تفسير سورة هود

الدر المصون
تفسير سورة سورة هود من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ﴾ : يجوز أن يكون خبراً ل «ألر» أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها كتابٌ موصوفٌ ب كيتَ وكيتَ/ وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: ذلك كتابٌ، يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ٢]، وقد تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك.
قوله: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «كتاب»، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ «حَكُمَ» بضم الكاف، أي: صار حكيماً بمعنى جُعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ٢]. ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: «أَحْكَمْتُ الدابة» إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير:
٢٦٣٣ - أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا
فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد. ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل، مِن الإِحكام وهو الإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ، والمعنى: أنهى نُظِمَتْ نَظْماً رصيناً متقناً.
278
قوله: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ «ثم» على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن كثير في روايةٍ «فَصَلَتْ» بفتحتين خفيفةَ العين. قال أبو البقاء: «والمعنى: فَرَقَتْ، كقوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، أي: فارق». وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ. وجعل الزمخشري «ثم» للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال: «فإن قلت: ما معنى» ثم «؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل، وفلانٌ كريمٌ الأصل ثم كريمُ الفعل» وقُرِىء أيضاً: «أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ» بإسناد الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ «آياته» مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياتِه ثم فَصَّلْتُها، حكى هذه القراءةَ الزمخشري.
قوله: ﴿مِن لَّدُنْ﴾ يجوز أن تكونَ صفةً ثانية ل «كتاب»، وأن تكون خبراً ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني «أُحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في [قوله] :«وأن يكون صلةَ» أُحْكِمت «و» فُصَّلَتْ «، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها
279
وبيَّنها خبيرٌ بكيفيات الأمور». قال الشيخ: «لا يريد أنَّ» مِنْ لدن «متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث المعنى» وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً «ويجوز أن يكونَ مفعولاً، والعاملُ فيه» فُصِّلَتْ «.
280
قوله تعالى: ﴿أَن لاَّ تعبدوا﴾ : فيها أوجهٌ، أحدُها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، و «لا تَعْبُدوا» جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبراً ل «أنْ» المخففةِ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ. والثاني: أنها المصدريةُ الناصبة، ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون «لا» نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ ب «أَنْ» نفسها، وعلى هذه التقادير ف «أَنْ» : إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع، فالنصبُ والجرُّ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تَعْبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعامل: إمَّا «فُصِّلَتْ» وهو المشهور، وإمَّا «أُحْكِمَتْ» عند الكوفيين، فتكون المسألة من الإِعمال، لأن المعنى: أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا. وقيل: نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا، ف «أنْ لا تعبدوا» هو المفعولُ الثاني ل «ضَمَّن» والأولُ قام مقام الفاعل.
والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته» قال الشيخ: «وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ» آيات «أو مِنْ
280
موضعها» قلت: يعني أنها في الأصل مفعولٌ بها/ فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ خلاف: هل يجوز أن يراعى أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة وموضعُه أخرى فيُقال: «ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة» بنصب «العاقلة» باعتبار المحلِّ، ورفعِها باعتبار اللفظ، أم لا، مذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط.
والثالث: أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار.
قوله: «منه» في هذا الضمير وجهان: أحدهما وهو الظاهرُ أنه يعودُ على اللَّه تعالى، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: «فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته». وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً ل «نذير» ؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصلِ لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائناً مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحاً.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان، أحدهما: أنه حال من «نذير»، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس «نذير» أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار.
281
قوله تعالى: ﴿وَأَنِ استغفروا﴾ : فيها وجهان: أحدهما: أنه عطفٌ على «أنْ» الأولى سواءً كانت «لا» بعدها نفياً أو نهياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «أَنْ» هذه. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على الإِغراء. قال
281
الزمخشري في هذا الوجه: «ويجوز أن يكونَ كلاماً مبتدأً منقطعاً عَمَّا قبلَه على لسان النبي صلى اللَّه عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص اللَّه تعالى بالعبادة، ويدل عليه قولُه: إني لكم منه نذيرٌ وبشير كأنه قال: تركَ عبادةَ غيرِ اللَّه إنني لكم منه نذيرٌ كقولِه تعالى: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤].
قوله: ﴿ثُمَّ توبوا﴾ عطفٌ على ما قبلَه من الأمر بالاستغفار و»
ثم «على بابِها من التراخي لأنه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذنبِ المستغفَرِ منه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة، أو استغفروا والاستغفارُ توبةٌ ثم أَخْلِصوا التوبةَ واستقيموا عليها كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ [الأحقاف: ١٣]. قلت: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أن بعضَهم جَعَلَ الاستغفارَ والتوبةَ بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «توبوا» ب «أَخْلِصوا التوبة».
قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾ جوابُ الأمر. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازم: هل هو نفسُ الجملةِ الطلبية أو حرفُ شرطٍ مقدَّر. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن «يُمْتِعْكم» بالتخفيف مِنْ أَمْتَعَ، وقد تقدَّم أن نافعاً وابن عامر قرأ ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٢٦] في البقرة بالتخفيف كهذه القراءة.
قوله: ﴿مَّتَاعاً﴾ في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدرِ
282
بحذفِ الزوائد، إذ التقدير: تمتيعاً فهو كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]. والثاني: أنه ينتصبَ على المفعول به، والمراد بالمتاعِ اسمُ ما يُتَمَتَّع به فهو كقولك: «متَّعْتُ زيداً أثواباً».
قوله: ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ «كلَّ» مفعول أول، و «فضلَه» مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم للسهيلي خلافٌ في ذلك. والضمير في «فضله» يجوز أن يعودَ على اللَّه تعالى، أي: يعطي كلَّ صاحب فضلٍ فضلَه، أي: ثوابَه، وأن يعودَ على لفظ كل، أي: يعطي كلَّ صاحبِ فضلٍ جزاءَ فَضْلِهِ، لا يَبْخَسُ منه شيئاً أي: جزاء عمله.
قوله: ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ قرأ الجمهور «تَوَلَّوا» بفتح التاء والواو واللامِ المشددة، وفيها احتمالان، أحدهما: أن الفعلَ مضارعُ تَوَلَّى، وحُذِف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: تَنَزَّلُ، وقد تقدَّم: أيتُهما المحذوفةُ، وهذا هو الظاهر، ولذلك جاء الخطاب في قوله «عليكم». والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ مسندٌ لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القول، أي: فقل لهم: إني أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإني أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام، وهو مضارعُ ولَّى كقولك زكَّى يزكِّي. ونقل صاحب «اللوامح» عن اليماني وعيسى: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول. قلت: ولم يُبَيِّن ما هو ولا تصريفَه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولما بُني للمفعول ضُمَّ أولُه على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنه مفتتحٌ بتاءِ مطاوَعَةٍ/ وكلُّ ما افْتُتِح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمًّ أولُه وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً وإن كان أصلُها الكسرَ لأجل واو الضمير، والأصل «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدُحْرِجوا، فاسْتُثْقِلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت فالتقى
283
ساكنان، فحُذِفت الياءُ لأنها أولهما، فبقي ما قبل واوِ الضمير مكسوراً فَضُمَّ ليجانِسَ الضميرَ، فصار وزنُه تُفُعُّوا بحَذْف لامِه، والواوُ قائمةٌ مقامَ الفاعل.
وقرأ الأعرج «تُوْلُوا» بضم التاء وسكون الواو وضم اللام مضارعَ أَوْلَى، وهذه القراءةُ لا يظهر لها معنى طائلٌ هنا، والمفعولُ محذوفٌ يُقَدَّر لائقاً بالمعنى
و «كبير» صفةٌ ل «يوم» مبالغةً لما يقع فيه من الأهوال وقيل: بل «كبير» صفةٌ ل «عذاب» فهو منصوبٌ وإنما خُفِضَ على الجِوار كقولهم: «هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ «خَرِبٍ» وهو صفةٌ ل «جُحر» وقولِ امرىء القيس:
٢٦٣٤ - كأن ثَبِيراً في عَرانين وَبْلِه كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّل
بجر «مُزَمّل» وهو صفةٌ ل «كبيرُ». وقد تقدَّمَ القولُ في ذلك مشبعاً في سورة المائدة.
284
قوله تعالى: ﴿يَثْنُونَ﴾ : قراءةُ الجمهورِ بفتح الياء وسكونِ الثاءِ المثلثةِ، وهو مضارعُ ثنى يَثْني ثَنْياً، أي: طوى وزوى، و «صدورَهم» مفعول به والمعنى: «يَحْرِفون صدورَهم ووجوههم عن الحق وقبولِه» والأصل: يَثْنِيُون فأُعِلَّ بحذفِ الضمةِ عن الياء، ثم تُحْذَفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين.
وقرأ سعيد بن جبير «يُثْنُون» بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم.
284
واستشكل الناسُ هذه القراءةَ فقال أبو البقاء: «ماضيه أَثْنى، ولا يُعرف في اللغة، إلا أن يُقالَ: معناه عَرَضوها للانثناء، كما يُقال: أَبَعْتُ الفرسَ: إذا عَرَضْتَه للبيع». وقال صاحب «اللوامح» :«ولا يُعرف الإِثناء في هذا الباب، إلا أن يُرادَ بها: وَجَدْتُها مَثْنِيَّة، مثل: أَحْمَدْتُه وأَمْجَدْتُه، ولعله فتح النون، وهذا ممَّا فُعِل بهم فيكون نصب» صدورَهم «بنزع الجارِّ، ويجوز إلى ذلك أن يكون» صدورهم «رَفْعاً على البدلِ بدلِ البعض من الكل». قلت: يعني بقوله: «فلعله فتح النون»، أي: ولعل ابنَ جبير قرأ ذلك بفتح نونِ «يُثْنَون» فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قولِه «وهذا مما فُعِل بهم، أي: وُجِدوا كذلك، فعلى هذا يكون» صدورَهم «منصوباً بنزع الخافض، أي: في صدورهم، أي: يوجد الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جَوَّز رفعَه على البدل كقولك:» ضُرِب زيدٌ الظهرُ «. ومَنْ جوَّز تعريفَ التمييز لا يَبْعُدُ عنده أن ينتصبَ» صدورَهم «على التمييز بهذا التقديرِ الذي قدَّره.
وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود:»
تثنونى «مضارع» اثنونى «على وزن افْعَوْعَل من الثَّنْي كاحلولى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ،» صدورُهم «بالرفع على الفاعلية، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق:» يثنونى صدورُهم «بالتاء والياء، لأن التأنيثَ مجازيٌّ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار تأوُّل فاعلِه بالجمع، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة.
285
وقرأ ابن عباس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعشى» تَثْنَوِنُّ «بفتح التاء وسكونِ الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصلُ: تَثْنَوْنِنُ بوزن تَفْعَوْعِلُ وهو الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضَعُفَ مِن الكلأ، يريد مطاوعةَ نفوسِهم للثَّنْي كما يُثْنى الهشُّ من النبات، أو أراد ضَعْفَ إيمانهم ومرض قلوبهم. و» صدورُهم «بالرفع على الفاعلية.
وقرأ مجاهد وعروة أيضاً كذلك، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً مكسورةً فأخرجاها مثل»
تطمئن «. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ الواوَ قُلِبَتْ همزةً لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح، لَمَّا استثقلوا الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً.
والثاني: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم، وذلك أنه مضارع ل «اثْنانَّ»
مثل احْمارَّ واصْفارَّ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله:
٢٦٣٥ -................... .......... بالعَبيطِ ادْهَأَمَّتِ
فجاء مضارع اثْنَأَنَّ على ذلك كقولك: احْمَأَرَّ يَحْمَئِرُّ كاطمأَنَّ يطمئِنُّ. وأمَّا «صدورُهم» فبالرفع على ما تقدم.
وقرأ الأعشى أيضاً «تَثْنَؤُوْنَ» بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون
286
وهمزةٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كتَرْهَبُون. «صدورَهم» بالنصب. قال صاحب «اللوامح» ولا أعرفُ وجهَه لأنه يُقال «ثَنَيْتُ» ولم أسمعْ «ثَنَأْت»، ويجوز أنه قلبَ الياءَ ألفاً على لغة مَنْ يقول «أَعْطَات» في أَعْطَيْت، ثم هَمَز الألفَ على لغةِ مَنْ يقول ﴿وَلاَ الضألين﴾ [الفاتحة: ٧].
وقرأ ابنُ عباس أيضاً «تَثْنَوي» بفتح التاء وسكون/ المثلثة وفَتْحِ النونِ وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جداً حتى قال أبو حاتم: «وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه» وإنما قال: إنها غلط؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال: «ثَنَوْتُه فانثوى كرَعَوْته، أي: كفَفْتُه فارعوى، أي: فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ.
وقرأ نصر بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق»
يَثْنُون «بتقديم النون الساكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً»
لتَثْنَوْنِ «بلام التأكيد في خبر» إنَّ «وفتح التاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ، كما تقدَّم، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدرِ وما أَدْرِ. و» صدورُهم «فاعلٌ كما تقدم.
وقرأ طائفةٌ:»
تَثْنَؤُنَّ «بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤُنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلا أنه قَلَبَ الياءَ واواً لأن الضمةَ تنافِرُها، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها، فصار
287
اللفظُ تَثْنَوُوْنَ ثم قُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً كقولهم:» أُجوه «في» وُجوه «و» أُقِّتَتْ «في» وقِّتت «فصار» تَثْنَؤُون «، فلمَّا أُكِّد الفعلُ بنونِ التوكيد حُذِفَتْ نونُ الرفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى مِنْ نون التوكيد، فحُذِفَتْ الواو وبقيت الضمةُ تدلُّ عليها فصار تَثْنَؤُنَّ كما ترى. و» صدورَهم «منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً بالغْتُ في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها؛ لأني رأيتها في الكتب مهملةً من الضبط باللفظ وغالبِ التصريف، وكأنهم اتَّكلوا في ذلك على الضبطِ بالشكل في الكتابة وهذا متعبٌ جداً.
قوله ﴿لِيَسْتَخْفُواْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن هذه اللام متعلقةٌ ب»
يَثْنُون «وكذا قاله الحوفي، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة.
وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه. والثاني: أن اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ، قال الزمخشري: «ليَسْتَخْفُوا منه»
يعني ويريدون: ليستَخْفُوا من اللَّه فلا يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم، ونظيرُ إضمارِ «يريدون» لعَوْدِ المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣] معناه: «فضرب فانفلق» قلت: ليس المعنى الذي يقودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لا بد منْ حذفِ معطوفٍ يُضْطر العقلُ إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلا بد أن يُتَعقَّل «فضرب فانفلق»، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة.
والضميرُ في «منه» فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام ب «يَثْنون». والثاني: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى كما قال الزمخشري.
288
قوله: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ﴾ في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنَّ ناصبَه مضمرٌ، فقدَّره الزمخشري ب «يريدون» كما تقدَّم، فقال: «ومعنى ألا حين يَسْتَغْشُون ثيابهم: ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابَهم أيضاً كراهةً لاستماع كلامِ اللَّه كقولِ نوحٍ عليه السلام ﴿جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: ٧]، وقدَّره أبو البقاء فقال:» ألا حين يَسْتَغْشون ثيابهم يَسْتخفون «. والثاني: أن الناصبَ له» يَعْلَمُ «، أي: ألا يعلمُ سِرَّهم وعَلَنهم حين يفعلون كذا، وهو معنى واضح، وكأنهم إنما جوَّزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعَلَنِهم بهذا الوقت الخاص، وهو تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت. وهذا غيرُ لازمٍ، لأنه إذا عُلِم سِرُهم وعلنُهم في وقتِ التغشية الذي يخفى فيه السرُّ فأَوْلى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلا فاللَّهُ تعالى لا يتفاوتُ عِلْمُه. و» ما «يجوز أن تكونَ» مصدريةً «، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنونه.
289
قوله تعالى: ﴿مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ : يجوز أن يكونا مصدَرْين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها. ويجوز أن يكون مستودعها اسمَ مفعول لتعدِّي فِعْلِه، ولا يجوز ذلك في «مستقر» لأنَّ فعلَه لازمٌ، ونظيرُه في المصدرية قولُ الشاعر:
٢٦٣٦ - ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي ..........................
أي: تَسْريحي.
289
قوله: ﴿كُلٌّ﴾ المضافُ إليه محذوفٌ تقديرُه: كل دابةٍ وزرقُها ومستقرُّها ومستودَعُها في كتاب مبين.
290
قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ : في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديرُه: أَعْلَمَ بذلك ليبلوَكم. وقيل: ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقُه لهما لمنافعَ يعودُ عليكم نفعُها في الدنيا دون الآخرة وفَعَل ذلك لِيَبْلُوَكم. وقيل: / تقديرُه: وخلقكم ليبلوَكم. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «خلق» قال الزمخشري: «أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أَنْ يَجْعَلَها مساكنَ لعباده وينعمَ عليهم فيها بصنوف النِّعَمِ ويُكَلِّفهم فعلَ الطاعاتِ واجتنابَ المعاصي، فَمَنْ شكر وأطاع أثابه، ومَنْ كفر وعصى عاقبه، ولمَّا أَشْبَهَ ذلك اختبارَ المُخْتبر قال» ليبلوَكم «، يريد: ليفعلَ بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم.
قوله: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأٌ وخبر في محل نصب بإسقاط الخافضِ؛ لأنه مُعَلِّقٌ لقوله»
ليبلوكم «. قال الزمخشري:» فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعلِ البلوى؟ قلت: لما في الاختيار من معنى العلم؛ لأنه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقول: «انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً» لأن النظر والاستماع من طرق العلم «. وقد واخذه الشيخُ في تمثيله بقوله» واسمع «قال:» لم أعلمْ أحداً ذكر أنَّ «استمع» يُعَلَّق، وإنما ذكروا من غيرِ أفعالِ القلوب «سَلْ»، و «انظر»، وفي جواز تعليق «رأى» البصريةِ خلافٌ «.
قوله: ﴿وَلَئِن قُلْتَ﴾ : هذه لامُ التوطئة للقسم، و»
ليقولُنَّ «جوابُه، وحُذِفَ
290
جوابُ الشرط لدلالة جواب القسم عليه، و» إنكم «محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرت في قراءة الجمهور. وقُرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري، أحدهما: أنها بمعنى لعلَّ، قال:» مِنْ قولهم: «ائت السُّوق أنك تشتري لحماً»، أي: لعلك، أي: ولئن قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعوا بَعْثَكم وظُنُّوه، ولا تَبُثُّوا القولَ بإنكاره، لقالوا «. والثاني: أن تُضَمِّنَ» قلتَ «معنى» ذَكَرْتَ «يعنى فتفتح الهمزة لأنها مفعول» ذكرْتَ «.
قوله: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ﴾ قد تقدم أنه قُرىء»
سِحْر «و» ساحر «، فَمَنْ قَرَأَ» سِحْر «ف» هذا «إشارةٌ إلى البعث المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن لأنه ناطق بالبعث. ومَنْ قرأ» ساحر «فالإِشارةُ ب» هذا «إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويجوز أن يُرادَ ب» هذا «في القراءة الأولى النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم أيضاً، ويكون جَعَلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلا ذو سحر. ويجوز أن يُراد ب» ساحر «نفسُ القرآنِ مجازاً كقولهم» شعرٌ شاعرٌ «و» جَدَّ جَدُّه «.
291
قوله تعالى: ﴿لَّيَقُولُنَّ﴾ : هذا الفعلُ معربٌ على المشهور لأن النونَ مفصولةٌ تقديراً، إذا الأصلُ: ليقولونَنَّ: النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقلَ توالي ثلاثةِ أمثال، فحُذِفَتْ نونُ الرفع لأنها لا تدلُّ مِن المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائِهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
291
و «ما يَحْبِسُه» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يحبسُه» خبره، وفاعلُ الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوب يعود على العذاب، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يَحْبِسُ العذاب؟.
قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾ منصوبٌ ب «مصروفاً» الذي هو خبر «ليس»، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس عليها، ووجهُ ذلك أن تقديمَ المعمول يُؤْذن بتقديم العامل، و» يومَ «منصوب ب» مصروفاً «وقد تقدَّم على» ليس «فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ. وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين، أحدهما: أن الظرفَ يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره. والثاني: أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ، إذ لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ٩-١٠] فاليتيمَ منصوب ب» تقهرْ «، و» السائلَ «منصوبٌ ب» تَنْهَرْ «وقد تَقَدَّما على» لا «الناهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ وهو المجزوم على» لا «، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به. قال الشيخ:» وقد تَتَبَّعْتُ جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليس» عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر:
٢٦٣٧ - فيأبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ
واسمُ «ليس» ضميرٌ عائد على «العذاب»، وكذلك فاعل «يأَْتيهم»، والتقدير: ألا ليسَ العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب. وحكى
292
أبو البقاء عن بعضهم أن العاملَ في «يومَ يأتيهم» محذوف، تقديره: أي: لا يُصْرَفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على هذا المحذوفِ سياق الكلام.
293
قوله تعالى: ﴿لَفَرِحٌ﴾ : قرأ الجمهور بكسرِ الراء، وهو قياسُ اسمِ الفاعل من فَعِل اللازم بكسر العين نحو: أَشِرَ فهو أَشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ. وقرىء شاذاً «لَفَرُح» بضم الراء نحو: يَقِظ ويَقُظ، ونَدِس ونَدُس.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل؛ إذ المرادُ به جنس/ الإِنسانِ لا واحدٌ بعينه. والثاني: أنه منقطعٌ، إذ المراد بالإِنسان شخصٌ معين، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحل. والثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ الجملةُ من قوله ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ وهو منقطعٌ أيضاً. وقوله: «مغفرةٌ» يجوز أن يكونَ مبتدأ، و «لهم» الخبر، والجملةُ خبرُ «أولئك»، ويجوز أن يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «مغفرة» فاعلٌ بالاستقرار.
قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ : الأحسنُ أن تكونَ على بابها من الترجِّي بالنسبة إلى المخاطب. وقيل: هي للاستفهام كقوله عليه السلام: «لعلنا أعجلناك»
قوله: ﴿وَضَآئِقٌ﴾ نسقٌ على «تارك». وعَدَلَ عن «ضيّق» وإن كان أكثر من «
293
ضائق» قال الزمخشري: «ليدلَّ على أنه ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابت، ومثلُه سَيِّد وجَواد، فإذا أردْتَ الحدوثَ قلت: سائدٌ وجائد». قال الشيخ: «وليس هذا الحكمُ مختصاً بهذه الألفاظ، بل كلُّ ما بُني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعِل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حاسِن وثاقِل وسامِن في حَسُن وثَقُل وسَمُنَ» وأنشد:
٢٦٣٨ - بمنزلةٍ أمَا اللئيمُ فسامِنٌ بها وكرامُ الناسِ بادٍ شُحوبُها
وقيل: إنما عَدَل عن ضيِّق إلى ضائق ليناسب وزن تارك.
والهاءُ في «به» تعود على «بعض». وقيل: على «ما». وقيل: على التكذيب. و «صدرُك» فاعل ب «ضائق». ويجوز أن يكون «ضائقٌ» خبراً مقدماً، و «صدرك» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة خبرٌ عن الكاف في «لعلك»، فيكون قد أخبر بخبرين، أحدهما مفرد، والثاني جملة عُطِفت على مفرد، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائم وأبوه منطلق»، أي: إن زيداً أبوه منطلق.
قوله: ﴿أَن يَقُولُواْ﴾ في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنْ» بعد حَذْف حرف الجر أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافةَ أَنْ يقولوا، أو لئلا يقولوا، أو بأن يقولوا. وقال أبو البقاء: «لأن يقولوا، أي: لأَنْ قالوا، فهو بمعنى الماضي» وهذا لا حاجة إليه، وكيف يدعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٍّ في الاستقبال وهو الناصب؟ و «لولا» تحضيضيةٌ، وجملةُ التحضيضِ منصوبةٌ بالقول.
294
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ : في «أم» هذه وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب «بل» والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراه» لما يوحى. والثاني: أنها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكتفون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنه ليس من عند اللَّه؟.
قوله: ﴿مِّثْلِهِ﴾ نعت ل «سُوَر» و «مثل» وإن كانت بلفظ الإِفراد فإنها يُوصف بها المثنى والمجموعُ والمؤنث، كقوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون: ٤٧]، ويجوز المطابقةُ قال تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ﴾ [الواقعة: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨] والهاءُ في «مثلِه» تعود لما يوحي أيضاً، و «مفتريات» صفة ل «سُوَر» جمع مُفْتراة كمُصْطَفَيات في «مصطفاة» فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.
قوله تعالى: ﴿أَنَّمَآ أُنزِلِ﴾ :«ما» يجوز أن تكون كافةً مهيِّئة. وفي «أُنْزِل» ضميرٌ يعود على ما يوحى إليك، و «بعلمٍ» حال أي: ملتبساً بعلمِه، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفية اسماً ل «إنَّ» فالخبرُ الجارُّ تقديرُه: فاعلموا أن تنزيلَه، أو أنَّ الذي أُنْزِل ملتبسٌ بعلمٍ.
وقرأ زيد بن علي «نَزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نَزَّل» ضميرُ اللَّه تعالى، و ﴿وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمُها محذوفٌ، وجملةُ النفي خبرُها.
قوله: ﴿نُوَفِّ﴾ الجمهورُ على «نُوَفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء مِنْ وَفَّى
295
يُوَفِّي، وطلحة وميمون بياء الغيبة، وزيد بن علي كذلك إلا أنه خَفَّفَ الفاءَ مِنْ أوفى يوفي، والفاعلُ في هاتَيْن القراءتين ضميرُ اللَّه تعالى. وقرىء «تُوَفَّ» بضم التاء وفتح الفاء مشددةً مِنْ وفى يُوَفِّى مبنياً للمفعول. «أعمالُهم» بالرفع قائماً مقام الفاعل. وانجزم «نُوَفِّ» على هذه القراءاتِ لكونِه جواباً للشرط، كما في قوله تعالى ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ [فِي حَرْثِهِ] وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنهَا﴾ [الشورى: ٢٠].
وزعم الفراء أن «كان» زائدة قال: «ولذلك جَزَم جوابَه» ولعلَّ هذا لا يصح إذ لو كانت زائدةً لكان «يريد» هو الشرط، ولو كان شرطاً لانجزم، فكان يُقال: مَنْ كان يُرِدْ «.
وزعم بعضُهم أنه لا يؤتى بفعل الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً إلا مع»
كان «خاصة، ولهذا لم يَجِىءْ في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيحٍ لوروده في غير» كان «قال زهير:
٢٦٣٩ - ومَنْ هاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ولو رام أسبابَ السماء بسُلَّمِ
وأما القرآن فجاء من باب الاتفاق أنه كذلك.
وقرأ الحسن البصري»
نوفِي «بتخفيف الفاء/ وثبوتِ الياء مِنْ أوفى، ثم هذه القراءةُ محتمِلَةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمُه بحذفِ الحركة
296
المقَّدرة كقوله:
٢٦٤٠ - ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد
على أن ذلك قد يأتي في السَّعَةِ نحو: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ [يوسف: ٩٠]، وسيأتي محرَّراً في سُورته، ولأن يكون الفعلُ مرفوعاً لوقوع الشرط ماضياً كقوله:
٢٦٤١ - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا تُنَفِّروا
وكقول زهير:
٢٦٤٢ - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وهل الرفعُ لأنه على نيةِ التقديمِ وهو مذهبُ سيبويه أو على نية الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؟ خلافٌ مشهور.
297
قوله تعالى: ﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾ : يجوز أن يتعلَّقَ «فيها» ب «حَبِط»، والضميرُ على هذا يعود على الآخرة، أي: وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن يتعلَّقَ ب «صنعوا» فالضمير على هذا يعود على الحياة الدنيا كما عاد عليها في قوله ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾. و «ما» في «ما صنعوا» يجوز أن تكون بمعنى الذي فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكونَ مصدريةً، وحَبِط صُنْعُهم.
297
قوله: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ﴾ الجمهورُ قرؤوا برفع الباطل، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ «باطل» خبراً مقدماً، و ﴿مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ مبتدأٌ مؤخرٌ. و «ما» تحتمل أن تكن مصدريةً، أي: وباطلٌ كونُهم عاملين، وأن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلامَ من عطفَ الجمل، عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلها. الثاني: أن يكونَ «باطل» مبتدأً و ﴿مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ خبرُه، هكذا قال مكي بن أبي طالب وهو لا يَبْعُدُ على الغلط، والعجبُ أنه لم يّذْكر غيره. الثالث: أن يكونَ «باطل» عطفاً على الأخبارِ قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون، و ﴿مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فاعلٌ ب «باطل»، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على «حَبِط».
وقرأ أُبَيّ وابن مسعود قال مكي: «وهي في مصحفهما كذلك» ونقلها الزمخشري عن عاصم «وباطلاً» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «يعملون» و «ما» مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي وأبو البقاء وصاحب «اللوامح»، وفيه تقديمُ معمولِ خبرِ «كان» على «كان» وهي مسألة خلاف، والصحيحُ جوازُها كقوله تعالى: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠] فالظاهرُ أن «إياكم» منصوب ب «يعبدون». والثاني: أن تكونَ «ما»
298
إبهاميةً، وتنتصب ب «يعملون» ومعناه: «باطلاً أيَّ باطلٍ كانوا يعملون»، والثالث: أن يكون «باطلاً» بمعنى المصدر على بَطَلَ بُطْلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفةٌ للنكرة قبلها، ولذلك قَدَّرها ب «باطلاً أيَّ باطل» فهو كقوله:
٢٦٤٣ -.................... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
و «لأمرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أَنْفَه»، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: ﴿مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ [الزمر: ٩].
299
قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، تقديره: أفَمَنْ كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّره أبو البقاء، وأحسنُ منه «أَفَمَنْ كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها»، وحَذْفُ المعادلِ الذي دخلت عليه الهمزةُ كثيرةٌ نحو: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ﴾ [فاطر: ٨] ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾ [الزمر: ٩] إلى غير ذلك. وهذا الاستفهام بمعنى التقرير. الثاني وإليه نحا الزمخشري أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: أمَّن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها كمَنْ كان على بَيِّنَة، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنَّ بين الفريقين تفاوتاً، والمرادُ مَنْ آمَن مِن اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وهذا
299
على قاعدتِه مِنْ تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام وحرفِ العطف، وهو مبتدأٌ أيضاً، والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُه.
قوله: ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يتلوه»، وفي «منه»، وفي «قبله» : فقيل: الهاء في «يتلوه» تعود/ على «مَنْ»، والمرادُ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك الضميران في «منه» و «قبله» والمرادُ بالشاهد لسانُه عليه السلام، والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة، أي: ويتلو محمداً أي صِدْقَ محمدٍ لسانُه، ومِنْ قبلِه، أي قبل محمد. وقيل: الشاهدُ هو جبريلُ، والضمير في «منه» للَّه تعالى، و «من قبله» للنبي. وقيل: الشاهدُ الإِنجيلُ و «كتاب موسى» عطف على «شاهد»، والمعنى أن التوراة والإِنجيل يتلوان محمداً في التصديق، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله: «من قبله»، والتقدير: شاهدٌ منه، وكتاب موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعاً في النساء.
وقيل: الضمير في «يتلوه» للقرآن وفي «منه» لمحمد عليه السلام. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه، أو مِن جبريلَ. والهاءُ في «من قبلِه» أيضاً للقرآن. وقيل: الهاءُ في «يَتْلوه» تعود على البيان المدلولِ عليه بالبيِّنة. وقيل: المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن، فالضمائر الثلاثة للقرآن. وهذا كافٍ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما ذكرْتُ.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي «كتابَ موسى» بالنصبِ وفيه
300
وجهان، أحدهما وهو الظاهر أنه معطوف على الهاء في «يتلوه»، أي: يتلوه ويتلو كتابَ موسى، وفصلَ بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال أبو البقاء: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قولِه «منه» و «كتابَ موسى»، أي: ويتلو كتابَ موسى «فقدَّر فعلاً مثلَ الملفوظِ به، وكأنه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلاً.
و «إماماً ورحمةً»
منصوبان على الحال من «كتاب موسى» سواءً أقرىء رفعاً أم نصباً.
والهاءُ في «به» يجوز أن تعودَ على «كتاب موسى» وهو أقربُ مذكورٍ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد، وكذلك الهاء في «به».
والأَحْزاب: الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك، ومنه وَصْفُ حمارِ الوحش ب «حَزَابِيَة» لغِلَظِه. والأحزاب: جمع حِزْب وهو جماعةُ الناس.
و «المِرْية» بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ، لغتان أشهرُهما الكسرُ، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، والضمُّ لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ السُّلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي. و «وأولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة، جُمِع على معناها، وهذا إنْ أريد ب «مَنْ كان» النبيُّ وصحابتُه، وإن أريدَ هو وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بإشارة الجمع كقوله:
301
٢٦٤٤ - فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
و «موعده» اسمُ مكانِ وَعْدِه، قال حسان رضي اللَّه عنه:
302
والأَشْهاد جمعُ شاهد كصاحب وأَصْحاب، أو جمعُ شهيد كشريف وأشراف.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ﴾ :«هم» الثانية توكيدٌ للأولى توكيداً لفظياً.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ﴾ : يجوز في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لم ينتفعوا به، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكونُ متعلَّقُ السمعِ والبصرِ شيئاً خاصاً. والثاني: أن تكون مصدريةً، وفيها حينئذٍ تأويلان، أحدهما: أنها قائمة مقامَ الظرف، أي: مدةَ استطاعتهم، وتكون «ما» منصوبةً ب «يُضاعف»، أي: يضاعف لهم العذاب مدةَ استطاعتهم السمعَ والأبصار. والتأويل الثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ على إسقاط حرف الجر، كما يُحذف من أنْ وأنَّ أختيها، وإليه ذهب الفراء، وذلك الجارُّ متعلقٌ أيضاً ب «يُضاعَف»، أي: يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ولا يَنْتفعون. الثالث: أن تكون «ما» بمعنى الذي، وتكونَ على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بُعْدٌ لأنَّ حَذْفَ الحرفِ لا يَطَّرد.
والجملةُ من قوله «يُضاعف» مستأنفة. وقيل: إنَّ الضمير في قوله: «
302
ما كانوا» يعودُ على «أولياء» وهم آلهتُهم، أي: فما كان لهم في الحقيقة مِنْ أولياء «، وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياءُ، فعلى هذا يكون ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ معترضاً.
303
قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ﴾ : في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخص ذلك في خمسة أوجه، أحدها: وهو مذهب/ الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس أنهما رُكِّبَتَا من «لا» النافيةِ و «جَرَم»، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو «حقَّ»، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢]، أي حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم، أو استقرارها لهم. الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة لا رجل، في كون «لا» نافيةً للجنس، و «جَرَم» اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدهما خبرُ «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ.
الثالث: كالذي قبله إلا أن «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ في أنهم في الآخرة، أي: في خسرانهم. الرابع: أن «لا» نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه: «لا»، كما تَرُدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله: ﴿لاَ أُقْسِمُ﴾ [القيامة: ١]، وقوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي «جرم أنَّ لهم كذا». وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في
303
موضع المفعول به لأنَّ «جَرَم» يتعدى إذ هو بمعنى كَسَبَ. قال الشاعر:
٢٦٤٥ - أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها
٢٦٤٦ - نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا
أي: بما كسبَتْ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة. وجريمةُ القومِ كاسبُهم، قال:
٢٦٤٧ - جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
فتقديرُ الآية: كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسرانَهم، وهذا هو قولُ أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقف على قوله: «لا» ثم يُبتدأ ب «جَرَمَ» بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس: أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون «جَرَمَ» بمعنى القطع، تقول: جَرَمْتُ، أي: قطعت، فيكون «جرم» اسمَ «لا» مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم، وخبرها «أنَّ» وما في حيِّزها، أو على حَذْف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلافُ المشهور.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم، ولا جُرَم بضمِّها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جَرَم، ولا إنَّ ذا جَرَم، ولا ذو جَرَم، ولا عن ذا جَرَم، ولا إنْ جَرَم، ولا عن جَرَم، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك.
304
وعن أبي عمروٍ: «لا جَرُم أنَّ لهم النار» على وزن لا كَرُم، يعني بضم الراء، ولا جَرَ، قال: «حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا:» سَوْ ترى «يريدون: سوف.
وقوله: ﴿هُمُ الأخسرون﴾ يجوز أن يكون»
هم «فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره، والجملة خبرُ» أنَّ «.
305
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ : الموصولُ اسمُ إنَّ، والجملة مِنْ قولِه: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة﴾ خبرها.
والإِخباتُ: الاطمئنان والتذلُّل والتواضع، وأصله من الخَبْت وهو المكانُ المطمئنُّ، أي: المنخفضُ من الأرض، وأَخْبَتَ الرجلُ: دخل في مكان خَبْت، كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ إذا دخل في أحد هذين المكانين، ثم تُوُسِّع فيه فقيل: خَبَتَ ذِكْرُه، أي: خمد، ويقال للشيء الدنيء الخبيت، قال الشاعر:
٢٦٤٨ - ينفع الطيِّبُ القليلُ من الرِّزْ قِ ولا يَنْفَعُ الكثير الخبيتُ
هكذا يُنْشدون هذا البيتَ في هذه المادة، الزمخشري وغيره، والظاهر أن يكونَ بالثاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطِّيب، ولكن الظاهر من عبارتهم أنه بالتاء المثنَّاة لأنهم يَسُوقونه في هذه المادة، ويدلُّ على أن معنى البيت إنما هو على الثاء المثلثة قولُ الزمخشري: «وقيل: التاءُ فيه بدل من
305
الثاء». ومن مجيء الخَبْت بمعنى المكان المطمئن قوله:
٢٦٤٩ - أفاطمُ لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ وقد قتل الهزبرَ أخاك بشرا
وفي تركيب البيتِ قَلَقٌ، وحَلُّه: لو شهدْتِ أخاك بِشْرا وقد قتل الهزبرَ، ففاعل «قتل» ضمير يعودُ على «أخاك». وأخبت يتعدى بإلى كهذه الآية، وباللام كقوله تعالى: ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٤].
306
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الفريقين﴾ : مبتدأٌ، و «كالأعمى» خبره، ثم هذه الكافُ يحتمل أن تكونَ هي نفسَ الخبر، فتقدَّر ب «مثل»، تقديرُه: مَثَلُ الفريقين مثلُ الأعمى. ويجوز أن تكون «مثل» بمعنى «صفة»، ومعنى الكاف معنى مِثْلِ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى. وقوله: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى﴾ يجوز أن/ يكونَ من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَر، والصمم بالسمع وهو من الطِّباق، وأن يكونَ من تشبيهِ شيءٍ واحد بوصفَيْهِ بشيءٍ واحدٍ بوصفَيْهِ، وحينئذٍ يكون قولُه: «كالأعمى والأصمِّ» وقوله «والبصير والسميع» من باب عطف الصفات كقوله:
٢٦٥٠ - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسنَ الزمخشريُّ في التعبير عن ذلك فقال: «شبَّه فريق الكافرين بالأَعْمى والأصمِّ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللَّفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤ القيس قلوبَ الطير بالحَشَف والعُنَّاب، وأن يُشَبِّهَ بالذي جمع بين العمى والصَّمَم، والذي جمع بين البصر والسمع، على أن تكونَ الواوُ في» والأصمِّ «وفي»
306
والسميع «لعطفِ الصفة على الصفةِ كقوله:
٢٦٥١ -.................. ال صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
قلت: يريد بقوله»
اللفّ «أنه لفَّ المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله» الفريقين «، ولو فسَّرهما لقال: مَثَلُ الفريق المؤمن كالبصير والسميع، ومثل الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورة في علم البيان: لفظتان متقابلتان: اللفُّ والنشر، وأشارَ لقول امرىء القيس وهو:
٢٦٥٢ - كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
أصلُ الكلامِ: كأن الرَّطْبَ من قلوب الطير: العُنَّابُ، واليابسَ منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، واللف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كبير، ليس هذا موضعَه.
وأشار بقوله»
الصابح فالغانم «إلى قوله:
٢٦٥٣ - يا ويحَ زَيَّابَةَ للحارثِ ال صابحِ فالغانم فالآئِبِ
وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وتحريرُه.
فإن قلت: لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمن؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهرَ بذلك التضادُّ؟ أجيب: بأنه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن، وهذا التشبيهُ أحدُ
307
الأقسامِ وهو تشبيهُ أمرٍ معقول بأمرٍ محسوس: وذلك أنه شبَّه عمى البصيرة وصَمَمها بعمى البصر وصمم السمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات، كما أن هذا متحيِّز في الطرقات. وهذه فوائد علم البيان.
قوله: ﴿مَثَلاً﴾ تمييز، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: هل يَسْتوي مَثَلُهما، كقوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]. وجوَّز ابنُ عطية رحمه اللَّه أن يكون حالاً، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «.
308
قوله تعالى: ﴿إِنَّي لَكُمْ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الهمزة، والباقون بكسرها. فأمَّا الفتح فعلى إضمار حرفِ الجر، أي: بأني لكم. قال الفارسي: «في قراءة الفتح خروجٌ من الغَيْبة إلى المخاطبةِ». قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكايةُ مخاطبتهِ لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غَيْبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أَنْذِرْهم ونحوه لصح ذلك «. وقد قال بهذه المقالة أعني الالتفات مكي فإنه قال:» الأصل: بأني والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنه، لكنه جاء على طريقة الالتفات «. انتهى، ولكن هذا الالتفاتَ غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذاك من غيبة إلى خطاب، وهذا من غيبةٍ إلى تكلُّم، وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ.
308
وقال الزمخشري:» الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: ﴿إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالكسر، فلما اتصل به الجارُّ فُتِح كما فتح في «كأنَّ» والمعنى على الكسر في قولك: «إن زيداً كالأسد». وأما الكسرُ فعلى إضمار القول، وكثراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشواهد.
309
وقوله تعالى: ﴿أَن لاَّ تعبدوا﴾ : كقوله: ﴿أَن لاَّ تعبدوا﴾ في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنها على قراءة مَنْ فتح «أني» تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكون بدلاً من قوله: «أني لكم»، أي: أَرْسَلْناه بأن لا تعبدوا. والثاني: / أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها: إمَّا أرسلنا، وإمَّا نذير. وأمَّا على قراءة مَنْ كسر فيجوز أن تكونَ المصدرية، وهي معمولةٌ لأرسلنا، ويجوز أن تكونَ المفسرةَ بحالَيْها.
قوله: ﴿أَلِيمٍ﴾ إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا به، وقال الزمخشري: «فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت: مجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، فنظيرها قولك: نهارك صائم». قال الشيخ: «وهذا على أن يكون» أليم «صفةُ مبالغةٍ وهو مَنْ كَثُرَ ألمه، وإن كان أليم بمعنى مُؤْلم فنسبتُه لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة».
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَرَاكَ﴾ : يجوز أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قوله «اتَّبعك» في محل نصب مفعولاً
309
ثانياً، وعلى الثاني في محلِّ نصب على الحال، و «قد» مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك.
والأراذِلُ فيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ الجمع، والثاني: جمعٌ فقط. والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أَرْذُل»، وأَرْذُل جمع لرَذْل نحو: كَلْب وأَكْلُب وأَكَالب. وقيل: بل جمع لأرْذال، وأَرْذال جمع لرَذْل أيضاً. والقائلون بأنه ليس جمعَ جمعٍ، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جَمْعٌ لأَرْذُل، وإنما جاز أن يكون جمعاً لأَرْذُل لجريانه مَجْرى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفُه كالأَبْطح والأبرق وقال بعضهم: هو جمع أَرْذَل الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء ﴿أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾ [الأنعام: ١٢٣] و ﴿أحاسِنُكم أخلاقاً﴾ [الأنعام: ١٢٣]. ويقال: رجل رَذْل ورُذال، ك «رَخْل» و «رُخال» وهو المرغوبُ عنه لرداءته.
