ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ
قَالَ الْكِسَائِيّ : نُصِبَ " رَجُلًا " لِأَنَّهُ تَرْجَمَة لِلْمَثَلِ وَتَفْسِير لَهُ، وَإِنْ شِئْت نَصَبْته بِنَزْعِ الْخَافِض، مَجَازُهُ : ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا بِرَجُلٍ " فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ " قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ مُخْتَلِفُونَ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ مُتَعَاسِرُونَ مِنْ شَكِسَ يَشْكُسُ شُكْسًا بِوَزْنِ قُفْلٍ فَهُوَ شَكِسٌ مِثْل عَسُرَ يَعْسُرُ عُسْرًا فَهُوَ عَسِرٌ، يُقَال : رَجُل شَكِسٌ وَشَرِسٌ وَضَرِسٌ وَضَبِسٌ.
وَيُقَال : رَجُل ضَبِسٌ وَضَبِيسٌ أَيْ شَرِسٌ عَسِرٌ شَكِسٌ ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَالتَّشَاكُس وَالتَّشَاخُسُ الِاخْتِلَاف.
يُقَال : تَشَاكَسَتْ أَحْوَاله وَتَشَاخَسَتْ أَسْنَانُهُ.
وَيُقَال : شَاكَسَنِي فُلَان أَيْ مَاكَسَنِي وَشَاحَّنِي فِي حَقِّي.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : رَجُل شَكْسٌ بِالتَّسْكِينِ أَيْ صَعْب الْخُلُق.
قَالَ الرَّاجِز :
شَكْسٌ عَبُوسٌ عَنْبَسٌ عَذَوَّرُ
وَقَوْم شُكْسٌ مِثَال رَجُل صَدْق وَقَوْم صُدْقٌ.
وَقَدْ شَكِسَ بِالْكَسْرِ شَكَاسَة.
وَحَكَى الْفَرَّاء : رَجُل شَكْسٌ.
وَهُوَ الْقِيَاس، وَهَذَا مِثْل مَنْ عَبَدَ آلِهَة كَثِيرَة.
وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ
أَيْ خَالِصًا لِسَيِّدٍ وَاحِد، وَهُوَ مِثْل مَنْ يَعْبُد اللَّه وَحْده.
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا
هَذَا الَّذِي يَخْدُم جَمَاعَة شُرَكَاء أَخْلَاقهمْ مُخْتَلِفَة، وَنِيَّاتهمْ مُتَبَايِنَة، لَا يَلْقَاهُ رَجُل إِلَّا جَرَّهُ وَاسْتَخْدَمَهُ ; فَهُوَ يَلْقَى مِنْهُمْ الْعَنَاء وَالنَّصَب وَالتَّعَب الْعَظِيم، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلّه لَا يُرْضِي وَاحِدًا مِنْهُمْ بِخِدْمَتِهِ لِكَثْرَةِ الْحُقُوق فِي رَقَبَته، وَاَلَّذِي يَخْدُم وَاحِدًا لَا يُنَازِعهُ فِيهِ أَحَد، إِذَا أَطَاعَهُ وَحْده عَرَفَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ صَفَحَ عَنْ خَطَئِهِ، فَأَيّهمَا أَقَلُّ تَعَبًا أَوْ عَلَى هُدًى مُسْتَقِيم.
وَقَرَأَ أَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْمَدِينَة :" وَرَجُلًا سَالِمًا " وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَيَعْقُوب :" وَرَجُلًا سَالِمًا " وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد لِصِحَّةِ التَّفْسِير فِيهِ.
قَالَ : لِأَنَّ السَّالِم الْخَالِص ضِدّ الْمُشْتَرَك، وَالسَّلَم ضِدّ الْحَرْب وَلَا مَوْضِع لِلْحَرْبِ هُنَا.
النَّحَّاس : وَهَذَا الِاحْتِجَاج لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ الْحَرْف إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنَيَانِ لَمْ يُحْمَل إِلَّا عَلَى أَوْلَاهُمَا، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ السَّلَم ضِدّ الْحَرْب فَلَهُ مَوْضِع آخَر ; كَمَا يُقَال لَك فِي هَذَا الْمَنْزِل شُرَكَاء فَصَارَ سَلَمًا لَك.
وَيَلْزَمهُ أَيْضًا فِي سَالِم مَا أَلْزَمَ غَيْره ; لِأَنَّهُ يُقَال شَيْء سَالِم أَيْ لَا عَاهَةَ بِهِ.
وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ قَرَأَ بِهِمَا الْأَئِمَّة.
وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِم قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة " سَلَمًا " قَالَ وَهَذَا الَّذِي لَا تَنَازُع فِيهِ.
وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَنَصْر " سِلْمًا " بِكَسْرِ السِّين وَسُكُون اللَّام.
وَسَلَمًا وَسِلْمًا مَصْدَرَانِ ; وَالتَّقْدِير : وَرَجُلًا ذَا سِلْم فَحُذِفَ الْمُضَاف وَ " مَثَلًا " صِفَة عَلَى التَّمْيِيز، وَالْمَعْنَى هَلْ تَسْتَوِي صِفَاتهمَا وَحَالَاهُمَا.
وَإِنَّمَا اِقْتُصِرَ فِي التَّمْيِيز عَلَى الْوَاحِد لِبَيَانِ الْجِنْس.
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَيَتَّبِعُونَهُ.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ
حُذِفَتْ الْيَاء مِنْ " كَافٍ " لَسُكُونهَا وَسُكُون التَّنْوِين بَعْدهَا ; وَكَانَ الْأَصْل أَلَّا تُحْذَفَ فِي الْوَقْف لِزَوَالِ التَّنْوِين، إِلَّا أَنَّهَا حُذِفَتْ لِيُعْلَم أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْوَصْل.
وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يُثْبِتُهَا فِي الْوَقْف عَلَى الْأَصْل فَيَقُول : كَافِي.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " عَبْده " بِالتَّوْحِيدِ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِيهِ اللَّه وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَكَيْدهمْ.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " عِبَاده " وَهُمْ الْأَنْبِيَاء أَوْ الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَة قِرَاءَة الْجَمَاعَة لِقَوْلِهِ عَقِيبَهُ :" وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه ".
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْعَبْد لَفْظ الْجِنْس ; كَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِل :" إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر : ٢ ] وَعَلَى هَذَا تَكُون الْقِرَاءَة الْأُولَى رَاجِعَة إِلَى الثَّانِيَة.
وَالْكِفَايَة شَرّ الْأَصْنَام، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَصْنَامِ، حَتَّى قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
" وَكَيْف أَخَاف مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاَللَّهِ " [ الْأَنْعَام : ٨١ ].
وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ : إِنَّ اللَّه كَافٍ عَبْده الْمُؤْمِن وَعَبْده الْكَافِر، هَذَا بِالثَّوَابِ وَهَذَا بِالْعِقَابِ.
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَرَّة الْأَوْثَان، فَقَالُوا : أَتَسُبُّ آلِهَتنَا ؟ لَئِنْ لَمْ تَكُفَّ عَنْ ذِكْرهَا لَتُخَبِّلَنَّكَ أَوْ تُصِيبَنَّكَ بِسُوءٍ.
وَقَالَ قَتَادَة : مَشَى خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى الْعُزَّى لِيَكْسِرَهَا بِالْفَأْسِ.
فَقَالَ لَهُ سَادِنهَا : أُحَذِّرُكهَا يَا خَالِد فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً لَا يَقُوم لَهَا شَيْء، فَعَمَدَ خَالِد إِلَى الْعُزَّى فَهَشَّمَ أَنْفَهَا حَتَّى كَسَرَهَا بِالْفَأْسِ.
وَتَخْوِيفهمْ لِخَالِدٍ تَخْوِيف لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَّهَ خَالِدًا.
وَيَدْخُل فِي الْآيَة تَخْوِيفهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ وَقُوَّتهمْ ; كَمَا قَالَ :" أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيع مُنْتَصِر " [ الْقَمَر : ٤٤ ]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
أَيْ مَنْ خَذَلَهُ فَلَا مُرْشِد لَهُ.
وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ.
وَقَدْ مَضَى مَعْنَى هَذَا كُلّه مُسْتَوْفًى فِي غَيْر مَوْضِع وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَوَقَفَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن عَلَى قَوْله :" هَادٍ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْيَاءِ، الْبَاقُونَ بِغَيْرِ يَاء.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ يَا مُحَمَّد
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ عِبَادَتهمْ الْأَوْثَان مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِق هُوَ اللَّه، وَإِذَا كَانَ اللَّه هُوَ الْخَالِق فَكَيْف يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتَ رَسُول اللَّه الَّذِي خَلَقَهَا وَخَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد بَعْد اِعْتِرَافهمْ بِهَذَا " أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه "
إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ
بِشِدَّةٍ وَبَلَاء
هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ
يَعْنِي هَذِهِ الْأَصْنَام وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَالْكُوفِيُّونَ مَا عَدَا عَاصِمًا " كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ " بِغَيْرِ تَنْوِين.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَشَيْبَةُ وَهِيَ الْمَعْرُوفَة مِنْ قِرَاءَة الْحَسَن وَعَاصِم " هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ ".
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
نِعْمَة وَرَخَاء
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ
قَالَ مُقَاتِل : فَسَأَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَتُوا.
وَقَالَ غَيْره : قَالُوا لَا تَدْفَع شَيْئًا قَدَّرَهُ اللَّه وَلَكِنَّهَا تَشْفَع.
" مُمْسِكَات رَحْمَته " بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْل وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم ; لِأَنَّهُ اِسْم فَاعِل فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَال، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّنْوِين أَجْوَدَ.
