ﰡ
مكية، مائة وثلاث وعشرون آية، ألف وتسعمائة وسبع وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة عشر حرفا
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما رصيفا متقنا ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت فصولا من دلائل التوحيد والنبوة، والأحكام، والمواعظ، والقصص مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) صفة ثانية لكتاب أو صلة للفعلين كأنه تعالى يقول: أحكمت آياته من عند حكيم أي واضع الشيء بالحكمة وفصلت آياته من عند خبير أي عالم بكيفيات الأمور أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» تفسيرية لفصلت فإنها في معنى القول إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي من جهة الحكيم الخبير نَذِيرٌ بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى وَبَشِيرٌ (٢) بثوابه إن تمحضتم في عبادته وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوف على أن لا تعبدوا ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يعشكم عيشا مرضيا إلى وقت مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم فمن أخلص لله في القول والعمل عاش في أمن من العذاب وراحة مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله كان انقطاعه عن الخلق أكمل وسروره أتم لأنه آمن من زوال محبوبه ومن كان مشتغلا بحب غير الله كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وَيُؤْتِ أي يعط في الدنيا وفي الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الإسلام والطاعة فَضْلَهُ أي ثوابه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عمّا ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بموجب الشفقة عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) هو يوم القيامة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ثم البعث للجزاء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) فيقدر على تعذيبكم بأفانين العذاب أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي تنبه أن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء.
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه من منافقي مكة وكان رجلا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضمر في قلبه العداوة يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ
روي أن موسى عليه السلام تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة، ثم ضرب بعصاه فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الله الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني وسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مكانها في الأرض قبل الموت وبعده وَمُسْتَوْدَعَها أي موضعها قبل الاستقرار من صلب أو رحم بيضة كُلٌّ من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها وأحوالها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) أي ثابت في علم الله ومذكور في اللوح المحفوظ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي خلق السموات في يومين، والأرض في يومين، وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلقهما عَلَى الْماءِ
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء»
«١» أي والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل على كمال قدرته تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أي خلق السموات والأرض وما فيهما ورتب فيها جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع فيهما ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به وَلَئِنْ قُلْتَ يا أشرف الخلق لأهل مكة إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ أي محيون مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أي ما هذا القول إلا خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازا لهم إلى الاعتقاد لكم والدخول تحت طاعتكم.
وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» أي كاذب وحينئذ فاسم الإشارة عائد على النبي أو القرآن وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الذي هددهم الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم به إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى انقراض جماعة من الناس بعد هذا التهديد بالقول لَيَقُولُنَّ بطريق الاستعجال استهزاء ما يَحْبِسُهُ
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عند البلاء استسلاما لقضاء الله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عند الراحة والخير شكرا على ذلك أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وإن جمت وَأَجْرٌ أي ثواب كَبِيرٌ (١١) لأعمالهم الحسنة فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فلعل للزجر وللتبعيد أي لا تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك من البينات الدالة على حقيقة نبوتك ولا يضق صدرك بتلاوته عليهم في أثناء الدعوة والمحاجة كراهة أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد كَنْزٌ أي مال كثير مخزون يدل على صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه.
والمعنى لا تترك التبليغ ولا يضق صدرك به بسبب قول القوم لك إن كنت صادقا في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وبأنك عزيز عنده مع إنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكدر والعناء وإن كنت صادقا فهلا أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فنزل قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فلا تبال بما صدر عنهم من الرد والقبول وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أي حفيظ فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون افترى محمد القرآن من تلقاء نفسه وليس من عند الله قُلْ لهم إرخاء للعنان: إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ أي القرآن في البلاغة وحسن النظم مُفْتَرَياتٍ من عند أنفسكم فإنكم أقدر ذلك مني لأنكم عرب فصحاء ممارسون للأشعار، ومزاولون أنواع النظم والنثر وَادْعُوا للمعاونة في المعارضة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام والكهنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) في ادعاء كون القرآن مفترى على الله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا أي من تدعونهم من دون الله لَكُمْ أيها الكفار في الإعانة على المعارضة فَاعْلَمُوا يا معشر الكفار أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي إن الذي أنزل ملتبس بعلم الله أي هو من عند الله إذ لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أنه لا شريك له في الألوهية ولا يقدر على ما يقدر هو عليه أحد، أي لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقا وثبت كون محمد صلّى الله عليه وسلّم صادقا في دعوى الرسالة وفي خبره أنه لا إله إلا الله فَهَل
(١٤) أي فهل أنتم داخلون في الإسلام. والمعنى فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون في ملماتكم إلى المعاونة فاعلموا أن القرآن خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر، واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام هذه الحجة القاطعة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها بعمل الخير من العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوانات نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وَهُمْ فِيها أي في الحياة الدنيا لا يُبْخَسُونَ (١٥) أي لا ينقصون نقصا كليا ولا يحرمون من ذلك حرمانا كليا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة، وسعة الرزق، وكثرة الأولاد ونحو ذلك أُولئِكَ أي المريدون لزينة الدنيا الموفون فيها ثمرات أعمالهم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونة بالرياء.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قيل: وما جب الحزن؟ قال:
«واد في جهنم يلقى فيه القراء والمراؤون»
«١».
