تفسير سورة المسد

الدر المصون
تفسير سورة سورة المسد من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ : أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه: ﴿إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ [غافر: ٣٧]، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: «تَبَّتْ» دعاءٌ، و «تَبَّ» إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر:
141
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله «وقد تَبَّ» والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.
وقرأ العامة «لَهَبٍ» بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمخشري: «وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله:» شُمْس ابن مالك «بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر:
٤٦٦٨ - جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
٤٦٦٩ - وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في» شُمْس «أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ» شُمْس «الجمع مِنْ قولِه:» أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ «فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. وكنى
142
بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولِهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ» عبد العزى «فعَدَلَ إلى الكُنْية، وقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ «. انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.
وقُرئ:»
يدا أبو لَهَبٍ «بالواوِ في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري:» كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب «ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه: ﴿ذاتَ لَهَب﴾ أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.
143
قوله: ﴿مَآ أغنى﴾ : يجوزُ في «ما» النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.
143
قوله: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ يجوز في «ما» هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: «وما اكْتَسَبَ».
144
قوله: ﴿سيصلى﴾ العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.
قوله: ﴿وامرأته حَمَّالَةَ الحطب﴾ : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقيل: «وامرأتُه» عطفٌ على الضميرِ في «سَيَصْلى»، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. و «حَمَّالةُ الحطبِ» على هذا فيه أوجهٌ: كونُها نعتاً ل «امرأتهُ». وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي حَمَّالةُ. وقرأ ابنُ عباس «ومُرَيَّتُهُ» و «مْرَيْئَتُهُ» على التصغير، إلاَّ أنَّه
144
أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى.
وقرأ العامةُ ﴿حَمَّالَةُ﴾ بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل. قاله الزمخشري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل. وقيل: نصبٌ على الحالِ مِنْ «أمرأتُه» إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ. ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل «امرأتُه» لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.
وفي قوله: ﴿حَمَّالَةَ الحطب﴾ قولان. أحدُهما: هو حقيقةُ. والثاني: أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس. قال الشاعر:
145
وقال آخر:
٤٦٧٠ - إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
٤٦٧١ - مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ. وقرأ أبو قلابة ﴿حاملةَ الحطبِ﴾ على وزن فاعِلَة. وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ. وعباس «حَمَّالة للحطَبِ» بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ، كقولِه تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] وأبو عمروٍ في روايةٍ «وامرأتُه» باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.
146
قوله: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «في جيدِها» خبراً ل «امرأتُه» و «حبلٌ» فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ «امرأتُه» على كونِها فاعلة. و «حبلٌ» مرفوعٌ به أيضاً، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً. و «حَبْلٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ:
146
العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ. قال امرؤ القيس:
٤٦٧٢ - وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ
و ﴿مِّن مَّسَدٍ﴾ صفةٌ ل «حَبْل» والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: اللِّيفُ مطلقاً. وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن. قال النابغة:
٤٦٧٣ - مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها. وأنشد:
٤٦٤٧ - ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ... ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه.
147
Icon