وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ
يُرِيد يَوْم الْقِيَامَة.
وَلَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُود وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : كَيْف نَتَّبِع نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَل بِهِ وَلَا بِنَا،  وَأَنَّهُ لَا فَضْل لَهُ عَلَيْنَا،  وَلَوْلَا أَنَّهُ اِبْتَدَعَ الَّذِي يَقُولهُ مِنْ تِلْقَاء نَفْسه لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يَفْعَل بِهِ،  فَنَزَلَتْ :" لِيَغْفِر لَك اللَّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبك وَمَا تَأَخَّرَ " [ الْفَتْح : ٢ ] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة،  وَأَرْغَمَ اللَّه أَنْف الْكُفَّار.
وَقَالَتْ الصَّحَابَة : هَنِيئًا لَك يَا رَسُول اللَّه،  لَقَدْ بَيَّنَ اللَّه لَك مَا يَفْعَل بِك يَا رَسُول اللَّه،  فَلَيْتَ شِعْرنَا مَا هُوَ فَاعِل بِنَا ؟ فَنَزَلَتْ :" لِيُدْخِل الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار " [ الْفَتْح : ٥ ] الْآيَة.
وَنَزَلَتْ :" وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّه فَضْلًا كَبِيرًا " [ الْأَحْزَاب : ٤٧ ].
قَالَهُ أَنَس وَابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك.
وَقَالَتْ أُمّ الْعَلَاء اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار : اِقْتَسَمْنَا الْمُهَاجِرِينَ فَصَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعُون بْن حُذَافَة بْن جُمَح،  فَأَنْزَلْنَاهُ أَبْيَاتنَا فَتُوُفِّيَ،  فَقُلْت : رَحْمَة اللَّه عَلَيْك أَبَا السَّائِب إِنَّ اللَّه أَكْرَمَك.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ ] ؟ فَقُلْت : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّه فَمَنْ ؟ قَالَ :[ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِين وَمَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَوَاَللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّة وَوَاللَّه إِنِّي لَرَسُول اللَّه وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ ].
قَالَتْ : فَوَاَللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْده أَحَدًا أَبَدًا.
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ،  وَقَالَ : وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِين لَمْ يَعْلَم بِغُفْرَانِ ذَنْبه،  وَإِنَّمَا غَفَرَ اللَّه لَهُ ذَنْبه فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة قَبْل مَوْته بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
قُلْت : حَدِيث أُمّ الْعَلَاء خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ،  وَرِوَايَتِي فِيهِ :" وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِهِ " لَيْسَ فِيهِ " بِي وَلَا بِكُمْ " وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه،  عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَالْآيَة لَيْسَتْ مَنْسُوخَة ; لِأَنَّهَا خَبَر.
قَالَ النَّحَّاس : مُحَال أَنْ يَكُون فِي هَذَا نَاسِخ وَلَا مَنْسُوخ مِنْ جِهَتَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ خَبَر،  وَالْآخَر أَنَّهُ مِنْ أَوَّل السُّورَة إِلَى هَذَا الْمَوْضِع خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ وَاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخ لَهُمْ،  فَوَجَبَ أَنْ يَكُون هَذَا أَيْضًا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ قَبْله وَمَا بَعْده،  وَمُحَال أَنْ يَقُول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ " مَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ " فِي الْآخِرَة،  وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّل مَبْعَثه إِلَى مَمَاته يُخْبِر أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر مُخَلَّد فِي النَّار،  وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَان وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّة،  فَقَدْ رَأَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْعَل بِهِ وَبِهِمْ فِي الْآخِرَة.
                                                                            
                                                                    وَلَيْسَ يَجُوز أَنْ يَقُول لَهُمْ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْآخِرَة،  فَيَقُولُونَ كَيْف نَتَّبِعك وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَتَصِيرُ إِلَى خَفْض وَدَعَة أَمْ إِلَى عَذَاب وَعِقَاب.
وَالصَّحِيح فِي الْآيَة قَوْل الْحَسَن،  كَمَا قَرَأَ عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن حَفْص عَنْ يُوسُف بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيع قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر الْهُذَلِيّ عَنْ الْحَسَن :" وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا " قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا أَصَحّ قَوْل وَأَحْسَنه،  لَا يَدْرِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْحَقهُ وَإِيَّاهُمْ مِنْ مَرَض وَصِحَّة وَرُخْص وَغَلَاء وَغِنًى وَفَقْر.
وَمِثْله :" وَلَوْ كُنْت أَعْلَم الْغَيْب لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الْخَيْر وَمَا مَسَّنِي السُّوء إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِير وَبَشِير " [ الْأَعْرَاف : ١٨٨ ].
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيّ وَغَيْره عَنْ الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا اِشْتَدَّ الْبَلَاء بِأَصْحَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَام أَنَّهُ يُهَاجِر إِلَى أَرْض ذَات نَخْل وَشَجَر وَمَاء،  فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابه فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ،  وَرَأَوْا فِيهَا فَرَجًا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ،  ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَة لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه،  مَتَى نُهَاجِر إِلَى الْأَرْض الَّتِي رَأَيْت ؟ فَسَكَتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ " أَيْ لَا أَدْرِي أَأَخْرُجُ إِلَى الْمَوْضِع الَّذِي رَأَيْته فِي مَنَامِي أَمْ لَا.
ثُمَّ قَالَ :[ إِنَّمَا هُوَ شَيْء رَأَيْته فِي مَنَامِي مَا أَتَّبِع إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ] أَيْ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخ فِي الْآيَة.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا أَدْرِي مَا يُفْرَض عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْفَرَائِض.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيّ أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : مَا أَدْرِي مَا يَصِير إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْركُمْ فِي الدُّنْيَا،  أَتُؤْمِنُونَ أَمْ تَكْفُرُونَ،  أَمْ تُعَاجَلُونَ بِالْعَذَابِ أَمْ تُؤَخَّرُونَ.
قُلْت : وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمَا.
قَالَ الْحَسَن : مَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا،  أَمَّا فِي الْآخِرَة فَمَعَاذ اللَّه،  قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّة حِين أَخَذَ مِيثَاقه فِي الرُّسُل،  وَلَكِنْ قَالَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي فِي الدُّنْيَا أَأَخْرُجُ كَمَا أُخْرِجَتْ الْأَنْبِيَاء قَبْلِي،  أَوْ أُقْتَل كَمَا قُتِلَتْ الْأَنْبِيَاء قَبْلِي،  وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِكُمْ،  أَأُمَّتِي الْمُصَدِّقَة أَمْ الْمُكَذِّبَة،  أَمْ أُمَّتِي الْمَرْمِيَّة بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاء قَذْفًا،  أَوْ مَخْسُوف بِهَا خَسْفًا،  ثُمَّ نَزَلَتْ :" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله بِالْهُدَى وَدِين الْحَقّ لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه " [ التَّوْبَة : ٣٣ ].
يَقُول : سَيُظْهِرُ دِينه عَلَى الْأَدْيَان.
ثُمَّ قَالَ فِي أُمَّته :" وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [ الْأَنْفَال : ٣٣ ] فَأَخْبَرَهُ تَعَالَى بِمَا يَصْنَع بِهِ وَبِأُمَّتِهِ،  وَلَا نَسْخ عَلَى هَذَا كُلّه،  وَالْحَمْد لِلَّهِ.
                                                                            
                                                                    
                                                                                    قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
يَعْنِي الْقُرْآن.
وَجَوَاب " إِنْ كَانَ " مَحْذُوف تَقْدِيره : فَآمَنَ أَتُؤْمِنُونَ،  قَالَ الزَّجَّاج.
وَقِيلَ :" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ " أَلَيْسَ قَدْ ظَلَمْتُمْ،  يُبَيِّنهُ " إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " وَقِيلَ :" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ " أَفَتَأْمَنُونَ عَذَاب اللَّه.
وَ " أَرَأَيْتُمْ " لَفْظ مَوْضُوع لِلسُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَام،  وَلِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا.
وَحَكَى النَّقَّاش وَغَيْره : أَنَّ فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا،  وَتَقْدِيره : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْد اللَّه وَشَهِدَ شَاهِد مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَآمَنَ هُوَ وَكَفَرْتُمْ إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ.
                                                                            
                                                                    وَكَفَرْتُمْ بِهِ
قَالَ الشَّعْبِيّ : الْمُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                                                                            
                                                                    وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَمُجَاهِد : هُوَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام،  شَهِدَ عَلَى الْيَهُود أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه مَذْكُور فِي التَّوْرَاة،  وَأَنَّهُ نَبِيّ مِنْ عِنْد اللَّه.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْهُ : وَنَزَلَتْ فِيَّ آيَات مِنْ كِتَاب اللَّه،  نَزَلَتْ فِيَّ :" وَشَهِدَ شَاهِد مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل عَلَى مِثْله فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ ".
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر سُورَة " الرَّعْد ".
وَقَالَ مَسْرُوق : هُوَ مُوسَى وَالتَّوْرَاة،  لَا اِبْن سَلَام ; لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ وَالسُّورَة مَكِّيَّة.
وَقَالَ : وَقَوْله :" وَكَفَرْتُمْ بِهِ " مُخَاطَبَة لِقُرَيْشٍ.
الشَّعْبِيّ : هُوَ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل بِمُوسَى وَالتَّوْرَاة ; لِأَنَّ اِبْن سَلَام إِنَّمَا أَسْلَمَ قَبْل وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ،  وَالسُّورَة مَكِّيَّة.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَنْ قَالَ الشَّاهِد مُوسَى قَالَ السُّورَة مَكِّيَّة،  وَأَسْلَمَ اِبْن سَلَام قَبْل مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ.
وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَتُوضَع فِي سُورَة مَكِّيَّة،  فَإِنَّ الْآيَة كَانَتْ تَنْزِل فَيَقُول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعُوهَا فِي سُورَة كَذَا.
وَالْآيَة فِي مُحَاجَّة الْمُشْرِكِينَ،  وَوَجْه الْحُجَّة أَنَّهُمْ كَانُوا يُرَاجِعُونَ الْيَهُود فِي أَشْيَاء،  أَيْ شَهَادَتهمْ لَهُمْ وَشَهَادَة نَبِيّهمْ لِي مِنْ أَوْضَح الْحُجَج.
وَلَا يَبْعُد أَنْ تَكُون السُّورَة فِي مُحَاجَّة الْيَهُود،  وَلَمَّا جَاءَ اِبْن سَلَام مُسْلِمًا مِنْ قَبْل أَنْ تَعْلَم الْيَهُود بِإِسْلَامِهِ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه،  اِجْعَلْنِي حَكَمًا بَيْنك وَبَيْن الْيَهُود،  فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ :[ أَيّ رَجُل هُوَ فِيكُمْ ] قَالُوا : سَيِّدنَا وَعَالِمنَا.
فَقَالَ :
| [ إِنَّهُ قَدْ آمَنَ بِي ] فَأَسَاءُوا الْقَوْل فِيهِ | الْحَدِيث،  وَقَدْ تَقَدَّمَ. | 
قَالَ اِبْن عَبَّاس : رَضِيَتْ الْيَهُود بِحُكْمِ اِبْن سَلَام،  وَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ يَشْهَد لَك آمَنَّا بِك،  فَسُئِلَ فَشَهِدَ ثُمَّ أَسْلَمَ.
                                                                            
                                                                    عَلَى مِثْلِهِ
أَيْ عَلَى مِثْل مَا جِئْتُكُمْ بِهِ،  فَشَهِدَ مُوسَى عَلَى التَّوْرَاة وَمُحَمَّد عَلَى الْقُرْآن.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ.
" مِثْل " صِلَة،  أَيْ وَشَهِدَ شَاهِد عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه.
                                                                            
                                                                    فَآمَنَ
أَيْ هَذَا الشَّاهِد.
                                                                            
                                                                    وَاسْتَكْبَرْتُمْ
أَنْتُمْ عَنْ الْإِيمَان.
وَجَوَاب " إِنْ كَانَ " مَحْذُوف تَقْدِيره : فَآمَنَ أَتُؤْمِنُونَ،  قَالَ الزَّجَّاج.
وَقِيلَ :" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ " أَلَيْسَ قَدْ ظَلَمْتُمْ،  يُبَيِّنهُ " إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " وَقِيلَ :" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ " أَفَتَأْمَنُونَ عَذَاب اللَّه.
وَ " أَرَأَيْتُمْ " لَفْظ مَوْضُوع لِلسُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَام،  وَلِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا.
                                                                            
                                                                    إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
حَكَى النَّقَّاش وَغَيْره : أَنَّ فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا،  وَتَقْدِيره : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْد اللَّه وَشَهِدَ شَاهِد مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَآمَنَ هُوَ وَكَفَرْتُمْ إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ
اُخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُولهَا عَلَى سِتَّة أَقْوَال :
الْأَوَّل : أَنَّ أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ دَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَام بِمَكَّة فَأَجَابَ،  وَاسْتَجَارَ بِهِ قَوْمه فَأَتَاهُ زَعِيمهمْ فَأَسْلَمَ،  ثُمَّ دَعَاهُمْ الزَّعِيم فَأَسْلَمُوا،  فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَقَالُوا : غِفَار الْحُلَفَاء لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ،  فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة،  قَالَهُ أَبُو الْمُتَوَكِّل.
الثَّانِي : أَنَّ زِنِّيرَة أَسْلَمَتْ فَأُصِيبَ بَصَرهَا فَقَالُوا لَهَا : أَصَابَك اللَّات وَالْعُزَّى،  فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهَا بَصَرهَا.
فَقَالَ عُظَمَاء قُرَيْش : لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَة،  فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة،  قَالَهُ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر.
الثَّالِث : أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ بَنُو عَامِر وَغَطَفَان وَتَمِيم وَأَسَد وَحَنْظَلَة وَأَشْجَع قَالُوا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ غِفَار وَأَسْلَم وَجُهَيْنَة وَمُزَيْنَة وَخُزَاعَة : لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ رُعَاة الْبَهْم إِذْ نَحْنُ أَعَزّ مِنْهُمْ،  قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالزَّجَّاج،  وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
الرَّابِع : وَقَالَ قَتَادَة : نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْش،  قَالُوا : لَوْ كَانَ مَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّد خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ بِلَال وَصُهَيْب وَعَمَّار وَفُلَان وَفُلَان.
الْخَامِس : أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ الْيَهُود قَالُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن سَلَام وَأَصْحَابه : لَوْ كَانَ دِين مُحَمَّد حَقًّا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ،  قَالَهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ،  حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَقَالَ مَسْرُوق : إِنَّ الْكُفَّار قَالُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ الْيَهُود،  فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
وَهَذِهِ الْمُعَارَضَة مِنْ الْكُفَّار فِي قَوْلهمْ : لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ مِنْ أَكْبَر الْمُعَارَضَات بِانْقِلَابِهَا عَلَيْهِمْ لِكُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ،  حَتَّى يُقَال لَهُمْ : لَوْ كَانَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا مَا عَدَلْنَا عَنْهُ،  وَلَوْ كَانَ تَكْذِيبكُمْ لِلرَّسُولِ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُونَا إِلَيْهِ،  ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
ثُمَّ قِيلَ : قَوْله :" مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ " يَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْكُفَّار لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ،  وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة،  كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ " [ يُونُس : ٢٢ ].
                                                                            
