تفسير سورة الزمر

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٣٩) سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تنزيل مبتدأ والكتاب مضاف اليه ومن الله خبر والعزيز الحكيم نعتان ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل ومن الله متعلقان بالمصدر أو بمحذوف خبر بعد خبر أو بمحذوف حال من الكتاب. (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) ان واسمها وجملة أنزلنا خبر والجملة مستأنفة
387
مسوقة لبيان المنزل عليه وما يترتب عليه بعد نزوله وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وبالحق حال من الفاعل أو المفعول أي ملتبسين بالحق أو ملتبسا بالحق. (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة واعبد الله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) كلام مستأنف مقرر لما قيله وألا أداة تنبيه واستفتاح ولله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر والخالص نعت.
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) والذين الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة اتخذوا صلة الموصول ومن دونه حال أو مفعول به ثان وأولياء مفعول به أول وجملة ما نعبدهم مفعول لقول محذوف هو خبر الذين أي يقولون وما نافية ونعبدهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وليقربونا اللام للتعليل ويقربونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل ونا مفعول به والى الله متعلقان بيقربونا وزلفى مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه ملاق لعامله في المعنى والتقدير ليزلفونا زلفى وأجاز أبو البقاء أن يعرب حالا مؤكدة. (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ان واسمها وجملة يحكم خبرها وأجاز بعضهم أن يكون قوله إن الله يحكم بينهم خبر الذين فيكون موضع القول المضمر نصبا على الحال أي قائلين ذلك، وبينهم ظرف متعلق بيحكم وفيما متعلقان بيحكم أيضا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبرهم والجملة الاسمية صلة ما.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) إن واسمها وجملة لا يهدي خبرها وفاعل يهدي مستتر يعود على الله ومن مفعول به وهو مبتدأ وكاذب كفار خبران له والجملة الاسمية صلة من.
388
الفوائد:
حروف التنبيه «ها» و «ألا» و «أما» والفرق بين «أما» و «ألا» أن «أما» للحال أو للماضي و «ألا» للاستقبال تقول:
أما ان زيدا عاقل، تريد أنه عاقل في الحال ولا تقول ألا، وتقول ألا ان زيدا لا يخاف أي في المستقبل ولا تقول أما، والفرق بينهما وبين «ها» أنهما لا يدخلان إلا أول الكلام على الجملة بخلاف «ها» فتدخل على الضمير وأسماء الإشارة وإن لم تكن في أول الكلام وتدخل «أما» على القسم و «ألا» كثيرا على النداء.
إذا تقرر هذا فهل تكون هنا للاستقبال مع أن كون الدين لله هو في كل زمان؟ والجواب أن المراد هنا الاستقبال بالنسبة لمن يعتنقون الدين الخالص، على أنهما يتعاوران أي تأتي «ألا» لمجرد الاستفتاح ولا يكون التنبيه مقصودا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤ الى ٦]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
389
اللغة:
(يُكَوِّرُ) : التكوير: اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها وفيه أوجه- كما يقول الزمخشري-:
١- ان الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب:
تلوى الثنايا بحقويها حواشيه لي الملاء بأبواب التفاريج
والثنايا: العقبات والحقو الخصر والحواشي الجوانب والملاء جمع ملاءة وهي الجلباب والتفاريج جمع تفراج وهو الباب الصغير والثوب من الديباج، وأسند اللي الى الثنايا لأنها سبب الالتواء، شبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلي الجلباب في أبواب التفاريج.
٢- ان كل منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار.
٣- ان هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.
الإعراب:
(لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لو حرف شرط غير جازم وأراد فعل ماض والله فاعل وأن وما في حيزها
390
مفعول أراد واللام رابطة لجواب لو واصطفى فعل ماض وفاعله هو أي الله تعالى والجملة لا محل لها ومما متعلق باصطفى وجملة يخلق صلة ما وما مفعول به وجملة يشاء صلة ما والعائد محذوف أي يشاؤه (سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف تنزيه له تعالى عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه، وهو مبتدأ والله خبره والواحد القهار نعتان الله. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) خلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال. (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة مبينة لكيفية تصرفه في السموات والأرض، والليل مفعول به وعلى النهار متعلقان بيكور ويكور النهار على الليل عطف على مثيلتها.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض وكل مبتدأ وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى نعت لأجل وألا أداة تنبيه تصدرت الجملة لإظهار مدى الاهتمام بها، والاعتناء بفحواها وهو مبتدأ والعزيز الغفار خبران لهو. (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) خلقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم وواحدة نعت لنفس والمراد بها آدم ثم حرف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بها في باب البلاغة وجعل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ومنها متعلقان بجعل لأنه بمعنى خلق وزوجها مفعول به. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وأنزل عطف على خلقكم ولكم متعلقان
391
بمحذوف حال ومن الأنعام متعلقان بأنزل وثمانية أزواج مفعول به وقد تقدم معنى الزوجين في سورة الأنعام.
(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) الجملة حالية أو استئنافية مبينة لكيفية خلق ما ذكر، ويخلقكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي بطون أمهاتكم متعلقان بيخلقكم وخلقا مفعول مطلق ومن بعد خلق صفة له ويجوز أن يتعلق بيخلقكم فيكون المصدر لمجرد التأكيد، قال البيضاوي: «أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف، وفي ظلمات متعلقان بخلق المجرور الذي قبله ولا يجوز تعلقه بخلقا المنصوب لأنه مصدر مؤكد فلا يعمل ولا بيخلق لأنه تعلق به جار مثله ولا يتعلق حرفان متحدان لفظا ومعنى إلا بالبدلية والعطف فإن جعلت في ظلمات بدلا من في بطون أمهاتكم بدل اشتمال لأن البطون مشتملة عليها ويكون بدلا بإعادة العامل جاز ذلك وسيأتي المراد بالظلمات الثلاث في باب الفوائد. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ذلكم مبتدأ والله خبره الأول وربكم خبره الثاني وله خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر ثالث وجملة لا إله إلا هو خبر رابع وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام متعلق بمحذوف حال وتصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
البلاغة:
في قوله «ثم جعل منها زوجها»
عطف «ثم» التي تفيد الترتيب مع التراخي في الوجود، وظاهر الأمر يتنافى مع ذلك لأن خلق
392
حواء من آدم سابق على خلقنا منه، وقد استشكل علماء البيان والمفسرون هذا العطف وأجابوا بأجوبة نوردها ثم ترجح ما هو أقرب إلى الرجحان قال الزمخشري: «فإن قلت ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالّا على وحدانيته وقدرته وتشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصرياه (والقصريان ضلعان يليان الترقوتين) إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها عادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع الى زيادة كونها آية فهو من التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود».
وقال غيره: «المعطوف متعلق بمعنى واحدة فثم عاطفة عليه لا على خلقكم فمعناه خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج فكانت هاهنا على بابها لتراخي الوجود».
ونرى أن كلا الوجهين مستقيم ويصح حمل العطف عليه.
وهنا وقع ابن هشام في خطأ التلاوة فأورد هذه الآية بلفظ «هو الذي خلقكم من نفس واحدة» إلخ.. وقد أوردها شاهدا على أن قوما خالفوا في معناها وهو الترتيب تمسكا بها قال: «والجواب عن الآية من خمسة أوجه: (أحدها) أن العطف على محذوف أي من نفس واحدة أنشأها ثم جعل منها زوجها. (الثاني) ان العطف على واحدة على تأويلها بالفعل أي من نفس توحدت أي انفردت ثم جعل
393
منها زوجها. (الثالث) ان الذرية أخرجت من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام كالذر ثم خلقت حواء من قصيراه. (الرابع) ان خلق حواء من آدم لما لم تجر عادة بمثله جيء بثم إيذانا بترتبه وتراخيه في الإعجاب وظهور القدرة لا لترتيب الزمن وتراخيه. (الخامس) ان ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم وانه يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب.
الفوائد:
أراد بقوله «في ظلمات ثلاث» ظلمة البطن، وظلمة الرحم بفتح الراء وكسر الحاء، والرحم بكسر الراء وسكون الحاء مؤنثة وهي مستودع الجنين في أحشاء الحبلى، وظلمة المشيمة وهي كما في المصباح «وزان كريمة وأصلها مفعلة بسكون الفاء وكسر العين لكن ثقلت الكسرة على الياء فنقلت الى الشين وهي غشاء ولد الإنسان.
وقال ابن الأعرابي: يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف والجمع مشيم بحذف الهاء ومشايم مثل معيشة ومعايش ويقال لها من غيره السلا»
.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
394
الإعراب:
(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) إن حرف شرط جازم وتكفروا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة وإن واسمها وخبرها والجملة جواب الشرط وعنكم متعلقان بغني وان تشكروا عطف على أن تكفروا ويرضه جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به بضم وسكونها وبإشباع ودونه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو حرف عطف ولا نافية وتزر فعل مضارع مرفوع ووازرة فاعل ووزر مفعول به أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى وأخرى مضاف اليه على حذف منعوت أي نفس أخرى ثم حرف عطف للتراخي والى ربكم خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف وينبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بينبئكم وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها وجملة كنتم تعملون صلة الموصول (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن واسمها وخبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم والجملة تعليل للتنبئة بالأعمال.
