ووجه اتصالها بما قبلها :
( ١ ) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله :﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾( ص : ٨٧ ) ووصفه هنا بقوله :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾( الزمر : ١ ).
( ٢ ) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، وذكر هنا مثله إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل.
ﰡ
﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية :﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين١٩٢ نزل به الروح الأمين١٩٣ على قلبك لتكون من المنذرين١٩٤ بلسان عربي مبين ﴾( الشعراء : ١٩٢-١٩٥ ) وجاء في قوله :﴿ وإنه لكتاب عزيز٤١ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴾( فصلت : ٤١-٤٢ ).
وبعد أن بين شأن المنزل وأنه من عند الله- ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزل من الحق والعدل فقال :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما.
ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال :﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ﴾أي فاعبده تعالى ممحضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ند له ولا شريك. ثم أكد هذا الأمر بقوله :﴿ ألا لله الدين الخالص ﴾
﴿ ألا لله الدين الخالص ﴾ أي ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، وفي حديث الحسن عن أبي هريرة " أن رجلا قال : يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده، لا يقبل الله شيئا شورك فيه "، ثم تلا :﴿ ألا لله الدين الخالص ﴾ ".
وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص لله- أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال :﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.
ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب، والملائكة، والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة وهي نعبد الإله الأعظم.
وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العاقبة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة كما قال :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾( النحل : ٣٦ ) وقال :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾( الأنبياء : ٢٥ ). قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا : الله. فيقال لهم فلم تعبدونهم ؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله :﴿ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانان آلهة بل ضلوا عنهم ﴾( الأحقاف : ٢٨ ).
ثم هددهم وبين لهم عاقبة ما يفعلون فقال :﴿ إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ﴾أي إن الله يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة، ويجازي كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار.
ثم بين نتيجة الحكم قال :﴿ إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾أي إن الله لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدا وأن له ندا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندا من نقل.
ثم فصل ما كذبوا فيه فقال :
﴿ لو أراد الله أن يتخذوا ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء ﴾أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا- ولا ينبغي له ذلك لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، فكيف نسبتم إليه البنات ؟
ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال :﴿ سبحانه هو الله الواحد القهار ﴾أي : تقدس الله أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط المخلوقات بقدرته فدلت له، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
تفسير المفردات :
التكوير : في الأصل اللف واللي من كار العمامة على رأسه وكورها، والمراد يذهب الليل ويغشي مكانه النهار، والعكس بالعكس، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له، والأجل المسمى : يوم القيامة.
الإيضاح :
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار، تكون الليل والنهار، والعالم السفلي المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه- خلقهما على أكمل وجه، وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب، والحكم والمصالح.
وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال :
﴿ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ﴾أي يغشي كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهي مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار، فالأرض كالرأس والظلام يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها.
وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا، فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة.
﴿ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ﴾أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له ( وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما ) يجريان لمنتهى دورتهما، ومنقطع حركتهما، وهو يوم القيامة، ﴿ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ﴾( الأنبياء : ١٠٤ ).
ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي، فقال :
﴿ ألا هو العزيز الغفار ﴾أي ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال. وأنعم على خلقه بهذه النعم- هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين.
ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته، وكمال رحمته، فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين.
والظلمات الثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، تصرفون : أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي- أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلي، وبدأها بخلق الإنسان، لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية ولله در من قال :
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
﴿ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ﴾أي : خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم- من نفس واحدة وهي آدم، ثم جعل من جنسها زوجها وهي حواء، ثم ثنى بخلق الحيوان فقال :
﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾أي : وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي التي ذكرها في سورة الأنعام ﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ﴾( الأنعام : ١٤٣ )، ﴿ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ﴾( الأنعام : ١٤٤ ) أي ذكر وأنثى لكل منها.
ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام فقال :
﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾أي : يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، فيكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون لحما وعظما وعصبا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
﴿ في ظلمات ثلاث ﴾أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه ( الإسلام والطب الحديث ) : يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات : هي الغشاء المنباري، والخربون، والغشاء اللقانقي، وهي لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة اه.
وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال :
﴿ ذلكم الله ربكم ﴾أي : ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله- هو الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه.
﴿ له الملك ﴾على الإطلاق في الدنيا والآخرة.
﴿ لا إله إلا هو ﴾أي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له.
﴿ فأنى تصرفون ﴾أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء ما يصرف عنها- إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها.
والخلاصة : كيف تعبدون معه سواء ؟ أين ذهبت عقولكم ؟ وكيف ضاعت أحلامكم ؟
الإيضاح :
﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ﴾أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا، فهو الغني عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾( إبراهيم : ٨ ) وجاء في صحيح مسلم :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".
ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال :
﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾أي لا يحبه ولا يأمر به، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنصب وممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
﴿ وإن تشكروا يرضه لكم ﴾لأنه على مقتضى السنن القويم، والصراط العادل المستقيم كما قال :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾( إبراهيم ٧ ).
ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازي بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل سواه فقال :
﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾أي ولا تحمل أي نفس أوزار نفس أخرى، بل كل مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا.
ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال :
﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ثم يجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا.
ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال :
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار ؟
منيبا : أي راجعا إليه مطيعا له، خوله : ملكه، وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير بن أبي سلمى :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا | وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا |
ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله ﴾أي وإذا أصاب الكافر بلاء في جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته- استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضر، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء- ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضر، فجعل لله شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده واٌلإقرار به والدخول في الإسلام له.
ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال :﴿ قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ﴾أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك : تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها الله في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان، زمنا قليلا إلى أن تستوفي أجلك، وتأتيك منيك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا.
المعنى الجملي : بعد أن أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء- أردفه ذكر أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
تفسير المفردات :
القانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة، آناء الليل : ساعاته واحدها آن، يحذر الآخرة : أي يخشى عذابها.
الإيضاح :
﴿ أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ﴾أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات، ودائب على وظائف العبادات، في ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد من الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وهو في حال عبادته خائف راج ؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.
والخلاصة : أمن هو مطيع كمن هو عاص ؟ إنهما لا يستويان.
ثم أكد نفي التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال :﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾أي قل أيها الرسول لقومك : هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون من سيئها شرا.
وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في درجات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.
ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذي لب، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة، لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال :
﴿ إنما يتذكر أولو الألباب ﴾أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا، لا أهل الجهل والغفلة.
والخلاصة : إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.
( ١ ) تقوى الله وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته في بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان.
( ٢ ) إنه أمر بعبادة الله وحده مخلصا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى ؟ فأنزل الله الآية وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه على كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة.
( ٣ ) إنه أمر أن يقول لهم : إني أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.
( ٤ ) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
( ٥ ) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوف بها عباده.
الإيضاح :
﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ﴾أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره.
ثم علل وجوب الامتثال بقوله :
﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكى نفسه فيها- حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾( التوبة : ٧٢ ).
ثم رغبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبرهم على مفارقة الأوطان فقال :
﴿ وأرض الله واسعة ﴾أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال :
﴿ إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره، كما وفى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة، وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أد الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبا " ثم تلا :﴿ غنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾قال النحاس : من صبر على المعاصي يقال صابر، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا.
ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال :﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ﴾أي قل أيها الرسول لمشركي قومك : إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد.
وفي هذا نعي لهم على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم ( إياك أعني واسمعي يا جاره ).
﴿ وأمرت لأن أكون أول المسلمين ﴾أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم في إخلاص التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة.
﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾أي قل لهم : إني أخاف إن عصيت ربي بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية -عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام. وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.
ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال :﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني* فاعبدوه ما شئتم من دونه ﴾أي قل لهم : الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصا له عبادتي مبتعدا من الشرك والرياء، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.
ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال :
﴿ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ﴾أي قل لهم أيها الرسول : إن الخسران الذي لا خسران بعده- هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.
﴿ ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هوله، وفظاعة شأنه.
﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ﴾أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل، ومن تحتهم مثلها، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب.
ونحو الآية قوله :﴿ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾( العنكبوت : ٥٥ ) وقوله :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾( الأعراف : ٤١ ).
﴿ ذلك يخوف الله به عباده ﴾أي إنما يقص عليكم ربكم خير ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام.
بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال :
﴿ يا عباد فاتقوني ﴾أي يا عبادي بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة.
الإيضاح :
﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوا وأنابوا إلى الله لهم البشرى ﴾الطاغوت : الشيطان، ويطلق على الواحد والجمع، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان، إذ كان الآمر بها، والمزين لها.
أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه- لهم البشرى بالثواب العظيم من الله على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب.
ثم مدحهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والفضل، فقال :
﴿ فبشر عباد* الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول- بالنعيم المقيم في جنات النعيم.
﴿ أولئك الذين هداهم الله ﴾أي هؤلاء هم الذين وفقهم الله للرشاد، وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.
﴿ وأولئك هم أولو الألباب ﴾أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.
روي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر : زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون " لا إله إلا الله ".
ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال :﴿ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ﴾أي أأنت مالك شؤون الناس ومصرف أمورهم، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي- فأنت تنقذ من النار ؟- كلا، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله.
ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال :﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار ﴾أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجري الأنهار خلال أشجارها.
ثم أكد حصول ذلك لهم فقال :﴿ وعد الله لا يخلف الله الميعاد ﴾أي وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفي بوعده.
تفسير المفردات :
فسلكه : أي فأدخله، ينابيع : أي عيونا ومجاري، ألوانه : أي أنواعه وأصنافه، يهيج : أي يجف، حطاما : أي فتاتا متكسرا.
الإيضاح :
إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من بر إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتا متكسرة، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهي سريعة التقضي وشيكة الزوال، فليعتبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتتنوا بزخرفها.
ونحو الآية قوله :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ﴾( الكهف : ٤٥ ).
تفسير المفردات :
شرح الصدر للإسلام : الفرح به والطمأنينة إليه، والنور : البصيرة والهدى، والقسوة : جمود وصلابة في القلب، يقال قل بقاس : أي لا يرق ولا يلين.
الإيضاح :
﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾أي : أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد- كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته ؟ وقد روي أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلوة، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل حلول الموت.
والخلاصة : هل يستوي من أنار الله بصيرته ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق ؟
ونحو الآية قوله :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾( الأنعام : ١٢٢ ).
قال ابن عباس من شرح الله صدره للإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال :" تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبي الله كيف انشراح صدره ؟ قال :" إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " قلنا : فما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال :" الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت ". وأخرج الترمذي عن ابن عمر : أن رجلا قال : يا رسول الله أي المؤمنين أكيس ؟ قال :" أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع "، فقالوا : ما آية ذلك يا نبي الله ؟ قال :" الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السابقة فقال :
﴿ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ﴾أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب، فهم إذا ذكر الله عندهم، وذكرت دلائل قدرته، وبدائع صنعته، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.
قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ".
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي ".
ثم بين حالهم فقال :﴿ أولئك في ضلال مبين ﴾أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم في غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.
وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾.
أحسن الحديث : هو القرآن، متشابها : أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام، مثانى : واحدها مثنى من التثنية : أي التكرير، تقشعر : أي تضطرب وتتحرك وتشمئز، تلين : أي تسكن وتطمئن.
الإيضاح :
﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس قال الزجاج : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله.
﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ﴾أي ذلك الكتاب يهدي به الله من يشاء ويوفقه للإيمان.
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به، فما له من مخرج من الضلالة، ولا موفق لسلوك طريق الحق.
﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ﴾ أي أكل الناس سواء ؟ فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة ( لأن يده التي كان يتقي بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه )، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال :
﴿ وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي- ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا، ودسيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية، النار الحامية.
ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروي فقال :﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون* فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا، فأصيبت تارة بالمسخ، وأخرى بالخسف، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.
الخزي : الذل والهوان.
يتذكرون : أي يتعظون.
الإيضاح :
ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال :﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا من كل مثل لعلهم يتذكرون* قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربي لا لبس فيه ولا اختلاف، ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة، ويتبرؤوا من الآلهة والأنداد.
غير ذي عوج : أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه قال :
وقد أتاك يقين غير ذي عوج | من الإله وقول غير مكذوب |
تفسير المفردات :
ضرب المثل : تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها، متشاكسون : أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم، سلما لرجل : أي خالصا لسيد واحد.
الإيضاح :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا ﴾أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم : ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع، فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو حائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين، وإذا احتاج إليهم في مهم رده كل منهم إلى الآخرين، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو بعينه على مهماته، ويقضي له سائر حاجاته، فأي العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا ؟- الجواب لا يحتاج إلى بيان- هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالا حائرا لا يدري أي تلك الآلهة يعبد ؟ ولا على أيهم يعتمد ؟ وممن يطلب رزقه ؟ وممن يلتمس رفده ؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه، عارف ما يرضيه وما يسخطه- لا شك أن البون بين حالهما شاسع.
وقوله :﴿ هل يستويان مثلا ﴾أي هل تستوي صفتاهما وحالاهما ؟
﴿ الحمد لله ﴾أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو- ثبت أن الحمد لله لا لغيره.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾أي بل أكثرهم الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.
والميت ( بالتشديد ) من لم يمت وسيموت، والميت ( بالتخفيف ) من قد مات وفارقته الروح، قال الخليل أنشد أبو عمرو :
وتسألني تفسير ميت وميت | فدونك قد فسرت إن كنت تعقل |
فمن كان ذا روح فذلك ميت | وما الميت إلا من إلى القبر يحمل |
ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكيم العدل، وهناك يتميز المحق من المبطل قال :
﴿ إنك ميت وإنهم ميتون* ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾أي إنك ستموت وهم سيموتون، ثم تختصمون عند ربكم، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت فكذبوا، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا، ويقول التابعون للرؤساء : أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة : أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه " رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أتذرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " أخرجه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كنا نقول : ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا لما فيه رضاك.
تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذي القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
تختصمون : أي تحتكمون للقضاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
تفسير المفردات :
مثوى : مقاما، من ثوى بالمكان يثوي ثويا وثواء : إذا أقام به.
الإيضاح :
﴿ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ﴾أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادعى أن الملائكة بنات الله، وهو أيضا كذب بالحق الذي جاءه به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور.
وفي قوله :﴿ إذ جاءه ﴾بيان لأنهم كذبوا به من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون.
وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال :﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا بالله وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعوا إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه.
وخلاصة هذا : ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
تفسير المفردات :
والذي جاء بالصدق : هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق به هم أتباعه.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين، ومدحهم على ما فعلوا فقال :
﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ﴾أي والذي جاء بالصدق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق به وهم أتباعه الذين نهجوا وساروا على طريقه- هم الذين اتقوا الله فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
بسم الله الرحمن الرحيم
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
الإيضاح :
ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال :
﴿ لهم ما يشاؤون عند ربيهم ذلك جزاء المحسنين ﴾أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقر به أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملا، فأخلص لربه في السر والنجوى، وراقبه في أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النقير والقطمير، والجليل والحقير.
بسم الله الرحمن الرحيم
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
تفسير المفردات :
أسوأ الذي عملوا : أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام، ويجزيهم أجرهم : أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.
الإيضاح :
ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال :﴿ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ﴾وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم، والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.
﴿ ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ﴾أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها، وقدم تكفير السيئات على إعطاء الثواب، لأن دفع المضار أهم من جلس المسار.
وفي ذكر تكفير الأسوأ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من الله، وإلى أن الحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله لحسن إخلاصهم فيه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد ؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
تفسير المفردات :
بكاف عبده : أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، الذين من دونه : هم الأصنام.
الإيضاح :
﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات : ويزيل عنهم المصايب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفي من عبده وتوكل عليه.
وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكاري للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها.
ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال :﴿ ويخوفونك بالذين من دونه ﴾أي ويخوفونك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روي أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا : أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أو تصيبنك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس، فقال له سادتها : أحذركها يا خالد، فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اه.
وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفي نبيه صلى الله عليه وسلم دينه ودنياه، ويكفي أتباعه أيضا، ويكفيهم شر الكافرين.
ونحو الآية قوله :﴿ فسيكفيكهم الله ﴾( البقرة : ١٣٧ ) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾( الأنعام : ٨١ ).
ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال :
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه وحبه للإثم والفسوق ومعصية الرسول، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلصه من الضلال.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد ؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
تفسير المفردات :
ذي انتقام : أي مما عاداه وعادى رسوله.
الإيضاح :
﴿ ومن يهد الله فما له من مضل ﴾أي ومن يوفقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغير سلوكه، إذ لا راد لفعله، ولا معارض لإرادته، وإلى الله أشار بقوله :
﴿ أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾أي الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد ؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
الإيضاح :
ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شيء وعدم خلقها شيئا فقال :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره، فإذا هم سئلوا اعترفوا به، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة ؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم، هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل.
ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال :
﴿ قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ﴾أي أخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراد الله بي من الضر أو منع ما أراده لي من الخير ؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شيء فلا ينبغي التعويل عليها ولا الكد في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء.
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل قوله :
﴿ قل حسبي الله ﴾في جميع أموري من جلب نفع أو دفع ضر، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفونني بها.
﴿ عليه يتوكل المتوكلون ﴾أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون.
وفي الحديث :" من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل ".
وروي عن ابن عباس أنه قال :" احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ".
ونحو الآية قول هود عليه السلام :﴿ إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما تشركون٥٤ من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون٥٥ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾( هود : ٥٤-٥٦ ) حين قال له قومه :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾( هود : ٥٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد ؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
الإيضاح :
ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون* من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل أيضا في تقرير ديني والسعي في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصبني أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أينا المبطل أنا أو أنتم، ويحل علي العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد ؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
الإيضاح :
ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون* من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل أيضا في تقرير ديني والسعي في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصبني أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أينا المبطل أنا أو أنتم، ويحل علي العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.
المعنى الجملي : بعد أن حاجهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى سلاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾( الكهف : ٦ ) وقال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾( الشعراء : ٣ ) وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الرواح حين انقضاء أجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح :
﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ﴾أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلغه للإنس والجن مبشرا برحمة الله، ومنذرا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم.
