ﰡ
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
(الزَّانِيَةُ) : بنية الزّنا والزناء بالمد والقصر، قال الفرزدق:
أبا خالد من يزن يعلم زناؤه | ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا |
(رَأْفَةٌ) : في المختار: «والرأفة أشد الرحمة وقد رؤف بالضم رافة ورأف به يرأف مثل قطع يقطع ورئف به من باب طرب كله من كلام العرب فهو رءوف على فعول».
الإعراب:
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه سورة أو مبتدأ والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بجملة أنزلناها، وفرضناها عطف على أنزلناها وأنزلنا عطف أيضا وفيها متعلقان بأنزلنا وآيات مفعول به وبينات صفة لآيات، ولعل واسمها وجملة تذكرون خبرها وجملة لعلكم تذكرون حال.
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات. والزانية والزاني
وانما قدم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية إليها أوفر ولولا تمكينها منه لم يقع وقد عكس الأمر في آية حد السرقة فقدم السارق على السارقة لأن الزنا يتولد بشهوة الوقاع وهي في المرأة أقوى وأكثر، والسرقة انما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة وهي في الرجل أقوى وأكثر.
فاجلدوا الفاء رابطة لأن الألف واللام بمعنى الذي والموصول فيه رائحة من الشرط أي التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه، واجلدوا فعل أمر وفاعل وكل واحد مفعول به ومنهما صفة لواحد ومائة جلدة نائب مفعول مطلق لأن المفعول المطلق ينوب عنه عدده أي ضربة، يقال جلده: ضرب جلده. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتأخذكم فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبهما متعلقان بتأخذكم ورأفة فاعل وفي دين الله متعلقان بتأخذكم أيضا. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وهو في محل جزم فعل الشرط وجملة تؤمنون بالله واليوم الآخر خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله وحكمه، والمراد بالشرط التهيج وإثارة الحفائظ على الزناة والغضب لله ولدينه.
وسيأتي في باب البلاغة المزيد من القول في هذه الآية. (وَلْيَشْهَدْ
الواو عاطفة واللام لام الأمر ويشهد فعل مضارع مجزوم باللام وعذابهما مفعول به مقدم وطائفة فاعل مؤخر ومن المؤمنين صفة لطائفة. وسيأتي القول عن المراد فيها.
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) جملة مستأنفة مسوقه لبيان أن الفاسق الخبيث الذي جعل الزنا ديدنه وهجيراه لا يرغب في نكاح الصوالح ذوات الصون والعفاف وكذلك شأن الفاسقة الخبيثة تأبى إلا الارتطام في مستوبل الأقذار. والزاني مبتدأ وجملة لا ينكح خبر وإلا أداة حصر، وسيأتي سر القصر في باب البلاغة. وزانية مفعول به وأو حرف عطف ومشركة عطف على زانية. (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) جملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها في الاعراب وزان فاعل حذفت ياؤه لأنه اسم منقوص تحذف ياؤه في حالة التنوين رفعا وجرا وتثبت نصبا. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم المتشبهين بالفساق والمستهدفين لسوء القالة والطعن وسيأتي القول في سر التحريم في باب الفوائد.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان نوع آخر من حدود الزنا، والذين مبتدأ سيأتي له ثلاثة أخبار وجملة يرمون صلة الموصول والمحصنات مفعول به ثم لم يأتوا عطف على يرمون وبأربعة متعلقان بيأتوا وشهداء مضاف اليه جر بالفتحة لمنعه من الصرف لمكان ألف التأنيث منه. (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاء رابطة لجواب الموصول المتضمن معنى الشرط واجلدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وجملة فاجلدوهم خبر أول للذين وثمانين مفعول مطلق وجلدة تمييز، ولا تقبلوا عطف على فاجلدوهم وهي بمثابة الخبر الثاني للذين ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهادة
البلاغة:
١- الإيجاز بالحذف:
في قوله تعالى «سُورَةٌ أَنْزَلْناها» إيجاز بالحذف وهو كما يراه عبد القاهر الجرجاني باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الافادة أزيد للافادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن، ولكن عبد القاهر لم يصب كبد الحقيقة عند ما أردف يقول: «ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره» ووجه عدم إصابته أن الذي ذكره لا يأتي في كل مبتدأ وإنما يحسن في مبتدأ خبره وصف يقتضي المدح أو القدح وتقبل المبالغة فيه وتكون تلك المبالغة تفيد الموصوف معنى، وفي
ثم يعرض عبد القاهر أمثلة من الشعر الجيد لأبيات حذف المبتدأ فيها كقول الشاعر:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي | أيادي لم تمنن وإن هي جلّت |
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه | ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت |
٢- النهي والشرط للتهييج:
المقصود من النهي في قوله «ولا تأخذكم» والشرط في قوله «إن كنتم تؤمنون إلخ» التهييج وإثارة الغضب وإلهاب الحفاظ على دين الله، وإن على المؤمنين الحراص على الاتسام بهذه السمة المشرقة أن يتصلبوا في دينهم وأن لا تأخذهم هوادة أو لين في تنفيذ ما أمرهم الله
٣- الحصر بإلا:
ظاهر النظم يوحي بأن الزاني لا ينكح المؤمنة العفيفة وأن الزانية لا ينكحها المؤمن التقي، ولما كان ذلك غير ظاهر الصحة كان لا بد من حمل الاخبار على الأعم الأغلب كما لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل الخير من ليس بتقي.
٤- استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد ويسمى الشتم بهذه الفاحشة قذفا، والمراد بالمحصنات النساء، وخصصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة.
الفوائد:
١- قوله تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا» الآية: إنما عدل الخليل وسيبويه الى هذا الذي نقلناه من الاعراب لوجهين: لفظي ومعنوي أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب ومع ذلك فالرفع قراءة العامة فلو جعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء فالتجأ الى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في
وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكره من أحكام الجلد، هذا بيان المقتضى عند سيبويه لاختيار الحذف من حيث الصناعة اللفظية وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر لأنه يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني، وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوّف السامع الى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة.
٢- قوله تعالى «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفه غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها هي أربعة الى أربعين رجلا من المصدقين بالله وعن الحسن عشرة وعن قتادة ثلاثة فصاعدا وعن عكرمة رجلان فصاعدا وعن مجاهد أقلها رجل فصاعدا، وقيل رجلان وفضل قول ابن عباس لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الحد والتفصيل في كتب الفقه.
٣- أقسام الزناة الأربعة:
أ- الزاني لا يرغب إلا في زانية.
ب- الزانية لا ترغب إلا في زان.
د- العفيفة لا ترغب إلا في عفيف.
وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني وحاصرة للقسمة، فنقول اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول صريح في القسم الاول ويفهم الثالث والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع والقسم الثالث والرابع متلازمان من حيث أن المقتضي لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في الصفة وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والإعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا فان معنى الأول: الزانية لا ينكحها عفيف ومعنى الثانية: العفيفة لا ينكحها زان، والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الإعفاء لسلب نقائصهم حتى لا يخرج الكلام عما هو المقصود منه ثم بينه في اسناد النكاح في هذين القسمين للذكور دون الإناث بخلاف قوله الزانية والزاني فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا وقدم الزانية على الزاني- كما تقدم- والسبب فيه أن الكلام الاول في حكم الزنا والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة فلم يسند إلا لهم لهذا وان كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث مناكحة الزناة ذكورا وإناثا زجرا لهم عن الفاحشة ولذلك قرن الزنا والشرك.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام اللعان وهو مبسوط في كتب الفقه.
والذين مبتدأ وجملة يرمون أزواجهم صلة وحذف التاء أفصح ولذلك جمع الزوج على أزواج ويتعين في الفرائض إثبات التاء، ومتعلق يرمون محذوف أي بالزنا، ولم الواو حالية أو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم خبر مقدم وشهداء اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وأنفسهم بدل من شهداء ويجوز أن تكون إلا بمعنى غير فتكون أنفسهم نعتا لشهداء وقد ظهر عليها إعراب إلا على حد قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا». (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء واقعة في جواب اسم الموصول لتضمنه معنى الشرط وشهادة مبتدأ وأحدهم مضاف اليه وأربع شهادات
(وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الواو اعتراضية والخامسة مبتدأ أي الشهادة الخامسة وأن وما بعدها في تأويل مصدر خبر ولعنة الله اسم أن وعليه خبر أن وإن شرطية وكان فعل الشرط واسم كان مستتر ومن الكاذبين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، ويجوز أن تكون الواو عاطفة والخامسة عطف على شهادة وأن لعنة الله بدل من الخامسة أو نصب بنزع الخافض أي بأن لعنة الله والأول أسهل. (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) جملة ويدرأ عطف على ما سبق ويدرأ فعل مضارع معناه يدفع، عنها متعلقان به والعذاب مفعول به وأن تشهد في تأويل مصدر فاعل يدرأ وأربع شهادات نصب على المصدر فهو نائب مفعول مطلق وبالله متعلقان بشهادات أو بأن تشهد كما تقدم في الأولى وانه لمن الكاذبين تقدم اعرابها. (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) تقدم اعراب مثيلتها فجدد به عهدا. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) لولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ وخبره محذوف وجوبا كما تقدم وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وان الله تواب ان واسمها وخبرها وهي معطوفة على
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات بالاضافة الى ما انطوت عليه من الأحكام والتشريع الصالح على العديد من فنون البلاغة وقد تقدم البحث فيها فنجتزىء بالالماع إليها:
١- الالتفات: في قوله «ولولا فضل الله عليكم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لتسجيل المنة، على المخاطبين بحيث لا تبقى لديهم أعذار واهية يتشبثون بها إذا هم تجاوزوا حدود ما بيّنه لهم.