395
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومسّ فعل ماض مبني على الفتح والإنسان مفعول به مقدم وضر مبتدأ مؤخر والمراد بالضر جميع المكاره وجملة دعا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربه مفعول به ومنيبا حال واليه متعلقان بمنيبا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ثم حرف عطف للتراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خوله في محل جر بإضافة الظرف إليها وخوله فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء مفعوله الأول ونعمة مفعوله الثاني ومنه صفة لنعمة ولك أن تعلقه بخوّله وجملة نسي لا محل لها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وما مفعول به وجملة كان صلة ما واسم كان مستتر يعود على الإنسان وجملة يدعو خبر كان وإليه متعلقان بيدعو ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويجوز في ما أن تكون مصدرية أي نسي كونه داعيا.
(وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وجعل عطف على نسي وفاعله مستتر يعود على الإنسان ولله متعلقان بمحذوف هو مفعول جعل الثاني وأندادا مفعول جعل الأول وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وقيل اللام للعاقبة وهي تتمشى مع قراءة يضل بفتح اللام وهما قراءتان سبعيتان وعن سبيله متعلقان بيضل. (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وتمتع فعل أمر أيضا وفاعل مستتر والجملة مقول القول والمقصود بالأمر التهديد وبكفرك متعلقان بتمتع وقليلا ظرف زمان أو مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف وجملة إنك من أصحاب النار تعليل للأمر بالتمتع وإن واسمها ومن أصحاب النار خبرها.
396

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٩ الى ١٠]

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
اللغة:
(قانِتٌ) : قائم بوجائب الطاعات ووظائفها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» وهو القيام فيها ومنه القنوت في الوتر لأنه دعاء المصلي قائما وفي القاموس: «القنوت:
الطاعة والسكوت والدعاء والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام وأقنت دعا على عدوه وأطال القيام في صلاته وأدام الحج وأطال الغزو وتواضع لله تعالى وامرأة قنيت بينة القناتة قليلة الطعم وسقاء قنيت مسيّك»
وقول القاموس مسيك بكسر الميم وسكون السين أي يمسك الماء.
(آناءَ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم والقصر والجمع أمعاء وفي المصباح: «الآناء على أفعال هي الأوقات وفي واحدها لغتان: إني بكسر الهمزة والقصر وإني بوزن حمل» وفي المختار: «وآناء الليل: ساعاته قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها إني وإنو يقال مضى من الليل أنيان وأنوان».
397
الإعراب:
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أم يجوز أن تكون متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت وقد دخلت على من الموصولة فأدغمت الميم في الميم، أو منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كغيره؟ وقرىء بالتخفيف فالهمزة للاستفهام الانكاري، وعلى كل فمن اسم موصول مبتدأ خبره محذوف كما تقدم وهو مبتدأ وقانت خبره والجملة صلة من وآناء الليل ظرف متعلق بقانت وساجدا حال وقائما عطف عليه وجملة يحذر الآخرة حال ثالثة وجملة يرجو رحمة ربه عطف على جملة يحذر الآخرة.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هل حرف استفهام معناه الإنكار ويستوي الذين فعل مضارع وفاعل وجملة يعلمون صلة والذين لا يعلمون عطف على الذين يعلمون، وفي هذه الآية تنزيل المتعدي منزلة القاصر ولا يقدر المفعول في قوله يعلمون لأن المقدر كالموجود أي هل يستوي من ثبتت له حقيقة العلم ومن لم تثبت له والاستفهام إنكاري أي لا يستويان لأن المقصود بيان ثبوت الفعل للفاعل لا بيان وقوعه على المفعول وإيضاح الفرق بين المنزل وغيره أن قولك فلان يعطى لبيان كونه معطيا فيكون كلاما مع من جهل أصل الإعطاء وقولك فلان يعطي الدنانير لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا لبيان كونه معطيا ويكون كلاما مع من ثبت له أصل الإعطاء لا مع من جهل إعطاء.. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة
398
ويتذكر فعل مضارع مرفوع وأولو الألباب فاعل والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عدم تأثير ما تقدم من قوارع وزواجر في قلوبهم لاختلال عقولهم.
(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة الذين والجملة مقول القول واتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل من اسم الاشارة وحسنة مبتدأ مؤخر وأرض الله مبتدأ وواسعة خبر. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الجملة تعليل لما تقدم ترغيبا في الصبر وإنما كافة ومكفوفة والصابرون نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان وبغير حساب حال من الأجر.
ولو لم يكن في الصبر إلا ما جاء في هذه الآية لكان في ذلك كفاية وفي الحديث: «انتظار الفرج بالصبر عبادة» وقيل لعلي بن أبي طالب: أي شيء أقرب الى الكفر؟ قال ذو فاقة لا صبر له، ومن كلامهم: «الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حر» وكان عبد الله بن المقفع يقول: «إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان لك فيه حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع» وما أحسن قوله: تعجز وتجزع وهذا الذي يسمى قلب البعض وهو معدود عند أرباب البديع من الجناس.
399

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٨]

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
الإعراب:
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) إن واسمها وجملة أمرت خبرها والجملة مقول القول وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض المتعلق بأمرت ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به.
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وأمرت عطف على أمرت الأولى ولأن أكون متعلقان بأمرت أي بأن أكون فاللام بمعنى الباء واسم
400
أكون مستتر تقديره أنا وقيل اللام للتعليل أي لأجل أن أكون وللزمخشري تقرير مطول بهذا الصدد ننقله في باب الفوائد لأهميته وأول خبر أكون والمسلمين مضاف اليه. (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبر وفاعل أخاف مستتر تقديره أنا وإن شرطية وعصيت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فإني أخاف وعذاب يوم مفعول أخاف وعظيم صفة ليوم.
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) لفظ الجلالة مفعول مقدم لأعبد وأعبد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا وديني مفعول مخلصا أي ليكون سالما من الشرك والرياء وكل ما يشوب الأعمال مما يفسدها. (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) الفاء الفصيحة واعبدوا فعل أمر الغاية منه التهديد والوعيد والواو فاعل وما مفعول به وجملة شئتم صلة ومن دونه حال. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن واسمها والذين خبرها وجملة خسروا صلة الذين وأنفسهم مفعول به وأهليهم عطف على أنفسهم ويوم القيامة ظرف لخسروا أو حال من أهليهم يعني أزواجهم وخدمهم. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ألا أداة تنبيه وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والخسران خبر هو والجملة خبر ذلك والمبين صفة للخسران ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة.
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لهم خبر مقدم ومن فوقهم حال وظلل مبتدأ مؤخر وفي الكلام إبهام سيأتي تقريره في
401
باب البلاغة ومن النار صفة لظلل ومن تحتهم ظلل عطف على من فوقهم ظلل. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ذلك مبتدأ أي ذلك العذاب وجملة يخوف الله به خبر وعباده مفعول يخوف ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف والفاء الفصيحة واتقون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة لما تقدم مفعول به. (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الذين مبتدأ وجملة اجتنبوا صلة والطاغوت مفعول به وقد تقدم القول فيه وأنه يطلق على الواحد والجمع وعلى المذكر والمؤنث وأن يعبدوها مصدر مؤول في محل نصب بدل اشتمال من الطاغوت أي عبادتها وسيأتي مزيد من القول في الطاغوت في باب البلاغة ولهم خبر مقدم والبشرى مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين.
(فَبَشِّرْ عِبادِ) الفاء الفصيحة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعباد مفعول به وعلامة نصبه فتحه مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف وفيه إظهار الضمير أي فبشرهم اهتماما بهم. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الذين صفة لعباد وجملة يستمعون صلة والقول مفعول به والفاء عاطفة ويتبعون عطف على يستمعون وأحسنه مفعول به. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أولئك مبتدأ والدين خبر والاشارة الى الموصوفين بما ذكر وجملة هداهم الله صلة وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل وأولو الألباب خبر هم والجملة خبر أولئك أو خبر أولئك.
402
البلاغة:
١- التهويل:
في قوله «ألا ذلك هو الخسران المبين» تهويل رائع فقد جعل الجملة مستأنفة وصدرها بحرف التنبيه ووسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران كأنه مما تعورف أمره واشتهر هوله ووصفه بالمبين فجعل خسرانهم غاية في الفظاعة ونهاية في الشناعة.
٢- المبالغة:
وفي تشبيه الشيطان بالطاغوت وجوه ثلاثة من المبالغة:
١- تسميته بالمصدر كأنه نفس الطغيان.
٢- بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت وهي الرحمة الواسعة والملكوت وهو الملك الواسع.
٣- والشبه الثالث تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاصه بهذه التسمية.
الفوائد:
وعدناك بنقل الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري في إعراب قوله «إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأمرت لأن أكون من المسلمين» قال: «فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما
403
واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء ومنعتا ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وأمرت أن أكون من المسلمين وأمرت أن أكون من المؤمنين أن أكون أول من أسلم وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها وأن أكون أول الذين دعوتهم الى الإسلام إسلاما وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون وأن أفعل ما أستحق به الأولوية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب» فتأمله فإنه من غرر الأقوال.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٩ الى ٢١]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
404
اللغة:
(يَنابِيعَ) : في المختار: «نبع الماء: خرج وبابه قطع ودخل ونبع ينبع بالكسر نبعانا بفتح الباء لغة أيضا والينبوع عين الماء ومنه قوله تعالى «حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا» والجمع الينابيع» فما يقوله العامة وهو «نبع» مولّد غير معروف وإنما النبع مصدر وشجر تتخذ منه السهام والقسي يقال: قرعوا النبع بالنبع أي تلاقوا وتطاعنوا وما رأيت أصلب منه نبعا أي أشد منه.
(يَهِيجُ) : ييبس ويتم خفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب وفي المختار: «وهاج النبت يهيج هياجا بالكسر يبس» وفي المصباح: «وهاج البقل يهيج اصفر».
(حُطاماً) : فتاتا وفي المصباح «حطم الشيء حطما من باب تعب فهو حطم إذا تكسر ويقال للدابة إذا أسنت حطمة ويتعدى بالحركة يقال حطمته حطما من باب ضرب فانحطم وحطمته بالتشديد مبالغة».
الإعراب:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء حرف عطف على محذوف يدل عليه السياق والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، ومن شرطية أو موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف فقدره
405
أبو البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت مخلصه حذف لدلالة أفأنت تنقذه وقدره غيره تتأسف عليه، والهمزة الثانية للاستفهام وأعيدت لتأكيد الإنكار والفاء رابطة وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعول به وقد أوقع الظاهر موقع المضمر وهو من في النار وكأن الأصل أفأنت تنقذه، وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعوله فالآية على هذا جملة واحدة، واعترض بجمع الاستفهام والشرط ولا مساغ لهذا الاعتراض لأن أداة الاستفهام داخله على جملة محذوفة عطفت عليها جملة الشرط ولم تدخل على جملة الشرط وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لكن حرف عطف وإضراب بمعنى بل وليست للاستدراك لانه لم يسبقها نفي فالكلام إضراب عن موضوع الى موضوع مغاير للأول، والذين مبتدأ وجملة اتقوا صلة وربهم مفعول به ولهم خبر مقدم وغرف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين ومبنية صفة لغرف أي بنيت بناء المنازل وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة ثانية أو حال من غرف.
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) وعد الله مصدر مؤكد لفعل محذوف دل عليه قوله لهم غرف لأنه في معنى وعدهم الله ذلك ولا نافية ويخلف الله الميعاد فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل الحياة الدنيا وسرعة زوالها والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه
406
حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر أو مفعولها لأنها قلبية أو بصرية وان واسمها وجملة أنزل خبرها ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به، فسلكه الفاء عاطفة وسلك فعل ماض مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، وينابيع ان كان بمعنى المنبع ظرف للمصدر المحذوف أي سلكه سلوكا في ينابيع فلما أقيم مقام المصدر جعل انتصابه على المصدر، وإن كان بمعنى النابع كان انتصابه على الحال أي نابعات، واعترض الشهاب الخفاجي على الحالية فقال «الحالية لا تخلو من الكدر لأن حقه حينئذ أن يقال من الأرض وفي الأرض على الوجهين صفة لينابيع، قلت: ولا أرى مانعا من نصب ينابيع على التمييز على حد قوله «وفجرنا الأرض عيونا» ولم يذكره أي واحد ممن تصدوا لإعراب القرآن، ومنطوق كلام الزمخشري يؤيد هذا الإعراب قال: «عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام» وأحجم الكثيرون عن إعراب ينابيع لدقتها، وفي الشوكاني: «فسلكه ينابيع في الأرض: أي فأدخله وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع فيها الماء فهو على الوجه الثاني منصوبا بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله عيونا وركايا في الأرض» (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويخرج فعل مضارع والعدول إليه عن الماضي كما يقتضيه أسلوب العطف لاستحضار الصورة وبه متعلقان بيخرج وزرعا مفعول به ومختلفا نعت لزرعا وألوانه فاعل لمختلف. (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ثم يهيج عطف على ثم يخرج فتراه الفاء حرف عطف والهاء مفعول به
407
ومصفرا حال لأن الرؤية بصرية. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) عطف على ما تقدم ويجعله حطاما فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وحطاما مفعول به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وذكرى اسمها المؤخر ولألي الألباب صفة لذكرى أو متعلقان بنفس الذكرى لأنها بمعنى التذكرة.
البلاغة:
في قوله «أفأنت تنقذ من في النار» مجاز مرسل علاقته السببية فقد أطلق السبب وأراد المسبب والمعنى أفأنت تهديه بدعائك له الى الايمان فتنقذه من النار.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللغة:
(تَقْشَعِرُّ) : اقشعر جلده: ارتعد وتقبّض وتخشن وتغير لونه فهو مقشعر، واقشعرت السنة: أمحلت وأجدبت، واقشعرت الأرض:
408
تقبضت وتجمعت إذا لم ينزل عليها المطر، ويقال اقشعر الشعر أي قام وانتصب من فزع أو برد والمصدر الاقشعرار وقال الزمخشري:
«اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا دالا على معنى زائد، وسيأتي مزيد تفصيل لهذه المادة في باب البلاغة.
الإعراب:
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق ليجري مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة أي أكل الناس سواء ومن موصولة أو شرطية في محل رفع مبتدأ فعلى الأول يكون خبرها محذوفا تقديره كمن طبع على قبله وعلى الثاني يكون خبرها فعل الشرط وجوابه معا والفاء عاطفة على كل حال وهو مبتدأ وعلى نور خبر ومن ربه صفة لنور. (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الفاء رابطة وويل مبتدأ وساغ الابتداء لما فيها من معنى الدعاء بالعذاب والخسران وللقاسية خبر وقلوبهم فاعل للقاسية ومن ذكر الله متعلقان بالقاسية ومن إما للتعليل أي من أجل ذكره وقيل من بمعنى عن والمعنى غلظت عن قبول الذكر وأولئك مبتدأ وفي ضلال مبين خبره. (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) لفظ الجلالة مبتدأ، وسيأتي سر التقديم في باب البلاغة، وجملة نزل أحسن الحديث خبر وكتابا بدل من أحسن الحديث ويجوز أن يكون حالا منه أي قرآنا متشابها ومتشابها
409
نعت أول ومثاني نعت ثان، وقد مرّ معنى هذه الكلمة وسيأتي مزيد من النكت البلاغة في باب البلاغة.
(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) جملة تقشعر نعت ثالث ومنه متعلقان بتقشعر وجلود الذين يخشون ربهم صلة وثم حرف عطف للتراخي وتلين جلودهم فعل مضارع وفاعل وقلوبهم عطف على جلودهم والى ذكر الله متعلقان بتلين لأنه متضمن معنى تسكن وتطمئن الى ذكر الله.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك مبتدأ وهدى الله خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة يهدي إما حال أو خبر وبه متعلقان بيهدي ومن يشاء مفعول به وجملة يشاء صلة والاشارة الى الكتاب فالجملة حال منه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم ليضلل والله فاعل والفاء رابطة وما نافية أو نافية حجازية وله خبر أو خبر هاد المقدم ومن حرف جر زائد وهاد مبتدأ مؤخر مرفوع محلا أو اسم ما مجرور لفظا وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين.
البلاغة:
١- في قوله «مثاني» :
وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات وأقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب،
410
وأجاز الزمخشري وجها لطيفا آخر قال: «ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ويكون منصوبا على التمييز من متشابها كما تقول رأيت رجلا حسنا شمائل والمعنى متشابهة مثانيه».
٢- فائدة التكرير:
وفائدة التثنية والتكرير ترسيخ الكلام في الذهن فإن النفوس تملّ عادة من الوعظ والتنبيه وتسأم النصيحة بادىء الأمر، ففي تكرير النصح والموعظة تعويد لها على استساغة ذلك والعمل به وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يكرر عليهم ما يعظ وينصح به ثلاثا وسبعا أحيانا ليركز ذلك في نفوسهم والمعلم النابه لا يفتا يردد ما يلقيه على طلابه من دروس حتى يصبح مستساغا إليهم هشا في نفوسهم بعد أن كان صعبا ممجوجا.
