تفسير سورة المسد

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المسد من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

جزاء أبي لهب وامرأته
[سورة المسد (١١١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)
الإعراب:
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ما: إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى أو نافية، ومفعول أَغْنى محذوف، وتقديره: ما أغنى عنه ماله شيئا.
وَما كَسَبَ ما: إما مصدرية، أي وكسبه، أو اسم موصول، أي الذي كسبه، فحذف العائد تخفيفا.
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَتُهُ: إما معطوف على ضمير سَيَصْلى أي سيصلى هو وامرأته، وجاز العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل لأنه يقوم مقام التأكيد في جواز العطف. وإما أنه مبتدأ مرفوع، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ خبره، على قراءة الرفع. ومن قرأ بالنصب حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فهو منصوب على الذم، وتقديره: أذمّ حمالة الحطب.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فِي جِيدِها: حال من حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أو خبر مبتدأ مقدر.
البلاغة:
يَدا أَبِي لَهَبٍ مجاز مرسل، أطلق الجزء وأراد الكل، أي هلك.
أَبِي لَهَبٍ ناراً ذاتَ لَهَبٍ بينهما جناس، فالأول كنية له، والثاني وصف للنار.
والجناس: أن يتشابه اللفظان في النطق، ويختلفا في المعنى، وهو نوعان: تام، وغير تام.
أَبِي لَهَبٍ كنية للتصغير والتحقير، كأبي جهل.
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ استعارة، أستعير هذا التعبير للنميمة بين الناس.
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ منصوب على الذم، أي أخص بالذم حمالة الحطب.
وَتَبَّ، كَسَبَ، لَهَبٍ، الْحَطَبِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
455
المفردات اللغوية:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلك وخسر، قال تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر ٤٠/ ٣٧] وهذه الجملة دعاء عليه، وأبو لهب: أحد أعمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واسمه: عبد العزّى بن عبد المطلب، وكنيته: أبو عتيبة، وإنما كني أبا لهب لحمرة وجهه. وَتَبَّ أي قد خسر، وهذا خبر بعد الدعاء عليه، كقولهم: أهلكه اللَّه وقد هلك، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه.
وَما كَسَبَ أي وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح، وقوله: ما أَغْنى أي يغني.
سَيَصْلى ناراً سيجد حرها ويذوق وبالها. ذاتَ لَهَبٍ لهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها، وذات لهب: أي تلهب وتوقد، وهي مناسبة لكنيته بأبي لهب: أي تلهب وجهه إشراقا وحمرة. وَامْرَأَتُهُ هي من سادات قريش، وكنيتها: أم جميل، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي تحمله حقيقة، فتحمل حزمة الشوك والحسك، وتنثرها بالليل في طريق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أو تحمل حطب جهنم لأنها تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحمل زوجها على إيذائه. أو أن التعبير كناية عن النميمة التي توقد الخصومة بين الناس.
فِي جِيدِها في عنقها. حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ حبل مفتول من ليف، أي مما مسّد أي فتل وربط الحبل على هذه الصورة: تصوير لها بصورة الحطّابة التي تحمل الحزمة، وتربطها في عنقها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار.
التفسير والبيان:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ «١» أي هلكت يداه وخسرت وخابت، وهو مجاز عن جملته، أي هلك وخسر، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم قال:
وَتَبَّ أي وقد وقع فعلا هلاكه، وهذا خبر من اللَّه عنه، فقد خسر الدنيا والآخرة. وأبو لهب: عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولدينه.
(١) لم يقل في أول هذه السورة قل كما في سورة الكافرين، حتى لا يشافه عمه بما يزيد في غضبه، رعاية للحرمة، وتحقيقا لمبدأ الرحمة.
456
ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال أبي لهب في الماضي، فقال:
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك، وما ينزل به من عذاب اللَّه، بسبب شدة معاداته لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدّه الناس عن الإيمان به، فإنه كان يسير وراء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا قال شيئا كذّبه.
روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عبّاد من بني الدّيل، وكان جاهليا فأسلم، قال: «رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب».
والفرق بين المال والكسب:
أن الأول رأس المال، والثاني هو الربح.
ثم ذكر اللَّه تعالى عقابه في المستقبل، فقال:
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي سيذوق حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده، وهي نار جهنم. قال أبو حيان: والسين للاستقبال، وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة، وإن تراخى وقته «١».
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي وتصلى امرأته أيضا نارا ذات لهب، وهي أم جميل، أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، كانت تحمل الشوك والغضى، وتطرحه بالليل على طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: المراد أنها كانت تمشي بالنميمة،
(١) البحر المحيط: ٨/ ٥٢٦ [.....]
457
فيقال للمشاء بالنمائم، المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويورّث الشر، وهذا رأي الكثيرين.
قال أبو حيان: والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، لتعقرهم، فذمت بذلك، وسميت حمالة الحطب.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنقها حبل مفتول من الليف، من مسد النار، أي مما مسّد من حبالها أي فتل من سلاسل النار. وقد صورها اللَّه في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها، ثم تلقيها في طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأن كل مجرم يعذب بما يجانس حاله في جرمه. وقيل: صورها اللَّه في الدنيا بصورة حطّابة ممتهنة احتقارا لها، وإيذاء لها ولزوجها.
ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، وبيدها فهر (حجر) فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلنّ، وأعمى اللَّه تعالى بصرها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فروي أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنه قال لها: هل تري معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك «١».
والظاهر هو المعنى الأول قال سعيد بن المسيّب: كانت لأم جميل قلادة فاخرة، فقالت: واللات والعزّى لأنفقنّها في عداوة محمد، فأعقبها اللَّه حبلا في جيدها من مسد النار.
(١) البحر المحيط: ٨/ ٥٢٦ وما بعدها، تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٦٤ وما بعدها.
458
فقه الحياة أو الأحكام:
١- أوضحت السورة نوع عذاب أبي لهب وزوجته أم جميل، ومآلهما في الدارين لشدة عداوتهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أما الآيات الأولى في أبي لهب فقد تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أحدها- الإخبار عنه بالتباب والخسار، وبوقوع ذلك فعلا.
وثانيها- الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وبوقوع ذلك فعلا.
وثالثها- الإخبار عنه بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
وتكليف أبي لهب بالإيمان في حد ذاته لا مانع منه، وإن كان اللَّه قد علم أنه لا يؤمن، وأخبر أيضا أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، قال الآمدي: أجمع الكل على جواز التكليف بما علم اللَّه أنه لا يكون عقلا، وعلى وقوعه شرعا، كالتكليف بالإيمان لمن علم اللَّه أنه لا يؤمن كأبي جهل «١». وأيد ذلك الرازي في تفسيره».
والخلاصة: أنه كلف بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فقط، لا تصديقه وعدم تصديقه، حتى يجتمع النقيضان «٣».
وأما الآيتان الأخيرتان: فتصفان عذاب أم جميل بأنها مع زوجها تصلى نار جهنم وتذوق حرها وتتلظى بلهبها، وأنها هالكة في الدنيا، ومعذبة في الآخرة بحبل من نار، وسلاسل من نار جهنم تطوقها، لإيذائها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنها كانت في غاية العداوة له، ولإفسادها بين الناس بالنميمة وتأجيج نار العداوة بينهم.
(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ١/ ٧٣
(٢) تفسير الرازي: ٣٢/ ١٧١
(٣) غرائب القرآن: ٣٠/ ٢١٤.
459
قال الضحاك وغيره: كانت تعيّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفقر، وهي تحتطب في حبل، تجعله في جيدها من ليف، فخنقها اللَّه جل وعزّ به في الدنيا، فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.
٢- قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما، لا ظاهرا ولا باطنا، ولا سرا ولا علنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة «١».
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٦٥
460