قوله: ﴿بَادِيَ الرأي﴾ قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي «بادِئَ» بالهمز، والباقون بياءٍ صريحةٍ مكانَ الهمزة. فأمَّا الهمزُ فمعناه: بادئَ الرأي، أي: أولَ الرأي بمعنى أنه غيرُ صادرٍ عن رَوِّية وتَأَمُّل، بل من أولِ وَهْلة. وأمَّا مَنْ لم يهمز فيحتمل أن يكونَ أصلُه كما تقدَّم، ويحتمل أن يكونَ مِنْ بدا يَبْدو أي ظهر، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، أي: لو تُؤُمِّل لعُرِفَ باطنُه، وهو في المعنى كالأول.
وفي انتصابهِ على كلتا القراءتين سبعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، وفي العاملِ فيه على هذا ثلاثة أوجه، أحدُها: «نراك»، أي:
310
وما نراك في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يَظْهر لنا من الرأي في قراءة الباقين. والثاني من الأوجه الثلاثة: أن يكونَ منصوباً ب «اتَّبعك»، أي: ما نراك اتبعك أولَ رأيهم، أو ظاهرَ رأيهم، وهذا يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريدوا اتَّبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك. والثاني: أنهم اتَّبعوك بأول نظرٍ، وبالرأي البادي دون تثبُّت، ولو تثبَّتوا لَمَا اتبعوك. الثالث من الأوجه الثلاثة: أنَّ العاملَ فيه «أراذِلُنا» والمعنى: أراذِلُنا بأولِ نظرٍ منهم، أو بظاهر الرأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رذالَتَهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحابَ حِرَفٍ دنيَّة.
ثم القول بكونِ «باديَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار فإنه اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصل، فقال مكي: «وإنما جاز أن يكون فاعِل ظرفاً كما جاز ذلك في فعيل نحو: قريب ومليء، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحِم ورحيم، وعالم وعليم، وحَسُن ذلك في فاعِل لإِضافته إلى الرأي، والرأي يُضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظرف نحو:» أما جَهْدَ رأيٍ فإنك منطلقٌ «، أي: في» جَهْد «.
وقال الزمخشري: «وانتصابه على الظرف، أصلُه: وقتَ حدوثِ أول أمرهم، أو وقت حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فَحُذِفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مُقامه»
.
الوجه الثاني من السبعة: أن ينتصبَ على المفعول به، حُذف معه حرفُ الجر مثل ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] كذا قاله مكي. وفيه نظرٌ من حيث إنه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض.
الثالث من السبعة: أن ينتصبَ على المصدر، ومجيءُ المصدر على
311
فاعلِ أيضاً ليس بالقياسِ، والعاملُ في هذا المصدرِ كالعامل في الظرف كما تقدم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديرُه: رؤيةَ بَدْءٍ أو ظهور، أو اتباعَ بَدْءٍ أو ظهور، أو رَذالة بَدْءٍ أو ظهور.
الرابع من السبعة: أن يكونَ نعتاً لبشر، أي: ما نراك إلا بشراً مثلنا/ باديَ الرأي، أي: ظاهرَه، أو مبتدِئاً فيه. وفيه بُعْدٌ للفصلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة. الخامس: أنه حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ»، أي: وأنت مكشوفُ الرأي ظاهرَ لا قوةَ فيه ولا حصافةَ لك. السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ عليه السلام، كأنهم قالوا: يا باديَ الرأي، أي: ما في نفسِك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له. السابع: أن العاملَ فيه مضمر، تقديره: أتقول ذلك بادي الرأي، ذكره أبو البقاء، والأصلُ عدم الإِضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجهِ الأربعةِ الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويل، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنه ظرفٌ أو مصدر.
واعلم أنك إذا نَصَبْتَ «باديَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلا» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال وهو أنَّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلا إن كان مستثنى منه نحو: «ما قام إلا زيداً القوم» أو مستثنى نحو: «قام القومُ إلا زيداً»، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: «ما جاءني أحدُ إلا زيدٌ أخيرٌ من عمرو» و «بادي الرأي» ليس شيئاً من ذلك. وقال مكي: «فلو قلت في
312
الكلام:» ما أعطيت [أحداً] إلا زيداً درهماً] فأوقعتَ اسمين مفعولين بعد «إلا» لم يَجُزْ؛ لأن الفعلَ لا يصلُ ب «إلا» إلى مفعولين، إنما يصل إلى اسمٍ واحد كسائر الحروف، ألا ترى أنك لو قلت: «مررت بزيدٍ عمروٍ» فأوصلْتَ الفعلَ إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجُزْ، ولذلك لو قلت: «استوى الماءُ والخشبة الحائط» فتنصب اسمين بواو «مع» لم يجز إلا أن تأتيَ في جميعِ ذلك بواو العطف فيجوز وصولُ الفعل «.
والجوابُ الذي ذكروه هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرِها. وهذا جماعٌ القولِ في هذه المسألة باختصار.
والرأي: يجوز أن يكونَ من رؤيةِ العين أو من الفكرة والتأمُّل. وقوله ﴿بَيِّنَةٍ مِّن ربي﴾ »
مِنْ ربي «نعتٌ ل» بَيِّنة «، أي: بَيِّنَةٌ من بَيِّنات ربي.
313
قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ : يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً ل «رحمة» وأن يكونَ متعلقاً ب «آتاني».
قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل «فعماها اللَّهُ عليكم»، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي «فعماها» من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.
313
وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى» فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ «: فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ».
وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
٢٦٥٤ - ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه ............................
قال أبو علي: «وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآن ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: ٤٧]، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب» عن «دون» على «، ألا ترى أنك تقول:» عَمِيْتُ عن كذا «لا» على كذا «.
واختُلِفَ في الضمير في»
عُمِّيَتْ «هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه:» وآتاني رحمة «جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه ﴿على بَيِّنَةٍ مِّن ربي... فَعُمِّيَتْ﴾. وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة
314
الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري:» وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه مرةً «.
انتهى.
وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيتم»
هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ «أَرَأَيْتُم» يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب «على»، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه.
وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أتى هنا بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان «أراهُمُني الباطل شيطاناً». وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله:» أَنُلْزِمكم إياها «ونحوه: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ [البقرة: ١٣٧] ويجوز» فسيكفيك إياهم «. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.
315
وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ، ويضعف سكونُها، وعليه» أراهُمني الباطل «. وقال أبو البقاء:» وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات «فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال:» ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم، وهو الأصل في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم «. انتهى. وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجَوِّزُ» الدرهمَ أعطيتكمْه «وغيرُه يأباه. ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل، ويدل عليه ما قال الزجاج» أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها، وهذا هو الحقُّ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس:
٢٦٥٥ - فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ...........................
وكذا قال الزمخشري أيضاً: «وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً، فظنَّها الراوي سكوناً، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر».
316
قلت: وقد حكى الكسائي والفراء «أَنُلْزِمْكموها» بسكون هذه الميم، وقد تقدم القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحناً؟.
و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و ﴿وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.
317
والضمير في «عليه» يجوز أن يعودَ على الإِنذار المفهوم من «نذير»، وأن يعودَ على الدين الذي هو المِلَّة، وأن يعود على التبليغ. وقُرِىء «بطاردٍ الذين» بتنوين «طاردٍ» قال الزمخشري: «على الأصل». يعني أن أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ، وهو ظاهرُ قولِ سيبويه. قال الشيخ: «ويمكن أن يُقال: الأصلُ الإِضافةُ لا العملُ؛ لأنه قد اعتوره شَبَهان، أحدهما: لشَبَهه بالمضارع وهو شَبَهٌ بغير جنسه، والآخر: شَبَهُه بالأسماء إذا كانت فيه الإِضافة، فكان إلحاقُه بجنسه أَوْلى».
وقوله ﴿إِنَّهُمْ مُّلاَقُو﴾ استئنافٌ يفيدُ التعليل. وقوله: «تَجْهلون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت.
و «تَزْدَري» تَفْتَعِل مِنْ زرى يَزْري، أي: حَقَرَ، فأُبدلت تاءُ الافتعال دالاً بعد الزاي وهو مُطَّرِد، ويقال: «زَرَيْتُ عليه» إذا عِبْتَه، و «أَزْرَيْتُ به»، أي: قَصَّرت به. وعائدُ الموصولِ محذوفٌ، أي: تَزْدَريهم أعينُكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم، قال الشاعر:
٢٦٥٦ - تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه... وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ
وقال أيضاً:
٢٦٥٧ - يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه... ويَنْهرَهُ الصغيرُ
واللام في «للذين» للتعليل، أي: لأجل الذين، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يؤتيكم» بالخطاب.
وقوله: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفاً على قولِه ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ﴾ كأنه أخبر عن نفسه بهذه [الجمل الثلاث]. وقد تقدَّم في الأنعام [أن هذا هو المختار] وأن الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ معطوفٌ على» عندي خزائن «، أي: لا أقولُ: عندي خزائن اللَّه، ولا أقول: أنا أعلمُ الغيب». /
وقوله تعالى: ﴿جِدَالَنَا﴾ : قرأ ابن عباس «جَدَلنا» كقوله: {
318
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: ٥٤]. ونقل أبو البقاء أنه قُرىء «جَدَلْتَنا فأَكْثرت جَدَلَنَا» بغير ألفٍ فيهما قال: وهو بمعنى غَلَبْتَنا بالجدل «.
وقوله: ﴿بِمَا تَعِدُنَآ﴾ فيجوز أن تكونَ»
ما «بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعِدَناه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: بوعدك إيانا. وقوله» إنْ كنت «جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو» فَأْتِنا «.
319
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ﴾ : قد تقدم حُكْمُ توالي الشرطين وأنَّ ثانيَهما قيدٌ في الأول، وأنه لا بد من سَبْقه للأول. وقال الزمخشريُّ هنا: «إن كان اللَّه» جزاؤُه ما دلَّ عليه قولُه: «لا ينفعكم نُصْحي»، وهذا الدليلُ في حكم ما دلَّ عليه، فوُصِل بشرطٍ، كما وُصِل الجزاء بالشرط في قوله «إنْ أَحْسَنْتَ إليَّ أحسنتُ إليك إنْ أمكنني».
وقال أبو البقاء: «حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني والجواب جواباً للشرط الأول نحو:» إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك «فقولُك» إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك «: جوابُ» إن أتيتني «جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذِّكْرِ مؤخَّراً في المعنى، حتى إنْ أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإِكرام، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام، وعلةُ ذلك أن الجواب صار مُعَوَّقاً بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي﴾ [الأحزاب: ٥٠].
319
قلت: أمَّا قولُه:» إنْ وَهَبَتْ... أن أراد «فظاهره وظاهرُ القصةِ المَرْوِيَّةِ يدل على عدم اشتراطِ تقدُّم الشرط الثاني على الأول، وذلك أن إرادتَه عليه السلام للنكاح إنما هو مُرَتَّبٌ على هِبة المرأةِ نفسَها له، وكذا الواقعُ في القصة لمَّا وَهَبَت أراد نكاحَها، ولم يُرْوَ أنه أراد نكاحَها فوهبت، وهو يحتاج إلى جوابٍ، وسيأتي هذا إن شاء اللَّهُ في موضِعِه.
وقال ابن عطية هنا:»
وليس نُصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإِرادتين، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو «بنصحي»، وتعلُّقُ الآخر ب «لا ينفع».
وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا ينفعكم» لأنه عَقِبُه، وجوابُ الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول، وكأنَّ التقدير: وإنْ أَرَدْتُ أن أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي. وهو مِنْ حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي.
وقرأ الجمهور «نُصْحي» بضم النون وهو يحتمل وجهين، أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أنه اسمٌ لا مصدر. وقرأ عيسى ابن عمر «نَصْحي» بفتح النون، وهو مصدرٌ فقط.
وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللَّهُ» وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ
320
مرةٍ. وفي غضون كلام الشيخ «وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون» إنْ «شرطيةً بل هي نافيةٌ والمعنى: ما كان اللَّه يريد أن يُغْويكم». قلت: لا أظنُّ أحداً يرضى بهذه المقالة وإن كانت توافق مذهبه.
321
قوله تعالى: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ : مبتدأ وخبرٌ أو فعلٌ وفاعل. والجمهورُ على كسرِ همزة «إجرامي» وهو مصدر أجرم، وأجرم هو الفاشي، ويجوز جَرَمَ ثلاثياً وأنشدوا:
٢٦٥٨ - طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني
وقُرىء في الشاذ «أجرامي» بفتحها، حكاه النحاس، وخَرَّجه على أنه جمعُ جُرْم كقُفْل أَقْفال، والمراد آثامي.
قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ﴾ : الجمهور على «أُوحي» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل «أنه لن يؤمن» أي: أُوحي إليه عدمُ إيمان بعض. وقرأ أبو البرهسم «أوحى» مبنياً للفاعل وهو اللَّه تعالى، «إنه» بكسر الهمزة. وفيها وجهان أحدهما: وهو أصلٌ للبصريين - أنه على إجراء الإِيحاء مُجْرى القول.
وقوله: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾ هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة،
321
ويقال: ابتأسَ فلانٌ أي: بلغه ما يَكْرهه قال:
٢٦٥٩ - ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ منه وأقْعُدْ كريماً ناعمَ البالِ
وقال آخر:
322
قوله تعالى: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ : حالٌ من فاعل «اصنع» أي: محفوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلام اللَّه له بالحفظ. وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيونِ الناس أي: الذين يتفقَّدون الأخبار، والجمع حينئذ حقيقةٌ. وقرأ طلحة بن مصرف «بأعيُنَّا» مدغمة.
قوله تعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ﴾ : العامل في «كلما» سَخِر «، و» قال «مستأنف؛ إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في» كلما «:» قال «، و» سخروا «على هذا: إمَّا صفة لَمَلأ، وإمَّا بدلٌ مِنْ» مرَّ «، وهو بعيدٌ جداً، إذ ليس» سَخِرَ «نوعاً من المرور ولا هو هو فكيف يُبدل منه؟ والجملةُ من قوله» كلما «إلى آخره في محلِّ نصب على الحال أي: يصنع الفلك والحالُ أنه كلما مرَّ.
قوله تعالى: ﴿مَن يَأْتِيهِ﴾ : في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً. والثاني: أن تكونَ استفهاميةً، وعلى كلا التقديرين ف «تعلمون» : إمَّا من باب اليقين فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من باب العرفان فتتعدَّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانيةً و «مَنْ» استفهامية كانت «مَنْ» وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانَتْ متعديةً لاثنين كانت سادَّة مَسَدَّ المفعولين، وإذا
322
كانت «تعلمون» متعديةً لاثنين و «مَنْ» موصولة كانت في موضع المفعول الأول، والثاني محذوف. قال ابن عطية: «وجائز أن تكونَ المتعديةَ إلى مفعولين، واقتصر على الواحد» وهذه العبارةُ ليست جيدةٌ؛ لأن الاقتصَارَ في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز؛ لِما تقرَّر غيرَ مرة من أنهما مبتدأٌ وخبر في الأصل، وأمَّا حَذْفُ الاختصار فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليلَ على ذلك. وإن كانت متعديةً لواحد و «مَنْ» موصولةٌ فأمرُها واضح.
وحكى الزهراوي: «ويَحُلُّ» بضم الحاء بمعنى يجب.
و «التنور» معروفٌ. وقيل: هو وجهُ الأرض. وهل أل فيه للعهدِ أو للجنس؟ ووزنَ تَنُّور قيل: تَفْعُول مِنْ لفظ النور فقُلبت الواوُ الأولى همزةً لانضمامِها، ثم حُذِفت تخفيفاً، ثم شددوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويُعزَى هذا لثعلب. وقيل: وزنه فَعُّول ويعزى لأبي علي الفارسي. وقيل: هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنه مما اتَّفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.
323
قوله تعالى: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ : قرأ العامة بإضافة «كل» لزوجين. وقرأ حفص بتنوين «كل». فأمَّا العامَّة فقيل: إن مفعول «احمل» «اثنين» و ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ﴾ في محل نصب على الحال من المفعول لأنه كان صفةً للنكرة فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً. وقيل: بل «مِنْ» زائدة، و «كل» مفعول به، و «اثنين» نعت لزوجين على التأكيد، وهذا إنما يتمُّ على قول مَنْ يرى زيادةَ «مِنْ» مطلقاً، أو في كلامٍ موجب. وقيل: قوله: «زوجين» بمعنى العموم أي: من كل ما لَه ازدواجٌ، هذا معنى قوله: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ﴾ وهو قول
323
الفارسي وغيره. قال ابن عطية: «ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يَحْمل من كلِّ نوعٍ أربعةً، والزوج في مشهور كلامهم للواحد مما له ازدواجٌ».
وأمَّا قراءة حفص فمعناها من كل حيوان، و «زوجين» مفعول به، و «اثنين» نعتُ على التأكيد، و «مِنْ كلٍ» على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب «احمل» وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنها حال من «زوجين» وهذا الخلافُ والتخريجُ جاريان أيضاً في سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ [المؤمنون: ٢٧].
قوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾ نسق على «اثنين» في قراءة مَنْ أضاف «كل» لزوجين، وعلى «زوجين» في قراءة مَنْ نوَّن «كلاً» وقولُه: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ﴾ استثناءٌ متصل في موجَب، فهو واجبُ النصب على المشهور.
وقوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ مفعول به نسقاً على مفعول «احمِلْ».
324
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ﴾ : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ نوح عليه السلام، ويجوز أن يكونَ ضمير الباري تعالى أي: وقال اللَّه لنوح ومَنْ معه. و «فيها متعلقٌ ب» اركبوا «وعُدِّي ب» في «لتضمُّنه معنى» ادخلوا فيها راكبين «أو سيروا فيها. وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل:» في «زائدةٌ للتوكيد.
قوله: ﴿بِسْمِ الله﴾ يجوز أن يكونَ هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل»
اركبوا «أو مِنْ» ها «في» فيها «، ويكون» مجراها «و» مرساها «فاعلين بالاستقرار الذي تَضَمَّنه الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكونَ» بسم اللَّه «خبراً مقدماً،
324
و» مَجْراها «/ مبتدأً مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ مما تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدَّرةٌ كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه. إلا أنَّ مكيَّاً منع ذلك لخلوِّ الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أَعْرَبْنا الجملةَ أو الجارَّ حالاً من فاعل» اركبوا «قال:» ولا يَحْسُنُ أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من فاعل «اركبوا» لأنه لا عائدَ في الجملةِ يعودُ على المضمر في «اركبوا» ؛ لأن المضمرَ في «بسم اللَّه» إنْ جَعَلْتَه خبراً ل «مَجْراها» فإنما يعود على المبتدأ وهو مجراها، وإن رَفَعْتَ «مجراها» بالظرفِ لم يكن فيه ضميرُ الهاء في «مجراها» وإنما تعود على الضمير في «فيها، وإذا نَصَبْتَ» مجراها «على الظرفِ عَمِل فيه» بسم اللَّه «، وكانت الجملةُ حالاً من فاعل» اركبوا «.
وقيل: ﴿بِسْمِ الله﴾ حال من فاعل»
اركبوا «ومَجْراها ومُرْساها في موضع الظرف المكاني أو الزماني، والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضعَ جريانها ورُسُوِّها، أو وقتَ جريانِها ورسوِّها. والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه» بسم اللَّه «من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها متبرِّكين باسم اللَّه في هذين المكانين أو الوقتين. قال مكي:» ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيهما «اركبوا» لأنه لم يُرِدْ: اركبوا فيها في وقت الجَرْي والرسُوِّ، إنما المعنى: سَمُّوا اسمَ اللَّه في وقت الجَرْي والرسوِّ «.
ويجوزُ أيضاً أن يكون»
مَجْراها ومُرْساها «مصدرين، و» بسم اللَّه «حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعلين أي: استقرَّ بسم اللَّه إجراؤها وإرساؤها، ولا يكون الجارُّ حينئذٍ إلا حالاً من» ها «في» فيها «لوجود
325
الرابط، ولا يكون حالاً من فاعل» اركبوا «لعدمِ الرابط.
وعلى هذه الأعاريبِ يكون الكلامُ جملةً واحدةً. ويجوز أن يكون ﴿بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا﴾ جملةً مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإِعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالركوب، وأخبر أن مجراها ومُرْساها باسم اللَّه، وفي التفسير: كان إذا قال: «بسم اللَّه»
وقَفَتْ، وإذا قالها جَرَتْ عند إرادته ذلك، فالجملتان محكيَّتان ب «قال».
وقرأ الأخوان وحفص «مَجْراها» بفتح الميم والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضمِّ ميم «مُرْساها». وقد قرأ ابن مسعود وعيسى الثقفي وزيد بن علي والأعمش «مَرْساها» بفتح الميم أيضاً. فالضمُّ فيهما لأنهما مِنْ أَجْرى وأرسى، والفتح لأنهما مِنْ جَرَتْ ورَسَتْ وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران، على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك والنخعي وابن وثاب ومجاهد وأبو رجاء والكلبي والجحدري وابن جندب «مُجْرِيها ومُرْسِيها» بكسر الراء بعدهما ياء صريحة، وهما اسما فاعلَيْن مِنْ أجرى وأَرْسى، وتخريجُهما على أنهما بدلان من اسم اللَّه. وقال ابن عطية وأبو البقاء ومكي: إنهما نعتان للَّه تعالى، وهذا الذي ذكروه إنما يتمُّ على تقديرِ كونهما معرفتين بتمحض
326
الإِضافة وقد قال الخليل: «إنَّ كلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجْعل مَحْضة إلا إضافةَ الصفةِ المشبهة فلا تتمحَّض».