٣- التجسيد الحي:
وفي قوله «تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله» نكت بلاغية بديعة وأهمها التجسيد الحي، أراد سبحانه أن يجسد فرط خشيتهم فعرض عليك صورة من الجلد اليابس وصورة من الشعر الواقف، ألا نقول: وقف شعر رأمنه من الخوف، وفي ذكر الجلود وحدها أولا وقرنها بالقلوب ثانيا لأن ذكر الخشية التي محلها القلوب مستلزم لذكر القلوب فكأنه قيل تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر فإذا ذكروا الله وذكروا رحمته وسعتها استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. وقيل المعنى أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة
411
فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاما له وتعجبا من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
الإعراب:
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستئناف الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة تفهم من مضمون السياق أي أكل الناس سواء فمن يتقي، ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة يتقي بوجهه صلة وسوء العذاب مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بيتقي وخبر من محذوف تقديره كمن أمن من العذاب وسيأتي معنى الاتقاء بالوجه في باب البلاغة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وقيل عطف على يتقي أي ويقال لهم ذوقوا وإنما عدل إلى الماضي للدلالة على تحقق وقوع القول ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من ضمير يتقي وللظالمين متعلقان بقيل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وجملة
412
ذوقوا مقول القول وما مفعول ذوقوا وكنتم تكسبون كان واسمها وخبرها والجملة صلة ما. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أصاب الكافرين من قبلهم من عذاب دنيوي، وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين، فأتاهم العذاب عطف على ما تقدم وأتاهم فعل ومفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر ومن حييث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون في محل جر بإضافة الظرف إليها.
(فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء عاطفة وأذاقهم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والخزي مفعول به ثان وفي الحياة الدنيا متعلقان بأذاقهم أو بمحذوف حال. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله ومفعول يعلمون محذوف أيضا تقديره عذابها. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وضربنا فعل وفاعل وللناس متعلقان بضربنا على أنه مفعول به ثان لأن ضرب متضمن معنى جعل وفي هذا القرآن حال ومن كل مثل نعت لمفعول ضربنا الأول أي مثلا كائنا من كل مثل ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها.
(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) قرآنا حال موطئة لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق بينما هي جامدة وهي حال من القرآن والاعتماد فيها على الصفة وقال اللقاني: «قرآنا مصدر بمعنى القراءة فهي مؤولة بمقروءا عربيا فهو مصدر والمصدر الحال يؤول بمشتق» وقال الصفاقسي: «قيل الحال قرآنا وعربيا توطئة ومعنى التوطئة أن الاسم
413
الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالا صلح أن يكون حالا» وعلى هذا تضبط موطأة بفتح الطاء وقال السمين: «الثالث أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالا موطئة لأن الحال في الحقيقة عربيا وقرآنا توطئة له نحو جاء زيد رجلا صالحا» وهكذا قرر الزمخشري. وأجاز الزمخشري وغيره أن ينتصب قرآنا على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع اتباعه للقرآن وأجاز أبو البقاء أن ينتصب بيتذكرون.
وغير ذي عوج نعت ثان لقرآنا وسيأتي معناه في باب البلاغة ولعلهم يتقون لعل واسمها وجملة يتقون خبرها.
البلاغة:
١- الكناية أو المجاز التمثيلي:
في قوله «أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب» كناية عن عدم الاتقاء لأن الوجه لا يتقى به وأما الذي يتقى به فهما اليدان وهما مغلولتان ولو لم يغلا لكان يدفع بهما عن الوجه لأنه أعز أعضائه وقيل هو مجاز تمثيلي لأن الملقى في النار لم يقصد الاتقاء بوجهه ولكنه لم يجد ما يتقي به النار غير وجهه ولو وجد لفعل فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقي بوجهه فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلي وهو جميل أيضا. قال النابغة:
414
٢- معنى العوج:
تقدم معنى العوج في الكهف وأن العوج بالكسر مختص بالمعاني دون الأعيان والسرّ فيه، فارجع إليه هناك وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، قال:
سقط النصيف ولم تردوا إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
وعلى كل حال ففي الكلام استعارة تصريحية.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
اللغة:
(مُتَشاكِسُونَ) : متنازعون مختلفون قال الزمخشري:
«والتشاكس والتشاخس الاختلاف تقول: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه» وفي المختار: «رجل شكس بوزن فلس أي صعب الخلق وقوم شكس بوزن قفل وبابه سلم وحكى الفراء شكس
415
بكسر الكاف وهو القياس قلت: وقوله تعالى: فيه شركاء متشاكسون أي مختلفون عسرو الأخلاق» وفي الصحاح: «رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق وقوم شكس مثل رجل صدق وقوم صدق وقد شكس بالكسر من باب سلم شكاسة وحكى الفراء: رجل شكس بكسر الكاف وهو القياس».
وللشين والسين إذا كانتا فاء ولاما للكلمة خاصة الصلابة والامتناع وسوء الخلق: يقال شئس كفرح أي صلب فهو شئس وشأس، والشحس بالفتح شجر مثل العتم إلا أنه أطول ولا تتخذ منه القسي ليبسه، والشخس الاضطراب والاختلاف وقد تقدم، والشرس محركة سوء الخلق وشدة الخلاف كالشراسة والأشرس الجريء في القتال والأسد وهذا جمل لم يشرس أي لم يرض، والشس الأرض الصلبة كأنها حجر واحد، والشطس: الدهاء والعلم به والشطسي كجمحيّ الرجل المنكر المارد الداهية، والشمس معروفة وليس هناك أمنع منها وشمس الفرس شموسا وشماسا منع ظهره فهو شامس وشموس والشموس الخمر لأنه تجعل شاربها شموسا، والشموس محركة: النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا كالتشاوس. وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة.
(سَلَماً) : مصدر سلم وقرىء سالما على أنه اسم فاعل أي خالصا.
الإعراب:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) كلام مستأنف مسوق لتمثيل من يعبد آلهة
416
كثيرة ومن يعبد إلها واحدا. وضرب الله فعل وفاعل ومثلا مفعول به ورجلا بدل من مثلا وقد تقدم إعراب نظيره، وقال الكسائي: انتصب رجلا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل. وفيه خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة رجلا ومتشاكسون نعت لشركاء ورجلا عطف على رجلا وسلما نعت بالمصدر على سبيل المبالغة ولرجل متعلقان بالمصدر وهو حرف استفهام ويستويان فعل مضارع وفاعل ومثلا تمييز محول عن الفاعل أي لا يستوي مثلهما وأفرد التمييز لاقتصاره عليه في الأول وقرىء مثلين لمطابقة حالي الرجلين.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة الاسمية معترضة لأن قوله بل أكثرهم لا يعلمون إضراب انتقالي مرتبط بقوله هل يستويان وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر.
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) جملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم فقد كانوا يتربصون موته ويستبطئونه فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص والاستبطاء ولا مبرر لشماتة فان بفان، وإنك ميت إن واسمها وخبرها وإنهم ميتون عطف على ما تقدم وسيأتي مزيد من الكلام على هذه الآية في باب البلاغة. (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها ويوم القيامة ظرف متعلق بيختصمون وعند ربكم ظرف متعلق بمحذوف حال وسيأتي معنى الاختصام في باب الفوائد. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ومعناه النفي أي لا أحد وممن متعلقان بأظلم وجملة كذب على الله صلة من وكذب بالصدق عطف على كذب على الله وإذ جاءه ظرف متعلق لكذب بالصدق أي كذب بالقرآن وقت مجيئه وجملة جاءه في محل جر بإضافة الظرف إليها.
417
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم خبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى أو بنفس مثوى لأنه اسم مكان من ثوى أي أقام.
البلاغة:
١- فن المثل:
في قوله «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء» الآية فن إرسال المثل فقد شبه حال من يعبد آلهة شتى بمملوك اشترك فيه شركاء شجر بينهم خلاف شديد وخصام مبين وهم يتجاذبونه ويتعاورونه في شتى آرابهم ومتباين أهوائهم فهو يقف متحيرا لا يدري لأيهم ينحاز ولأيّهم ينصاع وأيهم أجدر بأن يطيعه وحال من يعبد إلها واحدا فهو متوفر على خدمته يلبي كل حاجاته ويصيخ سمعا لكل ما ينتدبه إليه ويطلبه منه.
٢- الفرق بين ميت وميّت:
قال الفراء: «الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من فارقته الروح» ولذلك لم يخفف في الآية لأنه لمّا يمت ولمّا يموتوا بالنسبة لنزول الآية، وقال الزمخشري: «والفرق بين الميت والمائت أن الميت صفة لازمة كالسيد وأما المائت فصيغة حادثة تقول زيد مائت غدا كما تقول سائد غدا أي سيموت وسيسود وإذا قلت زيد ميت فكما تقول حي في نقيضه فيما يرجع الى اللزوم والثبوت
418
والمعنى في قوله: إنك ميت وإنهم ميتون إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى لأنّ ما هو كائن فكأن قد مات».
الفوائد:
وهذه نبذة لا مندوحة عن إيرادها في معنى الاختصام: فقد جاء عن عبد الله بن الزبير قال: لما نزلت: ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير يا رسول الله أتكون علينا الخصومة؟ بعد الذي بيننا في الدنيا قال نعم فقال: إن الأمر إذن لشديد» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت في أهل الكتابين: ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا: كيف نختصم وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هذا هو.
