﴿ بسم الله ﴾ الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى. ﴿ الرحمان ﴾ الذي سبقت رحمته غضبه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار.
ﰡ
﴿ والذين كفروا عما أنذروا ﴾ أي : خوفوا به من القرآن من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكل خلق من انتهائه إليه ﴿ معرضون ﴾ أي لا يؤمنون به ولا يهتمون للاستعداد له.
﴿ أم لهم ﴾ أي : الذين تدعونهم ﴿ شرك ﴾ أي مشاركة ﴿ في ﴾ خلق ﴿ السماوات ﴾ أي : بنوع من أنواع الشركة مع الله تعالى و﴿ أم ﴾ بمعنى همزة الإنكار ولما كان الدليل أحد شيئين سمع وعقل قال تعالى :﴿ ائتوني بكتاب ﴾ أي : منزل على دعواكم في هذه الأصنام : أنها خلقت شيئاً أو أنها تستحق أن تعبد.
تنبيه أبدل ورش والسوسيّ الهمزة من ﴿ ائتوني ﴾ في الوصل ياء وحققها الباقون. وأما الابتداء بها، فجميع القرّاء أبدلوها ياء بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورة.
﴿ من قبل هذا ﴾ أي : القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو : النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال :﴿ أو أثارة ﴾ أي : بقية ﴿ من علم ﴾ يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام : أنها تقرّبكم إلى الله تعالى. وقال المبرد :﴿ أثارة ﴾ ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال : جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال ؛ الأوّل : الأثارة واشتقاقها من : أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني : من الأثر الذي هو الرواية. والثالث : من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة : أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي : يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء قال الرازي : وههنا قول آخر : أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه » فعلى هذا الوجه معنى الآية ﴿ ائتوني بعلم من قبل هذا ﴾ الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم.
﴿ بيني وبينكم ﴾ أي أن القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ولكم بالكذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني أقدر على ما تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين، وأنتم عرب مثلي، بل وأنا أمّي وفيكم أنتم الكتبة، والذين خالطوا العلماء، وسمعوا أحاديث الأمم، وضربوا بعد بلاد العرب في بلاد العجم، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ الغفور ﴾ أي : الذي من شأنه أن يمحو الذنوب أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿ الرحيم ﴾ أي الذي يكرم بعد المغفرة ويتفضل بالتوفيق لما يرضيه قال الزجاج : هذا دعاء إلى التوبة ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به.
﴿ تنبيه ﴾ البدع والبديع من كل شيء : المبدأ والبدعة ؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله. وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » قال البقاعي معناه والله أعلم : أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار. ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر. ا. ه. وقال ابن عبد السلام : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة : قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، كالاشتغال بعلم النحو، أو في قواعد التحريم فمحّرمة، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة، قال : والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة، أوفى قواعد المندوب، فمندوبة كبناء الربط والمدارس، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس. وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال : المحدثات ضربان ؛ أحدهما : ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة، والثاني : ما أحدث من الخير فهو غير مذموم.
واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ على وجهين ؛ أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني : أن يحمل على أحوال الآخرة. أما الأوّل ؛ ففيه وجوه. أحدها : أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم، ومن الغالب منا ومن المغلوب. ثانيها : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين. ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ هو شيء رأيته في المنام. ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أتبع ﴾ أي : بغاية جهدي وجدّي ﴿ إلا ما ﴾ أي : الذي ﴿ يوحى ﴾ أي : يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه ﴿ إلي ﴾ على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري. ثالثها : قال الضحاك : لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان.
﴿ وما أنا ﴾ أي : بإخباري لكم عما يوحى إليّ ﴿ إلا نذير مبين ﴾ أي : بيّن الإنذار. رابعها : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ؛ أموت أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون ؛ أترمون بالحجارة من السماء، أو يخسف بكم، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ؟ قال السدّي : ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾ ( التوبة : ٣٣ ) وقال في أمّته ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ) فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته.
وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية، فرح المشركون والمنافقون واليهود. وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( ١ ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً ﴾ ( الفتح : ١ _ ٥ ) فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا ؟ فأنزل الله عز وجل :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ( الفتح : ٥ ) الآية وأنزل :﴿ وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً ﴾ ( الأحزاب : ٤٧ ) فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة. وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك.