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه»
«٢». وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وهذا إن تعلق بحبط، فالضمير عائد على «الآخرة»، أي وظهر في الآخرة حبط ما صنعوه من الأعمال وإن تعلق «بصنعوا» فالضمير يعود على الحياة الدنيا أي وحبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) فباطل إما خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، أو عطف على الخبر وما بعده فاعل له، ويرجح هذا قراءة زيد بن على وبطل ما كانوا يعملون على صيغة الماضي معطوف على حبط أي ظهر بطلان عملهم في نفسه في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية.
وقرئ «وباطلا» ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو في معنى المصدر أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أي أفمن كان على برهان من ربه عرف به صحة الدين الحق ويتبع ذلك البرهان شاهد من ربه وهو القرآن ويتبع ذلك البرهان من قبل مجيء الشاهد الذي هو القرآن شاهد آخر وهو كتاب موسى حال كونه مقتدى به في الدين وسببا لحصول الرحمة لأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها في أنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار، لا بل بين الفريقين تباين بين فالحاصل أنه اجتمع في تثبيت صحة هذا الدين أمور ثلاثة:
(٢) رواه السيوطي في جمع الجوامع (٣٢٦٤).
وثانيها: شهادة القرآن بصحته.
وثالثها: شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه فلا يبقى في صحته شك أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الحميدة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن كعبد الله بن سلام وغيره ممن اتصف بتلك الصفات وهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن مِنَ الْأَحْزابِ أي أصناف الكفار فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي مكان وعده وهي التي فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يسمع ابن يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار».
قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ من أن مصير من كفر بالقرآن النار أن هذا الوعد هو الثابت ممن يريبك في دينك ودنياك والخطاب للنبي. والمراد غيره وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) بذلك إما لاختلال أفكارهم وإما لعنادهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إيه ما لا يليق به كقولهم في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله أُولئِكَ الموصوفون بالافتراء على الله تعالى يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عرضا تظهر به فضيحتهم أي يساقون إلى الأماكن المعدة للحساب والسؤال وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم في الدنيا والأنبياء عند العرض هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ بالافتراء عليه ثم لما أخبر الله تعالى عن حالهم في القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) بالتزام الكفر والضلال أي إنهم في الحال الملعونون من عند الله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الذين يمنعون من الدين الحق كل من يقدرون على منعه بإلقاء الشبهات وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون سبيل الله زيغا بتعويج الدلائل المستقيمة وَهُمْ أي والحال أنهم بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أي بالبعث بعد الموت جاحدون أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يمكنهم أن يفلتوا بأنفسهم من عذاب الله بالهرب من الأرض مع سعتها إن أراد الله تعذيبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أنصار يدفعون عذاب الله عنهم أي إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار ونحوه، ولا لأجل أن لهم ناصرا يمنع العذاب عنهم كما زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله بل لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم وعلى إضلالهم غيرهم، وهذا غير خارج عن قوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: ١٦٠].