﴿ فمن اهتدى فلنفسه ﴾أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار.
﴿ ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضل عن الحجة فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله وأليم عقابه في دركات الجحيم﴿ يوم لا ينفه مال ولا بنون٨٨ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾( الشعراء : ٨٨-٨٩ ).
﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
ونحو الآية قوله :﴿ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾( هود : ١٢ ) وقوله :﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمسيطر ﴾( الغاشية : ٢١-٢٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن حاجهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى سلاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾( الكهف : ٦ ) وقال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾( الشعراء : ٣ ) وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الرواح حين انقضاء أجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح :
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة، وصفته العجيبة فقال :
﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾أي الله هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرف فيه.
﴿ والتي لم تمت في منامها ﴾أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها.
﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ﴾أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد.
﴿ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.
روي عن ابن عباس أنه قال : إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره طرفه الذي يلي الجسد ويلي الجانب الأيمن ) فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ".
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي :" إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء ".
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال :" من يكلؤنا الليلة " ؟ فقلت : أنا، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحر الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد، فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء ".
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا ! فقال علي كرم الله وجهه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين ؟ يقول الله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله رضي الله عنهما اه.
ومن هذا تعلم أن النفس علوية هبطت من المحل الأرفع، وشغلت بتدبير منزلها في ليلها ونهارها، ولا تزال تنتظر العود إلى ذياك الحمى، فحين النوم تنتهز الفرصة، فيحصل لها نوع توجه على عالم النور، وتستعد لقبول بعض آثاره، والاستضاءة بشيء من أنواره، فمتى رأت وهي في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة، ومتى رأت وهي راجعة القهقري إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام، وتزدحم فيه أي ازدحام، كانت رؤياه كاذبة، وهي في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد، والله ولي التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع ترصفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد الله الخلق، وفي قطع تصرفها في الظاهر فقط في حال النوم، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها.
المعنى الجملي : بعد أن حاجهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى سلاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾( الكهف : ٦ ) وقال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾( الشعراء : ٣ ) وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الرواح حين انقضاء أجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح :
ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال :
﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء ﴾أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم ؟
وإجمال المعنى : إنه لا ينبغي لهم ذلك، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمقهم على ما يفعلون فقال :
﴿ قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ﴾أي قل لهم أيها الرسول : أتتخذونهم شفعاء كما تزعمون، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.
المعنى الجملي : بعد أن حاجهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى سلاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾( الكهف : ٦ ) وقال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾( الشعراء : ٣ ) وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الرواح حين انقضاء أجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح :
ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال :
﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾فليس لأحد منها شيء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾( البقرة : ٢٥٥ ) وقال :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾( الأنبياء : ٢٨ ).
والخلاصة : إنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء.
ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال :
﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾أي له السلطان في السماوات والأرض، وكل من فيها ملك له، ومنها ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد في شيء منه إلا بإذنه ورضاه.
﴿ ثم إليه ترجعون ﴾أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال.
وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى سركم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل، خيرا كان أو شرا.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعر منه الجلود خشية.
المعنى الجملي : بعد أن حاجهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى سلاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾( الكهف : ٦ ) وقال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾( الشعراء : ٣ ) وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الرواح حين انقضاء أجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح :
ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال :
﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ﴾الاشمئزاز أن يمتلئ القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون، والاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه.
أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا الله وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله فقيل : تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى.
قال ابن عباس في الآية : اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبي بن خلف اه.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ﴾( الإسراء : ٤٦ ).
قال السيد الألوسي في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم : وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي يا فلان أغثني، فقلت له : قل يا ألله فقد قال سبحانه :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾( البقرة : ١٨٦ ) فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال : الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان اه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد- أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجده معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجؤوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.
الإيضاح :
﴿ قل اللهم فاطر السماوات عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ﴾أي قل : يا الله يا مبدع السماوات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك، فتقيضي بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا.
أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول :" اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما أو أجره إلى مسلم ". قال أبو عبد الرحمن رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن نام.
وقال أبو بكر الصديق : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي من الليل :" اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إلاه إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم " رواه الترمذي.
وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا :﴿ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ﴾. ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾. ﴿ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد- أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجده معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجؤوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.
الإيضاح :
( ١ )﴿ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ﴾أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعلمون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.
( ٢ )﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ أي وظهر لهم من عذاب الله الذي أعده لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدثوا أنفسهم به.
وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لا غاية وراءها.
