﴿ بسم الله ﴾ المتكبر الجبار المضل الهاد ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بتوفيقه أهل الوداد.
ﰡ
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى :« " يا صباحاه "، فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه ».
وفي رواية فصعد الصفا فهتف :« " يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد، فاجتمعوا إليه، فقال صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ " ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً. قال :" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ". فقال أبو لهب : تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا. فنزلت ».
وعن أبي زيد أنّ أبا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :«كما يعطى المسلمون ». فقال : ما لي عليهم فضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" وأيّ شيء تبتغي ؟ " قال : تباً لهذا من دين، أن أكون وهؤلاء سواء. فنزلت ».
ومعنى تبت قال ابن عباس : خابت. وقال قتادة : خسرت. وقال عطاء : صلت. وقال ابن جبير : هلكت. والتباب الهلاك، ومنه قولهم : أشابة أم تابة، أي : هالكة من الهرم والتعجيز.
والمعنى : هلكت يداه ؛ لأنه -فيما يروى- أخذ حجراً ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل : رماه به فأدمى عقبه، فلهذا ذكرت اليد، وإن كان المراد جملة البدن، فهو كقولهم : خسرت يده، وكسبت يده، فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين ؛ لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب : صفرت من كل خير. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول :
لقد خلوك وانصرفوا *** فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوافوا نذورهم *** فتباً للذي صنعوا
وقيل : المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة، وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح، واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى. فإن قيل : لماذا كني بذلك، ولم يكن له ولد اسمه لهب ؟ وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم ؟ أجيب عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه، وكان مشرق الوجه أحمره ؟ وأجيب عن الثاني بوجوه :
أحدها : أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم.
ثانيها : أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ، فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه ؛ لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم.
ثالثها : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته، فكان جديراً بأن يذكر بها، كقولهم : أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه.
أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لما كناه والكنية تكرمة ؟ ثم ذكر ثلاثة أجوبة : إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص، وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى نحو : النهْر والنهَر.
وقوله تعالى :﴿ وتب ﴾ خبر، كما يقال : أهلكه الله وقد هلك، فالأول : أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني : أخرج مخرج الخبر، فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده. وقيل : المراد ماله وملكه كما يقال : فلان قليل ذات اليد، يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
تنبيه :( ما ) في ﴿ ما أغنى ﴾ يجوز فيها النفي والاستفهام، فعلى الاستفهام تكون منصوبة المحل بما بعدها، التقدير : أي شيء أغنى المال ؟ وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ( ما ) في قوله تعالى :﴿ وما كسب ﴾ أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي : وكسبه، وأغنى بمعنى يغني.
أحدهما : هو حقيقة. قال قتادة : وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها، فعيرت بالبخل. وقال ابن زيد : كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير. وقال برّة الهمداني : كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
الوجه الثاني : أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية، ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس : يحمل الحطب منهم، أي : يوقد بينهم، ويثير الشر، قال الشاعر :
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة | ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب |
وقوله تعالى :﴿ من مسد ﴾ صفة لحبل، والمسد ليف المقل، وقيل : الليف مطلقاً، وقال أبو عبيد : هو حبل يكون من صوف، وقال الحسن : هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسد، وكانت تفتله. وقال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا، وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل : إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق، كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار. وعن ابن عباس قال : هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً، تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها.
وقال قتادة : هو قلادة من ودع. وقال الحسن : إنما كان خرزاً في عنقها. وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان، يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد، والمسد الفتل، يقال : مسد حبله يمسده مسداً، أي : أجاد فتله، والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به، فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت : يا أبا بكر أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة :
مذمما عصينا *** وأمره أبينا
ودينه قلينا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر : يا رسول الله، أما ترى ما رأتك. قال صلى الله عليه وسلم :«ما رأتني، لقد أخذ الله تعالى بصرها عني ». وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما، ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول :«ألا تعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش، يهجون مذمماً وأنا محمداً ». انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى، ويحلم عليهم، فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة، قال الله تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ].
تنبيه : احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهو محال، وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الإخبار عن الغيب بثلاثة أوجه :
أحدها : الإخبار عنه بالتباب والخسران، وقد كان ذلك.
ثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وقد كان ذلك.
ثالثها : الإخبار عنه بأنه من أهل النار، وقد كان ذلك ؛ لأنه مات على الكفر هو وامرأته، ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن، ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة، وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة، وأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل : إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع، وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.