وقال مكي: «ولو جُعِلت» مجراها «و» مرساها «في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجازَ ذلك ولَجَعَلْتَها في موضع نصبٍ على الحال من اسم اللَّه تعالى» قلت: وقد طَوَّل مكي رحمه اللَّه تعالى كلامه في هذه المسألة، وقال في آخرها: «وهذه المسألةُ يُوقف فيها على جميع ما كان في الكلام والقرآن مِنْ نظيرها، وذلك لمَنْ فَهمها حقَّ فَهْما وتدبَّرها حَقَّ تدبُّرها فهي من غُرَر المسائِل المُشْكلة».
قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ أخبر اللَّه تعالى عن السفينة بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في «بسم اللَّه» أي: جريانها استقرَّ بسم اللَّه حالَ كونِها جارية. والثالث: أنها حالٌ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تضمَّنته جملةٌ دَلَّ عليها سياقُ الكلام. قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتصل قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ ؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه قوله ﴿اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله﴾ كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم اللَّه وهي تجري بهم.
وقوله: ﴿بِهِمْ﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق ب»
تَجْري «. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فَسَّره الزمخشري بقوله:» أي: تجري وهم فيها «.
327
والرُّسُوُّ: الثبات والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأَرْسَيْتُه أنا. قال:
٢٦٦٠ - وكم مِنْ خليلٍ أو حَميمٍ رُزِئْتُه فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل
٢٦٦١ - فَصَبَرْتُ نَفْساً عند ذلك حُرَّةً تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ
أي: تثبت وتستقرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
328
قوله تعالى: ﴿كالجبال﴾ : صفةٌ ل «مَوْج». قوله: «نوحٌ ابنَه» الجمهورُ على كسر تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين. وقرأ وكيع/ بضمِّه اتباعاً لحركة الإِعراب. واسْتَرْذَلَ أبو حاتم هذه القراءة وقال: «هي لغة سوء لا تُعرف».
وقرأ العامة «ابنه» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابن عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: «هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد:
٢٦٦٢ - وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها
وبعضُهم لا يَخُصُّه بها. وقال ابن عطية: إنها لغةٌ لأَزْد السراة ومنه قوله:
٢٦٦٣ -.................. ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ
وقال بعضهم:»
هي لغة عُقَيل وبني كلاب «.
328
وقرأ السدي:» ابناهْ «بألف وهاء السكت. قال ابن جني:» وهو على النداء «. وقال أبو البقاء:» ابناه: على التَرَثِّي وليس بندبة، لأنَّ الندبةَ لا تكون بالهمزة «وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزةَ النداءِ فلا نسلِّم أن المقدَّرَ مِنْ حروف النداء هو الهمزة، لأنَّ النحاةَ نصُّوا على أنه لا يُضْمر في حروف النداء إلا» يا «لأنها أمُّ الباب. وقوله:» الترثّي «هو قريب في المعنى من الندبة. وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز حَذْفُ النداء من المندوب وهذا شبيه به.
وقرأ عليٌّ عليه السلام:»
ابنها «إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه» ليس من أهلك «. وقوله:» ابني «و» من أهلي «لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن وجماعة.
وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير:»
ابْنَهَ «بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلَها، إلا أنه حَذَفَ ألف» ها «مُجْتزئاً عنها بالفتحة، كما تُحذف الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة. قال ابن عطية:» هي لغة «وأنشد:
٢٦٦٤ - أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيبِ
يريد:»
تبيعَها «فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: أنشده ابن الأعرابي على ذلك.
329
٢٦٦٥ - فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني
يريد: يا لَهْفا، فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة يا غلامَ في يا غلاما. قلت: وسيأتي في نحو:» يا أبتَ «بالفتح: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدم لنا خلاف في نحو: يابنَ أمَّ ويابنَ عَمَّ: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة مجتزَأٌ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظاهرَ عدمُ اقتياسه.
وقد خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ، وفيه نظرٌ.
قوله: ﴿وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ جملةٌ في موضع نصب على الحال، وصاحبُها هو «ابنه»
، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول. والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان العزلة. وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء: «ولم أعلم أحداً قرأ بالفتح». قلت: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفَه، فكيف يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟
وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء «اركب» قبل ميم «معنا» بخلافٍ عنهم، والباقون بالإِدغام، وقرأ عاصم هنا «يا بنيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السورة فإن حفصاً عنه فَعَلَ ذلك، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله: ﴿لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣] فإنه سكَّنه وصلاً ووقفاً، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قولُه: ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ [لقمان: ١٧] اختُلِف عنه، فروى
330
عنه البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السكون كالأول. هذا ضبطُ القراءة.
وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل: أصلها: يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ تخفيفاً، اجْتَزَأ عنها بالفتحة، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة. وقيل بل حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ «اركب» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جداً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان. وكأن هذا المُعَلِّلَ لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان، وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنْكِرْه.
وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيح، وإمَّا لالتقاءِ الساكنين، وقد تقدَّم فسادُه. وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ الثِّقَل مع مطلق الحركة، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات، ولا يقال: فلِم/ وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات: الأولى للتصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالة أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا الموضوعِ في لام «ابن» ما هي؟، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها، وهي التي طَرَأَ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها.
331
قوله تعالى: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم﴾ : فيه أقوالٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي «رَحِم» ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالى، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو «مَنْ» حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم. الثاني: أن يكونَ المرادُ ب «مَنْ رَحِم» هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ. الثالث: أن عاصماً بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: ماء دافق، أي: مدفوق، وأنشدوا:
٢٦٦٦ - بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا
أي مفتوناً، و «مَنْ» مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم. الرابع: أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم.
وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة «.
وأمَّا خبرُ»
لا «فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي:»
332
ويجوز أن يكونَ «اليوم» خبراً فيتعلَّق قالاستقرار، وبه يتعلق ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾. وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال: «فأمَّا خبرُ» لا «فلا يجوز أن يكونَ» اليوم «؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ و» اليوم «معمولُ ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾.
وأمَّا»
اليومَ «و ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبراً، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً. ويجوز في» اليوم «أن يتعلَّقَ بنفس ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ لكونِه بمعنى الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون» اليوم «نعتاً ل» عاصم «، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً عن الجثث.
وقُرىء ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ مبنياً للمفعول، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ»
مَنْ رَحِم «في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون» اليوم «ولا ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ متعلِّقين ب» عاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مطوَّلاً أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ» لا «معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً.
333
قوله تعالى: ﴿ابلعي﴾ : البَلْع معروفٌ. والفعل منه مكسورُ العين ومفتوحُها: بَلعِ وبَلَع حكاهما الكسائي والفراء. والإِقلاع: الإِمساك، ومنه «أَقْلَعَت الحمى». وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تركه وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان وفعله لازم ومتعدٍ، فمِن اللازمِ قولُه تعالى: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ [الرعد: ٨]، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا متعدٍّ أيضاً وسيأتي، ومن
333
المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنه لا يُبنى للمفعول مِنْ غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالمَوْصل. وقيل: بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ عمرو بن نفيل: /
٢٦٦٧ - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
ولا أدري ما في ذلك مِن الدلالة على أنه عامٌّ في كل جبل. وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيف «الجُوْدِيْ». قال ابن عطية: «وهما لغتان». والصواب أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النسب، وإن كان لا يجوزُ ذلك في كلامهم الفاشي.
قوله ﴿بُعْداً﴾ منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر، أي: وقيل: ابعدوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يُقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال:
٢٦٦٨ - يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ
واللام إمَّا [أن] تتعلق بفعل محذوف، ويكون على سبيل البيان كما تقدَّم في نحو «سَقْياً لك ورَعْياً»، وإمَّا أن تتعلقَ بقيل، أي: لأجلهم هذا القولَ.
334
قال الزمخشري: «ومجيءُ إخبارِه على الفعلِ المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعلِ قادرٍ وتكوينِ مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعلَ هذه الأفعال فاعل واحد لا يُشارَكُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يَقْضي ذلك الأمر الهائل إلا هو، ولا أَنْ تَسْتوي السفينة على الجوديِّ وتستقر عليه إلا بتسويته وإقرارِه، ولِما ذَكَرْنا من المعاني والنُّكَت استفصح علماءُ البيان هذه الآيةَ ورقصوا لها رؤوسَهم لا لتجانُس الكلمتين وهما قوله: ابلعي وأقلعي، وذلك وإن كان الكلام لا يخلو مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ». يعني أن بعض الناس عَدَّ من فصاحة الآية التجانسَ فقال: إن هذا ليس بطائل بالنسبة إلى ما ذكر من المعاني، ولعَمرْي لقد صَدَق.
ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا «وأكثرُه خَطابة».
وقول الزمخشري «ورقَصوا لها رؤوسهم» يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من القرآن ليروزوا قواهم في الفصاحة، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم قيل هو ابن المقفَّع المصحف فَوَجَد هذه الآية، فكعَّ لها وأَذْعَنَ، وقال: «لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا».
335
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ﴾ : عطفٌ على «نادى» قال الزمخشري «فإن قلت: وإذا كان النداءُ هو قوله» رَبّ «فكيف عطف» فقال ربِّ «على» نادى «بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداءُ نفسه لجاء كما جاء في قوله ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ » قال ربِّ «بغير فاء.
قوله تعالى: ﴿عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ : قرأ الكسائي «عَمِل» فعلاً ماضياً، و «غيرَ» نصباً، والباقون «عَمَلٌ» بفتح الميمِ وتنوينهِ على أنه اسمٌ، و «غيرُ» بالرفع. فقراءةُ الكسائي: الضمير فيها يتعيَّنُ عَوْدُه على ابن نوح، وفاعل «عمل» ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و «غيرَ» مفعول به. ويجوز أن يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوف، تقديرُه: عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ [المؤمنون: ٥١].
وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه، أظهرها: أنه عائدٌ على ابنِ نوح، ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في «رجل عدل». والثاني: أنه يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله «ونادى»، أي: نداؤك وسؤالُك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطرٌ عظيم، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياء، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟ ولما حكاه أبو القاسم قال: «وليس
336
بذاك» ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد اللَّه بن مسعود «إنه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما ليس لك به علمٌ» وهذا مخالِفٌ للسَّواد.
الثالث: أنه يعودُ على ركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله «اركب معنا». الرابع: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين، أي: إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في الإِخبارِ بالمصدر [إلى] تأويلٍ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونَك مع الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنه مِنْ قول اللَّه تعالى فقط، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه تعالى. قال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: إنه عملٌ فاسِدٌ. قلت: لَمَّا نفاه عن أهله نفى عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك.
قوله: ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِي﴾ قرأ نافع وابن عامر»
فلا تسألَنِّ «بتشديدِ النون مكسورةً من غير ياء. وابنُ كثير بتشديدها/ مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً [لأبي عمرو]، ودون ياء في [الحالين] للكوفيين. وفي الكهف ﴿فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ﴾ [الآية: ٧٠] قرأه أبو عمرو
337
والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأمَّا نافعٌ وابن عامر فكقراءتهما هنا، ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياء وحَذْفها، وإنما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دونَ التي في الكهف؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم، فكانت قراءتُه بفتحِ النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياءَ ثابتةٌ في الرسم فلا يُوافِق فيه فَتْحُها.
وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوتِ الياء في الكهف.
فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد. وابنُ كثير لم يَجْعل في هود الفعلَ متصلاً بياء المتكلم، والباقون جعلوه، فَلَزِمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سأل» يتعدى لاثنين أوَّلُهما ياء المتكلم، والثاني ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
قوله ﴿أَن تَكُونَ﴾ على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجلِ أن، وقوله ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يجوزُ في «به» أن يتعلَّق ب «عِلْم». قال الفارسي: «ويكونُ مثلَ قوله:
٢٦٦٩ - كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا... ويجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به»
لك «. والباء بمعنى» في «، أي: ما ليس لك به عِلْمٌ. وفيه نظرٌ.
338
قوله تعالى: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ﴾ : لم تَمْنَعْ «لا» من عمل الجازم كما لم تمنعْ مِنْ عمل الجارِّ في نحو: «جِئْتُ بلا زادٍ». قال أبو البقاء: «لأنها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملة في النفي، وهي تنفي
338
ما في المستقبل، وليس كذلك» ما «فإنها تنفي ما في الحال، فلذلك لم يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ» إنْ «عليها».
339
قوله تعالى: ﴿قِيلَ يانوح﴾ : الخلافُ المتقدم في قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ﴾ [البقرة: ١٣] وشبهِه عائدُ هنا، أي: في كونِ القائمِ مقامَ الفاعل الجملة المحكيةَ أو ضميرَ مصدرِ الفعل.
قوله: ﴿بِسَلاَمٍ﴾ حال من فاعل «اهبط»، أي: ملتسباً بسلام. و «منا» صفةٌ ل «سلام» فيتعلَّق بمحذوف أو هو متعلقٌ بنفسِ سلام، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، وكذلك «عليك» يجوز أن يكونَ صفةً لبركات أو متعلقاً بها.
قوله: ﴿مِّمَّن مَّعَكَ﴾ يجوزُ في «مَنْ» أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر، ويجوزُ أن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعاتٍ. وقُرىء «اهبُط» بضم الباء، وقد تقدم أول البقرة. وقرأ الكسائي فيما نُقِل عنه «وبركة» بالتوحيد.
قوله: ﴿وأُمَمٍ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ، و «سنمتِّعهم» خبره، وفي مسوِّغ الابتداءِ وجهان، أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم «السَّمْن مَنَوان بدرهم» فمنوان مبتدأٌ وُصِف ب «منه» تقديراً. والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «الناسُ رجلان: رجلٌ أَهَنْتُ، وآخَرُ
339
أكرمتُ» ومنه قولُ امرىء القيس:
٢٦٧٠ - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفَتْ له بشقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّل
ويجوز أن يكونَ مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضمير المستتر في «اهبط» وأغنى الفصلُ عن التأكيد بالضمير المنفصل، قاله أبو البقاء قال الشيخ: «وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله:» ومَنْ آمنَ «ولم يكونوا كفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورِين بالهبوط، إلا إنْ قُدِّر أنَّ مِن المؤمنين مَنْ يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحال التي يَؤُولون إليها فيمكن على بُعْدٍ». قلت: وقد تقدَّم أنَّ مثلَ ذلك لا يجوز، في قول ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] لأمرٍ صناعي، و «سنمتِّعُهم» على هذا صفةٌ ل «أمم»، والواوُ يجوز أن تكونَ للحال. قال الأخفش: «كما تقول:» كلَّمْتُ زيداً وعمروٌ جالس «ويجوز أن تكونَ لمجردِ النَّسَق».
340
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ : كقوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ [الآية: ٤٤] في آل عمران. قوله: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ﴾ يجوز في هذه الجملةُ أن تكونَ حالاً من الكاف في «إليك»، وأن تكون حالاً من المفعول في «نُوحيها» وأن تكونَ خبراً بعد خبر.
قوله تعالى: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ : معطوفان على قوله ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ [هود: ٢٥] : مرفوعٌ على مرفوع، ومجرور على مجرور،
340
كقولك: «ضرب زيد عمراً وبكر خالداً»، وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرف العطف والمعطوف بالجارِّ/ والمجرور نحو: «ضربت زيداً وفي السوق عمراً» فيجيءُ الخلاف المشهور. وقيل: بل هو على إضمارِ فعلٍ، أي: وأَرْسَلْنا هوداً، وهذا أوفق لطول الفصل. و «هوداً» بدلٌ أو عطفٌ بيان لأخيهم.
وقرأ ابن محيصن «يا قومُ» بضم الميم، وهي لغةٌ للعرب يَبْنونَ المضافَ للياء على الضم كقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضمِّ الباء، ولا يجوزُ أن يكونَ غيرَ مضاف للياء لما سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه.
وقوله: ﴿مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ قد ذُكر في الأعراف ما يتعلق به قراءةً وإعراباً.
341
قوله تعالى: ﴿فطرني﴾ : قرأ نافع والبزي بفتح الياء، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها.
قوله تعالى: ﴿مِّدْرَاراً﴾ : منصوبٌ على الحال، ولم يؤنِّثْه وإن كانَ مِنْ مؤنث لثلاثةِ أوجه، أحدُهما: أن المراد بالسماء السحاب فذكَّر على المعنى. والثاني: أن مِفْعالاً للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور وفعيل. الثالث: أن الهاء حُذِفَتْ مِنْ مِفْعال على طريق النَّسَب قاله مكي، وقد تقدَّم إيضاحُه في الأنعام.
341
قوله: ﴿إلى قُوَّتِكُمْ﴾ يجوز أن يتعلَّقَ ب «يَزِدْكم» على التضمين، أي: يُضِف إلى قوتكم قوةً أخرى، أو يُجعل الجار والمجرور صفةً ل «قوة» فيتعلَّق بمحذوف. وقدَّره أبو البقاء «مضافةً إلى قوتكم» وهذا يأباه النحاة لأنهم لا يقدِّرون إلا الكونَ المطلقَ في مثله، أو تُجْعل «إلى» بمعنى مع أي: مع قوتكم كقولِه تعالى: ﴿إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢].
342
قوله تعالى: ﴿بِبَيِّنَةٍ﴾ : يجوز أن تكونَ الباء للتعدية، فيتعلَّق بالفعل قبلها، أي: ما أظهرْتَ لنا بينةً قط. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، إذ التقدير: مستقراً أو ملتبساً ببينة.
قوله: ﴿عَن قَوْلِكَ﴾ حالٌ من الضمير في «تاركي»، أي: وما نترك آلهَتنا صادرين عن قولك. ويجوز أن تكون «عن» للتعليل، كهي في قولِه تعالى ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ [التوبة: ١١٤]، أي: إلا لأجل موعدة. والمعنى هنا: بتاركي آلهتِنا لقولك، فيتعلَّق بتاركي. وقد أشار إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختارَ الأول، ولم يذكر الزمخشري غيره.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اعتراك﴾ : الظاهرُ أن ما بعد «إلا» مفعول بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقول إلا هذا اللفظَ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك: «ما قلت إلا زيد قائم». وقال أبو البقاء: «الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوف،
342
التقدير: إن نقول إلا قولاً هو اعتراك، ويجوز أن يكونَ موضعُها نصباً، أي: ما نذكر إلا هذا القول» وهذا غير مُرْضٍ؛ لأن الحكاية بالقول معنى ظاهر لا يَحْتاج إلى تأويل، ولا إلى تضمينِ القولِ بالذِّكْر.
وقال الزمخشري: «اعتراك» مفعول «نقول» و «إلا» لغوٌ، أي: ما نقول إلا قولنا «اعتراك». انتهى. يعني بقولَه «لَغُو» أنه استثناءٌ مفرغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر محذوف، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «نقول» هذا الظاهر. ويُقال: اعتراه بكذا يَعْتريه، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه، والأصل: اعْتَرَوَ من العَرَوْ، مثل: اغتَرَوا مِن الغَزْو، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر.
قوله: ﴿أَنِّي برياء﴾ يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ «أُشْهِدُ» يطلبُه، و «اشْهدوا» يطلبه أيضاً، والتقدير: أُشْهد اللَّه على أنه بريء، واشهدوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من إعمال الثاني، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم.
و «مِمَّا تُشْركون» يجوز أن تكونَ «ما» مصدريةً، أي: مِنْ إشراككم آلهةً مِنْ دونه، أو بمعنى الذي، أي: مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه، أي أنتم الذين تجعلونها شركاءَ.
343
وقوله تعالى: ﴿جَمِيعاً﴾ : حالٌ من فاعل «فكيدون». وأثبت سائرُ القراء ياء «فكيدوني» في الحالين، وحَذَفوها في المرسلات.
والناصِيَةُ مَنْبِتُ الشَّعْر في مُقَدَّم الرأس، ويُسَمَّى الشعرُ النَّابِتُ أيضاً «ناصِية» باسم محلِّه، ونَصَوْتُ الرجل: أَخَذْتُ بناصِيته، فلامُها واو، ويقال: ناصاة بقَلْبِ يائها ألفاً، وفي الأَخْذِ بالناصية عبارةٌ عن الغَلَبة والتسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانوا إذا مَنُّوا على أسيرٍ جَزُّوا ناصيتَه.
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ : أي: تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءَيْن، ولا يجوز أن يكونَ ماضياً كقوله: «أَبْلَغْتكم»، ولا يجوزُ أن يدعى فيه الالتفات، إذ هو رَكاكَةٌ في التركيب وقد جَوَّزَ ذلك ابنُ عطية فقال: «ويُحْتمل أن يكون» تولَّوا «ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غَيْبة إلى خطاب». وقلت: ويجوزُ أن يكونَ ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخرَ غيرِ الالتفات: وهو أن يكونَ على إضمار القول، أي: فقل لهم: قد أبلغْتُكم. ويترجَّح كونُه ماضياً بقراءة عيسى والثقفي والأعرج «فإن تُوَلُّوا» بضم التاء واللام، مضارعَ ولى بضم التاءِ واللام مضارعَ وَلي، والأصل تُوَلِّيُوا فأُعِلَّ.
قال الزمخشري: «فإن قلتَ: الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ، وكنتم محجوجين بأنَّ ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب.
قوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾ العامَّةُ على رفعِه استئنافاً. وقال أبو البقاء»
هو معطوفٌ على الجواب بالفاء «. وقرأ عبد اللَّه بن مسعود بتسكينه، وفيه
344
وجهان: أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات: والثاني: أن يكونَ مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاء، إذ مَحَلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قولِه: ﴿فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ وقد تقدَّم تحقيقُه، إلا أن القراءتين ثَمَّ في المتواتر.
قوله: ﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ﴾ العامَّة على النون، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم، وابنُ مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ» يستخلف «جزماً، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعلين، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في» تَضُرُّونه «جَوَّز الوجهين في» يَسْتخلف «.
و»
شيئاً «مصدرٌ، أي: شيئاً من الضرر.