قال مجاهد : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال : أخاف آية من كتاب الله ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد- أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجده معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجؤوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.
الإيضاح :
( ٣ ) ﴿ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة، لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
المعنى الجملي : بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هي أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجؤون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسط تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح :
﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه – وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال : إنما أوتيت هذا لعلمي بوجوه المكاسب وجدي واجتهادي أو لذهابي إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب، ففي الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصي ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدعون من الدعاوي ما لا يفقهون.
ثم بين أن هذه المقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال :﴿ قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هي أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجؤون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسط تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح :
﴿ قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزاءهم بهم.
ثم بين ما سلف فقال :﴿ فأصابهم سيئات ما كسبوا ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هي أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجؤون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسط تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح :
﴿ فأصابهم سيئات ما كسبوا ﴾أي فحل بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.
ثم أوعد سبحانه مشركين قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال :
﴿ والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا ﴾أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير.
﴿ وما هم بمعجزين ﴾أي وما هم بفائتين الله هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ما شاء من العقوبة.
المعنى الجملي : بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هي أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجؤون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسط تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح :
ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال :
﴿ أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمنة يشاء تارة، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون بالله ويقرون بوحدانيته، وهم الذين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه.
وإنما خص المؤمنين بذلك، لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها.
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
تفسير المفردات :
الإسراف : تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا الإفراط في المعاصي، لا تقنطوا : أي لا تيأسوا.
الإيضاح :
﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره : لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت وكانت كزبد البحر.
روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾( الفرقان : ٦٨ ) ونزل :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾.
والمراد من الآية الأولى قوله :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ﴾( مريم : ٦٠ ) الآية.
وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾إلى آخر الآية، فقال رجل : يا رسول الله فمن أشرك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :" ألا ومن أشرك " ثلاث مرات.
وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال : جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال : يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال : بلى وأشهد أنك رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم :" قد غفر لك غدراتك وفجراتك ".
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص في العمل، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع كما قال :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾( التوبة : ١٠٤ ) وقال :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾( النساء : ١١٠ ).
وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أعظم آية في كتاب الله :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾( البقرة : ٢٥٥ ) وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾( النحل : ٩٠ ) وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾( الطلاق : ٢-٣ ) فقال له مسروق : صدقت.
وبعد ان نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه. وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال :
﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾أي إن الله يغفر كل ذنب، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك بقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : ٤٨ ).
فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم.
ثم ذكر علة ذلك فقال :
﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها.
فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته- أولى بهم مما بشرهم الله به- فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله :" يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ".
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
تفسير المفردات :
والإنابة : الرجوع. والإسلام لله : الإخلاص له.
الإيضاح :
وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين :
( ١ ) الإنابة إليه بقوله :﴿ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ﴾ أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.
( ٢ ) اتباع الأحسن بقوله :﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
تفسير المفردات :
أحسن ما أنزل إليكم من ربكم : هو القرآن، بغتة : أي فجأة.
الإيضاح :
﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾ أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
تفسير المفردات :
يا حسرتا : أي يا حسرتي وندمي، فرطت : أي قصرت، في جنب الله : أي في عبادته وطاعته، لمن الساخرين : أي المستهزئين.
الإيضاح :
ولما خوفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال :
( ١ )﴿ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ﴾أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس : يا حسرتا على تقصيري في طاعة الله، وسخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه، وبرسوله وبالمؤمنين.
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
تفسير المفردات :
كرة : أي رجعة.
الإيضاح :
( ٢ )﴿ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾أي أو تقول : لو أن الله أرشدني إلى دينه وطاعته، لكنت ممن اتقى الله فترك الشرك والمعاصي.
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
الإيضاح :
( ٣ )﴿ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ﴾أي أو تقول حين رؤية العذاب : ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم.
وخلاصة ذلك : إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية ثم تمني الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات.
فأجابه سبحانه بقوله :﴿ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف – أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله﴿ قل يا عبادي ﴾الآية.
الإيضاح :
﴿ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾أي إنه لا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي الذي أرسلته إليك وفي كتابي الذي يتلوه عليك، ويذكرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستن بسنتهم، ويتبع مناهجهم.
ونحو الآية قوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾( الأنعام : ٢٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة، ووعد المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم- أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان، يوم العرض والحساب.
تفسير المفردات :
وجوههم مسودة : أي ما يظهر عليها : من آثار الذل والحسرة، والمثوى : المقام.
الإيضاح :
﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ﴾أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه- مجللة بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها.