٢- التغليب: فقد غلب صيغة الذكور على صيغة الإناث حيث لم يقل عليكم وعليكن لأنه بصدد مخاطبة الفريقين أي القاذفين والمقذوفات.
٣- الحذف: وقد تكرر حذف المبتدأ والخبر كما رأيت في الاعراب وحذف جواب لولا أي كأن يقول الله في بيانه: فلان صادق بالزنا لكون المقذوفة قد زنت في نفس الواقع، أو يقول فلان كاذب في قذفه لكون المقذوفة لم تزن في نفس الواقع، وسدل الستار على ذلك كله لأن الغرض الأسمى هو الصون، والصون يتطلب التحوّط، والتحوط يستدعي السكوت عما لا يحسن التصريح به.
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)اللغة:
(الإفك) : أبلغ ما يكون من الكذب وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه.
(كِبْرَهُ) : كبر الشيء بكسر الكاف وسكون الباء معظمه، قال فيس بن الخطيم يذكر امرأة:
تنام عن كبر شأنها فاذا | قامت رويدا تكاد تنغرف |
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الجملة مستأنفة للشروع في سرد قصة الإفك وتقع في ثماني عشرة آية ستأتي باطراد وهي تتعلق بعائشة رضي الله عنها، وهي صالحة تستحق المديح والثناء فمن رماها بالسوء فكأنه قلب الحقائق وطمسها. وان واسمها وجملة جاءوا صلة الموصول وبالإفك متعلقان بجاءوا وعصبة خبر إن ومنكم صفة لعصبة أي من المؤمنين ولو ظاهرا، فقد كان عبد الله بن أبيّ وهو أحد الذين خاضوا في حديث الافك من كبار المنافقين، وجملة لا تحسبوه مستأنفة
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل امرئ خبر مقدم ومنهم صفة لامرىء وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة اكتسب صلة ومن الإثم متعلقان باكتسب. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة تولى كبره صلة أي بالغ فيه وضخّم الأمور وزوّقها لسوء دخيلته وشر طويته، ومنهم متعلقان بمحذوف حال وهو عبد الله بن أبيّ المنافق، وله خبر مقدم وعذاب عظيم مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذي.
الفوائد:
حديث الافك:
جاء في صحيحي البخاري ومسلم على لسان عائشة قالت: «كنت مع النبي ﷺ في غزوة بعد ما أنزل الحجاب ففرغ منها ورجع ودنا من المدينة وأذن بالرحيل ليلة فمشيت وقضيت شأني وأقبلت الى الرحل فاذا عقدي انقطع فرجعت ألتمسه وحملوا هودجي
تفسير غريب الحديث:
١- قوله في غزوة: قيل هي غزوة المريسيع وتسمى غزوة بني المصطلق وكانت في السنة الرابعة وقيل في السادسة وسببها أن رسول الله ﷺ بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث ابن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي ﷺ فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد الى الساحل فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم فأفاءها وردها عليهم.
٢- يأكلن العلقة: بضم العين وسكون اللام القليل من الطعام.
٣- صفوان: هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي.
٤- عرس: بتشديد الراء المفتوحة أي نزل ليلا للاستراحة وهو خاص بآخر الليل.
٦- باسترجاعه: أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
٧- خمرت وجهي بجلبابي: أي غطيته بالملاءة.
٨- ووطئ على يدها: أي وضع رجله على ركبتها.
٩- موغرين: في القاموس: الوغرة شدة الحر ووغرت الهاجرة كوعد وأوغروا دخلوا فيها، والوغر ويحرك: الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ وقد وغر صدره كوعد ووجل وغرا ووغرا بالتحريك وفي المصباح: «ووقع في أرض فلاة صار فيها».
رواية المستشرقين: هذا وقد شغل حديث الافك المستشرقين فصاغوه في روايات شتى نورد منها هنا للاطلاع رواية برو كلمن المستشرق الألماني صاحب كتاب «تاريخ الشعوب الاسلامية» وفيما يلي نص تعريبه:
«وقام النبي خلال سنة ٦٢٧ أيضا بحملات عدة على بعض القبائل البدوية ولقد أبعد في إحداها حتى لقارب مكة وكانت هذه الغزوات آمنة الى حد ساعده على أن يصطحب فيها اثنتين من أزواجه، فاتفق مرة أن أضاعت زوجه المفضلة عائشة بنت أبي بكر- وكانت آنذاك في الرابعة عشرة من عمرها- قلادتها فخرجت تبحث عنها مساء ففاتتها فوافل الغزاة ولم تعد الى المعسكر إلا في اليوم التالي وبرفقتها شاب كانت قد عرفته من قبل وتطرق الشك في إخلاص عائشة إلى نفس النبي فردها الى بيت أبويها ولكن الله لم يلبث أن برأها بعد شهر واحد في إحدى الآيات الموحاة الى النبي مضيفا في الوقت نفسه أن أي اتهام
العودة الى المدينة واللغط في الحديث:
ولنعد الى رواية عائشة نفسها في تتمة الحديث الآنف الذكر قالت:
«واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الافك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، انما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح.
قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟
قلت: وماذا قال؟
فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا الى مرضي فلما رجعت الى بيتي استأذنت أن آتي أبوي: أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي.
قالت أمي: هوّني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثّرن عليها.
قلت: سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم.
ودعا رسول الله عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود وقال لرسول الله: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا.
وأما عليّ بن أبي طالب فقال: لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله بريرة يسألها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فنأكله.
فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم ثم جلس وتشهّد ثم قال: أما بعد يا عائشة فإني قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألمحت بذنب فاستغفري الله وتوبي اليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني، فقالت: كذلك والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، قلت:- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-:
إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فان قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقوني واني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، فو الله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى انه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي.
قالت لي أمي: قومي اليه.
قلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي.
وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره فأقسم لا ينفق عليه شيئا أبدا فأنزل الله عز وجل: «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى... الى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم» ؟
فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع الى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.
هذا وسيأتي في بقية الآيات ما يتعلق بهذا الحديث.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٢ الى ١٥]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) كلام مستأنفة للشروع في زجر الخائضين في الإفك وتوبيخهم على ما أرجفوا به وستأتي تسعه زواجر مترادفة وهذا هو الزاجر الأول. ولولا حرف تحضيض متضمن معنى الزجر والتوبيخ وذلك كثير في اللغة إذا دخلت على الفعل كقوله تعالى «لولا أخرتني» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بظن وجملة سمعتموه في محل جر باضافة الظرف إليها وظن المؤمنون فعل وفاعل والمؤمنات عطف وبأنفسهم متعلقان بخيرا وخيرا مفعول به ثان. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) وقالوا عطف على ظن وهذا مبتدأ وإفك خبر ومبين صفة والجملة الاسمية مقول القول وسيأتي القول في الالتفات الرائع بهذه الآية. (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) لولا حرف تخصيص ثان وهذا هو الزاجر الثاني وجاءوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بشهداء وبأربعة متعلقان بجاءوا وشهداء مضاف اليه، فاذا الفاء عاطفة وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالكاذبون ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتوا فعل مضارع مجزوم بلم والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها وبالشهداء متعلقان بيأتوا. (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) الفاء رابطة وأولئك مبتدأ وعند الله متعلقان بمحذوف حال أي في حكمه وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والكاذبون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك.
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ حذف خبره وجوبا وهذا هو الزاجر الثالث، وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وفي الدنيا متعلقان بمحذوف حال والآخرة عطف على الدنيا. (لَمَسَّكُمْ فِيما
اللام واقعة في جواب لولا ومسكم فعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفيما متعلقان بمسكم وجملة أفضتم فيه صلة و «ما» عبارة عن حديث الافك والافاضة الاندفاع والخوض ويصح أن تكون ما مصدرية أي لمسكم بسبب إفاضتكم وخوضكم في الإفك، وفيه متعلقان بأفضتم وعذاب فاعل وعظيم صفة. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهذا هو الزاجر الرابع، وإذ ظرف متعلق بمسكم أو بأفضتم وتلقونه فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه وهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والهاء مفعول به، والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها والمراد يرويه بعضكم عن بعض وبألسنتكم متعلقان بتلقونه، وتقولون عطف على تلقونه وبأفواهكم متعلقان بتقولون وما مفعول تقولون وجملة ليس صلة الموصول وليس فعل ماض ناقص ولكم خبر وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وتحسبونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به أول وهينا مفعول به ثان والواو للحال وهو مبتدأ وعند الله حال وعظيم خبر هو والجملة حالية.
البلاغة:
١- التعبير بالأنفس عن الآخرين:
التعبير بالأنفس عن الآخرين ينطوي على أبعد النكت مرمى وأكثرها حفولا بالمعاني السامية، فهو أولا يهيب بالمؤمنين الى التعاطف واجراء التوبيخ على النفس بدلا من أن يذكره بسوء وذلك أدعى الى اصطناعه وجعله محمولا على الموالاة والاصطفاء وذلك بتصويره بصورة من
وهذا صحيح كل الصحة وبراءة عائشة واضحة ومفهومة بالبداهة لدى كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش وفي وضح النهار ولغير ضرورة مع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة فكيف بها في مكانها المعلوم، وهذا هو المفهوم للتعبير عن الآخرين من المؤمنين بالنفس، حدا بامرأة أبي أيوب الانصاري إلى أن تنزل زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ثم تثبت لنفسها ولزوجها البراءة والامانة حتى تثبت لصفوان وعائشة بطريق الأولى.
وهو ثانيا يحتمل أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة والمقصود إلزام سيىء الظن بنفسه لأنه لم يعتد بنوازع الايمان ووزائعه في حق غيره وألفاه واعتبره في حق نفسه وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى.