وعن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»
قال القسطلاني في شرحه: أي فضرب كل واحد منهما الآخر إذا كان قتالهما بلا تأويل، بل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا، أما إذا كانا صحابيين فأمرهما عن اجتهاد لإصلاح الدين وفيه أن من عزم على المعصية أثم وإن لم يفعلها. وفي رواية إذا المسلمان جمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا قال: فقلنا أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه، رواه البخاري ومسلم، قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن
419
أمرهما الى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا وقيل: هو محمول على من استحل ذلك، وذهب جمهور الصحابة والتابعين الى وجوب نصر الحق وقتال الباغين واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وان المصيب يؤجر أجرين وجعل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ بل بمجرد طلب الملك.
وقد أخرج البزّار في حديث «القاتل والمقتول في النار» زيادة تبين المراد وهي: «إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار» ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا المقتول فيم قتل؟ فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج: القاتل والمقتول في النار» هذا والكلام في هذا الباب طويل يرجع فيه الى المطولات لأنه خارج عن نطاق هذا الكتاب.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٨]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
420
الإعراب:
(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة جاء بالصدق صلة وصدق عطف على الصلة والذي جنس المراد به بالنسبة للصلة الأولى محمد وبالنسبة للصلة الثانية المؤمنون ولذلك روعي معنى الذي في أولئك هم المتقون، وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والمتقون خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذي ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود «والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به». (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال والجملة خبر ثان للذي وذلك مبتدأ وجزاء المحسنين خبر والجملة نصب على الحال. (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام للتعليل ويكفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل ومجرورها متعلقان بمحذوف أي يسر لهم ذلك ليكفروا ولك أن تعلق اللام ومدخولها بالمحسنين فتكون للعاقبة أي فكانت عاقبتهم التكفير والله فاعل يكفر وعنهم
421
متعلقان بيكفر وأسوأ مفعول به والذي مضاف إليه وجملة عملوا صلة وليس المراد هنا باسم التفضيل معناه على بابه وإنما هي من إضافة الشيء الى بعضه من غير تفضيل ومنه قولهم الأشج والناقص أعدل بني مروان لأن اسم التفضيل لو كان على بابه لاقتضى نظم الكلام انه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط وهذا غير مراد طبعا.
(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم وأجرهم مفعول به ثان ليجزيهم وما قيل في معنى اسم التفضيل وهو أسوأ يقال هنا في معنى اسم التفضيل وهو أحسن لأنه تعالى لا يجزيهم على أفضل الحسنات فقط. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي أثبتته بطريق المبالغة وليس واسمها والباء حرف جر زائد وكاف مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعبده مفعول كاف والمراد به النبي أو الجنس عامة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي: عباده.
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لك في الواو أن تجعلها للحال فتكون الجملة حالية والمعنى أليس الله كافيك حال تخويفهم إياك هذا إذا أراد بالعبد نبيه ﷺ ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما يعمدون إليه من تخويف بالأصنام، ويخوفونك فعل مضارع ومفعول به وبالذين متعلقان بيخوفونك ومن دونه متعلقان بمحذوف هو الصلة ومن يضلل الله فما له من هاد تقدم إعرابها بنصها قريبا فجدد به عهدا. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة والإعراب متشابه والهمزة للاستفهام التقريري وليس واسمها وبعزيز الباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وذي انتقام نعت.
422
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر والجملة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم المعلقة عن العمل بالاستفهام واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف وفقا للقاعدة المشهورة ويقولن فعل مضارع معرب لعدم مباشرة نون التوكيد له وقد تقدمت له نظائر كثيرة والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي خلقها. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام والفاء الفصيحة ورأيتم بمعنى أخبروني وقد تقدم القول فيها مفصلا أكثر من مرة وما تدعون مفعول رأيتم الأول ومن دون الله حال، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم به فرأيتم... (إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) إن شرطية وأرادني الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف وجملة الشرط اعتراضية والجملة الاستفهامية هل هن كاشفات مفعول رأيتم الثاني وهن مبتدأ وكاشفات ضره خبر.
(أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بتنوين كاشفات وممسكات ونصب ضره ورحمته على المفعولية لاسمي الفاعل. (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) حسبي الله مبتدأ وخبر أو بالعكس والجملة مقول القول وعليه متعلقان بيتوكل ويتوكل المتوكلون فعل مضارع وفاعل.
423

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤٢]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
الإعراب:
(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة واعملوا فعل أمر وفاعل وعلى مكانتكم حال وسيأتي معنى الاستعارة هنا في باب البلاغة وان واسمها وخبرها وفي الكلام حذف أي على مكانتي والفاء عاطفة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) من اسم موصول مفعول تعلمون والعلم هنا بمعنى المعرفة فينصب مفعولا واحدا وجملة يأتيه صلة وعذاب فاعل يأتيه وجملة يخزيه صفة لعذاب ويحل عطف على يخزيه وعليه متعلقان بيحل وعذاب فاعل يحل ومقيم نعت أي دائم ثابت. (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) إن واسمها وجملة أنزلنا خبرها وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وللناس متعلقان بأنزلنا أي لأجلهم وبالحق حال أي متلبسا به فهو
424
من الفاعل أو من المفعول. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة ولنفسه خبر لمبتدأ محذوف أي فهدايته لنفسه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ وجملة ومن ضل فإنما يضل عليها عطف على نظيرتها.
(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بوكيل والباء حرف جر زائد ووكيل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الله مبتدأ وجملة يتوفى الأنفس خبر وحين موتها متعلق بيتوفى والواو حرف عطف والتي معطوف على الأنفس وجملة لم تمت في منامها صلة وفي منامها ظرف ليتوفى والمعنى ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام ومنه قوله تعالى:
«وهو الذي يتوفاكم بالليل». (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الفاء عاطفة ويمسك فعل مضارع معطوف على يتوفى والتي مفعول يمسك وجملة قضى عليها الموت صلة والموت مفعول قضى ويرسل عطف على يمسك والأخرى مفعول به وإلى أجل متعلقان بيرسل أو بيمسك ومسمى نعت لأجل.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون نعت لقوم.
425
البلاغة:
في قوله «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم» الآية استعارة تصريحية فقد شبهت الحال بالمكان القارّ فيه، ووجه الشبه ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
الإعراب:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أم حرف عطف بمعنى بل واتخذوا فعل ماض والواو فاعل أي قريش ومن دون الله مفعول اتخذوا الثاني وشفعاء مفعول اتخذوا الأول. (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ومدخولها محذوف تقديره أيشفعون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وجملة لا يملكون خبرها والجملة في موضع نصب على الحال والمعنى أيشفعون في حالة كونهم لا يملكون ولا يعقلون وشيئا مفعول به أو
426
مفعول مطلق وقد تقدم القول فيها ولا يعقلون عطف على لا يملكون، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم أي وان كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لله خبر مقدم والشفاعة مبتدأ مؤخر واللام للملك أي انه مختص بها لا يملكها أحد إلا بتمليكه وجميعا حال وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإليه متعلقان بترجعون.
(وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة ذكر الله في محل جر بإضافة الظرف إليها والله نائب فاعل ووحده حال وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، وجملة اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لا محل لها لأنها جواب إذا. (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) عطف على ما تقدم ومن دونه صلة الذين وإذا الفجائية وقد جرينا على أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل وإذا كانت ظرف زمان أو مكان كانت معمولة لما بعدها وهم مبتدأ وجملة يستبشرون أي يستبشرون وقت ذكر الذين من دونه. (قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اللهم منادى والميم المشددة عوض عن يا وقد تقدم بحث ذلك مفصلا وفاطر السموات والأرض منادى مضاف وهناك أعاريب أخرى سيرد الكلام عنها مفصلا في باب الفوائد وكذلك قوله عالم الغيب والشهادة.
(أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أنت مبتدأ وجملة تحكم خبر وبين عبادك الظرف متعلق بتحكم وفيما متعلقان بتحكم أيضا وكانوا كان واسمها وجملة يختلفون خبر كانوا وفيه متعلقان بيختلفون وجملة كانوا إلخ صلة ما.
427
الفوائد:
١- عودة إلى «اللهم» :
مذهب الخليل وسيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه صار عندهم مع الميم بمنزلة الصوت أي غير متمكن في الاستعمال وذهب المبرد والزجاج إلى جواز وصفه بمرفوع على اللفظ ومنصوب على المحل وجعل فاطر السموات والأرض صفة له، قال أبو حيان:
والصحيح مذهب سيبويه لأنه لم يسمع مثل اللهم الرحيم ارحمنا والآية ونحوها محتملة للنداء.
وقال ابن هشام: «وإنما قال في قل اللهم فاطر السموات والأرض: إنه على تقدير يا ولم يجعله صفة على المحلّ لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصلت به الميم المعوضة عن حرف النداء أشبه الأصوات فلم يجز نعته» أي فقد صار مثل هلا إذا الميم بمنزلة صوت مضموم الى اسم الله مع بقائهما على معنييهما.