                                                                    وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
يَعْنِي الْإِيمَان.
وَقِيلَ الْقُرْآن.
وَقِيلَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                                                                            
                                                                    فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
أَيْ لَمَّا لَمْ يُصِيبُوا الْهُدَى بِالْقُرْآنِ وَلَا بِمَنْ جَاءَ بِهِ عَادَوْهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِب،  وَقَالُوا هَذَا إِفْك قَدِيم،  كَمَا قَالُوا : أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ : هَلْ فِي الْقُرْآن : مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ ؟ فَقَالَ نَعَمْ،  قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْك قَدِيم " وَمِثْله :" بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ " [ يُونُس : ٣٩ ].
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَمِنْ قَبْلِهِ
أَيْ وَمِنْ قَبْل الْقُرْآن
                                                                            
                                                                    كِتَابُ مُوسَى
أَيْ التَّوْرَاة
                                                                            
                                                                    إِمَامًا
يُقْتَدَى بِمَا فِيهِ.
وَ " إِمَامًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَتَقَدَّمَهُ كِتَاب مُوسَى إِمَامًا.
" وَرَحْمَة " مَعْطُوف عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْل،  أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا وَرَحْمَة.
وَقَالَ الْأَخْفَش : عَلَى الْقَطْع ; لِأَنَّ كِتَاب مُوسَى مَعْرِفَة بِالْإِضَافَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَة إِذَا أُعِيدَتْ أَوْ أُضِيفَتْ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْهَا أَلِف وَلَام صَارَتْ مَعْرِفَة.
                                                                            
                                                                    وَرَحْمَةً
مِنْ اللَّه.
وَفِي الْكَلَام حَذْف،  أَيْ فَلَمْ تَهْتَدُوا بِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّوْرَاة نَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَان بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ.
وَ " إِمَامًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَتَقَدَّمَهُ كِتَاب مُوسَى إِمَامًا.
" وَرَحْمَة " مَعْطُوف عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْل،  أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا وَرَحْمَة.
وَقَالَ الْأَخْفَش : عَلَى الْقَطْع ; لِأَنَّ كِتَاب مُوسَى مَعْرِفَة بِالْإِضَافَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَة إِذَا أُعِيدَتْ أَوْ أُضِيفَتْ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْهَا أَلِف وَلَام صَارَتْ مَعْرِفَة.
                                                                            
                                                                    وَهَذَا كِتَابٌ
يَعْنِي الْقُرْآن
                                                                            
                                                                    مُصَدِّقٌ
يَعْنِي لِلتَّوْرَاةِ وَلِمَا قَبْله مِنْ الْكُتُب.
وَقِيلَ : مُصَدِّق لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                                                                            
                                                                    لِسَانًا عَرَبِيًّا
مَنْصُوب عَلَى الْحَال،  أَيْ مُصَدِّق لِمَا قَبْله عَرَبِيًّا،  وَ " لِسَانًا " تَوْطِئَة لِلْحَالِ أَيْ تَأْكِيد،  كَقَوْلِهِمْ : جَاءَنِي زَيْد رَجُلًا صَالِحًا،  فَتَذْكُر رَجُلًا تَوْكِيدًا.
وَقِيلَ : نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْل تَقْدِيره : وَهَذَا كِتَاب مُصَدِّق أَعْنِي لِسَانًا عَرَبِيًّا.
وَقِيلَ : نُصِبَ بِإِسْقَاطِ حَرْف الْخَفْض تَقْدِيره : بِلِسَانٍ عَرَبِيّ.
وَقِيلَ : إِنَّ لِسَانًا مَفْعُول وَالْمُرَاد بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  أَيْ وَهَذَا كِتَاب مُصَدِّق لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُعْجِزَته،  وَالتَّقْدِير : مُصَدِّق ذَا لِسَان عَرَبِيّ.
فَاللِّسَان مَنْصُوب بِمُصَدِّق،  وَهُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَبْعُد أَنْ يَكُون اللِّسَان الْقُرْآن ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُون يُصَدِّق نَفْسه.
                                                                            
                                                                    لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قِرَاءَة الْعَامَّة " لِيُنْذِر " بِالْيَاءِ خَبَر عَنْ الْكِتَاب،  أَيْ لِيُنْذِر الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَة.
وَقِيلَ : هُوَ خَبَر عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر وَالْبَزِّيّ بِالتَّاءِ،  وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم،  عَلَى خِطَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِر " [ الرَّعْد : ٧ ].
                                                                            
                                                                    وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ
" بُشْرَى " فِي مَوْضِع رَفْع،  أَيْ وَهُوَ بُشْرَى.
وَقِيلَ : عَطْفًا عَلَى الْكِتَاب،  أَيْ وَهَذَا كِتَاب مُصَدِّق وَبُشْرَى.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِإِسْقَاطِ حَرْف الْخَفْض،  أَيْ لِيُنْذِر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَلِلْبُشْرَى،  فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِض نُصِبَ.
وَقِيلَ : عَلَى الْمَصْدَر،  أَيْ وَتُبَشِّر الْمُحْسِنِينَ بُشْرَى،  فَلَمَّا جُعِلَ مَكَان وَتُبَشِّر بُشْرَى أَوْ بِشَارَة نُصِبَ،  كَمَا تَقُول : أَتَيْتُك لِأَزُورَك،  وَكَرَامَة لَك وَقَضَاء لِحَقِّك،  يَعْنِي لِأَزُورَك وَأُكْرِمك وَأَقْضِي حَقّك،  فَنَصَبَ الْكَرَامَة بِفِعْلٍ مُضْمَر.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
قَالَ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه وَالْمَلَائِكَة بَنَاته وَهَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه ; فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا.
وَقَالَ أَبُو بَكْر : رَبّنَا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْده وَرَسُوله ; فَاسْتَقَامَ.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " قَالَ :( قَدْ قَالَ النَّاس ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرهمْ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمَّنْ اِسْتَقَامَ ) قَالَ : حَدِيث غَرِيب.
وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ مَعْنَى " اِسْتَقَامُوا " ; فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثَّقَفِيّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه قُلْ لِي فِي الْإِسْلَام قَوْلًا لَا أَسْأَل عَنْهُ أَحَدًا بَعْدك - وَفِي رِوَايَة - غَيْرك.
قَالَ :( قُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اِسْتَقِمْ ) زَادَ التِّرْمِذِيّ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه مَا أَخْوَف مَا تَخَاف عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسه وَقَالَ :( هَذَا ).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :" ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " لَمْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا.
وَرَوَى عَنْهُ الْأَسْوَد بْن هِلَال أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " وَ " الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ " فَقَالُوا : اِسْتَقَامُوا فَلَمْ يُذْنِبُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِخَطِيئَةٍ ; فَقَالَ أَبُو بَكْر : لَقَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى غَيْر الْمَحْمَل " قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَه غَيْره " وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ " بِشِرْكٍ " أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْن وَهُمْ مُهْتَدُونَ ".
وَرُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَر وَهُوَ يَخْطُب :" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " فَقَالَ : اِسْتَقَامُوا وَاَللَّه عَلَى الطَّرِيقَة لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْغُوا رَوَغَان الثَّعَالِب.
وَقَالَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَل لِلَّهِ.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ثُمَّ أَدَّوْا الْفَرَائِض.
وَأَقْوَال التَّابِعِينَ بِمَعْنَاهَا.
قَالَ اِبْن زَيْد وَقَتَادَة : اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّاعَة لِلَّهِ.
الْحَسَن : اِسْتَقَامُوا عَلَى أَمْر اللَّه فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَته.
وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة : اِسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه حَتَّى مَاتُوا.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : عَمِلُوا عَلَى وِفَاق مَا قَالُوا.
وَقَالَ الرَّبِيع : أَعْرَضُوا عَمَّا سِوَى اللَّه.
وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : زَهِدُوا فِي الْفَانِيَة وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَة.
وَقِيلَ : اِسْتَقَامُوا إِسْرَارًا كَمَا اِسْتَقَامُوا إِقْرَارًا.
                                                                            
                                                                    وَقِيلَ : اِسْتَقَامُوا فِعْلًا كَمَا اِسْتَقَامُوا قَوْلًا.
وَقَالَ أَنَس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هُمْ أُمَّتِي وَرَبّ الْكَعْبَة ).
وَقَالَ الْإِمَام اِبْن فَوْرك : السِّين سِين الطَّلَب مِثْل اِسْتَسْقَى أَيْ سَأَلُوا مِنْ اللَّه أَنْ يُثَبِّتهُمْ عَلَى الدِّين.
وَكَانَ الْحَسَن إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَة.
قُلْت : وَهَذِهِ الْأَقْوَال وَإِنْ تَدَاخَلَتْ فَتَلْخِيصهَا : اِعْتَدَلُوا عَلَى طَاعَة اللَّه عَقْدًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا،  وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ.
                                                                            
                                                                    فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قَالَ مُجَاهِد : لَا خَوْف عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَوْت " وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " أَيْ لَا تَحْزَنُونَ عَلَى أَوْلَادكُمْ فَإِنَّ اللَّه خَلِيفَتكُمْ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا تَخَافُوا رَدّ ثَوَابكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُول،  وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرهَا لَكُمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَة وَلَا تَخَافُوا أَمَامكُمْ،  وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبكُمْ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
بَيَّنَ اِخْتِلَاف حَال الْإِنْسَان مَعَ أَبَوَيْهِ،  فَقَدْ يُطِيعهُمَا وَقَدْ يُخَالِفهُمَا،  أَيْ فَلَا يَبْعُد مِثْل هَذَا فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمه حَتَّى يَسْتَجِيب لَهُ الْبَعْض وَيَكْفُر الْبَعْض.
فَهَذَا وَجْه اِتِّصَال الْكَلَام بَعْضه بِبَعْضٍ،  قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ.
                                                                            
                                                                    إِحْسَانًا
قِرَاءَة الْعَامَّة " حُسْنًا " وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِف أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَة وَالشَّام.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالْكُوفِيُّونَ " إِحْسَانًا " وَحُجَّتهمْ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة ( الْأَنْعَام وَبَنِي إِسْرَائِيل ) :" وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " [ الْأَنْعَام : ١٥١ ] وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِف الْكُوفَة.
وَحُجَّة الْقِرَاءَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْعَنْكَبُوت :" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا " [ الْعَنْكَبُوت : ٨ ] وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا.
وَالْحُسْن خِلَاف الْقُبْح.
وَالْإِحْسَان خِلَاف الْإِسَاءَة.
وَالتَّوْصِيَة الْأَمْر.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا وَفِيمَنْ نَزَلَتْ.
                                                                            
                                                                    حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا
أَيْ بِكُرْهٍ وَمَشَقَّة.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِفَتْحِ الْكَاف.
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد،  قَالَ : وَكَذَلِكَ لَفْظ الْكَرْه فِي كُلّ الْقُرْآن بِالْفَتْحِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَة الْبَقَرَة :" كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَال وَهُوَ كُرْه لَكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢١٦ ] لِأَنَّ ذَلِكَ اِسْم وَهَذِهِ كُلّهَا مَصَادِر.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " كُرْهًا " بِالضَّمِّ.
قِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ مِثْل الضُّعْف وَالضَّعْف وَالشُّهْد وَالشَّهْد،  قَالَهُ الْكِسَائِيّ،  وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْد جَمِيع الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ أَيْضًا وَالْفَرَّاء فِي الْفَرْق بَيْنهمَا : إِنَّ الْكُرْه ( بِالضَّمِّ ) مَا حَمَلَ الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه،  وَبِالْفَتْحِ مَا حَمَلَ عَلَى غَيْره،  أَيْ قَهْرًا وَغَضَبًا،  وَلِهَذَا قَالَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة إِنَّ كَرْهًا ( بِفَتْحِ الْكَاف ) لَحْن.
                                                                            
                                                                    وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا
قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا حَمَلَتْ تِسْعَة أَشْهُر أَرْضَعَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا،  وَإِنْ حَمَلَتْ سِتَّة أَشْهُر أَرْضَعَتْ أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَان قَدْ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُر،  فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِي عَلَيْهَا بِالْحَدِّ،  فَقَالَ لَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا،  قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَحَمْله وَفِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا " وَقَالَ تَعَالَى :" وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ " [ الْبَقَرَة : ٢٣٣ ] فَالرَّضَاع أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ شَهْرًا وَالْحَمْل سِتَّة أَشْهُر،  فَرَجَعَ عُثْمَان عَنْ قَوْله وَلَمْ يَحُدّهَا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَقِيلَ : لَمْ يَعُدّ ثَلَاثَة أَشْهُر فِي اِبْتِدَاء الْحَمْل ; لِأَنَّ الْوَلَد فِيهَا نُطْفَة وَعَلَقَة وَمُضْغَة فَلَا يَكُون لَهُ ثِقَل يُحَسّ بِهِ،  وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ " [ الْأَعْرَاف : ١٨٩ ].
وَالْفِصَال الْفِطَام.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " لُقْمَان " الْكَلَام فِيهِ.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَيَعْقُوب وَغَيْرهمَا " وَفَصْله " بِفَتْحِ الْفَاء وَسُكُون الصَّاد.
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق ; وَكَانَ حَمْله وَفِصَاله فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا،  حَمَلَتْهُ أُمّه تِسْعَة أَشْهُر وَأَرْضَعَتْهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
وَفِي الْكَلَام إِضْمَار،  أَيْ وَمُدَّة حَمْله وَمُدَّة فِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا،  وَلَوْلَا هَذَا الْإِضْمَار لَنُصِبَ ثَلَاثُونَ عَلَى الظَّرْف وَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى.
                                                                            