ثم علل هذا وأكده بقوله :
﴿ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ﴾أي أليست النار كافية لهم سجنا وموئلا، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال :" هو سفه الحق وغمص-احتقار- الناس " وفي حديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم :" يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر، يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم ".
المعنى الجملي : بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة، ووعد المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم- أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان، يوم العرض والحساب.
تفسير المفردات :
والمفازة : الظفر بالبغية على أتم وجه.
الإيضاح :
﴿ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ﴾أي وينجي الله من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال :" يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له : لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعني به، فإذا كثر ذلك عليه، قال فما أحسنك ؟ فمن أنت ؟ فيقول أما تعرفني ؟ أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي، فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك، فهي التي قال الله :﴿ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ﴾ ".
ثم بين هذه المفازة فقال :
﴿ لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ﴾أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه، نعيم مقيم، في جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر.
وخلاصة ذلك : إنهم آمنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شر، وفازوا بكل خير.
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
تفسير المفردات :
وكيل : أي قيم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة.
الإيضاح :
﴿ الله خالق كل شيء ﴾أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما، وكلها تحت جبروته وقهره.
﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾أي وهو القائم على كل الأنبياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهي محتاجة إليه في بقائها كما هي محتاجة إليه في وجودها.
ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال :﴿ له مقاليد السماوات والأرض ﴾أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شيء مخزون فيها.
والخلاصة : هو القادر عليهما والحافظ لهما.
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
تفسير المفردات :
مقاليد : أي مفاتيح لفظ فارسي معرب، واحده إقليد معرب، إكليد جمعا شاذا.
الإيضاح :
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله :﴿ له مقاليد السماوات والأرض ﴾فقال لي :" يا عثمان، لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك﴿ مقاليد السماوات والأرض ﴾لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ".
وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض، من تكلم بها أصابه خيرهما.
﴿ والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ﴾أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن، دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته- أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السماوات والأرض، لأنه حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار.
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
الإيضاح :
ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره صلى الله عليه وسلم بعبادة الأصنام والأوثان فقال :
﴿ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ﴾أي قل لمشركي قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك : هو دين آبائك : أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتي الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية- أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشيء سواه.
روي عن ابن عباس أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطؤون عقبه ( أي يغطون دعوته ويزيلونها ) وقالوا : هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، قال :" حتى أنظر ما يأتيني من ربي " فنزل :﴿ قل يأيها الكافرون١ لا أعبد ما تعبدون ﴾( الكافرون : ١-٢ ) إلى آخر السورة، ونزل :﴿ قل أفغير الله تأمروني ﴾على قوله ﴿ من الخاسرين ﴾ ".
وعنه أيضا : إن المشركين من جهلهم دعوا رسوله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه.
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
تفسير المفردات :
ليحبطن عملك : أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر.
الإيضاح :
ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال :
﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾أي ولقد نزل الوحي من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلن كل عمل لك من أعمال الخير كصلة الرحم وبر ببائس فقير ولا تنالن به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.
فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللإيذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره ؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾( البقرة : ٢١٧ ).
ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال :﴿ بل الله فاعبد ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
الإيضاح :
﴿ بل الله فاعبد ﴾أي لا تعبد ما أمرك به قومك، بل الله فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان.
﴿ وكن من الشاكرين ﴾لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، وما اختصك به من الرسالة.
ثم أكد ما سلف بقوله :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾
المعنى الجملي : بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
تفسير المفردات :
وما قدروا الله حق قدره : أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به، والقبضة : المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض، بيمينه : أي بقدرته.
الإيضاح :
﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ أي ما عظموه حق التعظيم، إذ عبدوا غيره معه، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. روى البخاري عن ابن مسعود قال :" جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول : أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ﴾الآية.
وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجة في جماعة آخرين عن ابن عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر :" يمجد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم "، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا : ليخرن به.
﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه.
روى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك، أين ملوك الأرض ؟ ".
وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه، وأن الخلف يؤولونه، والأول أسلم، والثاني أحكم.
قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه اه.
وقال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز اه.
﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شيء، وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السماوات والأرض- أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفي كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.
تفسير المفردات :
الصور : القرن ينفخ فيه، صعق : أي غشي عليه، ينظرون : أي ينتظرون ماذا يفعل بهم ؟
الإيضاح :
﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾بين سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا.
أخرج ابن ماجة والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا " إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران " ؟.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال :" ذكر رسول الله صاحب الصور وقال : عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل ".
وليس في القرآن ولا في صحيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة لا ندري من هم ؟.