قَالَ الشَّاعِر : الضَّارِبُونَ عُمَيْرًا عَنْ بُيُوتهمْ وَ بِاللَّيْلِ يَوْم عُمَيْر ظَالِم عَادِي وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَجُزْ فِيهِ التَّنْوِين، وَحَذْف التَّنْوِين عَلَى التَّحْقِيق، فَإِذَا حَذَفْت التَّنْوِين لَمْ يَبْقَ بَيْن الِاسْمَيْنِ حَاجِز فَخَفَضْت الثَّانِي بِالْإِضَافَةِ.
وَحَذْف التَّنْوِين كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب مَوْجُود حَسَن ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَة " [ الْمَائِدَة : ٩٥ ] وَقَالَ :" إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ " [ الْقَمَر : ٢٧ ] قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِثْل ذَلِكَ " غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ " [ الْمَائِدَة : ١ ] وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا و أَوْ عَبْد رَبٍّ أَخَا عَوْن بْن مِخْرَاقِ وَقَالَ النَّابِغَة : اُحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ وَ إِلَى حَمَامٍ شَرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ مَعْنَاهُ وَارِد الثَّمَد فَحُذِفَ التَّنْوِين ; مِثْل " كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ".
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
تَرَكَ الْجَوَاب لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ ; يَعْنِي فَسَيَقُولُونَ لَا أَيْ لَا تَكْشِف وَلَا تُمْسِك فَـ " قُلْ " أَنْتَ " حَسْبِيَ اللَّه " أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت أَيْ اِعْتَمَدْت
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
يَعْتَمِد الْمُعْتَمِدُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي التَّوَكُّل.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى
وَقَرَأَ أَبُو بَكْر بِالْجَمْعِ " مَكَانَاتِكُمْ ".
وَالْمَكَانَة الطَّرِيقَة.
وَالْمَعْنَى اُثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَأَنَا أَثْبُت عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَجُوز أَنْ يُؤْمَرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ كُفَّار.
فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا تَهْدِيد ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا " [ التَّوْبَة : ٨٢ ].
وَدَلَّ عَلَيْهِ " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُون لَهُ عَاقِبَة الدَّار " أَيْ الْعَاقِبَة الْمَحْمُودَة الَّتِي يُحْمَد صَاحِبهَا عَلَيْهَا، أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْر فِي دَار الْإِسْلَام، وَمَنْ لَهُ وِرَاثَة الْأَرْض، وَمَنْ لَهُ الدَّار الْآخِرَة، أَيْ الْجَنَّة.
قَالَ الزَّجَّاج :" مَكَانَتكُمْ " تَمَكُّنكُمْ فِي الدُّنْيَا.
اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : عَلَى نَاحِيَتكُمْ.
الْقُتَبِيّ : عَلَى مَوْضِعكُمْ.
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
أَيْ عَلَى مَكَانَتِي أَيْ عَلَى جِهَتِي الَّتِي تَمَكَّنَتْ عِنْدِي
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ
يَعْنِي الْقُرْآن وَالْقُرْآن نَزَلَ نُجُومًا : شَيْئًا بَعْد شَيْء ; فَلِذَلِكَ قَالَ " أَنْزَلْنَا " وَالتَّنْزِيل مَرَّة بَعْد مَرَّة.
وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل نَزَلَا دَفْعَة وَاحِدَة فَلِذَلِكَ قَالَ " أَنْزَلْنَا "
بِالْحَقِّ
أَيْ بِالصِّدْقِ وَقِيلَ : بِالْحُجَّةِ الْغَالِبَة.
وَالْبَاء فِي قَوْل " بِالْحَقِّ " فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْكِتَاب وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِير آتِيًا بِالْحَقِّ وَلَا تَتَعَلَّق بِ " أَنْزَلْنَا " لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَالِث.
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ
أَيْ لِخَلَاصِ نَفْسه.
وَمَنْ ضَلَّ
أَيْ تَرَكَ الرَّسُول وَالْقُرْآن وَاتَّبَعَ الْأَصْنَام وَالْأَوْثَان.
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
أَيْ وَبَال ذَلِكَ عَلَى نَفْسه.
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
أَيْ بِحَفِيظٍ يَحْفَظ أَعْمَالهمْ إِنَّمَا أَنْتَ رَسُول.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَسَخَتْهَا آيَة السَّيْف.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
أَيْ يَقْبِضُهَا عِنْد فَنَاءِ آجَالِهَا
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
اُخْتُلِفَ فِيهِ.
فَقِيلَ : يَقْبِضُهَا عَنْ التَّصَرُّف مَعَ بَقَاء أَرْوَاحهَا فِي أَجْسَادهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
وَهِيَ النَّائِمَة فَيُطْلِقُهَا بِالتَّصَرُّفِ إِلَى أَجَل مَوْتهَا ; قَالَ اِبْن عِيسَى.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَيَقْبِض الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا عِنْد اِنْقِضَاء أَجَلهَا.
قَالَ : وَقَدْ يَكُون تَوَفِّيهَا نَوْمَهَا ; فَيَكُون التَّقْدِير عَلَى هَذَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ وَفَاتُهَا نَوْمُهَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ أَرْوَاح الْأَحْيَاء وَالْأَمْوَات تَلْتَقِي فِي الْمَنَام فَتَتَعَارَف مَا شَاءَ اللَّه مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ جَمِيعهَا الرُّجُوع إِلَى الْأَجْسَاد أَمْسَكَ اللَّه أَرْوَاح الْأَمْوَات عِنْده، وَأَرْسَلَ أَرْوَاح الْأَحْيَاء إِلَى أَجْسَادهَا.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنَّ اللَّه يَقْبِض أَرْوَاح الْأَمْوَات إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاح الْأَحْيَاء إِذَا نَامُوا، فَتَتَعَارَف مَا شَاءَ اللَّه أَنْ تَتَعَارَف " فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسِل الْأُخْرَى " أَيْ يُعِيدهَا.
قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فَمَا رَأَتْهُ نَفْس النَّائِم وَهِيَ فِي السَّمَاء قَبْل إِرْسَالهَا إِلَى جَسَدهَا فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة، وَمَا رَأَتْهُ بَعْد إِرْسَالهَا وَقَبْل اِسْتِقْرَارهَا فِي جَسَدهَا تُلْقِيهَا الشَّيَاطِين، وَتُخَيِّل إِلَيْهَا الْأَبَاطِيل فَهِيَ الرُّؤْيَا الْكَاذِبَة.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : النَّوْم وَفَاة وَالْمَوْت وَفَاة.
وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( كَمَا تَنَامُونَ فَكَذَلِكَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تُوقَظُونَ فَكَذَلِكَ تُبْعَثُونَ ).
وَقَالَ عُمَر : النَّوْم أَخُو الْمَوْت.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه أَيَنَامُ أَهْل الْجَنَّة ؟ قَالَ :( لَا النَّوْم أَخُو الْمَوْت وَالْجَنَّة لَا مَوْت فِيهَا ) خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :( فِي اِبْن آدَم نَفْس وَرُوح بَيْنهمَا مِثْل شُعَاع الشَّمْس، فَالنَّفْس الَّتِي بِهَا الْعَقْل وَالتَّمْيِيز، وَالرُّوح الَّتِي بِهَا النَّفَس وَالتَّحْرِيك، فَإِذَا نَامَ الْعَبْد قَبَضَ اللَّه نَفْسه وَلَمْ يَقْبِض رُوحه ).
وَهَذَا قَوْل اِبْن الْأَنْبَارِيّ وَالزَّجَّاج.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : وَفِي هَذَا بُعْد إِذْ الْمَفْهُوم مِنْ الْآيَة أَنَّ النَّفْس الْمَقْبُوضَة فِي الْحَال شَيْء وَاحِد ; وَلِهَذَا قَالَ :" فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسِل الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " فَإِذًا يَقْبِض اللَّه الرُّوح فِي حَالَيْنِ فِي حَالَة النَّوْم وَحَالَة الْمَوْت، فَمَا قَبَضَهُ فِي حَال النَّوْم فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِمَا يَحْبِسُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَكَأَنَّهُ شَيْء مَقْبُوض، وَمَا قَبَضَهُ فِي حَال الْمَوْت فَهُوَ يُمْسِكُهُ وَلَا يُرْسِلُهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوْله :" وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى " أَيْ يُزِيل الْحَابِس عَنْهُ فَيَعُود كَمَا كَانَ.
فَتَوَفِّي الْأَنْفُس فِي حَال النَّوْم بِإِزَالَةِ الْحِسّ وَخَلْق الْغَفْلَة وَالْآفَة فِي مَحَلّ الْإِدْرَاك.
وَتَوَفِّيهَا فِي حَالَة الْمَوْت بِخَلْقِ الْمَوْت وَإِزَالَة الْحِسّ بِالْكُلِّيَّةِ.
" فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت " بِأَلَّا يَخْلُق فِيهَا الْإِدْرَاك كَيْف وَقَدْ خَلَقَ فِيهَا الْمَوْت ؟ " وَيُرْسِل الْأُخْرَى " بِأَنْ يُعِيد إِلَيْهَا الْإِحْسَاس.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس مِنْ هَذِهِ الْآيَة فِي النَّفْس وَالرُّوح ; هَلْ هُمَا شَيْء وَاحِد أَوْ شَيْئَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالْأَظْهَر أَنَّهُمَا شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثَار الصِّحَاح عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي هَذَا الْبَاب.
مِنْ ذَلِكَ حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَة وَقَدْ شُقَّ بَصَره فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ :( إِنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ) وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَمْ تَرَوْا الْإِنْسَان إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ ) قَالَ :( فَذَلِكَ حِين يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ ) خَرَّجَهُمَا مُسْلِم.
وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( تَحْضُر الْمَلَائِكَة فَإِذَا كَانَ الرَّجُل صَالِحًا قَالُوا اُخْرُجِي أَيَّتهَا النَّفْس الطَّيِّبَة كَانَتْ فِي الْجَسَد الطَّيِّب اُخْرُجِي حَمِيدَة وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَان وَرَبّ رَاضٍ غَيْر غَضْبَان فَلَا يَزَال يُقَال لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُج ثُمَّ يُعْرَج بِهَا إِلَى السَّمَاء... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث وَإِسْنَاده صَحِيح خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّذْكِرَة.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ :( إِذَا خَرَجَتْ رُوح الْمُؤْمِن تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا... ).
وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَقَالَ بِلَال فِي حَدِيث الْوَادِي : أَخَذَ بِنَفْسِي يَا رَسُول اللَّه الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك.
وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلًا لَهُ فِي حَدِيث زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي حَدِيث الْوَادِي :( يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّ اللَّه قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ رَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِين غَيْر هَذَا ).
وَالصَّحِيح فِيهِ أَنَّهُ جِسْم لَطِيف مُشَابِك لِلْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَة، يُجْذَب وَيُخْرَج وَفِي أَكْفَانِهِ يُلَفّ وَيُدْرَج، وَبِهِ إِلَى السَّمَاء يُعْرَج، لَا يَمُوت وَلَا يَفْنَى، وَهُوَ مِمَّا لَهُ أَوَّل وَلَيْسَ لَهُ آخِر، وَهُوَ بِعَيْنَيْنِ وَيَدَيْنِ، وَأَنَّهُ ذُو رِيح طَيِّبَة وَخَبِيثَة ; كَمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.
وَهَذِهِ صِفَة الْأَجْسَام لَا صِفَة الْأَعْرَاض ; وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَخْبَار بِهَذَا كُلّه فِي كِتَاب التَّذْكِرَة بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة.
وَقَالَ تَعَالَى :" فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُوم " [ الْوَاقِعَة : ٨٣ ] يَعْنِي النَّفْس إِلَى خُرُوجهَا مِنْ الْجَسَد ; وَهَذِهِ صِفَة الْجِسْم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
خَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِذَا أَوَى أَحَدكُمْ إِلَى فِرَاشه فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَاره فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشه وَلِيُسَمِّ اللَّه فَإِنَّهُ لَا يَعْلَم مَا خَلَفَهُ بَعْد عَلَى فِرَاشه فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِع فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَن وَلْيَقُلْ سُبْحَانَك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعهُ إِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا ).
وَقَالَ الْبُخَارِيّ وَابْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ :( فَارْحَمْهَا ) بَدَل ( فَاغْفِرْ لَهَا ) ( وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحِينَ ) زَادَ التِّرْمِذِيّ ( وَإِذَا اِسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ).
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْل وَضَعَ يَده تَحْت خَدِّهِ ; ثُمَّ يَقُول :( اللَّهُمَّ بِاسْمِك أَمُوت وَأَحْيَا ) وَإِذَا اِسْتَيْقَظَ قَالَ :( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْد مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُور ).
" فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت " هَذِهِ قِرَاءَة الْعَامَّة عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الْفَاعِل " الْمَوْت " نَصْبًا ; أَيْ قَضَى اللَّه عَلَيْهَا وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي حَاتِم وَأَبِي عُبَيْد ; لِقَوْلِهِ فِي أَوَّل الْآيَة :" اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس " فَهُوَ يَقْضِي عَلَيْهَا.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " قُضِيَ عَلَيْهَا الْمَوْت " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله.
النَّحَّاس، وَالْمَعْنَى وَاحِد غَيْر أَنَّ الْقِرَاءَة الْأُولَى أَبْيَنُ وَأَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَام ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى " وَيُرْسِلُ " وَلَمْ يَقْرَءُوا " وَيُرْسَلُ ".
وَفِي الْآيَة تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيم قُدْرَته وَانْفِرَاده بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَفْعَل مَا يَشَاء، وَيُحْيِي وَيُمِيت، لَا يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
يَعْنِي فِي قَبْض اللَّه نَفْس الْمَيِّت وَالنَّائِم، وَإِرْسَاله نَفْس النَّائِم وَحَبْسه نَفْس الْمَيِّت وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ سَمِعْت مُعْتَمِرًا يَقُول : رُوح الْإِنْسَان مِثْل كُبَّة الْغَزْل، فَتُرْسَل الرُّوح، فَيَمْضِي ثُمَّ تَمْضِي ثُمَّ تُطْوَى فَتَجِيء فَتَدْخُل ; فَمَعْنَى الْآيَة أَنَّهُ يُرْسَل مِنْ الرُّوح شَيْء فِي حَال النَّوْم وَمُعْظَمهَا فِي الْبَدَن مُتَّصِل بِمَا يَخْرُج مِنْهَا اِتِّصَالًا خَفِيًّا، فَإِذَا اِسْتَيْقَظَ الْمَرْء جَذَبَ مُعْظَمُ رُوحِهِ مَا اِنْبَسَطَ مِنْهَا فَعَادَ.
وَقِيلَ غَيْر هَذَا ; وَفِي التَّنْزِيل :" وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي " [ الْإِسْرَاء : ٨٥ ] أَيْ لَا يَعْلَم حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللَّه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ سُبْحَان ].
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
" وَإِذَا ذُكِرَ اللَّه وَحْده " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ، وَعَلَى الْحَال عِنْد يُونُس.
" اِشْمَأَزَّتْ " قَالَ الْمُبَرِّد : اِنْقَبَضَتْ.
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد.
وَقَالَ قَتَادَة : نَفَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ وَكَفَرَتْ وَتَعَصَّتْ.
وَقَالَ الْمُؤَرِّج أَنْكَرَتْ.
وَأَصْل الِاشْمِئْزَاز النُّفُور وَالِازْوِرَار.
قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم :إِذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اِشْمَأَزَّتْ | وَوَلَّتْهُمْ عَشَوْزَنَةً زَبُونَا |
وَقَالَ أَبُو زَيْد : اِشْمَأَزَّ الرَّجُل ذُعِرَ مِنْ الْفَزَع وَهُوَ الْمَذْعُور.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ " لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " نَفَرُوا وَكَفَرُوا.
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
يَعْنِي الْأَوْثَان حِين أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أَمْنِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد قِرَاءَته سُورَة [ النَّجْم ] تِلْكَ الْغَرَانِيق الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتهمْ تُرْتَجَى.
قَالَهُ جَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ.
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
أَيْ يَظْهَر فِي وُجُوههمْ الْبِشْر وَالسُّرُور.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيْ كَذَّبُوا وَأَشْرَكُوا
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَيْ مِنْ سُوء عَذَاب ذَلِكَ الْيَوْم.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ آل عِمْرَان ] وَ [ الرَّعْد ].
وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
مِنْ أَجَلّ مَا رُوِيَ فِيهِ مَا رَوَاهُ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد قَالَ : عَمِلُوا أَعْمَالًا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا حَسَنَات فَإِذَا هِيَ سَيِّئَات.
وَقَالَهُ السُّدِّيّ.
وَقِيلَ : عَمِلُوا أَعْمَالًا تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَتُوبُونَ مِنْهَا قَبْل الْمَوْت فَأَدْرَكَهُمْ الْمَوْت قَبْل أَنْ يَتُوبُوا، وَقَدْ كَانُوا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْجُونَ بِالتَّوْبَةِ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُونُوا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يَغْفِر لَهُمْ مِنْ غَيْر تَوْبَة فَـ " بَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " مِنْ دُخُول النَّار.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة : وَيْل لِأَهْلِ الرِّيَاء وَيْل لِأَهْلِ الرِّيَاء هَذِهِ آيَتهمْ وَقِصَّتهمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَة بْن عَمَّار : جَزِعَ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عِنْد مَوْته جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ : مَا هَذَا الْجَزَع ؟ قَالَ : أَخَاف آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه " وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " فَأَنَا أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مَا لَمْ أَكُنْ أَحْتَسِبُ.
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا
قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُذَيْفَة بْن الْمُغِيرَة.
ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
قَالَ قَتَادَة :" عَلَى عِلْم " عِنْدِي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِب، وَعَنْهُ أَيْضًا " عَلَى عِلْم " عَلَى خَيْر عِنْدِي.
وَقِيلَ :" عَلَى عِلْم " أَيْ عَلَى عِلْم مِنْ اللَّه بِفَضْلِي.
وَقَالَ الْحَسَن :" عَلَى عِلْم " أَيْ بِعِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّه إِيَّاهُ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ قَدْ عَلِمْت أَنِّي إِذَا أُوتِيت هَذَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِي عِنْد اللَّه مَنْزِلَةً ;
بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ
أَيْ بَلْ النِّعَم الَّتِي أُوتِيتهَا فِتْنَة تُخْتَبَر بِهَا.
قَالَ الْفَرَّاء : أَنَّثَ " هِيَ " لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَة، وَلَوْ كَانَ بَلْ هُوَ فِتْنَة لَجَازَ.
النَّحَّاس : التَّقْدِير بَلْ أَعْطَيْته فِتْنَة.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِعْطَاءَهُمْ الْمَال اِخْتِبَار.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه " وَإِنْ شِئْت حَذَفْت الْيَاء ; لِأَنَّ النِّدَاء مَوْضِع حَذْف.
النَّحَّاس : وَمِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ عُمَر قَالَ : لَمَّا اِجْتَمَعْنَا عَلَى الْهِجْرَة، اِتَّعَدْت أَنَا وَهِشَام بْن الْعَاصِ بْن وَائِل السَّهْمِيّ، وَعَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة بْن عُتْبَة، فَقُلْنَا : الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَار، وَقُلْنَا : مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبه.
فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيَّاش بْن عُتْبَة وَحُبِسَ عَنَّا هِشَام، وَإِذَا بِهِ قَدْ فُتِنَ فَافْتُتِنَ، فَكُنَّا نَقُول بِالْمَدِينَةِ : هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اُفْتُتِنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَة، وَكَانُوا هُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسهمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه :" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه " إِلَى قَوْله تَعَالَى :" أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ " قَالَ عُمَر : فَكَتَبْتهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتهَا إِلَى هِشَام.
قَالَ هِشَام : فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْت بِهَا إِلَى ذِي طُوًى فَقُلْت : اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْت أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا، فَرَجَعْت فَجَلَسْت عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْت بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعَثُوا إِلَيْهِ : إِنَّ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ أَوَتُخْبِرُنَا أَنَّ لَنَا تَوْبَةً ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَة :" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ.
وَقَدْ مَضَى فِي آخِر [ الْفُرْقَان ].
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا نَزَلَتْ فِي أَهْل مَكَّة قَالُوا : يَزْعُم مُحَمَّد أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْأَوْثَان وَقَتَلَ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وَكَيْف نُهَاجِرُ وَنُسْلِمُ وَقَدْ عَبَدْنَا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر وَقَتَلْنَا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة.
وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ فِي الْعِبَادَة، وَخَافُوا أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ لِذُنُوبٍ سَبَقَتْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَطَاء نَزَلَتْ فِي وَحْشِيّ قَاتِل حَمْزَة ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّه لَا يَقْبَلُ إِسْلَامه : وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَتَى وَحْشِيٌّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ : يَا مُحَمَّد أَتَيْتُك مُسْتَجِيرًا فَأَجِرْنِي حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَدْ كُنْت أُحِبُّ أَنْ أَرَاك عَلَى غَيْر جِوَار فَأَمَّا إِذْ أَتَيْتنِي مُسْتَجِيرًا فَأَنْتَ فِي جِوَارِي حَتَّى تَسْمَع كَلَام اللَّه ) قَالَ : فَإِنِّي أَشْرَكْت بِاَللَّهِ وَقَتَلْت النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه وَزَنَيْت، هَلْ يَقْبَل اللَّه مِنَى تَوْبَة ؟ فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ :" وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ " [ الْفُرْقَان : ٦٨ ] إِلَى آخِر الْآيَة فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ; فَقَالَ أَرَى شَرْطًا فَلَعَلِّي لَا أَعْمَل صَالِحًا، أَنَا فِي جِوَارك حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه.
فَنَزَلَتْ :" إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " [ النِّسَاء : ٤٨ ] فَدَعَا بِهِ فَتَلَا عَلَيْهِ ; قَالَ : فَلَعَلِّي مِمَّنْ لَا يَشَاء أَنَا فِي جِوَارك حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه.
فَنَزَلَتْ :" يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه " فَقَالَ : نَعَمْ الْآن لَا أَرَى شَرْطًا.
فَأَسْلَمَ.
وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَسْمَاء أَنَّهَا سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ :" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُور الرَّحِيم ".
وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود " إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاء ".
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى التَّفْسِير، أَيْ يَغْفِر اللَّه لِمَنْ يَشَاء.
وَقَدْ عَرَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِر لَهُ، وَهُوَ التَّائِب أَوْ مَنْ عَمِلَ صَغِيرَة وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَبِيرَة، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيد التَّائِب مَا بَعْده " وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ " فَالتَّائِب مَغْفُور لَهُ ذُنُوبه جَمِيعًا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ " [ طَه : ٨٢ ] فَهَذَا لَا إِشْكَال فِيهِ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : مَا فِي الْقُرْآن آيَة أَوْسَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَة :" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه " وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ سُبْحَان ].
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : وَهَذِهِ أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن فَرَدَّ عَلَيْهِمْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن قَوْلُه تَعَالَى :" وَإِنَّ رَبّك لِذُو مَغْفِرَة لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمهمْ " [ الرَّعْد : ٦ ] وَقَدْ مَضَى فِي [ الرَّعْد ].
وَقُرِئَ " وَلَا تَقْنِطُوا " بِكَسْرِ النُّون وَفَتْحهَا.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] بَيَانه.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ كَرَاهَة " أَنْ تَقُول " وَعِنْد الْكُوفِيِّينَ لِئَلَّا تَقُول وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ حَذَر " أَنْ تَقُول ".
وَقِيلَ : أَيْ مِنْ قَبْل " أَنْ تَقُول نَفْس " لِأَنَّهُ قَالَ قِيلَ هَذَا :" مِنْ قَبْل أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَاب " الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت لِمَ نُكِّرَتْ ؟ قُلْت : لِأَنَّ الْمُرَاد بِهَا بَعْض الْأَنْفُس وَهِيَ نَفْس الْكَافِر.
وَيَجُوز أَنْ يُرِيد نَفْسًا مُتَمَيِّزَة مِنْ الْأَنْفُس، إِمَّا بِلَجَاجٍ فِي الْكُفْر شَدِيد، أَوْ بِعِقَابٍ عَظِيم.
وَيَجُوز أَنْ يُرَاد التَّكْثِير كَمَا قَالَ الْأَعْشَى :
وَرُبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْت بِجَوِّهِ | أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا |
وَهُوَ يُرِيد أَفْوَاجًا مِنْ الْكِرَام يَنْصُرُونَهُ لَا كَرِيمًا وَاحِدًا، وَنَظِيره : رُبَّ بَلَدٍ قَطَعْت، وَرُبَّ بَطَلٍ قَارَعْت، وَلَا يُقْصَد إِلَّا التَّكْثِير.
يَا
وَالْأَصْل " يَا حَسْرَتِي " فَأُبْدِلَ مِنْ الْيَاء أَلِف ; لِأَنَّهَا أَخَفّ وَأَمْكَنُ فِي الِاسْتِغَاثَة بِمَدِّ الصَّوْت، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْهَاء ; أَنْشَدَ الْفَرَّاء :
يَا مَرْحَبَاهُ بِحِمَار نَاجِيَهْ | إِذَا أَتَى قَرَّبْته لِلسَّانِيَهْ |
وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْيَاء بَعْد الْأَلِف ; لِتَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَة.
وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَر :" يَا حَسْرَتَايَ " وَالْحَسْرَة النَّدَامَة
حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
قَالَ الْحَسَن : فِي طَاعَة اللَّه.
وَقَالَ الضَّحَّاك : أَيْ فِي ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ : يَعْنِي الْقُرْآن وَالْعَمَل بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة :" فِي جَنْب اللَّه " أَيْ فِي ثَوَاب اللَّه.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْجَنْب الْقُرْب وَالْجِوَار ; يُقَال فُلَان يَعِيش فِي جَنْب فُلَان أَيْ فِي جِوَاره ; وَمِنْهُ " وَالصَّاحِب بِالْجَنْبِ " [ النِّسَاء : ٣٦ ] أَيْ مَا فَرَّطْت فِي طَلَب جِوَاره وَقَرَّبَهُ وَهُوَ الْجَنَّة.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي الطَّرِيق الَّذِي هُوَ طَرِيق اللَّه الَّذِي دَعَانِي إِلَيْهِ.
وَالْعَرَب تُسَمِّي السَّبَب وَالطَّرِيق إِلَى الشَّيْء جَنْبًا ; تَقُول : تَجَرَّعْت فِي جَنْبك غُصَصًا ; أَيْ لِأَجْلِك وَسَبَبك وَلِأَجْلِ مَرْضَاتك.
وَقِيلَ :" فِي جَنْب اللَّه " أَيْ فِي الْجَانِب الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَثَوَابه، وَالْعَرَب تُسَمِّي الْجَانِب جَنْبًا، قَالَ الشَّاعِر :
قُسِمَ مَجْهُودًا لِذَاكَ الْقَلْبُ | النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ |
يَعْنِي النَّاس مِنْ جَانِب وَالْأَمِير مِنْ جَانِب.
وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : أَيْ تَرَكْت مِنْ أَمْر اللَّه ; يُقَال مَا فَعَلْت ذَلِكَ فِي جَنْب حَاجَتِي ; قَالَ كُثَيِّر :
أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ | لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْك تَقَطَّعُ |
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد ; أَيْ ضَيَّعْت مِنْ أَمْر اللَّه.
وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَا جَلَسَ رَجُل مَجْلِسًا وَلَا مَشَى مَمْشًى وَلَا اِضْطَجَعَ مُضْطَجِعًا لَمْ يَذْكُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْم الْقِيَامَة ) أَيْ حَسْرَة ; خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ : مِنْ الْحَسَرَات يَوْم الْقِيَامَة أَنْ يَرَى الرَّجُل مَاله الَّذِي آتَاهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة فِي مِيزَان غَيْره، قَدْ وَرِثَهُ وَعَمِلَ فِيهِ بِالْحَقِّ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَعَلَى الْآخَر وِزْره، وَمِنْ الْحَسَرَات أَنْ يَرَى الرَّجُل عَبْده الَّذِي خَوَّلَهُ اللَّه إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا أَقْرَبَ مَنْزِلَة مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ يَرَى رَجُلًا يَعْرِفهُ أَعْمَى فِي الدُّنْيَا قَدْ أَبْصَرَ يَوْم الْقِيَامَة وَعَمِيَ هُوَ.
اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
أَيْ وَمَا كُنْت إِلَّا مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا وَبِأَوْلِيَاءِ اللَّه تَعَالَى : قَالَ قَتَادَة : لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَة اللَّه حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلهَا وَمَحَلّ " إِنْ كُنْت " النَّصْب عَلَى الْحَال ; كَأَنَّهُ قَالَ : فَرَّطْت وَأَنَا سَاخِر ; أَيْ فَرَّطْت فِي حَال سُخْرِيَتِي.