345
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ﴾ : متعلقٌ بمحذوفٍ، أي : ونَجَّيْناهم مِنْ/ خزي. وقال الزمخشري :" فإن قلت : علام عُطِف ؟ قلت : على " نَجَّيْنا " لأنَّ تقديرَه : ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ هود : ٥٨ ]، أي : وكانت التنجيةُ مِنْ خزي : وقال غيره :" إنه متعلقٌ ب " نَجَّيْنا " الأول ". وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش، لأن زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة.
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم " يومئذ " على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله :
٢٦٧٣ على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع
وقرأ الباقون بخفض الميم. وكذلك الخلافُ جارٍ في ﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ [ المعارج : ١ ]. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين " خزي " و " يومئذ " نصب على الظرف بالخزي.
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل ﴿ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين " فزع " ونصب " يومئذ " به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل " يومئذ " أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و " إذ " مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه : إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري :" ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة ". قال الشيخ :" وهذا ليس بجيدٍ ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة ". قلت : قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
قوله تعالى: ﴿جَحَدُواْ﴾ : جملةٌ مستأنفة سِيقت للإِخبار عنهم بذلك، وليسَتْ حالاً مِمَّا قبلها، و «جَحَد» يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّن معنى كفر، فيعدى بحرفه، كما ضَمَّن «كفر» معنى «جحد» فتعدى بنفسه في قوله بعد ذلك في قوله: ﴿كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾ [هود: ٦٠]. وقيل: إنَّ «كفر» ك شكر «في تعدِّيه بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى.
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد: / الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ
345
قولهم» عَنَد يَعْنِد «إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب. قيل: ومنه» عندي «الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانِب، من قولك: عندي كذا، أي في جانبي. وعن أبي عبيد: العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف.
346
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:قوله تعالى :﴿ جَحَدُواْ ﴾ : جملةٌ مستأنفة سِيقت للإِخبار عنهم بذلك، وليسَتْ حالاً مِمَّا قبلها، و " جَحَد " يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّن معنى كفر، فيُعدَّى بحرفه، كما ضَمَّن " كفر " معنى " جحد " فتعدى بنفسه في قوله بعد ذلك في قوله :﴿ كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ [ هود : ٦٠ ]. وقيل : إنَّ " كفر " ك شكر " في تعدِّيه بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى.
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد :/ الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ قولهم " عَنَد يَعْنِد " إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب. قيل : ومنه " عندي " الذي هو ظرف ؛ لأنه في معنى جانِب، من قولك : عندي كذا، أي في جانبي. وعن أبي عبيد : العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف.

قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ﴾ : كالذي قبله. والعامَّة على مَنْع «ثمود» الصرفَ هنا لعلتين: وهما العلمية والتأنيث، ذهبوا به مذهبَ القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صرفوه، ذهبا به مذهب الحيّ. وسيأتي بيان الخلاف في غير هذا الموضع.
قوله: ﴿مِّنَ الأرض﴾ : يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ابتداء إنشائكم منها: إمَّا إنشاءُ أصلكم وهو آدم، أو لأن كلَّ واحد خُلق مِنْ تُرْبته، أو لأن غذاءَهم وسببَ حياتهم من الأرض. وقيل: «مِن» بمعنى «في» ولا حاجة إليه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّنَا﴾ : هذا هو الأصل، ويجوز «وإنَّا» بنونٍ واحدة مشددة كما في السورة الأخرى. وينبغي أن يكون المحذوفُ النونَ الثانية من «إنَّ» لأنه قد عُهِد حَذْفُها دون اجتماعِها مع «ن» فَحَذْفُها مع «ن» أولى، وأيضاً فإنَّ حَذْف بعضِ الأسماء ليس بسهلٍ. وقال الفراء: «مَنْ قال» إننا «أَخْرج الحرفَ على أصله؛ لأنَّ كتابةَ المتكلمين» ن «فاجتمع ثلاثُ نونات، ومَنْ قال:» إنَّا «استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثة، وأبقى الأوَّلَيْن». انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ هذا الموضوع.
346
قوله: ﴿مُرِيبٍ﴾ اسم فاعل مِنْ أراب، و «أراب» يجوز أن يكونَ متعدِّياً مِنْ «أرابه»، أي: أوقعه في الريبة أو قاصراً مِنْ «أراب الرجلُ»، أي: صار ذا ريبة. ووُصِف الشكَّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
347
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ : إلى آخره: قد تقدَّم نظيره، والمفعول الثاني هنا محذوفٌ تقديره: أأَعْصيه، ويدلُّ عليه «إن عصيته». وقال ابن عطية: «هي مِنْ رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْنِ ل» أرأيتم «. قال الشيخ:» والذي تقرَّر أنَّ «أرأيت» ضُمِّن معنى أخبرْني، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولَيْ علمت وأخواتها.
قوله: ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ الظاهرُ أنَّ «غيرَ» مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني. قال أبو البقاء: «الأقوى هنا أن تكون» غير «استثناءً في المعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ ل» تزيدونني «، أي: فما تزيدونني إلا تخسيراً». ويجوز أن تكون «غير» صفةً لمفعولٍ محذوف، أي: شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التفعيل هنا النسبةُ، والمعنى: غيرَ أن أُخْسِرَكم، أي: أَنْسبكم إلى التخسير، قاله الزمخشري. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قاله ابن عباس.
قوله تعالى: ﴿آيَةً﴾ : نصب على الحال بمعنى علامة، والناصب لها: إمَّا ها التنبيه أو اسمُ الإِشارة؛ لِما تضمَّناه من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.
قوله: ﴿لَكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من «آيةٍ» ؛ لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً لها، فلما قُدِّم انتصبَ حالاً. قال الزمخشري: «فإن قلت بم تتعلَّقُ» لكم «؟ قلت:» بآية «حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحال». قال الشيخ: «وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق» لكم «ب» آية «كان معمولاً ل» آية «، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف». قلت: ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟
وقرأت فرقة: «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحال.
قوله تعالى: ﴿فِي دَارِكُمْ﴾ : قيل: هو جمعُ «دارَة» كساحة وساح وسُوح، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
٢٦٧١ - له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي
قوله: ﴿مَكْذُوبٍ﴾ يجوز أن يكونَ مصدراً على زِنة مفعول، وقد جاء منه أُلَيْفاظ نحو: «المَجْلود والمَعْقول والميسور والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذ تأويلان، أحدُهما: غيرُ مكذوبٍ فيه، ثم حُذف
348
حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعاً مستتراً في الصفةِ، ومثلُه ﴿يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣] وقوله:
٢٦٧٢ - ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامراً قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافلُهْ
والثاني: أنه جُعل هو نفسُه غيرَ مكذوب، لأنه قد وُفِّي به فقد صُدِّق.
349
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ : متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: ونَجَّيْناهم مِنْ/ خزي. وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عُطِف؟ قلت: على» نَجَّيْنا «لأنَّ تقديرَه: ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: ٥٨]، أي: وكانت التنجيةُ مِنْ خزي: وقال غيره:» إنه متعلقٌ ب «نَجَّيْنا» الأول «. وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش، لأن زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة.
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم»
يومئذ «على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله:
٢٦٧٣ - على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع
وقرأ الباقون بخفض الميم. وكذلك الخلافُ جارٍ في ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١].
349
وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين» خزي «و» يومئذ «نصب على الظرف بالخزي.
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل ﴿مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين»
فزع «ونصب» يومئذ «به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل»
يومئذ «أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و» إذ «مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه: إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة «. قال الشيخ:» وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة «. قلت: قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
350
قوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ الذين﴾ : حُذِفت تاءُ التأنيث: إما لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصل بالمفعول، أو لأنَّ الصيحةَ بمعنى الصياح، والصَّيْحة: فَعْلة تدل على المَرَّة من الصياح، وهي الصوتُ الشديد: صاح يصيح صِياحاً، أي: صوَّت بقوة.
وقرأ حمزة وحفص: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ﴾ هنا، وفي الفرقان: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ﴾ [الآية: ٣٨]، وفي العنكبوت: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم﴾ [الآية: ٣٨]، وفي
350
النجم: ﴿وَثَمُودَ فَمَآ أبقى﴾ [الآية: ٥١] جميعُ ذلك بمنعِ الصرفِ، وافقهم أبو بكر على الذي في النجم.
وقوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه صَرَفَه. وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسماً للقبيلة، ومَنْ صَرَف جعله اسماً للحيّ، وأنشد على المنع:
٢٦٧٤ - ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ بآلِ ثمودَ منك عذاباً
وأنشد على الصرف:
٢٦٧٥ - دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورة الأعراف.
351
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعول به، ثم هو محتملٌ لأمرين، أحدهما: أن يراد قالوا هذا اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنه يتضمَّن معنى الكلام. والثاني: أنه أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدم ذلك في نحو قولِه تعالى: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨]. وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصب بالقول، تقديرُه: قالوا: سَلَّمْنا سلاماً، وهو من باب ما ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجبُ الإِضمار.
351
قوله: ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ في رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أمري أو قولي سلام. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضعِ أن الرفعَ أدلُّ على الثبوت من النصب، والجملة بأسرها وإن كان أحدُ جُزْأيها محذوفاً في محل نصب بالقول كقوله:
٢٦٧٦ - إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامةٍ ........................
وقرأ الأخوان: «قال سِلْم» هنا وفي سورة الذاريات بكسر السين وسكون اللام. ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف فقيل: هما لغتان كحِرْم وحَرام وحِلٌّ وحَلال، وأنشد:
٢٦٧٧ - مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ
يريد: سلام، بدليل: فسلَّمت. وقيل: «السِلْم» بالكسر ضد الحرب، وناسَب ذلك لأنه نَكِرَهم فقال: أنا مسالمكم غيرُ محارِب لكم
قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ﴾ يجوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبث» حينئذ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ إبراهيم عليه السلام، أي: فما لبث إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّروه بالباء وب «عن» وب «في»، أي: فما تأخر في أَنْ، أو بأن، أو عن أن. والثاني: أن
352
الفاعل قوله: «أن جاء»، والتقدير: فلما لبث، أي: ما أبطأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين.
وثاني الأوجه: أنها مصدريةٌ، وثالثها: أنها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرُه على حَذْف مضاف تقديره: فلُبْثُه أو الذي لَبِثه قَدْرَ مجيئه.
والحَنيذ: المَشْويُّ بالرصْف في أخدود. حَنَذْتُ الشاةَ أَحْنِذُها حَنْزاً فهي حَنيذ، أي محنوذة. وقيل: حنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شوطاً أو شوطين وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليَعْرَق.
353
قوله تعالى: ﴿نَكِرَهُمْ﴾ : أي: أنكرهم، فهما بمعنى وأنشدوا:
٢٦٧٨ - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلعا
وفرَّق بعضهم بينهما فقال: / الثلاثي فيما يرى بالبصر، والرباعي فما لا يُرى من المعاني، وجعل البيتَ من ذلك، فإنها أَنْكَرَتْ مودَته وهي من المعاني التي لا ترى، ونَكِرَتْ شيبتَه وصَلَعه، وهما يُبْصَران، ومنه قولُ أبي ذؤيب:
٢٦٧٩ - فَنَكِرْنَه فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ به هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ جُرْشُعُ
والإِيجاس: حديث النفس، وأصلُه من الدخول كأن الخوف داخله.
353
وقال الأخفش: «خامَرَ قلبه». وقال الفراء: «استشعر وأحسَّ». والوجيس: ما يَعْتري النفس أوائل الفزع، ووَجَسَ في نفسه كذا أي: خَطَر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجوساً ووَجيساً، ويَوْجَس ويَجِس بمعنى يسمع، وأنشدوا،
٢٦٨٠ - وصادقتا سَمْعِ التوجُّسِ للسُّرى لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لصوتٍ مُنَدَّد
فخيفةً مفعول به أي: أحسَّ خيفة أو أضمر خيفة.
354
قوله تعالى: ﴿وامرأته قَآئِمَةٌ﴾ : في محلِّ نصب على الحال من مرفوع «أُرْسِلْنا». وقال أبو البقاء: «من ضمير الفاعل في» أرسلنا «وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه لا يُطْلَقُ عليه فاعلٌ على المشهور، وعلى الجملة فَجَعْلُها حالاً غيرُ واضح بل هي استئنافُ إخبار، ويجوز جَعْلُها حالاً من فاعل» قالوا «أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته.
قوله: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ العامَّة على كسر الحاء، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من مكة بفتحها، وهي لغتان، يقال: ضَحِك وضَحَكَ. وقال المهدوي:»
الفتح غير معروف «. والجمهور على أن الضحك على بابه. واختلف أهلُ التفسير في سببه، وقيل: بمعنى حاضَتْ، ضحكت الأرنب: أي: حاضَتْ، وأنكره أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء. وأنشد غيرهم على ذلك:
354
٢٦٨١ - وضِحْكُ الأرانبِ فوق الصَّفا كمثلِ دمِ الجَوْفِ يوم اللِّقا
وقال آخر:
٢٦٨٢ - وعهدي بسلمى ضاحكاً في لَبانةٍ ولم يَعْدُ حُقَّاً ثَدْيُها أن يُحَمَّلا
أي: حائضاً. وضحِكت الكافورة: تَشَقَّقت. وضحكت الشجرة: سال صمغُها. وضَحِك الحوضُ: امتلأ وفاض. وظاهرُ كلام أبي البقاء أن ضَحَك بالفتح مختص بالحيض فإنه قال:» بمعنى حاضت، يقال: ضحَكت الأرنب بفتح الحاء «.
قوله: ﴿يَعْقُوبَ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها. فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها: هل الفتحةُ علامةُ نصب أو جر؟ والقائلون بأنها علامة نصب اختلفوا: فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله:»
بإسحاق «قال الزمخشري:» كأنه قيل: ووهَبْنا له إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله:
٢٦٨٣ -............ ليسوا مصلحين عشيرةً ولا ناعِبٍ......................
يعني أنه عطف على التوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرَّ، ولكنه لا ينقاس. وقيل: هو منصوبٌ بفعلٍ مقدر تقديرُه: ووهبْنا يعقوب، وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة. ورجَّح
355
الفارسيُّ هذا الوجه. وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محل «بإسحاق» لأن موضعَه نصب كقوله: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] بالنصب عطفاً على «برؤوسكم». والفرق بين هذا والوجه الأول: أن الأولَ ضمَّن الفعل معنى: «وَهَبْنا» توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم.
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاق» والمعنى: أنها بُشِّرت بهما. وفي هذا الوجه والذي قبله بحثُ: وهو الفصلُ بالظرف بين حرف العطف والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النساء فعليك بالالتفات إليه.
ونسب مكي الخفضَ للكسائي ثم قال: «وهو ضعيف إلا بإعادة الخافض، لأنك فَصَلْت بين الجار والمجرور بالظرف».
قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قُدِّم ولم يُفْصَل لم يُلْتزم الإِتيان به.
وأمَّا قراءةُ الرفع ففيها أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق فقدَّره الزمخشري «مولود أو موجود» وقدّره غيره بكائن. ولمَّا حكى النحاس هذا قال: «والجملة حالٌ داخلة في البشارة أي: فَبَشَّرْناها بإسحاق متصلاً به يعقوبُ». والثاني: أنه مرفوع على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء
356
على رَأْي الأخفش. والثالث: أن يرتفع بإضمار فعل أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مَدْخَلَ له في البشارة. والرابع: أنه مرفوعٌ على القطع يَعْنُون الاستئناف، وهو راجع لأحد ما تقدَّم مِنْ كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعده، أو بفعل مقدر.
357
قوله تعالى: ﴿ياويلتى﴾ : الظاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم/ ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن «يا ويلتي» بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.
قوله: ﴿وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاًٌ﴾ الجملتان في محل نصب على الحال من فاعل «أَلِدُ» أي: كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟
والجمهورُ على نصب «شيخاً» وفيه وجهان، المشهور: أنه حال والعامل فيه: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارة، وإمَّا كلاهما. والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند مَنْ لا يجهل الخبرَ، أمَّا مَنْ جهله فهي غير لازمة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شيخٌ» بالرفع، وذكروا فيه أوجهاً: خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هذا» و «بعلي» بيان أو بدل، أو «شيخ» بدل من «بعلي»، أو «بعلي» مبتدأ و «شيخ» خبره، والجملة خبرُ الأول، أو «شيخ» خبرُ مبتدأ مضمر أي هو شيخ.
والشيخ يقابله عجوز، ويقال شَيْخة قليلاً، كقوله:
٢٦٨٤ -
357
وتَضْحك مني شَيْخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ........................
وله جموعٌ كثيرة، فالصريح منها: أَشْياخ وشُيوخ وشِيخان، وشِيْخَة عند مَنْ يرى أن فِعْلَة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمة وفِتْيَة. ومن أسماءِ جَمْعه مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاء.
358
قوله تعالى: ﴿أَهْلَ البيت﴾ : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منادى. والثاني: أنه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النصبين فرق: وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المذمومَ لفظٌ يتضمن بوضعه الذمَّ.
والمنصوبُ على الاختصاص لا يكون إلا لمدحٍ أو ذم، لكن لفظَه لا يتضمَّن بوَضْعِه ولا الذمَّ كقوله:
٢٦٨٥ - بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ كذا قاله الشيخ، واستند إلى أن سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظر.
والمجيد: فَعيل، مثالُ مبالغة مِنْ مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجادة، ويقال: مَجْد كشَرُف وأصلُه الرِّفْعَة. وقيل: من مَجَدَتِ الإِبلُ تَمْجُد مَجادة
358
ومَجْداً أي: شَبِعت، وأنشدوا لأبي حية النميري:
٢٦٨٦ - تزيدُ على صواحبِها وليسَتْ بماجدةِ الطعام ولا الشراب
أي: ليسَتْ بكثيرةِ الطعامِ ولا الشراب. وقيل: مَجَد الشيءُ: أي حَسُنَتْ أوصافُه. وقال الليث: «أمجد فلانٌ عطاءَه ومَجَّده أي: كثَّره».
359
والرَّوْع: الفزع، قال الشاعر:
٢٦٨٧ - إذا أخَذَتْها هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ بمَنْكِبِ مِقْدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال: راعَه يَرُوْعُه أي: أفزعه، قال عنترة:
٢٦٨٨ - ما راعني إلا حَمولةُ أهلِها وسطَ الديار تَسِفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع: افتعل منه. قال النابغة:
٢٦٨٩ - فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبِ فباتَ له طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدٍ
وأمَّا الرُّوْعُ بالضم فهي النفسُ لأنها محلُّ الرَّوْع، ففرَّقوا بين الحالِّ والمَحَلِّ. وفي الحديث: «إنَّ رُوْحَ القدس نفث في رُوْعي».
قوله: ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ عطف على «ذَهَب» وجوابُ «لَمَّا» على هذا محذوفٌ أي: فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فَطِن لمجادلتهم، وقوله: «يُجادلنا» على هذا جملةٌ مستأنفة، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يجادِلُنا، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل «
359
أَقبل». وقيل: جوابها قوله: «يجادِلُنا» وأوقع المضارعَ موقعَ الماضي. وقيل: الجوابُ قولُه ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾، وهو الجوابُ والواوُ زائدةٌ. وقيل: «يجادلنا» حال من «إبراهيم»، وكذلك قولُه: «وجاءَتْه البشرى» و «قد» مقدرةٌ. ويجوز أن يكونَ «يجادِلُنا» حالاً من ضمير المفعول في «جاءَتْه». و «في قوم» أي: في شأنهم.
360
قوله تعالى: و ﴿أَوَّاهٌ﴾ : فعَّال مِنْ أوَّهَ، وقد تقدم اشتقاقه.
قوله تعالى: ﴿آتِيهِمْ عَذَابٌ﴾ : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل «إنهم». ويجوز أن يكون «آتيهم» الخبر و «عذاب» المبتدأ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصف، ولتنكير «آتيهم» لأنَّ إضافتَه غيرُ محضة. ويجوز أن يكون «آتيهم» خبرَ «إنَّ» و «عذاب» فاعلٌ به، ويدل على ذلك قراءةُ عمرو بن هَرِم: «وإنهم أتاهم» بلفظ الفعل الماضي.
قوله تعالى: ﴿سياء﴾ : فعلٌ مبنيٌّ للمفعول. والقائمُ مقامُ الفاعل ضميرُ لوط مِنْ قولِك «ساءني كذا» أي: حَصَل/ لي سُوْءٌ. و «بهم» متعلقٌ به أي: بسببهم. و «ذَرْعاً» نصبٌ على التمييز، وهو في الأصل مصدر ذَرَعَ البعير يَذْرَع بيديه في سَيْره إذا سار على قَدْر خَطْوِه، اشتقاقاً من الذِّراع، ثم تُوُسِّع فيه فوُضِعَ مَوْضِعَ الطاقة والجهد فقيل: ضاق ذَرْعُه أي: طاقتُه قال:
٢٦٩٠ -.....................
360
فاقدِرْ بذَرْعِك وانظر أين تَنْسَلِكُ
وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال:
٢٦٩١ - إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا
قيل: هو كنايةٌ عن ضِيق الصدر.
وقوله: ﴿عَصِيبٌ﴾ العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب: اليوم الشديد، الكثير الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال:
٢٦٩٢ - وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ وقد سَلكوك في يومٍ عصيبِ
وعن أبي عُبَيْد: «سُمِّي عَصِيباً لأنه يعصب الناسَ بالشرِّ». والعِصَابَةُ: الجماعة من الناس سُمُّوا بذلك لإِحاطتهم إحاطةَ العَصابة.
قوله: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ في محل نصب على الحال. والعامَّة على «يُهرعون» مبنياً للمفعول. والإِهراع: الإِسراع ويقال: وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز. وقال الهروي: هَرَع وأَهْرَعَ: اسْتَحَثَّ. وقرأت فرقة: «يَهْرعون» بفتح الياء مبنياً للفاعل مِنْ لغة «هَرَع».
قوله: ﴿هؤلاء بَنَاتِي﴾ جملةٌ برأسها، و «هنَّ أطهرُ لكم» جملةٌ أخرى، ويجوز أن يكونَ «هؤلاء» مبتدأ، و «بناتي» بدلٌ أو عطفُ بيان، و «هنَّ» مبتدأ،
361
و «أَطْهَرُ» خبره، والجملةُ خبر الأول. ويجوز أن يكونَ «هنَّ» فَصْلاً، و «أطهر» خبر: إمَّا ل «هؤلاء»، وإمَّا ل «بناتي»، والجملةُ خبر الأول.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي: «أطهرَ» بالنصب. وخُرِّجت على الحال. فقيل: «هؤلا» مبتدأ، و «بناتي هُنَّ» جملةٌ في محلِّ خبره، و «أطهر» حال، والعاملُ: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ. وقيل: «هنَّ» فَصْلٌ بين الحال وصاحبها، وجُعِل من ذلك قولُهم: «أكثر أكلي التفاحةَ هي نضيجةً». ومنعه بعض النحويين، وخرَّج الآيةَ على أن «لكم» خبر «هن» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور على أن «نضيجة» منصوبة ب «كان» مضمرة.
قوله: ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ : الضيف في الأصل مصدرٌ، ثم أطلق على الطارق لميلانه إلى المُضيف، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يُثنَّى فيقال: ضَيْفان، ويُجْمع فيقال: أضايف وضُيوف كأبيات وبُيوت وضِيفان كحَوْض وحِيضان.
362
قوله تعالى: ﴿مِنْ حَقٍّ﴾ : يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله: ﴿مَا نُرِيدُ﴾ يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والعلم عرفانٌ، فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها.
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنَّ﴾ جوابُها محذوف تقديره: لفعلتُ بكم وصنعْتُ كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ [الرعد: ٣١].
قوله: ﴿أَوْ آوي﴾ يجوز أن يكونَ معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أني آوي، قاله أبو البقاء والحوفي. ويجوز أن يكون معطوفاً على «قوة» لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ «أن» رُفع الفعل كقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤].
واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه. وقد تقدم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعفر «أو آويَ» بالنصب كقوله:
٢٦٩٣ - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما
وقولها:
٢٦٩٤ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف
ويجوز أن يكون عَطْفُ هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرْتَ أنَّ «أنَّ» مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد «لو» عند المبرد، والتقدير: لو يستقر أو يثبت استقرار القوة أو آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيَيْ المعنى؛
363
لأنها تَقلب المضارع إلى المضيِّ. وأمَّا على رأي سيبويه في كونِ أنَّ «أنَّ» في محل الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً. وقيل: «أو» بمعنى بل وهذا عند الكوفيين.
و «بكم» متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «قوة»، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة، ولا يجوز أن يتعلَّق ب «قوة» لأنها مصدر.
والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره، ويُجمع على أركان وأَرْكُن قال:
٢٦٩٥ - وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ/...
364
قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ﴾ : قرأ نافع وابن كثير: ﴿فاسْرِ بأهلك﴾ هنا وفي الحجر، وفي الدخان: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾ [الآية: ٢٣]، وقوله: ﴿أَنْ أَسْرِ﴾ [الآية: ٧٧] في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط دَرْجاً وتَثْبُتُ مكسورة ابتداءً. والباقون «فَأَسْر» بهمزة القطع تثبت مفتوحة دَرْجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان من لُغَتي هذا الفعل فإنه يُقال: سَرَى، ومنه ﴿والليل إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤]، وأَسْرى، ومنه: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى﴾ [الإسراء: ١] وهل هما بمعنى واحدٍ
364
أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قول أبي عبيد. وقيل: بل أَسْرى لأولِ الليل، وسَرَى لآخره، وهو قولُ الليث، وأمَّا سار فمختص بالنهار، وليس مقلوباً مِنْ سَرى.
قوله: ﴿بِأَهْلِكَ﴾ يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للتعدية، وأن تكونَ للحال أي: مصاحباً لهم. وقوله: «بقِطْعٍ» حال من «أهلك» أي: مصاحبين لقِطْع، على أن المرادَ به الظلمة. وقيل: الباء بمعنى «في». والقِطْع هنا نصف الليل، لأنه قطعةٌ منه مساويةٌ لباقيه، وأنشدوا:
٢٦٩٦ - ونائحةٍ تَنُوْحُ بقِطْعِ ليلِ على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد
وقد تقدَّم الكلامُ على القِطْع في يونس بأشبع من هذا.
قوله: ﴿إِلاَّ امرأتك﴾ ابن كثير وأبو عمرو برفع «امرأتك» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه. أمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أشهرُهما عند المعربين: أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسن من النصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجَب. وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم نُهوا عن الالتفات إلا المرأة، فإنها لم تُنْهَ عنه، وهذا لا يجوزُ، ولو كان الكلامُ «ولا يلتفت» برفع «يلتفت» يعني على أنْ تكونَ «لا» نافيةً، فيكون الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت، لكان الاستثناء بالبدلية واضحاً، لكنه لم يقرأ برفع «يلتفت» أحد.
365
وقد استحسن ابنُ عطيةَ هذا الإِلزامَ من أبي عبيد، وقال: «إنه وارِدٌ على القول باستثناءِ المرأة من» أحد «سواءً رَفَعْتَ المرأة أو نَصَبْتها». قلت: وهذا صحيحٌ، فإن أبا عبيد لم يُرِد الرفعَ لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد»، وأبو عبيد يُخَرِّج النصبَ على الاستثناء من «بأهلك»، ولكنه يَلْزم من ذلك إبطالُ قراءة الرفع، ولا سبيلَ إلى ذلك لتواترها.
وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيد بأن النهيَ في اللفظ ل «أحد» وهو في المعنى للوط عليه السلام، إذ التقدير: لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحدٌ» النهيُ لأحد، وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: «لا تَدَعْ أحداً يقوم».
قلت: فآل الجواب إلى أنَّ المعنى: لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً، معناه: فَدَعْه يقوم. وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
والثاني: أن الرفعَ على الاستثناءِ المنقطع، والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء، ولنسْرُدْ كلامه لنعرفَه فقال:»
الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يُقْصَدْ به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ، ولكن استؤنف الإِخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا، ويؤيد هذا المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ البتةَ، قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك
366
إلا بذكر مَنْ أنجاهم اللَّه تعالى، فجاء شرح حالِ امرأتِه في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإِخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصب والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء «. قال الشيخ:» وهذا الذي طوَّل به لا تحقيقَ فيه، فإنه إذا لم يُقْصَدْ إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من/ المَنْهِيِّين عن الالتفاتِ، وجُعل استثناءً منقطعاً، كان من المنقطع الذي لم يتوجَّهْ عليه العاملُ بحال، وهذا النوع يجب فيه النصبُ على كلتا اللغتين، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجُّهُ العاملِ عليه، وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلا» من غير الجنس المستثنى، فكونُه جازَ في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجَّه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يُقْصَدْ بالاستثناء إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصبُ قولاً واحداً «.
[قلت: القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة]. وأمَّا قولُه:»
إنه لم يتوجَّهْ عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّه عليه في الجملة، والذي قاله النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وهذا ليس مِنْ ذاك، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟.
وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستثنى مِنْ»
بأهلك «، واستَشْكلوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها، لكن الفرضِ أنه سرى بها، يدلُّ عليه أنها التفتَتْ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن
367
الإِخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدلُّ على كونها سَرَتْ معهم قطعاً.
وقد أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه «فَأَسْر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» ولم يذكر قوله ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾.
والثاني: أنه مستثنى مِنْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦] بالنصبِ مع تقدُّم النفي الصريح. وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا.
والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة. وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنه أخرجها معهم، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم أحد إلا هي، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين».
قال الشيخ: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه سرى بها أو لم يَسْرِ بها، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار، يستحيل أن تكن القراءتان وهما مِنْ كلام اللَّه تعالى يترتبان على التكاذب». قلت: وحاشَ للَّه أن تترتب القراءتان على التكاذُب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سرى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب فانقطع سُراها، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي:
368
لم يَأْمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم سُراها معهم بل انقطع فَصَحَّ أن يقال: إنه سَرَى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب الناسُ بهذا وهو حسنٌ.
وقال الشيخ أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل: فَأَسْرِ بأهلِك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد اللَّه هكذا، وليس فيها ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ فهذا دليلٌ على استثنائها مِن السُّرى بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم غيرَ أن تكونَ أنت سَرَيْتَ بها فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرَها، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرفع دالَّةً على المعنى المتأخر، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح» وهو كلامٌ حسنُ شاهدٌ لِما ذكرته.
قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا﴾ الضميرُ ضمير الشأن، و «مُصيبها» خبرٌ مقدم، و «ما أصابهم» مبتدأ مؤخر وهو موصولٌ بمعنى الذي، والجملة خبرُ إنَّ؛ لأن ضمير الشأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزْأَيْها.
وأعرب الشيخ «مُصيبها» مبتدأً، و «ما أصابهم» الخبر، وفيه نظرٌ من حيث الصناعة: فإن الموصولَ معرفة، فينبغي أن يكونَ المبتدأ و «مُصيبها» نكرةً لأنَّه عامل تقديراً فإضافتُه غيرُ محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإِخبار عن الذي أصابهم أنه مُصِيبها من غيرِ عكسٍ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ «مصيبُها» مبتدأً، و «ما» / الموصولةُ فاعلٌ لأنهم يُجيزون أن يُفَسَّر ضميرُ الشأنِ بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنه قائمٌ أبواك».
369
قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ﴾، أي: موعد هلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر «الصبح» بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك.
370
قوله تعالى: ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ : مفعولا الجعل الذي بمعنى التصيير، و «سِجِّيل» قيل: هو في الأصل مركَّب من: «سكر كل» وهو بالفارسية حجر وطين فعُرِّب وغُيِّرت حروفهُ. وقيل: سِجِّيل اسمٌ للسماء وهو ضعيف أو غلط؛ لوصفه بمَنْضود. وقيل: مِنْ أَسْجَلَ، أي: أرسل فيكون فِعِّيلاً، وقيل: هو مِن التسجيل، والمعنى: أنه مِمَّا كتب اللَّهُ وأَسْجل أن يُعَذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأولَ تفسيرُ ابن عباس أنه حجرٌ وطين كالآجرّ المطبوخ، وعن أبي عبيد هو الحجر الصُّلْب. و «منضود» صفةٌ لسِجِّيل. والنَّضْدُ: جَعْلُ الشيءِ بعضَه فوقَ بعضٍ، ومنه ﴿وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٩]، أي: متراكب، والمرادُ وصفُ الحجارة بالكثرة.
و «مُسَوَّمة» نعتٌ لحجارة، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوَصْفِ غير الصريح على الصريح لأنَّ «مِنْ سجيل» صفةٌ لحجارة، والأَوْلى أن يُجْعل حالاً من حجارة، وسوَّغ مجيئَها مِن النكرة تخصُّصُ النكرة بالوصف. والتَّسْويم. العلامَةُ. قيل: عُلِّم على كلِّ حجرٍ اسمُ مَنْ يرمى به، وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران. و «عند» : إمَّا منصوبٌ ب «مُسَوَّمة»، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها صفة ل «مُسَوَّمة».
قوله: ﴿وَمَا هِيَ﴾ الظاهرُ عَوْدُ هذا الضمير على القرى المُهْلَكة. وقيل:
370
يعودُ على الحجارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العقوبة المفهومة من السياق. ولم يُؤَنِّث «ببعيد» : إمَّا لأنه في الأصلِ نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكان بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السماء أو القرى المهلَكة، وإمَّا لأن العقوبةَ والعقابَ واحد، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذاب أو بشيءٍ بعيد.
371
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ﴾ :«نَقَصَ» يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ، تقول: نَقَصْت زيداً مِنْ حقَّه، وهو هنا كذلك؛ إذ المرادُ: ولا تَنْقُصوا الناسَ من المكيال، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى، والمعنى: لا تُقَلِّلوا وتُطَفِّفوا، ويجوز أن يكون «المكيالَ» مفعولاً أول والثاني محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تَنْقُصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وَجَبَ لهما وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله: ﴿مُّحِيطٍ﴾ صفة لليوم، ووُصِف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢]. قال الزمخشري: «إنَّ وَصْفَ اليوم بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها» قال: «لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه».
وزعم قومٌ أنه جُرَّ على الجِوار، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم محيطاً. وقال آخرون: التقدير: عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جَرَى على غير مَنْ هوله، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ : قال ابن عطية: «وجواب هذا الشرط متقدم» يعني على مذهب مَنْ يراه لا على [مذهب] جمهور البصريين. والعامَّة على تشديد ياء «بقيَّة». وقرأ إسماعيل بن جعفر من أهل المدينة بتخفيفها. قال ابن عطية: «وهي لغةٌ». وهذا لا ينبغي أن يُقال، بل يُقال: إنْ لم يُقْصد الدلالةُ على المبالغة جيء بها مخففةً، وذلك أن فَعِل بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصفة منه فَعِل بكسر العين نحو: سَجِيَت المرأة فهي سَجِيَة فإن قَصَدْت المبالغة قيل: سَجِيَّة لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك بقيَّة وبَقِية أي بالتشديد والتخفيف.
وتقدم الخلاف في قوله «أصلاتك» بالنسبة إلى الإِفراد والجمع في سورة براءة.
قوله ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ﴾ العامة على نون الجماعة أو التعظيم في «نفعل» و «نشاء». وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فَمَنْ قرأ بالنون
372
فيهما عَطفه على مفعول «نترك» وهو «ما» الموصولةُ/، والتقدير: أصلواتُك تأمركَ أن نَتْرُكَ ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء، وهو بَخْسُ الكَيْل والوَزْنِ المقدَّم ذكرُهما. و «أو» للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عَطْفُه على مفعول «تأمرك» ؛ لأن المعنى يتغير، إذ يصير التقدير: أصلواتُك تأمُرك أن نفعلَ في أموالنا.
ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول «تأمرك»، وأن يكونَ معطوفاً على مفعول «نترك»، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان «أن نفعل» معطوفاً على مفعول «تأمرك»، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول «نترك» وهي قراءةُ النونِ فيهما، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول «تأمرك»، وهي قراءةُ النون في «نفعل» والتاء في «تشاء»، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظاهرُ من حيث المعنى في قراءة التاء فيهما أو في «تشاء» أن المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما. وقال الزمخشري: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا يُؤْمَرُ بفعل غيره».
373
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ : قد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقال
373
الزمخشري هنا: «فإنْ قلت: أين جوابُ» أرأيتم «وما له لم يَثْبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ قلت: جوابُه محذوفٌ، وإنما لم يَثْبُتْ لأن إثباتَه في القصتين دلَّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين مِنْ ربي و [كنت] نبياً على الحقيقة، أيصحُّ أنْ لا آمرَكم بترك عبادة الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يُبْعَثون إلا لذلك؟».
قال الشيخ: «وتَسْمِيَةُ هذا جواباً ل» أرأيتم «ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قَدَّرها في موضع المفعول الثاني ل» أرأيتم « [لأن أرأيتم] إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّتْ إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملةُ استفهاميةً ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العرب:» أرأيتك زيداً ما صنع «وقال الحوفي:» وجوابُ الشرط محذوفُ لدلالة الكلام عليه تقديره: أأَعْدِل عَمَّا أنا عليه «. وقال ابن عطية:» وجوابُ الشرط الذي في قوله «أن كنت» محذوفٌ تقديره: أضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ أو أترك تَبْليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليق بهذه المحاجَّة «. قال الشيخ:» وليس قوله «أضلّ» جواباً للشرط؛ لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكونَ جواباً لأنه لا يترتَّب على الشرط، وإن كان استفهاماً حُذف منه الهمزةُ
374
فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتم»، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه الجملةُ السابقة مع متعلَّقها.
قوله: ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشري: «خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، وخالفني عنه: إذا ولى عنه وأنت قاصدُه، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول:» خالَفَني إلى الماء «، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسْبِقَكم إلى شهواتكم التي نَهَيْتُكم عنها لأستبدَّ بها دونكم». وهذا الذي ذكره أبو القاسم معنى حسنٌ لطيف ولم يتعرَّض لإِعرابِ مفرداته، لأنَّ بفهم المعنى يُفهم الإِعراب ولنذكر ما فيه:
فأقول: يجوز أن يكونَ «أن أخالفَكم» في موضع مفعولٍ ب «أريد»، أي: وما أريدُ مخالفتَكم، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحو: جاوَزْتُ الشيءَ وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكونَ خَلَفاً منكم. وقولُه: ﴿إلى مَآ أَنْهَاكُمْ﴾ يتعلَّق ب «أخالفكم»، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضُهم محذوفاً يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديرُه: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجوز أن يكونَ «أن أخالفكم» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريد» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: «وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوز أن يُراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة، وتكون في موضع المفعول به بأريد، ويقدَّر مائلاً إلى.
375
قوله: ﴿مَا استطعت﴾ يجوز في «ما» هذه وجوه، أحدها: أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً أي: مدة استطاعتي. الثاني: أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي بدلاً من «الإِصلاح» والتقدير: إنْ أريد إلا المقدارَ الذي أستطيعه من الصلاح. الثالث: أن يكونَ على حَذْف مضاف، أي: إلا الإِصلاحَ إصلاحَ ما استطعت، وهو أيضاً بدل. الرابع: / أنها مفعول بها بالمصدرِ المُعَرَّف، أي: إنْ أريد إلا أن أُصْلح ما استطعت إصلاحَه كقوله:
٢٦٩٧ - ضعيفُ النِّكايةِ أعداءَه يخالُ الفِرارُ يُراخي الأجَلْ
ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ الزمخشري، إلا أن إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالُه في المفعول به عند الكوفيين. وتقدم الجارَّان في «عليه» و «إليه» للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.
376
قوله تعالى: ﴿لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ : العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثياً. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم. وقد تقدم أنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب، فيقال: جَرَم زيدٌ مالاً نحو: كَسَبه، وجَرَمْتُه ذَنْباً، أي: كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر:
376
٢٦٩٨ - ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول، والثاني هو: أن يُصيبكم أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب. وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضم لام «مثلُ» رفعاً على أنه فاعل «يُصيبكم»، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها، وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] وكقوله:
٢٦٩٩ - لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام. والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإِعراب، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ.
قوله: ﴿بِبَعِيدٍ﴾ أتى ب «بعيد» مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من
377
حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة. وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أن يسوى في» قريب «و» بعيد «و» قليل «و» كثير «بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما».
378
والوَدُود بناءُ مبالغة مِنْ وَدَّ الشيءَ يَوَدُّه وُدَّاً، ووِداداً، ووِدادَةً وودَادة أي أَحبَّه وآثره. والمشهور وَدِدْت بكسر العين، وسمع الكسائي وَدَدْت بفتحها، والوَدود بمعنى فاعل أي يَوَدُّ عبادَه ويرحمهم. وقيل: بمعنى مفعول بمعنى أن عبادَه يحبُّونه ويُوادُّون أولياءَه، فهم بمنزلة «المُوادُّ» مجازاً.
والرَّهْط جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لِما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرَّهْطُ والعَصَب والنَّفَر إلا على الرجال. وقال الزمخشري: «من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة» ويُجْمع على أَرْهُط، وأَرْهُط على أراهِط قال:
٢٧٠٠ - يا بُؤْسَ للحَرْب التي وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
قال الرمَّاني: «وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه» التَّرْهيط «وهو شدَّةُ الأكل» والرَّاهِطاء اسم لجُحْر من جِحَرة اليَرْبوع لأنه يَتَوَثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولادُه.
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ قال الزمخشري: «وقد دلَّ إيلاءُ ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل:
378
وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا، فلذلك قال في جوابهم: ﴿أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله﴾ ولو قيل:» وما عَزَزْتَ علينا «لم يصحَّ هذا الجواب».
379
قوله تعالى: ﴿واتخذتموه﴾ : يجوز أن تكونَ المتعدية لاثنين، أولهما الهاء، والثاني «ظِهْرِيَّا». ويجوز أنْ يكونَ الثاني هو الظرف و «ظِهْرِياً» حالٌ، وأن تكونَ المتعدية لواحد، فيكون «ظِهْرِيَّاً» حالاً فقط. ويجوز في «وراءكم» أن يكونَ ظرفاً للاتخاذ، وأن يكونَ حالاً مِنْ «ظهريَّاً»، والضمير في «اتخذتموه» يعود على اللَّه؛ لأنهم يجهلون صفاتِه، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريَّاً، أي: منبوذَةً وراء ظهورهم.
والظِهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى الظَّهِيْر وهو مِنْ تغييرات النسب كما قالوا في أَمْس: إمْسِيّ بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدال.
وقيل: الضمير يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي، فالظِّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعِين المُقَوِّي.
قوله تعالى: ﴿مَن يَأْتِيهِ﴾ : قد تقدَّم نظيرُه في قصة نوح. قال ابن عطية بعد أن حكى عن الفراء أن تكون موصولةً مفعولةً ب «تَعْلمون»، وأن تكونَ استفهاميةً مبتدأة مُعَلِّقة ل «تعلمون» :«والأول أحسن» ثم قال: «ويَقْضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة». قال الشيخ: «لا يتعيَّن ذلك، إذ من الجائز أن تكونَ الثانيةُ استفهاميةً أيضاً معطوفةً على الاستفهامية قبلها، والتقدير: سوف تعلمون أيُّنا يأتيه/ عذابٌ،
379
وأيُّنا هو كاذبٌ. وقال الزمخشري:» فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين إدخالِ الفاء ونَزْعها في «سوف تعلمون» ؟ قلت: إدخالُ الفاءِ وَصْلٌ ظاهر بحرفٍ موضوعٍ للوصل، ونَزْعُها وَصْلٌ خفيٌّ تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عَمِلْنا نحن على مكانتنا وعَمِلْتَ أنت على مكانتك؟ فقيل: سوف تعلمون، فَوَصَلَ تارةً بالفاء وتارةً بالاستئناف للتفنن في البلاغة، كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغُهما الاستئنافُ، وهو بابٌ من علم البيان تتكاثرُ محاسِنُه «.