ونحو الآية قوله :﴿ فإنما هي زجرة واحدة١٣ فإذا هم بالساهرة ﴾( النازعات : ١٣-١٤ ) وقوله :﴿ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾( الإسراء : ٥٢ ).
وقوله :﴿ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾( الروم : ٢٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شيء، وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السماوات والأرض- أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفي كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.
تفسير المفردات :
وأشرقت الشمس : أضاءت، وشرقت : طلعت، بنور ربها : أي عدله، ووضع الكتاب : أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدي العاملين، بالحق : أي بالعدل.
الإيضاح :
﴿ وأشرقت الأرض بنور ربها ﴾أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات.
﴿ ووضع الكتاب ﴾أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدي العاملين كما قال :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ﴾( الإسراء : ١٣ ) وقال في آية أخرى :﴿ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾( الكهف : ٤٩ ).
﴿ وجيء بالنبيين ﴾ليكونوا شهداء على أممهم كما قال :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾( النساء : ٤١ ).
﴿ والشهداء ﴾أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ﴾( ق : ٢١ ). فالسائق يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها.
وبعد أن بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات- بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص، ودل على ذلك بأربع عبارات :
( ١ ) ﴿ وقضي بينهم بالحق ﴾ أي وقضى بينهم بالعدل والصدق.
( ٢ )﴿ وهم لا يظلمون ﴾بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب، ونحو الآية قوله :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾( الأنبياء : ٤٧ ). وقوله :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾( النساء : ٤٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شيء، وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السماوات والأرض- أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفي كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.
تفسير المفردات :
ما عملت : أي جزاء ما عملت.
الإيضاح :
( ٣ )﴿ ووفيت كل نفس ما عملت ﴾أي وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.
( ٤ )﴿ وهو أعلم بما يفعلون ﴾في الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب، فلا يفوته شيء من أعمالهم، ومن ثم يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم.
والخلاصة : أنه إنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون، ثم جزاءهم على ما قدموا من خير أو شر.
المعنى الجملي : بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله :﴿ ووفيت كل نفس ما عملت ﴾( الزمر : ٧٠ ) فصل ذلك فليذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمي وهو أشد وقعا على الأبي العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.
تفسير المفردات :
السوق : الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الإهانة والاحتقار، والزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والخزنة : واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، وينذرونكم : أي يخوفونكم، حقت : أي وجبت.
الإيضاح :
﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ﴾أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقا عنيفا، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر- بزجر وتهديد ووعيد، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى.
ونحو الآية قوله :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ﴾ ( الطور : ١٣ ) أي يدفعون إليها دفعا.
﴿ حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها ﴾ أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها، فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.
ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ، والإهانة فقال :
﴿ وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء ربكم هذا ﴾أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبؤونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم ؟
فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود.
﴿ قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ﴾أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار.
ونحو الآٍية قوله :﴿ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير٨ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ﴾( الملك : ٨-٩ ).
وبعد ان اعترفوا هذا الاعتراف :﴿ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله :﴿ ووفيت كل نفس ما عملت ﴾( الزمر : ٧٠ ) فصل ذلك فليذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمي وهو أشد وقعا على الأبي العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.
الإيضاح :
﴿ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ﴾ أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم : ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها.
﴿ فبئس مثوى المتكبرين ﴾أي فبئس المصير، وبئس المقبل لكم بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون. ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضي بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون : الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.
الإيضاح :
﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم على الجنة زمرا ﴾ أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم.
والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.
﴿ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ﴾ أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه- فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال :" ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " أخرجه مسلم وغيره.
وروي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ".
وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون ".
ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال :
( وقال لهم خزنتها سلام عليكم( أي وقال لهم الخزنة : سلام عليكم من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك.
( طبتم( نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى : طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم.
( فادخلوها خالدين( أي فادخلوها ماكثين فيها أبدا، لا زوال ولا فناء، ولا تحول عنها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون. ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضي بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون : الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.
الإيضاح :
( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده( أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة : الحمد لله الذي صدقنا ما وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا :( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة( ( آل عمران : ١٩٤ ) وقالوا :( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق( ( الأعراف : ٤٣ ).
( وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء( أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا.
( فنعم أجر العاملين( أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون. ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضي بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون : الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.
الإيضاح :
( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم( أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلون حول العرش، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص.
( وقضي بينهم بالحق( أي وقضى بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار، أعاذنا الله منها.
( وقيل الحمد لله رب العالمين( أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصورهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدها إلا هو.
وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.
وقال قتادة :" افتتح الخلق بالحمد في قوله :( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض( ( الأنعام : ١ ) واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى :( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين(.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين.