضيه الحال والمجاورة اقتضاءً بالحجة، وإسراعاً إلى موضع قطعهم.
90
والثاني: أنه متعلق بفعل مقدر، ويتعلق «عن النبأ العظيم» بهذا الفعل الظاهر.
قال الزمخشري: «وعن ابن كثير: أنه قرأ» عمّه «بهاء السكت، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف، ويبتدئ ب» يتساءلون عن النبأ العظيم «على أن يضمر» يتساءلون «؛ لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسر».

فصل في لفظ عم


قال ابن الخطيب: «عم» أصله: «عن ما» ؛ لأنه حرف جر دخل على «ما» الاستفهامية.
قال حسان بن ثابت: [الوافر]
٥٠٦٨ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ..............................
والاستعمال الكثير على الحذف، وعلى الأصل قليل، وذكروا في سبب الحذف وجوهاً:
أحدها: قال الزجاج: لأن الميم تشرك النون في الغُنَّة في الأنف فصارا كالحرفين المتماثلين. وثانيها: قال الجرجاني: أنهم إذا وضعوها في استفهام حذفوا ألفها تفرقةً بينها وبين أن يكون اسماً، كقولهم: فيمَ ولِمَ وبِمَ وحتام.
وثالثها: قالوا: حذفت الألف لاتصال «ما» بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه لينبئ عن شدة الاتصال.
ورابعها: حذف للتخفيف في الكلام، فإنه لفظ كثير التَّرداد على اللسان.

فصل في أن السائل والمجيب هو الله تعالى


قال ابن الخطيب: قوله تعالى ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ سؤال، وقوله: «عن النبأ العظيم» جواب، والسائل والمجيب هو الله تعالى، وذلك يدلّ على علمه بالغيب، بل بجميع المعلومات، وفائدة ذكره في معرض السؤال والجواب؛ لأنه أقرب إلى التفهيم والإيضاح، ونظيره قوله تعالى: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].

فصل في لفظ ما


«ما» لفظة وضعتْ لطلب ماهيَّات الأشياء، وحقائقها، تقول: ما الملك؟ وما
91
الروح؟ وما الجن؟ والمراد طلب ماهياتها، وشرح حقائقها، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً، ثم إنَّ الشيء العظيم الذي يكون لفظه مزيَّة يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، فحصل بين الشيء المطلوب، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه، فلذلك سُئل عنه بما استعاره، وكأنه مجهول، ومنه
﴿الحاقة مَا الحآقة﴾ [الحاقة: ١، ٢] ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ [المطففين: ٨]، و ﴿مَا العقبة﴾ [البلد: ١٢] وشبهه.

فصل


قال الفراء: السؤال هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل، وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به، وإن لم يكن بينهم سؤال، قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ [الصافات: ٥٠، ٥١] الآية، وهذا يدل على التحدث.

فصل في نزول الآية


والضمير في ﴿يَتَسَآءَلُونَ﴾ ل «قريش».
روى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كانت قريش تجلس لمَّا نزل القرآن، فتتحدث فيما بينهم، فمنهم المصدقُ، ومنهم المكذبُ به، فنزلت ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾.
وقيل: «عم» قسم، فشدد المشركون أين يختصمون، بدليل قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ: ٤، ٥] وهذا تهديد، والتهديد لا يليق إلا بالكفار.
فإن قيل: فما تصنع بقوله: ﴿الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ مع أنَّ الكفَّار كانوا متفقين في إنكار الحشر؟ فالجواب: لا نسلم اتفاقهم في إنكار الحشر؛ لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني، وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني، فمنهم من كان شاكَّا فيه لقوله: ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً﴾ [فصلت: ٥٠] ﴿وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾ [فصلت: ٥٠].
ومنهم من ينكرهُ، ويقول: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩].
ومنهم من يُقرُّ بهِ لكنه ينكر نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حصل اختلافهم.
وأيضاً فهبْ أنَّهم كانوا منكرين له، لكن لعل اختلافهم في كيفية إنكاره، فمنهم من أنكر؛ لإنكاره الصانع المختار، ومنهم من ينكره؛ لاعتقاده أنَّ إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها، والقادر المختار إنما يكون قادراً على الممكن في نفسه.
وقيل: الضمير في «يتَساءَلُونَ» هم الكفَّار والمؤمنون كانوا جميعاً يتساءلون عنه،
92
فأما المسلمُ فيزداد يقيناً وبصيرةً في دينه، وأمَّا الكافر فاستهزاءٌ وسخريةً، وعلى سبيل إيراد الشكوك، والشُّبهاتِ.
قال ابن الخطيب: ويحتملُ أنهم يسألون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون: ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة؟
قوله: ﴿عَنِ النبإ﴾ يجوز فيه ما جاء في قوله تعالى: ﴿لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ [المرسلات: ١٢] في البدليَّة، والتعلُّق بفعلٍ مقدرٍ، ويزيد عليه ها هنا أنَّه يتعلق بالفعل الظاهر، ويتعلق ما قبله بمضمرٍ كما تقدم عن الزمخشري.
وقال ابن عطية: قال أكثر النحاة: «عن النَّبأ العظيم» يتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ» الظاهر كأنه قال: لم يتساءلون عن النبأ، وقوله «عَمَّ» هو استفهام توبيخ وتعظيم.
وقال المهدوي: «هن» ليس تتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ» الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزمُ دخول حرف الاستفهام، فيكون «أعن النبأ العظيم» ؟ كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرنا امتناع تعلقه ب «يتساءلون» الذي في التلاوة، وإنما يتعلق ب «يتساءلون» آخر مضمر، وحسُن ذلك لتقدم «يَتَسَاءَلُونَ».
قال القرطبي: «وذكر بعضهم أن الاستفهام في قوله:» عن «مكرر إلا أنَّه مضمر كأنه قال:» عمَّ يَتَساءَلُون أعنِ النَّبَأ العَظيمِ «، فعلى هذا يكون متصلاً بالآية الأولى، والنبأ العظيم، أي: الخبر الكبير،» الذي هم فيه مختلفون «أي: يخالف فيه بعضهم بعضاً فيصدقُ واحدٌ ويكذبُ آخر».
قوله: ﴿مُخْتَلِفُونَ﴾ خبر «هم» والجار متعلق ب «هم»، والموصول يحتمل الحركات الثلاث إتباعاً وقطعاً رفعاً ونصباً.

فصل في المراد بهذا النبأ


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «النَّبَأُ» هو القرآن، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم، وكانوا يختلفون فيه، فجعله بعضهم سحراً، وبعضهم شعراً، وبعضهم قال: أساطيرُ الأولين.
وقال قتادة: هو البعث بعد الموت اختلفوا فمصدِّق ومكذِّب، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً﴾ [النبأ: ١٧].
93
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه أَمْرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنه لما بعث سأله اليهود عن أشياء كثيرة، فأخبره الله باختلافهم، وأيضاً فجعل الكفار يتساءلون فيما بينهم، ما هذا الذي حدث؟ فأنزل الله - تعالى - «عَمَّ يتسَاءَلُون» وذلك أنَّهُم عجبُوا من إرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال تعالى: ﴿بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: ٢]، وعجبوا أن جاءهم بالتوحيد أيضاً كما قال تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥]، فحكى الله - تعالى - عن مسألة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله: «عم يتساءلون».
94
قوله :﴿ عَنِ النبإ ﴾ يجوز فيه ما جاء في قوله تعالى :﴿ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴾ [ المرسلات : ١٢ ] في البدليَّة، والتعلُّق بفعلٍ مقدرٍ، ويزيد عليه هاهنا أنَّه يتعلق بالفعل الظاهر، ويتعلق ما قبله بمضمرٍ كما تقدم عن الزمخشري.
وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة :«عن النَّبأ العظيم » يتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ » الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ، وقوله «عَمَّ » هو استفهام توبيخ وتعظيم.
وقال المهدوي :«هن » ليس تتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ » الذي في التلاوة ؛ لأنه كان يلزمُ دخول حرف الاستفهام، فيكون «أعن النبأ العظيم » ؟ كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرنا امتناع تعلقه ب «يتساءلون » الذي في التلاوة، وإنما يتعلق ب «يتساءلون » آخر مضمر، وحسُن ذلك لتقدم «يَتَسَاءَلُونَ ».
قال القرطبي١ :«وذكر بعضهم أن الاستفهام في قوله :«عن » مكرر إلا أنَّه مضمر كأنه قال :«عمَّ يَتَساءَلُون أعنِ النَّبَأ العَظيمِ »، فعلى هذا يكون متصلاً بالآية الأولى، والنبأ العظيم، أي : الخبر الكبير.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١١..
﴿ الذي هم فيه مختلفون ﴾ أي : يخالف فيه بعضهم بعضاً فيصدقُ واحدٌ ويكذبُ آخر ».
قوله :﴿ مُخْتَلِفُونَ ﴾ خبر «هم » والجار متعلق ب «هم »، والموصول يحتمل الحركات الثلاث إتباعاً وقطعاً رفعاً ونصباً.

فصل في المراد بهذا النبأ


قال ابن عباس - رضي الله عنه - «النَّبَأُ » هو القرآن١، قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾، فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم، وكانوا يختلفون فيه، فجعله بعضهم سحراً، وبعضهم شعراً، وبعضهم قال : أساطيرُ الأولين.
وقال قتادة : هو البعث بعد الموت اختلفوا فمصدِّق ومكذِّب، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً ﴾٢ [ النبأ : ١٧ ].
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لما بعث سأله اليهود عن أشياء كثيرة، فأخبره الله باختلافهم، وأيضاً فجعل الكفار يتساءلون فيما بينهم، ما هذا الذي حدث ؟ فأنزل الله - تعالى - «عَمَّ يتسَاءَلُون » وذلك أنَّهُم عجبُوا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى :﴿ بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ ق : ٢ ]، وعجبوا أن جاءهم بالتوحيد أيضاً كما قال تعالى :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ]، فحكى الله - تعالى - عن مسألة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله :«عم يتساءلون ».
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٨)، وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٩٦)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٨)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
قوله: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ ؛ التكرار للتوكيد.
وزعم ابن مالك: أنَّه من باب التوكيد اللفظي، ولا يضر توسّط حرف العطف، والنحويون يأبون هذا، ولا يسمونه إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد، والعامة: على الغيبة في الفعلين.
والحسن ابن دينار وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما.
والضحاك: قرأ الأول كالحسن، والثاني كالعامة. والغيبة والخطاب واضحان.

فصل في لفظ كلا


قال القفالُ: «كلا» لفظة وضعت للردع، والمعنى: ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم، إنه باطل، وإنه لا يكون.
وقيل: معناه: حقَّا، ثم إنه - تعالى - كرر الردع والتهديد، فقال سبحانه ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، وأما تكرير الردع، فقيل: للتأكيد، ومعنى «ثُمَّ» الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد.
وقيل: ليس بتكرير.
94
قال الضحاك: الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين أي: سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
وقال القاضي: يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه، وبالثاني: سيعلمون العذاب.
وقيل: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ ما الله فاعل بهم يوم القيامة ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم.
قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً﴾ لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، وإذا ثبت هذان الأصلان، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا وجه النظم.
قوله: «مِهَاداً». مفعول ثان؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز ان يكون بمعنى الخلق، فتكون «مِهَاداً» حالاً مقدرة.
وقرأ العامة: «مهاداً».
ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهداً»، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة «طه»، وأن الكوفيين قرأوا «مهداً» في «طه» و «الزخرف» فقط، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة.
قوله تعالى: ﴿والجبال أَوْتَاداً﴾، والكلام عليها كالكلام في «مِهَاداً» في المفعوليَّة والحاليَّة، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً، أي مثبتات.
والمهاد: الوطاء، وهو الفراش، لقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ [البقرة: ٢٢]، ومعنى «مَهْداً» أي: كمهدِ الصَّبي، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه، و «أوتاداً» أي: لتسكن ولا تميل بأهلها.
قوله: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً﴾. أي: أصنافاً، ذكراً وأنثى.
وقيل: ألواناً.
95
وقيل: يدخل كل زوجٍ بهيج، وقبيح، وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً﴾ الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ، ومعناه: راحةً لأبدانكم، ومنه السبتُ أي: يوم الراحة، أي: قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا فيه شيئاً.
وأنكر ابن الأنباري هذا، وقال: لا يقال للراحة: سباتاً.
وقيل: أصله التمدُّد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلَّته وأرسلته، فالسُّبات كالمد، ورجل مسبوتُ الخلق، أي ممدود، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتاً.
ةقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتاً، أي: حلقه، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس، وعن الاشتغالِ، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح، ويقال: سيرٌ سبتٌ، أي سهلٌ ليِّن.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً﴾. فيه استعارة حسنة؛ وعليه قول المتنبي: [الطويل]
٥٠٦٩ - وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِندكَ من يَدٍ تُخَبِّرُ أنَّ المانَويَّة تَكذِبُ
والمعنى: يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ. قاله الطبري قال القفال: أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان، ويتغطّى به، فيكون ذلك مُغَطِّياً، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه.
وقال ابن جبير والسدي: أي: أسْكنَّاكُمْ.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾. فيه إضمار، أي: وقت معاش، فيكون مفعولاً، وظرفاً للتبعيض، أي: منصرفاً لطلب المعاش، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف، يقال: عاش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار.
قوله تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾. أي: سبع سماوات محكمات، أي: محكمة الخلق وثيقة البنيان.
96
وشداداً: جمع شديدة، أي: قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان لا فطور فيها ولا فروج، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢].
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾. أي: وقَّاداً، وهو الشمس، و «جَعَلَ» هنا بمعنى «خلق» ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد، والوهَّاج: المُضيء المتلألئ، من قولهم: وهج الجوهر أي: تلألأ.
وقيل: الوهَّاج: الذي له وهج، يقال: وَهَجَ يَوْهَجُ، ك «وَحَلَ يَوحَلُ»، «ووهَجَ يَهِجُ» ك «وَعَدَ يَعِدُ» وهجاً.
قال ابن عباس: وهَّاجاً: منيراً أي: مُتلألِئاً.
قوله: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات﴾. يجوز في «من» أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية، وأن تكون للسببية، وتدل على قراءة عبد الله بن زيد وعكرمة وقتادة: «بالمعصرات» بالباء بدل «من»، وهذا على الخلاف في «المعصرات» ما المراد بها، فعن ابن عباس: أنها السَّحاب، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك، أي: السحاب التي تنعصر بالماء، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ، يقال: أعْصرتِ السَّحابُ، أي: جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا جاز له أن يجز؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم: [الرجز]
٥٠٧٠ - تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا
ولولا تأويل «أعْصرَتْ» بذلك لكان ينبغي أن تكون «المُعصَرات» - بفتح الصَّاد - اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها.
وقال الزمخشري: وقرأ عكرمة: «بالمعصرات».
وفيه وجهان:
أحدهما: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها، فهو بها كما تقول: أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده.
وعن ابن عباس ومجاهد: «المعصرات» الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب.
97
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب، وكأنَّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر، ويمكن منه.
فإن قلت: فما وجه من قرأ «من المعصراتِ» وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطرُ لا ينزل الرياح؟.
قلت: الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب، وتدرُّ أخلافه، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء: إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ.
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.
فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات» بمعنى المُغيثَات، والعاصر المغيث لا المعصر، يقال: عصره فاعتصر.
قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرت، أي: حان لها أن تعصر، أي: تغيث.
يعني أن «عصر» بمعنى الإغاثة: ثلاثي، فكيف قال هنا: «معصرات» بهذا المعنى وهو من الرباعي؟.
فأجابه عنه بما تقدم: يعني: أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء.
قال القرطبي: «ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى: وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات ﴿مَآءً ثَجَّاجاً﴾، وأصح الأقوال أن المعصرات: السحاب، كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان» بالمعصرات «لكان الريح أولى».
وفي «الصِّحاح» : والمعصرات: السحائب تعصر بالمطر، وأعصر القوم أي: مطروا، ومنه قراءة بعضهم: ﴿وفيه تُعْصَرُون﴾ [يوسف: ٤٩]، والمعصر: الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ، والمعصر: السحابة التي حان لها أن تمطر، فقد أعصرت، ومنه «العَصَرُ» - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرُ - بالضم - أيضاً: الملجأ، وأنشد أبو زيد: [الخفيف]
٥٠٧١ - صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
قوله: ﴿مَآءً ثَجَّاجاً﴾ : الثَّجُّ: الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ.
وفي الحديث: «أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ».
فالعَجُّ: رفع الصوت بالتلبية.
98
والثَّجُّ: إراقة دماءِ حجج الهدي، يقال: ثجَّ الماء بنفسه، أي: انصبَّ، وثَجَجْتُه أنا: أي: صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً، فيكون لازماً ومتعدياً؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٥٠٧٢ - إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ
وقرأ الأعمش: «ثَجَّاحاً» - بالحاء المهملة - أخيراً.
قال الزمخشري: «ومثاجح الماء: مصابُّه، والماء يثجح في الوادي».
وكان ابن عبَّاس مثجًّا، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته.
قوله تعالى: ﴿لِّنُخْرِجَ بِهِ﴾ أي: بذلك الماء «حَبَّا» كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك.
«ونَبَاتاً» من الإنبات، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.
«وجَنَّاتٍ» أي: بساتين «ألْفَافاً» أي: مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها.
وفي الألفاف وجوه:
أحدها: أنه لا واحد له.
قال الزمخشري: «ألْفافاً» : مُلتفَّة، ولا واحد له ك «الأوزاع» والأخْيَاف.
والثاني: أنَّه جمعُ «لِفٍّ» - بكسر اللام - فيكون نحو: «سِرّ وأسرار» ؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ: [الرمل]
٥٠٧٣ - جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ
وهذا قول أكثر أهل اللغة، ذكره الكسائي.
الثالث: أنه جمع «لَفِيفٍ». قاله الكسائي، وأبو عبيدة ك «شريف» و «أشراف»، و «شهيد» و «أشهاد» ؛ قال الشاعر: [الطويل]
٥٠٧٤ - أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ
الرابع: أنَّه جمعُ الجميع، وذلك أنَّ الأصل: «لُفّ» في المذكر، و «لَفَّاء» في المؤنث ك «أحْمَر وحَمْرَاء»، ثُمَّ جمع «لُف» على «ألفَاف» إذ صار «لف» زنة «فعل» جمع جمعه قاله ابن قتيبة.
إلا أنَّ الزمخشري قال: وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو: «خضر وأخضار، وحمر وأحمار».
99
قال شهاب الدين: كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على «أفْعَال» إذ لا يقال: «خضر ولا حمر»، وإن كانا جمعين ل «أحمر وحمراء، وأخضر وخضراء»، وهذا غير لازم؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات، كما رأيت من أن «لفَّاء» صار يضارع «فَعْلاء»، ولهذا امتنعوا من تكسير «مفَاعِل ومفَاعِيْل» لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه.
الخامس: قال الزمخشريُّ: «ولو قيل: هو جمع:» ملتفّة «بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً».
وهذا تكلُّف لا حاجة إليه.
وأيضاً: فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير، يقولون: تصغير الترخيم بحذف الزوائد، وفي المصادر يقولون: هذا المصدر على حذف الزوائد.
قال القرطبي: ويقال: شجرة لفَّاء، وشجر لفٌّ، وامرأة لفَّاء، أي: غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم.
وقيل: التقدير: ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.
100
ثم إنه - تعالى- كرر الردع والتهديد فقال سبحانه ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، وأما تكرير الردع، فقيل : للتأكيد، ومعنى «ثُمَّ » الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد.
وقيل : ليس بتكرير.
قال الضحاك : الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين أي : سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم١.
وقال القاضي : يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه، وبالثاني : سيعلمون العذاب.
وقيل :﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ ما الله فاعل بهم يوم القيامة ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٩٧)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٩)، عن الضحاك..
قوله :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً ﴾ لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة ؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، وإذا ثبت هذان الأصلان، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا وجه النظم.
قوله :«مِهَاداً ». مفعول ثان ؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق، فتكون «مِهَاداً » حالاً مقدرة.
وقرأ العامة :«مهاداً ».
ومجاهد وعيسى١ وبعض الكوفيين «مهداً »، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة «طه »، وأن الكوفيين قرأوا «مهداً » في «طه » و«الزخرف » فقط، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة.
١ ينظر: الوجيز ٥/٤٢٤، والبحر المحيط ٨/٤٠٣، والدر المصون ٦/٤٦٢..
قوله تعالى :﴿ والجبال أَوْتَاداً ﴾، والكلام عليها كالكلام في «مِهَاداً » في المفعوليَّة والحاليَّة، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً، أي مثبتات.
والمهاد : الوطاء، وهو الفراش، لقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]، ومعنى «مَهْداً » أي : كمهدِ الصَّبي، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه، و «أوتاداً » أي : لتسكن ولا تميل بأهلها.
قوله :﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ﴾. أي : أصنافاً، ذكراً وأنثى.
وقيل : ألواناً.
وقيل : يدخل كل زوجٍ بهيج، وقبيح، وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾ الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ، ومعناه : راحةً لأبدانكم، ومنه السبتُ أي : يوم الراحة، أي : قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا فيه شيئاً.
وأنكر ابن الأنباري هذا، وقال : لا يقال للراحة : سباتاً.
وقيل : أصله التمدُّد، يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلَّته وأرسلته، فالسُّبات كالمد، ورجل مسبوتُ الخلق : أي ممدود، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتاً.
قيل : أصله القطع، يقال : سبت شعره سبتاً، أي : حلقه، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس، وعن الاشتغالِ، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح، ويقال : سيرٌ سبتٌ، أي سهلٌ ليِّن.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً ﴾. فيه استعارة حسنة ؛ وعليه قول المتنبي :[ الطويل ]
٥٠٦٩- وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِندكَ من يَدٍ تُخَبِّرُ أنَّ المانَويَّة تَكذِبُ١
والمعنى : يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ. قاله الطبري قال القفال٢ : أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان، ويتغطّى به، فيكون ذلك مُغَطِّياً، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه.
وقال ابن جبير والسدي : أي : أسْكنَّاكُمْ.
١ ينظر ديوان ٢/٢٢٩، والكشاف ٤/٦٨٥، والدر المصون ٦/٤٦٢..
٢ ينظر الفخر الرازي ٣١/٧..
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾. فيه إضمار، أي : وقت معاش، فيكون مفعولاً، وظرفاً للتبعيض، أي : منصرفاً لطلب المعاش، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف، يقال : عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار.
قوله تعالى :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾. أي : سبع سماوات محكمات، أي : محكمة الخلق وثيقة البنيان.
وشداداً : جمع شديدة، أي : قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان١ لا فطور فيها ولا فروج، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ].
١ في ب: الزمان..
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ﴾. أي : وقَّاداً، وهو الشمس، و«جَعَلَ » هنا بمعنى «خلق » ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد، والوهَّاج : المُضيء المتلألئ، من قولهم : وهج الجوهر أي : تلألأ.
وقيل : الوهَّاج : الذي له وهج، يقال : وَهَجَ يَوْهَجُ، ك «وَحَلَ يَوحَلُ »، «ووهَجَ يَهِجُ » ك «وَعَدَ يَعِدُ » وهجاً.
قال ابن عباس : وهَّاجاً : منيراً أي : مُتلألِئاً١.
١ أخرجه الطبري في "تفسير" (١٢/٣٩٨)، عن ابن عباس بمعناه وعن مجاهد مثله.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٩)، وعزاه إلى أبي الشيخ في "العظمة"..

قوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات ﴾. يجوز في «من » أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية، وأن تكون للسببية، وتدل على قراءة عبد الله١ بن زيد وعكرمة وقتادة :«بالمعصرات » بالباء بدل «من »، وهذا على الخلاف في «المعصرات » ما المراد بها، فعن ابن عباس : أنها السَّحاب، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك، أي : السحاب التي تنعصر بالماء، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ، يقال : أعْصرتِ السَّحابُ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر، كقولك : أجز الزرع، إذا جاز له أن يجز ؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم :[ الرجز ]
٥٠٧٠- تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا٢
ولولا تأويل «أعْصرَتْ » بذلك لكان ينبغي أن تكون «المُعصَرات » - بفتح الصَّاد- اسم مفعول ؛ لأن الرياح تعصرها.
وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة :«بالمعصرات ».
وفيه وجهان :
أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال منها، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده.
وعن ابن عباس ومجاهد :«المعصرات » الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب.
وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب، وكأنَّ السماوات يعصرن، أي : يحملن على العصر، ويمكن منه.
فإن قلت : فما وجه من قرأ «من المعصراتِ » وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطرُ لا ينزل الرياح ؟.
قلت : الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب، وتدرُّ أخلافه، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء : إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ.
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.
فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات » بمعنى المُغيثَات، والعاصر المغيث لا المعصر، يقال : عصره فاعتصر.
قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت، أي : حان لها أن تعصر، أي : تغيث.
يعني أن «عصر » بمعنى الإغاثة : ثلاثي، فكيف قال هنا :«معصرات » بهذا المعنى وهو من الرباعي ؟.
فأجابه عنه بما تقدم : يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء.
قال القرطبي٣ :«ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات ﴿ مَآءً ثَجَّاجاً ﴾، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب، كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان «بالمعصرات » لكان الريح أولى ».
وفي «الصِّحاح »٤ : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر، وأعصر القوم أي : مطروا، ومنه قراءة بعضهم :﴿ وفيه تُعْصَرُون ﴾ [ يوسف : ٤٩ ]، والمعصر : الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر، فقد أعصرت، ومنه «العَصَرُ » - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرُ - بالضم - أيضاً : الملجأ، وأنشد أبو زيد :[ الخفيف ]
٥٠٧١- صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ٥
قوله :﴿ مَآءً ثَجَّاجاً ﴾ : الثَّجُّ : الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ.
وفي الحديث :«أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ »٦.
فالعَجُّ : رفع الصوت بالتلبية.
والثَّجُّ : إراقة دماءِ حجج الهدي، يقال : ثجَّ الماء بنفسه، أي : انصبَّ، وثَجَجْتُه أنا : أي : صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً، فيكون لازماً ومتعدياً ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٥٠٧٢- إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ٧
وقرأ الأعمش٨ :«ثَجَّاحاً » - بالحاء المهملة - أخيراً.
قال الزمخشري :«ومثاجح الماء : مصابُّه، والماء يثجح في الوادي ».
وكان ابن عبَّاس مثجًّا، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٨٦، والمحرر الوجيز ٥/٤٢٤، والبحر المحيط ٨/٤٠٤..
٢ يروى: "ساقطا خمارها" مكان "مائلا خمارها".
وقد نسب البيت إلى منظور بن مرثد الأسدي. ينظر ديوان الحماسة للمرزوقي ٣/١٧٢، وسمط اللآلىء ٢/٦٨٤، واللسان (عصر)، والدر المصون ٦/٤٦٢، والقرطبي ١٩/١١٣..

٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١٣..
٤ ينظر: الصحاح ٢/٧٥٠..
٥ تقدم..
٦ تقدم..
٧ ينظر اللسان (وجف)، (رجحن)، و(وحول)، والبحر ٨/٤٠٢، والدر المصون ٦/٤٦٣..
٨ وقرأ بها الأعرج ينظر: البحر المحيط ٨/٤٠٤، والكشاف ٤/٦٧٦، والدر المصون ٦/٤٦٣..
قوله تعالى :﴿ لِّنُخْرِجَ بِهِ ﴾ أي : بذلك الماء «حَبَّا » كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك.
«ونَبَاتاً » من الإنبات، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.
«وجَنَّاتٍ » أي : بساتين «ألْفَافاً » أي : مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها.
وفي الألفاف وجوه :
أحدها : أنه لا واحد له.
قال الزمخشري :«ألْفافاً » : مُلتفَّة، ولا واحد له ك «الأوزاع » والأخْيَاف.
والثاني : أنَّه جمعُ «لِفٍّ » - بكسر اللام - فيكون نحو :«سِرّ وأسرار » ؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ :[ الرمل ]
٥٠٧٣- جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ١
وهذا قول أكثر أهل اللغة، ذكره الكسائي.
الثالث : أنه جمع «لَفِيفٍ ». قاله الكسائي، وأبو عبيدة ك «شريف » و«أشراف »، و«شهيد » و«أشهاد » ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٥٠٧٤- أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ٢
الرابع : أنَّه جمعُ الجميع، وذلك أنَّ الأصل :«لُفّ » في المذكر، و «لَفَّاء » في المؤنث ك «أحْمَر وحَمْرَاء »، ثُمَّ جمع «لُف » على «ألفَاف » إذ صار «لف » زنة «فعل » جمع جمعه قاله ابن قتيبة.
إلا أنَّ الزمخشري قال : وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو :«خضر وأخضار، وحمر وأحمار ».
قال شهاب الدين٣ : كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على «أفْعَال » إذ لا يقال :«خضر ولا حمر »، وإن كانا جمعين ل «أحمر وحمراء، وأخضر وخضراء »، وهذا غير لازم ؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات، كما رأيت من أن «لفَّاء » صار يضارع «فَعْلاء »، ولهذا امتنعوا من تكسير «مفَاعِل ومفَاعِيْل » لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه.
الخامس : قال الزمخشريُّ :«ولو قيل : هو جمع :» ملتفّة «بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً ».
وهذا تكلُّف لا حاجة إليه.
وأيضاً : فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير، يقولون : تصغير الترخيم بحذف الزوائد، وفي المصادر يقولون : هذا المصدر على حذف الزوائد.
قال القرطبي٤ : ويقال : شجرة لفَّاء، وشجر لفٌّ، وامرأة لفَّاء، أي : غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم.
وقيل : التقدير : ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.
١ ينظر الكشاف ٤/٦٨٧، والقرطبي ١٩/١١٤، والبحر ٨/٤٠٤، والدر المصون ٦/٤٦٣..
٢ ينظر الدر المصون ٦/٤٦٣..
٣ ينظر الدر المصون ٦/٤٦٣..
٤ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١٤..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً﴾. أي: وقتاً ومجمعاً وميعاداً للأولين والآخرين؛ لما وعد اللهُ الجزاء والثواب، وسمِّي يوم الفصل؛ لأنَّ الله - تعالى - يفصل فيه بين خلقِه.
قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾. يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْمِ الفَصْلِ»، أو عطف بيان له، أو منصوباً بإضمار «أعني».
و «أفواجاً» حال من فاعل «تَأتُونَ».
وقرأ أبو عياض: «في الصُّوَرِ» بفتح الواو وتقدم مثله.

فصل في النفخة الآخرة


هذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر، وهذا هو النفخ للأرواح.
وقيل: هو قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه للبعث.
100
«فتأتون» أي: إلى موضع العرض.
«أفواجاً» أي: أمَماً كُل أمَّةٍ مع إمامهم.
روى معاذُ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «قلت: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَا مُعَاذُ، لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ أمْرٍ عَظِيمٍ «، ثم أرسل عينيه باكياً - ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» يُحْشَرُ عَشَرَةُ أصْنَافٍ مِنْ أمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ مَيَّزهمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ جَمَاعَاتِ المُسْلِمِيْنَ وبَدَّلَ صُورَهُمْ، فَمِنْهُمْ على صُورةِ القِرَدَةِ، وبَعْضهُمْ عَلى صُورَةِ الخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسِيْنَ أرْجُلهُمْ أعلاهُمْ وَوُجُوهُم يُسْحَبُونَ عليْهَا، وبَعضُهمْ عُمْياً، وبَعْضهُم صُمًّا، وبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ ألْسنَتَهُمْ فَهِيَ مُدَلاَّة على صُدورِهِمْ، يَسِيلُ القَيْحُ مِنْ أفْواهِهِم، يَتقذَّرهمُ الجَمْعُ، وبَعَْضهُمْ مُقطَّعَةٌ أيْدِيهِمْ وأرْجٌُلهمْ مُصلَّبين على جذُوع مِنْ نَارٍ، وبَعضُهم أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيفِ، وبَعْضُهمْ مُلْبَسِينَ جَلابِيبَ لاصقةً بِجُلوْدهِمْ، فأمَّا الذينَ على صُورةِ القِردَةِ: فالقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ - يَعْنِي: النَّمَّامَ - وأمَّا الَّذينَ عَلى صُورةِ الخَنَازِيرِ فأهْلُ السُّحْتِ والحَرامِ والمَكْسِ، وأمَّا المُنكِسُونَ رُءوسَهُمْ وَوُجوهمْ فأكلَةُ الرِّبَا، وأمَّا العُمْيُ: فالَّذيْنَ يَجُورُونَ في الحُكْمِ، وأمَّا الصُمُّ البُكْمُ: فالمُعْجَبُونَ بأعْمالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ، فالعُلمَاءُ الَّذينَ يُخَالفُ قَوْلهُم فِعلهُمْ، وأمَّا الَّذينَ قُطِعَتْ أيْديهِمْ وأرْجُلهُمْ فالَّذينَ يُؤذُونَ الجِيرانَ، وأمَّا المُصَلَّبُونَ فِي جُذوْعِ النَّارِ، فالسَّعاة بالنَّاسِ إلى السُّلطانِ، وأمَّا الَّذينَ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيَفِ، فالَّذينَ يَتَّبعُنَ الشَّهواتِ واللَّذَّاتِ، ويَمْنعُونَ حَقَّ اللهِ فِي أمْوالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الجَلابِيْبَ فأهْلُ الكِبْرِ والفَخْرِ والخُيَلاء «.
قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾.
قرأ أبو عامر وحمزة والكسائي:»
فُتِحَتْ «خفيفة، والباقون بالتثقيل.
والمعنى: كُسرتْ أبوابها المفتَّحةُ لنزول الملائكة كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٥].
وقيل: تقطَّعت، فكانت قطعاً كالأبواب، فانتصاب الأبواب على هذا بحذف الكاف.
وقيل: التقدير: كانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبواباً.
وقيل: أبوابها: طرقها.
101
وقيل: إنَّ لكل عبد باباً في السماء لعمله، وباباً لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
قال القاضي: هذا الفتح هو معنى قوله: ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الانشقاق: ١]، ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾ [الانفطار: ١] إذ الفتح والتشقق تتقارب.
قال ابنُ الخطيب: وهذا ليس بقوي؛ لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التَّشقُّق والتفطُّر، فربما تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر، بل الدلائل الصحيحة دلت على أن حصول فتح هذه الأبواب بحصول التفطُّر والتشقُّق بالكلِّية.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ يفيد أنَّ السَّماء بكليتها تصير أبواباً بفعل ذلك.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ تلك الأبواب لمَّا كثرت جدًّا صارت كأنَّها ليست إلا أبواباً؛ كقوله تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢] أي: صارت كلها عيوناً تتفجَّر.
وثانيها: قال الواحديُّ: هذا من باب حذف المضاف، أي: فكانت ذات أبواب.
وثالثها: أنَّ الضمير في قوله تعالى: ﴿فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ يعود إلى السماء، والتقدير: فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة.
قوله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً﴾.
أي: لا شيء كما أن السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل: نُسفَتْ من أصُولِهَا.
وقيل: أزيلتْ عن مواضعها.
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - ذكر أحوال الجبال بوجوهٍ مختلفةٍ، ويمكن الجمع بينها بوجوه، بأن تقول:
أول أحوالها: الاندِكَاكُ، وهو قول تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤].
والحالة الثانية: أن تصير كالعهنِ المنفوش، وهو قوله تعالى: ﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش﴾ [القارعة: ٥].
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء، وهو قوله تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً﴾ [الواقعة: ٥، ٦].
102
والحالة الرابعة: أن تنسف؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض، فترسل الرياح، فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيِّرها في الهواء كأنها مارة، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجساداً جامدة، وهي في الحقيقة مارة، إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة منتسفة.
والحالة الخامسة: أن تصير سراباً، أي: لأي شيء كما رؤي السراب من بعد.
103
قوله :﴿ يَوْمَ يُنفَخُ ﴾. يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْمِ الفَصْلِ »، أو عطف بيان له، أو منصوباً بإضمار «أعني ».
و «أفواجاً » حال من فاعل «تَأتُونَ ».
وقرأ أبو عياض١ :«في الصُّوَرِ » بفتح الواو وتقدم مثله.