٢- الاستبشار والاشمئزاز:
قال الزمخشري: «الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل والاشمئزاز أن يمتلىء غما حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩)
428
الإعراب:
(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط من أنماط الهول الذي ينتظرهم والعذاب الشديد الذي أعد لهم.
ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف على الأرجح وقد تقدم تقرير ذلك أكثر من مرة، وللذين خبرها المقدم وما اسمها المؤخر وفي الأرض صلة ما وجميعا حال ومثله عطف على ما ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال واللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل وفاعل وبه متعلقان بافتدوا ومن سوء العذاب متعلقان بافتدوا أيضا ويوم القيامة الظرف حال من فاعل افتدوا أي حال كونهم في ذلك اليوم العصيب.
(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) كلام معطوف على جملة ولو أن للذين ظلموا الآية وبدا فعل ماض ولهم متعلقان به ومن الله حال وما فاعل وجملة لم يكونوا صلة ما وجملة يحتسبون خبر يكونوا والعائد محذوف أي يحتسبونه.
(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) عطف على ما تقدم ولك أن تجعل الكلامين مستأنفا مسوقا لإبراز وعيدهم في أبلغ ما يكون الوعيد والتهديد وإعرابها مماثل لما تقدم.
(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها من المناقضة على ما سبق ذكره وسيأتي السر في إيثار الفاء مع أنها
429
تقدمت في أول السورة معطوفة بالواو وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومس الإنسان ضر فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة دعانا لا محل لها لأنها جواب إذا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خولناه في محل جر بإضافة الظرف إليها وخولناه فعل وفاعل ومفعول به ونعمة مفعول به ثان ومنّا صفة لنعمة وجملة قال لا محل لها وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به وذكر الضمير لأن النعمة بمعنى الإحسان والعطاء ولك أن تعمل ان فتجعل ما موصولة في محل نصب اسمها وعلى علم خبرها والأول أرجح وعلى علم متعلقان بمحذوف حال أي حال كوني عالما أني سأعطاه لما أتمتع به من جدارة واستحقاق.
(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بل إضراب انتقالي وهي مبتدأ وفتنة خبر أي مقالته المذكورة أو النعمة وهذا أرجح، ولكن الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. قال الفراء: أنّث الضمير في قوله هي لتأنيث الفتنة ولو قال: بل هو فتنة لجاز، وتذكير الأول في قوله أوتيته باعتبار معناها.
البلاغة:
إنما عطف قوله فإذا مس الإنسان ضر في آخر السورة بالفاء وفي أولها بالواو لأن هذه نشأت عن قوله وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم أي أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة.
أما الأولى فلم تنشأ عما قبلها وإنما هو وصف الكلام اقتضى عطفها بالواو لمناسبة ما قبلها.
430

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
الإعراب:
(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قد حرف تحقيق وقالها فعل ماض ومفعول به مقدم والهاء عائدة على مقالتهم وهي: إنما أوتيته عن علم لأنها كلمة والذين فاعله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول.
(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل أغنى وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) الفاء عاطفة وأصابهم سيئات فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وما موصولة أو مصدرية في محل جر بالإضافة. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة ظلموا صلة ومن هؤلاء حال وجملة سيصيبهم سيئات ما كسبوا خبر الذين، وما هم: ما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما.
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على محذوف تقديره أقالوها ولم يعلموا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلموا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وان واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
432
الإعراب:
(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الإنابة مطلوبة لأن الفسحة عظيمة للمسرف. ويا عبادي منادى مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة وقرىء يا عباد بكسرها وقد تقدم حكم المنادى المضاف لياء المتكلم والذين نعت لعبادي وجملة أسرفوا صلة وعلى أنفسهم متعلقان بأسرفوا ولا ناهية وتقنطوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ومن رحمة الله متعلقان بتقنطوا. وقنط من باب تعب وسلم فيجوز كسر نونه وفتحها في المضارع وقد قرىء بهما وفي المختار: «القنوط:
اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قنط وقنوط وقانط»
وقد قرىء بالضم شذوذا.
(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إن واسمها وجملة يغفر خبرها والجملة تعليل للنهي عن القنوط ولذلك قيل: هذه أرجى آية في القرآن وسيأتي بيان ما فيها من أفانين البلاغة، والذنوب مفعول به وجميعا حال وذلك بعد التوبة من الشرك وإن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن. (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) وأنيبوا الواو عاطفة وأنيبوا فعل أمر وفاعله وإلى ربكم متعلقان بأنيبوا وأسلموا عطف أيضا وله متعلقان بأسلموا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف الى الظرف ويأتيكم فعل مضارع منصوب بأن والكاف مفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر وثم حرف عطف للترتيب مع
433
التراخي وتؤمرون فعل مضارع مرفوع لأنه لم يعطف على يأتيكم وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة.
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) واتبعوا عطف على وأنيبوا وأحسن مفعول به لاتبعوا وما اسم موصول مضاف لأحسن وجملة أنزل إليكم صلة ومن ربكم متعلقان بأنزل أيضا. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها في محل جر بالإضافة وبغتة حال والواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تشعرون خبر والجملة نصب على الحال.
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله، وقدّره الزمخشري كراهة أن تقول وقدّره أبو البقاء أنذر ناكم مخافة أن تقول، ونفس فاعل تقول وسيأتي السر في تنكيرها في باب البلاغة ويا حرف نداء وحسرتا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا وأصله يا حسرتي أي ندامتي وعلى ما فرطت أي على تفريطي فما مصدرية والمصدر المؤول مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بحسرتا وفي جنب الله متعلقان بفرطت وسيأتي بحث هذه الكناية في باب البلاغة.
(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة أي والحال أني وكان واسمها واللام الفارقة ومن الساخرين خبر كنت ومحل الجملة نصب على الحال. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أو حرف عطف وتقول عطف على أن تقول ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت وأن واسمها وجملة هداني خبرها واللام واقعة في جواب لو وكان واسمها ومن المتقين خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم.
434
(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أو تقول عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هي يعود على نفس وأو للتنويع لما تقوله النفس في ذلك اليوم العصيب تعللا بما لا يفيد ولا يسفر عن فائدة ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وأن وخبرها المقدم وكرة اسمها المؤخر، فأكون: الفاء عاطفة وأكون معطوف على كرة فهو عطف على اسم خالص من التقدير بالفعل وقد تقدمت الإشارة إليه وإما تكون الفاء للسببية وأكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة جوابا للتمني المفهوم من قوله لو أن لي كرة والفرق بين الوجهين أنه على الأول يكون فيه الكون من جملة المتمنى وعلى الثاني يكون فيه الكون مترتبا على حصول المتمنى لا متمنى.
(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب جاء لرد النفي الذي تضمنه قول القائل لو أن الله هداني وقد حرف تحقيق وجاءتك آياتي فعل ومفعول به وفاعل فكذبت بها عطف على جاءتك وكنت كان واسمها ومن الكافرين خبرها.
البلاغة:
١- في قوله: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» فنون متنوعة من علمي البديع والبيان نلخصها فيما يلي:
435
١- إقباله سبحانه عليهم وفي ذلك منتهى الاطمئنان لهم لمحو ما سبق لهم من ذنوب وأوضار والإشعار بأن أمامهم مندوحة من الوقت لاستدراك ما فرط ورأب ما انصدع.
٢- نداؤهم، وفي ذلك من التودّد إليهم والتلطف بهم ما يهيب بذوي المسكة من العقول منهم الى المبادرة بالإنابة والرجوع بالتوبة.
٣- إضافتهم إليه إضافة تشريف لهم، وأنهم خلقاء بآصرة العبودية يمتون بها اليه سبحانه، وذلك كاف لمقابلتهم ذلك بالمثل وإعلان التوبة للازدلاف اليه بها.
٤- إضافة الرحمة الى أخص أسمائه تعالى وأجلها وأنها هي الأصل في معاملته لعباده.
٥- إعادة الظاهر بلفظه في قوله إن الله يغفر الذنوب جميعا.
٦- الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله من رحمة الله لتخصيص الرحمة بالاسم الكريم كما تقدم آنفا.
٧- إبراز الجملة من قوله إنه هو الغفور الرحيم مؤكدة بأن وبضمير الفصل وبالصفتين المودعتين للمبالغة فهذه سبعة فنون كاملة في آية واحدة.
٢- الإيضاح:
وذلك في قوله «ثم لا تنصرون» فلقائل أن يقول لم لم يعطف تنصرون على أن يأتيكم المنصوب والجواب عن هذا الإشكال انه أراد- وهو أعلم- العدة بإخبارهم أنه لن ينصرهم أبدا في الاستقبال
436
ما داموا مصرين على عدم الإنابة محجمين عن الإسلام وقد تقدمت آية مماثلة لها في هذا الفن في سورة آل عمران.
٣- التنكير:
والسر في تنكير النفس في قوله «أن تقول نفس» التقليل، لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر وانها نفس متميزة من الأنفس بهذه السمة من اللجاج في الكفر وربما أريد بها التكثير على حد قول الأعشى:
ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
يريد كراما كثيرين لا كريما واحدا ومثله: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت وهو يقصد بلادا وأبطالا.