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
أي فإنهم اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله تعالى وهذا أعظم وجوه الخسران وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
(٢١) من شفاعة الأصنام لهم فلم يبق معهم غير الندامة لا جَرَمَ أي لا بد أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) بذهاب الجنة وما فيها أي أنهم أخسر من كل خاسر لأنهم أظلم من كل ظالم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي إن الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وأتوا بالأعمال الصالحات، واطمأنت قلوبهم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى، واطمأنت إلى صدق وعد الله بالثواب على تلك الأعمال وخافت قلوبهم من أن يكونوا أتوا بتلك الأعمال مع وجود الإخلال ومن أن لا تكون مقبولة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجميلة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) أي دائمون مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي صفة الكافر كصفة شخص متصف بالعمى والصمم فلا يهتدى لمقصوده، وصفة المؤمن كصفة شخص متصف بالبصر والسمع فاهتدى لمطلوبه هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة وحالا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) أي أتشكون في عدم الاستواء ولا تتعظون بأمثال القرآن فتؤمنوا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ للعصاة من العقاب مُبِينٌ (٢٥) أي بين النذارة، فأبين لكم طريق الخلاص من العذاب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الهمزة أي متلبسا بالإنذار. والباقون بالكسر على معنى فقال: إني لكم. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من «أني لكم» إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلقة بأرسلنا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) في الدنيا أو في الآخرة فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي ما نعلمك إلا آدميا مثلنا ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا كالحجامين والنساجين والأساكفة بادِيَ الرَّأْيِ.
قرأ أبو عمرو ونصر عن الكسائي «بادئ» بالهمزة. والباقون بالياء ونصبه على الظرفية أي في ابتداء حدوث الرأي ولو احتاطوا في الكفر ما اتبعوك أو في ظاهر رأي العين وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لا نرى لك ولمن تبعوك بعد الاتباع فضلا علينا لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) أي بل نظنك يا نوح في دعوى النبوة، ونظن أصحابك كاذبين في تصديق نبوتك قالَ أي نوح: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان عقلي في معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي نبوة ومعجزة دالة على النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي وصار ذلك البرهان مشكوكا في عقولكم.
وَلا أَقُولُ لَكُمْ حين أدعي النبوة عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي رزقه وأمواله وهذا رد لقولهم: وما نرى لكم علينا من فضل كالمال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أقول:
إني أعلم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وهذا رد لقولهم: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، أي في ظاهر حالهم وأول فكرهم وفي الباطن لم يتبعوك فقال نوح لهم: إني إنما أعول على الظاهر لا أعلم الغيب فأحكم به وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا فكأن نوحا قال: أنا لم أدّع الملكية حتى تقولوا ذلك. أي إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلق بالفضائل النفسية التي بها تتفاوت مقادير البشر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي ولا أقول كما تقولون في حق الذين تحتقرهم أعينكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي هداية
وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج. وجعل لها ثلاث بطون،
والعة قاله مقاتل. وقال الضحّاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أن اسم امرأة نوح: واعلة، واسم امرأة لوط: والهة».
وورد في تفسير الجلالين لسورة هود: «كانت امرأة نوح اسمها: واهلة... وامرأة لوط واسمها: واعلة».
أي إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب في الدنيا، ويهينه وهو عذاب الغرق من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) أي وأينا ينزل عليه عذاب النار الدائم في الآخرة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا الموعود به وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء من تنور الخبز وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها.
روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب وقيل: كان التنور لآدم وكانت حواء تقمر فيه فصار إلى نوح وكان من حجارة وهو في الكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة في المسجد قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
وقرأ حفص «من كل» بالتنوين أي من كل شيء زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر.
على قراءة غيره إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم في قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: ٣٧] الآية. والمراد به: ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين فحمل في السفينة زوجته المؤمنة وأولادها الثلاثة مع نسائهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. وَمَنْ آمَنَ عطف على زوجين أو على اثنين أي واحمل من آمن من غير أهلك وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠).
وعن ابن عباس قال: كان في سفينة نوح ثمانون. إنسانا نصفهم رجال ونصفهم نساء.