وَقِيلَ : وَمَا كُنْت إِلَّا فِي سُخْرِيَة وَلَعِب وَبَاطِل ; أَيْ مَا كَانَ سَعْيِي إِلَّا فِي عِبَادَة غَيْر اللَّه تَعَالَى.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ
يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ النَّفْس تَقُول حِين تَرَى الْعَذَاب
لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
أَيْ تَتَمَنَّى الرَّجْعَة.
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
نَصْب عَلَى جَوَاب التَّمَنِّي، وَإِنْ شِئْت كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى " كَرَّة " لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ أَكِرّ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي | أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ |
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء :فَمَا لَك مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَخَشْيَةٍ | وَتَسْأَلَ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا |
فَنُصِبَ وَتَسْأَلَ عَلَى مَوْضِع الذِّكْرَى ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام فَمَا لَك مِنْهَا إِلَّا أَنْ تَذْكُر.
وَمِنْهُ لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ ; أَيْ لَأَنْ أَلْبَسَ عَبَاءَةً وَتَقَرَّ.
وَقَالَ أَبُو صَالِح : كَانَ رَجُل عَالِم فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَجَدَ رُقْعَة : إِنَّ الْعَبْد لَيَعْمَل الزَّمَان الطَّوِيل بِطَاعَةِ اللَّه فَيُخْتَم لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْل النَّار فَيَدْخُل النَّار، وَإِنَّ الرَّجُل لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّه ثُمَّ يُخْتَم لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَيَدْخُل الْجَنَّة ; فَقَالَ : وَلِأَيِّ شَيْء أُتْعِبُ نَفْسِي فَتَرَكَ عَمَله وَأَخَذَ فِي الْفُسُوق وَالْمَعْصِيَة، وَقَالَ لَهُ إِبْلِيس : لَك عُمُر طَوِيل فَتَمَتَّعْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَتُوب، فَأَخَذَ فِي الْفُسُوق وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْفُجُور، فَأَتَاهُ مَلَك الْمَوْت فِي أَلَذّ مَا كَانَ، فَقَالَ : يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْب اللَّه ; ذَهَبَ عُمُرِي فِي طَاعَة الشَّيْطَان، فَنَدِمَ حِين لَا يَنْفَعهُ النَّدَم ; فَأَنْزَلَ اللَّه خَبَره فِي الْقُرْآن.
وَقَالَ قَتَادَة : هَؤُلَاءِ أَصْنَاف ; صِنْف مِنْهُمْ قَالَ :" يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْب اللَّه ".
وَصِنْف مِنْهُمْ قَالَ :" لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي لَكُنْت مِنْ الْمُتَّقِينَ ".
وَقَالَ آخَر :" لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُون مِنْ الْمُحْسِنِينَ " فَقَالَ اللَّه تَعَالَى رَدًّا لِكَلَامِهِمْ :" بَلَى قَدْ جَاءَتْك آيَاتِي "
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
قَالَ الزَّجَّاج :" بَلَى " جَوَاب النَّفْي وَلَيْسَ فِي الْكَلَام لَفْظ النَّفْي، وَلَكِنَّ مَعْنَى " لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي " مَا هَدَانِي، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِل قَالَ مَا هُدِيت ; فَقِيلَ : بَلْ قَدْ بُيِّنَ لَك طَرِيق الْهُدَى فَكُنْت بِحَيْثُ لَوْ أَرَدْت أَنْ تُؤْمِن أَمْكَنَك أَنْ تُؤْمِن.
" آيَاتِي " أَيْ الْقُرْآن.
وَقِيلَ : عَنَى بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَات ; أَيْ وَضَحَ الدَّلِيل فَأَنْكَرْته وَكَذَّبْته.
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
أَيْ تَكَبَّرْت عَنْ الْإِيمَان " وَكُنْت مِنْ الْكَافِرِينَ ".
وَقَالَ :" اِسْتَكْبَرْت وَكُنْت " وَهُوَ خِطَاب الذَّكَر ; لِأَنَّ النَّفْس تَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى.
يُقَال : ثَلَاثَة أَنْفُس.
وَقَالَ الْمُبَرِّد ; تَقُول الْعَرَب نَفْس وَاحِد أَيْ إِنْسَان وَاحِد.
وَرَوَى الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أُمّ سَلَمَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ :" قَدْ جَاءَتْك آيَاتِي فَكَذَّبْت بِهَا وَاسْتَكْبَرْت وَكُنْت مِنْ الْكَافِرِينَ ".
وَقَرَأَ الْأَعْمَش :" بَلَى قَدْ جَاءَتْهُ آيَاتِي " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى التَّذْكِير.
وَالرَّبِيع بْن أَنَس لَمْ يَلْحَق أُمّ سَلَمَة إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَة جَائِزَة ; لِأَنَّ النَّفْس تَقَع لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّث.
وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَة بَعْضهمْ وَقَالَ : يَجِب إِذَا كُسِرَ التَّاء أَنْ تَقُول وَكُنْتِ مِنْ الْكَوَافِرِ أَوْ مِنْ الْكَافِرَات.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يَلْزَم ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْله " أَنْ تَقُول نَفْس " ثُمَّ قَالَ :" وَإِنْ كُنْت لَمِنْ السَّاخِرِينَ " وَلَمْ يَقُلْ مِنْ السَّوَاخِرِ وَلَا مِنْ السَّاخِرَات.
وَالتَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة عَلَى كَسْر التَّاء " وَاسْتَكْبَرْت وَكُنْت " مِنْ الْجَمْع السَّاخِرِينَ أَوْ مِنْ النَّاس السَّاخِرِينَ أَوْ مِنْ الْقَوْم السَّاخِرِينَ.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ
أَيْ مِمَّا حَاطَ بِهِمْ مِنْ غَضَب اللَّه وَنِقْمَتِهِ.
وَقَالَ الْأَخْفَش :" تَرَى " غَيْر عَامِل فِي قَوْله :" وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ " إِنَّمَا هُوَ اِبْتِدَاء وَخَبَر.
الزَّمَخْشَرِيّ : جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال إِنْ كَانَ " تَرَى " مِنْ رُؤْيَة الْبَصَر، وَمَفْعُول ثَانٍ إِنْ كَانَ مِنْ رُؤْيَة الْقَلْب.
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ
بَيَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكِبْر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( سَفَهُ الْحَقّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) أَيْ اِحْتِقَارهمْ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا.
وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْم الْقِيَامَة كَالذَّرِّ يَلْحَقهُمْ الصَّغَارُ حَتَّى يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى سِجْن جَهَنَّم ).
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاحِدُهَا مِقْلِيد.
وَقِيلَ : مِقْلَاد وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِيهِ إِقْلِيد.
وَالْمَقَالِيد الْمَفَاتِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَقَالَ السُّدِّيّ : خَزَائِن السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقَالَ غَيْره : خَزَائِن السَّمَاوَات الْمَطَر، وَخَزَائِن الْأَرْض النَّبَات.
وَفِيهِ لُغَة أُخْرَى أَقَالِيد وَعَلَيْهَا يَكُون وَاحِدهَا إِقْلِيد.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْإِقْلِيد الْمِفْتَاح، وَالْمِقْلَد مِفْتَاح كَالْمِنْجَلِ رُبَّمَا يُقَلَّد بِهِ الْكَلَأ كَمَا يُقَلَّد الْقَتّ إِذَا جُعِلَ حِبَالًا ; أَيْ يُفْتَل وَالْجَمْع الْمَقَالِيد.
وَأَقْلَدَ الْبَحْرُ عَلَى خَلْق كَثِير أَيْ غَرَّقَهُمْ كَأَنَّهُ أَغْلَقَ عَلَيْهِمْ.
وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى :" لَهُ مَقَالِيد السَّمَاوَات وَالْأَرْض " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَد لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم هُوَ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن يُحْيِي وَيُمِيت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره، وَزَادَ مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى عَشْر مَرَّات أَعْطَاهُ اللَّه سِتّ خِصَال : أَوَّلُهَا يُحْرَس مِنْ إِبْلِيس، وَالثَّانِيَة يَحْضُرهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك، وَالثَّالِثَة يُعْطَى قِنْطَارًا مِنْ الْأَجْر، وَالرَّابِعَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة، وَالْخَامِسَة يُزَوِّجُهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين، وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآن وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور، وَلَهُ أَيْضًا مِنْ الْأَجْر كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقُبِلَتْ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا.
وَرَوَى الْحَارِث عَنْ عَلِيّ قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير الْمَقَالِيد فَقَالَ :( يَا عَلِيّ لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيم الْمَقَالِيد هُوَ أَنْ تَقُول عَشْرًا إِذَا أَصْبَحْت وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَيْت لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَانَ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مَنْ قَالَهَا عَشْرًا إِذَا أَصْبَحَ، وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَى أَعْطَاهُ اللَّه خِصَالًا سِتًّا : أَوَّلهَا يَحْرُسهُ مِنْ الشَّيْطَان وَجُنُوده فَلَا يَكُون لَهُمْ عَلَيْهِ سُلْطَان، وَالثَّانِيَة يُعْطَى قِنْطَارًا فِي الْجَنَّة هُوَ أَثْقَل فِي مِيزَانه مِنْ جَبَل أُحُد، وَالثَّالِثَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة لَا يَنَالهَا إِلَّا الْأَبْرَار، وَالرَّابِعَة يُزَوِّجهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين، وَالْخَامِسَة يَشْهَدُهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك يَكْتُبُونَهَا لَهُ فِي رَقّ مَنْشُور وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة، وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفُرْقَان، وَكَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقَبِلَ اللَّه حَجَّتَهُ وَعُمْرَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمه أَوْ لَيْلَته أَوَشَهْره طُبِعَ بِطَابَعِ الشُّهَدَاء.