٢- الالتفات:
وفي الكلام عدول عن الخطاب الى الغيبة وعن الضمير الى الظاهر وسياق الحديث أن يقول «لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم» وانما اقتضت البلاغة هذا الالتفات والعدول عن الضمير الى
عبد الله بن أبيّ ومسطح:
وإذا قيل إن عبد الله بن أبيّ كان من أصحاب العصبية التي بحسب حسابها وتتقى بوادرها فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي الكريم وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن؟
٣- المبالغة:
تقدم البحث في مثل هذا التعبير «تقولون بأفواهكم» والقول
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
الإعراب:
(وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) وهذا هو الزاجر الخامس، ولولا حرف تحضيض وتوبيخ وإذ ظرف متعلق بقلتم أي كان ينبغي لكم بمجرد السماع الأول أن تقولوا: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وأن تقولوا سبحانك، وقال الزمخشري: «فإن قلت:
كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم بالظرف؟ قلت للظروف شأن وهو
وجملة سمعتموه مضاف إليها الظرف وجملة قلتم لا محل لها لأنها ابتدائية وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ولنا خبرها المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبهذا متعلقان بنتكلم وسبحانك مفعول مطلق وجملة سبحانك في محل نصب حال لأن معناه التعجب والمعنى هلا قلتم ما ينبغي لنا أن تتكلم بهذا حال كونكم متعجبين من هذا الأمر العجيب الغريب. (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) وهذا مبتدأ وبهتان خبر وعظيم صفة. (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا هو الزاجر السادس ويعظكم وقد ضمن معنى فعل يتعدى بعن ثم حذف الجار أي ينهاكم عن العودة وهي فعل مضارع ومفعول به والله فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض ولمثله متعلقان بتعودوا وأبدا ظرف زمان متعلق بتعودوا أيضا، وقيل لا تضمين في معنى يعظكم، وأن وما بعدها مفعول لأجله على حذف مضاف أي كراهة أن تعودوا، وإن شرطية وكنتم كان واسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مؤمنين فلا تعودوا لمثله.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة ويبين الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به والله مبتدأ وعليم حكيم خبر ان لله. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) جملة مستأنفة مسوقة لا يراد الزاجر السابع وإن واسمها وجملة يحبون صلة وأن وما في حيزها مفعول يحبون والفاحشة فاعل وفي الذين آمنوا متعلقان بتشيع. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن وأليم صفة وفي الدنيا والآخرة صفة ثانية، ففي الدنيا ثبت بالحد للقذف، وسيأتي في باب الفوائد تفصيل ذلك. والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وهذا هو الزاجر الثامن ولولا امتناعية وفضل الله عليكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ورحمته عطف على فضل وإن الله رءوف رحيم عطف على فضل الله وجواب لولا محذوف أي لعاجلكم بالعقوبة.
الفوائد:
ثبت أن النبي ﷺ حد القاذفين الأربعة وهم عبد الله بن أبيّ وحسان بن ثابت ومسطح وحمنة بنت جحش، وقعد صفوان لحسان بن ثابت وضربه بالسيف فكف بصره وفي ذلك يقول:
توّق ذباب السيف عني فإنني | غلام إذا هو جيت لست بشاعر |
ولكنني أحمي حماي وأتقى | من الباهت الرامي البريء الظواهر |
زائل مهذّبة قد طيب الله جنيها... وطهرها من كل شين
وباطل فإن كان ما بلغت عني قلته... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي... بآل رسول الله زين الم
حافل له رتب عال على الناس فضلها... تقاصر عنها سورة المتطاول
البلاغة:
١- التقديم والتأخير:
في قوله تعالى «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ إلخ» قدم الظرف لفائدة هامة وهي بيان انه كان من الواجب أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم، وجب التقديم. ولعبد القاهر في دلائل الاعجاز بحث عن التقديم والتأخير يقول فيه: باب التقديم والتأخير من الأبواب التي تظهر بها مزية الكلام ويعلو بها أسلوب على أسلوب ويبدو بها إعجاز القرآن.
٢- سر التعجب:
في كلمة التعجب «سبحانك» سر عجيب وهو أن الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
اللغة:
(خُطُواتِ) : جمع خطوة بفتح الخاء وضمها وسكون الطاء، وكل ما كان على وزن فعل بكسر الفاء أو فعل بفتح الفاء مع سكون
(زَكى) : طهر من دنس.
(يَأْتَلِ) : في المختار «وآلى يؤلي إيلاء حلف وتألى وائتلى مثله قلت: ومنه قوله تعالى «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ» والألية اليمين وجمعها ألايا» وقيل هو من قولهم ما ألوت جهدا إذا لم تدخر شيئا.
(الْغافِلاتِ) : السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال:
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
حليلة خير الناس دينا ومنصبا | نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل |
ولقد لهوت بطفلة ميالة | بلهاء تطلعني على أسرارها |
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وهذا هو الزاجر التاسع والأخير، ولا ناهية وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا وخطوات الشيطان مفعول به. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتبع فعل الشرط وخطوات الشيطان مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وجملة يأمر بالفحشاء والمنكر خبرها
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) لولا امتناعية وقد تقدم اعرابها وما نافية وزكى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وأبدا ظرف متعلق بزكى. (وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة يزكي خبرها ومن يشاء مفعول يزكي والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان أي أنه سبحانه سميع لمقالهم عليم بنياتهم. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تقدم القول مسهبا في سبب نزول هذه الآية وأنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة بضم الهمزة وفتحها.
ولا ناهية ويأتل فعل مضارع مجزوم بلا وأولو فاعل ملحق بجمع المذكر السالم والفضل مضاف اليه ومنكم حال والسعة عطف على الفضل، وأن يؤتوا: أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض مع حذف لا النافية والتقدير على أن لا يؤتوا وأولي القربى مفعول وما بعدها عطف عليه.
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويعفوا مضارع مجزوم بلام الأمر وليصفحوا عطف والهمزة للاستفهام ولا نافية وتحبون فعل مضارع مرفوع وأن وما في حيزها مفعول تحبون والله فاعل ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كلام مستأنف مسوق لتقريع الخائضين في الإفك ووعيدهم الشديد وعتابهم البليغ. وإن واسمها وجملة يرمون المحصنات صلة والمحصنات مفعول به والغافلات المؤمنات عطف على المحصنات وجملة لعنوا خبر إن وفي الدنيا
(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ويعلمون عطف على يوفيهم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلمون وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر أن والمبين صفة.
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سنة الله في خلقه في أن يسوق كل صنف إلى صنفه وأن يقع كل طير على شكله. والخبيثات مبتدأ وللخبيثين خبره وما بعده عطف عليه وسيرد معنى ذلك في باب البلاغة.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أولئك مبتدأ والاشارة الى الطيبين وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة، ومبرءون خبر أولئك ومما متعلقان بمبرءون لأنه اسم مفعول وجملة يقولون صلة ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثان لأولئك ورزق كريم عطف عليه.
١- المجاز العقلي في شهادة الأيدي والأرجل وقد تقدم بحثه مستوفى.
٢- أراد بالمحصنات العموم وان كان الحديث مسوقا عن عائشة والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات فما الظن بوعيد من وقع في قذف سيدتهن! على أن تعميم الوعد أبلغ وأقطع من تخصيصه، ولهذا عممت زليخا حين قالت «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» فعممت وأرادت يوسف تهويلا عليه وارجافا.
٣- يحتمل أن يراد بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال فيكون الكلام جاريا على حقيقته ويجوز أن يراد الكلمات التي صيغ منها الإفك فيكون الكلام مجازا بالاستعارة التصريحية.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات خلواتهن. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوتا مفعول به على السعة وقد تقدم بحث ذلك وغير بيوتكم صفة لبيوتا وحتى حرف غاية وجر وتستأنسوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومعنى الاستئناس الاستئذان على طريق الكناية، وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة، وتسلموا عطف على تستأنسوا وعلى أهلها متعلقان بتسلموا. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير ولعل واسمها وجملة تذكرون خبر لعل وجملة ذلكم مستأنفة وجملة لعلكم تذكرون حال معللة لفعل محذوف أي أنزل عليكم هذا آملين أن تتذكروا. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا مضارع مجزوم بلم وفيها متعلقان بتجدوا وأحدا مفعول به، فلا تدخلوها الفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتدخلوها مضارع مجزوم بلا الناهية وحتى حرف غاية وجر ويؤذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويؤذن مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر ولكم متعلقان بيؤذن.
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وقيل لكم فعل الشرط وجملة ارجعوا مقول القول، فارجعوا الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه طلبي وهو مبتدأ وأزكى لكم خبر والجملة مستأنفة، والله الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بعليم وعليم خبر الله.
البلاغة:
١- الكناية في قوله تستأنسوا: فإن أصل معناها الاستئناس وهو ضد الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو متردد مستطار القلب مستوحش، أو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له بالدخول استأنس وزايله تردّده واستطارة قلبه، وقد أريد المعنى البعيد منه وهو الاستئذان.
٢- الإرداف وقد تقدم أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل لفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قرب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف، وواضح أن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن، ويجوز أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا وعليه يكون المعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول اليه عن
الفوائد:
في القرطبي سبب نزول هذه الآية كما روى الطبراني وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي، وانه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن فأنزل الله ليس عليكم جناح... الآية.
وعن أبي موسى الأشعري انه أتى باب عمر رضي الله عنهما فقال السلام عليكم أأدخل قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول الاستئذان ثلاثا. واستأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: أألج؟ فقال ﷺ لامرأة يقال لها روضة قومي الى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له:
يقول السلام عليكم أأدخل فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل.
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن والأجمل.
أما البيوت التي استثناها الله فهي غير المسكونة نحو الفنادق والربط المسبلة وحوانيت البياعين والمنازل المبنية للنزول وإيواء المتاع
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
اللغة:
(يَغْضُضْنَ) : الغض: أطباق الجفن بحيث تمتنع الرؤية وفي المصباح: «غض الرجل صوته وطرفه ومن صوته ومن طرفه غضا من باب
فغض الطرف إنك من نمير | فلا كعبا بلغت ولا كلابا |
(بِخُمُرِهِنَّ) الخمر بضم الخاء والميم جمع خمار بكسر الخاء وهو ما تغطي به المرأة رأسها والستر عموما ويجمع على أخمرة وخمر بضم الخاء وسكون الميم وخمر بضمتين.
(جُيُوبِهِنَّ) : جمع جيب والجيب من القميص طوقه والقلب والصدر وعند العامة الجيب هو كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه من الخارج.
(أُولِي الْإِرْبَةِ) : أصحاب الإربة، والإربة الحاجة وفي المصباح:
«الأرب: بفتحتين والإربة بالكسر والمأربة بفتح الراء وضمها الحاجة والجمع المآرب والأرب في الأصل مصدر من باب تعب يقال أرب الرجل الى الشيء إذا احتاج اليه فهو آرب على فاعل والإرب بالكسر يستعمل في الحاجة وفي العضو والجمع آراب مثل حمل وأحمال».
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا كليا. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف وهو أمر آخر مثله وقد حذف لدلالة جوابه عليه وهو يغضوا من أبصارهم ويغضوا فعل مضارع جزم لأنه جواب الأمر المحذوف وهو غضوا أو مقول القول، ومن أبصارهم: قال الزمخشري: «من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه» ويجوز أن تكون للبيان أو لابتداء الغاية وعلى كل حال فهي متعلقة بيغضوا وسيأتي السبب في دخول من على الأبصار دون الفروج في باب البلاغة، ويحفظوا عطف على يغضوا وفروجهم مفعول به. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ذلك مبتدأ وأزكى خبره ولهم متعلقان بأزكى وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة يصنعون لا محل لها. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) تقدم اعراب نظيرتها، أي فلا يحل للرجل أن ينظر الى المرأة ولا للمرأة أن تنظر الى الرجل فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها ومن طريف ما يلفت النظر أن هذه الآية اشتملت على عدد كبير من ضمائر الإناث وقد بلغت عدتها خمسة وعشرين ضميرا ما بين مرفوع ومجرور ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الصدد. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الواو حرف عطف ويبدين عطف على يغضضن فهو مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم والنون فاعل وزينتهن مفعول به وإلا أداة
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) غير صفة للتابعين والمراد بالتابعين غير أولي الإربة موضع خلاف، قال ابن عباس: التابع هو العنين الأحمق، وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنث. أقول: والعنين والمخنث هو المشبه بالنساء والشيخ الهرم وأما المجبوب فهو الذي بقي أنثياه والخصي هو الذي بقي ذكره. ومن الرجال حال وأو حرف عطف والطفل معطوف على ما تقدم وهو بمعنى الأطفال فأل جنسية والطفل يطلق على الواحد والمجموع فلذلك وصف بالجمع وقيل لما قصد الجنس روعي فيه الجمع، والذين صفة وجملة لم يظهروا صلة وعلى عورات النساء متعلقان بيظهروا. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الواو عطف على ما تقدم ولا ناهية ويضربن فعل
البلاغة:
- من الاسرار التي تدق على الافهام دخول من الجارة على غض الابصار دون الفروج في قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» والسر في ذلك أن أمر النظر واسع لا يني يسرح في مراتع الجمال ومواطن الفتنة، قال الزمخشري بهذا الصدد: «ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر الى شعورهن وصدورهن وثديهنّ وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع وأما أمر الفروج فمضيق».
- ومن هذه الأسرار تقديم غض الابصار على حفظ الفروج في الاية نفسها وفي الآية التي تليها، والسر فيه أن النظر بريد الزنا ورائده الذي لا يخطىء. وقد أفاض الشعراء في القديم والحديث فيما تحدثه
حسن أفانين لم تستوف أعيننا | غاياته بأفانين من النظر |
عيني لعينك حين تنظر مقتل | لكن لحظك سهم حتف مرسل |
ومن العجائب أن معنى واحدا | هو منك لحظ وهو مني مقتل |
وفيما يلي طائفة من الأحاديث الواردة بهذا الصدد:
«عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ يعني عن ربه: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من نركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» أي جعلت بدله إيمانا يشعر بلذاته في قلبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدّق ذلك الفرج أو يكذبه». والمعنى أن الله تعالى يعذب العين بالنار يوم القيامة لتطلعها الى محرم بقصد بلا فجاءة، والخطا بفتح الخاء المشي الى المعصية.
أفرأيت الحم؟ قال: الحم الموت» رواه البخاري ومسلم ثم قال:
ومعنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي ﷺ قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
والحم بفتح الحاء وتخفيف الميم وبإثبات الواو أيضا وبالهمز أيضا هو أبو الزوج ومن أدلى به كالأخ والعم وابن العم ونحوهم وهو المراد هنا كذا فسره الليث بن سعد وغيره وأبو المرأة أيضا ومن أدلى به وقيل بل هو قريب الزوج فقط وقيل قريب الزوجة فقط. قال أبو عبيد في معناه يعني فليمت ولا يفعلنّ ذلك فاذا كان هذا رواية في أب الزوج وهو محرم فكيف بالغريب؟ ومعنى الحمو الموت: أي الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول الى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
(الْأَيامى) : جمع أيم وهي من ليس لها زوج بكرا كانت أو ثيبا ومن ليس له زوج وهذا في الأحرار والحرائر بقرينة قوله وإمائكم، وتجمع الأيم أيضا على أيائم وأيّمون وأيمات يقال آم يئيم الرجل من زوجه أو المرأة من زوجها فقدها أو فقدته، وأصل الأيامى أيائم كما قال الزمخشري ومثله يتامى في يتائم وأجاز سيبويه أن يكون غير مقلوب وانه جمع على فعالى، وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي | وإن كنت أفتى منكم أتأيم |
يا بنت عمي كتاب الله أخرني | عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا |
والبغايا يركضن أكسية الاضريج والشّرعبيّ ذا الأذيال وفي المصباح: «وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد من باب رمى فجرت وهي بغي والجمع البغايا وهو وصف مختص بالمرأة فلا يقال للرجل بغي قاله الأزهري والبغي القينة وإن كانت عفيفة لثبوت الفجور لها في الأصل قاله الجوهري ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب والأمة تباغي أي تزاني.
الإعراب:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حكم النكاح، والأمر
البلاغة:
الاحتراس: في قوله تعالى «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» فقد أقحم هذا الاعتراض ليبشع ذلك عند المخاطب ويحذره من الوقوع فيه ولكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي، ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه لأنها آثرت التحصّن عن الفاحشة وهو يأبي إلا إكراهها، ولأبي السعود قول جميل في هذا الصدد: «وقوله تعالى إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهنّ الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصحّحة للاكراه في الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهوههنّ على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية الى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح».
الفوائد:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» رواه البخاري ومسلم.
وانما خص الشباب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم الى النكاح بخلاف الشيوخ، والباءة الجماع واستعمل لعقد النكاح، قال الجوهري: الباءة مثل الباعة ومنه سمي النكاح باءة، والوجاء أصله رض الخصيتين. قال النووي في شرح مسلم: «معناه من استطاع منكم الجماع لقدرته على مئونته وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليقطع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء» وهناك قول آخر وهو أن المراد بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، قالوا: والعاجز لا يحتاج الى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة بالمؤن
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٨]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)اللغة:
(كَمِشْكاةٍ) : المشكاة: الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت، وقيل هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح، وقيل ما يعلق فيه القنديل من الحديدة، وفي القاموس وشرحه: المشكاة كل كوة غير نافذة وكل ما يوضع فيه أو
(زُجاجَةٍ) : الزجاج بفتح الزاي وضمها وكسرها: جسم شفاف يصنع من الرمل والقلى والإناء والقطعة منه زجاجة بتثليت الزاي أيضا وأراد قنديلا من زجاج شامي أزهر.
(دُرِّيٌّ) : مضيء، بضم الدال من غير همز وبالتشديد منسوب الى الدر شبّه به لصفائه وإضاءته، ويجوز أن يكون أصله الهمز ولكن خففت الهمزة وهو فعيل من الدر وهو دفع الظلمة بضوئه ويقرأ بالكسر على معنى الوجه الثاني ويكون على فعيل كسكيت وصديق وفي المختار: «الدرء الدفع وبابه قطع ودرأ طلع مفاجأة وبابه خضع ومنه كوكب دريء كسكيت لشدة توقده وتلألؤه، ودريّ بالضم منسوب الى الدر، وقرىء دريء بالضم والهمزة ودريء بالفتح والهمز، وتدارأتم وتدافعتم واختلفتم» وفي الأساس: «وكوكب درّي وطلعت الدراري نسبت الى الدار وهو كبار اللؤلؤ» وفيه أيضا: «ومن المجاز: درأ الكوكب: طلع كأنه يدرأ الظلام ودرأت النار أضاءت».
(الْآصالِ) : جمع أصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب وبجمع أيضا على أصائل وأصل وأصلان.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة الآيات المنزلة. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) مبتدأ وخبر والجملة تفسير لما قبلها فلا محل لها.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) الزجاجة مبتدأ وكأن واسمها وكوكب خبرها ودري صفة لكوكب والجملة خبر الزجاجة وجملة الزجاجة إلخ تفسير لما قبلها فلا محل لها وجملة يوقد صفة ثانية لكوكب ونائب الفاعل مستتر ومن شجرة جار ومجرور متعلقان بيوقد وهي لابتداء الغاية على حذف مضاف أي من زيت شجرة ومباركة صفة لشجرة وزيتونة بدل من شجرة ولا شرقية صفة ثانية لشجرة ودخلت لا لتفيد النفي فلا تحول بين الصفة والموصوف، ولا غربية عطف وسيأتي المزيد من بيان هذا المعنى في باب البلاغة. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) هذه الجملة صفة ثالثة لشجرة ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة وزيتها اسمها وجملة يضيىء خبرها، ولو الواو حالية ولو شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتمسسه فعل مضارع مجزوم بلم وجواب لو محذوف أي لأضاء بدلالة ما تقدم عليه والجملة حال فلو هنا تفيد استقصاء الأحوال أي حتى في هذه الحال ونار فاعل تمسسه ونور خبر
اللام للتعليل ويجزيهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والهاء مفعول به أول والله فاعل وأحسن مفعول به ثان وما مضاف اليه وجملة عملوا صلة ويزيدهم عطف على ليجزيهم ومن فضله متعلقان بيزيدهم. (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يرزق خبر ومن مفعول به وجملة يشاء صلة وبغير حساب حلل.
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بأفانين شتى من البلاغة والبيان وسنسهب فيها بعض الشيء جريا على ما درجنا عليه في هذا الكتاب وسنوزع هذه المباحث نجوما متتالية.
١- التشبيه البليغ في قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» والمراد به المضمر الأداة وقد سبق ذكره مع أقسام التشبيه وانما سمي بليغا لحذف واسطة الأداة ولو جازته بسبب هذا الحذف، وقد تكلم علماء البيان مطولا في هذا التشبيه وحاولوا تجسيد الكيفية التي ساغ فيها هذا التشبيه لأن النور كما هو معلوم كيفية أو عرض يدرك بالبصر فلا يصح حمله على الذات المقدسة، وأحسن ما يقال فيه أن التشبيه جار على التقريب للذهن، أي: به تعالى وبقدرته أنارت أضواء السماء والأرض واستقامت أمورها لأن ظهور الموجودات حصل به كما حصل بالضوء جميع المبصرات، أو انه على التجوز أي منور السماء والأرض، أو بتقدير مضاف كقولك زيد عدل أي ذو عدول.
«قوله مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نورا وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: «وأنزلنا إليكم نورا مبينا» وسمى نبيه نورا فقال: «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين وكذلك الرسول، ووجه الاضافة الى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من المثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر».
وأبدع الكرخي في تحديده هذا التشبيه التمثيلي فقال:
«... ومثل الله نوره أي معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح دون نور الشمس مع أن نورها أتم لأن المقصود تمثيل النور في القلب والقلب في الصدر والصدر في البدن بالمصباح والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر أو لأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها
٣- الطباق: في قوله تعالى «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» وقد تكلم علماء البيان كثيرا عن هذا الطباق والمقصود منه، قال الزمخشري:
«وقيل لا في مضحى ولا في مقنأة (وهو المكان الذي لا تطلع عليه الشمس) ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى وقيل ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا فهي شرقية وغربية».
ولابن الأثير كلام لطيف في هذا الصدد قال: «أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي ﷺ ويدل عليه انه قال: «توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» وإذا نظرت الى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا وذاك أن قلب النبي ﷺ وما ألقي فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها، وأما الشجرة المباركة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فانها عبارة عن ذات النبي ﷺ لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل الى الشرق ولا الى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار».
٢- التشبيه المرسل في قوله «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح | الآية» فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة وهي الكاف، |
أخمسة أعوام مضت لمغيبه | وشهران بل يومان ثكل على ثكل |
أرق على أرق ومثلي يأرق | وجوى يزيد وعبرة تترقرق |
قاها سقاها فرواها بشرب سجاله... دماء رجال يحلبون حراها
وجميل قول أبي تمام:
هوى كان خلسا إن من أبرد الهوى... هوى جلت في افنائه وهو خامل
أبا جعفر إنّ الجهالة أمها... ولود وأم العلم حذاء حائل
فكن هضبة نأوى إليها وحرة... يعدد عنها الاعوجي المناقل
فإن الفتى في كل ضرب مناسب... مناسب روحانية من يشاكل
وينسب لأبي نواس قوله:
خزيمة خير بني حازم... وحازم خير بني دارم
ودارم خير تميم وما... مثل تميم في بني آدم
إلا البهاليل بني هاشم... وهم سيوف لبني هاشم
بدائع الحسن فيه مفترقه... وأعين الناس فيه متفقة
سهام ألحاظه مفوقه... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق عارضه... هذا مليح وحق من خلقه
فالرشق في قافية البيت الثاني يناسب السهام في أوله.
وجميل قول السري الرفاء:
ابريقنا عاكف على قدح... كأنه الأم ترفع الولدا
أو عابد من بني المجوس إذا... توهم الكأس شعلة سجدا
فالسجود مناسب للعابد في أول البيت.
وبلغ ابن الرومي الغاية في وصف مغنية:
جاءت بوجه كأنه قمر... على قوام كأنه غصن
غنت فلم تبق فيّ جارحة... إلا تمنيت أنها أذن
فالأذن تناسب ذكر الغناء في أول البيت.
استدراك على بعض النقاد:
هذا وقد خفيت على بعض علماء البيان أسرار التشابه في الأطراف
جرح على جرح حنانك جلق | حملت ما يوهي الجبال ويرهق |
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة | تتبع أقصى دائها فشفاها |
بسط الرجاء لنا برغم نوائب | كثرت بهن مصارع الآمال |
اني لأعلم واللبيب خبير | أن الحياة وان حرصت غرور |
الي لأعلم واللبيب عليم ليكون ذلك تقابلا صحيحا.
هذا ما ذكره الناقد وليس بشيء لأن المعتمد عليه في هذا الصدد أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز.
٦- المجاز العقلي: في قوله «يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار» فقد أسند الى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع.
وفي قوله «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» فن الغلو وهو الافراط في وصف الشيء المستحيل عقلا وعادة وهو ينقسم الى قسمين مقبول وغير مقبول فالمقبول لا بد أن يقربه الناظم الى القبول بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي ﷺ فلا غلو حينئذ ويجب على الناظم أن يسبكه في قالب التخيلات التي تدعو العقل الى قبولها في أول وهلة كالآية الكريمة فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا.
وأخفت أهل الشرك حتى أنه | لتخافك النطف التي لم تخلق |
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
اللغة:
(كَسَرابٍ) : السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال: هو أخدع من السراب، وسمي سرابا لأنه يتسرب أي يجري كالماء، يقال سرب الفحل أي مضى وسار ويسمى الآل أيضا ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به الظمآن.
(بِقِيعَةٍ) : القيعة بمعنى القاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض وفي الصحاح: «والقاع المستوي من الأرض والجمع أقواع وقيعان فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقيعة مثل القاع وهو أيضا من الواوي وبعضهم يقول هو جمع» وقال الهروي:
«والقيعة جمع القاع مثل جيرة وجار» وفي الأساس: «هو كسراب
سائل مجاور جرم هل جنيت لهم | حربا تفرّق بين الجيرة الخلط |
وهل تركت نساء الحي ضاحية | في قاعة الدار يستوقدن بالغبط |
(لُجِّيٍّ) : اللجي: العميق الكثير الماء منسوب الى اللج وهو معظم البحر هكذا قال الزمخشري، وقال غيره منسوب الى اللجة بالتاء وهي أيضا معظمه.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لبيان حال عمل من لا يعتقد الايمان ولا يتبع الحق بعد أن بين حال المؤمنين بضرب مثل لهم وهو «مثل نوره كمشكاة». والذين مبتدأ أول وجملة كفروا صلة الموصول وأعمالهم مبتدأ ثان وكسراب خبر الثاني والمبتدأ الثاني وخبره خبر الاول وجملة يحسبه الظمآن صفة لسراب وماء مفعول به
البلاغة:
وقد انطوت هذه الآية على أفانين من البلاغة ندرجها فيما يلي:
١- التشبيه المرسل: فقد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه الحاسة، ولو قيل يحسبه الرائي ماء لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصا عليه وأكثر تعلق قلب به وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أحسن التشبيه وأبلغه فكيف وقد تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الألفاظ وصحة الدلالة وصدق التمثيل.
٣- العطف على محذوف: في قوله تعالى «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» عطف على مقدر وليست الجملة معطوفة على «لم يجده شيئا» بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا، كأنه قيل حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا حكم الله وقضاءه لهم بالمرصاد.
٤- المبالغة في التشبيه: وهذا في قوله: «إذا أخرج يده لم يكد يراها» وقد اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ويكاد الإجماع ينعقد على أن المعنى أنه لا يرى يده فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه:
أحدها أن التقدير لم يرها ولم يكد وهذا غير واضح لأنه نفي للرؤية ثم اتبات لها، ووجه ثان وهو أن كاد زائدة ولا مساغ له في القرآن فالوجه إذن انه لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:
إذا غيّر النأي المحبين لم يكد | رسيس الهوى من حب مية يبرح |
فلا القرب يدنو من هواها ملالة | ولا حبها إن تنزح الدار ينزح |
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
(الطَّيْرُ) : قال أبو عبيدة وقطرب: الطير يقع على الواحد والجمع وقال ابن الانباري: الطير: جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير وفي المصباح: «الطائر على صيغة اسم الفاعل من طار يطير طيرانا وهو له في الجو كمشي الحيوان في الأرض ويعدى بالهمزة والتضعيف فيقال:
طيرته وأطرته وجمع الطائر طير مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار».
(صَافَّاتٍ) : باسطات أجنحتهن في الهواء.
(يُزْجِي) : يسوق وفي المختار: «زجى الشيء تزجية دفعه برفق وتزجّى بكذا اكتفى به وأزجى الإبل ساقها والمزجى الشيء القليل وبضاعة مزجاة قليلة والريح تزجي السحاب والبقرة تزجي ولدها تسوقه» وفي القاموس وشرحه: «زجا يزجو زجوا وزجّى تزجية وأزجى إزجاء وازدجاه ساقه ودفعه برفق يقال: كيف تزجي أيامك أي كيف تدفعها وزجّى فلان حاجتي أي سهّل تحصيلها وأزجى الأمر أخره وأزجى الدرهم روجه» ومنه قول النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني | أزجي حشاشة نفس ما بها رمق |
(سَنا) : في المختار: «السنا مقصور ضوء البرق والسنا أيضا هو نبت يتداوى به والسناء من الرفعة ممدود والشيء الرفيع وأسناه رفعه وسناه تسنية فتحه وسهله».
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير هذه الحقيقة، فالهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر لأن الرؤية هنا قلبية لأن تسبيح المسبحين لا تتعلق به رؤية البصر أي قد علمت علما يشبه المشاهدة في اليقين، وجملة يسبح خبر وله متعلقان بيسبح ومن فاعل يسبح وفي السموات والأرض صلة من. (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) الواو للعطف والطير عطف على من وصافات حال ومفعول صافات محذوف أي باسطات أجنحتها، وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم وجملة قد علم خبر كل وفاعل علم يعود على كل أو على الله، ويقول أبو البقاء إن عودته على «كل» أرجح لأن القراءة برفع كل على الابتداء، فيرجع ضمير الفاعل اليه ولو كان فيه ضمير اسم الله لكان الأولى نصب كل لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك زيدا ضرب
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والى الله خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) الهمزة للاستفهام التقريري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وقد تقدم اعراب نظيره، ثم حرف عطف ويؤلف عطف على يزجي وبينه ظرف متعلق بيؤلف ودخلت بين على مفرد وهي إنما تدخل على المثنى فما فوقه لأنه إما أن يراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه وإما أن يراد أنه على حذف مضاف أي بين قطعه فإن كل قطعة سحابة، ثم حرف عطف ويجعله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وركاما مفعول به ثان. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) الفاء عاطفة وترى الودق فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به وجملة يخرج حال لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج أي من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبل وجبال، وينزل من السماء من جبال فيها من برد تقدم اعرابها ونعيده هنا للتقوية فمن الأولى ابتدائية متعلقة بينزل وكذلك الثانية فهي بدل بإعادة العامل وفيها صفة لجبال ومن برد للتبعيض وهي ومجرورها في موضع مفعول الانزال وقيل هي للبيان أي فتكون حالا وتكون من جبال هي في موضع مفعول الانزال، وأجمل بعضهم اعراب الآية فقال: والحاصل أن من في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومن في من جبال فيها ثلاثة أوجه:
الثاني: انها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الانزال كأنه قال وينزل بعض جبال.
الثالث: انها زائدة أي ينزل من السماء جبالا.
وأما من في من برد ففيها أربعة أوجه:
الثلاثة المتقدمة والرابع انها لبيان الجنس فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد.
وقال الزجاج: «ومعنى الآية وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد أي خاتم حديد في يدي لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا» وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا.
وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئا من جبال فحذف الموصوف واكتفى بالصفة.
(فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) الفاء عاطفة ويصيب فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على الله وبه متعلقان بيصيب ومن مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول ويصرفه عمن يشاء عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (يُقَلِّبُ
الجملة صفة لبرد ويكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة وسنا برقه اسمها وجملة يذهب بالأبصار خبرها وجملة يقلب تفسير لما قبلها فلا محل لها والله فاعل يقلب والليل مفعول به والنهار عطف على الليل وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر ولأولي الابصار صفة لعبرة والأبصار بمعنى البصائر.
البلاغة:
١- فن العنوان:
في قوله «ألم تر أن الله يزجي سحابا» الآية فن انفرد به القليل من علماء البيان وهو فن العنوان، وعرفوه بأنه أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي لقصد تكميله وتوكيده بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانات لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومنه نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها والآية التي نحن بصددها فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية والجغرافيا الرياضية وعلم الفلك، ومن أمثلته في الشعر قصيدة أبي فراس الحمداني:
خليلي ما أعددتما لمتيم | أسير لدى الأعداء جافي المراقد |
فريد عن الأحباب لكن دموعه | مثان على الخدين غير فرائد |
جمعت سيوف الهند من كل وجهة | وأعددت للأعداء كل مجالد |
إذا كان غير الله للمرء عدة | أتته الرزايا من وجوه الفوائد |
فقد جرت الحنفاء حتف جذيمة | وكان يراها عدة للشدائد |
وجرت منايا مالك بن نويرة | حليلته الحسناء يا أم خالد |
وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة | بنوه وأهلوه بشدو القصائد |
وقال الفرزدق لجرير:
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب | إلى آل بسطام بن قيس فخاطب |
وإني لأخشى إن خطيت إليهم | عليك الذي لاقى يسار الكواعب |
وزعيم هذا الباب أبو تمام فقد كان من أهم مميزات شعره استخدامه الحوادث القديمة والحديثة في أماديحه خاصة كقوله يمدح أبا دلف:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها | وزادت على ما وطّدت من مناقب |
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم | عروش الذين استرهنوا قوس حاجب |
٢- المبالغة أو الافراط في الصنعة:
وفي قوله «يكاد سنابرقه يذهب بالأبصار» فن سماه ابن المعتز الافراط في الصنعة، وسماه قدامة المبالغة، وسماه من بعدهما التبليغ، والناس على تسمية قدامة، وعرفه بقوله: «هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده» وقد قدمنا في مكان آخر من هذا الكتاب ضروب المبالغات في الكتاب العزيز فلا حاجة الى الإعادة، ونقف عند الضرب الخامس الذي منه هذه الآية وهو ما جرى مجرى الحقيقة وهو قسمان: قسم كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كهذه الآية فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان، وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وقد تقدم القول فيه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أصناف الخلق، والله مبتدأ وجملة خلق خبر وكل دابة مفعول به ومن ماء جار ومجرور متعلقان بخلق أي نطفة بحسب الأغلب. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يمشي صلة الموصول وعلى بطنه متعلقان بيمشي ومنهم من يمشي على رجلين عطف على ما سبقه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) عطف، وسيأتي سر ذكر من لغير العاقل في باب البلاغة.
(يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يخلق الله ما يشاء فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة يشاء صلة وإن الله ان واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر آياته سبحانه على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة، واللام جواب
«أذعن له خضع وذل وأقر وأسرع في الطاعة».
البلاغة:
١- صحة التفسير:
في قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ» الآية: فيها فن بديع من فنون البلاغة سماه علماؤها «صحة التفسير» وسماه ابن الأثير في المثل السائر «التناسب بين المعاني» وحدّه أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، إما أن يكون مجملا يحتاج الى تفصيل أو موجها يفتقر الى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه الى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه ووقوع التفسير على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره. والآية التي نحن بصددها مما وقع بعد الجار والمجرور فقد ذكر سبحانه الجنس الأعلى مقدما له حيث قال: «كل دابة» فاستغرق أجناس كل ما دبّ ودرج ثم فسر هذا الجنس الأعلى بالأجناس المتوسطة والأنواع حيث قال «فمنهم» و «ومنهم» مراعيا الترتيب إذ قدم ما يمشي بغير آلة لكونه الآية سيقت
وعرفه صاحب العمدة بأنه أن يستوفي الشاعر شرح ما بدأ به مجملا، وقلما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد ومثل له ببيتين للفرزدق وهما:
لقد جئت قوما لو لجأت إليهم | طريد دم أو حاملا ثقل مغرم |
لألفيت منهم معطيا ومطاعنا | وراءك شزرا بالوشيح المقوم |
متى ما يجىء يوما الى المال وارثي | يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر |
يجد فرسا مثل العنان وصارما | حساما إذا ما هزّ لم يرض لهبر |
وأسمر خطيا كأن كعوبه | نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر |
وإن امرأ يرجو تراثي وإن ما | يصير له منه غدا لقليل |
ومالي مال غير درع ومغفر | وأبيض من ماء الحديد صقيل |
وأسمر خطيّ القناة مثقّف | وأجرد عريان السراة طويل |
وقال ذو الرمة في التفسير:
وليل كجلباب العروس ادّرعته | بأربعة والشخص في العين واحد |
أحمّ علا فيّ وأبيض صارم | وأعيس مهري وأروع ماجد |
ومضى صاحب العمدة يورد نماذج من التفسير إلى أن قال:
«ومن التفسير ما يفسر فيه الأكثر بالأقل وذلك ما أتت فيه الجملة بعد الشرح نحو قول أبي الطيب:
فقوله: «نسقوا لنا نسق الحساب مقدما» البيت تفسير مليح قليل النظير في أشعار الناس» هذا وقال الواحدي في شرح البيت الأخير: «جمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضل ما كان فيهم مثل الحساب يذكر تفاصيله ثم تجمع تلك التفاصيل فيكتب في آخر الحساب فذلك كذا وكذا فيجمع في الجملة ما ذكر في التفاصيل، كذلك أنت جمع فيك ما تفرق فيهم من الفضائل والعلم والحكمة».
وقال أبو الطيب أيضا في التفسير المستحسن:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
ففسر وقابل كل نوع بما يليق به من غير تقديم ولا تأخير، ومن التفسير الحلو قول كشاجم واسمه محمود بن الحسين:
في فمها مسك ومشمولة... صرف ومنظوم من الدّر
فالمسك للنكهة والخمر للر... يقة واللؤلؤ للثغر
وجميل قول ابن هانىء الاندلسي:
المدنفات من البرية كلها... جسمي وطرف بابليّ أحور
والمشرقات النيرات ثلاثة... الشمس والقمر المنير وجعفر
ونكر الماء في قوله «من ماء» وعرفه في قوله «وجعلنا من الماء كل شيء حي» لأن المقصد في الآية هنا اظهار أن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة ذكر تفاصيلها في آية النور والرعد، والمقصد في آية «اقترب» أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة.
٣- الاستعارة:
الاستعارة في قوله «فمنهم من يمشي على بطنه» فقد سمى الزحف على البطن مشيا على سبيل الاستعارة المكنية كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر.
٤- التغليب:
وفي قوله «من يمشي على بطنه ومن يمشي على أربع» تغلبب للعاقل على غيره وقد مرت له نظائر كثيرة لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في الفصل بمن وكل دابة كان التعبير بمن أولى لتوافق اللفظ.
وقيل أوقع «من» على غير العاقل لما اختلط بالعاقل ويحتمل أن تكون من نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير فمنهم نوع يمشي على بطنه ونوع يمشي على رجلين ونوع يمشي على أربع على حد: ومن الناس من يعبد الله على حرف، قال ابن هشام: ويجوز في من أن تكون نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير ومن الناس ناس يعبدون الله.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣)الإعراب:
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) كلام مستأنف مسوق لتقسيم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله. والهمزة للاستفهام التقريري ويبالغ به تارة في الذم وتارة في المدح وهو هنا من النوع الأول، وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وأم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة وارتابوا فعل وفاعل. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أم يخافون عطف على ما تقدم وأن يحيف في تأويل مصدر مفعول به يخافون والحيف الميل والجور في القضاء وبل حرف إضراب وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والظالمون خبر هم والجملة خبر المبتدأ الأول أو خبر أولئك. (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا
إنما كافة ومكفوفة وكان فعل ماض ناقص وقول خبر كان المقدم والمؤمنين مضاف إليه وانما ترجح نصبه لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل أوغلهما في التعريف ولكن سيبويه لم يفرق بينهما وسيأتي مزيد بحث في باب الفوائد، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل والى الله متعلقان بدعوا ورسوله عطف على الله واللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وبينهم ظرف متعلق بيحكم وجعل الزمخشري فاعل يحكم عائدا الى المصدر لأن معناه ليفعل الحكم بينهم. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أن وما حيزها اسم كان وجملة سمعنا مقول القول وأطعنا عطف على سمعنا والواو حرف عطف وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمفلحون خبر هم أو خبر أولئك وقد تقدم قريبا.
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ورسوله عطف على الله ويتقه عطف على يطع بسكون الهاء وكسرها ومع إشباع وبدونه، والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك هم الفائزون تقدم فيه القول كثيرا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ)
كلام مستأنف لحكاية قول المنافقين لرسول الله أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. وأقسموا فعل ماض والواو فاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم مفعول مطلق، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة، أو حال تقديره مجتهدين، وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا، ولئن اللام موطئة للقسم وان شرطية أمرتهم فعل وفاعل ومفعول به. (لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
اللام واقعة في جواب القسم ويخرجن فعل مضارع مرفوع وحذفت النون لتوالي الأمثال والواو فاعل والنون للتوكيد ولم يبن الفعل لأن النون لم تباشره، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولا ناهية وتقسموا فعل مضارع مجزوم بلا وطاعة خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمركم أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها، ويجوز أن يعرب مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معروفة أولى بكم وأمثل من هذه الأيمان الكاذبة، ومعروفة صفة وجملة إن الله تعليلية لما تقدم وان واسمها وخبير خبر وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة.
البلاغة:
١- الاستعارة:
جهد أيمانكم: لفظ مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وقد استعاره للايمان وأصله أقسم بالله جهد اليمين جهدا فحذف الفعل وقدم المصدر موضوعا موضعه مضافا الى المفعول كضرب الرقاب وإذا جعلته حالا جعلته مؤولا باسم الفاعل أي جاهدين.
٢- صحة التقسيم:
وفي قوله تعالى: «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» الآية فن يقال له صحة التقسيم وقد تقدمت الاشارة اليه فإنها لم تبق قسما يقع في القلوب من الصوارف عن القبول إلا جاءت به، ألا ترى أنه تعالى بعد قوله «أفي قلوبهم مرض» ذكر الريبة لأنه لا بد أن يكون الصارف عن الإجابة
«خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها» وابن بسام في قوله في الذخيرة: «الهجاء ينقسم الى قسمين: قسم يسمونه هجاء الاشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا أو هجوا مستبشعا والثاني السباب الذي أحدثه جرير وطبقته» فقد اجتمع في الآية حسن التقسيم والإيغال والافتنان والنزاهة.
ومما ورد من الهجاء الموجع وليس فيه لفظ فاحش قول أبي تمام:
من مبلغ الأعراب أني بعدها | جالست رسطاليس والاسكندرا |
ومللت نحر عشارها فأضافني | من ينحر البدر النضار لمن قرى |
وسمعت بطيلموس دارس كتبه | متملكا مبتديا متحضرا |
ولقيت كل الفاضلين كأنما | رد الإله نفوسهم والأعصرا |
بني لهيعة ما بالي وبالكم | وفي البلاد مناديح ومضطرب |
لجاجة لي فيكم ليس يشبهها | إلا لجاجتكم في أنكم عرب |
توسط الخبر بين الافعال الناقصة وبين أسمائهن جائز، قال ابن
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
الإعراب:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب
الفوائد:
ذكر التاريخ أن النبي ﷺ وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا وذلك قوله صلى الله عليه
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
الإعراب:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام معطوف على وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول قال الزمخشري:
«وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه» ولك أن تعطفه على
(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وحين عطف على محل من قبل صلاة الفجر وجملة تضعون مجرورة باضافة الظرف إليها وثيابكم مفعول
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة ليس عليكم إلخ صفة لثلاث عورات والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وبعدهن ظرف متعلق بمحذوف صفة لجناح وطوافون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم وعليكم متعلقان بطوافون لأنه صيغة مبالغة لاسم الفاعل وبعضكم مبتدأ وعلى بعض خبره أي طائف على بعض بدلالة طوافون ويجوز أن يعرب بدلا من قوله طوافون، ولأبي حيان كلام مطول فيه لا جدوى منه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا، ويبين الله لكم الآيات فعل مضارع وفاعل ومفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان.
الفوائد:
روي أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله ﷺ وقت الظهيرة الى عمر ليدعوه فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي ﷺ فقام اليه النبي ﷺ بمشقص أو مشاقص فكأني أنظر اليه يختل الرجل ليطعنه، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ولفظه: «ان أعرابيا أتى باب النبي ﷺ فألقم عينه خصاصة الباب فبصر به النبي ﷺ فتوخاه بحديدة أو عودة ليفقأ عينه فلما أن أبصره انقمع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما انك لو ثبت عليك لفقأت عينك».
والمشقص: بكسر الميم بعد شين ساكنة وقاف مفتوحة هو سهم له نصل عريض وقيل طويل، وقيل هو النصل العريض نفسه وقيل الطويل.
ويختله: بكسر التاء أي يخدعه ويراوغه.
وخصاصة الباب: بفتح الخاء المعجمة وصادين مهملتين هي الثقب فيه والشقوق ومعناه أنه جعل الشق الذي في الباب محاذيا عينه.
توخاه: أي قصده بتشديد الخاء المعجمة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)اللغة:
(وَالْقَواعِدُ) : جمع قاعد بغير تاء وفي المصباح: «وقعدت المرأة عن الحيض أسنت وانقطع حيضها فهي قاعد بغير تاء والجمع قواعد
(مُتَبَرِّجاتٍ) : مظهرات للزينة، وحقيقة التبرج تكلف اظهار ما يجب اخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج محركة سعه العين يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا انه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بابداء زينتها وإظهار محاسنها للرجال وفي المختار: «والتبرج اظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال» فالبرج يعطي معنى الاتساع يقال برج يبرج برجا من باب تعب اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما، وبرجت عينه اتسعت بحيث يرى بياضها محدقا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة، والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والبارجة سفينة كبيرة للقتال وتجمع على بوارج، ومن أقوالهم: ما فلان إلا بارجة قد جمع فيه كل الشر أي انه شرير.
(صَدِيقِكُمْ) الصديق يكون واحدا أو جمعا وكذلك الخليط والقطين والعدو وهو الصادق في المودة والمخالّة، قال الشاعر:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا | بأعين أعداء وهن صديق |
الإعراب:
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حكم الأطفال الذين خرجوا عن حد الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها بالبلوغ في وجوب الاستئذان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغ الأطفال مجرورة باضافة إذا إليها ومنكم حال والحلم مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا واللام لام الأمر ويستأذنوا مضارع مجزوم باللام وكما نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي استئذانا كاستئذان الذين من قبلهم والذين فاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين وآياته مفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان. (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الواو استئنافية والقواعد مبتدأ ومن النساء حال واللاتي صفة للقواعد لا للنساء، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ وجملة لا يرجون صلة ويرجون فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل ونكاحا مفعول به.
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) الفاء واقعة في جواب الموصول لأن الألف واللام في القواعد بمعنى اللاتي
وفي حاشية الشهاب على البيضاوي «قوله غير مظهرات زينة أشار به الى أن الباء للتعدية ولذا فسر بمتعد مع أن تفسير اللازم بالمتعدي كثير ويؤيده أن أهل اللغة لم يذكروه متعديا بنفسه ولم نر من قال تبرجت المرأة حليها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: انه تجريد كما توهم فمن قال انه اشارة الى زيادة الباء في المفعول به فقد أخطأ».
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها مبتدأ وخير خبر ولهن متعلقان بخير أي والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز أعقبه بالمستحب بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله «وأن تعفوا أقرب للتقوى» «وأن تصدقوا خير لكم» والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان. (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) كلام مستأنف مسوق لأمر اختلف العلماء في تأويله، وأقرب ما ذكروه من تلك التأويلات: ان هؤلاء الطوائف الثلاث كانوا يتحرجون عن مؤاكلة الأصحاء فإن الأعمى ربما سبقت يده الى أطيب الطعام فسبقت البصير اليه، والأعرج يتفسح في مجالسه فيأخذ مكانا واسعا فيضيق على السليم، والمريض لا يخلو من حالة مؤذية لقرينه وجليسه، فنزلت هذه الآية وسيأتي في باب الفوائد بقية الأقوال.
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لتقرير إباحة ما حرموه على أنفسهم ففي القرطبي «انه لما أنزل الله «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وان الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فنزلت» ولا نافية وعلى أنفسكم خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن بيوتكم متعلقان بتأكلوا. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) عطف على ما تقدم وإخوانكم بمعنى إخوتكم. (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) عطف أيضا على ما سبق.
(أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) عطف ايضا على ما سبق.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) ما عطف على ما سبق وجملة ملكتم صلة ومفاتحه مفعول به والمراد بها أموال الرجل إذا كان له عليها قيم أو وكيل يحفظها له، والمفاتح جمع مفتاح وتجمع على مفاتيح والمراد الخزائن، وأو حرف عطف وصديقكم معطوف على ما سبق. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) الجملة بدل من الجملة السابقة وأن تأكلوا أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن تأكلوا وجميعا حال وأشتاتا عطف على جميعا والمعنى أنهم لما تحرجوا في الاجتماع على الطعام والمشاركة فيه لاختلاف الآكلين بيّن أنه لا حرج عليهم أن يأكلوا مجتمعين ومتفرقين وسيأتي مزيد بسط لهذا كله في بابي البلاغة والفوائد. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلتم في محل جر باضافة الظرف إليها وبيوتا نصب على المفعولية
البلاغة:
١- عكس الظاهر:
في قوله تعالى: «غير متبرجات بزينة» فن يطلق عليه بعض علماء البيان اسم عكس الظاهر وبعضهم يسميه نفي الشيء بايجابه وقد سبقت الاشارة اليه في كتابنا وهو من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا، أو أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا ومن أهم أبياته قول امرئ القيس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
على لاحب لا يهتدى بمناره | إذا سافه العود النباطي جرجرا |
وكذلك المراد هنا والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟!.
٢- الإيضاح:
وفي قوله «ولا على أنفسكم الآية» فن الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي اعرابها ومعاني النفس دون الفنون، وقد سبق ذكره في هذا الكتاب، وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أسئلة أولها: ما الفائدة في الاخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته؟ وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحا؟
وثانيها: لم يذكر بيوت الأولاد كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟
وثالثها: ما فائدة قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» وظاهر الحال أن هذا داخل في قوله «من بيوتكم» ؟
والأجوبة التي تتضح بها هذه الإشكالات الأربعة هي:
الجواب الأول:
أما فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته فإنما ذكر ذلك توطئة ليبني عليه ما يعطفه على جملته من البيوت التي قصد إباحة الأكل منها، فإنه إذا علم أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت ليشير الى أن أموال هذه القرابة كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال سرى ذلك التساوي الى الأزواج، فيكون سبحانه قد أدمج في ذلك الحض على صلة الأرحام ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه.
الجواب الثاني:
وأما عدم ذكر بيوت الأولاد فإنما ذكر من الأموال ما يظن بأن الأكل منه محظور فاحتاج الى بيان الإباحة، وأما أموال الأولاد فتصرف الوالدين فيها كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، ألا ترى أن الشرع يوجب على الولد نفقة الوالدين إذا كانا محتاجين؟ وفي الحديث: «إن طيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه».
الجواب الثالث:
وأما زعم القائل بأن الكلام فيه تداخل لأن قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» هو ما في بيوتهم فإنه يحتمل أن يراد بما في البيوت المال التليد
الجواب الرابع:
وأما سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب فهو تعريف حق الصديق الذي ساوى باطنه ظاهره في اخلاص المودة، ولا يسمى صديقا حتى يكون كذلك، فإن اشتقاق اسمه من صدق المحبة وصفاء المودة وهو الذي أشار اليه سبحانه بقوله «ولا صديق حميم» فإذا كان الصديق بهذه المثابة وعلى هذه الصفة ساوى هذه القرابة القريبة فليس على الإنسان جناح إذا تصرف في ماله تصرفه في مال نفسه.
فنون أخرى في الآية الكريمة:
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة بعض إيضاح هذه الإشكالات على تسعة أضرب من فنون البديع ندرجها فيما يلي مع التلخيص والاختصار:
آ- صحة التقسيم: وذلك لاستيعاب الكلام جميع أقسام الأقارب القريبة بحيث لم يغادر منها شيئا.
ب- التهذيب: وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة تقديم الأقرب فالأقرب كما جاء فيها.
ج- حسن النسق: وذلك في اختياره «أو» لعطف الجمل وهي تدل على الإباحة.
د- الكناية: فقد كنى سبحانه عن الأموال بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب وجرى النهر.
والمثل: وذلك في قوله: «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا وأشتاتا» خرج مخرج المثل السائر الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته.
ز- التذييل: فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلا لمعنى الكلام المتقدم لقصد توكيده وتقريره.
ح- المطابقة: وذلك في قوله «جميعا أو أشتاتا» فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادا أوجب لهما وصفها بالمطابقة لأن المعنى جميعا أو متفرقا.
ط- المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما اقتران التمثيل بالتذييل كما تقدم بيانه، والثاني اقتران المطابقة بالتمكين فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين.
الفوائد:
ذكرنا في باب الإعراب أقرب الوجوه في تأويل قوله تعالى «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية ووعدناك بأن نورد بقية الوجوه التي ذكرها المفسرون: فقد كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات الى بيوت أزواجهم وأولادهم والى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك وخافوا أن يلحقهم
وقيل كانوا يخرجون الى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون، حكي عن الحارث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك فقيل لي ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا منه ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام قوله «ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج».
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
(يَتَسَلَّلُونَ) : ينسلون واحدا بعد واحد أو قليلا قليلا.
(لِواذاً) : في القاموس: «اللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة واللياذ والملاوذة والإحاطة كالإلاذة وجانب الجبل وما يطيف به ومنعطف الوادي والجمع ألواذ» وكان المنافقون يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا، والمفاعلة لأن كلا منهما يلوذ بصاحبه فالمشاركة موجودة وانما صحت الواو في لواذا مع انكسار ما قبلها لأنها تصح في الفعل الذي هو لاوذ ولو كان مصدر لاذ لكان لياذ مثل صام صياما وقام قياما.
(يُخالِفُونَ) : يقال خالفه الى الأمر إذا ذهب إليه دونه وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.
الإعراب:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال المنافقين الذين كان يعرض بهم النبي في مجالسه وخطبه.
وانما كافة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبره وجملة آمنوا بالله ورسوله صلة الموصول أي هؤلاء هم المؤمنون الكاملو الايمان، أما
(وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة كانوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو اسم كان ومعه ظرف متعلق بمحذوف خبر وعلى أمر متعلقان بمحذوف حال ولك أن تعكس الأمر وجامع صفة لأمر كالحروب وصلاة الجمعة والعيدين وسيأتي معنى اسناد الجمع للأمر في باب البلاغة، وجملة لم يذهبوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحتى حرف غاية وجر ويستأذنوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويستأذنوه فعل وفاعل ومفعول به. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ان واسمها وجملة يستأذنونك صلة، وأولئك مبتدأ والذين خبره وجملة يؤمنون بالله ورسوله صلة الموصول، والجملة الاسمية خبر إن. (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة استأذنوك مجرورة باضافة الظرف إليها ولبعض شأنهم متعلقان باستأذنوك بمثابة التعليل للاستئذان، فائذن الفاء رابطة لجواب إذا وائذن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولمن متعلقان به وجملة شئت صلة ومنهم حال وفيه تفويض الأمر لرأي رسول الله. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واستغفر عطف على فائذن ولهم جار ومجرور متعلقان باستغفر وجملة ان الله غفور رحيم تعليل للاستغفار فلا محل لها. (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) اضطربت عبارات المفسرين في تفسير هذا التعبير وأقرب ما قيل فيه: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتلكئون وتحجمون كما يتلكأ ويحجم بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر فالمصدر
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قد هنا بمعنى ربما وذلك مطرد في دخولها على المضارع وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد، ويعلم الله فعل مضارع وفاعل وجملة يتسللون صلة ومنكم متعلقان بيتسللون ولواذا يجوز أن ينصب على المصدر من معنى الفعل إذا كان التقدير يتسللون منكم تسللا أو يلاوذون لواذا، ويجوز أن يكون مصدر في موضع نصب على الحال أي ملاوذين. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء الفصيحة أو عاطفة على «قد يعلم» لأنها مترتبة عليه واللام لام الأمر ويحذر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة يخالفون صلة ومفعول يخالفون محذوف وهو الله تعالى لأنه الآمر وجيء ب «عن» لتضمنه معنى الصد والاعراض وأن يصيبهم مفعول يحذر وفتنة فاعل أو يصيبهم عذاب أليم عطف على أن تصيبهم فتنة. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قد للتكثير كما تقدم وكما سيأتي ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى وما مفعول به وأنتم مبتدأ وعليه خبر والجملة صلة. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ويوم عطف على مفعول يعلم أي ويعلم ما يرجعون وجملة يرجعون صلة ويرجعون بالبناء للمجهول، فينبئهم عطف على
الفوائد:
تقدم القول في «قد» ونضيف هنا أنها إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير وكانت بمعنى «ربما» ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله | ولكنه قد يهلك المال نائله |
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط | عليك بجاري دمعها لجمود |
عشية قام النائحات وشققت | جيوب بأيدي مأتم وخدود |
فإن تمس مهجور الفناء فربما | أقام به بعد الوفود وفود |