قال الرازي : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين ؛ أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما : أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم ﴿ إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ( الأحقاف : ١٣ ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم ؟ فثبت ضعف هذا القول.
واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به. كما روى أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كذاب، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر، فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي :«ما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أوّل طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أخبرني بهنّ جبريل آنفاً قال : جبريل ؟ قال : نعم قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ ﴿ من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله ﴾ ( البقرة : ٩٧ ) ثم قال : أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإذا سبق ماء المرأة نزعته. فقال : أشهد أنك لرسول الله حقاً. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه اللّه من ذلك فخرج إليهم عبد اللّه فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا، وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله. قال سعد بن أبي وقاص :«ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ؟ وفيه نزلت هذه الآية ﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ ( الأحقاف : ١٠ ) وقيل : الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ال ﴿ حم ﴾ نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ وإنما نزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بالمدينة وأجاب الكلبي : بأنّ السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية، وأن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين. وقيل المراد بالشاهد موسى، ومثل القرآن هو التوراة. فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان فكل واحد يصدّق الآخر : لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن مصدّق للتوراة.
وجواب الشرط : ألستم ظالمين دل عليه قوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الملك الأعظم ذا العزة والحكمة ﴿ لا يهدي القوم ﴾ أي : الذين لهم قوّة على القيام بما يريدون ﴿ الظالمين ﴾ أي : الذين من شأنهم وضع الأمور في غير مواضعها فلأجل ذلك لا يهديكم، إذ لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه هلاككم.
﴿ وهذا ﴾ أي : القرآن ﴿ كتاب ﴾ أي : جامع لجميع الخيرات ﴿ مصدّق ﴾ أي : لكتاب موسى عليه السلام، وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله تعالى وقوله تعالى :﴿ لساناً ﴾ حال من الضمير في مصدّق. وقوله :﴿ عربياً ﴾ صفة ل ﴿ لساناً ﴾ وهو المسوّغ لوقوع هذا الجامد حالاً أي : في أعلى طبقات اللسان العربي، مع كونه أسهل الكتب تناولاً، وأبعدها عن التكلف، ليس هو بحيث يمنعه علوّه بفخامة الألفاظ، وجلالة المعاني، ودقة الإشارة عن سهولة الفهم، وقرب التناول. وقوله تعالى :﴿ لينذر ﴾ أي : الكتاب بحسن بيانه، وعظم شأنه ﴿ الذي ظلموا ﴾ أي : سواء كانوا عريقين في الظلم، أم لا وقرأ نافع وابن عامر : بالتاء خطاباً أي : أيها الرسول. والباقون : بالياء غيبة بخلاف عن البزي. ﴿ وبشرى ﴾ أي : كاملة ﴿ للمحسنين ﴾ أي : المؤمنين، بأنّ لهم الجنة.
تنبيه : دلت الآية على أنّ حق الأم أعظم لأنه تعالى قال :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ﴾ فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال :﴿ حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً ﴾ وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأنّ وصول المشاق إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب. ﴿ وحمله وفصاله ﴾ أي : من الرضاع ﴿ ثلاثون شهراً ﴾ كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد، ومبالغة في الوصية بها. وفي ذلك دلالة على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وقال تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ﴾ ( البقرة : ٢٣٣ ) فإذا أسقطنا الحولين الكاملين، وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر.
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت أحد وعشرين شهراً. وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً وروي عن أبي بكر أنّ امرأة دفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها، فقال عمر : لا رجم عليها، وذكر الطريق المتقدمة وعن عثمان نحوه، وأنه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس رضي الله عنهما عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه، واختلف الأئمة في ذلك : فعند الشافعي أربع سنين. وقوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغ أشده ﴾ لا بد فيه من جملة محذوفة. تكون حتى غاية لها، أي : عاش واستمّرت حياته حتى إذا بلغ أشده قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : الأشد ثماني عشرة سنة، وقيل : نهاية قوّته وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة فذلك قوله تعالى :﴿ وبلغ أربعين سنة ﴾ وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقيل : نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه : وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو وأمّه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله تعالى بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة، وتنبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم آمن به ثم آمن أبواه، ثم ابنه عبد الرحمان، وابن عبد الرحمان أبو عتيق ثم إنّ أبا بكر دعا ربه بأن ﴿ قال رب أوزعني ﴾ أي : ألهمني، وقرأ ورش والبزي : بفتح الياء في الوصل، والباقون بسكونها ﴿ أن أشكر نعمتك التي أنعمت ﴾ أي : بها ﴿ علي ﴾ أي : وعلى أولادي ﴿ وعلى والديّ ﴾ وهي : التوحيد.