وَقِيلَ : الْمَقَالِيد الطَّاعَة يُقَال أَلْقَى إِلَى فُلَان بِالْمَقَالِيدِ أَيْ أَطَاعَهُ فِيمَا يَأْمُرهُ ; فَمَعْنَى الْآيَة لَهُ طَاعَة مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْحُجَج وَالدَّلَالَات.
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
وَ " هُمْ " زَائِدَة ; وَيَجُوز أَنْ تَكُون " هُمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ، " الْخَاسِرُونَ " خَبَره، وَالثَّانِي وَخَبَره خَبَر الْأَوَّل كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْخَاسِر : الَّذِي نَقَصَ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ الْفَلَاح وَالْفَوْز.
وَالْخُسْرَان : النُّقْصَان، كَانَ فِي مِيزَان أَوْ غَيْره ; قَالَ جَرِير :
إِنَّ سُلَيْطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهْ | أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ |
يَعْنِي بِالْخَسَارِ مَا يَنْقُص مِنْ حُظُوظهمْ وَشَرَفهمْ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَخَسِرْت الشَّيْء ( بِالْفَتْحِ ) وَأَخْسَرْتُهُ نَقَصْته.
وَالْخَسَار وَالْخَسَارَة وَالْخَيْسَرَى : الضَّلَال وَالْهَلَاك.
فَقِيلَ لِلْهَالِكِ : خَاسِر ; لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسه وَأَهْله يَوْم الْقِيَامَة وَمُنِعَ مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
قِيلَ : إِنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ; وَالتَّقْدِير : لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْك لَئِنْ أَشْرَكْت وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك كَذَلِكَ.
وَقِيلَ : هُوَ عَلَى بَابه ; قَالَ مُقَاتِل : أَيْ أُوحِيَ إِلَيْك وَإِلَى الْأَنْبِيَاء قَبْلك بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْحِيد مَحْذُوف.
ثُمَّ قَالَ :" لَئِنْ أَشْرَكْت " يَا مُحَمَّد : لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك.
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
وَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة.
وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد أُمَّتُهُ ; إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُ لَا يُشْرِك وَلَا يَقَع مِنْهُ إِشْرَاك.
وَالْإِحْبَاط الْإِبْطَال وَالْفَسَاد ; قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَمَنْ اِرْتَدَّ لَمْ تَنْفَعْهُ طَاعَاته السَّابِقَة وَلَكِنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ مَشْرُوط بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْر ; وَلِهَذَا قَالَ :" مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهمْ " [ الْبَقَرَة : ٢١٧ ] فَالْمُطْلَق هَاهُنَا مَحْمُول عَلَى الْمُقَيَّد ; وَلِهَذَا قُلْنَا : مَنْ حَجَّ ثُمَّ اِرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَام لَا يَجِب عَلَيْهِ إِعَادَة الْحَجّ.
قُلْت : هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ.
وَعِنْد مَالِك تَجِب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] بَيَان هَذَا مُسْتَوْفًى.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ
النَّحَّاس : فِي كِتَابِي عَنْ أَبِي إِسْحَاق لَفْظ اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْصُوبٌ بِ " اُعْبُدْ " قَالَ : وَلَا اِخْتِلَاف فِي هَذَا بَيْن الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ.
قَالَ النَّحَّاس : وَقَالَ الْفَرَّاء يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْل.
وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ.
فَأَمَّا الْفَاء فَقَالَ الزَّجَّاج : إِنَّهَا لِلْمُجَازَاةِ.
وَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ زَائِدَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" فَاعْبُدْ " أَيْ فَوَحِّدْ.
وَقَالَ غَيْره :" بَلْ اللَّه " فَأَطِعْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
لِنِعَمِهِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ.
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
قَالَ الْمُبَرِّد : مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ مِنْ قَوْلِك فُلَان عَظِيم الْقَدْر.
قَالَ النَّحَّاس : وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَمَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَته إِذَا عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره، وَهُوَ خَالِق الْأَشْيَاء وَمَالِكهَا.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : جَاءَ يَهُودِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع وَالْخَلَائِق عَلَى إِصْبَع ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِكُ.
فَضَحِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ :" وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره ".
قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعَظَمَته.
وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَقْبِض اللَّه الْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة وَيَطْوِي السَّمَاء بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ).
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله :" وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ " قَالَتْ : قُلْت فَأَيْنَ النَّاس يَوْمَئِذٍ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ :( عَلَى جِسْر جَهَنَّم ) فِي رِوَايَة ( عَلَى الصِّرَاط يَا عَائِشَة ) قَالَ : حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْله :" وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ " ( وَيَقْبِض اللَّه الْأَرْض ) عِبَارَة عَنْ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاته ; يُقَال : مَا فُلَان إِلَّا فِي قَبْضَتِي، بِمَعْنَى مَا فُلَان إِلَّا فِي قُدْرَتِي، وَالنَّاس يَقُولُونَ الْأَشْيَاء فِي قَبْضَتِهِ يُرِيدُونَ فِي مِلْكِهِ وَقُدْرَته.
وَقَدْ يَكُون مَعْنَى الْقَبْض وَالطَّيّ إِفْنَاء الشَّيْء وَإِذْهَابه فَقَوْله جَلَّ وَعَزَّ :" وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَته " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ وَالْأَرْض جَمِيعًا ذَاهِبَة فَانِيَة يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمُرَاد بِالْأَرْضِ الْأَرَضُونَ السَّبْع ; يَشْهَد لِذَلِكَ شَاهِدَانِ : قَوْله :" وَالْأَرْض جَمِيعًا " وَلِأَنَّ الْمَوْضِع مَوْضِع تَفْخِيم وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَقَوْله :" وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ " لَيْسَ يُرِيد بِهِ طَيًّا بِعِلَاجٍ وَانْتِصَاب، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِذَلِكَ الْفَنَاء وَالذَّهَاب ; يُقَال : قَدْ اِنْطَوَى عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ وَجَاءَنَا غَيْره.
وَانْطَوَى عَنَّا دَهْر بِمَعْنَى الْمُضِيّ وَالذَّهَاب.
وَالْيَمِين فِي كَلَام الْعَرَب قَدْ تَكُون بِمَعْنَى الْقُدْرَة وَالْمِلْك ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " [ النِّسَاء : ٣ ] يُرِيد بِهِ الْمِلْك ; وَقَالَ :" لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " [ الْحَاقَّة : ٤٥ ] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة أَيْ لَأَخَذْنَا قُوَّتَهُ وَقُدْرَتَهُ.
قَالَ الْفَرَّاء وَالْمُبَرِّد : الْيَمِين الْقُوَّة وَالْقُدْرَة.
وَأَنْشَدَا :إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلْقَاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ |
وَقَالَ آخَر :وَلَمَّا رَأَيْت الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا | تَنَاوَلْت مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ |
قَتَلْت شُنَيْفًا ثُمَّ فَارَانَ بَعْدَهُ | وَكَانَ عَلَى الْآيَاتِ غَيْرَ أَمِينِ |
وَإِنَّمَا خُصَّ يَوْم الْقِيَامَة بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَته شَامِلَة لِكُلِّ شَيْء أَيْضًا ; لِأَنَّ الدَّعَاوَى تَنْقَطِع ذَلِكَ الْيَوْم، كَمَا قَالَ :" وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " [ الِانْفِطَار : ١٩ ] وَقَالَ :" مَالِك يَوْم الدِّين " [ الْفَاتِحَة : ٣ ] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي [ الْفَاتِحَة ] وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيث :( ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ) وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب فِي التَّذْكِرَة بَيَانًا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذِكْر الشِّمَال فِي حَدِيث اِبْن عُمَر قَوْله :( ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْض بِشِمَالِهِ ).
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ بِجَارِحَةٍ.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى
بَيَّنَ مَا يَكُون بَعْد قَبْض الْأَرْض وَطَيّ السَّمَاء وَهُوَ النَّفْخ فِي الصُّور، وَإِنَّمَا هُمَا نَفْخَتَانِ ; يَمُوت الْخَلْق فِي الْأُولَى مِنْهُمَا وَيَحْيَوْنَ فِي الثَّانِيَة، وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي [ النَّمْل ] وَ [ الْأَنْعَام ] أَيْضًا.
وَاَلَّذِي يَنْفُخ فِي الصُّور هُوَ إِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَكُون مَعَهُ جِبْرِيل لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِنَّ صَاحِبَيْ الصُّور بِأَيْدِيهِمَا - أَوْ فِي أَيْدِيهمَا - قَرْنَانِ يُلَاحِظَانِ النَّظَر مَتَى يُؤْمَرَانِ ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن.
وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِب الصُّور، وَقَالَ :( عَنْ يَمِينه جَبْرَائِيل وَعَنْ يَسَاره مِيكَائِيل ).
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مَنْ هُمْ ؟ فَقِيلَ : هُمْ الشُّهَدَاء مُتَقَلِّدِينَ أَسْيَافَهُمْ حَوْل الْعَرْش.
رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ، وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ.
وَقِيلَ : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت عَلَيْهِمْ السَّلَام.
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا :" وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه مَنْ هُمْ الَّذِينَ اِسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى ؟ قَالَ :( هُمْ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِمَلَكِ الْمَوْت يَا مَلَكَ الْمَوْت مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِي وَهُوَ أَعْلَم فَيَقُول يَا رَبّ بَقِيَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَعَبْدُك الضَّعِيف مَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى خُذْ نَفْس إِسْرَافِيل وَمِيكَائِيل فَيَخِرَّانِ مَيِّتَيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فَيَقُول مُتّ يَا مَلَك الْمَوْت فَيَمُوت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِجِبْرِيل يَا جِبْرِيل مَنْ بَقِيَ فَيَقُول تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام وَجْهُك الْبَاقِي الدَّائِم وَجِبْرِيل الْمَيِّت الْفَانِي فَيَقُول اللَّه تَعَالَى يَا جِبْرِيل لَا بُدّ مِنْ مَوْتك فَيَقَع سَاجِدًا يَخْفِق بِجَنَاحَيْهِ يَقُول سُبْحَانَك رَبِّي تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت يَا ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام ) قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ فَضْل خَلْقه عَلَى خَلْق مِيكَائِيل كَالطَّوْدِ الْعَظِيم عَلَى الظَّرِب مِنْ الظِّرَاب ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَذَكَرَهُ النَّحَّاس أَيْضًا مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، عَنْ يَزِيد الرَّقَاشِيّ، عَنْ أَنَس بْن مَالِك، عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله جَلَّ وَعَزَّ :" فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " قَالَ :( جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَحَمَلَة الْعَرْش وَمَلَك الْمَوْت وَإِسْرَافِيل ) وَفِي هَذَا الْحَدِيث :( إِنَّ آخِرهمْ مَوْتًا جِبْرِيل عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ السَّلَام ) وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الشُّهَدَاء أَصَحّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ النَّمْل ].
وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ رِضْوَان وَالْحُور وَمَالِك وَالزَّبَانِيَة.
وَقِيلَ : عَقَارِب أَهْل النَّار وَحَيَّاتهَا.
وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَمَا يَدَع أَحَدًا مِنْ أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا أَذَاقَهُ الْمَوْت.
وَقَالَ قَتَادَة : اللَّه أَعْلَم بِثُنْيَاهُ.
وَقِيلَ : الِاسْتِئْنَاء فِي قَوْله :" إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه " يَرْجِع إِلَى مَنْ مَاتَ قَبْل النَّفْخَة الْأُولَى ; أَيْ فَيَمُوت مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَنْ سَبَقَ مَوْته لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ مَاتُوا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَابْن مَاجَهْ وَاللَّفْظ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَجُل مِنْ الْيَهُود بِسُوقَيْ الْمَدِينَة، وَاَلَّذِي اِصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَر فَرَفَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يَده فَلَطَمَهُ ; قَالَ : تَقُول هَذَا وَفِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ " فَأَكُون أَوَّل مَنْ رَفَعَ رَأْسه فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِم الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسه قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ ) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا، وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَنْ حَمَلَ الِاسْتِثْنَاء عَلَى مُوسَى وَالشُّهَدَاء فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَاتُوا غَيْر أَنَّهُمْ أَحْيَاء عِنْد اللَّه.
فَيَجُوز أَنْ تَكُون الصَّعْقَة بِزَوَالِ الْعَقْل زَوَال الْحَيَاةِ، وَيَجُوز أَنْ تَكُون بِالْمَوْتِ، وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمَوْت وَالْحَيَاة فَكُلّ ذَلِكَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ الْعَقْل، وَالْأَمْر فِي وُقُوعه مَوْقُوف عَلَى خَبَر صِدْق.
قُلْت : جَاءَ فِي بَعْض طُرُق أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ :( لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاس يُصْعَقُونَ فَأَكُون أَوَّل مَنْ يُفِيق فَإِذَا مُوسَى بَاطِش بِجَانِبِ الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه ) خَرَّجَهُ مُسْلِم.
وَنَحْوه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ; وَالْإِفَاقَة إِنَّمَا تَكُون عَنْ غَشْيَة وَزَوَال عَقْل لَا عَنْ مَوْت بِرَدِّ الْحَيَاة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ
أَيْ فَإِذَا الْأَمْوَات مِنْ أَهْل الْأَرْض وَالسَّمَاء أَحْيَاء بُعِثُوا مِنْ قُبُورهمْ، وَأُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ أَبْدَانهمْ وَأَرْوَاحهمْ، فَقَامُوا يَنْظُرُونَ مَاذَا يُؤْمَرُونَ.
وَقِيلَ : قِيَام عَلَى أَرْجُلهمْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْث الَّذِي وُعِدُوا بِهِ.
وَقِيلَ : هَذَا النَّظَر بِمَعْنَى الِانْتِظَار ; أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَل بِهِمْ.
وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ قِيَامًا بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : خَرَجْت فَإِذَا زَيْد جَالِسًا.
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
إِشْرَاقُهَا إِضَاءَتُهَا ; يُقَال : أَشْرَقَتْ الشَّمْس إِذَا أَضَاءَتْ وَشَرَقَتْ إِذَا طَلَعَتْ.
وَمَعْنَى :" بِنُورِ رَبِّهَا " بِعَدْلِ رَبّهَا ; قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره.
وَقَالَ الضَّحَّاك : بِحُكْمِ رَبّهَا ; وَالْمَعْنَى وَاحِد ; أَيْ أَنَارَتْ وَأَضَاءَتْ بِعَدْلِ اللَّه وَقَضَائِهِ بِالْحَقِّ بَيْن عِبَاده.
وَالظُّلْم ظُلُمَات وَالْعَدْل نُور.
وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه يَخْلُق نُورًا يَوْم الْقِيَامَة يُلْبِسُهُ وَجْه الْأَرْض فَتُشْرِق الْأَرْض بِهِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النُّور الْمَذْكُور هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ نُور الشَّمْس وَالْقَمَر، بَلْ هُوَ نُور يَخْلُقهُ اللَّه فَيُضِيء بِهِ الْأَرْض.
وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْض يَوْمئِذٍ مِنْ فِضَّة تُشْرِق بِنُورِ اللَّه تَعَالَى حِين يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاء.
وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَشْرَقَتْ بِنُورٍ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى، فَأَضَافَ النُّور إِلَيْهِ عَلَى حَدّ إِضَافَة الْمِلْك إِلَى الْمَالِك.
وَقِيلَ : إِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْن خَلْقه ; لِأَنَّهُ نَهَار لَا لَيْل مَعَهُ.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعُبَيْد بْن عُمَيْر :" وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض " عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله وَهِيَ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير.
وَقَدْ ضَلَّ قَوْم هَاهُنَا فَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جِنْس النُّور وَالضِّيَاء الْمَحْسُوس، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَحْسُوسَات، بَلْ هُوَ مُنَوِّر السَّمَاوَات وَالْأَرْض، فَمِنْهُ كُلّ نُور خَلْقًا وَإِنْشَاء.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض بِنُورِ رَبّهَا " يُبَيِّنُ هَذَا الْحَدِيث الْمَرْفُوع مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح ( تَنْظُرُونَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته ) وَهُوَ يُرْوَى عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه : لَا تُضَامُونَ وَلَا تُضَارُونَ وَلَا تُضَامُّونَ وَلَا تُضَارُّونَ ; فَمَعْنَى ( لَا تُضَامُونَ ) لَا يَلْحَقُكُمْ ضَيْم كَمَا يَلْحَقُكُمْ فِي الدُّنْيَا فِي النَّظَر إِلَى الْمُلُوك.
وَ ( لَا تُضَارُونَ ) لَا يَلْحَقكُمْ ضَيْر.
وَ ( لَا تُضَامُّونَ ) لَا يَنْضَمُّ بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض لِيَسْأَلهُ أَنْ يُرِيَهُ.
وَ ( لَا تُضَارُّونَ ) لَا يُخَالِف بَعْضكُمْ بَعْضًا.
يُقَال : ضَارَّهُ مُضَارَّة وَضِرَارًا أَيْ خَالَفَهُ.
وَوُضِعَ الْكِتَابُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقَالَ قَتَادَة : يُرِيد الْكِتَاب وَالصُّحُف الَّتِي فِيهَا أَعْمَال بَنِي آدَم، فَآخِذ بِيَمِينِهِ وَآخِذ بِشِمَالِهِ.
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
أَيْ جِيءَ بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ.
وَالشُّهَدَاءِ
الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْأُمَم مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس " [ الْبَقَرَة : ١٤٣ ].
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيل اللَّه، فَيَشْهَدُونَ يَوْم الْقِيَامَة لِمَنْ ذَبَّ عَنْ دِين اللَّه ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
قَالَ اِبْن زَيْد : هُمْ الْحَفَظَة الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاس بِأَعْمَالِهِمْ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَجَاءَتْ كُلّ نَفْس مَعَهَا سَائِق وَشَهِيد " [ ق : ٢١ ] فَالسَّائِق يَسُوقهَا إِلَى الْحِسَاب وَالشَّهِيد يَشْهَد عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ ق ].
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْل.
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَا يُنْقَص مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَاد عَلَى سَيِّئَاتهمْ.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا
هَذَا بَيَان تَوْفِيَة كُلّ نَفْس عَمَلَهَا، فَيُسَاق الْكَافِر إِلَى النَّار وَالْمُؤْمِن إِلَى الْجَنَّة.
وَالزُّمَر : الْجَمَاعَات وَاحِدَتهَا زُمْرَة كَظُلْمَةٍ وَغُرْفَةٍ.
وَقَالَ الْأَخْفَش وَأَبُو عُبَيْدَة :" زُمَرًا " جَمَاعَات مُتَفَرِّقَة بَعْضهَا إِثْر بَعْض.
قَالَ الشَّاعِر :وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهْ | زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرْ |
وَقَالَ آخَر :حَتَّى اِحْزَأَلَّتْ | زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ |
وَقِيلَ : دَفْعًا وَزَجْرًا بِصَوْتٍ كَصَوْتِ الْمِزْمَار.
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
جَوَاب إِذَا، وَهِيَ سَبْعَة أَبْوَاب.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ].
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
وَاحِدهمْ خَازِن نَحْو سَدَنَة وَسَادِن،
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُولُونَ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
" أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ "
يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
أَيْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَى الْأَنْبِيَاء.
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ لِقَاء يَوْمكُمْ هَذَا
قَالُوا بَلَى
أَيْ قَدْ جَاءَتْنَا، وَهَذَا اِعْتِرَاف مِنْهُمْ بِقِيَامِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ
وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
وَهِيَ قَوْله تَعَالَى :" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " [ السَّجْدَة : ١٣ ].