فصل في النفخة الآخرة


هذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر، وهذا هو النفخ للأرواح.
وقيل : هو قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه للبعث.
«فتأتون » أي : إلى موضع العرض.
«أفواجاً » أي : أمَماً كُل أمَّةٍ مع إمامهم.
روى معاذُ بن جبل - رضي الله عنه - «قلت : يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى :﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ﴾، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يَا مُعَاذُ، لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ أمْرٍ عَظِيمٍ »، ثم أرسل عينيه باكياً - ثم قال عليه الصلاة والسلام :«يُحْشَرُ عَشَرَةُ أصْنَافٍ مِنْ أمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ مَيَّزهمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ جَمَاعَاتِ المُسْلِمِيْنَ وبَدَّلَ صُورَهُمْ، فَمِنْهُمْ على صُورةِ القِرَدَةِ، وبَعْضهُمْ عَلى صُورَةِ الخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسِيْنَ أرْجُلهُمْ أعلاهُمْ وَوُجُوهُم يُسْحَبُونَ عليْهَا، وبَعضُهمْ عُمْياً، وبَعْضهُم صُمًّا، وبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ ألْسنَتَهُمْ فَهِيَ مُدَلاَّة على صُدورِهِمْ، يَسِيلُ القَيْحُ مِنْ أفْواهِهِم، يَتقذَّرهمُ الجَمْعُ، وبَعَْضهُمْ مُقطَّعَةٌ أيْدِيهِمْ وأرْجٌُلهمْ مُصلَّبين على جذُوع مِنْ نَارٍ، وبَعضُهم أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيفِ، وبَعْضُهمْ مُلْبَسِينَ جَلابِيبَ لاصقةً بِجُلوْدهِمْ، فأمَّا الذينَ على صُورةِ القِردَةِ : فالقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ - يَعْنِي : النَّمَّامَ - وأمَّا الَّذينَ عَلى صُورةِ الخَنَازِيرِ فأهْلُ السُّحْتِ والحَرامِ والمَكْسِ، وأمَّا المُنكِسُونَ رُءوسَهُمْ وَوُجوهمْ فأكلَةُ الرِّبَا، وأمَّا العُمْيُ : فالَّذيْنَ يَجُورُونَ في الحُكْمِ، وأمَّا الصُمُّ البُكْمُ : فالمُعْجَبُونَ بأعْمالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ، فالعُلمَاءُ الَّذينَ يُخَالفُ قَوْلهُم فِعلهُمْ، وأمَّا الَّذينَ قُطِعَتْ أيْديهِمْ وأرْجُلهُمْ فالَّذينَ يُؤذُونَ الجِيرانَ، وأمَّا المُصَلَّبُونَ فِي جُذوْعِ النَّارِ، فالسَّعاة بالنَّاسِ إلى السُّلطانِ، وأمَّا الَّذينَ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيَفِ، فالَّذينَ يَتَّبعُنَ الشَّهواتِ واللَّذَّاتِ، ويَمْنعُونَ حَقَّ اللهِ فِي أمْوالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الجَلابِيْبَ فأهْلُ الكِبْرِ والفَخْرِ والخُيَلاء »٢.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٢٥، البحر المحيط ٨/٤٠٤، والدر المصون ٦/٤٦٤..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠١)، وعزاه إلى ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل الخ..
قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً ﴾.
قرأ أبو عامر وحمزة والكسائي :» فُتِحَتْ «خفيفة، والباقون١ بالتثقيل.
والمعنى : كُسرتْ أبوابها المفتَّحةُ لنزول الملائكة كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ].
وقيل : تقطَّعت، فكانت قطعاً كالأبواب، فانتصاب الأبواب على هذا بحذف الكاف.
وقيل : التقدير : كانت ذات أبواب ؛ لأنها تصير كلها أبواباً.
وقيل : أبوابها : طرقها.
وقيل : إنَّ لكل عبد باباً في السماء لعمله، وباباً لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
قال القاضي : هذا الفتح هو معنى قوله :﴿ إِذَا السمآء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ]، ﴿ إِذَا السمآء انفطرت ﴾ [ الانفطار : ١ ] إذ الفتح والتشقق تتقارب.
قال ابنُ الخطيب٢ : وهذا ليس بقوي ؛ لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التَّشقُّق والتفطُّر، فربما تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر، بل الدلائل الصحيحة دلت على أن حصول فتح هذه الأبواب بحصول التفطُّر والتشقُّق بالكلِّية.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً ﴾ يفيد أنَّ السَّماء بكليتها تصير أبواباً بفعل ذلك.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ تلك الأبواب لمَّا كثرت جدًّا صارت كأنَّها ليست إلا أبواباً ؛ كقوله تعالى :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ] أي : صارت كلها عيوناً تتفجَّر.
وثانيها : قال الواحديُّ : هذا من باب حذف المضاف، أي : فكانت ذات أبواب.
وثالثها : أنَّ الضمير في قوله تعالى :﴿ فَكَانَتْ أَبْوَاباً ﴾ يعود إلى السماء، والتقدير : فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة.
١ ينظر: السبعة ٦٦٨، والحجة ٦/٣٦٨، وإعراب القراءات ٢/٤٣١، وحجة القراءات ٧٤٥..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١١..
قوله تعالى :﴿ وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً ﴾.
أي : لا شيء كما أن السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل : نُسفَتْ من أصُولِهَا.
وقيل : أزيلتْ عن مواضعها.
قال ابن الخطيب١ : إن الله - تعالى - ذكر أحوال الجبال بوجوهٍ مختلفةٍ، ويمكن الجمع بينها بوجوه، بأن تقول :
أول أحوالها : الاندِكَاكُ، وهو قول تعالى :﴿ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الحاقة : ١٤ ].
والحالة الثانية : أن تصير كالعهنِ المنفوش، وهو قوله تعالى :﴿ وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ].
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء، وهو قوله تعالى :﴿ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ [ الواقعة : ٥، ٦ ].
والحالة الرابعة : أن تنسف ؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض، فترسل الرياح، فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيِّرها في الهواء كأنها مارة، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجساداً جامدة، وهي في الحقيقة مارة، إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة منتسفة.
والحالة الخامسة : أن تصير سراباً، أي : لأي شيء كما رؤي السراب من بعد.
١ السابق..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ «مِفْعَالاً» من الرصد، والرصد: كل شيء كان أمامك.
قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري: «أنَّ جَهنَّمَ» بفتح «أن».
قال الزمخشريُّ: على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين، كأنَّه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء، يعني: أنه علَّة لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ إلى آخره.
قال القفال: في المرصاد قولان:
أحدهما: أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمِنْهَاج: اسم للمكان الذي ينهج فيه، أي: جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل، وعلى هذا فيه احتمالان:
الأول: أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار.
والثاني: أن مجاز المؤمنين، وممرهم على جهنم، لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١]، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني: أنَّ «المِرصَاد» «مِفْعَال» من الرصد، وهو «الترقب» بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه، و «المِفْعَالُ» من أبنية المبالغة ك «المِعطَاء، والمِعْمَار، والمِطْعَان».
قيل: إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ، وتشتد عليهم لقوله تعالى: تكاد تميَّزُ من الغيظ.
103
وقيل: ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ.

فصل


دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق.
قوله: ﴿لِّلطَّاغِينَ﴾ يجوز أن يكون صفة ل «مِرْصَاداً»، وأن يكون حالاً من «مآباً» كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس «مِرْصَاداً»، أو بنفس «مآباً» ؛ لإنه بمعنى مرجع.
قال ابن الخطيب: إن قيل بأن: «مِرصَاداً» للكافرين فقط، كان قوله: «للطَّاغين» من تمام ما قبله، والتقدير: كانت مرصاداً للطَّاغين، ثم قوله: «مآباً» بدل قوله: «مرصاداً»، وإن قيل: إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ كلاماً تاماً وقوله تعالى: ﴿لِّلطَّاغِينَ مَآباً﴾ كلاماً مبتدأ، كأنه قيل: إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل، و «مآباً» للطَّاغين خاصَّة، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله: «مرصاداً» ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.
قال القرطبيُّ: «للطَّاغِينَ مآباً» بدلٌ من قوله: «مِرصَاداً»، والمَآبُ «المرجع، أي: مرجعاً يرجعون إليه، يقال: آب يثوب أوْبَة: إذا رجع.
وقال قتادة: مأوى ومنزلاً، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.
قوله: ﴿لاَّبِثِينَ﴾. منصوب على الحال من الضمير المستتر في»
للطاغين «، وفي حال مقدرة.
وقرأ حمزة: «لبثين»
دون ألف.
والباقون: «لابثين» بألف.
وضعف مكي قراءة حمزة، قال: ومن قرأ: «لبثين» شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق، وهو بعيد؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان. وليس اللبس بخلقة.
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة، فقال: «قرأ: لابثين» ولبثين «واللبث أقوى؛ لأن
104
اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه».
وما قاله الزمخشري أصوب.
وأمَّا قولُ مكيٍّ: اللبث ليس بخلقة، فمسلم لكنه بولغ في ذلك، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة.
و «لابثين» اسم فاعل من «لبث»، ويقويه أنَّ المصدر منه «اللّبث» - بالإسكان - ك «الشرب». قوله: «أحْقَاباً» منصوب على الظرف، وناصبه «لاَبِثيْنَ»، هذا هو المشهور، وقيل: منصوب بقوله: «لا يذوقون»، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد «لا» عليها وهو أحد الأوجه، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال. قال: «وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من: حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقبٌ وجمعه:» أحْقَاب «، فينتصب حالاً عنهم، بمعنى: لابثين فيها بحقبين جحدين». وتقدم الكلام على الحقب في سورة «الكهف».
قال القرطبي: و «الحِقْبَةُ» - بالكسر -: السَّنة، والجمع حِقَب؛ قال متممُ بنُ نويرةَ: [الطويل]
٥٠٧٥ - وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً... مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ: لَنْ يتصدَّعا
والحُقْبُ - بالضم والسكون -: ثمانون سنة.
وقيل: أكثر من ذلك وأقل، والجمع: «أحْقَاب».
قال الفراءُ: أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع، يقال: «أحْقَبَ» : إذا أردف، ومنه الحقبة، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب، فعلى هذا معناه: لابثين فيها أحقاباً، أي: دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً.

فصل في تحرير معنى الآية


المعنى: ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ، و «الحُقُبُ» - بضمتين -: الدَّهْرُ: والأحقابُ، الدهور، والمعنى: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها، إذ في الكلام ذكر الآخرة، كما يقال: أيَّامُ الآخرة، أي: أيام بعد أيام إلى غير نهاية، أي: لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبداً من غير انقطاع، فكأنه
105
قال: أبداً، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال: خمسة أحقاب، أو عشرة ونحوه، وذكر الأحقاب؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فذكر ما يفهمونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل: الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً﴾ أي: في الأرض لتقدم ذكرها ويكون ﴿لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً﴾ جهنم.
قوله: ﴿لاَّ يَذُوقُونَ﴾. فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني: أنه حال من الضمير في «لابِثيْنَ» غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث: أنه صفة ل «أحْقَاب».
قال مكي: واحتمل الضمير؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً ل «أحْقَاب» لأجل الضمير العائد على «الأحقاب» في «فيها»، ولو كان في موضع «يَذُوقُونَ» اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً ل «أحقاب».
الرابع: أنه تفسير لقوله تعالى: ﴿أَحْقَاباً﴾ إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال: «وقوله تعالى: ﴿لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً﴾. تفسير له».
الخامس: أنه حال أخرى من «للطاغين» ك «لابثين».

فصل في معنى هذا البرد


قال أبو عبيدة: البَرْدُ: النومُ؛ قال الشاعر: [الطويل]
٥٠٧٦ - فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا
وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ.
والعرب تقول: منع البَرْدُ البَرْدَ، يعني: أذهب النوم.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: البرد برد الشراب.
106
وعنه - أيضاً - البرد: النَِّوم، والشراب: الماء.
قال الزجاج: لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ نومٍ ولا بَرْدَ ظلٍّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بَرداً: أي روحاً ورائحة.
قوله: ﴿إِلاَّ حَمِيماً﴾. يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله: «شراباً»، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري: «يعني لا يَذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار» ولا شراباً «يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً».
قال شهاب الدين: «ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال: فإن جعلته النوم كان» إلا حميماً «استثناء ليس من الأول».
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله: «ولا شراباً يسكن من عطشهم» فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل، وأنشد البيت المتقدم.
وقول العرب: منع البرد، قيل: وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، والذوق على هذين القولين مجاز، أعني: كونه روحاً ينفس عنهم الحر، وكونه النوم مجاز، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وأنشد قول حسان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الكامل]
٥٠٧٧ - يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قال ابنُ الأثيرِ: البريص: الماء القليل، والبرصُ: الشيء القليل؛ وقال الآخر: [الطويل]
٥٠٧٨ - أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا
والذوق حقيقة، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك «ولا شراباً».
107
الثالث: أنَّه بدلٌ من قوله: «وَلا شَراباً» وهو الأحسنُ؛ لأن الكلام غير موجب.
قال أبو عبيدة: الحَمِيمُ: الماءُ الحارّ.
وقال ابن زيد: دموع أعينهم تجمع في حياض، ثم يسقونه.
وقال النحاس: أصل الحميمِ الماءُ الحار، ومنه اشتقَّ الحمَّام، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم، إنَّما يراد به النهاية في الحر، والغسَّاق: صديد أهل النار وقيحهم.
وقيل: الزَّمهرير، وتقدم خلاف القرَّاء في «غسَّاقاً» والكلام عليه وعلى «حَمِيم».
قال أبو معاذ: كنت أسمع مشايخنا يقولون: الغسَّاقُ: فارسية معربةٌ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه: خاشاك.
قوله: ﴿جَزَآءً﴾ منصوبٌ على المصدر، وعامله إما قوله: «لا يذوقون» إلى آخره؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك، وإمَّا محذوف، و «وَفَاقاً» نعت له على المبالغةِ، أو على حذف مضاف، أي: ذا مبالغة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: معناه: موافقاً لأعمالهم، فالوفاقُ بمعنى: «الموافقة» كالقتال من المقاتلة.
قال الفراء والأخفش: أي: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.
وقال الفراء أيضاً: هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد.
وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: بتشديد الفاء من «وفقه كذا».
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً﴾. أي: لا يخافون حساباً، أي: محاسبة على أعمالهم، وقيل: لا يرجون ثواب حساب.
وقال الزجاج: إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾ قرأ العامة: «كِذَّاباً» بتشديد الذال، وكسر الكاف.
وكان من حق مصدر «فعَّل» أن يأتي على «التَّفعيل» نحو صرَّف تصريفاً.
108
قال الزمخشري: و «فعَّال» في باب «فعَّل» كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال: لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله.
قال غيره: وهي لغة بعض العرب يمانية؛ وأنشد: [الطويل]
٥٠٧٩ - لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
يريد: تَقْضِيَتُهَا، والأصل على «التفعيل»، وإنَّما هو مثل «زكَّى تَزْكِيَةً».
وسمع بعضهم يستفتي في حجه، فقال: آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار؟ يريد التقصير.
قال الفراء: «هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذبت كذّاباً، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً، وكل فعل وزن» فعَّل «فمصدره» فِعَّال «في لغتهم مشددة».
وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصري: بالتخفيف.
وهو مصدر أيضاً، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد، وإمَّا لفعل مقدر ك «أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً».
قال الزمخشري: «وهو مثل قوله تعالى: ﴿والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] يعني وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذاباً، أو تنصبه ب» كذبوا «؛ لأنه يتضمن معنى» كذّبوا «، لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة، فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده».
وقال أبو الفضل: وذلك لغة «اليمن»، وذلك بأن يجعل مصدر «كذب» مخففاً «كِذَباً» بالتخفيف مثل «كَتَبَ كِتَاباً» فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل: «أعطيته عطاءً».
قال شهابُ الدِّينِ: أمَّا «كذب كذاباً» بالتخفيف، فهو مشهور، ومنه قول الأعشى [مجزوء الكامل]
109
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون: «كُذاباً» بضم الكاف وتشديد الذال، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه جمع كاذبِ، نحو: ضراب «في» ضارب وعلى هذا، فانتصابه على الحال المؤكدة، أي: وكذبوا في حال كونهم كاذبين. قاله أبو البقاء.
والثاني: أنَّ «الكُذَّاب» بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا: أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه. قاله الزمخشري.
قال القرطبي: وفي «الصِّحاح» : وقوله تعالى: ﴿وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾ وهو أحد مصار المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على «تَفْعِلَة» مثل «تَوصِيَة»، وعلى «مُفَعَّل» مثل: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩].
قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ العامة على النصب على الاشتغال، وهو الراجح، لتقدم جملة فعلية.
وقرأ أبو السمال: برفع «كُل» على الابتداء، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب، لأنَّ الأصل: «وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا» ف «ذوقوا» مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم.
قوله: «أحْصَيْنَاهُ». فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر من معنى أحصينا، أي: إحصاءً، فالتجوُّز في نفس المصدر.
الثاني: أنه مصدر ل «أحْصَيْنَا» لأنَّه في معنى: «كَتَبْنَا» فالتجوُّز في نفس الفعل.
قال الزمخشري: «لانتفاءِ الإحْصاءِ»، والكتبة في معنى الضبط، والتحصيل.
قال ابن الخطيب: وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ» فكأنَّهُ تعالى قال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً﴾ إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد، كالمكتوب، والمراد من قوله: «كِتَاباً» تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال؛ لأنَّه واجبٌ لذاته.
110
الثالث: أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: ١٢].
وقيل: أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١].

فصل في المراد بالإحصاء


معنى ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي: علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى: ﴿أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: ٦].
قال ابن الخطيب: وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى: «جَزَاءً وفاقاً»، كأنه تعالى قال: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾
قال ابن الخطيب: هذه «الفاء» للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه «الفاء» أفادت عين فائدة قوله: «جزاء وفاقاً».
فإن قيل: أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ [البقرة: ١٧٤].
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم: «فذوقوا»، فقد كلَّمهُمْ؟.
فالجواب: قال أكثر المفسرين: ويقال لهم: «فَذُوقُوا».
ولقائلٍ أن يقول: قوله: ﴿فَلَن نَّزِيدَكُمْ﴾ لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال: قوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران: ٧٧] معناه: ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران: ٧٧] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب.
فإن قيل: إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب: أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً: فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.
111

فصل في الالتفات في هذه الآية


قال ابنُ الخطيبِ: قوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ﴾ يفيد معنى التعليل، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ، فهو دالٌّ على الغضبِ، وفيه مبالغاتٌ: منها أنَّ «لن» للتأكيد، ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله: «فذوقوا» بعد ذكر العذاب، قال أبو بزرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أشد آية في القرآن، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قوله: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ [النبأ: ٣٠] أي: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦]، و ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ [الإسراء: ٩٧].
112
قوله :﴿ لِّلطَّاغِينَ ﴾ يجوز أن يكون صفة ل «مِرْصَاداً »، وأن يكون حالاً من «مآباً » كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس «مِرْصَاداً »، أو بنفس «مآباً » ؛ لأنه بمعنى مرجع.
قال ابن الخطيب١ : إن قيل بأن :«مِرصَاداً » للكافرين فقط، كان قوله :«للطَّاغين » من تمام ما قبله، والتقدير : كانت مرصاداً للطَّاغين، ثم قوله :«مآباً » بدل قوله :«مرصاداً »، وإن قيل : إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى :﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً ﴾ كلاماً تاماً وقوله تعالى :﴿ لِّلطَّاغِينَ مَآباً ﴾ كلاماً مبتدأ، كأنه قيل : إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل، و«مآباً » للطَّاغين خاصَّة، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله :«مرصاداً » ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.
قال القرطبيُّ٢ :«للطَّاغِينَ مآباً » بدلٌ من قوله :«مِرصَاداً »، والمَآبُ «المرجع، أي : مرجعاً يرجعون إليه، يقال : آب يئوب أوْبَة : إذا رجع.
وقال قتادة : مأوى ومنزلاً٣، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.
١ ينظر: السابق ٣١/١٣..
٢ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١٦..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٠٣)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠١)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
قوله :﴿ لاَّبِثِينَ ﴾. منصوب على الحال من الضمير المستتر في«للطاغين »، وفي حال مقدرة.
وقرأ حمزة١ :«لبثين » دون ألف.
والباقون :«لابثين » بألف.
وضعف مكي قراءة حمزة، قال : ومن قرأ :«لبثين » شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق، وهو بعيد ؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان. وليس اللبس بخلقة.
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة، فقال :«قرأ : لابثين «ولبثين » واللبث أقوى ؛ لأن اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه ».
وما قاله الزمخشري أصوب.
وأمَّا قولُ مكيٍّ : اللبث ليس بخلقة، فمسلم لكنه بولغ في ذلك، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة.
و«لابثين » اسم فاعل من «لبث »، ويقويه أنَّ المصدر منه «اللّبث » - بالإسكان - ك «الشرب ». قوله :«أحْقَاباً » منصوب على الظرف، وناصبه «لاَبِثيْنَ »، هذا هو المشهور، وقيل : منصوب بقوله :«لا يذوقون »، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد «لا » عليها وهو أحد الأوجه، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال. قال :«وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقبٌ وجمعه :«أحْقَاب »، فينتصب حالاً عنهم، بمعنى : لابثين فيها حقبين جحدين ». وتقدم الكلام على الحقب في سورة «الكهف »٢.
قال القرطبي٣ : و«الحِقْبَةُ » - بالكسر- : السَّنة، والجمع حِقَب ؛ قال متممُ بنُ نويرةَ :[ الطويل ]
٥٠٧٥- وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً *** مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ : لَنْ يتصدَّعا٤
والحُقْبُ - بالضم والسكون - : ثمانون سنة.
وقيل : أكثر من ذلك وأقل، والجمع :«أحْقَاب ».
قال الفراءُ : أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع، يقال :«أحْقَبَ » : إذا أردف، ومنه الحقبة، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقاباً، أي : دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً.

فصل في تحرير معنى الآية


المعنى : ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ، و«الحُقُبُ » -بضمتين- : الدَّهْرُ، والأحقابُ : الدهور، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها، إذ في الكلام ذكر الآخرة، كما يقال : أيَّامُ الآخرة، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية، أي : لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبداً من غير انقطاع، فكأنه قال : أبداً، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب، أو عشرة ونحوه، وذكر الأحقاب ؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فذكر ما يفهمونه، وهو كناية عن التأبيد، أي : يمكثون فيها أبداً.
وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً ﴾ أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون
١ ينظر: السبعة ٦٦٩، والحجة ٦/٣٦٩، وإعراب القراءات ٢/٤٣١، وحجة القراءات ٧٤٥..
٢ الآية: ٦٠..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١٦..
٤ ينظر شعر متمم بن نويرة ص ١١١، والمفضليات ص ٥٣٥، والقرطبي ١٩، ١١٦، ومجمع البيان ١٠/٦٤١..
﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ﴾ جهنم.
قوله :﴿ لاَّ يَذُوقُونَ ﴾. فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني : أنه حال من الضمير في «لابِثيْنَ » غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث : أنه صفة ل «أحْقَاب ».
قال مكي : واحتمل الضمير ؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً ل «أحْقَاب » لأجل الضمير العائد على «الأحقاب » في «فيها »، ولو كان في موضع «يَذُوقُونَ » اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً ل «أحقاب ».
الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى :﴿ أَحْقَاباً ﴾ إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال :«وقوله تعالى :﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ﴾. تفسير له ».
الخامس : أنه حال أخرى من «للطاغين » ك «لابثين ».

فصل في معنى هذا البرد


قال أبو عبيدة : البَرْدُ : النومُ ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٥٠٨٠ - فَصدَقْتُهَا وكَذبْتُهَا والمَرْءُ يَنْفعهُ كِذَابُهْ
٥٠٧٦- فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا١
وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ.
والعرب تقول : منع البَرْدُ البَرْدَ، يعني : أذهب النوم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب.
وعنه - أيضاً - البرد : النَِّوم، والشراب : الماء٢.
قال الزجاج : لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ نومٍ ولا بَرْدَ ظلٍّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بَرداً : أي روحاً ورائحة٣.
١ تقدم..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١١٨)..
٣ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ إِلاَّ حَمِيماً ﴾. يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله :«شراباً »، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري :«يعني لا يَذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار «ولا شراباً » يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً ».
قال شهاب الدين١ :«ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال : فإن جعلته النوم كان «إلا حميماً » استثناء ليس من الأول ».
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله :«ولا شراباً يسكن من عطشهم » فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب ؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل، وأنشد البيت المتقدم.
وقول العرب : منع البرد، قيل : وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، والذوق على هذين القولين مجاز، أعني : كونه روحاً ينفس عنهم الحر، وكونه النوم مجاز، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه :[ الكامل ]
٥٠٧٧- يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ٢
قال ابنُ الأثيرِ : البريص : الماء القليل، والبرصُ : الشيء القليل ؛ وقال الآخر :[ الطويل ]
٥٠٧٨- أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا٣
والذوق حقيقة، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك «ولا شراباً ».
الثالث : أنَّه بدلٌ من قوله :«وَلا شَراباً » وهو الأحسنُ ؛ لأن الكلام غير موجب.
قال أبو عبيدة : الحَمِيمُ : الماءُ الحارّ.
وقال ابن زيد : دموع أعينهم تجمع في حياض، ثم يسقونه.
وقال النحاس : أصل الحميمِ الماءُ الحار، ومنه اشتقَّ الحمَّام، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم، إنَّما يراد به النهاية في الحر، والغسَّاق : صديد أهل النار وقيحهم.
وقيل : الزَّمهرير، وتقدم خلاف القرَّاء في «غسَّاقاً » والكلام عليه وعلى «حَمِيم ».
قال أبو معاذ : كنت أسمع مشايخنا يقولون : الغسَّاقُ : فارسية معربةٌ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه : خاشاك.
١ ينظر الدر المصون ٦/٤٦٥..
٢ ينظر ديوانه ص ١٢٢، وجمهرة اللغة ص ٣١٢، وخزانة الأدب ٤/٣٨١، ٣٨٢، ٣٨٤، ١١/١٨٨، والدرر ٥/٣٨)، وشرح المفصل ٣/٢٥، ولسان العرب (برد)، (برص)، و(صفق)، ومعجم ما استعجم ص ٢٤٠، وأمالي ابن الحاجب ١/٤٥١، وشرح الأشموني ٢/٣٢٤، وهمع الهوامع ٢/٥١، والطبري ٣/٦٧، ومجمع البيان ١٠/٦٩١، والبحر المحيط ٨/٤٠٥، والدر المصون ٦/٤٦٥..
٣ ينظر اللسان (سعد)، والبحر ٨/٤٠٦، والدر المصون ٦/٤٦٥..
قوله :﴿ جَزَآءً ﴾ منصوبٌ على المصدر، وعامله إما قوله :«لا يذوقون » إلى آخره ؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك، وإمَّا محذوف، و«وَفَاقاً » نعت له على المبالغةِ، أو على حذف مضاف، أي : ذا مبالغة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : معناه : موافقاً لأعمالهم، فالوفاقُ بمعنى :«الموافقة » كالقتال من المقاتلة.
قال الفراء والأخفش : أي : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.
وقال الفراء أيضاً : هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد.
وقال مقاتل : وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار١.
وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم٢.
وقرأ أبو حيوة٣ وابن أبي عبلة : بتشديد الفاء من «وفقه كذا ».
١ ينظر القرطبي (١٩/١١٨)..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٦٨٩، والبحر المحيط ٨/٤٠٦، والدر المصون ٦/٤٦٥..
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ﴾. أي : لا يخافون حساباً، أي : محاسبة على أعمالهم، وقيل : لا يرجون ثواب حساب.
وقال الزجاج : إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ﴾ قرأ العامة :«كِذَّاباً » بتشديد الذال، وكسر الكاف.
وكان من حق مصدر «فعَّل » أن يأتي على «التَّفعيل » نحو صرَّف تصريفاً.
قال الزمخشري : و«فعَّال » في باب «فعَّل » كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال : لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله.
قال غيره : وهي لغة بعض العرب يمانية ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٥٠٧٩- لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا١
يريد : تَقْضِيَتُهَا، والأصل على «التفعيل »، وإنَّما هو مثل «زكَّى تَزْكِيَةً ».
وسمع بعضهم يستفتي في حجه، فقال : آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار ؟ يريد التقصير.
قال الفراء :«هي لغة يمانية فصيحة، يقولون : كذبت كذّاباً، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً، وكل فعل وزن «فعَّل » فمصدره «فِعَّال » في لغتهم مشددة ».
وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء٢ وعيسى البصري : بالتخفيف.
وهو مصدر أيضاً، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد، وإمَّا لفعل مقدر ك «أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً ».
قال الزمخشري :«وهو مثل قوله تعالى :﴿ والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ] يعني وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذاباً، أو تنصبه ب «كذبوا » ؛ لأنه يتضمن معنى «كذّبوا »، لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة، فمعناه : وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده ».
وقال أبو الفضل : وذلك لغة «اليمن »، وذلك بأن يجعل مصدر «كذب » مخففاً «كِذَباً » بالتخفيف مثل «كَتَبَ كِتَاباً » فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل :«أعطيته عطاءً ».
قال شهابُ الدِّينِ٣ : أمَّا «كذب كذاباً » بالتخفيف، فهو مشهور، ومنه قول الأعشى [ مجزوء الكامل ]
٥٠٨٠- فَصدَقْتُهَا وكَذبْتُهَا والمَرْءُ يَنْفعهُ كِذَابُهْ٤
وقرأ عمر٥ بن عبد العزيز والماجشون :«كُذاباً » بضم الكاف وتشديد الذال، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه جمع كاذبِ، نحو : ضراب «في » ضارب وعلى هذا، فانتصابه على الحال المؤكدة، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين. قاله أبو البقاء.
والثاني : أنَّ «الكُذَّاب » بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال : رجل كذاب، كقولك : حسان، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا : أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه. قاله الزمخشري.
قال القرطبي٦ : وفي «الصِّحاح » : وقوله تعالى :﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ﴾ وهو أحد مصار المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على «تَفْعِلَة » مثل «تَوصِيَة »، وعلى «مُفَعَّل » مثل :﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ].
١ ينظر معاني القرآن للفراء ٣/٢٢٩، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥/٢٧٤، والقرطبي ١٩/١١٨، والبحر المحيط ٨/٤٠٦، والدر المصون ٦/٤٦٦..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٢٧، والبحر المحيط ٨/٤٠٦..
٣ الدر المصون ٦/٤٦٦..
٤ ينظر ابن يعيش ٦/٤٤، وشواهد الإيضاح ص ٦٠٦، واللسان (صدق)، والكشاف ٤/٦٨٩، والقرطبي ١٩/١١٨، ومجاز القرآن ٢/٢٨٣، والكامل ٢/٢٣٠، والتاج (صدق)، والطبري ٣٠/١٤، ومجمع البيان ١٠/٦٤١، والبحر المحيط ٨/٤٠٦، والدر المصون ٦/٤٦٦..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٢٧، والبحر المحيط ٨/٤٠٦..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١٩..
قوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ ﴾ العامة على النصب على الاشتغال، وهو الراجح، لتقدم جملة فعلية.
وقرأ أبو السمال١ : برفع «كُل » على الابتداء، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب، لأنَّ الأصل :«وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا » ف «ذوقوا » مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم.
قوله :«أحْصَيْنَاهُ ». فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا، أي : إحصاءً، فالتجوُّز في نفس المصدر.
الثاني : أنه مصدر ل «أحْصَيْنَا » لأنَّه في معنى :«كَتَبْنَا » فالتجوُّز في نفس الفعل.
قال الزمخشري :«لانتفاءِ الإحْصاءِ »، والكتبة في معنى الضبط، والتحصيل.
قال ابن الخطيب٢ : وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :«قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ » فكأنَّهُ تعالى قال :﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ﴾ إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد، كالمكتوب، والمراد من قوله :«كِتَاباً » تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال ؛ لأنَّه واجبٌ لذاته.
الثالث : أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ يس : ١٢ ].
وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠، ١١ ].

فصل في المراد بالإحصاء


معنى ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ ﴾ أي : علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى :﴿ أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ ﴾ [ المجادلة : ٦ ].
قال ابن الخطيب٣ : وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى :«جَزَاءً وفاقاً »، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها ؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٠، والبحر المحيط ٨/٤٠٦، والدر المصون ٦/٤٦٦..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٨..
٣ الفخر الرازي ٣١/١٧..
قوله تعالى :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾
قال ابن الخطيب١ : هذه «الفاء » للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه «الفاء » أفادت عين فائدة قوله :«جزاء وفاقاً ».
فإن قيل : أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ].
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم :«فذوقوا »، فقد كلَّمهُمْ ؟.
فالجواب : قال أكثر المفسرين : ويقال لهم :«فَذُوقُوا ».
ولقائلٍ أن يقول : قوله :﴿ فَلَن نَّزِيدَكُمْ ﴾ لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال : قوله :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] معناه : ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب.
فإن قيل : إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب : أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً : فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.

فصل في الالتفات في هذه الآية


قال ابنُ الخطيبِ٢ : قوله تعالى :﴿ فَذُوقُواْ ﴾ يفيد معنى التعليل، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ، فهو دالٌّ على الغضبِ، وفيه مبالغاتٌ : منها أنَّ «لن » للتأكيد، ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله :«فذوقوا » بعد ذكر العذاب، قال أبو بزرة رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن، قال عليه الصلاة والسلام : قوله :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾٣ [ النبأ : ٣٠ ] أي :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ [ النساء : ٥٦ ]، و﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ].
١ ينظر الفخر الرازي ٣١/١٨..
٢ السابق..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٤)، عن أبي برزة موقوفا وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾. تقدم تفسير المتقين، و «المفازُ» : يحتمل أن يكون مصدراً، بمعنى: فَوْزاً وظفراً بالنعمة، ويحتمل أن يكون المراد فوزاً بالنجاة من العذاب، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلاً بالخلاص منها، وأن يكون مجموع الأمرين.
وقال الضحاك: منتزهاً.
قوله: ﴿حَدَآئِقَ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «مفازاً» بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً.
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ «أعْنِي»، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيُقدَّر مضاف، أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، ويقال: أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ.
والأعْنَابُ: جمعُ عنب، أي: كروم أعناب، فحذف، والتنكير في قوله تعالى: ﴿وَأَعْنَاباً﴾ يدل على تعظيم تلك الأعناب.
قوله تعالى: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً﴾. الكواعب: جمع كاعب، وهي من كعب ثديها وتفلك، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة، وهي النَّاهد، يقال: كَعَبَتِ الجارية تكعب
112
كُعوباً، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً؛ قال: [الطويل]
٥٠٨١ - وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي... ثلاثُ شُخوصٍ: كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المسعريُّ: [الطويل]
٥٠٨٢ - وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ
وقال الضحاك: الكواعب: العَذَارى، والأتراب الأقران في السن، وقد تقدم ذكرهن في «الواقعة».
قوله تعالى: ﴿وَكَأْساً دِهَاقاً﴾.
الدِّهَاقُ: الملأى المُترعَةُ.
قيل: هو مأخوذ من دهقهُ، أي: ضغطه، وشده بيده، كأنه ملأ اليد فانضغط، قال: [الوافر]
٥٠٨٣ - لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي عبيدة، والزجاج، والكسائي.
وقال عكرمة: ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول: اسقنا وادهق لنا، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له: اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهاق.
وقيل: الدِّهاق: المتتابعة؛ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [الوافر]
٥٠٨٤ - أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا
وهذا قول أبي هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
قال الواحدي: وأصل هذا القول من قول العرب: أدهقت الحجارة إدهاقاً، وهي شدة ترادفها، ودخول بعضها في بعض. ذكره الليث.
والتَّتابعُ كالتَّداخُل.
وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ: أنَّها الصَّافيةُ، وهو جمع «دهق»، وهو خشبتان يعصر بهما.
والمراد بالكأسِ: الخَمْرُ.
113
قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر، والتقدير: وخمر ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق، قاله القشيري.
وفي «الصحاح» وأدْهَقْتُ الماءَ، أي: أفرغتُه إفراغاً شديداً، قال أبو عمرو: والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب، وهو بالفارسية: «أشكَنْجَه».
قال المبرد: والمَدهوقُ: المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه.
وقال ابن الأعرابي: دهقت الشيء: أي: كسرته وقطعته، وكذلك: «دَهْدَقْتُهُ» و «دَهْمَقْتُهُ» بزيادة الميم المثلثة.
وقال الأصمعي: «الدَّهْمَقَة» : لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين، ومنه حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا﴾ [الأحقاف: ٢٠].
قوله تعالى: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ أي: في الجنة، وقيل: في الكأس. ﴿لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً﴾.
اللَّغو: الباطلُ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث: «إذا قُلتَ لِصاحبِكَ: أنْصِتْ، فَقَدْ لغَوْتَ» وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا، و «لا كِذَّاباً» أي: لا يتكاذبُون في الجنَّةِ.
وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنَّما خففها؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له، وشدَّد قوله: ﴿وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ؛ لأنَّ «كذَّبُوا» يفيد المصدر بالكذاب.
قال شهابُ الدين: «وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في» كذَّبوا «، وهذا كما تقدم في قوله: ﴿فَتُفَجِّرَ الأنهار﴾ [الإسراء: ٩١]، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول».
وفقال مكيٌّ: مَنْ شدد جعله مصدر «كَذَّب»، زيدت فيه الألف، كما زيدت في «إكْرَاماً» وقولهم: تَكْذِيباً، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات، وقالوا: «تَكَلُّماً»، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف، وذلك لكثرة حروفه، وضمت «اللام» ولم تكسر؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على «تفعَّل» ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي، وقراءة الكسائي: «كِذَّاباً» - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً.
114
وقيل: هو مصدر «كذب» كقولك: كتبتُ كِتَاباً.
قوله: ﴿جَزَآءً﴾. مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ كأنَّه قيل: جازى المتقين بمفاز.
قوله: ﴿عَطَآءً﴾ بدلٌ من «جَزاءً» وهو اسم مصدر؛ قال: [الوافر]
٥٠٨٥ -.............................. وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا
قال: وجعله الزمخشري: منصوباً ب «جزاءً» نصب المفعول به.
ورده أبو حيان بأنه جعل «جزاء» مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة، التي هي «إنَّ للمُتَّقِينَ»، قال: «والمصدر المؤكد لا يعمل؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً».
قوله: «حساباً». صفة ل «عطاءً»، والمعنى: كافياً، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه، أو على حذف مضاف، من قولهم: أحْسبَنِي الشيء أي: كفاني.
وقال قتادةٌ: «عَطاءً حِسَاباً» أي: كثيراً، يقال: أحسبتُ فلاناً أي: أكثرت له العطايا حتى قال: حسبي.
وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له، ولا مقدار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠] وقرأ أبو البرهسم، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي: بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها.
وتخريجها: أنَّه مصدر: مثل: «كذّاب» أقيم مقام الوصف، أي: عطاء محسباً، أي: كافياً.
وابن قطيب: كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ.
قال أبو الفتح: بناء «فعَّال» من «أفْعَل» ك «دَرَّاك» من «أدْرك» بمعنى أنه صفة مبالغة من «حَسَب» بمعنى: كافي كذا.
وابن عباس: «حَسَناً» بالنون من الحسن.
وسريج: «حَسْباً» بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة، أي: عطاء كافياً، من قولك: حَسْبُك كذا، أي: «كافيك».
115
قوله تعالى: ﴿رَّبِّ السماوات﴾.
قرأ نافعٌ، وابن كثير، وأبو عمرو: برفع «رب» و «الرحمن».
وابن عامر، وعاصم: بخفضهما.
والأخوان: يخفض الأول، ورفع الثاني.
فأما رفعهما، فيجوز من أوجه:
أحدها: أن يكون «ربُّ» خبر مبتدأ محذوف مضمر، أي: «هو رب»، و «الرحمن» كذلك، أو مبتدأ، خبره «لا يَمْلِكُون».
الثاني: أن يجعل «ربُّ» مبتدأ، و «الرحمن» خبره، و «لا يملكون» خبر ثان، أو مستأنف.
الثالث: أن يكون «ربُّ» مبتدأ، و «الرحمن» مبتدأ ثان، و «لا يملكون» خبره، والجملة خبر الأول، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفشِ، ويجوز أن يكون «لا يَمْلِكُون» حالاً وتكون لازمة.
وأما جرهما: فعلى البدل، أو البيان، أوالنعت، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة.
وتجعل ﴿رَّبِّ السماوات﴾ تابعاً للأول، و «الرَّحْمن» تابعاً للثاني على ما تقدم.
وأمَّا الأول، فعلى التبعية للأول.
وأما رفع الثاني، فعلى الابتداء، والخبر: الجملة الفعلية، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر، و «لا يَمْلِكُونَ» على ما تقدم من الاستئناف، أو الخبر الثاني، أو الحال اللازمة.
قوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ﴾.
نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن الضمير في «لا يملكون» راجع إلى المشركينَ، أي: لا يخاطبهم الله.
وأما المؤمنون فيشفعون، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم.
وقال القاضي: إنَّه راجع للمؤمنين، والمعنى: أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ.
116

فصل في أنَّ الله عدل في عقابه


لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم، فبأيِّ سبب يُخاطبونه.
وقيل: الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته.
قال ابن الخطيب: وهذا هو الصواب.
117
قوله :﴿ حَدَآئِقَ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «مفازاً » بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً.
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ «أعْنِي »، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيُقدَّر مضاف، أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، ويقال : أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ.
والأعْنَابُ : جمعُ عنب، أي : كروم أعناب، فحذف، والتنكير في قوله تعالى :﴿ وَأَعْنَاباً ﴾ يدل على تعظيم تلك الأعناب.
قوله تعالى :﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ﴾. الكواعب : جمع كاعب، وهي من كعب ثديها وتفلك، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة، وهي النَّاهد، يقال : كَعَبَتِ الجارية تكعب كُعوباً، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً ؛ قال :[ الطويل ]
٥٠٨١- وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي*** ثلاثُ شُخوصٍ : كاعِبانِ ومُعْصِرُ١
وقال قيس بن عاصم المسعريُّ :[ الطويل ]
٥٠٨٢- وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ٢
وقال الضحاك : الكواعب : العَذَارى٣، والأتراب الأقران في السن، وقد تقدم ذكرهن في «الواقعة ».
١ تقدم..
٢ ينظر القرطبي ١٩/١١٩، والبحر ٨/٤٠٢، والدر المصون ٦/٤٦٧..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٨٨)، والقرطبي (١٩/١١٩)..
قوله تعالى :﴿ وَكَأْساً دِهَاقاً ﴾.
الدِّهَاقُ : الملأى المُترعَةُ.
قيل : هو مأخوذ من دهقهُ، أي : ضغطه، وشده بيده، كأنه ملأ اليد فانضغط، قال :[ الوافر ]
٥٠٨٣- لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ١
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي عبيدة، والزجاج، والكسائي.
وقال عكرمة : ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول : اسقنا وادهق لنا، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له : اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس : هذا الدِّهاق.
وقيل : الدِّهاق : المتتابعة ؛ قال رحمه الله :[ الوافر ]
٥٠٨٤- أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا٢
وهذا قول أبي هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقاً، وهي شدة ترادفها، ودخول بعضها في بعض. ذكره الليث.
والتَّتابعُ كالتَّداخُل.
وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ : أنَّها الصَّافيةُ، وهو جمع «دهق »، وهو خشبتان يعصر بهما.
والمراد بالكأسِ : الخَمْرُ.
قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر، والتقدير : وخمر ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق، قاله القشيري.
وفي «الصحاح »٣ وأدْهَقْتُ الماءَ، أي : أفرغتُه إفراغاً شديداً، قال أبو عمرو : والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب، وهو بالفارسية :«أشكَنْجَه ».
قال المبرد : والمَدهوقُ : المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه.
وقال ابن الأعرابي : دهقت الشيء : أي : كسرته وقطعته، وكذلك :«دَهْدَقْتُهُ » و«دَهْمَقْتُهُ » بزيادة الميم المثلثة.
وقال الأصمعي :«الدَّهْمَقَة » : لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين، ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا ﴾٤ [ الأحقاف : ٢٠ ].
١ ينظر القرطبي ١٩/١٢٠، والبحر ٨/٤٠٢، والدر المصون ٦/٤٦٧..
٢ البيت لخداش بن زهير. ينظر القرطبي ١٩/١٢٠، والبحر ٨/٤٠٢، والدر المصون ٦/٤٦٧..
٣ ينظر: الصحاح ٤/١٤٧٨..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٢٠)..
قوله تعالى :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾ أي : في الجنة، وقيل : في الكأس. ﴿ لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً ﴾.
اللَّغو : الباطلُ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث :«إذا قُلتَ لِصاحبِكَ : أنْصِتْ، فَقَدْ لغَوْتَ »١ وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا، و«لا كِذَّاباً » أي : لا يتكاذبُون في الجنَّةِ.
وقيل : هما مصدران للتكذيب، وإنَّما خففها ؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له، وشدَّد قوله :﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ ؛ لأنَّ «كذَّبُوا » يفيد المصدر بالكذاب.
قال شهابُ الدين٢ :«وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في «كذَّبوا »، وهذا كما تقدم في قوله :﴿ فَتُفَجِّرَ الأنهار ﴾ [ الإسراء : ٩١ ]، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول ».
وقال مكيٌّ : مَنْ شدد جعله مصدر «كَذَّب »، زيدت فيه الألف، كما زيدت في «إكْرَاماً » وقولهم : تَكْذِيباً، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات، وقالوا :«تَكَلُّماً »، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف، وذلك لكثرة حروفه، وضمت «اللام » ولم تكسر ؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على «تفعَّل » ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي، وقراءة الكسائي :«كِذَّاباً » - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً.
وقيل : هو مصدر «كذب » كقولك : كتبتُ كِتَاباً.
١ تقدم..
٢ الدر المصون ٦/٤٦٧..
قوله :﴿ جَزَآءً ﴾. مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله :﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾، كأنَّه قيل : جازى المتقين بمفاز.
قوله :﴿ عَطَآءً ﴾ بدلٌ من «جَزاءً » وهو اسم مصدر ؛ قال :[ الوافر ]
٥٠٨٥- ***. . . وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا١
قال : وجعله الزمخشري٢ : منصوباً ب «جزاءً » نصب المفعول به.
ورده أبو حيان٣ بأنه جعل «جزاء » مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة، التي هي «إنَّ للمُتَّقِينَ »، قال :«والمصدر المؤكد لا يعمل ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً ».
قوله :«حساباً ». صفة ل «عطاءً »، والمعنى : كافياً، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه، أو على حذف مضاف، من قولهم : أحْسبَنِي الشيء أي : كفاني.
وقال قتادةٌ :«عَطاءً حِسَاباً » أي : كثيراً، يقال : أحسبتُ فلاناً أي : أكثرت له العطايا حتى قال : حسبي٤.
وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له، ولا مقدار، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾٥ [ الزمر : ١٠ ] وقرأ أبو البرهسم٦، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي : بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها.
وتخريجها : أنَّه مصدر : مثل :«كذّاب » أقيم مقام الوصف، أي : عطاء محسباً، أي : كافياً.
وابن قطيب : كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ.
قال أبو الفتح : بناء «فعَّال » من «أفْعَل » ك «دَرَّاك » من «أدْرك » بمعنى أنه صفة مبالغة من «حَسَب » بمعنى : كافي كذا.
وابن عباس٧ :«حَسَناً » بالنون من الحسن.
وسريج :«حَسْباً »٨ بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة، أي : عطاء كافياً، من قولك : حَسْبُك كذا، أي :«كافيك ».
١ تقدم..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٠..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٠٧..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤١٤)..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٠)..
٦ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٠، والمحرر الوجيز ٥/٤٢٨، والبحر المحيط ٨/٤٠٧، والدر المصون ٦/٤٦٨..
٧ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٠، والبحر المحيط ٨/٤٠٧، والدر المصون ٦/٤٦٨..
٨ ينظر السابق..
قوله تعالى :﴿ رَّبِّ السماوات ﴾.
قرأ نافعٌ، وابن كثير١، وأبو عمرو : برفع «رب » و«الرحمن ».
وابن عامر، وعاصم : بخفضهما.
والأخوان : يخفض الأول، ورفع الثاني.
فأما رفعهما، فيجوز من أوجه :
أحدها : أن يكون «ربُّ » خبر مبتدأ محذوف مضمر، أي :«هو رب »، و«الرحمن » كذلك، أو مبتدأ، خبره «لا يَمْلِكُون ».
الثاني : أن يجعل «ربُّ » مبتدأ، و«الرحمن » خبره، و«لا يملكون » خبر ثان، أو مستأنف.
الثالث : أن يكون «ربُّ » مبتدأ، و«الرحمن » مبتدأ ثان، و«لا يملكون » خبره، والجملة خبر الأول، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفشِ، ويجوز أن يكون «لا يَمْلِكُون » حالاً وتكون لازمة.
وأما جرهما : فعلى البدل، أو البيان، أوالنعت، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة٢.
وتجعل ﴿ رَّبِّ السماوات ﴾ تابعاً للأول، و «الرَّحْمن » تابعاً للثاني على ما تقدم.
وأمَّا الأول، فعلى التبعية للأول.
وأما رفع الثاني، فعلى الابتداء، والخبر : الجملة الفعلية، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر، و«لا يَمْلِكُونَ » على ما تقدم من الاستئناف، أو الخبر الثاني، أو الحال اللازمة.
قوله :﴿ لاَ يَمْلِكُونَ ﴾.
نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن الضمير في «لا يملكون » راجع إلى المشركينَ، أي : لا يخاطبهم الله.
وأما المؤمنون فيشفعون، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم٣.
وقال القاضي : إنَّه راجع للمؤمنين، والمعنى : أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ.

فصل في أنَّ الله عدل في عقابه


لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم، فبأيِّ سبب يُخاطبونه.
وقيل : الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته.
قال ابن الخطيب٤ : وهذا هو الصواب.
١ ينظر السبعة ٦٦٩، والحجة ٦/٣٧٠، وإعراب القراءات ٢/٤٣٣، وحجة القراءات ٧٤٧..
٢ آية ٧..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (٣١/٢١)، عن ابن عباس..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٢١..
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح﴾. منصوب على الظرف، إمَّا ب «لا يَتكلَّمُونَ» بعده، وإمَّا ب «لا يَمْلِكُونَ» و «صفًّاً» حال: أي: مُصطفِّيْنَ، و «لاَ يَتَكلَّمُونَ» إمَّا حال أو مستأنف.

فصل في المراد بالروح


احتلفوا في الروح.
فقال ابن عباس: هو ملك ما خلق الله بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفًّا، وقام الملائكة كلهم صفًّا، ونحوه عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: الرُّوح ملك أعظم من السموات السبع والأرضين السبع والجبال.
وقيل: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير.
وروى عن ابن عباس عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الرُّوحُ في هَذِهِ الآيةِ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ لَيْسُوا مَلائِكةً لَهُمْ رُءوسٌ وأيْدٍ وأرْجُلٌ يَأكُلونَ الطَّعام، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ »، وهذا قول أبي صالح، ومجاهد، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وعلى هذا هو خلقٌ
117
على صورة بني آدم كالناس، وليسوا بناس، وما ينزل من السماء ملك إلاَّ ومعه واحد منهم، نقله البغوي.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «هُمْ أرْواحُ النَّاسِ».
وقال مقاتل بن حيان: هُمْ أشراف الملائكة.
وقال ابن أبي نجيحٍ: هم حفظة على الملائكة.
وقال الحسن وقتادة: هم بنو آدم، والمعنى: ذو الروح.
وقال العوفي، والقرظي: هذا ممَّا كان يكتمه ابن عباس.
وقيل: أرواح بني آدم تقومُ صفًّا، فتقومُ الملائكةُ صفًّا، وذلك بين النَّفختين قبل أن تردُّ إلى الأجسادِ. قاله عطية.
وقال زيد بن أسلم: هو القرآن.
وقرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]، و ﴿صَفّاً﴾ مصدر؛ أي: يقومون صفوفاً، والمصدر يغني عن الواحد والجمع كالعدل، والصوم، ويقال ليوم العيد: يوم الصف.
وقال في موضع آخر سبحانه: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ [الفجر: ٢٢]، وهذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب، قيل: هما صفان.
وقيل: يقوم الكلُّ صفًّا واحداً، «لا يتَكلَّمُونَ» أي: لا يشفعون.
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «واو» يتكلَّمون، وهو الأرجح، لكونه غير موجب، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء.
والمعنى: لا يشفعون إلاَّ من أذن لهُ الرحمن في الشفاعة.
وقيل: لا يتكلمون إلا في حقِّ من أذنَ له الرحمنُ، وقال صواباً.
والمعنى: لا يشفعون إلاَّ في حقِّ شخصٍ أذن الرحمن في شفاعته، وذاك الشخص كان ممن قال صواباً، والمعنى قال صواباً، يعنى: «حقًّا». قاله الضحاك ومجاهد.
وروى الضحاكُ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: لا يشفعون إلاَّ لمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصل الصَّواب: السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيبُ.
118
وقيل: «لا يتكلَّمون» يعني: الملائكة، والروح الذين كانوا صفًّا لا يتكلمون هيبة وإجلالاً إلا من أذن له الرب تعالى في الشفاعة، وهم الذين قالوا صواباً، وأنهم يوحدون الله - تعالى - ويسبِّحونه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ اليوم الحق﴾. «ذلك» إشارة إلى ما تقدَّم ذكره ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً﴾، أي: موجباً بالعمل الصالح.
وقال قتادة: «مآباً» سبيلاً.
ثم إنه - تعالى - زاد في تخويف الكفَّار فقال تعالى:
﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ يعني العذاب في الآخرة، وسماه قريباً؛ لأن كل ما هو آت قريب. كقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: ٤٦].
وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين.
وقال مقاتل: هي قتل قريش ب «بدر»، وهذا خطاب لكفَّار قريش، ولمشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نُبْعَثُ، وإنَّما سمَّاهُ إنذاراً؛ لأنَّه - تعالى - قد خوَّف بهذا الوصف نهاية التخويف، وهو معنى الإنذار.
قوله: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ المرء﴾. يجوز أن يكون بدلاً من «يوم» قبله، وأن يكون منصوباً ب «عذاباً» أي: العذاب واقع في ذلك اليوم.
وجوّز أبو البقاء ان يكون نعتاً ل «قريباً» ولو جعله نعتاً ل «عَذاباً» كان أولى.
والعامَّة: بفتح ميم «المرء» وهي الغالبة، وابن أبي إسحاق: بضمها، وهي لغة يتبعُون اللام الفاء.
وخطَّأ أبو حاتم هذه القراءة، وليس بصواب لثبوتها لغة.

فصل في المراد ب «المرء»


أراد بالمرء: المؤمن في قول الحسن، أي: ليجد لنفسه عملاً، فأمَّا الكافر فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً، قال: ﴿وَيَقُولُ الكافر﴾ فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن، وقيل: المراد هنا أبيُّ بنُ خلفٍ، وعُقبَةُ بنُ أبِي معيط، ويَقول الكافِرُ: أبو جهل.
وقيل: هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبَتْ.
119
قوله: ﴿مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾. يجوز في «ما» أن تكون استفهامية معلقة ل «يَنْظُر» على أنَّه من النظر، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض، وأن تكون موصولة مفعولة بها، والنَّظر بمعنى الانتظارِ، أي: ينتظر الذي قدمت يداه.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً﴾.
العامة: لا يدغمون تاء «كنت تراباً» قالوا: لأنَّ الفاعل لا يحذف، والإدغامُ يشبه الحذف، وفي قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الكافر﴾ وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك.

فصل في نزول هذه الآية


قال مقاتل: نزل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ في أبِي سلمةَ بْنِ عَبْدِ الأسدِ المخزوميِّ.
ويقول الكافر: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» في أخيه بْنِ عبدِ الأسدِ.
وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر هنا إبليس - لعنة الله عليه - وذلك بأنه عاب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه خلقَ من تُرابٍ، وافتخر بأنه خلقَ من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه من آدم وبنوه من الثواب والراحة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه كان بمكان آدم، فيقول: يا ليتني كنت تراباً، قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر.
روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «يُحْشَرُ الخَلقُ كُلُّهُمْ مِنْ دابَّةٍ، وطَائِرٍ، وإنْسَانٍ، ثُمَّ يُقَالُ للبَهَائِمِ والطَّيْرِ: كُونُوا تُرَاباً، عند ذلكَ يَقُولُ الكَافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً».
وقيل: معنى «يا ليتني كنت تراباً» أي: لم أبعثْ.
وقال أبو الزناد: إذا قُضِيَ بين الناس، وأمِرَ بأهْلِ الجنَّة إلى الجنَّة، وأهْلِ النَّار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولو من الجن: عودوا تراباً، فيعودون تراباً، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم: يا ليتني كنت تراباً.
وقال ليث بن أبي سليم: مُؤمنو الجِنِّ يعُودُونَ تُرَاباً.
وقال عُمرُ بْنُ عبدِ العزِيْزِ والزُّهْرِيُّ والكلبيُّ ومجاهدٌ: مؤمنو الجِنِّ حول الجنَّةِ في رَبضِ ورحابٍ وليسوا فيها، وهذا أصح، فإنهم مُكَلَّفُونَ: يُثَابُونَ ويُعَاقَبُونَ كبَنِي آدمَ.
روى الثعلبي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ سقاه الله تعالى بَرْدَ الشَّرابِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
120
سورة النازعات
121
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ اليوم الحق ﴾. «ذلك » إشارة إلى ما تقدَّم ذكره ﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً ﴾، أي : موجباً بالعمل الصالح.
وقال قتادة :«مآباً » سبيلاً١.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤١٨)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٧)، وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
ثم إنه - تعالى - زاد في تخويف الكفَّار فقال تعالى :﴿ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ﴾ يعني العذاب في الآخرة، وسماه قريباً ؛ لأن كل ما هو آت قريب. كقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ].
وقال قتادة : عقوبة الدنيا ؛ لأنه أقرب العذابين١.
وقال مقاتل : هي قتل قريش ب «بدر »، وهذا خطاب لكفَّار قريش، ولمشركي العرب ؛ لأنهم قالوا : لا نُبْعَثُ، وإنَّما سمَّاهُ إنذاراً ؛ لأنَّه - تعالى - قد خوَّف بهذا الوصف نهاية التخويف، وهو معنى الإنذار٢.
قوله :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ المرء ﴾. يجوز أن يكون بدلاً من «يوم » قبله، وأن يكون منصوباً ب «عذاباً » أي : العذاب واقع في ذلك اليوم.
وجوّز أبو البقاء أن يكون نعتاً ل «قريباً » ولو جعله نعتاً ل «عَذاباً » كان أولى.
والعامَّة : بفتح ميم «المرء » وهي الغالبة، وابن أبي إسحاق٣ : بضمها، وهي لغة يتبعُون اللام الفاء.
وخطَّأ أبو حاتم هذه القراءة، وليس بصواب لثبوتها لغة.

فصل في المراد ب «المرء »


أراد بالمرء : المؤمن في قول الحسن، أي : ليجد لنفسه عملاً، فأمَّا الكافر فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً، قال :﴿ وَيَقُولُ الكافر ﴾ فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن، وقيل : المراد هنا أبيُّ بنُ خلفٍ، وعُقبَةُ بنُ أبِي معيط، ويَقول الكافِرُ : أبو جهل.
وقيل : هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبَتْ.
قوله :﴿ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾. يجوز في «ما » أن تكون استفهامية معلقة ل «يَنْظُر » على أنَّه من النظر، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض، وأن تكون موصولة مفعولة بها، والنَّظر بمعنى الانتظارِ، أي : ينتظر الذي قدمت يداه.
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً ﴾.
العامة : لا يدغمون تاء «كنت تراباً » قالوا : لأنَّ الفاعل لا يحذف، والإدغامُ يشبه الحذف، وفي قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الكافر ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك.

فصل في نزول هذه الآية


قال مقاتل : نزل قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ في أبِي سلمةَ بْنِ عَبْدِ الأسدِ المخزوميِّ. ويقول الكافر :«يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً » في أخيه بْنِ عبدِ الأسدِ٤.
وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس - لعنة الله عليه - وذلك بأنه عاب آدم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خلقَ من تُرابٍ، وافتخر بأنه خلقَ من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه من آدم وبنوه من الثواب والراحة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه كان بمكان آدم، فيقول : يا ليتني كنت تراباً، قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر.
روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :«يُحْشَرُ الخَلقُ كُلُّهُمْ مِنْ دابَّةٍ، وطَائِرٍ، وإنْسَانٍ، ثُمَّ يُقَالُ للبَهَائِمِ والطَّيْرِ : كُونُوا تُرَاباً، عند ذلكَ يَقُولُ الكَافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً »٥.
وقيل : معنى «يا ليتني كنت تراباً » أي : لم أبعثْ.
وقال أبو الزناد : إذا قُضِيَ بين الناس، وأمِرَ بأهْلِ الجنَّة إلى الجنَّة، وأهْلِ النَّار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولو من الجن : عودوا تراباً، فيعودون تراباً، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم : يا ليتني كنت تراباً.
وقال ليث بن أبي سليم : مُؤمنو الجِنِّ يعُودُونَ تُرَاباً.
وقال عُمرُ بْنُ عبدِ العزِيْزِ والزُّهْرِيُّ والكلبيُّ ومجاهدٌ : مؤمنو الجِنِّ حول الجنَّةِ في رَبضِ ورحابٍ وليسوا فيها، وهذا أصح، فإنهم مُكَلَّفُونَ : يُثَابُونَ ويُعَاقَبُونَ كبَنِي آدمَ.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٣)..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٢٩، والبحر المحيط ٨/٤٠٨، والدر المصون ٦/٤٦٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٢٩، والبحر المحيط ٨/٤٠٨، والدر المصون ٦/٤٦٩..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٢٣)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤١٩)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٧)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "البعث"..
Icon