380
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ : قال الزمخشري: «فإن قلت: ما بال ساقَتَي قصة عاد وقصة مَدْين جاءتا بالواو، والساقتان الوُسْطَيان بالفاء؟ قلت: قد وقعتْ الوُسْطَيان بعد ذِكْر الوعد، وذلك قوله ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح﴾، ﴿ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقول:» وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت «، وأمَّا الأُخْرَيان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تُعْطَفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعْطَفُ قصة على قصة»، وهذا من غُرَر كلام الزمخشري.
قوله تعالى: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ﴾ : يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب الإِعمال، وذلك أنَّ «يَقْدُمُ» يَصْلُح أن يتسلَّط على «النار» بحرف الجر، أي: يَقْدم قومَه إلى النار، وكذا «أَوْرَدَهم» يَصِحُّ تسلُّطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذف مِن الأول، ولو أعمل الأولَ لتعدى ب إلى، ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل «أَوْرَدَ» لاستئنافِه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنىً؛ لأنه عَطَفَ على ما هو نصٌّ في الاستقبال. والهمزة في «أَوْرَدَ» للتعدية، لأنه قبلها يتعدَّى لواحد. قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ وقيل: أوقع الماضي هنا لتحقُّقه. وقيل: بل هو ماضٍ على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار. قال تعالى: ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ [غافر: ٤٦]. وقيل: أوردهم مُوْجِبَها وأسبابها، وفيه بُعْدٌ لأجلِ العطف بالفاء.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرود، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلب أيضاً على الوارد، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ مِنْ حذف مضاف تقديره: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ ومخصوصِها شرطٌ، لا يُقال: نِعْم الرجلُ الفرسَ. وقيل: بل المورود صفةً للوِرْد، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: بئس الوِرْدُ المورود النارُ، جوَّز من ذلك أبو البقاء وابن عطية، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري. وقيل: التقدير: بئسَ القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» مرادٌ به الجمعُ
382
الواردون، والمَوْرود صفةٌ لهم، والمخصوص بالذمِّ الضميرُ المحذوف وهو «هم»، فيكون ذلك للواردين لا لموضع الوِرْد/ كذا قاله الشيخ. وفيه نظر لا يَخْفى: كيف يُراد بالوِرْد الجمع الواردون، ثم يقول والمورود صفةٌ لهم؟ وفي وصف مخصوص نعم وبئس خلافٌ بين النحويين منعه ابن السراج وأبو علي.
383
و ﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾ كالذي قبله. وقوله: «ويومَ القيامة» عطفٌ على موضع «في هذه» والمعنى: أنهم أُلْحِقُوا لعنةً في الدنيا وفي الآخرة، ويكون الوقف على هذا تاماً، ويُبتدأ بقوله «بِئْس».
وزعم جماعة أن التقسيم: هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة، ويومَ القيامة بِئْس ما يُرْفَدون به، فهي لعنة واحدة أولاً وقَبُح إرفاد آخِرا. وهذا لا يصحُّ لأنه يؤدي إلى إعمال «بئس» فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها، أمّا لو تأخَّر لجاز كقوله:
٢٧٠٥ - ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ
وأصلُ الرِّفْد كما قال الليث: العطاء والمعونة، ومنه رِفادة قريش، رَفَدْتُه أَرْفِدُه رِفْداً ورَفْداً بكسر الراء وفتحها: أعطيتَه وأَعَنْتَه. وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنه نحو: الرِّعْي والذِّبْح. ويقال: رَفَدْت الحائط، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإِعانة.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ﴾ : يجوز أن يكون «نقصُّه» خبراً، و «مِنْ أبناء» حال، ويجوز العكس، قيل: وثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: من أنباء أهل القرى ولذلك أعاد الضمير عليها في قوله «وما ظلمْناهم».
قوله: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ :«حصيد» مبتدأ محذوفُ الخبر، لدلالةِ خبر الأول عليه، أي: ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى.
وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري: «لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ». وقال أبو البقاء: «إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول» نَقُصُّه «.
ويجوز في»
ذلك «أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وقد تقدم. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره» نقصُّه «فهو من باب الاشتغال، أي: نَقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى، وقد تقدَّم في قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
و»
الحَصِيد «بمعنى محصود، وجمعه: حصدى وحِصاد مثل مريض ومرضى ومِراض، وهذا قول الأخفش، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو: قتيل وقَتْلَى.
قوله تعالى: ﴿لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ﴾ : قال الزمخشري: «لما» منصوب ب «أَغْنَتْ». وهو بناءً منه على أنَّ «لمَّا» ظرفية. والظاهر أنَّ «ما» نافية، أي:
384
لم تُغْن. ويجوز أن تكونَ استفهاميةً، و «يَدْعون» حكاية حال، أي: التي كانوا يَدْعون، و «ما زادوهم» الضميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعَبَدَتِها، وعبَّر عنهم بواوِ العقلاء لأنهم نَزَّلوهم منزلتَهم.
385
قوله تعالى: ﴿وكذلك﴾ : خبرٌ مقدم، و «أَخْذُ» مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثْلُ ذلك الأَخْذِ اللَّهِ الأمم السالفة أَخْذُ ربك. و «إذا» ظرف مُتَمَحِّض، ناصبُه المصدر قبله وهو قريبٌ مِنْ حكاية الحال، والمسألةُ من باب التنازع فإنَّ الأَخْذَ يَطْلب «القرى»، و «أَخَذَ» الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول.
وقرأ أبو رجاء والجحدري: «أَخَذ ربك، إذ أَخَذَ» جَعَلَهما فعلين ماضيين، و «ربُّك» فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك، إلا أنه ب «إذا» كالعامَّة قال ابن عطية: «وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي».
وقوله: ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ جملةٌ حالية.
والتَّتْبيب: التَّخْسيرُ يقال: تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١]. وتبَّبْتُه تَتْبِيباً، أي: خَسَّرْته تخسيراً. قال لبيد:
قوله تعالى: ﴿ذلك يَوْمٌ﴾ :«ذلك» إشارةٌ إلى يوم القيامة، المدلولِ عليه بالسياق من قوله: «عذابَ الآخرة». و «مجموع» صفةٌ ل «اليوم» جَرَتْ على غير مَنْ هي له فلذلك رَفَعَت الظاهرَ وهو «الناس، وهذا هو الإِعراب نحو، مررت برجلٍ مضروبٍ غلامُه». وأعرب ابن عطية «الناس» مبتدأ مؤخراً و «مجموع» خبره مقدماً عليه، وفيه ضعف؛ إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقال: الناس قائمون ومضروبون، ولا يقال: قائم ومضروب إلا بضعف. وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد، إذ الجملةُ صفة لليوم، وهو الهاء في له، أي: الناس مجموع له، و «مشهود» متعيِّنٌ لأن يكونَ صفة فكذلك ما قبله.
وقوله: ﴿مَّشْهُودٌ﴾ من بابِ الاتساعِ في الظرف/ بأنْ جَعَلَه مشهوداً، وإنما هو مشهودٌ فيه، وهو كقوله:
٢٧٠٦ - ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ
٢٧٠٧ - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافلُهْ
والأصل: مشهود فيه، وشَهِدْنا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وَصَل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به. قال الزمخشري: «فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فِعْله؟ قلت: لِما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّه لا بد أن يكونَ ميعاداً مضروباً لجمع الناس له، وأنه هو الموصوفُ بذلك صفةً لازمة».
والضمير في «نُؤَخِّره» يعودُ على «يوم». وقال الحوفي: «على الجزاء». وقرأ الأعمش: «وما يُؤَخِّره»، أي اللَّه تعالى.
وقرأ أبو عمرو والكسائي ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، وباقي السبعة قرؤوا بحذفها وصلاً ووقفاً. وقد وَرَدَت المصاحف بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أُبَي إثباتُها، وفي مصحف عثمان حَذْفُها، وإثباتُها هو الوجه لأنها لام الكلمة وإنما حذفوها في القوافي والفواصل لأنها محلُّ وقوف وقالوا: لا أَدْرِ، ولا أبالِ. وقال الزمخشري: «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرٌ في لغة هُذَيْل» وأنشد ابن جرير في ذلك:
٢٧٠٨ - كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهماً جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما
والناصبُ لهذا الظرف فيه أوجه، أحدها: أنه «لا تَكَلَّمُ» والتقدير: لا تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجةَ إلى غيره. والثاني: أن ينتصب ب «واذكر» مقدراً. والثالث: أن ينتصبَ بالانتهاءِ المحذوفِ في قوله: «إلا لأجل»، أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنه منصوبٌ ب «لا تَكَلَّم» مقدَّراً، ولا حاجةَ إليه.
والجملةُ من قوله: «لا تَكَلَّمُ» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مشهود»، أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه
387
إلا بإذنه، قاله الحوفي وقال ابن عطية: «لا تكلَّم نفسٌ» يَصِحُّ أن تكون جملةً في موضع الحال من الضمير الذي في «يأتي» وهو العائد على قوله: «ذلك يومٌ»، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه، ويصح أن يكون قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ صفةً لقوله: «يوم يأتي».
وفاعلُ «يأتي» فيه وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ «يوم» المتقدِّم. والثاني: أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾ [البقرة: ٢١٠] وقوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ والضميرُ في قوله: «فمنهم» الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾. وجعله الزمخشري عائداً على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا، قال: «لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ يدلُّ عليه»، وكذا قال ابنُ عطية.
قوله: ﴿وَسَعِيدٌ﴾ خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: ١٠٠].
388
قوله تعالى: ﴿شَقُواْ﴾ : الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر. وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدياً، فيقال: شَقاه اللَّه، كما يقال أشقاه اللَّه.
وقرأ الأخوان وحفص «سُعِدُوا» بضم السين، والباقونَ بفتحها،
388
الأُولى مِنْ قولهم «سَعَدَه اللَّه»، أي: أسعده، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول: سَعَده اللَّه بمعنى أَسْعد. وقال الجوهري: «سَعِد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم، وسُعِد فهو مسعود». وقال ابن القشيري: «وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود، وأسعد فهو مُسْعَد». وقيل: يُقال: سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود، استَغْنوا باسم مفعول الثلاثي. وحُكي عن الكسائي أنه قال: «هما لغتان بمعنىً»، يعني فَعَل وأَفْعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: «يُقال: سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ». وقيل: سَعِده لغة.
وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين، قال المهدوي: مَنْ قرأ «سُعِدوا» فهو محمولٌ على مَسْعود، وهو شاذ قليل، لأنه لا يُقال: سَعَده اللَّه، إنما يقال: أسعده اللَّه. وقال بعضُهم: احتجَّ الكسائي بقولهم: «مسعود». قيل: ولا حُجَّةَ فيه، لأنه يُقال: مكان مسعود فيه ثم حُذِف «فيه» وسُمِّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي: / «سُعِدوا» مع علمه بالعربية، والعجبُ مِنْ تعجُّبه. وقال مكي: «قراءةُ حمزةَ والكسائي» سُعِدوا «بضم السين حملاً على قولهم:» مسعود «وهي لغةٌ قليلة شاذة، وقولهم:» مَسْعود «إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه، ولا يُقال: سَعَدَه اللَّه، وهو مثل قولهم: أجنَّه اللَّه فهو مجنون، أتى على جَنَّه اللَّه، وإنْ كان لا يُقال ذلك، كما لا يقال: سَعَده اللَّه».
وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء: «وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ».
389
وقوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ : هذه الجملةُ فيها احتمالان، أحدهما: أنها مستأنفة، كأن سائلاً سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. الثاني: أنها منصوبةٌ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في الجارِّ والمجرور وهي «ففي النار». والثاني: أنها حالٌ من «النار».
والزَّفير: أولُ صوت الحمار، والشَّهيق: آخره، قال رؤبة:
٢٧٠٩ - حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس: «الشَّهيق ضد الزفير؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ، والزَّفير: إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر، لشدته. وقال الزمخشري نحوه، وأنشد للشماخ:
٢٧١٠ - بعيدٌ مدى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج
وقيل: الشَّهيق: النَّفَس الممتدُّ، مأخوذ مِنْ قولهم»
جبل شاهق أي
390
عالٍ. وقال الليث: «الزَّفير: أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من النفسَ ويُخْرِجُه، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم:» تنفَّس الصعداء «. وقال أبو العالية والربيع بن أنس:» الزفير في الحَلْق والشَّهيقُ في الصدر «. وقيل: الزفير للحمار والشهيق للبَغْل.
391
وقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ﴾ : منصوبٌ على الحال المقدرة. قلت: ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول، بخلافِ هنا.
قوله: ﴿مَا دَامَتِ﴾ «ما» مصدرية وقتية، أي: مدة دوامهما. و «دام» هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً، أحدها: وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: «فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]، والدليل عليه قوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨]، وفي مقابله ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، أي: يَفْعل بهم ما يريد
391
من العذاب، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له». قال الشيخ: «ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء». قلت: الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً.
الثاني: أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: «خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ» والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.
الثالث: أنه مِنْ قوله: «ففي النار» و «ففي الجنة»، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.
قال الشيخ: يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة
392
المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة «.
الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله:»
ففي النار «و» ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.
الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو»
خالدين «، وعلى هذين القولين تكون» ما «واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] والمراد ب» ما «حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.
السادس: قال ابن عطية:»
قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧]، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع «.
السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾. وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.
393
الثامن: أن» إلا «حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك.
التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر ب»
لكن «أو ب» سوى «، ونَظَّروه بقولك:» لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك «بمعنى سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.
العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.
الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.
الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.
الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله:»
ففي النار «كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
الرابع عشر: أنَّ»
إلا ما شاء «بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢]، أي: كما قَدْ سَلَفَ.
394
قوله تعالى: ﴿عَطَآءً﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملةِ قبله؛ لأن قوله: «ففي الجنة خالدين» يقتضي إعطاء وإنعاماً فكأنه قيل: يُعْطيهم عَطاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة الإِعطاء
394
على الإِفعال، أو يكونُ مصدراً على حذف الزوائد كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]، أو هو منصوب بمقدَّرٍ موافِقٍ له، أي: فَنَبَتُّم نباتاً، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتُ بمعنى تناولْت.
و «غيرَ مَجْذوذ» نَعْتُه. والمجذوذ: المقطوع، ويقال لِفُتات الذهب والفضة والحجارة: «جُذاذ» من ذلك، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى، إلا أن الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية، ومنه «جَدَّ في سيره يَجِدُّ جَدَّاً»، ثم قال: «وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ [الأرضَ] القَطْعُ المجردُ فقيل: جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه». والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو: عَتَا وعَثا وكثب وكتب.
395
قوله تعالى: ﴿مِّمَّا يَعْبُدُ﴾ :«ما» / في «ممَّا يعبد» وفي «كما يَعبْدُ» مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الأولى اسميةً دونَ الثانية.
قوله: ﴿لَمُوَفُّوهُمْ﴾ قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشدداً، وقرأ ابن محيصن «لَمُوْفُوْهم» بالتخفيف مِنْ أَوْفَى، كقوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي﴾ [البقرة: ٤٠]، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات.
قوله: ﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾ حالٌ مِنْ «نصيبهم»، وفي ذلك احتمالان،
395
أحدهما: أن تكونَ حالاً مؤكدة، لأنَّ لفظ التوفية يُشْعر بعدم النقص، فقد استفيد معناها مِنْ عاملها وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكونَ حالاً مُبَيِّنة. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف نُصِبَ» غيرَ منقوص «حالاً عن النصيب المُوَفَّى؟ قلت: يجوز أن يُوَفَّى وهو ناقصٌ ويوفَّى وهو كاملٌ، ألا تَراك تقول:» وَفَّيْتُه شطرَ حَقِّه، وثلثَ حقِّه، وحقَّه كاملاً وناقصاً «، فظاهر هذه العبارة أنها مبيِّنة؛ إذ عاملُها محتملٌ لمعناها ولغيره. إلا أن الشيخ قال بعد كلامه هذا:» وهذه مَغْلَطَة، إذا قال: «وفَّيته شطرَ حَقِّه» فالتوفيهُ وَقَعَتْ في الشطر، وكذا في الثلث، والمعنى: أعطيته الشطرَ والثلثَ كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأمَّا قوله: «وحقَّه كاملاً وناقصاً» أمَّا كاملاً فصحيح، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأن التوفيةَ تقتضي الإِكمالَ، وأمَّا «وناقصاً» فلا يقال لمنافاته التوفيه «. وفي مَنْع الشيخ أَنْ يُقال:» وَفَّيْتُه حقَّه ناقصاً «نظر، إذ هو شائعٌ في تركيبات الناسِ المعتبرِ قولهم؛ لأن المرادَ بالتوفية مطلقُ التَّأْدية».
396
قوله تعالى: ﴿فاختلف فِيهِ﴾ : أي في الكتاب، و «في» على بابها من الظرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١١]، أي: يُكَثِّركم بسببه. وقيل: هي بمعنى على، ويكون الضمير لموسى عليه السلام، أي: فاخْتُلِف عليه.
و «مُرِيْب» مِنْ أراب إذا حَصَلَ الرَّيْب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ : هذه الآيةُ الكريمة
396
مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً، وقد سَهَّل اللَّه تعالى، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها.
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمَّا» فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة السمآء والطارق، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: «وإنْ» و «لَمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ «إنَّ» وثَقَّل «لمَّا»، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا «إنَّ» وخَفَّفا «لَمَّا». فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.
هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كل» بتخفيفها، ورفع «كل»، «لَمَّا» بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: «لمَّاً» مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف «إنَّ» ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ إلا» : بتخفيفِ «إنْ» ورفع «
397
كل». الرابعة. قال أبو حاتم: «الذي في مُصْحف أبي ﴿وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم﴾.
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة:»
وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: «حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول:» إنْ عمراً لمنطلقٌ «كما قالوا:
٢٧١١ -....................... كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
قال:»
ووجهُه مِن القياس أنَّ «إنْ» مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: «لم يكُ زيد منطلقاً» ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ [هود: ١٠٩] وكذلك لا أَدْرِ «. قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك» إنْ «، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [مُحْضَرُونَ] ﴾، وبعضُها يجب إعمالُه ك» أنْ «بالفتح و» كأنْ «، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور ك» لكن «.
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في «إنْ» المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه
398
القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه:
٢٧١٢ -......................... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ
قال الفراء: «لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله:
٢٧١٣ - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال:»
لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «. قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر:
٢٧١٤ -......................... كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
و [قوله] :
٢٧١٥ - كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ... هذا ما يتعلق ب»
إنْ «. وأمَّا» لَمَا «في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ» إنْ «الداخلةُ في الخبر. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] فأوقع» ما «على العاقل. واللام في» ليوفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن
399
تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل» ما «والتقدير: وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل» إنْ «.
وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب»
ما «كما فُصِل بالألف بين النونين في» يَضْرِبْنانِّ «، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ» ما «هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ» إنْ «فقال:» العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «.
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال:»
واللامُ في «لَمَا» موطِّئةٌ للقسم و «ما» مزيدةٌ «ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام» إنْ «. وقال أبو شامة:» واللامُ في «لَمَا» هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو:» إنْ زيدٌ لقائم «وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة.
فتلخَّص في كلٍ من اللام و «ما» ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر «إنْ». الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها
400
جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً. وأحدها في «ما» : أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين.
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على «ما» الموصولة «أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم» ما «وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى» لمَّا «. قال نصر ابن علي الشيرازي:» وَصَلَ «مِنْ» الجارة ب «ما» فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي «لمَّا» بالتشديد «. قال: و» ما «هنا بمعنى» مَنْ «وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم».
وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: «حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم».
الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم «مَنْ» على أنها موصولة أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ فقال: «
401
فقلبت النونُ ميماً، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل» لَمَّا «. قال مكي:» والتقدير: وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم «، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال:» زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى «قال:» وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ «مَنْ» لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين «.
وقال النحاس:»
قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد «. وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال:» إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو «قدم مالك» فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ «قال:» على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في «لَمَنْ ما» ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى:
﴿وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [هود: ٤٨]، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ «. قلت: اجتمع في» أمم ممَّن مَعَك «ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن» أمماً «فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم» مِنْ «ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم» معك «، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل»
لَمَّا «» لمِنْ ما «بقول الشاعر:
402
٢٧١٦ - وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم
وبقول الآخر:
٢٧١٧ - وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ
قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ [آل عمران: ٨١] بتشديد» لمَّا «أن الأصل:» لمن ما «فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه.
وقال أبو شامة:»
وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: «أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا: المعنى لأِنْ كنتَ منطلقاً». قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة: «وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت» يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ «لمَّا» في معنى واحد فقال: «ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء ﴿والبغي يَعِظُكُمْ﴾ [النحل: ٩٠].
403
بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي:
٢٧١٨ - وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا
فحذف ياءَه لاجتماع الياءات». قلت: الأَوْلى أن يُقال: حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ «لديّ» فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في «لدى» وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ ﴿يابني﴾ بالإِسكان على ما سَبَق، وأمَّا الياء مِنْ «يتباشرون» فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفراء: «ومثلُه:
٢٧١٩ - كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ... يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام»
.
قلت: توجيهُ قولهم: «من آخرها إلقادم» أن ألف «إلى» حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف «إلى» ساكنة ولام التعريف من «القادم» ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ «إلى» ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف «إلى» غير الهمزة فاتصلت بلام «القادم» فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: «ءِ القادم» بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.
404
قال أبو شامة: «وهذا قريبٌ مِنْ قولهم» مِلْكذب «و» عَلْماءِ بنو فلان «و» بَلْعنبر «يريدون: من الكذب، وعلى الماء بنو فلان، وبنو العنبر». قلت: يريد قوله:
٢٧٢٠ - أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً... غيرُ الذي [قد] يُقال مِلْكذب
وقول الآخر:
٢٧٢١ - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ... ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ
وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ «مِنْ» لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ.
الثالث: أنَّ أصلَها «لَما» بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: «وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو:» رُبَ «في» رُبَّ «. وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله:
٢٧٢٢ -... مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا
405
يريد: القصبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف، وضعَّف الحرف، وكذلك قوله:
٢٧٢٣ - ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي... شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف» لما «فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.
الرابع: أن أصلَها»
لَمَّاً «بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في» تَتْرى «بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم، ويكون» جميعاً «فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن» جميعاً «يفيد معنى زائداً على» كل «عند بعضهم. قال:» ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ «لمَّاً» بالتنوين «.
الخامس: أن الأصل»
لَمَّاً «بالتنوين أيضاً، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال:» لأن ذلك إنما يجوز في الشعر «يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب: «استعمالُ»
لَمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّاً «المنصرف
406
فهو أبعدُ، إذ لا يُعرف» لمَّا «فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال، وهو خلافُ الإِجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بمستقيم».
السادس: أنَّ «لَمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً، وهو أنَّ «إلا» تأتي زائدةً.
السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما»، و «لمَّا» بمعنى «إلا» فهي كقوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا﴾ [الطارق: ٤] أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥] أي: ما كل ذلك إلا متاع/. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن «كلاً» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: «ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله:
٢٧٢٤ - ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ
هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ، واختار يونس التنوين للضرورة»
، وقدَّره بعضهم بعد «لمَّا» مِنْ لفظ «
407
ليُوَفِّينَّهم» والتقدير: وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد «إلا» لا يعمل فيما قبلها. واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء «لَمَّا» بمعنى «إلا» بنص الخليل وسيبويه على ذلك، ونصره الزجاج، قال بعضهم: «وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي: إلا فعلت». وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ «لمَّا» بمعنى إلا، قال: أبو عبيد: «أمَّا مَنْ شدَّد» لمَّا «بتأويل» إلا «فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ:» قام القوم لمَّا أخاك «يريد: إلا أخاك، وهذا غيرُ موجودٍ».
وقال الفراء: «وأمَّا مَنْ جَعَلَ» لَمَّا «بمنزلة» إلا «فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن:» باللَّه لمَّا قمت عنا «، و» إلا قمت عنا «، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيداً».
فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّا» بمعنى «إلا» مطلقاً، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد «لمَّا» في هذه الآية: «لا يصلح أن تكون بمعنى» إلا «؛ لأن» لَمَّا «هذه لا تفارق القسم» وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: «نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت» و «أسألك باللَّه لمَّا فعلت». وقال أبو علي أيضاً
408
مستشكلاً لتشديد «لمَّا» في هذه السورة على تقدير أن «لمَّا» بمعنى «إلا» لا تختص بالقسم ما معناه: أن تشديد «لمَّا» ضعيف سواء شددت «إن» أم خَفَّفْت، قال: «لأنه قد نُصِب بها» كلاً «، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة، وكما لا يَحْسُن:» إنَّ زيداً إلا منطلق «، لأن الإِيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد، فلذا لا يَحْسُن: إن زيداً لَمَّا مُنْطلق» لأنه بمعناه، وإنما ساغ: «نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت» لأنَّ معناه الطلب، فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فِعْلك، فحرفُ النفي مرادٌ مثل: ﴿تَالله تَفْتَؤُاْ﴾ [يوسف: ٨٥]، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم: «شَرٌ أهرُّ ذاناب» أي: ما أهرَّه إلا شرٌّ، قال: «وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ. وقال الكسائي:» لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا «. قال الفارسي:» ولم يُبْعِدْ فيما قال «. ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال:» اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرف لها وجهاً «.
الثامن: قال الزجاج:»
قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه: «إنَّ» لمَّا «في معنى إلا، مثل ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى» إنْ زيدٌ لمنطلق «: ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنى نفيٌ ب» إنْ «وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا».
قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ «إلا» في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز «لمَّا» التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها «إنَّ»
409
المشددةَ على حالها، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها، وأمَّا «لمَّا» فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ «لَمِنْ ما» بالكسر أو «لَمَنْ ما» بالفتح، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا. والقولُ بكونها بمعنى «إلا» مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.
الثاني: قال المازنيٌّ: «إنَّ» هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنى «ما» كما خُفِّفَتْ «إنَّ» ومعناها المثقلة و «لَمَّا» بمعنى «إلا». وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاً» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ.
الوجه الثالث: أنَّ «لَمَّا» هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: «لمَّا» هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: «خَرَجْتُ ولمَّا» و «سافرتُ ولمَّا» وهو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى: وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥]، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾، قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن»، قال: «والتحقيقُ يأبى استعبادَه». قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن «لمَّا» يُحذف
410
مجزومُها باطِّراد، قالوا: لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله:
٢٧٢٥ - أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ
أي: وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معاني الشعر» له قولَ الشاعر:
٢٧٢٦ - فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
قال: «قوله» بدءاً «، أي: سيداً، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها، قال:» وقوله «ولما»، أي: ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر:
٢٧٢٧ - خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ
قال: «ونظيرُ السكوتِ على» لمَّا «دونَ فعلها السكوتُ على» قد «دونَ فعلِها في قول النابغة: أَفِدَ الترحُّل: البيت».
قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خفَّفها.
411
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً، فإنها «إنَّ» المشددة عَمِلَتْ عملها، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر «إنَّ»، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم، وقد تقدَّم وقوعُ «ما» على العقلاء مقرَّراً، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] غير أنَّ اللامَ في «لمَنْ» داخلة على الاسم، وفي «لمَّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم: «ما» هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في «لَمَا» موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: «جَعَل» ما «اسماً للناس كما جاز ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في» ليوفِّيَنَّهم «لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين» ما «وصلتِها كما تقول:» هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ «، و» عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه «ومثلُه: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢]. ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال:» إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن، ومثله:
٢٧٢٨ -
412
ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا
قال: «أَدْخَلها في» بَعْد «، وليس بموضعِها، وسمعت أبا الجراح يقول:» إني لبحمد اللَّه لصالحٌ «.
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة:»
وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب «كلاً» بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين «إنَّ» واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: «إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ».
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: وهي جرأةٌ منه «هذا لحنٌ» يعني تشديدَ «لمَّا» قال: «لأن العرب لا تقول:» إن زيداً لَمَّا خارج «.
وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: «وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو:»
إنَّ زيداً لَمَّا خارج «، هذا المثالُ لحنٌ» /.
قلت: إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت «لمَّا» المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفر: «القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال:» إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: «إنَّ زيداً إلا
413
لأضربنَّه»، ولا «لَمَّا لأضربنَّه». قال: «وقال الكسائي: اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً» وقد تقدَّم ذلك، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال: «كما لا يحسن:» إنَّ زيداً إلا لمنطلق «؛ لأنَّ» إلا «إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن» إنَّ زيداً لما منطلق «، لأنه بمعناه، وإنما ساغ» نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت «إلى آخر ما ذكرته عنه. وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا﴾ بتخفيف»
إنْ «ورفع» كل «على أنها إنْ النافية و» كلٌّ «مبتدأ، و» لمَّا «مشددة بمعنى إلاَّ، و» لَيُوَفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ [يس: ٣٢] ومثلُه: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥]، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ» لمَّا «بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم»
لَمَّاً «بالتشديد منونةً ف» لمَّاً «فيها مصدرٌ مِنْ قولهم:» لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً «، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩] ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله:» ليوفينَّهم «على حَدِّ قولِهم:» قياماً لأقومَنَّ، وقعوداً لأقعدَنَّ «والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.
414
والثاني: ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو: أن يكونَ وصفاً ل» كل «وصفاً بالمصدر مبالغةً، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه» كل «نكرةً ليصحَّ وَصْفُ» كل «بالنكرة، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ» كل «، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى:
﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩]، فوقع «لمَّا»
نعتاً ل «أكلاً» وهو نكرة.
قال أبو عليّ: «ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال».
[وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاً» كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت ل «كلاً» ] فإنه قال: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ كقوله «أكلاً لمَّاً» ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلاً جميعاً، كقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] انتهى. لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ ل «كلاً»، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات «لَمَّا» بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبرُ «إنْ» على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
415
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ «في النفي، و» كل «مبتدأ، و» ليوفِّينَّهم «مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون» مِنْ «: ﴿وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم﴾.
والتنوين في»
كلاً «عوضٌ من المضافِ إليه. قال الزمخشري:» يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه «. وقد تقدَّم أنه على قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه» كل «إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد ب»
إنَّ «وب» كل «وبلام الابتداء الداخلة على خبر» إنَّ «وزيادةِ» ما «على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.
وقرأ/ العامَّةُ»
يعملون «بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز» بما تعملون «بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
416
قوله تعالى: ﴿كَمَآ أُمِرْتَ﴾ : الكافُ في محل النصب: إمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين. قال الزمخشري: «أي: استقمْ استقامةً مثلَ الاستقامة التي أُمِرْتَ بها على جادَّة الحقِّ غيرَ عادلٍ عنها»، وإمَّا على الحال من ضمير ذلك المصدر. واستَفْعَل هنا للطلب كأنه قيل: اطلبْ الإِقامةَ على الدين، قال: «كما تقول: استغفر، أي: اطلب الغفران».
قوله: ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ في «مَنْ» وجهان أحدهُما: أنَّه منصوبٌ على المفعول معه، كذا ذكره أبو البقاء، ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمَنْ تاب مصاحباً لك، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ. الثاني: أنه مرفوعٌ، فإنه نسق على المستتر في «استقم»، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحةِ العطف، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّره الزمخشري: «فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب» فقدَّر الرافعَ له فعلاً لائقاً برفعِه الظاهرَ.
وقرأ العامَّةُ ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ بالتاء جرياً على الخطاب المتقدم.
417
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي بالياء للغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكسَ ما تقدم في ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [هود: ١١١].
418
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تركنوا﴾ : قرأ العامَّةُ بفتح التاء والكاف، والماضي من هذا ركِن بكسر العين كعَلِمَ، وهذه هي الفصحى، كذا قال الأزهري. قال غيره: «وهي لغةُ قريش». وقرأ أبو عمرو في روايةٍ «تِرْكَنوا»، وقد تقدَّم إتقانُ ذلك أوَل هذا الموضوع.
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «تَرْكُنوا» بضم العين، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل. وقال بعضهم: «هو من التداخل» يعني أنَّ مَنْ نطق ب «رَكِنَ» بكسر العين قال: «يَرْكُن» بضمها، وكان مِنْ حقه أَنْ يفتح، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن بالفتح، ولذلك قال الراغب: «والصحيحُ أنْ يُقالَ رَكِنَ يَرْكَن، وركَنَ يَرْكُن، بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضارع». وشَذَّ أيضاً قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل، فتحصَّل مِنْ هذا أن يُقَالَ: رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ
418
كما تقدَّم، ورَكَن بفتحها وهي لغةُ قيسٍ وتميم، زاد الكسائي «ونَجْد»، وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
وقرأ ابنُ أبي عبلة «تُرْكَنوا» مبنياً للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله، فهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» و ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ [الأعراف: ٢] وقد تقدَّم.
والرُّكُون: المَيْل، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه.
قوله: ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي. وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش في آخرين «فتِمَسَّكم» بكسرِ التاء وقد تقدَّم.
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: تَمَسَّكم حالَ انتفاءِ ناصركم. ويجوز أن تكون مستأنفة. و «مِنْ أولياء» :«مِنْ» فيه زائدةٌ: إمَّا في الفاعل، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ أحدُها النفي رفع الفاعل.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. وقرأ زيد بن علي رضي اللَّه عنهما بحذفِ نون الرفع، عطفه على «تمسَّكم»، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً. وأتى ب «ثمَّ» تنبيهاً على تباعد الرتبة.
419
قوله تعالى: ﴿طَرَفَيِ النهار﴾ : ظرفٌ ل «أَقِمْ». ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي: أقم الصلاة الواقعة في هذين الوقتين،
419
والطَرَف وإن لم يكن ظرفاً، ولكنه لمَّا أضيف إلى الظرف أُعْرب بإعرابه، وهو كقولك: «أتيته/ أولَ النهار وآخرَه ونصفَ الليل» بنصبِ هذه كلِّها على الظرفِ لمَّا أضيفَتْ إليه، وإن كانت ليسَتْ موضوعةً للظرفية.
وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضم الزاي وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْفة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرْفة، وظُلَم في جمعِ ظُلْمة. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه جمع زُلْفة أيضاً، والضمُّ للإِتباع، كما قالوا بُسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمة الباء. والثاني: أنه اسمٌ مفرد على هذه الزِّنة كعُنُق ونحوه: الثالث: أنه جمع زَلِيف، قال أبو البقاء: «وقد نُطِق به»، يعني أنهم قالوا: زَليف، وفَعيل يُجمع على فُعُل نحو: رَغِيف ورُغُف، وقَضِيب وقُضُب.
وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللام. وفيها وجهان، أحدهما: أنه يُحتمل أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مخففةً مِنْ ضم العين فيكون فيها ما تقدَّم. والثاني: أنه سكونُ أصلٍ من باب اسمِ الجنس نحو: بُسْرة وبُسْر مِنْ غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضاً في روايةٍ «وزُلْفَى» بزنة «حُبْلَى»، جَعَلُوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى، لأنَّ المعنى على المنزلة الزلفى، أو الساعة الزلفى، أي: القريبة. وقد قيل: إنه يجوز أن يكونَ أَبْدلا التنوين ألفاً ثم أَجْرَيا الوصل مجرى الوقف، فإنهما يقرآن بسكون اللام
420
وهو محتمَلٌ. وقال الزمخشري: «والزُّلْفى بمعنى الزُّلْفَة، كما أن القُرْبى بمعنى القُرْبة»، يعني أنه مما تَعَاقَبَ فيه تاءُ التأنيث وألفه.
وفي انتصاب «زُلَفاً» وجهان، أظهرهما: أنه نسقٌ على «طرفي» فينتصب الظرف، إذ المرادُ بها ساعات الليل القريبة. والثاني: أن ينتصبَ انتصابَ المفعول به نسقاً على الصلاة. قال الزمخشري: بعد أن ذكر القراءاتِ المتقدمة «وهو ما يقرب مِنْ آخر النهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحَقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم زُلَفاً من الليل، على معنى: صلوات تتقرَّب بها إلى اللَّه عز وجل في بعض الليل».
والزُّلْفَةُ: أولُ ساعات الليل، قاله ثعلب. وقال الأخفش وابن قتيبة: «الزُّلَف: ساعاتُ الليل وآناؤه، وكل ساعةٍ منه زُلْفَة» فلم يُخَصِّصاه بأول الليل. وقال العجَّاج: سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفا... وأصلُ الكلمة مِنْ «الزُّلْفَى» وهو القُرْب، يقال: أَزْلَفه فازْدَلَفَ، أي: قَرَّبه فاقتربَ. قال تعالى: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين﴾ [الشعراء: ٦٤] وفي الحديث: «
421
ازْدَلِفوا إلى اللَّه بركعتين» وقال الراغب: «والزُّلْفَةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوَة، وقد اسْتُعْمِلت الزُّلْفَة في معنى العذاب كاستعمال البِشارة ونحوها، والمزالِفُ، المَراقي، وسُمِّيَتْ ليلةَ المزدلفة لقُرْبهم مِنْ مِنى بعد الإِفاضة».
وقوله: ﴿مِّنَ الليل﴾ صفةٌ ل «زُلَفاً».
422
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ﴾ :«لولا» تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠]. وما يروى عن الخليل أنه قال: «كلُّ» لولا «في القرآن فمعناها» هَلاَّ «إلا التي في الصافَّات: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ [كَانَ مِنَ المسبحين] ﴾ [الآية: ١٤٣]، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات: ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ﴾ [القلم: ٤٩] ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ [الفتح: ٢٥]، ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ﴾ [الإسراء: ٧٤].
و»
مِن القُرون «: يجوزُ أن يتعلق ب» كان «لأنها هنا تامة، إذ المعنى: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» أُولو بَقِيَّة «لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له. و» مِنْ قبلكم «حال من» القرون «و» يَنْهَوْن «حالٌ من» أولو بقية «لتخصُّصه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتاً ل» أُولوا بقية «وهو أولى.
ويَضْعُفُ أن تكونَ»
كان «هذه ناقصةً لبُعد المعنى مِنْ ذلك، وعلى تقديرِه يتعيَّن تَعَلُّق» من القرون «بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ» كان «الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون» يَنْهَوْن «في محل نصب خبراً ل» كان «.
422
وقرأ العامَّة:» بَقِيَّة «بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره» بقيَّة «في قولهم:» فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة:
٢٧٢٩ - ناجٍ طواه الأَْيْنُ مِمَّا وَجَفا طَيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفا
٢٧٣٠ - إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم .........................
وفي المثل «في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا».
والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البقوى. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البقوى، كالتقيَّة بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه».
وقرأ فرقةٌ/ «بَقِيَة» بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية» بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء «بَقْيَة» على المَرَّة من المصدر. و «في الأرض» متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الفساد».
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنى.
قال الزمشخري: «معناه: ولكن قليلاً
423
ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي». ثم قال. «فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن». قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ.
والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أولى. قال الزمخشري: «فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل» قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي «إلا قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال الفراء: «المعنى: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْد» سَمَّى التحضيض استفهاماً. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ.
و «مِن» في «مِمَّنْ أَنْجَيْنا» للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ
424
للتبعيض، بل للبيان فقال: «حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله عز وجل: ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥]. قلت: فعلى الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل» قليلاً «، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: ﴿واتبع﴾ العامَّةُ على»
أتَّبع «بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري:» فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: ﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ قلت: إنْ كان معناه: «واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنى: إلا قليلاً مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على» نُهوا «وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم».
قلت: فجوَّز في قولِه: «ما أُتْرفوا» وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و «ما» واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في «واتَّبع» كما عرفت.
والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.
425
وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر «وأُتبع» بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنياً للمفعول، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه. و «ما» يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو الظاهرُ لعَوْد الضمير في «فيه» عليه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: جزاءَ إترافهم.
قوله: ﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفاً على «أُتْرِفُوا» إذا جعلنا «ما» مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على «اتَّبع»، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ/ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: «ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ».
426
قوله تعالى: ﴿لِيُهْلِكَ﴾ : فيه الوجهان المشهوران، وهما زيادةُ اللامِ في خبر كان دلالةً على التأكيد كما هو رأي الكوفيين أو كونُه متعلقةً بخبر كان المحذوف، وهو مذهبُ البصريين. و «بظلمٍ» متعلق ب «يُهْلك» والباءُ سببيةٌ. وجوَّز الزمخشري أن تكونَ حالاً من فاعل «ليُهْلِكَ». وقوله: «وأهلُها مُصْلحون» جملة حالية.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ : ظاهرُه أنه متصلُ وهو استثناءٌ مِنْ فاعل «يَزالون» أو من الضمير في «مختلفين». وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن مَنْ رَحِمَ لم يختلفوا، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. و «لذلك» في المشار إليه أقوال كثيرة أظهرها: أنه الاختلافُ المدلولُ عليه بمختلفين كقوله:
426
٢٧٣١ - إذا نُهي السَّفيهُ جرى إليه وخالفَ، والسَّفيهُ إلى خلافِ
رَجَعَ الضميرُ من «إليه» على السَّفَه المدلولِ عليه بلفظ «السَّفيه»، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خَلَقَهم. واللامُ في الحقيقة للصيرورة، أي: خَلَقَهم ليصير أكثرهم إلى الاختلاف. وقيل: المراد به الرحمة المدلول عليها بقوله: «رحم» وإنما ذُكِّر ذهاباً بها إلى الخير. وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: «وتَمَّت كلَّمة ربك، ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قول مرجوح؛ لأن الأصلَ عدمُ ذلك. وقوله:» أجمعين «تأكيد، والأكثر أن تُسْبَقَ ب» كل «وقد جاء هنا دونَها.
والجِنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاءُ فيه للمبالغة. وقيل: الجنَّة جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد.
427
قوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ﴾ : في نصبه أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ به والمضاف إليه محذوفٌ، عُوِّض منه التنوين، تقديره: وكل نبأ نَقُصُّ عليك. و «مِنْ أنباء» بيانٌ له أو صفة إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة. وقوله: «ما نُثَبِّتُ» يجوز أن يكونَ بدلاً من «كلاً»، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو ما نثبِّت، أو منصوبٌ بإضمار أعني.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: كلَّ اقتصاصٍ نَقُصُّ، و «مِنْ أنباء» صفةٌ أو بيان، و «ما نُثَبِّت» هو مفعول «نَقُصُّ».
الثالث: كما تقدَّم، إلا أنه بجَعْل «ما» صلةً، والتقدير: «وكلاً نَقُصُّ
427
من أنباء الرسل نُثَبِّت به فؤادك، كذا أعربه الشيخ وقال: كهي في قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣].
الرابع: أن يكون» كلاً «نصباً على الحال من» ما نُثَبِّت «وهي في معنى جميعاً. وقيل: بل هي حال من الضمير في» به «. وقيل: بل هي حال من» أنباء «، وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنه يُجيز تقديم حالِ المجرورِ بالحرف عليه، كقوله تعالى: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] في قراءةِ مَنْ نصب» مَطْويات «وقول الآخر:
٢٧٣٢ - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقبي أَدْراعهم فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وإعراب باقي السورة واضح ممَّا تقدم.
428
وقرأ نافع وحفص «يُرجع» مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل. ونافع وابن عامر وحفص على «تَعْملون» بالخطاب لأنَّ قبله «اعملوا» والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: ﴿لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.
Icon