                                                                    حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
قَالَ اِبْن عَبَّاس :" أَشُدّهُ " ثَمَانِيَ عَشْرَة سَنَة.
وَقَالَ فِي رِوَايَة عَطَاء عَنْهُ : إِنَّ أَبَا بَكْر صَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ اِبْن ثَمَانِيَ عَشْرَة سَنَة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن عِشْرِينَ سَنَة،  وَهُمْ يُرِيدُونَ الشَّام لِلتِّجَارَةِ،  فَنَزَلُوا مَنْزِلًا فِيهِ سِدْرَة،  فَقَعَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلّهَا،  وَمَضَى أَبُو بَكْر إِلَى رَاهِب هُنَاكَ فَسَأَلَهُ عَنْ الدِّين.
فَقَالَ الرَّاهِب : مَنْ الرَّجُل الَّذِي فِي ظِلّ الشَّجَرَة ؟ فَقَالَ : ذَاكَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْمُطَّلِب.
فَقَالَ : هَذَا وَاَللَّه نَبِيّ،  وَمَا اِسْتَظَلَّ أَحَد تَحْتهَا بَعْد عِيسَى.
فَوَقَعَ فِي قَلْب أَبِي بَكْر الْيَقِين وَالتَّصْدِيق،  وَكَانَ لَا يَكَاد يُفَارِق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَاره وَحَضَره.
فَلَمَّا نُبِّئَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ اِبْن أَرْبَعِينَ سَنَة،  صَدَّقَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ اِبْن ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ سَنَة.
فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة قَالَ :" رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ " الْآيَة.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَابْن زَيْد : الْأَشُدّ الْحُلُم.
وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ بُلُوغ الْأَرْبَعِينَ.
وَعَنْهُ قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِ.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " الْكَلَام فِي الْآيَة.
وَقَالَ السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك : نَزَلَتْ فِي سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ مُرْسَلَة نُزِلَتْ عَلَى الْعُمُوم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
                                                                            
                                                                    قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي
أَيْ أَلْهِمْنِي.
                                                                            
                                                                    أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْمَصْدَر،  أَيْ شُكْر نِعْمَتك " عَلَيَّ "
                                                                            
                                                                    الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
أَيْ مَا أَنْعَمْت بِهِ عَلَيَّ مِنْ الْهِدَايَة
                                                                            
                                                                    وَعَلَى وَالِدَيَّ
بِالتَّحَنُّنِ وَالشَّفَقَة حَتَّى رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
وَقِيلَ : أَنْعَمْت عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَة وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَة.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ،  أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْتَمِع لِأَحَدٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ غَيْره،  فَأَوْصَاهُ اللَّه بِهِمَا وَلَزِمَ ذَلِكَ مَنْ بَعْده.
وَوَالِده هُوَ قُحَافَة عُثْمَان بْن عَامِر بْن عَمْرو بْن كَعْب بْن سَعْد بْن تَيْم.
وَأُمّه أُمّ الْخَيْر،  وَاسْمهَا سَلْمَى بِنْت صَخْر بْن عَامِر بْن كَعْب بْن سَعْد.
وَأُمّ أَبِيهِ أَبِي قُحَافَة " قَيْلَة " " بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتهَا ".
وَامْرَأَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق اِسْمهَا " قُتَيْلَة " " بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقهَا " بِنْت عَبْد الْعُزَّى.
                                                                            
                                                                    وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَأَجَابَهُ اللَّه فَأَعْتَقَ تِسْعَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّه مِنْهُمْ بِلَال وَعَامِر بْن فُهَيْرَة،  وَلَمْ يَدَع شَيْئًا مِنْ الْخَيْر إِلَّا أَعَانَهُ اللَّه عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْم صَائِمًا ] ؟ قَالَ أَبُو بَكْر أَنَا.
قَالَ :[ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْم جَنَازَة ] ؟ قَالَ أَبُو بَكْر أَنَا.
قَالَ :[ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْم مِسْكِينًا ] ؟ قَالَ أَبُو بَكْر أَنَا.
قَالَ :[ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْم مَرِيضًا ] ؟ قَالَ أَبُو بَكْر أَنَا.
قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ مَا اِجْتَمَعْنَ فِي اِمْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة ].
                                                                            
                                                                    وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي
أَيْ اِجْعَلْ ذُرِّيَّتِي صَالِحِينَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَلَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَد وَلَا وَالِد وَلَا وَالِدَة إِلَّا آمَنُوا بِاَللَّهِ وَحْده.
وَلَمْ يَكُنْ أَحَد مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه أَسْلَمَ هُوَ وَأَبَوَاهُ وَأَوْلَاده وَبَنَاته كُلّهمْ إِلَّا أَبُو بَكْر.
وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الْمَعْنَى اِجْعَلْهُمْ لِي خَلَف صِدْق،  وَلَك عَبِيد حَقّ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَان : اِجْعَلْهُمْ أَبْرَارًا لِي مُطِيعِينَ لَك.
وَقَالَ اِبْن عَطَاء : وَفِّقْهُمْ لِصَالِحِ أَعْمَال تَرْضَى بِهَا عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ : لَا تَجْعَل لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْس وَالْهَوَى عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
وَقَالَ مَالِك بْن مِغْوَل : اِشْتَكَى أَبُو مَعْشَر اِبْنه إِلَى طَلْحَة بْن مُصَرِّف،  فَقَالَ : اِسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَة،  وَتَلَا :" رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْت إِلَيْك وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ".
                                                                            
                                                                    إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : رَجَعْت عَنْ الْأَمْر الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ.
                                                                            
                                                                    وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
أَيْ الْمُخْلِصِينَ بِالتَّوْحِيدِ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ
قِرَاءَة الْعَامَّة بِضَمِّ الْيَاء فِيهِمَا.
وَقُرِئَ " يَتَقَبَّل،  وَيَتَجَاوَز " بِفَتْحِ الْيَاء،  وَالضَّمِير فِيهِمَا يَرْجِع لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَرَأَ حَفْص وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " نَتَقَبَّل،  وَنَتَجَاوَز " النُّون فِيهِمَا،  أَيْ نَغْفِرهَا وَنَصْفَح عَنْهَا.
وَالتَّجَاوُز أَصْله مِنْ جُزْت الشَّيْء إِذَا لَمْ تَقِف عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان " إِلَى آخِرهَا مُرْسَلَة نَزَلَتْ عَلَى الْعُمُوم.
وَهُوَ قَوْل الْحَسَن.
وَمَعْنَى " نَتَقَبَّل عَنْهُمْ " أَيْ نَتَقَبَّل مِنْهُمْ الْحَسَنَات وَنَتَجَاوَز عَنْ السَّيِّئَات.
قَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ - وَيَحْكِيه مَرْفُوعًا - : إِنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا قُبِلَتْ حَسَنَاتهمْ وَغُفِرَتْ سَيِّئَاتهمْ.
وَقِيلَ : الْأَحْسَن مَا يَقْتَضِي الثَّوَاب مِنْ الطَّاعَات،  وَلَيْسَ فِي الْحَسَن الْمُبَاح ثَوَاب وَلَا عِقَاب،  حَكَاهُ اِبْن عِيسَى.
                                                                            
                                                                    فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
" فِي " بِمَعْنَى مَعَ،  أَيْ مَعَ أَصْحَاب الْجَنَّة،  تَقُول : أَكْرَمَك وَأَحْسَنَ إِلَيْك فِي جَمِيع أَهْل الْبَلَد،  أَيْ مَعَ جَمِيعهمْ.
                                                                            
                                                                    وَعْدَ الصِّدْقِ
نُصِبَ لِأَنَّهُ مَصْدَر مُؤَكِّد لِمَا قَبْله،  أَيْ وَعَدَ اللَّه أَهْل الْإِيمَان أَنْ يَتَقَبَّل مِنْ مُحْسِنهمْ وَيَتَجَاوَز عَنْ مُسِيئِهِمْ وَعْد الصِّدْق.
وَهُوَ مِنْ بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه لِأَنَّ الصِّدْق هُوَ ذَلِكَ الْوَعْد الَّذِي وَعَدَهُ اللَّه،  وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَقّ الْيَقِين " [ الْوَاقِعَة : ٩٥ ].
وَهَذَا عِنْد الْكُوفِيِّينَ،  فَأَمَّا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ فَتَقْدِيره : وَعْد الْكَلَام الصِّدْق أَوْ الْكِتَاب الصِّدْق،  فَحَذَفَ الْمَوْصُوف.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي غَيْر مَوْضِع.
                                                                            
                                                                    الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَة الرُّسُل،  وَذَلِكَ الْجَنَّة.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي
" وَاَلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَج " أَيْ أَنْ أُبْعَث.
" وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُون مِنْ قَبْلِي " قِرَاءَة نَافِع وَحَفْص وَغَيْرهمَا " أُفّ " مَكْسُور مُنَوَّن.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَابْن عَامِر وَالْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم " أَفَّ " بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْر تَنْوِين.
الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ غَيْر مُنَوَّن،  وَكُلّهَا لُغَات،  وَقَدْ مَضَى فِي " بَنِي إِسْرَائِيل ".
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " أَتَعِدَانِنِي " بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ.
وَفَتَحَ يَاءَه أَهْل الْمَدِينَة وَمَكَّة.
وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَالْمُغِيرَة وَهِشَام " أَتَعِدَانِّي " بِنُونٍ وَاحِدَة مُشَدَّدَة،  وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِف أَهْل الشَّام.
وَالْعَامَّة عَلَى ضَمّ الْأَلِف وَفَتْح الرَّاء مِنْ " أَنْ أُخْرَج ".
وَقَرَأَ الْحَسَن وَنَصْر وَأَبُو الْعَالِيَة وَالْأَعْمَش وَأَبُو مَعْمَر بِفَتْحِ الْأَلِف وَضَمّ الرَّاء.
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُجَاهِد : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا،  وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَام فَيُجِيبهُمَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ أَيْضًا : هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر قَبْل إِسْلَامه،  وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمّه أُمّ رُومَان يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَام وَيَعِدَانِهِ بِالْبَعْثِ،  فَيَرُدّ عَلَيْهِمَا بِمَا حَكَاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ،  وَكَانَ هَذَا مِنْهُ قَبْل إِسْلَامه.
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنْكَرَتْ أَنْ تَكُون نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن.
وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة أَيْضًا : هِيَ نَعْت عَبْد كَافِر عَاقّ لِوَالِدَيْهِ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : كَيْف يُقَال نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن قَبْل إِسْلَامه وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :" أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل فِي أُمَم " أَيْ الْعَذَاب،  وَمِنْ ضَرُورَته عَدَم الْإِيمَان،  وَعَبْد الرَّحْمَن مِنْ أَفَاضِل الْمُؤْمِنِينَ،  فَالصَّحِيح أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْد كَافِر عَاقّ لِوَالِدَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن زِيَاد : كَتَبَ مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان بْن الْحَكَم حَتَّى يُبَايِع النَّاس لِيَزِيدَ،  فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر : لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّة،  أَتُبَايِعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ فَقَالَ مَرْوَان : هُوَ الَّذِي يَقُول اللَّه فِيهِ :" وَاَلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَكُمَا " الْآيَة.
فَقَالَ : وَاَللَّه مَا هُوَ بِهِ.
وَلَوْ شِئْت لَسَمَّيْت،  وَلَكِنَّ اللَّه لَعَنَ أَبَاك وَأَنْتَ فِي صُلْبه،  فَأَنْتَ فَضَض مِنْ لَعْنَة اللَّه.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ جَعَلَ الْآيَة فِي عَبْد الرَّحْمَن كَانَ قَوْله بَعْد ذَلِكَ " أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل " يُرَاد بِهِ مَنْ اِعْتَقَدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْره،  فَأَوَّل الْآيَة خَاصّ وَآخِرهَا عَامّ.
                                                                            
                                                                    وَقِيلَ إِنَّ عَبْد الرَّحْمَن لَمَّا قَالَ :" وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُون مِنْ قَبْلِي " قَالَ مَعَ ذَلِكَ : فَأَيْنَ عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان،  وَأَيْنَ عُثْمَان بْن عَمْرو،  وَأَيْنَ عَامِر بْن كَعْب وَمَشَايِخ قُرَيْش حَتَّى أَسْأَلهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ.
فَقَوْله :" أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل " يَرْجِع إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَام.
قُلْت : قَدْ مَضَى مِنْ خَبَر عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر فِي سُورَة ( الْأَنْعَام ) عِنْد قَوْله :" لَهُ أَصْحَاب يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى " [ الْأَنْعَام : ٧١ ] مَا يَدُلّ عَلَى نُزُول هَذِهِ الْآيَة فِيهِ،  إِذْ كَانَ كَافِرًا وَعِنْد إِسْلَامه وَفَضْله تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ :" أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل ".
                                                                            
                                                                    وَهُمَا
يَعْنِي وَالِدَيْهِ.
                                                                            
                                                                    يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ
أَيْ يَدْعُوَانِ اللَّه لَهُ بِالْهِدَايَةِ.
أَوْ يَسْتَغِيثَانِ بِاَللَّهِ مِنْ كُفْره،  فَلَمَّا حَذَفَ الْجَارّ وَصَلَ الْفِعْل فَنُصِبَ.
وَقِيلَ : الِاسْتِغَاثَة الدُّعَاء،  فَلَا حَاجَة إِلَى الْبَاء.
قَالَ الْفَرَّاء : أَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ وَغُوَاثه.
                                                                            
                                                                    وَيْلَكَ آمِنْ
أَيْ صَدِّقْ بِالْبَعْثِ.
                                                                            
                                                                    إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
أَيْ صِدْق لَا خُلْف فِيهِ.
                                                                            
                                                                    فَيَقُولُ مَا هَذَا
أَيْ مَا يَقُولهُ وَالِدَاهُ.
                                                                            
                                                                    إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
أَيْ أَحَادِيثهمْ وَمَا سَطَرُوهُ مِمَّا لَا أَصْل لَهُ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَا مُحَمَّد يَوْم يُعْرَض.
                                                                            
                                                                    عَلَى النَّارِ
أَيْ يُكْشَف الْغِطَاء فَيُقَرَّبُونَ مِنْ النَّار وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا.
                                                                            
                                                                    أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا
أَيْ يُقَال لَهُمْ أَذْهَبْتُمْ،  فَالْقَوْل مُضْمَر.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَنَصْر وَأَبُو الْعَالِيَة وَيَعْقُوب وَابْن كَثِير " أَأَذْهَبْتُمْ " بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ،  وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَهِشَام " آذْهَبْتُمْ " بِهَمْزَةٍ وَاحِدَة مُطَوَّلَة عَلَى الِاسْتِفْهَام.
الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَة مِنْ غَيْر مَدّ عَلَى الْخَبَر،  وَكُلّهَا لُغَات فَصِيحَة وَمَعْنَاهَا التَّوْبِيخ،  وَالْعَرَب تُوَبِّخ بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِغَيْرِ الِاسْتِفْهَام،  وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد تَرْك الِاسْتِفْهَام لِأَنَّهُ قِرَاءَة أَكْثَر أَئِمَّة السَّبْعَة نَافِع وَعَاصِم وَأَبِي عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ،  مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ شَيْبَة وَالزُّهْرِيّ وَابْن مُحَيْصِن وَالْمُغِيرَة بْن أَبِي شِهَاب وَيَحْيَى بْن الْحَارِث وَالْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَغَيْرهمْ،  فَهَذِهِ عَلَيْهَا جِلَّة النَّاس.
وَتَرْك الِاسْتِفْهَام أَحْسَن ; لِأَنَّ إِثْبَاته يُوهِم أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ،  كَمَا تَقُول : أَنَا ظَلَمْتُك ؟ تُرِيد أَنَا لَمْ أَظْلِمك.
وَإِثْبَاته حَسَن أَيْضًا،  يَقُول الْقَائِل : ذَهَبْت فَعَلْت كَذَا،  يُوَبِّخ وَيَقُول : أَذَهَبْت فَعَلْت.
كُلّ ذَلِكَ جَائِز.
وَمَعْنَى " أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ " أَيْ تَمَتَّعْتُمْ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعْتُمْ الشَّهَوَات وَاللَّذَّات،  يَعْنِي الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ " أَيْ أَفْنَيْتُمْ شَبَابكُمْ فِي الْكُفْر وَالْمَعَاصِي.
قَالَ اِبْن بَحْر : الطَّيِّبَات الشَّبَاب وَالْقُوَّة،  مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : ذَهَبَ أَطْيَبَاهُ،  أَيْ شَبَابه وَقُوَّته.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَوَجَدْت الضَّحَّاك قَالَهُ أَيْضًا.
قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر،  رَوَى الْحَسَن عَنْ الْأَحْنَف بْن قَيْس أَنَّهُ سَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : لَأَنَا أَعْلَم بِخَفْضِ الْعَيْش،  وَلَوْ شِئْت لَجَعَلْت أَكْبَادًا وَصِلَاء وَصِنَابًا وَصَلَائِق ; وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي حَسَنَاتِي،  فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " وَقَالَ أَبُو عُبَيْد فِي حَدِيث عُمَر : لَوْ شِئْت لَدَعَوْت بِصَلَائِق وَصِنَاب وَكَرَاكِر وَأَسْنِمَة.
وَفِي بَعْض الْحَدِيث : وَأَفْلَاذ.
قَالَ أَبُو عَمْرو وَغَيْره : الصِّلَاء ( بِالْمَدِّ وَالْكَسْر ) : الشِّوَاء،  سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُصْلَى بِالنَّارِ.
وَالصِّلَاء أَيْضًا : صِلَاء النَّار،  فَإِنْ فَتَحْت الصَّاد قَصَرْت وَقُلْت : صَلَى النَّار.
وَالصِّنَاب : الْأَصْبِغَة الْمُتَّخَذَة مِنْ الْخَرْدَل وَالزَّبِيب.
قَالَ أَبُو عَمْرو : وَلِهَذَا قِيلَ لِلْبِرْذَوْنِ : صِنَابِيّ،  وَإِنَّمَا شُبِّهَ لَوْنه بِذَلِكَ.
قَالَ : وَالسَّلَائِق ( بِالسِّينِ ) هُوَ مَا يُسْلَق مِنْ الْبُقُول وَغَيْرهَا.
وَقَالَ غَيْره : هِيَ الصَّلَائِق بِالصَّادِ،  قَالَ جَرِير :
| تُكَلِّفنِي مَعِيشَة آل زَيْد | وَمَنْ لِي بِالصَّلَائِقِ وَالصِّنَاب | 
وَالصَّلَائِق : الْخُبْز الرِّقَاق الْعَرِيض.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْأَعْرَاف ).
                                                                            
                                                                    وَأَمَّا الْكَرَاكِر فَكَرَاكِر الْإِبِل،  وَاحِدَتهَا كِرْكِرَة وَهِيَ مَعْرُوفَة،  هَذَا قَوْل أَبِي عُبَيْد.
وَفِي الصِّحَاح : وَالْكِرْكِرَة رَحَى زَوْر الْبَعِير،  وَهِيَ إِحْدَى الثَّفِنَات الْخَمْس.
وَالْكِرْكِرَة أَيْضًا الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس.
وَأَبُو مَالِك عَمْرو بْن كِرْكِرَة رَجُل مِنْ عُلَمَاء اللُّغَة.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَأَمَّا الْأَفْلَاذ فَإِنَّ وَاحِدهَا فِلْذ،  وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الْكَبِد.
قَالَ أَعْشَى بَاهِلَة :| تَكْفِيه حُزَّة فِلْذ إِنْ أَلَمَّ بِهَا | مِنْ الشِّوَاء وَيُرْوِي شُرْبه الْغُمَر | 
وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَوْ شِئْت كُنْت أَطْيَبكُمْ طَعَامًا،  وَأَلْيَنكُمْ لِبَاسًا ; وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي لِلْآخِرَةِ.
وَلَمَّا قَدِمَ عُمَر الشَّام صُنِعَ لَهُ طَعَام لَمْ يَرَ قَطُّ مِثْله قَالَ : هَذَا لَنَا ! فَمَا لِفُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَمَا شَبِعُوا مِنْ خُبْز الشَّعِير فَقَالَ خَالِد بْن الْوَلِيد : لَهُمْ الْجَنَّة،  فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَر بِالدُّمُوعِ وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ حَظّنَا مِنْ الدُّنْيَا هَذَا الْحُطَام،  وَذَهَبُوا هُمْ فِي حَظّهمْ بِالْجَنَّةِ فَلَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَشْرُبَته حِين هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ : فَالْتَفَتّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا يَرُدّ الْبَصَر إِلَّا أُهُبًا جُلُودًا مَعْطُونَة قَدْ سَطَعَ رِيحهَا،  فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه،  أَنْتَ رَسُول اللَّه وَخِيرَته،  وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَر فِي الدِّيبَاج وَالْحَرِير ؟ قَالَ : فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ :( أَفِي شَكّ أَنْتَ يَا بْن الْخَطَّاب.
أُولَئِكَ قَوْم عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتهمْ فِي حَيَاتهمْ الدُّنْيَا ) فَقُلْت : اِسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ :( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ ).
وَقَالَ حَفْص بْن أَبِي الْعَاصِ : كُنْت أَتَغَدَّى عِنْد عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْخُبْز وَالزَّيْت،  وَالْخُبْز وَالْخَلّ،  وَالْخُبْز وَاللَّبَن،  وَالْخُبْز وَالْقَدِيد،  وَأَقَلّ ذَلِكَ اللَّحْم الْغَرِيض.
وَكَانَ يَقُول : لَا تَنْخُلُوا الدَّقِيق فَإِنَّهُ طَعَام كُلّه،  فَجِيءَ بِخُبْزٍ مُتَفَلِّع غَلِيظ،  فَجَعَلَ يَأْكُل وَيَقُول : كُلُوا،  فَجَعَلْنَا لَا نَأْكُل،  فَقَالَ : مَا لَكُمْ لَا تَأْكُلُونَ ؟ فَقُلْنَا : وَاَللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ نَرْجِع إِلَى طَعَام أَلْيَن مِنْ طَعَامك هَذَا،  فَقَالَ : يَا بْن أَبِي الْعَاصِ أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِم أَنْ لَوْ أَمَرْت بِعَنَاقٍ سَمِينَة فَيُلْقَى عَنْهَا شَعْرهَا ثُمَّ تُخْرَج مَصْلِيَّة كَأَنَّهَا كَذَا وَكَذَا،  أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِم أَنْ لَوْ أَمَرْت بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ زَبِيب فَأَجْعَلهُ فِي سِقَاء ثُمَّ أَشُنّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاء فَيُصْبِح كَأَنَّهُ دَم غَزَال،  فَقُلْت : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ،  أَجَلْ مَا تَنْعَت الْعَيْش،  قَالَ : أَجَلْ وَاَللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَنْ تَنْقُص حَسَنَاتِي يَوْم الْقِيَامَة لَشَارَكْنَاكُمْ فِي الْعَيْش وَلَكِنِّي سَمِعْت اللَّه تَعَالَى يَقُول لِأَقْوَامٍ :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ".
                                                                            
                                                                    " فَالْيَوْم تُجْزَوْنَ عَذَاب الْهُون " أَيْ الْهَوَان.
" بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْض بِغَيْرِ الْحَقّ " أَيْ تَتَعَظَّمُونَ عَنْ طَاعَة اللَّه وَعَلَى عِبَاد اللَّه.
" وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ " تَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَة اللَّه.
وَقَالَ جَابِر : اِشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا فَاشْتَرَيْته لَهُمْ فَمَرَرْت بِعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِر ؟ فَأَخْبَرْته،  فَقَالَ : أَوَكُلَّمَا اِشْتَهَى أَحَدكُمْ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي بَطْنه أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُون مِنْ أَهْل هَذِهِ الْآيَة :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ " الْآيَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا عِتَاب مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّع بِابْتِيَاعِ اللَّحْم وَالْخُرُوج عَنْ جِلْف الْخُبْز وَالْمَاء،  فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَات مِنْ الْحَلَال تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاع وَتَسْتَمْرِئهَا الْعَادَة فَإِذَا فَقَدَتْهَا اِسْتَسْهَلَتْ فِي تَحْصِيلهَا بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى تَقَع فِي الْحَرَام الْمَحْض بِغَلَبَةِ الْعَادَة وَاسْتِشْرَاه الْهَوَى عَلَى النَّفْس الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ.
فَأَخَذَ عُمَر الْأَمْر مِنْ أَوَّله وَحَمَاهُ مِنْ اِبْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلهُ مِثْله.
وَاَلَّذِي يَضْبِط هَذَا الْبَاب وَيَحْفَظ قَانُونه : عَلَى الْمَرْء أَنْ يَأْكُل مَا وَجَدَ،  طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا،  وَلَا يَتَكَلَّف الطَّيِّب وَيَتَّخِذهُ عَادَة،  وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَع إِذَا وَجَدَ،  وَيَصْبِر إِذَا عَدِمَ،  وَيَأْكُل الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا،  وَيَشْرَب الْعَسَل إِذَا اِتَّفَقَ لَهُ،  وَيَأْكُل اللَّحْم إِذَا تَيَسَّرَ،  وَلَا يَعْتَمِد أَصْلًا،  وَلَا يَجْعَلهُ دَيْدَنًا.
وَمَعِيشَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَة،  وَطَرِيقَة الصَّحَابَة مَنْقُولَة،  فَأَمَّا الْيَوْم عِنْد اِسْتِيلَاء الْحَرَام وَفَسَاد الْحُطَام فَالْخَلَاص عَسِير،  وَاَللَّه يَهَب الْإِخْلَاص،  وَيُعِين عَلَى الْخَلَاص بِرَحْمَتِهِ.
وَقِيلَ : إِنَّ التَّوْبِيخ وَاقِع عَلَى تَرْك الشُّكْر لَا عَلَى تَنَاوُل الطَّيِّبَات الْمُحَلَّلَة،  وَهُوَ حَسَن،  فَإِنَّ تَنَاوُل الطَّيِّب الْحَلَال مَأْذُون فِيهِ،  فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْر عَلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا لَا يَحِلّ لَهُ فَقَدْ أَذْهَبَهُ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
                                                                            
                                                                    فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ
أَيْ عَذَاب الْخِزْي وَالْفَضِيحَة.
قَالَ مُجَاهِد : الْهُون الْهَوَان.
قَتَادَة : بِلُغَةِ قُرَيْش.
                                                                            
                                                                    بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أَيْ تَسْتَعْلُونَ عَلَى أَهْلهَا بِغَيْرِ اِسْتِحْقَاق.
                                                                            
                                                                    وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
فِي أَفْعَالكُمْ بَغْيًا وَظُلْمًا.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ
هُوَ هُود بْن عَبْد اللَّه بْن رَبَاح عَلَيْهِ السَّلَام،  كَانَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَب لَا فِي الدِّين.
                                                                            
                                                                    إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ
أَيْ اُذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قِصَّة عَاد لِيَعْتَبِرُوا بِهَا.
وَقِيلَ : أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَذَكَّر فِي نَفْسه قِصَّة هُود لِيَقْتَدِيَ بِهِ،  وَيُهَوِّن عَلَيْهِ تَكْذِيب قَوْمه لَهُ.
وَالْأَحْقَاف : دِيَار عَاد.
وَهِيَ الرِّمَال الْعِظَام،  فِي قَوْل الْخَلِيل وَغَيْره.
وَكَانُوا قَهَرُوا أَهْل الْأَرْض بِفَضْلِ قُوَّتهمْ.
وَالْأَحْقَاف جَمْع حِقْف،  وَهُوَ مَا اِسْتَطَالَ مِنْ الرَّمْل الْعَظِيم وَاعْوَجَّ وَلَمْ يَبْلُغ أَنْ يَكُون جَبَلًا،  وَالْجَمْع حِقَاف وَأَحْقَاف وَحُقُوف.
وَاحْقَوْقَفَ الرَّمْل وَالْهِلَال أَيْ اِعْوَجَّ.
وَقِيلَ : الْحِقْف جَمَعَ حِقَاف.
وَالْأَحْقَاف جَمْع الْجَمْع.
وَيُقَال : حِقْف أَحْقَف.
قَالَ الْأَعْشَى :
بَاتَ إِلَى أَرْطَاة حِقْف أَحْقَفَا
أَيْ رَمْل مُسْتَطِيل مُشْرِف.
وَالْفِعْل مِنْهُ اِحْقَوْقَفَ.
قَالَ الْعَجَّاج :| طَيّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفًا | سَمَاوَة الْهِلَال حَتَّى اِحْقَوْقَفَا | 
أَيْ اِنْحَنَى وَاسْتَدَارَ.
وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :| كَحِقْفِ النَّقَا يَمْشِي الْوَلِيدَانِ فَوْقه | بِمَا اِحْتَسَبَا مِنْ لِين مَسّ وَتَسْهَال | 
وَفِيمَا أُرِيدَ بِالْأَحْقَافِ هَاهُنَا مُخْتَلَف فِيهِ.
فَقَالَ اِبْن زَيْد : هِيَ رِمَال مُشْرِفَة مُسْتَطِيلَة كَهَيْئَةِ الْجِبَال،  وَلَمْ تَبْلُغ أَنْ تَكُون جِبَالًا،  وَشَاهِده مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ جِبَال مُشْرِفَة بِالشِّحْر،  وَالشِّحْر قَرِيب مِنْ عَدَن،  يُقَال : شِحْر عُمَان وَشِحْر عَمَّان،  وَهُوَ سَاحِل الْبَحْر بَيْن عُمَان وَعَدَن.
وَعَنْهُ أَيْضًا : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا أَحْيَاء بِالْيَمَنِ،  أَهْل رَمْل مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْر بِأَرْضٍ يُقَال لَهَا : الشِّحْر.
وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ أَرْض مِنْ حِسْمَى تُسَمَّى بِالْأَحْقَافِ.
وَحِسْمَى ( بِكَسْرِ الْحَاء ) اِسْم أَرْض بِالْبَادِيَةِ فِيهَا جِبَال شَوَاهِق مُلْس الْجَوَانِب لَا يَكَاد الْقَتَام يُفَارِقهَا.
قَالَ النَّابِغَة :| فَأَصْبَحَ عَاقِلًا بِجِبَالِ حِسْمَى | دُقَاق التُّرْب مُحْتَزِم الْقَتَام | 
قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : الْأَحْقَاف جَبَل بِالشَّامِ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : وَادٍ بَيْن عُمَان وَمَهْرَة.
وَقَالَ مُقَاتِل : كَانَتْ مَنَازِل عَاد بِالْيَمَنِ فِي حَضْرَمَوْت بِوَادٍ يُقَال لَهُ مَهْرَة،  وَإِلَيْهِ تُنْسَب الْإِبِل الْمَهْرِيَّة،  فَيُقَال : إِبِل مَهْرِيَّة وَمَهَارِيّ.
وَكَانُوا أَهْل عُمُد سَيَّارَة فِي الرَّبِيع فَإِذَا هَاجَ الْعُود رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهمْ،  وَكَانُوا مِنْ قَبِيلَة إِرَم.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَحْقَاف الْجَبَل مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاء زَمَان الْغَرَق،  كَانَ يَنْضُب الْمَاء مِنْ الْأَرْض وَيَبْقَى أَثَره.
وَرَوَى الطُّفَيْل عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : خَيْر وَادِيَيْنِ فِي النَّاس وَادٍ بِمَكَّة وَوَادٍ نَزَلَ بِهِ آدَم بِأَرْضِ الْهِنْد.
وَشَرّ وَادِيَيْنِ فِي النَّاس وَادٍ بِالْأَحْقَافِ وَوَادٍ بِحَضْرَمَوْت يُدْعَى بَرَهُوت تُلْقَى فِيهِ أَرْوَاح الْكُفَّار.
وَخَيْر بِئْر فِي النَّاس بِئْر زَمْزَم.
وَشَرّ بِئْر فِي النَّاس بِئْر بَرَهُوت،  وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الَّذِي بِحَضْرَمَوْت.
                                                                            
                                                                    وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ
أَيْ مَضَتْ الرُّسُل.
                                                                            
                                                                    مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
أَيْ مِنْ قَبْل هُود.
                                                                            
                                                                    وَمِنْ خَلْفِهِ
أَيْ وَمِنْ بَعْده،  قَالَهُ الْفَرَّاء.
وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْده ".
                                                                            
                                                                    أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
هَذَا مِنْ قَوْل الْمُرْسَل،  فَهُوَ كَلَام مُعْتَرِض.
                                                                            
                                                                    إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
فَقَالَ هُود :" إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم عَظِيم " وَقِيلَ :" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه " مِنْ كَلَام هُود،  وَاَللَّه أَعْلَم.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
قَالَ الْمُبَرِّد : الضَّمِير فِي " رَأَوْهُ " يَعُود إِلَى غَيْر مَذْكُور،  وَبَيَّنَهُ قَوْله :" عَارِضًا " فَالضَّمِير يَعُود إِلَى السَّحَاب،  أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا السَّحَاب عَارِضًا.
فَ " عَارِضًا " نُصِبَ عَلَى التَّكْرِير،  سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي عَرْض السَّمَاء.
وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْحَال.
وَقِيلَ : يَرْجِع الضَّمِير إِلَى قَوْله :" فَأْتِنَا بِمَا تَعِدنَا " فَلَمَّا رَأَوْهُ حَسِبُوهُ سَحَابًا يُمْطِرهُمْ،  وَكَانَ الْمَطَر قَدْ أَبْطَأَ عَنْهُمْ،  فَلَمَّا رَأَوْهُ " مُسْتَقْبِل أَوْدِيَتهمْ " اِسْتَبْشَرُوا.
وَكَانَ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ وَادٍ جَرَتْ الْعَادَة أَنَّ مَا جَاءَ مِنْهُ يَكُون غَيْثًا،  قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
                                                                            
                                                                    قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْعَارِض السَّحَاب يَعْتَرِض فِي الْأُفُق،  وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" هَذَا عَارِض مُمْطِرنَا " أَيْ مُمْطِر لَنَا ; لِأَنَّهُ مَعْرِفَة لَا يَجُوز أَنْ يَكُون صِفَة لِعَارِضٍ وَهُوَ نَكِرَة.
وَالْعَرَب إِنَّمَا تَفْعَل مِثْل هَذَا فِي الْأَسْمَاء الْمُشْتَقَّة مِنْ الْأَفْعَال دُون غَيْرهَا.
قَالَ جَرِير :| يَا رُبَّ غَابِطنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبكُمْ | لَاقَى مُبَاعَدَة مِنْكُمْ وَحِرْمَانًا | 
وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال : هَذَا رَجُل غُلَامنَا.
وَقَالَ أَعْرَابِيّ بَعْد الْفِطْر : رُبَّ صَائِمَة لَنْ تَصُومهُ،  وَقَائِمَة لَنْ تَقُومهُ،  فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِلنَّكِرَةِ وَأَضَافَهُ إِلَى الْمَعْرِفَة.
قُلْت : قَوْله :( لَا يَجُوز أَنْ يَكُون صِفَة لِعَارِضٍ ) خِلَاف قَوْل النَّحْوِيِّينَ،  وَالْإِضَافَة فِي تَقْدِير الِانْفِصَال،  فَهِيَ إِضَافَة لَفْظِيَّة لَا حَقِيقِيَّة ; لِأَنَّهَا لَمْ تَفِد الْأَوَّل تَعْرِيفًا،  بَلْ الِاسْم نَكِرَة عَلَى حَاله،  فَلِذَلِكَ جَرَى نَعْتًا عَلَى النَّكِرَة.
هَذَا قَوْل النَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَة وَالْبَيْت.
وَنَعْت النَّكِرَة نَكِرَة.
وَ " رُبَّ " لَا تَدْخُل إِلَّا عَلَى النَّكِرَة.
                                                                            
                                                                    بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
أَيْ قَالَ هُود لَهُمْ.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " قَالَ هُود بَلْ هُوَ " وَقُرِئَ " قُلْ بَلْ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيح " أَيْ قَالَ اللَّه : قُلْ بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ،  وَيَعْنِي قَوْلهمْ :" فَأْتِنَا بِمَا تَعِدنَا "
                                                                            
                                                                    رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَالرِّيح الَّتِي عُذِّبُوا بِهَا نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ السَّحَاب الَّذِي رَأَوْهُ،  وَخَرَجَ هُود مِنْ بَيْن أَظْهُرهمْ،  فَجَعَلَتْ تَحْمِل الْفَسَاطِيط وَتَحْمِل الظَّعِينَة فَتَرْفَعهَا كَأَنَّهَا جَرَادَة،  ثُمَّ تَضْرِب بِهَا الصُّخُور.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَوَّل مَا رَأَوْا الْعَارِض قَامُوا فَمَدُّوا أَيْدِيهمْ،  فَأَوَّل مَا عَرَفُوا أَنَّهُ عَذَاب رَأَوْا مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ دِيَارهمْ مِنْ الرِّجَال وَالْمَوَاشِي تَطِير بِهِمْ الرِّيح مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض مِثْل الرِّيش،  فَدَخَلُوا بُيُوتهمْ وَأَغْلَقُوا أَبْوَابهمْ،  فَقَلَعَتْ الرِّيح الْأَبْوَاب وَصَرَعَتْهُمْ،  وَأَمَرَ اللَّه الرِّيح فَأَمَالَتْ عَلَيْهِمْ الرِّمَال،  فَكَانُوا تَحْت الرِّمَال سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام حُسُومًا،  وَلَهُمْ أَنِين،  ثُمَّ أَمَرَ اللَّه الرِّيح فَكَشَفَ عَنْهُمْ الرِّمَال وَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْهُمْ فِي الْبَحْر،  فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا :" تُدَمِّر كُلّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا " أَيْ كُلّ شَيْء مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ رِجَال عَاد وَأَمْوَالهَا.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ كُلّ شَيْء بُعِثَتْ إِلَيْهِ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
وَالتَّدْمِير : الْهَلَاك.
وَكَذَلِكَ الدَّمَار.
وَقُرِئَ " يَدْمُر كُلّ شَيْء " مِنْ دَمَرَ دَمَارًا.
يُقَال : دَمَّرَهُ تَدْمِيرًا وَدَمَارًا وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى.
وَدَمَرَ يَدْمُر دُمُورًا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْن.
وَفِي الْحَدِيث :[ مَنْ سَبَقَ طَرْفه اِسْتِئْذَانه فَقَدْ دَمَرَ ] مُخَفَّف الْمِيم.
وَتَدْمُر : بَلَد بِالشَّامِ.
وَيَرْبُوع تُدْمُرِيّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا قَصِيرًا.
" بِأَمْرِ رَبّهَا " بِإِذْنِ رَبّهَا.
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : مَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاته إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّم.
قَالَتْ : وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهه.
قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه،  النَّاس إِذَا رَأَوْا الْغَيْم فَرِحُوا رَجَاء أَنْ يَكُون فِيهِ الْمَطَر،  وَأَرَاك إِذَا رَأَيْته عُرِفَ فِي وَجْهك الْكَرَاهِيَة ؟ فَقَالَ :[ يَا عَائِشَة مَا يُؤَمِّننِي أَنْ يَكُون فِيهِ عَذَاب عُذِّبَ قَوْم بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْم الْعَذَاب فَقَالُوا هَذَا عَارِض مُمْطِرنَا ] خَرَّجَهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ،  وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :[ نُصِرْت بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَاد بِالدَّبُورِ ].
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْقَائِل " هَذَا عَارِض مُمْطِرنَا " مِنْ قَوْم عَاد : بَكْر بْن مُعَاوِيَة،  وَلَمَّا رَأَى السَّحَاب قَالَ : إِنِّي لَأَرَى سَحَابًا مُرَمَّدًا،  لَا تَدَع مِنْ عَاد أَحَدًا.
فَذَكَرَ عَمْرو بْن مَيْمُون أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِمْ بِالرَّجُلِ الْغَائِب حَتَّى تَقْذِفهُ فِي نَادِيهمْ.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَاعْتَزَلَ هُود وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَة،  مَا يُصِيبهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُلِين أَعْلَى ثِيَابهمْ.
وَتَلْتَذّ الْأَنْفُس بِهِ،  وَإِنَّهَا لَتَمُرّ مِنْ عَاد بِالظَّعْنِ بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض وَتَدْمَغهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَلَكُوا.
وَحَكَى الْكَلْبِيّ أَنَّ شَاعِرهمْ قَالَ فِي ذَلِكَ :
| فَدَعَا هُود عَلَيْهِمْ | دَعْوَة أَضْحَوْا هُمُودًا | 
| عَصَفَتْ رِيح عَلَيْهِمْ | تَرَكَتْ عَادًا خُمُودًا | 
| سُخِّرَتْ سَبْع لَيَالٍ | لَمْ تَدَع فِي الْأَرْض عُودًا | 
وَعَمَّرَ هُود فِي قَوْمه بَعْدهمْ مِائَة وَخَمْسِينَ سَنَة.
                                                                            
                                                                    فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة " لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنهمْ " بِالْيَاءِ غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل.
وَكَذَلِكَ رَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ اِبْن كَثِير إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ " تُرَى " بِالتَّاءِ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم.
الْبَاقُونَ " تَرَى " بِتَاءٍ مَفْتُوحَة.
" مَسَاكِنهمْ " بِالنَّصْبِ،  أَيْ لَا تَرَى يَا مُحَمَّد إِلَّا مَسَاكِنهمْ.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل فَعَلَى لَفْظ الظَّاهِر الَّذِي هُوَ الْمَسَاكِن الْمُؤَنَّثَة،  وَهُوَ قَلِيل لَا يُسْتَعْمَل إِلَّا فِي الشِّعْر.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَا يَسْتَقِيم هَذَا فِي اللُّغَة إِلَّا أَنْ يَكُون فِيهَا إِضْمَار،  كَمَا تَقُول فِي الْكَلَام أَلَا تُرَى النِّسَاء إِلَّا زَيْنَب.
وَلَا يَجُوز لَا تُرَى إِلَّا زَيْنَب.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ : مَعْنَاهُ لَا تَرَى أَشْخَاصهمْ إِلَّا مَسَاكِنهمْ.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم قِرَاءَة عَاصِم وَحَمْزَة.
قَالَ الْكِسَائِيّ : مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْء إِلَّا مَسَاكِنهمْ،  فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى،  كَمَا تَقُول : مَا قَامَ إِلَّا هِنْد،  وَالْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَد إِلَّا هِنْد.
وَقَالَ الْفَرَّاء : لَا يُرَى النَّاس لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْت الرَّمْل،  وَإِنَّمَا تُرَى مَسَاكِنهمْ لِأَنَّهَا قَائِمَة.
                                                                            
                                                                    كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
أَيْ مِثْل هَذِهِ الْعُقُوبَة نُعَاقِب بِهَا الْمُشْرِكِينَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً
" لَوْلَا " بِمَعْنَى هَلَّا،  أَيْ هَلَّا نَصَرَهُمْ آلِهَتهمْ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا بِزَعْمِهِمْ إِلَى اللَّه لِتَشْفَع لَهُمْ حَيْثُ قَالُوا :" هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه " [ يُونُس : ١٨ ] وَمَنَعَتْهُمْ مِنْ الْهَلَاك الْوَاقِع بِهِمْ.
قَالَ الْكِسَائِيّ : الْقُرْبَان كُلّ مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ طَاعَة وَنَسِيكَة،  وَالْجَمْع قَرَابِين،  كَالرُّهْبَانِ وَالرَّهَابِين.
وَأَحَد مَفْعُولَيْ اِتَّخَذَ الرَّاجِع إِلَى الَّذِينَ الْمَحْذُوف،  وَالثَّانِي " آلِهَة ".
وَ " قُرْبَانًا " حَال،  وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون " قُرْبَانًا " مَفْعُولًا ثَانِيًا.
وَ " آلِهَة " بَدَل مِنْهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى،  قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ.
وَقُرِئَ " قُرُبَانًا " بِضَمِّ الرَّاء.
                                                                            
                                                                    بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ
أَيْ هَلَكُوا عَنْهُمْ.
وَقِيلَ :" بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ " أَيْ ضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتهمْ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَهُمْ،  إِذْ هِيَ جَمَاد.
وَقِيلَ :" ضَلُّوا عَنْهُمْ "،  أَيْ تَرَكُوا الْأَصْنَام وَتَبَرَّءُوا مِنْهَا.
                                                                            
                                                                    وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ
أَيْ وَالْآلِهَة الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهُمْ هِيَ إِفْكهمْ فِي قَوْلهمْ : إِنَّهَا تُقَرِّبهُمْ إِلَى اللَّه زُلْفَى.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " إِفْكهمْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَسُكُون الْفَاء،  أَيْ كَذِبهمْ.
وَالْإِفْك : الْكَذِب،  وَكَذَلِكَ الْأَفِيكَة،  وَالْجَمْع الْأَفَائِك.
وَرَجُل أَفَّاك أَيْ كَذَّاب.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَابْن الزُّبَيْر " وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْفَاء وَالْكَاف،  عَلَى الْفِعْل،  أَيْ ذَلِكَ الْقَوْل صَرَفَهُمْ عَنْ التَّوْحِيد.
وَالْأَفْك " بِالْفَتْحِ " مَصْدَر قَوْلك : أَفَكَهُ يَأْفِكهُ أَفْكًا،  أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنْ الشَّيْء.
وَقَرَأَ عِكْرِمَة " أَفَّكَهُمْ " بِتَشْدِيدِ الْفَاء عَلَى التَّأْكِيد وَالتَّكْثِير.
قَالَ أَبُو حَاتِم : يَعْنِي قَلَبَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النَّعِيم.
وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا " آفِكهُمْ " بِالْمَدِّ وَكَسْر الْفَاء،  بِمَعْنَى صَارِفهمْ.
وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ " آفَكَهُمْ " بِالْمَدِّ،  فَجَازَ أَنْ يَكُون أَفْعَلَهُمْ،  أَيْ أَصَارَهُمْ إِلَى الْإِفْك.
وَجَازَ أَنْ يَكُون فَاعَلَهُمْ كَخَادَعَهُمْ.
وَدَلِيل قِرَاءَة الْعَامَّة " إِفْكهمْ "
                                                                            
                                                                    وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
أَيْ يَكْذِبُونَ.
وَقِيلَ " أَفْكهمْ " مِثْل " أَفَكَهُمْ ".
الْإِفْك وَالْأَفَك كَالْحِذْرِ وَالْحَذَر،  قَالَهُ الْمَهْدَوِيّ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
الْقُرْآن " هَذَا تَوْبِيخ لِمُشْرِكِي قُرَيْش،  أَيْ إِنَّ الْجِنّ سَمِعُوا الْقُرْآن فَآمَنُوا بِهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْر.
وَمَعْنَى :" صَرَفْنَا " وَجَّهْنَا إِلَيْك وَبَعَثْنَا.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صُرِفُوا عَنْ اِسْتِرَاق السَّمْع مِنْ السَّمَاء بِرُجُومِ الشُّهُب - عَلَى مَا يَأْتِي - وَلَمْ يَكُونُوا بَعْد عِيسَى قَدْ صُرِفُوا عَنْهُ إِلَّا عِنْد مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَغَيْرهمْ : لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِب خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده إِلَى الطَّائِف يَلْتَمِس مِنْ ثَقِيف النُّصْرَة فَقَصَدَ عَبْد يَالِيل وَمَسْعُودًا وَحَبِيبًا وَهُمْ إِخْوَة - بَنُو عَمْرو بْن عُمَيْر - وَعِنْدهمْ اِمْرَأَة مِنْ قُرَيْش مِنْ بَنِي جُمَح،  فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَان وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمه فَقَالَ أَحَدهمْ : هُوَ يَمْرُط ثِيَاب الْكَعْبَة إِنْ كَانَ اللَّه أَرْسَلَك وَقَالَ الْآخَر : مَا وَجَدَ اللَّه أَحَدًا يُرْسِلهُ غَيْرك وَقَالَ الثَّالِث : وَاَللَّه لَا أُكَلِّمك كَلِمَة أَبَدًا،  إِنْ كَانَ اللَّه أَرْسَلَك كَمَا تَقُول فَأَنْتَ أَعْظَم خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَام،  وَإِنْ كُنْت تَكْذِب فَمَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمك.
ثُمَّ أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدهمْ يَسُبُّونَهُ وَيَضْحَكُونَ بِهِ،  حَتَّى اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاس وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِط لِعُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَيْ رَبِيعَة.
فَقَالَ لِلْجُمَحِيَّة :[ مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِك ] ؟ ثُمَّ قَالَ :[ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ضَعْف قُوَّتِي وَقِلَّة حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاس،  يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ،  أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ،  وَأَنْتَ رَبِّي،  لِمَنْ تَكِلنِي إِلَى عَبْد يَتَجَهَّمنِي،  أَوْ إِلَى عَدُوّ مَلَّكْته أَمْرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَب عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي،  وَلَكِنْ عَافِيَتك هِيَ أَوْسَع لِي،  أَعُوذ بِنُورِ وَجْهك مِنْ أَنْ يَنْزِل بِي غَضَبك،  أَوْ يَحِلّ عَلَيَّ سَخَطك،  لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى،  وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِك ].
فَرَحِمَهُ اِبْنَا رَبِيعَة وَقَالَا لِغُلَامٍ لَهُمَا نَصْرَانِيّ يُقَال لَهُ عَدَّاس : خُذْ قِطْفًا مِنْ الْعِنَب وَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَق ثُمَّ ضَعْهُ بَيْن يَدَيْ هَذَا الرَّجُل،  فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْن يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بِاسْمِ اللَّه ) ثُمَّ أَكَلَ،  فَنَظَرَ عَدَّاس إِلَى وَجْهه ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّه إِنَّ هَذَا الْكَلَام مَا يَقُولهُ أَهْل هَذِهِ الْبَلْدَة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ مِنْ أَيّ الْبِلَاد أَنْتَ يَا عَدَّاس وَمَا دِينك ] قَالَ : أَنَا نَصْرَانِيّ مِنْ أَهْل نِينَوَى.
                                                                            
                                                                    فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ أَمِنْ قَرْيَة الرَّجُل الصَّالِح يُونُس بْن مَتَّى ] ؟ فَقَالَ : وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُس بْن مَتَّى ؟ قَالَ :[ ذَاكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيّ ] فَانْكَبَّ عَدَّاس حَتَّى قَبَّلَ رَأْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ اِبْنَا رَبِيعَة : لِمَ فَعَلْت هَكَذَا ؟ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي مَا فِي الْأَرْض خَيْر مِنْ هَذَا،  أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمهُ إِلَّا نَبِيّ.
ثُمَّ اِنْصَرَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين يَئِسَ مِنْ خَيْر ثَقِيف،  حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَطْنِ نَخْلَة قَامَ مِنْ اللَّيْل يُصَلِّي فَمَرَّ بِهِ نَفَر مِنْ جِنّ أَهْل نَصِيبِين.
وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ أَنَّ الْجِنّ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْع،  فَلَمَّا حُرِسَتْ السَّمَاء وَرُمُوا بِالشُّهُبِ قَالَ إِبْلِيس : إِنَّ هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاء لَشَيْء حَدَثَ فِي الْأَرْض،  فَبَعَثَ سَرَايَاهُ لِيَعْرِف الْخَبَر،  أَوَّلهمْ رَكِبَ نَصِيبِين وَهُمْ أَشْرَاف الْجِنّ إِلَى تِهَامَة،  فَلَمَّا بَلَغُوا بَطْن نَخْلَة سَمِعُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاة الْغَدَاة بِبَطْنِ نَخْلَة وَيَتْلُو الْقُرْآن،  فَاسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا : أَنْصِتُوا.
وَقَالَتْ طَائِفَة : بَلْ أُمِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِر الْجِنّ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن،  فَصَرَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنّ مِنْ نِينَوَى وَجَمَعَهُمْ لَهُ،  فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِنِّي أُرِيد أَنْ أَقْرَأ الْقُرْآن عَلَى الْجِنّ اللَّيْلَة فَأَيّكُمْ يَتَّبِعنِي ] ؟ فَأَطْرَقُوا،  ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَة فَأَطْرَقُوا،  ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَة فَأَطْرَقُوا،  فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَنَا يَا رَسُول اللَّه،  قَالَ اِبْن مَسْعُود : وَلَمْ يَحْضُر مَعَهُ أَحَد غَيْرِي،  فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّة دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَال لَهُ ( شِعْب الْحَجُون ) وَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِس فِيهِ وَقَالَ :[ لَا تَخْرُج مِنْهُ حَتَّى أَعُود إِلَيْك ].
ثُمَّ اِنْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآن،  فَجَعَلْت أَرَى أَمْثَال النُّسُور تَهْوِي وَتَمْشِي فِي رَفْرَفهَا،  وَسَمِعْت لَغَطًا وَغَمْغَمَة حَتَّى خِفْت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَة كَثِيرَة حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنه حَتَّى مَا أَسْمَع صَوْته،  ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْل قِطَع السَّحَاب ذَاهِبِينَ،  فَفَرَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْر فَقَالَ :[ أَنِمْت ] ؟ قُلْت : لَا وَاَللَّه،  وَلَقَدْ هَمَمْت مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيث بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُك تَقْرَعهُمْ بِعَصَاك تَقُول اِجْلِسُوا،  فَقَالَ :[ لَوْ خَرَجْت لَمْ آمَن عَلَيْك أَنْ يَخْطَفك بَعْضهمْ ] ثُمَّ قَالَ :[ هَلْ رَأَيْت شَيْئًا ] ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه،  رَأَيْت رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي ثِيَابًا بِيضًا،  فَقَالَ :[ أُولَئِكَ جِنّ نَصِيبِين سَأَلُونِي الْمَتَاع وَالزَّاد فَمَتَّعْتهمْ بِكُلِّ عَظْم حَائِل وَرَوْثَة وَبَعْرَة ].
                                                                            
                                                                    فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه يَقْذَرهَا النَّاس عَلَيْنَا.
فَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالرَّوْث.
قُلْت : يَا نَبِيّ اللَّه،  وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ قَالَ :[ إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمه يَوْم أُكِلَ،  وَلَا رَوْثَة إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبّهَا يَوْم أُكِلَ ] فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه،  لَقَدْ سَمِعْت لَغَطًا شَدِيدًا ؟ فَقَالَ :[ إِنَّ الْجِنّ تَدَارَأَتْ فِي قَتِيل بَيْنهمْ فَتَحَاكَمُوا إِلَيَّ فَقَضَيْت بَيْنهمْ بِالْحَقِّ ].
ثُمَّ تَبَرَّزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ :[ هَلْ مَعَك مَاء ] ؟ فَقُلْت يَا نَبِيّ اللَّه،  مَعِي إِدَاوَة فِيهَا شَيْء مِنْ نَبِيذ التَّمْر فَصَبَبْت عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ :[ تَمْرَة طَيِّبَة وَمَاء طَهُور ].
رَوَى مَعْنَاهُ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة وَشُعْبَة أَيْضًا عَنْ اِبْن مَسْعُود.
وَلَيْسَ فِي حَدِيث مَعْمَر ذِكْر نَبِيذ التَّمْر.
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَنَّ اِبْن مَسْعُود أَبْصَرَ زُطًّا فَقَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الزُّطّ.
قَالَ : مَا رَأَيْت شَبَههمْ إِلَّا الْجِنّ لَيْلَة الْجِنّ فَكَانُوا مُسْتَفِزِّينَ يَتْبَع بَعْضهمْ بَعْضًا.
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن لَهِيعَة حَدَّثَنِي قَيْس بْن الْحَجَّاج عَنْ حَنَش عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ وَضَّأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْجِنّ بِنَبِيذٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ وَقَالَ :[ شَرَاب وَطَهُور ].
اِبْن لَهِيعَة لَا يُحْتَجّ بِهِ.
وَبِهَذَا السَّنَد عَنْ اِبْن مَسْعُود : أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْجِنّ،  فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ أَمَعَك مَاء يَا بْن مَسْعُود ] ؟ فَقَالَ : مَعِي نَبِيذ فِي إِدَاوَة،  فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ صُبَّ عَلَيَّ مِنْهُ ].
فَتَوَضَّأَ وَقَالَ :[ هُوَ شَرَاب وَطَهُور ] تَفَرَّدَ بِهِ اِبْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف الْحَدِيث.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : وَقِيلَ إِنَّ اِبْن مَسْعُود لَمْ يَشْهَد مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْجِنّ.
كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلْقَمَة بْن قَيْس وَأَبُو عُبَيْدَة بْن عَبْد اللَّه وَغَيْرهمَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا شَهِدْت لَيْلَة الْجِنّ.
حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن صَاعِد حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَث حَدَّثَنَا بِشْر بْن الْمُفَضَّل حَدَّثَنَا دَاوُد بْن أَبِي هِنْد عَنْ عَامِر عَنْ عَلْقَمَة بْن قَيْس قَالَ قُلْت لِعَبْدِ اللَّه بْن مَسْعُود : أَشَهِدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَد مِنْكُمْ لَيْلَة أَتَاهُ دَاعِي الْجِنّ ؟ قَالَ لَا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : هَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَا يُخْتَلَف فِي عَدَالَة رَاوِيه.
وَعَنْ عَمْرو بْن مُرَّة قَالَ قُلْت لِأَبِي عُبَيْدَة : حَضَرَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود لَيْلَة الْجِنّ ؟ فَقَالَ لَا.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ الْجِنّ سَبْعَة نَفَر مِنْ جِنّ نَصِيبِين فَجَعَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمهمْ.
وَقَالَ زِرّ بْن حُبَيْش : كَانُوا تِسْعَة أَحَدهمْ زَوْبَعَة.
                                                                            
                                                                    وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُمْ مِنْ أَهْل نِينَوَى.
وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ أَهْل حَرَّان.
وَقَالَ عِكْرِمَة : مِنْ جَزِيرَة الْمَوْصِل.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَة،  ثَلَاثَة مِنْ أَهْل نَجْرَان وَأَرْبَعَة مِنْ أَهْل نَصِيبِين.
وَرَوَى اِبْن أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيث وَذَكَرَ فِيهِ نَصِيبِين فَقَالَ :[ رُفِعَتْ إِلَيَّ حَتَّى رَأَيْتهَا فَدَعَوْت اللَّه أَنْ يُكْثِر مَطَرهَا وَيُنْضِر شَجَرهَا وَأَنْ يَغْزُو نَهَرهَا ].
وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : وَيُقَال كَانُوا سَبْعَة،  وَكَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا،  وَلِذَلِكَ قَالُوا :" أُنْزِلَ مِنْ بَعْد مُوسَى ".
وَقِيلَ فِي أَسْمَائِهِمْ : شاصر وماصر ومنشى وماشي وَالْأَحْقَب،  ذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة اِبْن دُرَيْد.
وَمِنْهُمْ عَمْرو بْن جَابِر،  ذَكَرَهُ اِبْن سَلَّام مِنْ طَرِيق أَبِي إِسْحَاق السَّبِيعِيّ عَنْ أَشْيَاخه عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ كَانَ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إِعْصَار ثُمَّ جَاءَ إِعْصَار أَعْظَم مِنْهُ فَإِذَا حَيَّة قَتِيل،  فَعَمَدَ رَجُل مِنَّا إِلَى رِدَائِهِ فَشَقَّهُ وَكَفَّنَ الْحَيَّة بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا،  فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْل إِذَا اِمْرَأَتَانِ تَسْأَلَانِ : أَيّكُمْ دَفَنَ عَمْرو بْن جَابِر ؟ فَقُلْنَا : مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرو بْن جَابِر فَقَالَتَا : إِنْ كُنْتُمْ اِبْتَغَيْتُمْ الْأَجْر فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ،  إِنَّ فَسَقَة الْجِنّ اِقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقُتِلَ عَمْرو،  وَهُوَ الْحَيَّة الَّتِي رَأَيْتُمْ،  وَهُوَ مِنْ النَّفَر الَّذِينَ اِسْتَمَعُوا الْقُرْآن مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمهمْ مُنْذِرِينَ.
وَذَكَرَ اِبْن سَلَّام رِوَايَة أُخْرَى : أَنَّ الَّذِي كَفَّنَهُ هُوَ صَفْوَان بْن الْمُعَطَّل.
قُلْت : وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَر الثَّعْلَبِيّ بِنَحْوِهِ فَقَالَ : وَقَالَ ثَابِت بْن قُطْبَة جَاءَ أُنَاس إِلَى اِبْن مَسْعُود فَقَالُوا : إِنَّا كُنَّا فِي سَفَر فَرَأَيْنَا حَيَّة مُتَشَحِّطَة فِي دِمَائِهَا،  فَأَخَذَهَا رَجُل مِنَّا فَوَارَيْنَاهَا،  فَجَاءَ أُنَاس فَقَالُوا : أَيّكُمْ دَفَنَ عَمْرًا ؟ قُلْنَا وَمَا عَمْرو ؟ قَالُوا الْحَيَّة الَّتِي دَفَنْتُمْ فِي مَكَان كَذَا،  أَمَا إِنَّهُ كَانَ مِنْ النَّفَر الَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآن مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْن حَيَّيْنِ مِنْ الْجِنّ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ قِتَال فَقُتِلَ.
فَفِي هَذَا الْخَبَر أَنَّ اِبْن مَسْعُود لَمْ يَكُنْ فِي سَفَر وَلَا حَضَرَ الدَّفْن،  وَاَللَّه أَعْلَم.
وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُل مِنْ التَّابِعِينَ سَمَّاهُ : أَنَّ حَيَّة دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي خِبَائِهِ تَلْهَث عَطَشًا فَسَقَاهَا ثُمَّ أَنَّهَا مَاتَتْ فَدَفَنَهَا،  فَأُتِيَ مِنْ اللَّيْل فَسُلِّمَ عَلَيْهِ وَشُكِرَ،  وَأُخْبِرَ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَّة كَانَتْ رَجُلًا عَنْ جِنّ نَصِيبِين اِسْمه زَوْبَعَة.
                                                                            
                                                                    قَالَ السُّهَيْلِيّ : وَبَلَغَنَا فِي فَضَائِل عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِمَّا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْر بْن طَاهِر الْأَشْبِيلِيّ أَنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز كَانَ يَمْشِي بِأَرْضٍ فَلَاة،  فَإِذَا حَيَّة مَيِّتَة فَكَفَّنَهَا بِفَضْلَةٍ مِنْ رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا،  فَإِذَا قَائِل يَقُول : يَا سُرَّق،  أَشْهَد لَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :[ سَتَمُوتُ بِأَرْضٍ فَلَاة فَيُكَفِّنك رَجُل صَالِح ].
فَقَالَ : وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمك اللَّه ؟ فَقَالَ : رَجُل مِنْ الْجِنّ الَّذِينَ اِسْتَمَعُوا الْقُرْآن مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَا وَسُرَّق،  وَهَذَا سُرَّق قَدْ مَاتَ.
وَقَدْ قَتَلَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا حَيَّة رَأَتْهَا فِي حُجْرَتهَا تَسْتَمِع وَعَائِشَة تَقْرَأ،  فَأُتِيَتْ فِي الْمَنَام فَقِيلَ لَهَا : إِنَّك قَتَلْت رَجُلًا مُؤْمِنًا مِنْ الْجِنّ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  فَقَالَتْ : لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا دَخَلَ عَلَى حَرَم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  فَقِيلَ لَهَا : مَا دَخَلَ عَلَيْك إِلَّا وَأَنْتِ مُتَقَنِّعَة،  وَمَا جَاءَ إِلَّا لِيَسْتَمِع الذِّكْر.
فَأَصْبَحَتْ عَائِشَة فَزِعَة،  وَاشْتَرَتْ رِقَابًا فَأَعْتَقَتْهُمْ.
قَالَ السُّهَيْلِيّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاء هَؤُلَاءِ الْجِنّ مَا حَضَرَنَا،  فَإِنْ كَانُوا سَبْعَة فَالْأَحْقَب مِنْهُمْ وَصْف لِأَحَدِهِمْ،  وَلَيْسَ بِاسْمِ عَلَم،  فَإِنَّ الْأَسْمَاء الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا ثَمَانِيَة بِالْأَحْقَبِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه : هامة بْن الهيم بْن الْأَقْيَس بْن إِبْلِيس،  قِيلَ : إِنَّهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنّ وَمِمَّنْ لَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهُ سُورَة " إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَة " [ الْوَاقِعَة : ١ ] وَ " الْمُرْسَلَات " [ الْمُرْسَلَات : ١ ] وَ " عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ " [ النَّبَأ : ١ ] وَ " إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ " [ التَّكْوِير : ١ ] وَ " الْحَمْد " [ الْفَاتِحَة : ١ ] وَ " الْمُعَوِّذَتَيْنِ " [ الْفَلَق :
١ - وَالنَّاس : ١ ].
وَذُكِرَ أَنَّهُ حَضَرَ قَتْل هَابِيل وَشَرِكَ فِي دَمه وَهُوَ غُلَام اِبْن أَعْوَام،  وَأَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا وَتَابَ عَلَى يَدَيْهِ،  وَهُودًا وَصَالِحًا وَيَعْقُوب وَيُوسُف وَإِلْيَاس وَمُوسَى بْن عِمْرَان وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمْ السَّلَام.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ أَسْمَاءَهُمْ عَنْ مُجَاهِد فَقَالَ : حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم.
وَذَكَرَهَا أَبُو عَمْرو عُثْمَان بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْنِ السَّمَّاك قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْبَرَاء قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بَكَّار قَالَ : كَانَ حَمْزَة بْن عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب يُسَمِّي جِنّ نَصِيبِين الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول : حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال.
                                                                            
                                                                    فَلَمَّا حَضَرُوهُ
أَيْ حَضَرُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  وَهُوَ مِنْ بَاب تَلْوِين الْخِطَاب.
وَقِيلَ : لَمَّا حَضَرُوا الْقُرْآن وَاسْتِمَاعه.
                                                                            
                                                                    قَالُوا أَنْصِتُوا
أَيْ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ اُسْكُتُوا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآن.
قَالَ اِبْن مَسْعُود : هَبَطُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأ الْقُرْآن بِبَطْنِ نَخْلَة،  فَلَمَّا سَمِعُوهُ " قَالُوا أَنْصِتُوا " قَالُوا صَهٍ.
وَكَانُوا سَبْعَة : أَحَدهمْ زَوْبَعَة،  فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا " الْآيَة إِلَى قَوْله :" فِي ضَلَال مُبِين " [ الْأَحْقَاف : ٣٢ ].
وَقِيلَ :" أَنْصِتُوا " لِسَمَاعِ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
                                                                            
                                                                    فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
وَقَرَأَ لَاحِق بْن حُمَيْد وَخُبَيْب بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر " فَلَمَّا قَضَى " بِفَتْحِ الْقَاف وَالضَّاد،  يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الصَّلَاة.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا حِين حُرِسَتْ السَّمَاء مِنْ اِسْتِرَاق السَّمْع لِيَسْتَخْبِرُوا مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ ؟ فَجَاءُوا وَادِي نَخْلَة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ فِي صَلَاة الْفَجْر،  وَكَانُوا سَبْعَة،  فَسَمِعُوهُ وَانْصَرَفُوا إِلَى قَوْمهمْ مُنْذِرِينَ،  وَلَمْ يَعْلَم بِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : بَلْ أُمِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِر الْجِنّ وَيَقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن،  فَصَرَفَ اللَّه إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمهمْ،  فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآن وَفَرَغَ اِنْصَرَفُوا بِأَمْرِهِ قَاصِدِينَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ مِنْ الْجِنّ،  مُنْذِرِينَ لَهُمْ مُخَالَفَة الْقُرْآن وَمُحَذِّرِينَ إِيَّاهُمْ بَأْس اللَّه إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  وَأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ.
وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْلهمْ :" يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّه وَآمِنُوا بِهِ " [ الْأَحْقَاف : ٣١ ] وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَنْذَرُوا قَوْمهمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمهمْ،  فَعَلَى هَذَا لَيْلَة الْجِنّ لَيْلَتَانِ،  وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ " [ الْجِنّ : ١ ].
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَعْن قَالَ : سَمِعْت أَبِي قَالَ سَأَلْت مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَة اِسْتَمَعُوا الْقُرْآن ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبُوك - يَعْنِي اِبْن مَسْعُود - أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَة.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ
يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس.
قَالَ مُقَاتِل : وَلَمْ يَبْعَث اللَّه نَبِيًّا إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس قَبْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْت : يَدُلّ عَلَى قَوْله مَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَد قَبْلِي كَانَ كُلّ نَبِيّ يُبْعَث إِلَى قَوْمه خَاصَّة وَبُعِثْت إِلَى كُلّ أَحْمَر وَأَسْوَد وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تُحَلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْض طَيِّبَة طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيّمَا رَجُل أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاة صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ بَيْن يَدَيْ مَسِيرَة شَهْر وَأُعْطِيت الشَّفَاعَة ].
قَالَ مُجَاهِد : الْأَحْمَر وَالْأَسْوَد : الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَفِي رِوَايَة مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " وَبُعِثْت إِلَى الْخَلْق كَافَّة وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ ".
                                                                            
                                                                    اللَّهِ وَآمِنُوا
أَيْ بِالدَّاعِي،  وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ :" بِهِ " أَيْ بِاَللَّهِ،  لِقَوْلِهِ :" يَغْفِر لَكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ ".
قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ سَبْعُونَ رَجُلًا،  فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقُوهُ بِالْبَطْحَاءِ،  فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ.
                                                                            
                                                                    بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ
مَسْأَلَة : هَذِهِ الْآي تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجِنّ كَالْإِنْسِ فِي الْأَمْر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب.
وَقَالَ الْحَسَن : لَيْسَ لِمُؤْمِنِي الْجِنّ ثَوَاب غَيْر نَجَاتهمْ مِنْ النَّار،  يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :" يَغْفِر لَكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم ".
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة قَالَ : لَيْسَ ثَوَاب الْجِنّ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنْ النَّار،  ثُمَّ يُقَال لَهُمْ : كُونُوا تُرَابًا مِثْل الْبَهَائِم.
وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّهُمْ كَمَا يُعَاقَبُونَ فِي الْإِسَاءَة يُجَازَوْنَ فِي الْإِحْسَان مِثْل الْإِنْس.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى.
وَقَدْ قَالَ الضَّحَّاك : الْجِنّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يُقْطَع فِيهِ بِشَيْءٍ،  وَالْعِلْم عِنْد اللَّه.
قُلْت : قَوْله تَعَالَى :" وَلِكُلٍّ دَرَجَات مِمَّا عَمِلُوا " [ الْأَنْعَام : ١٣٢ ] يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّة ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّل الْآيَة :" يَا مَعْشَر الْجِنّ وَالْإِنْس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي " إِلَى أَنْ قَالَ " وَلِكُلٍّ دَرَجَات مِمَّا عَمِلُوا " [ الْأَنْعَام :
١٣٠ - ١٣٢ ].
وَاَللَّه أَعْلَم،  وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي سُورَة " الرَّحْمَن " مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
الرُّؤْيَة هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْم.
وَ " أَنَّ " وَاسْمهَا وَخَبَرهَا سَدَّتْ مَسَدّ مَفْعُولَيْ الرُّؤْيَة.
                                                                            
                                                                    وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اِحْتِجَاج عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْث.
وَمَعْنَى " لَمْ يَعْيَ " يَعْجَز وَيَضْعُف عَنْ إِبْدَاعهنَّ.
يُقَال : عَيَّ بِأَمْرِهِ وَعَيِيَ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِهِ،  وَالْإِدْغَام أَكْثَر.
وَتَقُول فِي الْجَمْع عَيُوا،  مُخَفَّفًا،  وَعَيُّوا أَيْضًا بِالتَّشْدِيدِ.
قَالَ
| عَيُّوا بِأَمْرِهِمْ كَمَا | عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَة | 
وَعَيِيت بِأَمْرِي إِذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوَجْهِهِ.
وَأَعْيَانِي هُوَ.
وَقَرَأَ الْحَسَن " وَلَمْ يَعِي " بِكَسْرِ الْعَيْن وَإِسْكَان الْيَاء،  وَهُوَ قَلِيل شَاذّ،  لَمْ يَأْتِ إِعْلَال الْعَيْن وَتَصْحِيح اللَّام إِلَّا فِي أَسْمَاء قَلِيلَة،  نَحْو غَايَة وَآيَة.
وَلَمْ يَأْتِ فِي الْفِعْل سِوَى بَيْت أَنْشَدَهُ الْفَرَّاء،  وَهُوَ قَوْل الشَّاعِر :
| فَكَأَنَّهَا بَيْن النِّسَاء سَبِيكَة | تَمْشِي بِسُدَّةِ بَيْتهَا فَتُعِيّ | 
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْأَخْفَش : الْبَاء زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْله :" وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا " [ النِّسَاء : ١٦٦ ]،  وَقَوْله :" تُنْبِت بِالدُّهْنِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٢٠ ].
وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَالزَّجَّاج : الْبَاء فِيهِ خَلَف الِاسْتِفْهَام وَالْجَحْد فِي أَوَّل الْكَلَام.
قَالَ الزَّجَّاج : وَالْعَرَب تُدْخِلهَا مَعَ الْجَحْد تَقُول : مَا ظَنَنْت أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ.
وَلَا تَقُول : ظَنَنْت أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ.
وَهُوَ لِدُخُولِ " مَا " وَدُخُول " أَنَّ " لِلتَّوْكِيدِ.
وَالتَّقْدِير : أَلَيْسَ اللَّه بِقَادِرٍ،  كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِقَادِرٍ " [ يس : ٨١ ].
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَالْأَعْرَج وَالْجَحْدَرِيّ وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب " يَقْدِر " وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم ; لِأَنَّ دُخُول الْبَاء فِي خَبَر " أَنَّ " قَبِيح.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد قِرَاءَة الْعَامَّة ; لِأَنَّهَا فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض قَادِر " بِغَيْرِ بَاء.
وَاَللَّه أَعْلَم.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَوُو الْحَزْم وَالصَّبْر،  قَالَ مُجَاهِد : هُمْ خَمْسَة : نُوح،  وَإِبْرَاهِيم،  وَمُوسَى،  وَعِيسَى،  وَمُحَمَّد عَلَيْهِمْ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَهُمْ أَصْحَاب الشَّرَائِع.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : إِنَّ أُولِي الْعَزْم : نُوح،  وَهُود،  وَإِبْرَاهِيم.
فَأَمَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنْ يَكُون رَابِعهمْ.
وَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ سِتَّة : إِبْرَاهِيم،  وَمُوسَى،  وَدَاوُد،  وَسُلَيْمَان،  وَعِيسَى،  وَمُحَمَّد،  صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقِيلَ : نُوح،  وَهُود،  وَصَالِح،  وَشُعَيْب،  وَلُوط،  وَمُوسَى،  وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَق فِي سُورَة " الْأَعْرَاف وَالشُّعَرَاء ".
وَقَالَ مُقَاتِل : هُمْ سِتَّة : نُوح صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمه مُدَّة.
وَإِبْرَاهِيم صَبَرَ عَلَى النَّار.
وَإِسْحَاق صَبَرَ عَلَى الذَّبْح.
وَيَعْقُوب صَبَرَ عَلَى فَقْد الْوَلَد وَذَهَاب الْبَصَر.
وَيُوسُف صَبَرَ عَلَى الْبِئْر وَالسِّجْن.
وَأَيُّوب صَبَرَ عَلَى الضُّرّ.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : إِنَّ مِنْهُمْ إِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب وَأَيُّوب،  وَلَيْسَ مِنْهُمْ يُونُس وَلَا سُلَيْمَان وَلَا آدَم.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالْكَلْبِيّ وَمُجَاهِد أَيْضًا : هُمْ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَة وَجَاهَدُوا الْكَفَرَة.
وَقِيلَ : هُمْ نُجَبَاء الرُّسُل الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَة " الْأَنْعَام " وَهُمْ ثَمَانِيَة عَشَر : إِبْرَاهِيم،  وَإِسْحَاق،  وَيَعْقُوب،  وَنُوح،  وَدَاوُد،  وَسُلَيْمَان،  وَأَيُّوب،  وَيُوسُف،  وَمُوسَى،  وَهَارُون،  وَزَكَرِيَّاء،  وَيَحْيَى،  وَعِيسَى،  وَإِلْيَاس،  وَإِسْمَاعِيل،  وَاَلْيَسَع،  وَيُونُس،  وَلُوط.
وَاخْتَارَهُ الْحَسَن بْن الْفَضْل لِقَوْلِهِ فِي عَقِبه :" أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ " [ الْأَنْعَام : ٩٠ ] وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : كُلّ الرُّسُل كَانُوا أُولِي عَزْم.
وَاخْتَارَهُ عَلِيّ بْن مَهْدِيّ الطَّبَرِيّ،  قَالَ : وَإِنَّمَا دَخَلَتْ " مِنْ " لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ،  كَمَا تَقُول : اِشْتَرَيْت أَرِدْيَة مِنْ الْبَزّ وَأَكْسِيَة مِنْ الْخَزّ.
أَيْ اِصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُل.
وَقِيلَ : كُلّ الْأَنْبِيَاء أُولُو عَزْم إِلَّا يُونُس بْن مَتَّى،  أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَكُون مِثْله،  لِخِفَّةٍ وَعَجَلَة ظَهَرَتْ مِنْهُ حِين وَلَّى مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ،  فَابْتَلَاهُ اللَّه بِثَلَاثٍ : سَلَّطَ عَلَيْهِ الْعَمَالِقَة حَتَّى أَغَارُوا عَلَى أَهْله وَمَاله،  وَسَلَّطَ الذِّئْب عَلَى وَلَده فَأَكَلَهُ،  وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْحُوت فَابْتَلَعَهُ،  قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْحَكِيم.
                                                                            
                                                                    وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أُولُو الْعَزْم اِثْنَا عَشَر نَبِيًّا أُرْسِلُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِالشَّامِ فَعَصَوْهُمْ،  فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِمْ الْأَنْبِيَاء أَنِّي مُرْسِل عَذَابِي إِلَى عُصَاة بَنِي إِسْرَائِيل ; فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِمْ اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ،  إِنْ شِئْتُمْ أَنْزَلْت بِكُمْ الْعَذَاب وَأَنْجَيْت بَنِي إِسْرَائِيل،  وَإِنْ شِئْتُمْ نَجَّيْتُكُمْ وَأَنْزَلْت الْعَذَاب بِبَنِي إِسْرَائِيل،  فَتَشَاوَرُوا بَيْنهمْ فَاجْتَمَعَ رَأْيهمْ عَلَى أَنْ يُنْزِل بِهِمْ الْعَذَاب وَيُنَجِّي اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل،  فَأَنْجَى اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل وَأَنْزَلَ بِأُولَئِكَ الْعَذَاب.
وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُلُوك الْأَرْض،  فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمَنَاشِيرِ،  وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِخَ جِلْدَة رَأْسه وَوَجْهه،  وَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ عَلَى الْخَشَب حَتَّى مَاتَ،  وَمِنْهُمْ مَنْ حُرِّقَ بِالنَّارِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ الْحَسَن : أُولُو الْعَزْم أَرْبَعَة : إِبْرَاهِيم،  وَمُوسَى،  وَدَاوُد،  وَعِيسَى،  فَأَمَّا إِبْرَاهِيم فَقِيلَ لَهُ :" أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْبَقَرَة : ١٣١ ] ثُمَّ اُبْتُلِيَ فِي مَاله وَوَلَده وَوَطَنه وَنَفْسه،  فَوُجِدَ صَادِقًا وَافِيًا فِي جَمِيع مَا اُبْتُلِيَ بِهِ.
وَأَمَّا مُوسَى فَعَزْمه حِين قَالَ لَهُ قَوْمه :" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ.
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " [ الشُّعَرَاء :
٦١ - ٦٢ ].
وَأَمَّا دَاوُد فَأَخْطَأَ خَطِيئَته فَنُبِّهَ عَلَيْهَا،  فَأَقَامَ يَبْكِي أَرْبَعِينَ سَنَة حَتَّى نَبَتَتْ مِنْ دُمُوعه شَجَرَة،  فَقَعَدَ تَحْت ظِلّهَا.
وَأَمَّا عِيسَى فَعَزْمه أَنَّهُ لَمْ يَضَع لَبِنَة عَلَى لَبِنَة وَقَالَ :" إِنَّهَا مَعْبَرَة فَاعْبُرُوهَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا ".
فَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِصْبِرْ،  أَيْ كُنْ صَادِقًا فِيمَا اُبْتُلِيت بِهِ مِثْل صِدْق إِبْرَاهِيم،  وَاثِقًا بِنُصْرَةِ مَوْلَاك مِثْل ثِقَة مُوسَى،  مُهْتَمًّا بِمَا سَلَفَ مِنْ هَفَوَاتك مِثْل اِهْتِمَام دَاوُد،  زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا مِثْل زُهْد عِيسَى.
ثُمَّ قِيلَ هِيَ : مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف.
وَقِيلَ : مُحْكَمَة،  وَالْأَظْهَر أَنَّهَا مَنْسُوخَة ; لِأَنَّ السُّورَة مَكِّيَّة.
وَذَكَرَ مُقَاتِل : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أُحُد،  فَأَمَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْبِر عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْم مِنْ الرُّسُل،  تَسْهِيلًا عَلَيْهِ وَتَثْبِيتًا لَهُ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
                                                                            
                                                                    وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
قَالَ مُقَاتِل : بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : فِي إِحْلَال الْعَذَاب بِهِمْ،  فَإِنَّ أَبْعَد غَايَاتهمْ يَوْم الْقِيَامَة.
وَمَفْعُول الِاسْتِعْجَال مَحْذُوف،  وَهُوَ الْعَذَاب.
                                                                            
                                                                    كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ
قَالَ يَحْيَى : مِنْ الْعَذَاب.
النَّقَّاش : مِنْ الْآخِرَة.
                                                                            
                                                                    لَمْ يَلْبَثُوا
أَيْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعَذَاب،  وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل يَحْيَى.
وَقَالَ النَّقَّاش : فِي قُبُورهمْ حَتَّى بُعِثُوا لِلْحِسَابِ.
                                                                            
                                                                    إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
يَعْنِي فِي جَنْب يَوْم الْقِيَامَة.
وَقِيلَ : نَسَّاهُمْ هَوْل مَا عَايَنُوا مِنْ الْعَذَاب طُول لُبْثهمْ فِي الدُّنْيَا.
                                                                            
                                                                    بَلَاغٌ
أَيْ هَذَا الْقُرْآن بَلَاغ،  قَالَهُ الْحَسَن.
فَ " بَلَاغ " رُفِعَ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإ،  دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" هَذَا بَلَاغ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ " [ إِبْرَاهِيم : ٥٢ ]،  وَقَوْله :" إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ١٠٦ ].
وَالْبَلَاغ بِمَعْنَى التَّبْلِيغ.
وَقِيلَ : أَيْ إِنَّ ذَلِكَ اللُّبْث بَلَاغ،  قَالَهُ اِبْن عِيسَى،  فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " بَلَاغ " وَعَلَى " نَهَار ".
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِم أَنَّ بَعْضهمْ وَقَفَ عَلَى " وَلَا تَسْتَعْجِل " ثُمَّ اِبْتَدَأَ " لَهُمْ " عَلَى مَعْنَى لَهُمْ بَلَاغ.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا خَطَأ ; لِأَنَّك قَدْ فَصَلْت بَيْن الْبَلَاغ وَبَيْن اللَّام،  - وَهِيَ رَافِعَة - بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُمَا.
وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة : بَلَاغًا وَبَلَاغ،  النَّصْب عَلَى مَعْنَى إِلَّا سَاعَة بَلَاغًا،  عَلَى الْمَصْدَر أَوْ عَلَى النَّعْت لِلسَّاعَةِ.
وَالْخَفْض عَلَى مَعْنَى مِنْ نَهَار بَلَاغ.
وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر وَالْحَسَن.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " بَلِّغْ " عَلَى الْأَمْر،  فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة يَكُون الْوَقْف عَلَى " مِنْ نَهَار " ثُمَّ يَبْتَدِئ " بَلِّغْ ".
                                                                            
                                                                    فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ
أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْر اللَّه،  قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن " فَهَلْ يَهْلِك إِلَّا الْقَوْم " عَلَى إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْقَوْم.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَة وَلَدهَا تَكْتُب هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالْكَلِمَتَيْنِ فِي صَحِيفَة ثُمَّ تُغَسَّل وَتُسْقَى مِنْهَا،  وَهِيَ : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لَا إِلَه إِلَّا اللَّه الْعَظِيم الْحَلِيم الْكَرِيم،  سُبْحَان اللَّه رَبّ السَّمَاوَات وَرَبّ الْأَرْض وَرَبّ الْعَرْش الْعَظِيم " كَأَنَّهُمْ يَوْم يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَوْ ضُحَاهَا " [ النَّازِعَات : ٤٦ ].
" كَأَنَّهُمْ يَوْم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة مِنْ نَهَار بَلَاغ فَهَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ " صَدَقَ اللَّه الْعَظِيم.
وَعَنْ قَتَادَة : لَا يُهْلِك اللَّه إِلَّا هَالِكًا مُشْرِكًا.
وَقِيلَ : هَذِهِ أَقْوَى آيَة فِي الرَّجَاء.