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَيْ يُقَال لَهُمْ اُدْخُلُوا جَهَنَّم.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي أَبْوَابهَا.
قَالَ وَهْب : تَسْتَقْبِلهُمْ الزَّبَانِيَة بِمَقَامِعَ مِنْ نَار فَيَدْفَعُونَهُمْ بِمَقَامِعِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيَقَع فِي الدَّفْعَة الْوَاحِدَة إِلَى النَّار بِعَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
بَيَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكِبْر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْص النَّاس ) أَيْ اِحْتِقَارهمْ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا.
وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْم الْقِيَامَة كَالذَّرِّ يَلْحَقُهُمْ الصَّغَار حَتَّى يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى سِجْن جَهَنَّم ).
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
يَعْنِي مِنْ الشُّهَدَاء وَالزُّهَّاد وَالْعُلَمَاء وَالْقُرَّاء وَغَيْرهمْ، مِمَّنْ اِتَّقَى اللَّه تَعَالَى وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ.
وَقَالَ فِي حَقّ الْفَرِيقَيْنِ :" وَسِيقَ " بِلَفْظٍ وَاحِد، فَسَوْقُ أَهْل النَّار طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بِالْخِزْيِ وَالْهَوَان، كَمَا يُفْعَل بِالْأُسَارَى وَالْخَارِجِينَ عَلَى السُّلْطَان إِذَا سِيقُوا إِلَى حَبْس أَوْ قَتْل، وَسَوْق أَهْل الْجِنَان سَوْق مَرَاكِبهمْ إِلَى دَار الْكَرَامَة وَالرِّضْوَان ; لِأَنَّهُ لَا يُذْهَب بِهِمْ إِلَّا رَاكِبِينَ كَمَا يُفْعَل بِمَنْ يُشَرَّف وَيُكَرَّم مِنْ الْوَافِدِينَ عَلَى بَعْض الْمُلُوك، فَشَتَّانَ مَا بَيْن السَّوْقَيْنِ.
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
قِيلَ : الْوَاو هُنَا لِلْعَطْفِ عَطْف عَلَى جُمْلَة وَالْجَوَاب مَحْذُوف.
قَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ سُعِدُوا وَفُتِحَتْ، وَحَذْف الْجَوَاب بَلِيغ فِي كَلَام الْعَرَب.
وَأَنْشَدَ :فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً | وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا |
فَحَذَفَ جَوَاب لَوْ وَالتَّقْدِير لَكَانَ أَرْوَحَ.
وَقَالَ الزَّجَّاج :" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا " دَخَلُوهَا وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل.
وَقِيلَ : الْوَاو زَائِدَة.
قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ خَطَأ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ زِيَادَة الْوَاو دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَبْوَاب فُتِحَتْ لَهُمْ قَبْل أَنْ يَأْتُوا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَأَبْوَابهَا مُفَتَّحَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْله :" جَنَّات عَدْن مُفَتَّحَةً لَهُمْ الْأَبْوَابُ " [ ص : ٥٠ ] وَحَذَفَ الْوَاو فِي قِصَّة أَهْل النَّار ; لِأَنَّهُمْ وُقِفُوا عَلَى النَّار وَفُتِحَتْ بَعْد وُقُوفهمْ إِذْلَالًا وَتَرْوِيعًا لَهُمْ.
ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَحَكَى مَعْنَاهُ النَّحَّاس قَبْله.
قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الْحِكْمَة فِي إِثْبَات الْوَاو فِي الثَّانِي وَحَذْفهَا مِنْ الْأَوَّل، فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْعِلْم بِقَوْلٍ لَا أَعْلَم أَنَّهُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَد، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْل النَّار :" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابهَا " دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَة وَلَمَّا قَالَ فِي أَهْل الْجَنَّة :" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا " دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَة قَبْل أَنْ يَجِيئُوهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقِيلَ : إِنَّهَا وَاو الثَّمَانِيَة.
وَذَلِكَ مِنْ عَادَة قُرَيْش أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ الْوَاحِد فَيَقُولُونَ خَمْسَة سِتَّة سَبْعَة وَثَمَانِيَّة، فَإِذَا بَلَغُوا السَّبْعَة قَالُوا وَثَمَانِيَّة.
قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَّة أَيَّام " [ الْحَاقَّة : ٧ ] وَقَالَ :" التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ " [ التَّوْبَة : ١١٢ ] ثُمَّ قَالَ فِي الثَّامِن :" وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر " [ التَّوْبَة : ١١٢ ] وَقَالَ :" وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنُهُمْ " [ الْكَهْف : ٢٢ ] وَقَالَ " ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا " [ التَّحْرِيم : ٥ ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ بَرَاءَة ] مُسْتَوْفًى وَفِي [ الْكَهْف ] أَيْضًا.
قُلْت : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة ; وَذَكَرُوا حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب، قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغ - أَوْ فَيُسْبِغ الْوُضُوء - ثُمَّ قَالَ أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره.
وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث عُمَر هَذَا وَقَالَ فِيهِ :( فُتِحَ لَهُ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب يَوْم الْقِيَامَة ) بِزِيَادَةِ مِنْ وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة أَكْثَر مِنْ ثَمَانِيَة.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة وَانْتَهَى عَدَدهَا إِلَى ثَلَاثَة عَشَر بَابًا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ عِظَمَ أَبْوَابهَا وَسَعَتَهَا حَسَبَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث مِنْ ذَلِكَ، فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
قِيلَ : الْوَاو مُلْغَاة تَقْدِيره حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحْت أَبْوَابهَا " قَالَ لَهُمْ خَزَنَتهَا سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ " أَيْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُجَاهِد : بِطَاعَةِ اللَّه.
وَقِيلَ : بِالْعَمَلِ الصَّالِح.
حَكَاهُ النَّقَّاش وَالْمَعْنَى وَاحِد.
وَقَالَ مُقَاتِل : إِذَا قَطَعُوا جِسْر جَهَنَّم حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا قَالَ لَهُمْ رِضْوَان وَأَصْحَابه :" سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " بِمَعْنَى التَّحِيَّة " طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ".
قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ حَدِيث الْقَنْطَرَة هَذَا فِي جَامِعه مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَخْلُص الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُول الْجَنَّة فَوَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّة مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ) وَحَكَى النَّقَّاش : إِنَّ عَلَى بَاب الْجَنَّة شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ سَاقِهَا عَيْنَانِ يَشْرَب الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتُطَهِّرُ أَجْوَافهمْ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" وَسَقَاهُمْ رَبّهمْ شَرَابًا طَهُورًا " [ الْإِنْسَان : ٢١ ] ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ مِنْ الْأُخْرَى فَتَطِيب أَبْشَارُهُمْ فَعِنْدهَا يَقُول لَهُمْ خَزَنَتُهَا :" سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ " وَهَذَا يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ
يَا مُحَمَّد
حَافِّينَ
أَيْ مُحْدِقِينَ وَالْحَافُّونَ أُخِذَ مِنْ حَافَّات الشَّيْء وَنَوَاحِيه.
قَالَ الْأَخْفَش : وَاحِدهمْ حَافّ.
وَقَالَ الْفَرَّاء : لَا وَاحِد لَهُ إِذْ لَا يَقَع لَهُمْ الِاسْم إِلَّا مُجْتَمِعِينَ.
مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
فِي ذَلِكَ الْيَوْم وَدَخَلَتْ " مِنْ " عَلَى " حَوْل " لِأَنَّهُ ظَرْف وَالْفِعْل يَتَعَدَّى إِلَى الظَّرْف بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْف.
وَقَالَ الْأَخْفَش :" مِنْ " زَائِدَة أَيْ حَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْش.
وَهُوَ كَقَوْلِك : مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَد، فَمِنْ تَوْكِيد.
الثَّعْلَبِيّ : وَالْعَرَب تُدْخِل الْبَاء أَحْيَانًا فِي التَّسْبِيح وَتَحْذِفهَا أَحْيَانًا، فَيَقُولُونَ : سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك، وَسَبِّحْ حَمْدًا لِلَّهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " [ الْأَعْلَى : ١ ] وَقَالَ :" فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّك الْعَظِيم " [ الْوَاقِعَة : ٧٤ ].
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
مُتَلَذِّذِينَ بِذَلِكَ لَا مُتَعَبِّدِينَ بِهِ ; أَيْ يُصَلُّونَ حَوْل الْعَرْش شُكْرًا لِرَبِّهِمْ.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
بَيْن أَهْل الْجَنَّة وَالنَّار.
وَقِيلَ : قُضِيَ بَيْن النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جِيءَ بِهِمْ مَعَ الشُّهَدَاء وَبَيْن أُمَمهمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْل.
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أَيْ يَقُول الْمُؤْمِنُونَ الْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا أَثَابَنَا مِنْ نِعَمه وَإِحْسَانه وَنَصَرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا.
وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : اِفْتَتَحَ اللَّه أَوَّل الْخَلْق بِالْحَمْد لِلَّهِ، فَقَالَ :" الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " [ الْأَنْعَام : ١ ] وَخَتَمَ بِالْحَمْدِ فَقَالَ :" وَقَضَى بَيْنهمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " فَلَزِمَ الِاقْتِدَاء بِهِ، وَالْأَخْذ فِي اِبْتِدَاء كُلّ أَمْر بِحَمْدِهِ وَخَاتِمَته بِحَمْدِهِ.
وَقِيلَ : إِنَّ قَوْل " الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة فَعَلَى هَذَا يَكُون حَمْدُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَدْله وَقَضَائِهِ.
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر آخِرَ سُورَةِ " الزُّمَر " فَتَحَرَّكَ الْمِنْبَرُ مَرَّتَيْنِ