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإخلاص
مكيّة، وهي أربع آيات.
تسميتها:
سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل، المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل شرك، ولأنها تخلّص العبد من الشرك، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللَّه، أو المعرفة، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين.
مناسبتها لما قبلها:
المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك، وهذه السورة لإثبات التوحيد للَّه تعالى، المتميز بصفات الكمال، المقصود على الدوام، المنزه عن الشريك والشبيه، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة، كركعتي الفجر والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصلاة المسافر.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة أهم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية، وهي توحيد اللَّه وتنزيهه، واتصافه بصفات الكمال، ونفي الشركاء، وفي هذا الرد على النصارى القائلين بالتثليث، وعلى المشركين الذين عبدوا مع اللَّه آلهة أخرى.
461
فضلها:
وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة، وأنها تعدل في ثواب قراءتها ثلث القرآن لأن كل ما جاء في القرآن بيان لما أجمل فيها ولأن الأصول العامة للشريعة ثلاثة: التوحيد، وتقرير الحدود والأحكام، وبيان الأعمال، وقد تكفلت ببيان التوحيد والتقديس.
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح، جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالّها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن».
وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال: اللَّه الواحد الصمد ثلث القرآن».
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقرأ: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرا جاء من السماء، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن».
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ في ليلة، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن»
.
462
Icon