٤- الكناية:
في قوله «على ما فرطت في جنب الله» والجنب الجانب يقال:
أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب ثم قالوا فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال جميل بن معمر:
437
يستعطف جميل صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها أي أما تخافين الله في جنب وامق أي في حقه الواجب عليك فالجنب كناية عن ذلك والوامق الشديد المحبة يعني نفسه وحرى أي ذات حر واحتراق، وتقطع: أصله تتقطع والادكار أصله الاذتكار قلبت تاء الافتعال دالا مهملة وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما لها وفي البيت الثاني رد العجز على الصدر وهو من بديع الكلام. وهذه الكناية تسمى كناية نسبة، وقد تقدم القول في أقسام الكناية، لأنك إذا أثبتّ الأمر في مكان الرجل وحيّزه فقد أثبتّه فيه، قال زياد الأعجم:
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
غريب مشوق مولع بادكاركم وكل غريب الدار بالشوق مولع
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
يعني انه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.
الفوائد:
ألف الفصل:
ألف الفصل تزاد بعد واو الجماعة مخافة التباسها بواو النسق مثل: «وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له» ومثل: كفروا ووردوا، ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو ثم اتصلت بكلام بعدها ظن القارئ أنها كفر وورد فحيزت الواو لما قبلها بألف الفصل، ولما
438
فغلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها نحو ساروا وجاءوا فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها نحو كانوا وبانوا ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكما واحدا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٦]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
اللغة:
(بمفازة) : المفازة: الفلاة المهلكة سميت باسم المنجاة على سبيل التفاؤل، وفوّز المسافر: ركب المفازة ومضى فيها، قال حسان:
لله درّ رافع أنّى اهتدى فوّز من قراقر إلى سوى
وفوّز بإبله، وفوّز الرجل مات فصار في مفازة ما بين الدنيا والآخرة من البرزخ الممدود أو لأن المفازة صارت اسما للمهلكة فأخذ
439
منها فوّز بمعنى هلك، وفاز سهمه وخرج له سهم فائز إذا غلب، وفاز بفائزة هنيّة وأجيز بجائزة سنية. وقد سموا اللديغ سليما تفاؤلا ببرئه كما سموا القافلة للمسافرين تفاؤلا بأوبتهم.
(مَقالِيدُ) : المقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل والكلام من باب الكناية وعبارة القاموس:
«والإقليد برة الناقة والمفتاح كالمقلاد والمقلد وشريط يشد به رأس الجلة وشيء يطوّل مثل الخيط من الصّفر يقلد على البرة وعلى خوق القرط كالقلاد والعنق وجمعه أقلاد، وناقة قلداء: طويلتها، وكسكيت ومصباح: الخزانة، وضاقت مقالده ومقاليده ضاقت عليه أموره وكمنبر: الوعاء والمخلاة والمكيال وعصا في رأسها اعوجاج» الى أن يقول: «والقلاده: ما جعل في العنق، وتقلد: لبسها». على أن الزمخشري وغيره من علماء اللغة يقولون إن أصل الكلمة فارسي، قال في الكشاف: «له مقاليد السموات والأرض أي هو مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ومنه قولهم ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح ولا واحد لها من لفظها وقيل مقلد ويقال إقليد وأقاليد والكلمة أصلها فارسية فإن قلت: ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا».
الإعراب:
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) الواو استئنافية والظرف متعلق بتري وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والذين مفعوله وجملة كذبوا على الله صلة
440
ووجوههم مبتدأ ومسودة خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال من الموصول لأن الرؤية بصرية ويجوز أن تكون الرؤية قلبية فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني لترى والكذب على الله معناه نسبة الشريك إليه. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس وخبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللمتكبرين نعت لمثوى والجملة تعليلية لاسوداد وجوههم. (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) الواو عاطفة وينجي الله الذين فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة اتقوا صلة وبمفازتهم متعلقان بينجي لأنها سببية ففوزهم بالفلاح سبب النجاة. (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا نافية ويمسهم السوء فعل مضارع ومفعول به وفاعل والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يحزنون خبر وجملة لا يمسهم السوء لا محل لها لأنها مفسرة للمفازة كأنه قيل: ما مفازتهم فقيل لا يمسهم السوء ولا يبعد أن تكون في موضع نصب على الحال من الذين اتقوا وأجاز الزمخشري أن تكون مستأنفة.
(اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بوكيل ووكيل خبر هو والجملة مستأنفة. (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خبر مقدم ومقاليد السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة أيضا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة كفروا بآيات الله صلة وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر الذين ولك أن تجعل هم ضمير فصل لا محل له كما تقدم والجملة معطوفة على وينجي الله الذين آمنوا عطف أحد المتقابلين
441
على الآخر ولا يمنع من هذا العطف كون المعطوف جملة اسمية والمعطوف عليه جملة فعلية. (قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف وغير الله نصب بأعبد وجملة تأمروني اعتراض وسيأتي الكلام في حذف النون وأعبد فعل مضارع والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن وارتفع أعبد كما ارتفع في قول طرفة:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
وفيما يلي النص الكامل لإعراب أبي البقاء لهذه الآية:
«أفغير الله، في اعرابها أوجه، أحدها: أنه منصوب بأعبد مقدما عليه وقد ضعف هذا الوجه من حيث كان التقدير أن أعبد فعند ذلك يفضي الى تقديم الصلة على الموصول وليس بشيء لأن أن ليست في اللفظ فلا يبقى عملها فلو قدرنا بقاء حكمها لأفضى الى حذف الموصول وبقاء صلته وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، والوجه الثاني أن يكون منصوبا بتأمروني وأعبد بدلا منه والتقدير قل أفتأمروني بعبادة غير الله عز وجل وهذا من بدل الاشتمال ومن باب أمرتك الخير، والثالث أن غير منصوب بفعل محذوف أي أفتلزموني غير الله وفسره فيما بعد، وقيل لا موضع لأعبد من الاعراب وقيل هو حال والعمل على الوجهين الأولين وأما النون فمشددة على الأصل وقد خففت بحذف الثانية وقد ذكر نظائره» ونون تأمروني نون الرفع كسرت للمناسبة وحذفت نون الوقاية لاجتماع المثلين وقرىء بسكون
442
الياء وفتحها فالقراءات أربع وكلها سبعية. وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والجاهلون بدل من أيها.
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأوحي فعل ماض مبني للمجهول وإليك سد مسد نائب الفاعل وقيل نائب الفاعل محذوف يدل عليه سياق الكلام أي أوحي إليك التوحيد والى الذين عطف على إليك ومن قبلك متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللام موطئة للقسم أيضا وإن شرطية وأشركت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم وهذا القسم وجوابه جواب القسم الأول وأما جواب الشرط فمحذوف على حد قول ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
ويحبطن فعل ماض مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وعملك فاعل ولتكونن عطف على ليحبطن واسم تكونن مستتر تقديره أنت ومن الخاسرين خبر. (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) كلام معطوف على مقدر دل عليه السياق أي فلا تشرك، والله نصب بفعل محذوف دل عليه فاعبد أي إن كنت عاقلا فاعبد الله والفاء الفصيحة واعبد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكن عطف على اعبد واسم كن مستتر تقديره أنت ومن الشاكرين خبر كن.
443
الفوائد:
أفرد سيبويه في كتابه فصلا خاصا لهذا التركيب وهو «بل الله فاعبد» وهذه خلاصته: الأصل فيه فاعبد الله ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم شرطا محذوفا اقتضى وجودها ولتعطف عليه ما بعدها ويضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
444
الإعراب:
(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير قدرته تعالى وما نافية وقدروا الله فعل وفاعل ومفعول به أي ما علموا كنهه وما عرفوه حق معرفته، وحق قدره نصب على المفعولية المطلقة.
(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الواو للحال والأرض مبتدأ وجميعا حال وقبضته خبره والجملة حال من الله ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال من قبضته أو هي متعلقة بها على تضمينها معنى مقبوضة والسموات مبتدأ ومطويات خبر وبيمينه متعلقان بمطويات وعبارة أبي البقاء: «والأرض مبتدأ وقبضته الخبر وجميعا حال من الأرض والتقدير إذا كانت مجتمعة قبضته أي مقبوضة فالعامل في إذا المصدر لأنه بمعنى المفعول، وقد ذكر أبو علي في الحجة: التقدير ذات قبضته وقد رد عليه ذلك وأن
445
المضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهذا لا يصح لأنه الآن غير مضاف اليه وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه ويقرأ قبضته بالنصب على معنى في قبضته وهو ضعيف لأن هذا الظرف محدود فهو كقولك زيد الدار، والسموات مطويات مبتدأ وخبر وبيمينه متعلقان بالخبر ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الخبر وأن يكون خبرا ثانيا وقرىء مطويات بالكسر على الحال وبيمينه الخبر وقيل الخبر محذوف أي والسموات قبضته» هذا وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة.
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة ما. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الواو حرف عطف على ما تقدم وعبر عما سيأتي بالماضي لتحقق وقوعه ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على النافخ قيل هو إسرافيل أو اسرافيل وجبريل وفي الصور متعلقان بنفخ فصعق عطف على نفخ ومن فاعل وفي السموات ومن في الأرض صلة من وإلا أداة استثناء ومن مستثنى واختلف في المستثنى من هم؟ على أقوال متعددة يرجع إليها في المطولات وجملة شاء الله صلة من. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي لبعد ما بين النفختين ونفخ فعل ماض مبني للمجهول وفيه متعلقان بنفخ وأخرى نائب فاعل نفخ على حد قوله تعالى «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» ويجوز أن يكون الجار والمجرور هو القائم مقام نائب الفاعل وأخرى صفة لمصدر محذوف نابت عنه أي فهي مفعول مطلق والفاء عاطفة وإذا
446
الفجائية لا محل لها وهم مبتدأ وقيام خبر وجملة ينظرون خبر ثان ومعنى ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت المشدوه إذا فاجأه خطب.
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) الواو عاطفة وأشرقت الأرض فعل وفاعل وبنور ربها متعلقان بأشرقت ووضع الكتاب عطف على ما تقدم ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل وأل في الكتاب للجنس أي أعطي كل واحد كتابه أي صحائف أعماله المدونة فيها حسناته أو سيئاته. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وجيء عطف على ما تقدم أيضا وبالنبيين متعلقان بجيء والشهداء عطف على النبيين وقضي فعل ماض مبني للمجهول وبينهم إما ناب مناب الفاعل وإما متعلق بقضي ونائب الفاعل محذوف مقدر من المصدر المفهوم أي وقضي القضاء وبالحق متعلقان بمحذوف حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر والجملة في محل نصب على الحال.
(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ووفيت عطف أيضا وكل نفس نائب فاعل وما مفعول به ثان لوفيت وجملة عملت صلة ولك أن تجعل ما مصدرية أي عملها فيكون المصدر المؤول هو المفعول الثاني والواو حالية أو عاطفة وهو مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يفعلون صلة. (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) الواو عاطفة وسيق الذين فعل ماض مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة وإلى جهنم متعلقان بسيق وزمرا حال وهي جمع زمرة والزمرة الجماعة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت لأن الجماعة يكون لها صوت دائما يقال زمر يزمر من بابي
447
دخل وضرب أي غنّى بالنفخ في القصب ونحوه. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى ابتدائية وقد تقدم القول مطولا في حتى وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة فتحت أبوابها لا محل لها لأنها جواب إذا وأبوابها نائب فاعل.
(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) وقال عطف على فتحت ولهم متعلقان بقال وخزنتها فاعل قال والهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأت فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به ورسل فاعل ومنكم صفة لرسل وجملة يتلون صفة ثانية أو حال وعليكم متعلقان بيتلون وآيات ربكم مفعول يتلون. (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وينذرونكم عطف على يتلون ولقاء يومكم مفعول به ثان أو نصب بنزع الخافض ويومكم مضاف للقاء وأراد به وقت دخولهم النار وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدة وهذا نعت ليومكم أو بدل منه. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب لإثبات النفي أي بلى أتونا وتلوا علينا والواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهملة وحقت كلمة العذاب فعل وفاعل وعلى الكافرين متعلقان بحقت.
(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جملة مستأنفة وجملة ادخلوا مقول القول وأبواب جهنم مفعول به على السعة وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعله والمخصوص بالذم محذوف أي هي. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)
448
تقدم إعرابها بنصها وسيأتي الفرق بين السوقين في باب البلاغة.
(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى الابتدائية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجوابها هنا محذوف لأنه في صفة أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يكتنه ولا يحيط به الوصف والواو عاطفة وجملة وفتحت أبوابها معطوفة على جاءوها وسيأتي مزيد من القول فيها.
(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) الواو عاطفة وقال لهم خزنتها فعل وفاعل وسلام مبتدأ وعليكم خبره وطبتم فعل وفاعل، فادخلوها الفاء تعليلية وادخلوها فعل وفاعل ومفعول وخالدين حال. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) كلام معطوف على جواب إذا المحذوف أي دخلوها وقالوا، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول والذي نعت وجملة صدقنا صلة وهي فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ووعده مفعول به ثان. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) جملة وأورثنا عطف على صدقنا والأرض مفعول به ثان وجملة نتبوأ حال من مفعول أورثنا والفاعل مستتر تقديره نحن ومن الجنة متعلقان بمحذوف حال وحيث ظرفية على بابها متعلقة بنتبوأ أو مفعول نتبوأ قال الزمخشري:
«يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج الى جنة غيره» والفاء استئنافية ونعم أجر العاملين تقدم إعرابها.
(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لوصف الملائكة المقربين في ذلك اليوم وترى الملائكة فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وحافين حال أي
449
محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه ومن حول العرش متعلقان بحافين وجملة يسبحون بحمد ربهم حال ثانية. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وقضي فعل مبني للمجهول وبينهم ظرف نائب عن فاعل الفاعل أو متعلق بقضي ونائب الفاعل مصدر مفهوم من الفعل أي قضي القضاء وبالحق حال والضمير في بينهم يرجع الى العباد والملائكة معا وقيل عطف على قضي وجملة الحمد لله رب العالمين مقول القول.
البلاغة:
تميز ختام سورة الزمر بذكر أحوال القيامة والتحميد والتسبيح كما تميز بالجزالة في اللفظ ولسنا نعني بالجزالة أن يكون اللفظ وحشيا متوعرا عليه عنجهية البداوة بل نعني بها أن يكون اللفظ متينا قويا على عذوبة في الفم وحلاوة جرسه في السمع، ولو نظرنا الى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا وما جرى هذا المجرى فإننا لا نرى شيئا من ذلك وحشي الألفاظ ولا متوعرا موغلا في الجساوة والنبو، وسنعمد الى إيضاح ما ورد فيها من فنون.
١- المجاز:
فأولها المجاز في قوله «والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه» فإن قبض الله الأرض عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: فلان في قبضتي يعني انه في قدرته باعتبار ما يئول اليه لأن القابض يتصرف بما يقبضه كيف يشاء
450
والقبضة المرة من القبض والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان أولهما قوله جميعا والثاني قوله السموات، وطي السموات والأرض مجاز أيضا ليس يريد به طيا كما نفهمه وإنما المراد به الذهاب والفناء، واليمين في كلام العرب تأتي بمعنى القدرة والملك كما قدمنا.
٢- الفرق بين السوقين:
وفي قوله «وسيق» بالنسبة لأهل النار وأهل الجنة إذ عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ واحد فن دقيق المسلك وهو أن يأتي المتكلم بكلمة واحدة فتكون تارة دالة على الهوان والعقاب ثم يأتي بها ثانية فتكون دالة على الإكرام وحسن الثواب، وما أجمل قول الزمخشري في هذا الصدد قال: «فإن قلت كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا الى حبس أو قتل والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين وحثها إسراعا الى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك فشتان ما بين السوقين».
الفوائد:
١- أقوال المعربين في جواب إذا:
أفاض المعربون كثيرا في جواب إذا والسر في مجيء الواو بقوله «حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها» وقد أوردنا في باب الإعراب
451
ما اخترناه، أما السمين فقد لخص أقوال المعربين بقوله: «في جواب إذا ثلاثة أوجه أحدها قوله وفتحت والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش وإنما جيء هاهنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها والثاني أن الجواب محذوف قال الزمخشري وحقه أن يقدر بعد خالدين يعني لأنه لا يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه والتقدير: اطمأنوا وقدره المبرد سعدوا وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله وفتحت أبوابها في محل نصب على الحال وسمى بعضهم هذه الواو واو الثمانية قال لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى: وثامنهم كلبهم وقيل تقديره حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها يعني ان الجواب بلفظ الشرط ولكنه يزيد بتقييده بالحال فلذلك صح».
٢- فصل ممتع للرماني:
هذا وننقل فيما يلي خلاصة وافية للفصل الذي عقده علي بن عيسى الرماني في تفسيره الكبير المفقود، وكم يؤسفنا أن يضيع هذا الكتاب بين سمع الأرض وبصرها، ولكن الذي يعزينا أن السيوطي نقل عنه كثيرا وذكره كل من ترجم للمؤلف فقد كان الرماني نحويا متكلما وكان شيخ العربية في زمانه شغوفا بالمنطق حتى غلب عليه في جميع تآليفه وكلامه، قيل للصاحب: هلا صنفت تفسيرا؟ فقال:
وهل ترك لنا علي بن عيسى شيئا؟ وكان الرماني نفسه يقول:
«تفسيري بستان تجتني منه ما تشتهي» وقد اشتهر تفسيره بين الناس
452
وكثر ذكره في كتبهم ولم يصل إلينا هذا التفسير فهو يقول في صدد دراسته لسر الجمال في القرآن عند ما يتحدث عن هذه الآية: «كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ذكر الجواب لقصر عن الوجه الذي تضمنه البيان.
453
Icon