وقال مقاتل: في ناحية الموصل قرية يقال لها: قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم
وَقالَ أي نوح عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ أي اركبوا في السفينة ذاكرين اسم الله مَجْراها وَمُرْساها أي
قال علماء السير: أرسل الله تعالى المطر أربعين يوما وليلة وخرج الماء من الأرض وارتفع الماء على أعلا جبل وأطوله أربعون ذراعا حتى أغرق كل شيء وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان قبل سير السفينة وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) أي في المكان وهو وجه الأرض خارج السفينة لا في الدين لأن نوحا عليه السلام يحذر ابنه عن الهلكة لا ينهى عن الكفر في ذلك الوقت قالَ سَآوِي أي ألتجئ إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ لارتفاعه قالَ أي نوح: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي عذابه إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي إلا الله الراحم والتقدير لا فرار من الله إلا إلى الله. وهذا تأويل في غاية الحسن. وقيل: لا مكان يعصم من عذاب الله إلا مكان من رحمة الله وهو السفينة. وقيل: لا ذا عصمة إلا من رحمه الله وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي حال الموج بين نوح وابنه كنعان فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) أي فصار كنعان من المهلكين بالطوفان وَقِيلَ أي قال الله يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي أنشفي ما على وجهك من ماء الطوفان وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر وَغِيضَ الْماءُ أي ونقص ما بين السماء والأرض من الماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم الأمر من هلاك قوم نوح وَاسْتَوَتْ أي استقرت الفلك عَلَى الْجُودِيِّ أي على جبل بالجزيرة قريب من الموصل يقال له: الجودي وكان ذلك الجبل منخفضا.
روي أنه عليه السلام ركب في الفلك في عاشر رجب، ومرت بالبيت الحرام فطافت به سبعا ونزل عن الفلك عاشر المحرم فصام ذلك اليوم وأمر من معه بصيامه شكر الله تعالى، وبنوا قرية بقرب ذلك الجبل فسموها قرية الثمانين فهي أول قرية عمّرت على الأرض بعد الطوفان وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) أي قال نوح وأصحابه بعدوا بعدا من رحمة الله للقوم المشركين بحيث لا يرجى عودهم وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي كنعان مِنْ أَهْلِي وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن قولك واحمل أهلك وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي إن كل وعد تعده لا يتطرق إليه خلف وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) أي لأنك أعدل الحاكمين وهذا دعاء سيدنا نوح عليه السلام في غاية التلطف وهو مثل دعاء سيدنا أيوب عليه
وقرأ الكسائي ويعقوب «عمل» على صيغة الفعل و «غير» بالنصب أي لأنه عمل عملا غير مرضي وهو الشرك فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) أي إني أنهاك عن أن تكون من الجاهلين بالسؤال. سمي سؤاله عليه السلام جهلا لأنّ حب الولد شغله عن تذكر استثناء من سبق عليه القول منهم بالإهلاك قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أعوذ بك من أن أطلب منك من بعد هذا مطلوبا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) أعمالا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى إقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية وإنما لجأ إلى الله تعالى وسأله المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين قِيلَ أي قال الله: يا نُوحُ اهْبِطْ أي انزل من السفينة بِسَلامٍ أي ملتبسا بأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية عليك وهذا بشارة من الله تعالى بالسلامة من التهديد وبنيل الحاجات من المأكول والمشروب وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى يوم القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة ممن معك سَنُمَتِّعُهُمْ مدة في الدنيا ثُمَّ في الآخرة يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) فقوله وأمم مبتدأ وجملة قوله سنمتعهم خبر تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي تلك التفاصيل التي بيناها من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق نُوحِيها أي تلك الأخبار إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ بطريق التفصيل مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل إيحائنا إليك بنزول القرآن فَاصْبِرْ على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح على أذى أولئك الكفار إِنَّ الْعاقِبَةَ أي آخر الأمر بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) كما عرفته في نوح وقومه ولك فيه أسوة حسنة وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي ولقد أرسلنا إلى عاد واحدا منهم في النسب نبيهم هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع صفة للمحل وبالجر على قراءة الكسائي صفة للفظ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) أي كاذبون في قولكم: إن الأصنام تستحق العبادة
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على إرشادكم إلى التوحيد أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من بعد التوحيد بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير السيلان وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ بالمال والولد والشدة
كائنة مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وهو العذاب الأخروي وَتِلْكَ القبيلة عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي دلالة المعجزات على صدق هود وَعَصَوْا رُسُلَهُ وجمع الرسول مع أنه لم يرسل إليهم غير هود لبيان أن عصيانهم له عليه السلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ أي مرتفع متمرد عَنِيدٍ (٥٩) أي منازع معارض. أي واتبع السفلة أمر رؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب الرسل وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعل الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير مصاحبا لهم وملازما في الدنيا والآخرة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي كفروا بربهم أَلا بُعْداً لِعادٍ وهذا دعاء عليهم بالهلاك وتحقيرهم قَوْمِ هُودٍ (٦٠) عطف على بيان لعاد وهذه عاد القديمة إرم ذات العماد واحترز به عن عاد الثانية
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وثمود اسم أبي القبيلة وبين صالح وبينه خمسة أجداد، وبين صالح وهود مائة سنة وعاش صالح مائتي سنة وثمانين سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فإن الإنسان مخلوق من المني وهو متولد من الدم، وهم متولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما
وقرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون هنا، وفي المعارج «يومئذ» بفتح الميم لإضافة «يوم» إلى «إذ»، وهو مبني فيكون مبنيا. والباقون بكسر الميم فيهما لإضافة «يوم» إلى الجملة من المبتدأ والخبر، فلما قطع المضاف إليه عن «إذ» نوّن ليدل التنوين على ذلك، ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين ولم يلزم من إضافة يوم إلى المبني أن يكون مبنيا لأن هذه الإضافة غير لازمة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) فإنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذابا، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحانا. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ مع الزلزلة أي صيحة جبريل فقد صاح عليهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) ميتين لا يتحركون ولا يضطربون عند ابتداء نزول العذاب ساقطين على وجوههم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم فإنهم صاروا رمادا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) قوم صالح من رحمة الله وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى أي متلبسين بالبشارة له بالولد من سارة قالُوا سَلاماً أي سلمنا عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي قال إبراهيم: أمري سلام أي لست مريدا غير السلامة.
وقرأ حمزة والكسائي هنا «وفي الذاريات» بكسر السين وسكون اللام فَما لَبِثَ أي إبراهيم أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ أي في المجيء بولد بقرة حَنِيذٍ (٦٩) أي مشوي على حجارة محماة في حفرة في الأرض فوضعه بين أيديهم فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم وَأَوْجَسَ أي أدرك مِنْهُمْ خِيفَةً وظن أنهم لصوص حيث لم يأكلوا من طعامه فلما علموا خوفه قالُوا لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إِنَّا أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وهو ابن هاران أخي إبراهيم
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ تخدم الأضياف وتسمع مقالتهم وإبراهيم عليه السلام جالس معهم فَضَحِكَتْ أي ففرحت سارة بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم وبحصول البشارة بحصول الولد، وبهلاك أهل الفساد.
وقال مجاهد وعكرمة: أي حاضت سارة عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ على ألسنة رسلنا وإنما نسبت البشارة لسارة دون سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنها كانت أشوق إلى الولد منه لأنها كانت لم يأتها ولد قط بخلافه فقد أتاه
لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطا. قالوا:
نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أي غير عجول على كل من أساء إليه فلذلك طلب تأخير العذاب عنهم رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة عن المعاصي أَوَّاهٌ أي كثير التضرع إلى الله عند وصول الشدائد إلى الغير مُنِيبٌ (٧٥) أي رجاع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم قالت الملائكة لإبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي اترك هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإيصال هذا العذاب إليهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) أي غير مصروف عنهم ولا
مدفوع بجدال ولا دعاء ولا غيرهما وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا أي هؤلاء الملائكة لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي حزن بسببهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي صدرا لأنهم انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط عليهما السلام ودخلوا عليه في صور شبان مرد حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه وأن يعجز عن مدافعتهم وبين القريتين أربع فراسخ وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) أي شديد علي، فلما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام ولم يعلم بذلك أحد خرجت امرأته الكافرة فأخبرت قومها وقالت: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوها ولا أنظف ثيابا، ولا أطيب رائحة منهم. وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ أي يسوق بعضهم بعضا إِلَيْهِ لطلب الفاحشة من أضيافه وَمِنْ قَبْلُ أي والحال من قبل مجيء هؤلاء الملائكة إلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ وهي إتيان الرجال في
وقال السدي: اسم الكبرى ريا، والصغرى رغوثا وكان في ملته يجوز تزوج الكافر بالمسلمة، أو قال ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم، لا لعدم جواز تزويج المسلمات من الكفار فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تخجلوني في أضيافي لأن مضيف الضيف يلزمه الخجل من كل فعل قبيح يصل إلى الضيف أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) يهتدي إلى الحق ويرعوي عن الباطل، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي شهوة أي إنك قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) من إتيان الذكران قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) أي لو قويت على دفعكم بنفسي أو رجعت إلى عشيرة قوية لبالغت في دفعكم. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن من قومه نسب بل كان غريبا فيهم لأنه كان أولا بالعراق مع إبراهيم فلما هاجرا إلى الشام أرسله الله تعالى إلى أهل سذوم- وهي قرية عند حمص- أو المعنى لو قويت على الدفع لدفعتكم بل أعتصم بعناية الله تعالى
قالُوا أي هؤلاء الملائكة: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فاخرج مع أهلك في نصف الليل لتستبقوا العذاب الذي موعده الصبح وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع أي لا يتأخر منكم أحد إلا امرأتك واعلة المنافقة. والباقون بالنصب. والمعنى لا ينظر أحد إلى ورائه منك ومن أهلك إلا امرأتك وإنما نهوا عن الالتفات ليسرعوا في السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة وهذه القراءة تقتضي كون لوط غير مأمور بالإسراء بها وقراءة الرفع تقتضي كونه مأمورا بذلك إِنَّهُ مُصِيبُها أي امرأتك ما أَصابَهُمْ من العذاب إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي إن وقت عذابهم وهلاكهم الصبح لأنه وقت الراحة فحلول العذاب حينئذ أفظع وهذا تعليل للنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) وهذا تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواضع العذاب فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا وهو الصبح جَعَلْنا عالِيَها أي عالي قرى قوم لوط وهي خمس مدائن فيها أربعمائة ألف ألف سافِلَها.
وقرئ «تقية الله» بالفوقية أي تقواه تعالى عن المعاصي. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) أي أحفظكم من القبائح ولست بحافظ عليكم نعم الله إذ لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت النعم عنكم قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا وقوله: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على «ما يعبد»، و «أو» بمعنى الواو. والمعنى هلا صلاتك تأمرك بتكليفك إيانا ترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان، وترك فعلنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص.
روي أن شعيبا كان كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك السخرية إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) أي كنت عندنا مشهورا بأنك حليم رشيد فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي علم وهداية ودين ونبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ أي من عنده بإعانته بلا كد مني
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى المنع عن طريق الحق كما هو ديدن المفحم المحجوج وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً أي لا تقدر على منع القوم عن نفسك إن أرادوا بك سوءا وَلَوْلا رَهْطُكَ أي لولا حرمة قومك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لَرَجَمْناكَ
أي لقتلناك بالحجارة أو لشتمناك وطردناك وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) أي معظم فيسهل علينا قتلك وإيذاؤك وإنما نمتنع من ذلك لرعاية حرمة عشيرتك لموافقتهم لنا في الدين لا لقوة شوكتهم. قالَ لهم: يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ والمعنى حفظكم إياي رعاية الأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي فالله تعالى أولى أن يتبع أمره وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي جعلتم الله شيئا منبوذا خلف ظهرك منسيا لا يعبأ به إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال السيئة مُحِيطٌ (٩٢) أي عالم فلا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية استطاعتكم من إيصال الشرور إلى إِنِّي عامِلٌ بقدر ما آتاني الله
وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي فما نفعتهم أصنامهم الذين يعبدونها في شيء
وقرئ «آلهتهم اللاتي» بالجمع، و «يدعون» بالبناء للمجهول وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وقرأ عاصم والجحدري «إذ أخذ» بألف واحدة. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي ومثل ذلك الأخذ المذكور أخذ ربك أهل القرى إذا أخذهم وهم ظالمون أنفسهم بالكفر أي إن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) أي وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص إِنَّ فِي ذلِكَ أي القصص السبعة لَآيَةً أي لموعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فينتفع بسماع هذه القصص ويعلم أن القادر على إنزال عذاب الدنيا قادر على إنزال عذاب الآخرة فإن في هذه القصص عذاب الدارين وقد حصل عذاب الدنيا ذلِكَ أي يوم الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون للمحاسبة والجزاء وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) أي يحضر فيه أهل السماء وأهل الأرض وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) أي إلا لأجل انقضاء وقت محدود وهو مدة الدنيا يَوْمَ يَأْتِ أي حين يأتي ذلك اليوم المؤخر لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي الله تعالى في التكلم فالمأذون في الكلام هو الجوابات الصحيحة والممنوع عنه هو ذكر الأعذار الباطلة فَمِنْهُمْ أي من أهل الموقف شَقِيٌّ أي من مات على الكفر وإن تقدم منه إيمان وَسَعِيدٌ (١٠٥) أي من مات على الإيمان وإن تقدم منه كفر. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي فمستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي صوت شديد وَشَهِيقٌ (١٠٦) أي صوت ضعيف خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وإلا في المعنى بمعنى واو العطف، والاستثناء منقطع بقدر بلكن أو بسوى. فالمعنى دائمين في النار مثل دوام السموات والأرض منذ خلقت إلى أن تفنى، وزيادة على هذه المدة وهي ما شاء مما لا نهاية له إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) من غير اعتراض وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أي مثل دوام السموات والأرض منذ خلقتا سوى ما شاء ربك زائدا على ذلك وهو لا منتهى له عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) أي غير مقطوع وعطاء نصب على المصدرية أي يعطيهم عطاء وهذا ظاهر في أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة وما ذكر من أن عذاب الكفار في جهنم دائم أبدا هو ما دلت عليه الآيات والأخبار، وأطبق عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا ولا ظلم على الله في ذلك لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا فعوقب دائما فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا.
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم «إن» و «لما» مخففتين، وأبو عمرو والكسائي شددا «إن» وخففا «لما»، وحمزة وابن عامر وحفص شددوهما، أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين والله لفريق يوفيهم ربك أجزية أعمالهم، أو المعنى وإن جميعهم والله لَيُوَفِّيَنَّهُمْ الآية.
قالوا: وأحسن ما قيل إن أصل لما لمّا بالتنوين بمعنى جميعا إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) أي إن ربك بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عالم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي مثل الاستقامة التي أمرت في العقائد والأعمال والأخلاق فإن الاستقامة في العقائد اجتناب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط وهذا في غاية العسر
وعن بعضهم قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم فقلت له: روي عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها، فقال: «نعم» فقلت: وبأي آية؟ فقال بقوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ»
«١». وَمَنْ تابَ مَعَكَ من الكفر وشاركك في الإيمان ف «من» منصوب على أنه مفعول معه أو مرفوع عطف على الضمير في أمرت وَلا تَطْغَوْا أي لا تتحرفوا عمّا حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلّا طرفي قصد الأمور ذميم إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) فيجازيكم على ذلك وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تميلوا أدنى ميل إلى الذين وجد منهم الظلم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي فتصيبكم بسبب ذلك وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي من أنصار ينقذونكم من النار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) من جهة الله تعالى.
وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر»
«١».
روي أن أبا اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تشتري تمرا فقلت لها: إن في البيت تمرا أطيب من هذا. فدخلت معي البيت، فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فلم أصبر حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لي: «أخنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» وأطرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طويلا حتى نزلت هذه الآية فقرأها علي فقال:
«نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت»
«٢». ذلِكَ أي القرآن ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) أي عظة للمتعظين أو ذلك الحسنات كفارات لذنوب التائبين. وَاصْبِرْ يا أشرف الخلق على مشاق ما أمرت به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) أي إن الله يوفي الصابرين أجور أعمالهم من غير بخس أصلا فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ والمراد بالتخصيص النفي أي فما كان من القرون الماضية المهلكة بالعذاب جماعة أصحاب جودة في العقل، وفضل ينهون عن الفساد إلا قليلا وهم من أنجيناهم من العذاب نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي واتبع الذين تركوا النهي عن المنكرات ما أنعموا من الشهوات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وأعرضوا عما وراء ذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) أي كافرين فإن سبب استئصال الأمم المهلكة فشو الظلم وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) أي لا يهلك ربك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات بينهم، أي إن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك بل إنما ينزل ذلك إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء للناس، وظلم الخلق لفرط مسامحته تعالى في حقوقه ولذلك تقدم حقوق العباد على حقوقه تعالى عند تزاحم الحقوق وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي أهل ملة
(٢) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة ١١.
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بهذا الحق اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي ثابتين على حالتكم وهي الكفر إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) على حالتنا وهي الإيمان. أو المعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن عاملون على قدرتنا. والمراد بهذا الأمر: التهديد وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان به من الخذلان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن علمه تعالى نافذ في جميع الكليات والجزئيات والحاضرات والغائبات عن العباد وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فَاعْبُدْهُ أي فاشتغل بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة وأما العبادات الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله في ملكوت السموات والأرض وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي ثق به تعالى في جميع أمورك فإنه كافيك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣).
وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، أي فإنه تعالى لا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقمطير، ويعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.