وأكثر المفسرين : على أنّ الأشد ثلاث وثلاثون. قال الرازي : مراتب الحيوان ثلاثة ؛ لأنّ بدن الحيوان لا يكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية والرطوبة الغريزية زائدة في أوّل العمر ناقصة في آخره. والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين، فثبت أنّ مدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام فأوّلها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية. وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذواتها وزيادتها في الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشء والثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو سن الوقوف، وهو حين الشباب.
والمرتبة الثالثة : أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول : هو النقصان الخفي، وهو سن الكهولة. والثاني : هو النقصان الظاهر، وهو سن الشيخوخة.
قال المفسرون : لم يبعث نبيّ قط إلا بعد الأربعين سنة. قال الرازي : وهذا يشكل بعيسى عليه السلام فإنه تعالى جعله نبياً من أوّل عمره، إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أنه ما جاء الوحي إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم إنّ أبا بكر دعا أيضاً فقال :﴿ وأن أعمل صالحاً ترضاه ﴾ قال ابن عباس : أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله تعالى، منهم بلال ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضاً فقال :﴿ وأصلح لي في ذرّيتي ﴾ فأجاب الله تعالى دعاءه، فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً وأدرك أبواه وابنه عبد الرحمان وابن ابنه أبو عتيق النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنون. ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
تنبيه أصلح يتعدى بنفسه لقوله تعالى :﴿ وأصلحنا له زوجه ﴾ ( الأنبياء : ٩٠ ) وإنما تعدى بفي لتضمنه معنى ألطف بي في ذرّيتي، أو لأنه جعل الذرّية ظرفاً للإصلاح والمعنى : هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم.
﴿ إني تبت ﴾ أي : رجعت ﴿ إليك ﴾ عن كل ما يقدح في الإقبال عليك. وأكده إعلاماً بأنّ حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع : فينكر إخباره به وكذا قوله :﴿ وإني من المسلمين ﴾ أي : الذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم فانقادوا أتمّ انقياد.
فإن قيل : كيف قال الله تعالى ﴿ أحسن ﴾ والله تعالى يتقبل الأحسن وما دونه ؟.
أجيب بوجهين أحدهما : أنّ المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى :﴿ واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم ﴾ ( الزمر : ٥٥ ) وكقوله : الناقص والأشج أعدلا بني مروان. أي : عادلا بني مروان.
ثانيهما : أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. والأحسن ما يغاير ذلك، وهو المندوب، أو الواجب.
ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً، نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿ ويتجاوز ﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿ عن سيئاتهم ﴾ أي : فلا يعاقبهم عليها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : بنون مفتوحة قبل الفوقية من ﴿ يتقبل ﴾ ونصب ﴿ أحسن ﴾، ونون مفتوحة قبل الفوقية من ﴿ يتجاوز ﴾ والباقون بياء مضمومة قبل الفوقية من ﴿ يتقبل ﴾، و﴿ يتجاوز ﴾ ورفع ﴿ أحسن ﴾ وقوله تعالى :﴿ في أصحاب الجنة ﴾ في محل الحال أي : كائنين في جملة أصحاب الجنة. كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي : في جملتهم. وقيل : خبر مبتدأ مضمر أي : هم في أصحاب الجنة وقوله تعالى :﴿ وعد الصدق ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنّ قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يتقبل عنهم ﴾ في معنى الوعد. فيكون قوله تعالى :﴿ يتقبل ﴾، و﴿ يتجاوز ﴾ وعداً من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز. والمعنى يعامل من صفته ما قدّمنا بهذا الجزاء. وذلك وعد من الله تعالى صدق، لكونه مطابقاً للواقع ﴿ الذي كانوا يوعدون ﴾ أي : يقع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام حين أخبروا بقوله تعالى :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات ﴾ ( التوبة : ٧٢ ).
فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات على أهل النار وقد روي «الجنة درجات والنار دركات » أجيب من وجوه أحدها : أنّ ذلك على جهة التغليب وثانيها : قال ابن زيد : درج أهل الجنة تذهب علواً، ودرج أهل النار تذهب هبوطاً وثالثها : المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات، ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.
وقوله تعالى :﴿ وليوفيهم أعمالهم ﴾ أي : جزاءها معلله محذوف، تقديره : جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وهشام، وعاصم : بالياء التحتية أي : الله والباقون بالنون أي نحن وقوله تعالى :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي : شيئاً بنقص للمؤمنين ولا بزيادة للكافرين ( والواو ) إمّا استئناف وإمّا حال مؤكدة.
روى عمر قال :«دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه فقلت : يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك، فإنّ فارس والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم : أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا » وعن عائشة رضي الله عنها قالت :«ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم » وعنها أنها قالت :«كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما هو إلا الماء والتمر » «وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير » والأحاديث في هذا كثيرة.
ولما كانت الاستهانة بالأوامر والنواهي استهانة بيوم الجزاء سبب عنه قوله تعالى :
﴿ فاليوم تجزون ﴾ أي : على إعراضكم عنا ﴿ عذاب الهون ﴾ أي : الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلّ وخزي ﴿ بما كنتم ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ تستكبرون ﴾ أي : تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار ﴿ في الأرض ﴾ التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب أحق شيء بالتواضع والذل والهوان ﴿ بغير الحق ﴾ أي : الأمر الذي يطابقه الواقع، وهو أوامرنا ونواهينا ﴿ وبما كنتم ﴾ أي : على الاستمرار ﴿ تفسقون ﴾ أي : بسبب الاستكبار الباطل، والفسوق عن طاعة الله تعالى.
تنبيه : دلت الآية على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأنّ الله تعالى علل عذابهم بأمرين ؛ أولهما : الكفر. وثانيهما : الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر، لأنّ العطف يوجب المغايرة فثبت أنّ فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.
﴿ وقد ﴾ أي : والحال أنّه قد ﴿ خلت النذر ﴾ أي : مرّت ومضت الرسل الكثيرون ﴿ من بين يديه ﴾ أي : قبل هود، كنوح وشيث وآدم عليهم السلام ﴿ ومن خلفه ﴾ أي : بعده والمعنى ؛ أنّ الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، والجملة حال، أو اعتراض. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي ﴿ أن لا تعبدوا ﴾ أي : أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه شيئاً من الأشياء ﴿ إلا الله ﴾ أي : الملك الذي لا ملك غيره، ولا خالق سواه، ولا منعم إلا هو فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم والملك لا يقرّ على مثل هذا ﴿ إني أخاف عليكم ﴾ لكونكم قومي، وأعز الناس عليّ ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ أي لا يدع جهة إلا ملأها عذابه إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.
فإن قيل : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب : بأنّ فائدة ذلك : الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات.
قيل : إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي : أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر.
وروي : أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم » كما قال تعالى :﴿ فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ﴾ أي : فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة : بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم، لقيامه مقام الفاعل. والباقون : بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل، ونصب مساكنهم مفعولاً به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من ﴿ القرى ﴾ ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء الهائل ؛ في أصله، أو جنسه، أو نوعه، أو شخصه من الإهلاك. ﴿ نجزي ﴾ بعظمتنا دائماً إذا شئنا ﴿ القوم المجرمين ﴾ أي : العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال :«اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة أي : سحابة. قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فنقول له : يا رسول الله ما تخاف ؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا » فإن قيل قال تعالى :﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ) فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية.
تنبيه : قال البقاعي : وجعل النافي إن ؛ لأنها أبلغ من ﴿ ما ﴾ لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه ؟ لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. ه.
وقال الزمخشريّ : إن نافية أي : فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لعمرك ما ما بان منك لضارب ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى :
يرجى المرء ما إن لا يراه *** وتعرض دون أدناه الخطوب
وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل ﴿ وجعلنا لهم ﴾ أي على ما اقتضته عظمتنا ﴿ سمعاً ﴾ وأفرده لقلة التفاوت فيه ﴿ وأبصاراً ﴾ وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى :﴿ وأفئدة ﴾ أي : فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السماوات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي : قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها. فلا جرم قال تعالى :﴿ فما أغنى عنهم ﴾ في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح ﴿ سمعهم ﴾ وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى :﴿ ولا أبصارهم ﴾ وكذا في قوله تعالى :﴿ ولا أفئدتهم ﴾ أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى :﴿ من شيء ﴾ أي : من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ ﴿ من ﴾ زائدة وقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي : لأنهم ﴿ كانوا ﴾ أي : طبعاً وخلقاً ﴿ يجحدون ﴾ أي : يكرّرون على ممر الزمان الجحد ﴿ بآيات الله ﴾ أي : الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم ﴿ وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ لأنهم ؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء.
تنبيه : ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين : أحدهما «قال سعيد بن جبير : كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب، وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب ». والقول الثاني أنّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفراً من الجنّ يستمعون منه القرآن وينذرون قومهم روي أن الجنّ كانوا يهوداً لأنّ في الجنّ مللاً كما في الإنس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، والمجوس وأطبق المحققون على أنّ الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجنّ ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلبثون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها. «وروى الطبراني عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ». «وعن زرّ ابن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة » «وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى » وروي في الحديث :«أنّ الجنّ ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون » واختلفت الروايات هل كان عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ أو لا ؟ وروي عن أنس قال كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لمشية جني، ثم أتى فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إنها لنغمة جنيّ فقال الشّيخ : أجل يا رسول الله. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : من أيّ الجنّ أنت ؟ فقال يا رسول الله، أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين. قال : أجل يا رسول الله، قال : كم أتى عليك من العمر ؟ قال : أكلت عمر الدنيا إلا القليل، كنت حين قُتل هابيل غلاماً ابن أعوام، فكنت أتشرف على الآكام، وأصطاد الهام، وأورّش بين الأنام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بئس العمل. فقال : يا رسول الله، دعني من العتب فإني ممن آمن مع نوح عليه السلام وعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال : والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هوداً فعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت إبراهيم، وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره. ولقيت موسى بن عمران بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مريم عليهما السلام. فقال لي : إن لقيت محمداً فاقرأ عليه السلام. قال أنس : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : وعليه السلام وعليك يا هام ما حاجتك ؟ قال : إنّ موسى علمني التوراة، وإنّ عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن قال أنس : فعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كوّرت وقل يا أيها الكافرون وسورة الإخلاص والمعوّذتين. ﴿ فلما قضي ﴾ أي : فرغ من قراءته ﴿ ولّوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ إلى قومهم ﴾ الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه ﴿ منذرين ﴾ أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
فإن قيل قوله تعالى :﴿ أجيبوا داعي الله ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال وآمنوا به ؟ ! أجيب بأنه إنما ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهمّ الأقسام وأشرفها وقد جرت العادة في القرآن العظيم بأن يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله تعالى ﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ ( البقرة : ٩٨ ) وقوله تعالى ﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ﴾ ( الأحزاب : ٧ )
ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى :﴿ يغفر لكم ﴾ أي : الله تعالى ﴿ من ذنوبكم ﴾ أي : بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها، مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ ( الشورى : ٣٠ ) وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها، وقيل :﴿ من ﴾ زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم، وقيل : بل فائدته أن كلمة ﴿ من ﴾ هنا لابتداء الغاية، والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل ﴿ ويجركم ﴾ أي : يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه. ﴿ من عذاب أليم ﴾ «قال ابن عباس : فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ».
تنبيه : اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ويقال لهم : كونوا تراباً، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى ﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾ وهو قول أبي حنيفة.
والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً نحو ذلك قال الضحّاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بينهما بعيد جداً وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة، فقيل : هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب ؟ قال : نعم وقرأ ﴿ لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ ﴾ ( الرحمان : ٥٦ ) وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها ».
تنبيه : ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضاً إبدال الثانية ألفاً وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
تنبيه : المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. ﴿ قال فذوقوا العذاب ﴾ أي : باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر ؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى :﴿ بما كنتم ﴾ أي : خلقاً مستمرّاً ﴿ تكفرون ﴾ في دار العمل.
قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا تكن كصحاب الحوت ﴾ ( القلم : ٤٨ ) وقال قوم : هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ ( الأنعام : ٩٠ ) وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل : هم ستة ؛ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل : هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال :
محمد إبراهيم موسى كليمه | فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم |
وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا الصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها. ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ، ولا قوّة إلا بالله ».
ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل فقال عز من قائل :﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ أي : لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. قيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى :﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون ﴾ أي : من العذاب بهم في الآخرة ﴿ لم يلبثوا ﴾ أي : في الدنيا ﴿ إلا ساعة من نهار ﴾ استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر :
كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى | كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى |