تفسير سورة النّمل

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة النمل من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٢٧) سورة النمل مكيّة وآياتها ثلاث وتسعون
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
الإعراب:
(طس. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) طس تقدم الكلام على اعرابها ومعناها في بحث فواتح السور. وتلك مبتدأ وآيات القرآن خبر وكتاب مبين عطف على القرآن ومبين صفة، وسيأتي سر التنكير والعطف في باب البلاغة. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يجوز في هدى النصب على الحال والعامل فيها ما في تلك من معنى الاشارة أي هاديه ومبشرة ويجوز فيها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى، ومعنى هداها للمؤمنين وهم مهديون زيادتها في هداهم.
162
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمؤمنين ولك أن تقطعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يقيمون الصلاة صلة الذين وجملة يؤتون الزكاة عطف على يقيمون الصلاة وهم الواو للحال وهم مبتدأ أو للعطف وجملة يوقنون خبره وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم مبتدأ جيء للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وسيأتي سر التغيير في النظم في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان السبب في عدم إيمانهم وتحيرهم وتردّدهم في أعمالهم، وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الذين وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة زينا خبر إن وزينا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينا وأعمالهم مفعول به والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعمهون خبره أي يتحيرون ويترددون بين تركها لأنها واضحة البطلان ظاهرة السوء وبين الاستمرار عليها، وقيل معنى يعمهون يستمرون من غير تردد إذ لم يدر في خلدهم لحظة الإقلاع عنها وهو جميل وقوي ولكن العمه هو كما يقول الزمخشري وغيره من أئمة اللغة التردد والتحير كما يكون حال الضالّ عن الطريق، وعن بعض الأعراب أنه دخل السوق وما أبصرها قط فقال: رأيت الناس عمهين أراد مترددين في أعمالهم وأشغالهم، وتكاد تجمع معاجم اللغة على أن العمه مصدر عمه يعمه ويعمه من باب ضرب وفتح عمها وعموها وعموهية وعمهانا أي تحير في طريقه أو أمره وتردد في الضلال فهو عمه وجمعه عمهون وعامه وجمعه عامهون وعمّه.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره ولهم خبر مقدم وسوء العذاب مبتدأ مؤخر
163
والجملة صلة وهم مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بالأخسرون والأخسرون خبره وهم مبتدأ جيء به للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وقد تقدم بحثه، هذا ولا بد من الاشارة الى أن قوله «الأخسرون» يحتمل أنها على بابها من التفضيل وذلك بالنسبة للكفار ويحتمل أنها للمبالغة لا للتشريك لأن المؤمن لا خسران له في الآخرة البتة. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تلقى خبرها ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والقرآن مفعول به ثان ومن لدن الجار والمجرور متعلقان بتلقى وحكيم مضاف اليه وعليم صفة.
البلاغة:
١- التنكير:
التنكير فقد نكر الكتاب المبين ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، ومثله في «مقعد صدق عند مليك مقتدر» أما عطفه على القرآن مع أنه هو القرآن نفسه فهو من قبيل عطف إحدى الصفتين على الأخرى كقولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم ولأن المعطوف فيه صفة زائدة على مفهوم المعطوف عليه.
٢- تكرير الضمير:
وفي قوله «وهم بالآخرة هم يوقنون» كرر الضمير حتى صار معنى الكلام ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق، وقد سبق لنا أن ذكرنا أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر كما مر في قوله
164
تعالى: «هم ينشرون» ان معناه لا ينشر إلا هم، وأما وجه تكراره هنا فهو انه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما فطري ذكره ليلية الخبر ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدما ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التطرية.
٣- التعبير بالاسمية والفعلية:
قلنا في مواطن من هذا الكتاب إن التعبير يكون أحيانا بالجملة الاسمية وأحيانا بالجملة الفعلية على أن ذلك ليس متروكا الى الاعتباط وإنما يعدل عن أحد التعبيرين لضرب من التأكيد والمبالغة والاستمرار والانقطاع، فإن الايمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب دوامه ولذلك أتى به جملة اسمية وجعل خبرها فعلا مضارعا فقال «وهم بالآخرة هم يوقنون» للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد أما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة ولذلك أتى بهما فعلين فقال «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة».
الفوائد:
أورد الامام الزمخشري سؤالا في هذا الصدد بناء على قاعدته الاعتزالية وهو «فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم الى ذاته وقد أسنده الى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم. وقد أجاب بقوله: «قلت: بين الاسنادين فرق وذلك أن إسناده الى الشيطان حقيقة وإسناده الى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة، والثاني أن
165
يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الاول انه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، واليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قوله «ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر» والطريق الثاني أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند اليه لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى الى الحسن.
وقد أجاب أهل السنة بأن هذا الجواب مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل التزيين الى الله تعالى مجازا والى الشيطان حقيقة ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله الى التأويل الآخر من أن المراد أعمال البر على بعده لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى: «ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم» على أن غالب وروده في غير البر كقوله:
«زين للناس حب الشهوات»، «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» و «كذلك زين للمسرفين» ومما يبعد حمله على أعمال البر إضافة الأعمال إليهم في قوله: أعمالهم، وأعمال البر ليست مضافة إليهم لأنهم لم يعملوها قط فظاهر الاضافة يعطي ذلك، ألا ترى الى قوله تعالى: «ولما يدخل الايمان في قلوبكم» وقوله: «قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان» فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم لأنه صدر منهم.
166

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧ الى ١٤]

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
اللغة:
(آنَسْتُ) أبصرت من بعيد، ويقال آنست نارا وآنست فزعا وآنست منه رشدا، فهو يطلق على المادي والمعنوي.
(بِشِهابٍ قَبَسٍ) يقرأ بالاضافة وتركها كما سيأتي في الاعراب، والشهاب كل مضيء متولد من النار، وما يرى كأنه كوكب انقض، والكوكب عموما، والسنان لما فيه من البريق، وجمعه شهب وشهبان
167
وشهبان وأشهب، ويقال فلان شهاب حرب إذا كان ماضيا فيها، والقبس بفتحتين النار المقبوسة تقول خذ لي قبسا من النار ومقبسا ومقباسا واقبس لي نارا واقتبس، ومنه ما أنت إلا كالقابس العجلان أي المقتبس وما زورتك إلا كقبسة العجلان، وتقول ما أنا إلا قبسة من نارك، وقبضة من آثارك، وقبسته نارا وأقبسته كقولك بغيته الشيء وأبغيته ومن المجاز قبسته علما وخبرا وأقبست.
(تَصْطَلُونَ) : فيه الابدال لأن أصله تصتلون فلما وقعت تاء الافتعال بعد حرف الاطباق وهو الصاد قلبت طاء على القاعدة وهو من صلي بالنار بكسر اللام وفي المصباح «صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها والصلاء بوزن كتاب حر النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى: شويته» وفي الأساس: «وصلي النار وصلي بها» «يصلى النار الكبرى» وتصلّاها وتصلّى بها وأصلاه وصلّاه، وشاة مصليّة: مشوية وقد صليتها».
(جَانٌّ) : حية خفيفة الحركة، وقال في القاموس والتاج:
«والجانّ اسم جمع للجن، وحية أكحل العين لا تؤذي كثيرة في الدور» قالوا وهي كبيرة جدا وإن كانت خفيفة في سرعة الحركة.
(وَلَمْ يُعَقِّبْ) : ولم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال:
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
يصف قوما بالجبن وانهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب لم يرجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها،
168
وفي المختار: «وتقول: ولى مدبرا ولم يعقب بتشديد القاف وكسرها أي لم يعطف ولم ينتظر».
(جَيْبِكَ) : طوق قميصك وسمي جيبا لأنه يجاب أي يقطع ليدخل فيه الرأس.
(وَاسْتَيْقَنَتْها) : الاستيقان أبلغ من الإيقان فلا معنى لقول بعض المفسرين أن السين لمجرد الزيادة.
الإعراب:
(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص خمس من قصص الأولين الأولى قصة موسى وتليها قصة النمل وتليها قصة بلقيس وتليها قصة صالح وتليها قصة لوط. والظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر وقد تقدم كثيرا تقرير ذلك وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولأهله متعلقان بقال وجملة إني آنست نارا مقول القول وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. وأهله عبارة عن زوجه بنت شعيب وولده وخادمه وذلك عند فقوله من مدين الى مصر ليجتمع بأمه وأخيه في مصر وقيل لم يكن معه غير امرأته وقد كنى الله عنها بالأهل وتبعا لذلك أورد الخطاب بالجمع. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) الجملة استئنافية وآتيكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وجاء بسين التسويف للاشارة إلى أنه عائد وإن أبطأ فربما كانت المسافة بعيدة، ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم، وأو حرف عطف، وللعدول عن الواو الى أو سر سيأتي في باب البلاغة، وآتيكم عطف على آتيكم الأولى وبشهاب متعلقان بآتيكم وقبس بدل من شهاب أو
169
نعت له على تأويله بالمفعول أي شهاب مقتبس من نار وقرئ بالاضافة لأن الشهاب يكون قبسا وغيره كالكوكب فهو من إضافة النوع الى جنسه كخاتم فضة وثوب خز وهي بمعنى من، ولعلكم تصطلون جملة الرجاء حالية ولعل واسمها وخبرها أي راجيا تأمين الدفء لكم وتوفيره.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) الفاء عاطفة على محذوف للاختصار ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل نودي ضمير مستتر تقديره هو يعود على موسى، وأن هي المفسرة لأن في النداء معنى القول دون حروفه والمعنى قيل له بورك ويجوز أن تكون على حالها أي ناصبة للفعل المضارع وقد دخلت على الماضي، أو مخففة من الثقيلة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن بورك، وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها واهنة، وبورك فعل ماض مبني للمجهول ومن نائب فاعل وفي النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة من أي في مكان النار، ومن حولها عطف على من في النار والمراد بمن إما الله تعالى على حذف أي قدرته وسلطانه وقيل المراد موسى وقيل المراد بمن غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها.
(وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والله مضاف اليه ورب العالمين بدل أو نعت.
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم وان واسمها والهاء إما ضمير الشأن أو راجعة الى ما دل عليه ما قبلها يعني ان مكلمك، وأنا مبتدأ الله خبر والجملة خبر إن والعزيز الحكيم صفتان. (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو حرف عطف وألق فعل أمر مبني على حذف حرف
170
العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والكلام معطوف على بورك لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك وهذا ما يرجح كون أن مفسرة كما تقدم وعصاك مفعول، فلما الفاء عاطفة على محذوف أي فألقاها فاستحالت حية فلما، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجملة رآها في محل جر بإضافة الظرف اليه ورآها فعل وفاعل ومفعول به وجملة تهتز في محل نصب على الحال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنها جان كأن واسمها وخبرها والجملة في محل نصب حال ثانية أو هي حال من ضمير تهتز فهي حال متداخلة وجملة ولى لا محل لها ومدبرا حال من فاعل ولى والواو حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعقب فعل مضارع مجزوم بلم. (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف لا بد من تقديره أي قال تعالى ويا موسى منادى مفرد علم ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وان واسمها وجملة لا يخاف خبرها والجملة تعليلية للنهي عن الخوف ولدي ظرف متعلق بيخاف والمرسلون فاعل. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع ومن اسم موصول مستثنى في موضع نصب ويجوز أن تكون شرطية فتكون مبتدأ والجملة مستثناة من أعم الأحوال وظلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ثم بدل عطف على ظلم وحسنا مفعول به وبعد سوء ظرف متعلق بمحذوف صفة لحسنا. (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء واقعة في جواب «من» على الوجهين وان واسمها وخبراها.
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) الواو عاطفة وأدخل عطف على وألق عصاك ويدك مفعول به وفي جيبك متعلقان بأدخل وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وفاعل تخرج ضمير مستتر تقديره هي وبيضاء حال من فاعل تخرج ومن غير سوء
171
متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل وقد تقدم هذا في «طه» واختار أبو البقاء أن يكون الجار والمجرور حالا أخرى واختار السمين أن يكون صفة لبيضاء. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) كلام مستأنف وحرف الجر يتعلق بالفعل المحذوف أي اذهب في تسع آيات الى فرعون، وقدره بعضهم بمحذوف أي مرسلا فيكون محله النصب على الحال والأول أولى وله نظائر قال:
فقلت الى الطعام فقال منهم فريق يحسد الإنس الطعاما
وهناك أقوال متشعبة للمعربين سنوردها في باب الفوائد لصقل الأذهان.
وقومه عطف على فرعون وجملة انهم تعليل للأمر بالذهاب وجملة كانوا خبر إن وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة وقد تقدمت الآيات التسع.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم ذلك كثيرا ومبصرة حال وسيأتي معناها في باب البلاغة وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وسحر خبر ومبين صفة والجملة مقول القول. (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وجحدوا عطف على قالوا وبها متعلقان بجحدوا والواو للحال وقد بعدها مضمرة واستيقنتها أنفسهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وظلما مفعول لأجله لأنه علة للجحد أو حال من فاعل جحدوا أي ظالمين مستكبرين. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة وأنظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة المفسدين اسم كان والجملة معلقة لا نظر عن العمل فهي محل نصب بنزع الخافض لأن انظر بمعنى تفكر.
172
البلاغة:
١- استعمال «أو» بدل الواو:
في قوله: «آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون» آثر «أو» على الواو لنكتة بلاغية رائعة فإن أو تفيد التخيير وقد بنى رجاءه على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا فلن يعدم واحدة منهما وهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار هضما لنفسه واعترافا بقصوره نحو ربه، وقد كانت الليلة شاتية مظلمة وقد ضل الطريق وأخذ زوجته المخاض، وهذا موطن تزلق فيه أقلام الكتاب الذين لا يدركون أسرار البيان وخاصة في استعمال الحروف العاطفة والجارة وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن.
٢- المجاز العقلي:
في إسناد الإبصار الى الآيات في قوله «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة» ويجوز أن يكون المجاز مرسلا والعلاقة السببية لأنها سبب الإبصار وهذا أولى من قول بعضهم إن «مبصرة» اسم فاعل والمراد به المفعول أطلق اسم الفاعل على المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر.
الفوائد:
أقوال المعربين في «في تسع آيات» :
تشعبت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وهي «في تسع آيات الى فرعون وقومه» وقد اخترنا لك في الاعراب أمثلها وأسهلها،
173
وسنورد بقية الوجوه لأنها واردة ومعقولة لتشحذ ذهنك وتختار منها ما تراه أدنى الى المنطق فالاعراب منطق قبل كل شيء.
أما الزمخشري فقد اكتفى بالوجه الذي اخترناه في الاعراب قال:
«في تسع آيات كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات أي في جملة تسع آيات وعدادهن، ولقائل أن يقول: كانت الآيات احدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا، والتسع:
الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم»
.
وقال أبو البقاء: «في تسع» حال ثالثة، وأراد بالحالين الأولى والثانية قوله بيضاء وقوله من غير سوء، والى فرعون متعلقة بمحذوف تقديره مرسلا الى فرعون ويجوز أن يكون صفة لتسع أو لآيات أي واصلة الى فرعون.
وجعل الزجاج «في» بمعنى «من» وعلقها بألق قال: كما تقول خد لي من الإبل عشرا فيها فحلان أي منها فحلان.
وأما ابن عطية فقد أيّد الزجاج في تعليقها بألق وجعل «في» بمعنى «مع» لأن اليد والعصا حينئذ داخلتان في الآيات التسع وقال:
تقديره يمهد لك ذلك وينشره في تسع. وقال آخرون هو كما قال ابن عطية وتكون اليد والعصا خارجتين من التسع.
واختار الجلال أن تتعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير تخرج، وقد صرح بهذا المحذوف في سورة «طه» حيث قال هناك: «تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» فالمعنى هنا حال كونها آية مندرجة في جملة الآيات التسع.
174

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]

وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
اللغة:
(مَنْطِقَ الطَّيْرِ) المنطق مصدر نطق ينطق من باب ضرب نطقا ومنطقا ونطوقا أي تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، والمنطق الكلام وقد يستعمل في غير الإنسان يقال: سمعت منطق الطير، وقال البيضاوي: «والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث
175
أنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات لا سيما وفيها ما يتفاوت بتفاوت الأغراض بحيث يفهمها ما هو من جنسه».
وزاد الزمخشري على ما قاله البيضاوي: «وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم».
هذا ويبدو أن الأصل الاشتقاقي لكلمة المنطق يظهرنا على الصلة الوثيقة بين الفكر واللغة فإن الحيوان المفكر هو وحده الحيوان المتكلم وليست اللغة مجرد أداة اصطنعها العقل البشري للتعبير عن أغراضه ومراميه بل هي أيضا وسيلة الى التجرد عن الأعراض الحسية واصطناع بعض الرموز أو الدلالات المعنوية.
وعلم المنطق هو علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء وفي الأحكام كما انه يهتم بالتعرف على المناهج المختلفة في دراساتهم المتعددة وأبحاثهم المتباينة، حقا ان موضوع المنطق هو التفكير الانساني بصفة عامة ولكن المنطق لا يقتصر على وصف العمليات الذهنية التي نقوم بها حين نفكر أو نحكم أو نجرد أو تتذكر أو نحل مشكلة بل هو يريد أيضا أن يعيننا على التمييز بين الحكم الصحيح والحكم الخاطئ، بين الاستدلال السليم والاستدلال الفاسد.
وقد اهتم فلاسفة اليونان الأقدمون بدراسة العلاقة بين صورة الفكر ومادته أي بين الناحية الشكلية للأحكام أو القضايا ومضمون التفكير نفسه فنشأت من ذلك مباحث جدلية كانت هي النواة الأولى لعلم المنطق، وهكذا اهتم سقراط وأفلاطون بالبحث في مغالطات السوفسطائيين فوضعا للرد عليهم أصول التفكير الجدلي السليم، ثم
176
جاء أرسطو فاستفاد من دراسات السابقين عليه في تكوين التصورات والقسمة المنطقية وطرق إيراد البرهنة ووضع هذا كله في كتاب مشهور أطلق عليه اسم «التحليلات الأولى» وان كان أرسطو لم يستعمل كلمة المنطق فإن المؤرخين قد أجمعوا على مبايعته بأمارة المنطق.
أما في العصور الحديثة فقد ثار كل من بيكون وديكارت على منطق أرسطو بدعوى أنه منطق صوري مجدب، ثم فطن المناطقة أخيرا الى ضرورة تخليص الفكر من سحر الألفاظ وتحريره من سلطان اللغة فحاولوا أن يجعلوا من المنطق علما رياضيا يصوغ العمليات الذهنية في رموز جبرية.
(يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي وسلاف العسكر يعني متقدميهم كما في الصحاح، وفي المختار: «وزعه يزعه وزعا مثل وضعه يضعه وضعا أي كفه فاتزع هو أي كفّ، وأوزعه بالشيء أغراه به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني والوازع الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر وجمعه وزعة، وقال الحسن: لا بد للناس من وازع أي من سلطان يكفهم، يقال وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم».
(نَمْلَةٌ) : النمل والنمل بضم الميم: حيوان حريص على جمع الغذاء يتخذ قرى تحت الأرض فيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء، الواحدة نملة ونملة للذكر والأنثى والجمع نمال.
وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة أنه وقف على قتادة وهو يقول:
سلوني فأمر أبو حنيفة شخصا سأل قتادة عن نملة سليمان هل كانت
177
ذكرا أم أنثى فلم يجب فقيل لأبي حنيفة في ذلك فقال كانت أنثى واستدل بلحاق العلامة، قال الزمخشري: «وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث فيميز بينهما بعلامة نحو حمامة ذكر وحمامة أنثى».
ولا أدري أأعجب منه أم من أبي حنيفة ان يثبت ذلك عنه. وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس يقال نملة ذكر ونملة أنثى كما يقال حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وان كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء، كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى «نملة» روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل على حد سواء. وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا البحث.
(أَوْزِعْنِي) : ألهمني، وحقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي واكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك. وقد تقدم شرح هذه المادة.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الواو استئنافية والكلام مستأنف للشروع في القصة الثانية وهي قصة داود وسليمان، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وداود مفعول به وسليمان عطف على داود وعلما مفعول به ثان. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
178
فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)
الواو حرف عطف وقالا معطوف على مقدر تقديره فعملا بما أعطيا بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة وعملا به باللسان فقالا. والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول والذي اسم موصول صفة لله وجملة فضلنا صلة وعلى كثير متعلقان بفضلنا ومن عباده صفة لكثير والمؤمنين صفة لعباده.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) الواو استئنافية وورث سليمان داود فعل وفاعل ومفعول به وقال عطف على ورث ويا أيها الناس تقدم اعرابها وعلمنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ومنطق الطير مفعول به ثان. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) وأوتينا عطف على علمنا ومن كل شيء متعلقان بأوتينا وإن هذا ان واسمها وهو كلام مستأنف مسوق على سبيل إيراد الشكر والمحمدة واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والفضل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والمبين صفة للفضل.
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية وحشر فعل ماض مبني للمجهول ولسليمان متعلقان بحشر وجنوده نائب فاعل ومن الجن والانس والطير حال من جنوده والفاء الفصيحة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر وسيأتي في باب البلاغة ما يرويه التاريخ عن معسكر سليمان.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) حتى حرف غاية لمحذوف تقديره فساروا حتى إذا أتوا، ويجوز أن يكون غاية ليوزعون لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا، وعلى وادي النمل جار ومجرور متعلقان بأتوا وسيأتي سر تعليقه بأتوا في باب البلاغة، وجملة قالت نملة لا محل لها ويا أيها النمل تقدم اعرابها وادخلوا مساكنكم فعل
179
وفاعل ومفعول به على السعة وسيأتي ما قاله السيوطي في الإتقان عن قول النملة. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ويجوز أن يكون الكلام بدلا من جملة الأمر مثله وهو ادخلوا مساكنكم.
وقد تصدى الزمخشري لهذا التعبير فقال «فإن قلت لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا للأمر وان يكون نهيا بدلا من الأمر والذي جوز أن يكون بدلا منه أنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقه لا أرينك هاهنا» ولا ناهية ويحطمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وسليمان فاعل وجنوده عطف على سليمان وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسمع قولها المذكور فتبسم، وضاحكا حال مؤكدة وسيأتي سر ما أضحكه في باب الفوائد ومن قولها متعلقان بضاحكا. (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وقال عطف على فتبسم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأوزعني فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها مفعول ثان لأوزعني لأنه مضمن معنى الإلهام أو نصب بنزع الخافض أي بأن أشكر نعمتك، والتي صفة لنعمتك وجملة أنعمت صلة وعليّ متعلقان بأنعمت وعلى والدي عطف على عليّ. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) جملة معطوفة.
(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وأدخلني فعل دعاء وفاعل ومفعول به وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال والباء للسببية وفي عبادك متعلقان بأدخلني والصالحين نعت لعبادك.
180
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على فنون شتى ندرجها فيما يلي:
١- التنكير وأسراره:
ففي قوله: «وقد آتينا داود وسليمان علما» التنكير وفائدته إفادة التبعيض والتقليل أو إفادة التعظيم والتكثير، والثاني هو المراد هنا فظاهر قوله في ولقد آتينا داود وسليمان علما في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه كأنه قال علما أي علم وهو كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات، على أن كل علم بالاضافة الى علم الله قليل ضئيل.
قصة رائعة:
ونورد هنا قصة مروية جريا على عادتنا في إدراج القصص المروية لتكون مصدر إلهام للكتاب ومعالم صبح لهم، قال مقاتل: كان سليمان جالسا في معسكره، وكانت مساحته مائة فرسخ في مائة، خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، فمر به طائر يطوف وفي رواية رأى بلبلا على شجرة فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ قالوا: الله ونبيه أعلم قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، ومر بهدهد فوق شجرة فقال: استغفروا الله يا مذنبون، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول:
كما تدين تدان، وصاح طيطوى فقال يقول: كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول: قدموا خيرا تجدوه، وصاح قمري
181
فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول:
ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربي الأعلى.
٢- استعمال حرف الجر:
وقال «حتى إذا أتوا على وادي النمل» فعدّى أتوا بعلى لأن الإتيان كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية فقال:
فلشد ما جاوزت قدرك صاعد ولشدّ ما قربت عليك الأنجم
فقد عنى بالأنجم أبيات شعره ويقول: ما أشد ما تجاوزت قدرك حتى بعثت تسألني المديح ومسألتك إياي مدحك تجاوز منك لقدرك حين طلبت أن تهبط الأنجم من سمواتها لتكون قريبة منك، وهذا البيت من أمض الهجاء وأقذعه وهو من قصيدة لأبي الطيب المتبني فقد سافر من الرملة يريد أنطاكية فنزل بطرابلس وبها اسحق بن ابراهيم الأعور بن كيغلغ وكان جاهلا يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة فقالوا له أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك، وجعلوا يغرونه فراسله أن يمدحه فاحتج عليه بيمين لحقته لا يمدح أحدا الى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها، ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما فهجاه أبو الطيب المتنبي وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج
182
خرج كأنه يسير فرسه وسار الى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا فأعجزهم وظهرت القصيدة وأولها:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم عرضا نظرت وخلت أني أسلم
ومن أبياته الحكيمة فيها:
183
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى يققا يميت ولا سوادا يعصم
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ينسى الذي يولى وعاف يندم
لا يخدعنّك من عدوّ دمعه وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتّى يراق على جوانبه الدّم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد داعفة فلعلّة لا يظلم
ثم تطرق الى هجاء ابن كيغلغ فقال وأقذع:
يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ما بين رجليها الطريق الأعظم
أقم المسالح وق شفر سكينة إن المنيّ بحلقتيها خضرم
وارفق بنفسك إنّ خلقك ناقص واستر أباك فإنّ أصلك مظلم
واحذر مناوأة الرجال فإنما تقوى على كسر العبيد وتقدم
وغناك مسألة وطيشك نفخة ورضاك فيشلة وربك درهم
ثم يعود الى الحكمة الملائمة فيقول:
184
وجفونه ما تستقر كأنها... مطروفة أو فتّ فيها
حصرم وإذا أشار محدثا فكأنه... قرد يقهقه أو عجوز
تلصم يقلى مفارقة الأكفّ قذاله... حتى يكاد على يد يت
عمّم وتراه أصغر ما تراه ناطقا... ويكون أكذب ما يكون
ويقسم والذل يظهر في الذليل مودة... وأودّ منه لمن يودّ ال
أرقم ومن العداوة ما ينالك نفعه... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
والقصيدة كلها من هذا النمط البديع فحسبنا ما أوردناه منها، ونعود الى ما نحن بصدده فنقول: ويجوز أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا بلغ آخره.
٣- التوليد:
وقد اشتملت الآية «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم
185
لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» على أحد عشر نوعا من البلاغة يتولد بعضها من بعض وقد ذكرها السيوطي في كتابه «الإتقان» أي قالت قولا مشتملا على حروف وأصوات والمراد قالته على وجه النصيحة وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر نوعا من البلاغة:
أولها: النداء بيا.
وثانيها: كنّت بأي.
وثالثها: نبّهت بها التنبيه.
ورابعها: سمّت بقولها النمل.
وخامسها: أمرت بقولها ادخلوا.
وسادسها: نصّت بقولها مساكنهم.
وسابعها: حذرت بقولها لا يحطمنكم.
وثامنها: خصّصت بقولها سليمان.
وتاسعها: عمّمت بقولها وجنوده.
وعاشرها: أشارت بقولها وهم.
وحادي عشرها: عذرت بقولها لا يشعرون.
هذا وقد أنشدوا ملغزين في نملة سليمان وبقرة بني إسرائيل:
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيّه وخطاب من لا يفهم
يمشي بأربعة على أعقابه تحت العلوج ومن وراء يلجم
186
فما ميت أحيا له الله ميتا ليخبر قوما أنذروا ببيان
وعجفاء قد قامت لتنذر قومها واهل قراها رهبة الحدثان
الفوائد:
١- ما الذي أضحك سليمان؟ وانما ضحك سليمان من قول النملة لشيئين:
أولهما: ما دل على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا.
وثانيهما: سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه ما قالته النملة وهي مثل في الضآلة والقماءة، والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به ضحك.
٢- الحال المبنية والمؤكدة:
الحال ضربان مؤسسة وتسمى أيضا مبينة وهي التي لا يستفاد معناها بدونها كجاء زيد راكبا فلا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا، ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها بدون ذكرها، وهذه تنقسم الى ثلاثة أقسام:
آ- مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» فرسولا حال من الكاف وهي مؤكدة لعاملها وهو أرسلنا لفظا ومعنى.
ب- مؤكدة لعاملها معنى فقط واللفظ مختلف نحو «فتبسم
187
ضاحكا» فضاحكا حال من فاعل تبسم وهي مؤكدة لعاملها معنى فقط لأن التبسم نوع من الضحك واللفظ مختلف.
ح- مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن وهو من الموصولة مؤكدة لها. وهناك أقسام أخرى للحال المؤكدة يرجع إليها في المطولات.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
اللغة:
(الْهُدْهُدَ) والهدهد والهدهد طائر ذو خطوط وألوان كثيرة الواحدة هدهدة وهدهدة وهداهدة والجمع هداهد
188
وهداهيد، ويقولون أبصر من هدهد لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض، والهدهد أيضا كل ما يقرقر من الطير والحمام الكثير وستأتي قصته مع سليمان في باب الفوائد.
(فَمَكَثَ) : بضم الكاف وفتحها والأول من باب قرب والثاني من باب نصر وفي القاموس وغيره: مكث يمكث من باب نصر مكثا ومكثا ومكوثا ومكثانا ومكّيثى ومكّيثاء بالمكان أقام ولبث فهو ماكث والاسم المكث والمكث ومكث يمكث من باب قرب مكاثة:
لبث ورزن.
(سَبَإٍ) : بلاد واقعة جنوب غربي الجزيرة العربية في اليمن ذكرت في كتب العهد القديم وفي مؤلفات العرب واليونان والرومان كانت على جانب عظيم من الحضارة، كان يتعاطى سكانها تجارة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
وقال الزمخشري في الكشاف: «سبأ قرئ بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأدب الأكبر صرف قال:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما
وقال:
الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث كما سميت معافر بمعافر بن أد ويحتمل أن يراد المدينة والقوم»
.
189
معنى ذهبوا أيدي سبا:
هذا ويقال ذهبوا أيدي سبا وفيه لغتان أيدي سبا وأيادي سبا وله حالتان: إما أن تركب الاسمين اسما واحدا وتبنيهما لتضمن حرف العطف كما فعلوا بخمسة عشر والثانية أن تضيف الأول الى الثاني وموضعهما النصب على الحال والمراد ذهبوا متفرقين ومتبددين ونحوهما، وإذا اعترض بأن سبا معرفة قيل بأن تركيبهما طاح بمعنى العلمية وصارا اسما واحدا، وأصل هذا المثل أن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد فقيل لكل جماعة تفرقت ذهبوا أيدي سبا، والمراد بالأيدي الأبناء والأسرة لا نفس الجارحة لأن التفرق وقع بهم واستعير اسم الأيدي لأنهم في التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي.
(الْخَبْءَ) : مصدر بمعنى المخبوء يقال خبأت الشيء أخبؤه خبئا من باب نفع أي سترته، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات.
الإعراب:
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كلام مستأنف للشروع في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء مسيره الذي كانت فيه قصة النمل. وتفقد فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي سليمان والطير مفعول به فقال عطف على تفقد وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولي خبره وجملة لا أرى الهدهد حال وأم منقطعة وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على الهدهد
190
ومن الغائبين خبر كان. (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) اللام موطئة للقسم وأعذبنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة أو لأذبحنه عطف على لأعذبنه أو ليأتيني عطف عليه أيضا وبسلطان متعلقان بيأتيني ومبين صفة. (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) الفاء استئنافية ومكث فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الهدهد أو على سليمان وغير بعيد ظرف زمان متعلق بمكث أو على الأصح صفة لظرف محذوف نابت عنه أي وقت غير بعيد أو مكانا غير بعيد فهو ظرف مكان، فقال عطف على مكث وهذا يؤيد عودة الضمير الى الهدهد وجملة أحطت مقول القول وبما متعلقان بأحطت وجملة لم نحط صلة وبه متعلقان بتحط وجئتك عطف على أحطت ومن سبأ متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لنبأ وبنبإ متعلقان بجئتك ويقين صفة لنبأ. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ان واسمها وجملة وجدت امرأة خبر إني وجملة تملكهم صفة لامرأة وأوتيت الواو عاطفة أو حالية وجملة أوتيت إما معطوفة على جملة تملكهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأن المضارع بمعنى الماضي أي ملكتهم وإما حالية من فاعل تملكهم وقد مقدرة ومن كل شيء متعلقان بأوتيت أو بمحذوف هو مفعول أوتيت الثاني والتقدير أيضا من كل شيء ولها خبر مقدم وعرش مبتدأ مؤخر وعظيم صفة.
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) جملة وجدتها بدل من وجدت امرأة فهي داخلة في حيز الخبر ووجدتها هنا تتعدى لواحد لأنها بمعنى لقيتها والهاء مفعول به وقومها عطف على الهاء أو
191
مفعول معه وجملة يسجدون حال من مفعولها وما عطف عليه وللشمس متعلقان بيسجدون ومن دون الله حال. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) الواو حرف عطف وزين فعل ماض ولهم متعلقان به والشيطان فاعله وأعمالهم مفعوله فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يهتدون خبر. (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجب حذف النون في الرسم اتباعا لسنة المصحف وأن هي حرف مصدري ونصب ولا زائدة والمعنى أن يسجدوا، وهذا المصدر المؤول معمول لقوله لا يهتدون لكن بنزع الخافض وهو الى والمعنى فهم لا يهتدون الى السجود وعلى هذا الإعراب لا يصح الوقوف على يهتدون، ويجوز أن يكون المصدر بدلا من أعمالهم والتقدير وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود، ويجوز أن يكون بدلا من السبيل، وقرئ بتخفيف ألا فهي حرف تنبيه واستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف واسجدوا فعل أمر فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يا اسجدوا ولكن الصحابة أسقطوا ألف يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطا لما سقطت لفظا ووصلوا يا بسين اسجدوا فصارت صورته يسجدوا كما ترى فاتحدت القراءتان لفظا وخطا واختلفتا تقديرا وسيأتي بحث اختلاف النحويين في «يا» الداخلة على فعل أو حرف في باب الفوائد. ولله متعلقان بيسجدوا والذي موصول نعت لله وجملة يخرج الخبء صلة وفي السموات والأرض متعلقان بالخبء أي المخبوء في السموات أو بيخرج على أن «في» بمعنى «من» أي يخرجه من السموات والأرض. (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) ويعلم عطف على يخرج فهو داخل في حيز الصلة وفاعل يعلم ضمير مستتر يعود على الله وما موصول مفعول به وجملة تخفون صلة وما تعلنون عطف على
192
ما تخفون. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) كلام مستأنف مسوق للثناء على عرش الله العظيم بعد الالماع الى عرش بلقيس وبينهما بون عظيم.
البلاغة:
جناس التصريف:
في قوله «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» جناس التصريف وهو اختلاف صيغة الكلمتين بابدال حرف من حرف إما من مخرجه أو من قريب من مخرجه وهو من محاسن الكلام المتعلقة باللفظ شريطة أن يأتي جاريا مع الطبع بعيدا عن التكلف محتفظا بصحة المعنى، ولقد جاء هنا زائدا على الصحة فحسن ورقّ، ألا ترى أنه لو قال بخبر بدلا من بنبإ لصح المعنى واستقام، ولكنه جاء منغوما عذب الجرس لاتفاق سبأ ونبأ وقد تقدم مثله في قوله بسورة الانعام «وهم ينهون عنه وينأون عنه».
الفوائد:
١- قصة سليمان والهدهد:
وجريا على عادتنا نورد إحدى الروايات المذكورة عن قصة سليمان والهدهد لما فيها من جذور قصصية وتمهيدا للنابغين الملهمين من كتاب القصص:
روي أن سليمان حين فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج
193
بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كلّ يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير الى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فنزل ليتغدى ويصلي فلم يجدوا الماء وكان الهدهد قناقنه أي دليله الهادي وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا آخر واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد وتحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليّ به فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر الى الدنيا كالقصعة ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا فانقضّ العقاب يريده وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال بحق الذي قواك وأقدرك إلا ما رحمتني فتركه وقال ويلك ثكلتك أمك، إن نبيّ الله قد حلف ليعذبنك قال:
وما استثنى نبي الله؟ قال بلى قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال:
نجوت إذن، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض متواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه اليه فقال:
يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد: أحطت بما لم تحط به إلخ...
نكتة بيانية:
قال الزمخشري: «فإن قلت قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه
194
على فعليه لا مقال فيه ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ومن أين درى أنه يأتي بسلطان حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه الى قولك ليكونن أحد الأمور، يعني إن كان الإتيان بسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا ادعاء دراية».
٢- من هي بلقيس؟:
أما بلقيس فهي ابنة شراحيل بن أبي سرح بن الحارث بن قيس ابن صيغي بن سبأ وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك وستأتي قصتها وذكر الحريري في درة الغواص:
ان صواب لفظ بلقيس أن تكسر باؤه لأن كل أعجمي يعرب فقياسه أن يلحق بأمثلة كلام العرب وعلى ذلك بلقيس، وفي أخبار سيف الدولة ان الخالديين مدحاه فبعث إليهما وصيفا ووصيفة مع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر والشام فكتبا اليه:
195
هذا ولم تقنع بذاك وهذه... حتى بعثت المال وهو
نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة... وأتى على ظهر الوصيف ا
لكيس وكسوتنا مما أجادت حوكه... مصر وزادت حسنه
تنيس فغدا لنا من جودك المأكول وال... مشروب والمنكوح والملبوس
فلما قرأها سيف الدولة قال: أحسنا إلا في لفظ المنكوح إذ لبست مما يخاطب بها الملوك. هذا وقد كانت قصة بلقيس وصرحها الممرد مصدر إلهام للشعراء، فقد أورد البحتري ذلك كله في قصيدة له يمدح بها المتوكل ويذكر بناء البركة المشهورة ومنها:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها... والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رتبتها... تعدّ واحدة والبحر ثانيها
كأن جن سليمان الذين ولوا... إبداعها فأدقوا في معانيها
196
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمسا وبدرا أشرقت بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشنأ أتانا، وهو حسنا يوسف وغزالة هي بهجة، بلقيس
فلو تمر بها بلقيس عن عرض قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها
٣- سجدات القرآن:
وعلى ذكر قوله «ألّا يسجدوا لله» أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وانما اختلفا في سجدة «ص» فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة وعند الشافعي سجدة شكر وفي سجدتي سورة الحج.
٤- قصة سيل العرم وتفرق العرب أيادي سبا:
ونورد هنا بعض الأساطير المروية للطرافة والفائدة:
وسبأ هو أبو قبائل اليمن المتفرقة من سد مأرب الذين مزقهم الله كلّ ممزّق وسمي سبأ لأنه أول من سبى السبي وقيل سبأ اسم أمهم ومأرب اسم بلدهم، وكانت سبأ من أحسن بلاد الله وأخصبها وأكثرها شجرا وماء وقد ذكر الله أنها كانت جنتين عن يمين وشمال وكانت مسيرة شهر في شهر للمجدّ الراكب يسير في جنان من أولها إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء، فمكثوا ما شاء الله لا يعاندهم ملك إلا قصموه، وكانت في بدء الزمان تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل مملكته فشاورهم في دفع السيل فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤديه الى البحر فحشد أهل مملكته حتى صرف الماء واتخذ سدا في موضع جريان الماء من الجبال ورصفه بالحجارة والحديد وجعل فيه مجاري للماء في استدارة
197
الذراع فإذا جاء السيل تصرف في المجاري الى جناتهم ومزروعاتهم بتقدير يعمهم نفعه، وذكر الأعشى في شعره أن حميرا بنته فقال:
رخام بنته لهم حمير... إذا جاء ماؤهم لم يرم
وأروى الزروع وأعنابهم... على سعة ماؤهم قد قسم
فعاشوا بذلك في غبطة... فحاق بهم جارف منهدم
ولما انتهى الملك الى عمرو بن عامر مزيقياء وسمي بذلك لأنه كان يمزق كل ليلة حلة كبرا من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره وقيل سمي بذلك لأنه مزق الأزد في البلاد، وكان أخوه عمران كاهنا فأتته كاهنة تدعى ظريفة فأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته، فجمع أهل مأرب وعمل لهم طعاما فأخبرهم بشأن السيل فأجمعوا على الجلاء فقال لهم عمران أخوه إني أصف لكم بلدانا فاختاروا أيتها شئتم فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل غير شرود فليلحق بالشعب من كرود فلحق به همدان ثم قال ومن كان منكم ذا سياسة، وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فلحقت به خزاعة ثم قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فنزلها الأوس والخزرج ثم قال ومن كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير وهي من أرض الشام فنزلها غسان ثم قال ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق والذهب والأوراق فليلحق بالعراق فلحق بها مالك بن فهم بن الأزد وتخلف مالك بن اليمان في قومه حتى أخرجهم السيل فنزلوا نجران وانتسبوا الى مذحج ودخلت جماعة منهم الى معد فأخرجتهم معد بعد
198
حروب فنزلوا بجبال الشراة على تخوم الشام فلما تفرقت البلاد هذا التفرق ضربت العرب بهم المثل فقالوا ذهبوا أيدي سبا وأيادي سبا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
اللغة:
(أَفْتُونِي) : أشيروا عليّ والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتا في السنّ والمراد بالفتوى هاهنا الاشارة عليها بما عندهم كما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. وفي الأساس: «وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا، وتفاتوا إليه: تحاكموا، قال الطرماح:
199
وقال عمر بن أبي ربيعة:
هلمّ إلى قضاة الغوث فاسأل برهطك والبيان لدى القضاة
أنخ بفناء أشدق من عديّ ومن جرم وهم أهل التفاتي
فبتّ أفاتيها فلا هي ترعوي بجود ولا تبدي إباء فتبخلا
أي أسائلها».
هذا ويجوز ضم الفاء وفتحها كما جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة قال: «قالوا: فتوى وفتيا وبقوى وبقيا وثنوى وثنيا ورعوى ورعيا».
(أُولُوا قُوَّةٍ) : اسم جمع بمعنى أصحاب، والواحد ذو بمعنى صاحب وقيل جمع ذو على غير لفظه وقد تقدم أنها من الملحقات بجمع المذكر السالم والمؤنث أولات وواحدتها ذات تقول: جاء أولو العلم وأولات الفضل.
الإعراب:
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ عن حكاية الهدهد وجملة سننظر مقول القول والهمزة للاستفهام وصدقت فعل وفاعل وأم متصلة معادلة للهمزة وكان واسمها ومن الكاذبين خبرها وعدل عن الفعل المطابق لما قبله الى الاسم لنكتة بلاغية تقدمت الاشارة إليها أكثر من مرة. وهي جعله واحد من الفئة الموسومة بالكذب. (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) لا بد من تقدير كلام محذوف لتتناسق حوادث القصة أي ثم دلهم على الماء فاستخرجوه وارتووا وتوضئوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابا هذه صورته: من عبد الله
200
سليمان الى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: اذهب، فالجملة مقول قول محذوف، واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبكتابي متعلقان باذهب وهذا نعت لكتابي أو بدل منه، فألقه الفاء عاطفة وألقه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وأنهم متعلقان بألفه ثم حرف عطف وتول فعل أمر على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بمحذوف حال أي متجاوزا إياهم الى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر عطف على تول، وماذا يرجعون: في هذا التعبير وجهان:
أولهما: أن تكون انظر بمعنى تأمل وتفكر فتكون ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم ليرجعون تقديره أي شيء يرجعون، أو تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبر ما وجملة يرجعون صلة ذا والعائد محذوف تقديره أي شيء الذي يرجعونه، وعلى كلا التقديرين فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل وهو انظر بالاستفهام فمحلها النصب على نزع الخافض أي انظر في كذا وفكر فيه.
وثانيهما: أن تكون انظر بمعنى انتظر من قوله تعالى: «انظرونا نقتبس من نوركم» فتكون ماذا كلها اسم موصول وهو أحد أوجه ماذا التي ستأتي في باب الفوائد وهي مفعول به أي انتظر الذي يرجعونه وجملة يرجعون صلة والعائد محذوف كما تقدم والمعنى ماذا يردون من الجواب أو ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول.
201
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لا بد من تقدير كلام محذوف روعي في حذفه الإيجاز وتقديره كما قال مقاتل: «حمل الهدهد الكتاب بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها وسيأتي مزيد من الروايات في تقدير هذا المحذوف.
وإني إن واسمها وجملة ألقى خبرها وإليّ متعلقان بألقي وكتاب نائب فاعل وكريم صفة وسيأتي سر هذا الوصف في باب البلاغة.
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر كأنهم قالوا ممن هو؟ وما هي منطوياته؟
فقالت أنه من سليمان وان واسمها ومن سليمان خبرها وانه الواو عاطفة وان واسمها وجملة البسملة خبرها وقد تقدم اعراب البسملة في صدر هذا الكتاب. (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أن مفسرة والمفسر كتاب لتضمنه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعليّ متعلقان بتعلوا ويجوز أن تكون أن مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من كتاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي مضمونه أن لا تعلوا أو في محل نصب بنزع الخافض أي بأن لا تعلوا، وأتوني الواو عاطفة وائتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلمين حال. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية
202
والياء مفعول به وفي أمري متعلقان بأفتوني. (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ما نافية وكنت قاطعة كان واسمها وخبرها وأمرا مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتشهدون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وعلامة نصب حذف النون والنون الموجودة نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) جملة نحن مقول القول ونحن مبتدأ وأولو خبر وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقوة مضاف اليه وأولو بأس شديد عطف على ما تقدم. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) الواو حرف عطف والأمر مبتدأ وإليك خبر أي موكول إليك ونحن مطيعون لك، فانظري الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر كأنما تصوروا أنها قد تكون راغبة في القتال أو أنهم راغبون فيه فإن أردت ذلك وعزمت على خوض الحرب فنحن أبناء بجدتها وانظري أي فكري وماذا اسم استفهام وقد تقدم اعرابها وستأتي وجوهها وهي هنا في محل نصب مفعول مقدم لتأمرين والاستفهام معلق للنظر.
البلاغة:
في هذه المحاورة التي جرت بين بلقيس وبين الملأ من قومها وفي الوصف لكتاب سليمان بعد ذكر العنوان والتسمية فنون عديدة نورد أهمها فيما يلي:
١- الاشارة:
وهذا الفن سبقت إليه الاشارة في هذا الكتاب وقد فرعه قدامة
203
من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه فقال: هو أن يكون اللفظ القليل دالا على المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة الى أشياء كثيرة، والفرق بينه وبين الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له وألفاظ الإشارة لمحة خاطفة دالة، فدلالة اللفظ بالإيجاز دلالة مطابقة ودلالة اللفظ في الاشارة إما دلالة تضمن أو دلالة التزام، والدلالة هنا دلالة تضمن، فقد وصفت كتاب سليمان بالكرم لأنه من عند ملك كريم أو لأنه مختوم، وفي الحديث عنه ﷺ أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وعن ابن المقفع من كتب الى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به.
وروي أنها كانت راقدة وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل الهدهد من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وقالت لقومها ما قالت.
٢- الإيجاز:
في قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» إيجاز عجيب فهو أولا يدل على تعظيم المشورة وتعظيم بلقيس أمر المستشار، وهو ثانيا يدل على تعظيمهم أمرها وطاعتها وفي قولهم «والأمر إليك» وقولهم «فانظري ماذا تأمرين» إيجاز يسكر الألباب، قال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني
204
في كتابه إعجاز القرآن: «فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه» الى أن يقول: «وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد وإذا اختصر كمل في بابه وجاد وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى».
الفوائد:
عقد ابن هشام في المغني فصلا ل «ماذا» نلخصه فيما يلي ونعرب أمثلته:
تأتي ماذا في العربية على أوجه:
١- أن تكون ما استفهامية وذا اشارة نحو ماذا التواني؟ ماذا الوقوف؟ فما اسم استفهام مبتدأ وذا خبر والتواني بدل أو عطف بيان أي: أي شيء هذا التواني؟
٢- أن تكون ما استفهامية وذا موصولة كقول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
فما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة يحاول صلة والهمزة للاستفهام ونحب بدل من ما.
205
٣- أن يكون ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت وقوله:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم لا يستفقن الى الديرين تحنانا
فماذا اسم استفهام مركب مبتدأ وبال نسوتكم خبر.
٤- أن يكون ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا بمعنى الذي على خلاف تخريج قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه ولكن بالمغيّب نبئيني
فالجمهور على أن ماذا كله مفعول دعي ثم اختلف فقيل موصول بمعنى الذي وقيل نكرة بمعنى شيء وهناك وجهان ذكرهما ابن هشام ولم نر حاجة إليهما لأنهما لا يقعان في فصيح الكلام.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
206
الإعراب:
(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) كلام مستأنف مسوق للرد على مستشاريها أي لم ترض بما أشاروا به وهو خوض الحرب بل مالت للسلام وعقد الصلح وعللت ذلك بقولها إن الملوك... وكأنها تلمع لهم بسوء مغبة الحرب وعواقبها المخيفة وآثارها الكثيرة.
فإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرية مفعول به على السعة وجملة أفسدوها جواب شرط غير جازم لا محل لها وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل وأعزة أهلها مفعول جعلوا الأول وأذلة مفعول جعلوا الثاني وكذلك الواو عاطفة لأن ذلك من جملة كلامها وكذلك نعت لمصدر محذوف تقدمت له نظائر، أرادت هذه عاداتهم المستمرة وديدنهم الثابت. (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) ان واسمها ومرسلة خبرها وإليهم متعلقان بمرسلة وبهدية متعلقان بمرسلة أيضا فناظرة عطف على مرسلة وبم الباء حرف جر وما الاستفهامية المحذوف ألفها في محل جر بالباء والجار والمجرور بيرجع ولا يجوز تعلقها بناظرة كما أعربها الحوفي لأن الاستفهام له الصدر، فلا يعمل ما قبله فيه وإلا خرج عما ثبت له، وللمفسرين كلام طويل في هذه الهدية لا يحتمل ذكرها صدر هذا الكتاب، ويرجع المرسلون فعل وفاعل والجملة مفعول به لناظرة.
207
(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) الفاء عاطفة على محذوف لا بد من تقديره فأعدت الهدية مع رسول بكتاب وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاء سليمان فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو أي الرسول وسليمان مفعول به وجملة قال لا محل لها والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتمدونن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به وبمال متعلقان بتمدونن أي تعاونونني بالمال. (فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) الفاء حرف تعليل لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه إياهم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتاني صلة وآتاني الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وخير خبر ما وبل حرف إضراب انتقالي لبيان السبب الذي حداهم الى إمداده بالمال وأنتم مبتدأ وبهديتكم متعلقان بتفرحون وجملة تفرحون خبر. (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) الخطاب لأمير الوفد وارجع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإليهم متعلقان بارجع وقيل الخطاب للهدهد محملا إياه رسالة أخرى والفاء استئنافية واللام موطئة للقسم ونأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والميم علامة جمع الذكور وبجنود متعلقان بنأتينهم ولا نافية للجنس وقبل اسمها المبني ولهم خبر وبها متعلقان بقبل لتضمنه معنى المصدر لأن حقيقته المقابلة والمقاومة، يقال: مالي به قبل أي طاقة ويقال لي قبل فلان دين أي عنده، وأتاني من قبله أي من
208
عنده، فتكون بمعنى المصدر وبمعنى الظرف. (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ولنخرجنهم عطف على فلنأتينهم ومنها متعلقان بنخرجنهم والضمير يعود الى سبأ أي بلادهم وأذلة حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وصاغرون خبر والجملة حال ثانية من الهاء في لنخرجنهم.
البلاغة:
الإيجاز:
في هذه الآيات إيجاز بليغ يحسن بنا أن تتدبره لأن المدار فيه على المعاني دون الألفاظ فرب لفظ قليل ينطوي على معنى كثير وقد تقدم معنا أن الإيجاز قسمان أحدهما إيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد وإيجاز بالقصر، وفي هذه الآيات إيجاز بالحذف وهو قوله «بم يرجع المرسلون» ثم قوله «فلما جاء سليمان» فقد حذف هنا ما لو أظهر لظهر الكلام غثا لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن، لأن الخاطر قد يذهب كل مذهب، وقد يترك العنان للخيال ليجول في آفاق لا نهاية لها ليتصور الهدية التي أعدتها مما يتولى الشرح إظهاره. فقد روي أن بلقيس كانت امرأة عاقلة لبيبة قد ساست الأمور، وسبرت أغوار الناس وكانت تعرف أن سليمان لو كان نبيا لترفع عن أخذ الهدية ولو كان ملكا لأخذها، فأحبت أن تتأكد من هذه المسألة، وروي أيضا أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ومحلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك أي إناث الخيل في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا
209
بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وبعثت رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنّك أمره وان رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان بما تم فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب فربطوها عن يمين الميدان ويساره وأمر أولاد الجن وهم خلق كثير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ثم رد الهدية وقال للمنذر ارجع إليهم، فقالت هو نبي وما لنا به من طاقة وتجهزت الى المسير الى سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثنى عشر ألف قيل أي ملك وهو بفتح القاف سمي قيلا لأنه ينفد كل ما يقول، الى أن قربت منه على فرسخ فشعر بها.
هذا والهدية اسم المهدى كما أن العطية اسم المعطى فتضاف الى المهدي والمهدى اليه، تقول هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت اليه والمضاف اليه في قوله «بل أنتم بهديتكم» هو المهدى اليه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
210
اللغة:
(عِفْرِيتٌ) : العفريت: الخبيث المنكر والنافذ في الأمر مع دهاء وذلك من الانس والجن والشياطين وجمعه عفاريت ومؤنثه عفريتة والعفرية مثله وقد قرئ به ويقال رجل عفرية وعفر وعفير إذا كان صحيحا شديدا مونق الخلق أخذ من عفر الأرض وهو التراب أي من علق به من عفره بالأرض، ومنه ليث عفرين أي ليث ليوث معفر لفريسته، قال الخليل، رجل عفار بين العفارة إذا وصف بالشيطنة،
211
والعفير أيضا الظريف الكيس، ويقال للشيطان عفريت وعفرية وفي الحديث «إن الله ليبغض العفريت النفريت» قيل هو الجموع المنوع وقال أبو عثمان النهدي دخل رجل عظيم على النبي ﷺ فقال له: متى عهدك بالحمى قال: ما أعرفها قال فبالصداع قال:
ما أدري ما هو قال: أفأصبت بمالك قال لا قال: أفرزئت بولدك قال لا فقال النبي ﷺ ان الله ليبغض العفريت النفريت وهو الذي لا يرزأ.
لصَّرْحَ)
: قال في الكشاف: الصرح: «القصر وقيل صحن الدار» وأصله من التصريح وهو الكشف، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف، ولؤم صراح، ولبن صريح أي ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح من عرب صرحاء: غير هجناء، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحة: مجاهرة، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، قال الطرماح في وصف ذئب:
إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح
ُمَرَّدٌ)
: الممرّد: المملّس وسيأتي سر بنائه في باب الفوائد ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم وجود الشعر به وفي القاموس:
«التمريد في البناء التمليس والتسوية وبناء ممرد: مطول والمارد المرتفع والعاتي».
َوارِيرَ)
: في المصباح: «القارورة إناء من زجاج والجمع القوارير والقارورة أيضا وعاء الرطب والتمر وهي القوصرة وتطلق
212
القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها، قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة» وفي القاموس «والقارورة حدقة العين وما قر فيه الشراب أو نحوه أو يخصّ بالزجاج، وقوارير من فضة أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج».
الإعراب:
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فاعل قال سليمان والخطاب لكل من هو عنده من الجن والانس وغيرهما، وأيكم مبتدأ وجملة يأتيني بعرشها خبر والظرف متعلق بيأتيني أيضا وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف اليه ومسلمين حال.
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال فعل ماض وعفريت فاعل ومن الجن صفة وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والظرف متعلق بآتيك ومن مقامك متعلق بتقوم أي قبل أن تبارح مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من الغداة الى منتصف النهار.
(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الواو عاطفة وان واسمها وعليه متعلقان بقوي واللام المزحلقة وقوي خبر وأمين خبر ثان أي قوي على حمله أمين به لا أختلس منه شيئا ولا أعبث به. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لا بد من تقدير محذوف على طريق الإيجاز كما تقدم وهو قال سليمان أريد أن يتم ذلك في أسرع وقت. وقال فعل ماض والذي فاعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر ومن الكتاب صفة لعلم والجملة صلة الموصول وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والجملة مقول القول وتقدم اعراب الباقي وسيأتي معنى ارتداد الطرف في باب البلاغة. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا
213
عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)
الفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام ويروى أن آصف بن برخيا وهو الذي عنده علم من الكتاب المنزل قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف بالعلم الذي لديه فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبغ بمجلس سليمان، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومستقرا حال لأن الرؤية بصرية أي ثابتا والظرف متعلق بمستقرا وجملة قال لا محل لها من الإعراب وهذا مبتدأ ومن فضل ربي خبر.
(لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) اللام للتعليل ويبلوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعل يبلوني يعود على ربي والياء مفعول وأ أشكر الهمزة للاستفهام وأشكر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وجملة أأشكر بدل من الياء في يبلوني فهو بمثابة المفعول به وأم أكفر عطف على أأشكر. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشكر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر اسم ان أي فإن ثواب شكره، ولنفسه هو الخبر وفعل الشرط وجوابه خبر من ومن كفر فإن ربي غني كريم جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الاعراب. (قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) نكروا فعل أمر والواو فاعل ولها متعلقان ينكروا وعرشها مفعول به أي غيّروه، وننظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف وجملة أتهتدي في محل نصب على المفعولية لأن الاستفهام علق ننظر عن العمل
214
وأم حرف عطف معادلة للهمزة وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على أتهتدي واسمها مستتر تقديره هي ومن الذين خبر تكون وجملة لا يهتدون صلة الذين. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) الفاء عاطفة على محذوف اقتضاه الإيجاز كما تقدم، أهكذا: الهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه والكاف حرف جر للتشبيه وذا اسم اشارة في محل جر بالكاف والجار والمجرور خبر مقدم وعرشك مبتدأ مؤخر، والأصل اتصال هاء التنبيه باسم الاشارة فكان مقتضاه أن يقال أكهذا عرشك؟ وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر كافا، فلو قلت أبهذا أمرت أو ألهذا فعلت؟ لم يجز فيه ذلك الفصل، فلا يجوز أن تقول أها بذا أمرت، وأ ها لذا فعلت؟ وسيأتي السر في الإتيان بكاف التشبيه وعدم الاكتفاء بالقول أهذا عرشك في باب البلاغة. قالت: فعل وفاعل مستتر تقديره هي يعود على بلقيس وكأنه هو وكأن واسمها والضمير هو خبرها وسيأتي السر في عدولها عن مطابقة الجواب للسؤال في باب البلاغة أيضا.
(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) الواو عاطفة على كلام محذوف للايجاز أي لما سمعوا قولها كأنه هو قالوا أصابت في الجواب فقال سليمان: وأوتينا وهو فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب الفاعل والعلم مفعول أوتينا الثاني ومن قبلها متعلقان بأوتينا وكنا الواو عاطفة وكان واسمها ومسلمين خبرها، ويحتمل أن يكون وأوتينا من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة التي دل عليها سياق الكلام والمعنى وأوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة والأول أرجح.
215
(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) من جملة كلام سليمان أو من كلام الله، وصدها فعل ماض ومفعول به وما موصول فاعل وجملة كانت صلة واسم كانت مستتر تقديره هي وجملة تعبد خبر ومن دون الله حال ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وصدّها عبادة الشمس عن الإسلام وجملة إنها تعليل للصد عن الإسلام وعبادة غير الله، وان واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت هي ومن قوم خبرها وكافرين صفة وقرئ أنها بالفتح على انه بدل من فاعل صدها أو نصب بنزع الخافض. ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)
قيل فعل ماض مبني للمجهول والجملة مستأنفة وجملة ادخلي الصرح مقول القول والصرح مفعول به على السعة وستأتي قصة الصرح في باب الفوائد. َلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها)
الفاء عاطفة على محذوف للايجاز أي فدخلته، لما حينية أو رابطة وجملة حسبته لا محل لها والهاء مفعول به أول ولجة مفعول به ثان وكشفت عن ساقيها عطف على حسبته. الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)
إن واسمها وصرح خبرها وممرد صفة ومن قوارير صفة ثانية أي إن الذي ظننته ماء فوقه هو صرح ممرد أي مسقف بسطح فمن أراد مجاوزته لم يحتج الى تشمير ثيابه. الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
رب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وان واسمها وجملة ظلمت نفسي خبرها وأسلمت عطف على ظلمت ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنة مع سليمان وإنما قدر حالا لأن تعليقه بأسلمت يوهم اتحاد اسلاميهما في الزمان، ولله متعلقان بأسلمت ورب العالمين بدل من الله أو صفة له.
216
البلاغة:
١- الكناية في ارتداد الطرف:
في قوله: «قبل أن يرتد إليك طرفك» كناية عن الاسراع، والطرف هو تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد وعليه قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقبلك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لاكله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وهذان البيتان لأعرابية نظرها أعرابي فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها كأنه يراودها عن نفسها فأجابته بذلك وقيل هو لشاعر حماسي، وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب على طريق الاستعارة التصريحية ورائدا ترشيح للاستعارة ويوما ظرف له.
٢- السر في التشبيه:
وفي قوله «كأنه هو» تشبيه مرسل عدلت إليه عن مقتضى السؤال، ومقتضاه أن تقول: هو هو لسر دقيق جدا وذلك ان «كأنه» عبارة من قرب الشبه عنده حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين فكاد يقول هو هو،
217
وتلك حال بلقيس ولما كانت هكذا هو عبارة جازم بتغاير الامرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلهذا عدلت الى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها.
٣- التجنيس:
وهو تآلف الكلمتين في تأليف حروفهما وهو هنا في قوله «وأسلمت مع سليمان».
الفوائد:
١- قصة الصرح:
هذا ونلخص ما يروى من قصة الصرح لانها قصة شعرية مجنحة الخيال فقد روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد إغراقها وتعجبت من كون كرسيه على الماء ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها والمقصود من ذلك كله اختبار عقلها وارهاصها بالمعاجز لا ما يروى انه قيل له انها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار مما لا يتلاءم ووقار النبوة وترفعها عن الصغائر.
٢- هل تزوج سليمان بلقيس؟:
قيل تزوجها بعد ذلك وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له، وقيل بل زوجها ذاتبع من ملوك اليمن ويقال لهم الأذواء لأن أعلامهم تصدر بكلمة (ذو) والمراد صاحب هذا الاسم.
218

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
اللغة:
(اطَّيَّرْنا) : وتطيرنا: تشاءمنا والطائر هنا: ما تيمنت به أو نشاءمت والمقصود هنا الثاني، كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير أو الشر الى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته أو من عمل العبد، وقد مر هذا في سورة الأعراف فجدد به عهدا.
219
(الْمَدِينَةِ) : البلد من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا قام فيه فهي فعلية والجمع مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من دان يدين فالميم زائدة والياء أصلية وهي مفعولة ويقال دنت الرجل ملكته ودنت له خضعت له وأطعت ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة، قال الشاعر:
ثوت وثوى في كرمها ابن مدينة يظل على مسحاته يتوكل
وفي معاجم اللغة: مدن بالمكان يمدن من باب نصر مدونا أقام وهو فعل ممات ومدن المدينة أتاها ومدّن المدائن بالتشديد بناها ومصرها، وتمدّن تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من الهمجية الى حالة الانس والظرف، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال ومدن بضمها ومدائن، والمدينة علم أطلق على يثرب ومدينة السلام بغداد والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها ايوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها والنسبة إليها مدائني.
(رَهْطٍ) : الرهط قوم الرجل وقبيلته وعدد يجمع من الثلاثة الى العشرة وليس فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه وجمعه أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط وأراهيط، وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو عشرون رهطا، أي شخصا، ويقال نحن ذوو رهط أي مجتمعون وفي المصباح «الرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وسكون الهاء أفصح من فتحها وهو جمع لا واحد له من لفظه وقيل الرهط من سبعة الى عشرة وما دون السبعة الى الثلاثة نفر وقال أبو زيد: الرهط والنفر ما دون العشرة من الرجال
220
وقال ثعلب أيضا: الرهط النفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون النساء وقال ابن السكيت:
الرهط والعترة بمعنى ويقال: الرهط ما فوق العشرة الى الأربعين قاله الأصمعي ونقله ابن فارس أيضا ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون» وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الإعراب.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير القصة الثالثة أو الرابعة إذا استقلت قصة النمل عن قصة سليمان وبلقيس، وهي قصة صالح. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل ماض وفاعل والى ثمود متعلقان بأرسلنا وأخاهم مفعول به وصالحا بدل من أخاهم أو عطف بيان وأن مصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ويصح كونها مفسرة لأن الإرسال يتضمن معنى القول واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الفاء عاطفة وإذا فجائية تقدم القول فيها وهم مبتدأ وفريقان خبر وجملة يختصمون نعت لفريقان على المعنى نحو قوله تعالى «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» لأن كل فريق يضم جماعة. (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفه لدخول الجار، والجار والمجرور متعلقان بتستعجلون وبالسيئة متعلقان بتستعجلون وقبل الحسنة ظرف متعلق بمحذوف حال والمراد بالسيئة العذاب وبالحسنة الرحمة كما سيأتي. (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
221
تُرْحَمُونَ)
لولا حرف تحضيض بمعنى هلا وتستغفرون الله فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله ولعلكم ترحمون لعل واسمها والجملة خبرها. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) اطيرنا فعل ماض وفاعل وأصله تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل الى النطق بالساكن لأن المدغم ساكن دائما، وبك متعلقان باطيرنا وبمن عطف على بك ومعك ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من والجملة مقول قولهم.
(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) طائركم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر والجملة مقول قوله وبل حرف إضراب فقد أضرب عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم الى ذكر ما هو الداعي اليه وأنتم مبتدأ وقوم خبر وجملة تفتنون نعت لقوم.
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وفي المدينة جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وتسعة اسمها المتأخر ورهط مضاف اليه وسيأتي بحث تمييز العدد مفصلا في باب الفوائد وجملة يفسدون صفة لتسعة ولا يصلحون عطف على يفسدون، وسيأتي سر قوله ولا يصلحون في باب البلاغة. (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تقاسموا فعل أمر أي احلفوا، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا، ويجوز أن يكون مع فاعله جملة في محل نصب على الحال أي قالوا متقاسمين بإضمار قد والتقاسم والتقسم كالتظاهر والتظهر التحالف، لنبيتنه: اللام واقعة في جواب القسم ونبيتنه من البيات، وقد تقدم معناه في مكان آخر، فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر
222
تقديره نحن والهاء مفعول به أي لنباغتنه ليلا، وأهله الواو عاطفة وأهله معطوف على الهاء ويجوز أن يعرب مفعولا معه فتكون الواو للمعية. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ثم حرف عطف للتراخي واللام موطئة للقسم ونقولن تقدم اعراب مثيلتها ولوليه متعلقان بنقولن أي الذين لهم ولاية دمه، ومهلك مفعول به وهو إما مصدر ميمي أو اسم زمان أو اسم مكان وقرئ بضم الميم وفتح اللام على أنه من الرباعي وأهله مضاف اليه وإنا الواو عاطفة أو حالية وإنا ان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبر إن.
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ومكروا فعل وفاعل ومكرا مفعول مطلق ومكرنا مكرا عطف على الجملة السابقة والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مكرهم المبيت وتآمرهم الدنيء فإن البيات مما يستكره، ويروى عن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال ليس من آيين الملوك استراق الظفر أي من عادته وطرائقه.
وكيف خبر كان المقدم وعاقبة اسم كان المؤخر والجملة في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بانظر المعلقة عن العمل بالاستفهام وإنا جملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إنا وقرئ بفتحها على أن المصدر بدل من العاقبة أو خبر لمبتدأ محذوف وان واسمها وجملة دمرناهم خبرها وأجمعين تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه أي صالح وأهله المؤمنين به وكانوا كما يروى أربعة آلاف.
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها مقررة لها وتلك مبتدأ وبيوتهم خبر
223
وخاوية حال من بيوتهم والعامل فيها معنى الاشارة وبما ظلموا متعلقان بخاوية وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها ولقوم صفة لآية وجملة يعلمون صفة لقوم. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف على آمنوا فهو في حيز الصلة وكان واسمها وخبرها.
البلاغة:
١- التمام أو التتميم:
في قوله «ولا يصلحون» فن التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر وابن رشيق في العمدة وابن عساكر في الصناعتين، أو التتميم كما سماه الحاتمي، وقد تقدم ذكره في البقرة والنحل، ونعيد تعريفه مختصرا هنا وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام فإن قوله «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض» شأنهم الإفساد البحت وقد كانوا كما يروى عتاة غلاظا وهم الذين أشاروا بعقر الناقة لمراغمة صالح وإثارة حفيظته ومنهم قدار بن سالف المشهور بالشؤم وقد تقدم ذكره، ولكن قوله يفسدون في الأرض لا يدفع أن يندر منهم أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم الكلام بقوله «ولا يصلحون» دفعا لتلك العذرة أن تقع أو أن يخالج بعض الأذهان شك في أنها ستقع وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم وحسن حالهم.
224
٢- المشاكلة:
في قوله «ومكروا مكرا ومكرنا مكرا» فن المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لأن الله تقدس عن أن يستعمل في حقه المكر، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة وهو كثير في القرآن ومنه «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» والله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه لفظة النفس، أما مكرهم فهو ما بيتوه لصالح وما انتووه من إهلاكه وأهله، وأما مكر الله فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة الى المشاكلة، فقد شبه الإهلاك بالمكر في كونه إضرارا في الخفاء لأن حقيقة المكر هو الإيقاع بالآخرين قصدا وعن طريق الغدر والحيلة، وقد تقدمت قصة إهلاكهم في الشعب.
الفوائد:
١- تمييز العدد:
مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما إن كان اسم جنس وهو ما يفرق بينه وبين مفرده بالتاء كشجر وتمر، أو اسم جمع وهو ما دل على الجمع وليس له مفرد من لفظه كقوم ورهط جرّ بمن، تقول ثلاثة من التمر أكلتها وعشرة من القوم لقيتهم وتسعة من الرهط صحبتهم، قال تعالى:
«فخذ أربعة من الطير» وقد يجر بإضافة العدد إليه فاسم الجمع نحو الآية المتقدمة «وكان في المدينة تسعة رهط» وفي الحديث: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» وقال الشاعر:
225
والذود من الإبل ما بين الثلاث الى العشرة وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كما في الصحاح، والأنفس جمع نفس وهي مؤنثة وإنما أنّث عددها وكان القياس تذكيره لأن النفس كثر استعمالها مقصودا بها الإنسان، أما اسم الجنس فكقول جندل بن المثنى:
ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد جار الزمان على عيالي
كأن خصييه من التدلدل ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
فحنظل اسم جنس مجرور بالاضافة على حد تسعة رهط، هذا ويروي بدل التدلدل التهدل وهو أولى ويروى سحق جراب وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب حتى يكون في ظرفها ما تتزين به والبيت من أقذع الهجاء.
وان كان مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما جمعا جر باضافة العدد اليه نحو ثلاثة رجال وثلاث إماء، ويعتبر التذكير والتأنيث مع اسمي الجمع والجنس بحسب حالهما باعتبار عود الضمير عليهما تذكيرا وتأنيثا فيعطى العدد عكس ما يستحقه ضميرهما، فإن كان ضميرهما مذكرا أنث العدد وإن كان مؤنثا ذكر، فتقول في اسم الجنس ثلاثة من الغنم عندي بالتاء في ثلاثة لانك تقول غنم كثير بالتذكير للضمير المستتر في كثير، وروى صاحب المصباح أنه يجوز في غنم تذكير ضميره وتأنيثه، وثلاث من البط بترك التاء من ثلاث لأنك تقول بط كثيرة بالتأنيث للضمير المستتر في كثير، وثلاثة أو ثلاث من البقر لأن ضمير البقر يجوز فيه التذكير والتأنيث وذلك أن في البقر لغتين التذكير والتأنيث، قال الله تعالى: «إن البقر تشابه علينا» بتذكير الضمير وقرئ تشابهت بتأنيثه، وأما اسم الجمع فحكمه حكم المذكر إن كان لمن يعقل كالقوم
226
والرهط والنفر وان كان لما لا يعقل فحكمه حكم المؤنث كالجامل والباقر. هذا ما ذكره النحاة ولكن فيه نظرا لأن نسوة اسم جمع وحكمه حكم المؤنث باتفاق فيقال ثلاث نسوة، والتذكير والتأنيث مع الجمع يعتبران بحال مفرده فان كان مفرده مذكرا أنث عدده وإن كان مؤنثا ذكر عدده فلذلك تقول ثلاثة اصطبلات جمع إصطبل بقطع الهمزة المكسورة وثلاثة حمامات لأن الاصطبل والحمام مذكران، وتقول ثلاث سحابات بترك التاء اعتبارا بالسحابة فهي مؤنثة ولا يعتبر من حال الواحد حال لفظه حتى يقال ثلاث طلحات بترك التاء، ولا يعتبر حال معناه حتى يقال ثلاث أشخص بتركها أيضا يريد نسوة لأن الشخص يقع على المذكر والمؤنث، بل ينظر الى ما يستحقه المفرد باعتبار ضميره فيعكس حكمه في العدد فأما قول عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فضرورة وكان القياس فيه ثلاثة شخوص بالتاء ولكنه كنى بالشخوص عن النساء والذي سهل ذلك قوله: «كاعبان ومعصر» فاتصل اللفظ بما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث، والكاعب الجارية حين يبدو ثديها للنهود، والمعصر بضم الميم وكسر الصاد الجارية أول ما أدركت سميت بذلك لكونها دخلت في عصر الشباب كما قال الخليل.
هذا وقد جمح بنا عنان القول فحسبنا ما تقدم أوردناه لاهميته وفائدته ولا بد من الرجوع الى المطولات لمن أراد المزيد.
227
٢- اعلم أنهم قد كسروا شيئا من الأسماء لا على الواحد المستعمل بل نحملوا لفظا آخر مرادفا له فكسروه على ما لم يستعمل فمن ذلك رهط وأراهط قال الشاعر:
يا بؤس للحرب التي... وضعت أراهط فاستراحوا
وليس القياس في رهط أن يجمع على أراهط لأن هذا البناء من جموع الرباعي وما كان على عدته نحو جعفر وجعافر وجدول وجداول وأرنب وأرانب. وليس أرهط بجمع رهط إذ لو كان كذلك لم يكن شاذا ويدل على ذلك أن الشاعر قد جاء به لما احتاج اليه قال:
وفاضح مفتضح في أرهطه... من أرفع الوادي ولا من بعثطه
والبعثط والبعثوط: سرّة الوادي وخير موضع فيه.
هذا وقد اختلف النحويون في أراهط، فزعم قوم منهم أنه جمع أرهط الذي هو جمع رهط وهو النفر من ثلاثة الى عشرة، وزعم أكثر النحويين أن أراهط جمع رهط على خلاف القياس. والبيت مطلع قصيدة لسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد الشاعر وبعده:
والحرب لا يبقى لجا... حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في النّ... نجدات والفرس الوقاح
والنثرة الحصداء وال...... بيض المكلّل والرماح
وتساقط الأوشاظ والذّ... نبات إذ جهد الفضاح
228
والكر بعد الفر إذ... كره التقدم وال
نطاح كشفت لهم عن ساقها... وبدا من الشر الصراح
لفظ الآيين في شعر أبي نواس:
وردت في باب الإعراب كلمة الإسكندر وفيها يقول: ليس من آيين الملوك استراق الظفر، ونحب أن نورد أبياتا لأبي نواس استعمل فيها كلمة الآيين فجاءت خفيفة ظريفة رغم غرابتها، قال أبو نواس يصف ما جرى له في دير نهراذان:
بدير نهراذان لي مجلس... وملعب وسط بساتينه
رحت إليه ومعي قينة... نزوره يوم سعانينه
بكلّ طلاب الهوى فاتك... قد آثر الدنيا على دينه
حتى توافينا الى مجلس... تضحك ألوان رياحينه
والنرجس الغض لدى ورده... والورد قد خفّ بنسرينه
وجيء بالدن على مرفع... وخاتم العلج على طينه
وطاف بالكأس لنا شادن... يدميه مس الكف من لينه
يكاد من اشراق خديه أن... يختطف الابصار من دونه
فلم يزل يسقي ونلهو به... ونأخذ القصف بآيينه
229
حتى غدا السكران من سكره كالميت في بعض أحايينه
فقوله نأخذ القصف بآيينه أي برسومه وقوانينه وشروطه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
الإعراب:
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر القصة الخامسة والأخيرة من قصص السورة، ولوطا مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر أو أرسلنا، فإن جعلته اذكر كانت إذ ظرفا لما مضى من الزمان متعلقا باذكر، وان جعلته أرسلنا كانت إذ بدل اشتمال من لوطا وجملة قال مجرورة بإضافة الظرف إليها، ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون فعل مضارع والواو فاعل والفاحشة مفعول به والجملة مقول القول، وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة تبصرون خبر أنتم والمراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة ومع ذلك
230
تفعلونها. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وكرر التوبيخ زيادة في التقبيح واستسماج هذه الفعلة الشنعاء المخالفة لنواميس الطبيعة، وسيرد في باب الفوائد بحث عن هذه الميول الجنسية الشاذة التي لا يبلغ كنه قبحها، وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون الرجال خبرها وشهوة مفعول لأجله أو حال من الفاعل أو المفعول ومن دون النساء متعلقان بمحذوف حال من الفاعل. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) بل حرف إضراب وأنتم مبتدأ وقوم خبر وتجهلون صفة لقوم. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب قومه خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول في موضع الرفع اسم كان المؤخر وجملة أخرجوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وآل لوط مفعول به ومن قريتكم متعلقان بأخرجوا وإنهم تعليل لإخراجهم وان واسمها وأناس خبرها وجملة يتطهرون صفة أي يتنزهون عن هذا العمل القذر. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على مقدر محذوف يفهم من السياق أي فخرج لوط بأهله من أرضهم بعد أن أحس بمكرهم وكيدهم وتربصهم الدوائر. وأنجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى وجملة قدرناها حال وقدرناها فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الغابرين متعلقان بقدرناها أي الباقين في العذاب. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الواو عاطفة وأمطرنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به، فساء الفاء عاطفة وساء فعل ماض للذم ومطر المنذرين فاعل.
231
الفوائد:
النرجسية والشذوذ الجنسي:
يرجع الفلاسفة المحدثون ظواهر الشذوذ في غرائز الجنس الى النرجسية، ولهذا كان لا بد من أن نشرح هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون:
كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن الى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن واستجابت «نمسي» ربة القصاص والجزاء الى هذا الدعاء فقضت عليه أن يهيم بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته، قال رواة الأساطير: فما هو إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه فوقف عندها يعجب من جمالها وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقا الى الماء ليتملّى تلك الصورة ويرتوي من النظر إليها فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقا ولا تزيده اللهفة إلا هزالا وذبولا حتى فني، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو الى الماء ولا ترفع بصرها الى السماء، فالنرجس أبدا مطرق مفتوح العين لا يشبع من النظر الى خياله على حوافي الجداول والغدران. وهناك روايات أخرى حول هذه الأسطورة تمثل الصدى والحذر والسبات لا تخرج عن هذا الفحوى وتلحق بما تنطوي
232
عليه آفة النرجسية من الغرائز أو من الميول والأحاسيس ولهذا وقع عليها اختيار المحللين النفسيين فلم يجدوا اصطلاحا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في العلوم، وأول من أدخل هذا المصطلح في الطب النفسي الدكتور هافلوك أليس رائد المباحث الجنسية المشهور، ثم توسّع الأطباء النفسيون في دراسة هذه الآفة وتتبعوا أعراضها ولوازمها واستقصوا ما هو من لوازمها الأولية وما هو من لوازمها الثانوية أو التبعية، وتعنينا هنا من شعابها التي تتصل بدراسة المنحرفين شعبتان:
١- تسمى إحداهما الاشتهاء الذاتي.
٢- تسمى ثانيتهما التوثين الذاتي.
فالاشتهاء الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها ويبلغ من اختلال هذه الوظائف أن المصاب به يمني إذا أطال النظر الى بدنه عاريا في المرآة وما إليها وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه ولكنها شهوة يبالغ فيها المريض.
والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنا يعبده ويعزه ويدلله، فلازمة التلبيس والتشخيص لاغنى في الشذوذ الجنسي، وهو عشق الإنسان لذاته من الناحية الشهوية، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي مأربه، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي
233
مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص، فهو يلبس شخصيته شخصا آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محلّ ذاته وكما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة.
هذا ومن المفيد أن يرجع الذي يتوق الى معرفة تطور النظريات في مسائل الجنس الى الكتب المؤلفة في هذا الصدد فهي تلقي أضواء على المشكلة ولكنها لا تحلها، لأنها كلها لم تنته الى تهوين الفوارق بين الجنسين ولا إلى زعم الزاعمين أن الإنسان مزدوج الجنسين مختلط الذكورة والأنوثة بطبيعته، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب العمر من الطفولة الى تمام النمو في الجنسين كما يقول فرويد ومتبعوه.
وقد صور أبو نواس وهو قطب من أقطاب النرجسيين هذه الأطوار خير تمثيل وهو يغشى معاهد الدرس على هذا المثال في عرفه بقوله:
إذا ما وطئ الأمر... د للعلم حصى المسجد
فقل حلّ لنا عقدا... من الفقه واستفسد
فإن كان عروضيا... فقولوا سجد الهدهد
وإن أعجبه النحو... فها ذاك له أجود
وإن مال الى الفقه... فللفقه له أفسد
وان كان كلاميا... فحرّك طرف المقود
وميله الى الخير... فقيه قرب ما يبعد
234
وخذه كيفما شئت- اقتضابا أو على موعد وقل: هذا قضاء الله هل يدفع أو يجحد وانتهى مصرحا:
فيا من وطئ المسجد... من ذي بهجة أغيد
أنا قست على نفسي... فهذا الأمر لا أجحد
وننتهي من هذا البحث وقد كان أمرا لا بد منه وإن لم يكن هذا موضعه.
تصحيح رواية بيت في الكشاف لأبي نواس:
ذكر الزمخشري في كشافه بصدد الحديث عن قوم لوط قال:
«... كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكا في المعصية وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى... فلا خير في اللذات من دونها ستر
وصواب الرواية «وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى»
البيت وهو من قصيدة رائعة أولها:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
235
وبعد البيت:
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة فإن طال هذا عنده قصر العمر
وبعده:
وما الغرم إلا أن تراني صاحيا وما الغرم إلا أن يتعتعني السكر
ولا نمرّ بك دون أن نقف عند البيت الأول فقد قال «وقل لي هي الخمر» وقد يبدو هذا حشوا للوهلة الأولى ولكن القارئ إذا ذكر أن للانسان خمس حواس علم أن أبا نواس قصد أن يشرك حاسة السمع التي تظل محرومة من لذة الخمر حال شربها فطالب ندمانه أن يخاطبه باسمها ليشرك حاسة سمعه وهذا من أعاجيب فطنته.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
236
اللغة:
(حَدائِقَ) : جمع حديقة أي بستان من أحدق بالشيء أحاط به، ولما كان البستان محوطا بالحيطان سمي حديقة وإلا فلا يسمى بها، وفي المصباح: «والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها أي أحاط، ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع الحدائق» وفي الصحاح: «الحديقة: كل بستان عليه حائط» ومن أقوالهم: «ورد عليّ كتابك فتنزهت في آنق رياضه، وبهجة حدائقه».
الإعراب:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) كلام مستأنف مسوق لأمر رسوله ﷺ بحمده تعالى وبالسلام على
237
المصطفين الأخيار من خلقه وكأن هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من البراهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيرد ذكرها وذلك بعد أن فرغ من قصص هذه السور الخمس. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد ليكون نموذجا يتأسى به كل كاتب وخطيب ويحتذى على مثاله في كل علم مفاد، والحمد مبتدأ ولله خبره وسلام مبتدأ سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى عباده خبر والذين صفة لعباده وجملة اصطفى صلة والعائد محذوف أي اصطفاهم وهم المؤمنون المتأهلون للدنيا والآخرة. (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) الهمزة للاستفهام والله مبتدأ وخير خبر وأم عاطفة وما اسم موصول واقع على آلهتهم وجملة يشركون صلة. (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أم منقطعة لفقدان شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام وهي بمعنى بل والإضراب بمعنى التبكيت والتوبيخ ومن مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة وخبر من محذوف تقديره خير أم ما يشركون فيقدر ما أثبت في الاستفهام الأول تعويلا عليه وهذا ما اختاره الزمخشري وهو جميل متناسب مع الكلام، وقال أبو الفضل الرازي:
«لا بد من إضمار جملة معادلة وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه وتقدير تلك الجملة: أمن خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك أخواتها وقد أظهر في غير هذه المواضع ما أضمر فيها كقوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق» ولا نرى خلافا بينا بين الوجهين. وأنزل عطف على خلق ولكم حال ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء عاطفة وأنبتنا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات، وسيأتي في باب البلاغة، وبه متعلقان بأنبتنا وحدائق مفعول به وذات بهجة صفة لحدائق وسوغ إفراده أن المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل.
238
(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الجملة نعت ثان لحدائق أو حال منها لتخصصها بالصفة، وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وتنبتوا فعل مضارع منصوب بأن والواو فاعل وشجرها مفعول. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي وإله مبتدأ وساغ الابتداء به لإفادته بسبب الاستفهام ومع الله ظرف متعلق بمحذوف خبر وبل حرف إضراب معناه التبكيت، وقد تكرر هذا التعبير خمس مرات كما سترى، وهم مبتدأ وقوم خبر وجملة يعدلون صفة. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) تقدم إعراب هذا التركيب فقس عليه، وقرارا مفعول جعل الثاني، وجعل خلالها أنهارا عطف على الجملة الأولى، وخلالها يجوز أن يكون ظرفا لجعل بمعنى خلق المتعدية لواحد وأن يكون في محل المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر وعلى الوجه الأول يكون قرارا حالا. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جملة معطوفة. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم وقد تقدم إعرابها.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) تقدم إعرابها وجملة دعاه في محل جر بإضافة الظرف إليها والمضطر اسم مفعول، وطاؤه أصلها تاء الافتعال. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) تقدم إعرابها، وقليلا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف وما زائدة لتقليل القليل وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والواو فاعل. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تقدم إعرابها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقدم اعرابها أيضا. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تقدم اعرابها أيضا. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ
239
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
إن شرطية وجوابها محذوف تقديره فهاتوا برهانكم، وقد قدمنا أن قوله أإله ذكر خمس مرات وختم الأول بقوله «بل هم يعدلون» وختم الثاني بقوله «بل أكثرهم لا يعلمون» والثالث بقوله: «قليلا ما يذكرون» والرابع بقوله:
«تعالى الله عما يشركون» والخامس بقوله «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».
البلاغة:
الالتفات في قوله: «فأنبتنا به حدائق ذات بهجة» بعد قوله «أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء» فقد انتقل في نقل الإخبار من الغيبة الى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا، والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف وما يبدو فيها من تزاويق الألوان وتحاسين الصور، ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق وهو الله وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها» وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة فقال:
240
هل تاب أبو نواس؟:
هذا ولعلك تعجب من هذه الأبيات تنضح بالإيمان العميق وتصدر عن رجل كأبي نواس لم يظلمه الذين اتهموه ولم تعوزهم الأدلة على اتهامه بالفساد ولكنهم ظلموا الفلسفة فظنوها مدرجة المطلعين عليها الى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا عند أبي نواس ولا مذهب غير المجون وحب الظهور، ولقد كان ابراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بما يسمونه علوم الأوائل وكان أبو نواس يحضر عليه فينهاه عن التبذل ويذكره بالوعيد ويقول له: إن من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه فطرده من مجلسه، فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالابراهيمية ومطلعها مشهور متداول:
تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأنظار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
وفيها يسخر من النظام:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تخطر العفو إن كنت امرأ حرجا فإن خطرك بالدين إزراء
فأبو نواس لم يكن سوى ماجن مستهتر وقد كان المجون في
241
عرف بيئته هو الظرف، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون، فقال له: أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن وإنما المجون ظرف ولست أبعد فيه عن حد الأدب أو أتجاوز مقداره، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله عز وجل وقوله تعالى:
«يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» وقد تلقف أبو نواس أضاليل المرجئة وقولهم:
«لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا» فنادى بذلك ويظهر أنه استهواه:
ترى عندنا ما يسخط الله كله... من العمل المردي الفتى ما خلا الشركا
ثم عدل نظريته بعض الشيء فاكتفى بالقول إن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار ولا تحرمه الرجاء بعفو الله وقوله مشهور في ذلك:
تكثر ما استطعت من الخطايا... فإنك بالغ ربا غفورا
تعض ندامة كفيك مما... تركت مخافة النار السرورا
ومن ذلك قوله:
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر على أنه تاب في أخريات عمره، وقد نستشف من أشعاره التي نظمها في تلك السن المشارفة على النهاية صدق توبته، فقال معترفا بتأخيرها بعد فوات حينها:
دبّ فيّ الفناء سفلا وعلوا... وأراني أموت عضوا فعضوا
242
ذهبت شرّتي وجدة نفسي... وتذكرت طاعة الله
نضوا ليس من ساعة مضت بي إلا... نقصتني بمرها لي
جزوا لهف نفسي على ليال وأيا... م سلكتهن لعبا
ولهوا قد أسأنا كل الإساءة يا... رب فصفحا عنا إلهي وعفوا
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩)
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
الإعراب:
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين والنحاة وخاضوا فيها كثيرا وسنختار هنا أسهل أقوالهم على أن نورد في باب الفوائد جميع ما قيل حولها لما في ذلك من رياضة ممتعة للذهن. والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم وقد سألوه عن وقت قيام الساعة، ف «لا»
243
نافية ويعلم فعل مضارع ومن اسم موصول فاعل يعلم وفي السموات والأرض صلة من، أي لا يعلم الذي ثبت واستقر وسكن في السموات والأرض والغيب مفعول به وإلا أداة استثناء بمعنى لكن اشارة الى أن الاستثناء منقطع والله مبتدأ خبره محذوف تقديره يعلم ويصح أن تكون من في محل نصب مفعول به والغيب بدل اشتمال منها والله فاعل يعلم والمعنى قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى والواو عاطفة وما نافية ويشعرون فعل مضارع وفاعل وأيان اسم استفهام بمعنى متى وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة ليشعرون عن العمل فالجملة المؤلفة منها ومما بعدها في محل نصب بنزع الخافض أي ما يشعرون بذلك. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقال الجلال هي بمعنى هل وهو غريب بالرغم من أن شراح الجلال قالوا ان طريقة الجلال أسهل من الطرق التي سلكها غيره، وادارك فعل ماض أي لحق وتتابع، وأورد الزمخشري اثنتي عشرة قراءة لها، وعلمهم فاعل وفي الآخرة متعلقان بادارك أو بعلمهم وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى لأنه كان حتما كقوله «أتى أمر الله»، بل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ وفي شك خبر ومنها صفة لشك وبل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ ومنها متعلقان بعمون وعمون خبر هم، والعمى هنا عمى القلب، والأصل عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت الى الميم بعد حذف كسرتها.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) الواو للعطف وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الذين والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
244
كنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وترابا خبرها وآباؤنا عطف على اسم كان وسوغ العطف عليه الفصل بالخبر والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة ومخرجون خبر إن والجملة تأكيد للجملة الأولى. (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة تأكيد ثان للجملة السابقة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووعدنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وهذا مفعول به ثان لوعدنا ونحن تأكيد لنا وآباؤنا عطف على الضمير البارز في وعدنا وسوغ العطف تأكيده بالضمير المنفصل والفصل بالمفعول الثاني ومن قبل متعلقان بوعدنا والظرف مبني على الضم لانقطاعه على الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل مجيء محمد من الرسل السابقين، وهنا لا بد من تقدير حذف اقتضاه الإيجاز فلو كان الموعود به حقا لحصل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير خبر هذا والأولين مضاف إليه.
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) سيروا فعل أمر معناه التهديد لهم على التكذيب والتحذير من أن ينزل بهم ما حاق بالمكذبين من قبلهم وفي الأرض متعلقان بسيروا، فانظروا عطف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المجرمين اسم كان المؤخر. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة على قل ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وعليهم متعلقان بتحزن ولا تكن عطف على لا تحزن واسم تكن مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة.
245
الفوائد:
منشأ الاضطراب في هذه الآية أنهم- أي النحاة- أعربوا لفظ الجلالة بدلا من «من» وفي ذلك إبدال المستثنى المنقطع وهي لغة مرجوحة لتميم، ولما كانت القراءة مما اتفق عليه السبعة بالرفع حصل ذلك الاشكال، وفيما ذكرناه أي إعراب لفظ الجلالة مبتدأ مخلص من هذا كله قالوا: «والله مرفوع على البدلية من «من» لأنه تعالى لا يحويه مكان».
وجوز الصفاقسي أن يكون الاستثناء متصلا والظرفية في حقه تعالى مجازية وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز في الظرفية وعلى هذا فيرتفع على البدل أو عطف البيان. وقد سبق لنا تقرير الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة وأرجحنا جواز اجتماعهما وعلى ذلك قولهم «القلم أحد اللسانين» وجميع أهل الأصول من أتباع الإمام الشافعي لا يشترطون في المجاز القرنية المانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وفي الجمع بين الحقيقة والمجاز إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وهو نوع من البديع يسمى التنويع، وهو ادعاء أن مسمّى اللفظ نوعان: متعارف وغير متعارف على طريق التخيل وهو نوع واسع يجري في أبواب كثيرة، منه أن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه منزلته بدون تشبيه ولا استعارة كقولهم «تحية بينهم ضرب وجيع» وقولهم عقابه السيف.
وقال ابن الكمال: فإن قلت: كيف استثني الله وانه تعالى منزه ومتعال عن أن يكون في السموات والأرض؟ قلت كما استثني «غير أن سيوفهم» من قوله أي النابغة الذبياني:
246
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
يعني إن كان الله تعالى ممن في السموات والأرض كان فيهم من يعلم الغيب، والغرض المبالغة في نفي العلم بالغيب عنهم وسد الطريق الى ذلك الاحتمال، فالاستثناء متصل كما في قوله تعالى: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف» فإن شراح الكشاف قاطبة صرحوا بأن الاستثناء فيه متصل.
والعجب أن البيضاوي جوّز اتصال الاستثناء في آية النكاح على الوجه المذكور وجزم هنا بانقطاعه، والظاهر من كلام الزمخشري أيضا القطع بالانقطاع حيث قال: «جاز رفع اسم الله تعالى على لغة بني تميم حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كأن أحدا لم يذكر فإنه على تقدير الكلام على النسق المذكور يصح رفع اسم الله على لغة أهل الحجاز أيضا.
واعترض بعضهم على الاعراب الثاني أي نصب «من»
واعراب الغيب بدلا من «من» بدل اشتمال فقال إن بدل الاشتمال يحتاج الى ضمير يكون رابطا ولا ضمير هنا وليس البدل بعد أداة الاستثناء ليقال إن قوة المستثنى بالمستثنى منه تغني عنه، وعلى هذا فالوجه الأول خال من كل محذور.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧١ الى ٧٨]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
247
اللغة:
(رَدِفَ) : في القاموس: «ردفه كسمع ونصر تبعه» ولكنه ضمن هنا معنى دنا أو قرب ولذلك عدي باللام أو أن اللام زائدة كما سيأتي في الاعراب وقد عدي بمن أيضا قال:
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولوا سراعا والمنية تعنق
ردف كتبع يتعدى بنفسه وضمن هنا معنى الدفو فعدي بمن، وأعنق الفرس سار سيرا سريعا سهلا والعنق اسم منه، يقول الشاعر فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا، شبه المنية بالأسد على طريق الاستعارة المكنية فأثبت لها العنق تخييلا كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال.
ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح أي ونحن نسرع خلفهم فذكر العنق تجريد لأنه يلائم المشبه والعنق ضرب من سير الدواب كما في الصحاح.
248
وقال ابن الشجري:
معنى ردف لكم تبعكم ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب.
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
الإعراب:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والخطاب للنبي ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) عسى ولعل وسوف إذا خوطب بها من هو أكبر منك قدرا فهي بمثابة الجزم بمدخولها وإنما يطلقونها للوقار وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء واسمها مستتر تقديره هو وان يكون مصدر مؤول خبرها واسم يكون مستتر تقديره هو وردف فعل ماض ضمن فعل يتعدى باللام
249
وبعض فاعل والذي مضاف اليه وجملة تستعجلون صلة وجملة ردف خبر يكون وقيل إن ردف على بابها بمع تبع واللام زائدة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبرها وعلى الناس متعلقان بفضل أو صفة له والواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثرهم اسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يعلم خبر إن وما مفعول به وجملة تكن صدورهم صلة والعائد محذوف وما يعلنون عطف على ما تكنّ. (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وما نافية ومن حرف جر زائد وغائبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لدخول النفي عليها، والغائبة كل ما يخفى، سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيهما بمنزلتهما في العافية والعاقبة والنصيحة والرمية والذبيحة في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن تكون هذه صفات والتاء فيها للمبالغة كراوية وعلامة ونسابة. وفي السماء والأرض صفة لغائبة وإلا أداة حصر وفي كتاب خبر غائبة ومبين صفة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الجملة مستأنفة لبيان نوع آخر من ميزات القرآن وان واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة وجملة يقص خبر إن وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بيقص وأكثر مفعول به والذي مضاف اليه وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون صلة الذي. (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهدى خبرها ورحمة عطف على هدى وللمؤمنين صفة. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ
250
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)
إن واسمها وجملة يقضي خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال وبحكمه متعلقان بيقضي وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والعليم خبر ثان.
الفوائد:
أحكام التاء المتحركة اللاحقة بالأسماء والصفات:
هذه التاء إحدى علامات التأنيث المختصة بالأسماء لأنه لما كان التأنيث فرعا للتذكير احتاج لعلامة تميزه، على أن العرب قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة ويستدل على ذلك التقدير بالضمير العائد عليها نحو: «النار وعدها الله الذين كفروا» و «حتى تضع الحرب أوزارها» و «إن جنحوا للسلم فاجنح لها» وبالإشارة إليها نحو: «هذه جهنم» وبثبوتها في تصغير الاسم نحو عيينة وأذينة مصغر عين وأذن من الأعضاء المزدوجة فإن التصغير يرد الأشياء الى أصولها، فإن القاعدة المشهورة هي: أن ما كان من الأعضاء مزدوجا فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين والمنخرين والخدين فإنها مذكرة، على أن المرجع السماع فإن من المزدوج الكف وهي مؤنثة، وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد:
ولو كفي اليمين تقيك خوفا لأفردت اليمين عن الشمال
ولكن هذا وهم من المبرد فإن اليمين بمنزلة اليمنى فهي مؤنثة.
وقال ابن يسعون: على انه رجع الى التأنيث فقال تقيك. ونعود الى طرق الاستدلال فنقول ويستدل على التقدير أيضا بثبوتها في فعله نحو:
«ولما فصلت العير» وبسقوطها من عدده كقول حميد الأرقط يصف قوسا عربية:
251
أرمي عليها وهي فرع أجمع وهي ثلاث أذرع وأصبع
فأذرع جمع ذراع وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث والواو في قوله «وهي» فرع للحال يقال قوس فرع إذا عملت من رأس القضيب ولم يرد بقوله وإصبع حقيقة مقدار الإصبع ولكنه أشار بذلك الى كمال القوس كما تقول: الثوب سبع أذرع وزائد تريد أنها موفاة هذا العدد.
والغالب في هذه التاء أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم، ومن غير الغالب في الأسماء غير الصفات نحو رجل ورجلة وغلام وغلامة وفي الصفات التي تنزل على مقصدين وهي الصفات المختصة بالمؤنث كحائض وطامث فإن قصد بها الحدوث في أحد الأزمنة لحقتها التاء فقيل حائضة وطامثة وإن لم يقصد بها ذلك لم تلحقها فيقال حائض وطامث بمعنى ذات أهلية للحيض والطمث.
وقال في المفصّل: «للبصريين في نحو حائض وطامث مذهبان:
فعند الخليل انه على النسب كلابن وتامر كأنه قيل ذات حيض وذات طمث، وعند سيبويه أنه مؤول بانسان أو شيء حائض كقولهم غلام ربعة على تأويل النفس وانما يكون ذلك في الصفة الثابتة وأما الحادثة فلا بد لها من علامة التأنيث فتقول حائضة وطالقة الآن أو غدا»
وقد أوضحنا الفرق بين الصفة الحادثة والثابتة في الكلام عن قوله تعالى «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت» بأن المرضع هي التي من شأنها الإرضاع والمرضعة هي التي في حالة الإرضاع ملقمة ثديها للصبي فانظره هناك.
252
وقال في المفصل: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء في حائض للاستغناء عنها» وهذا يوجب اثبات التاء في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيّب وعانس وهذا الاعتراض بيّن، وأما الاعتراض بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة مصيبة وكلبة مجرية على ما في الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة الاستغناء عن الأصل كحاملة في المرأة، قال الجوهري في الصحاح: يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى، فمن قال حامل قال هذا نعت لا يكون إلا للإناث، ومن قال حاملة بناء على حملت فهي حاملة، وأنشد لعمرو بن حسان:
تمخضت المنون له بيوم أتى ولكل حاملة تمام
فإذا حملت شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير.
هذا ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان:
١- فعول بفتح الفاء بمعنى فاعل كرجل جسور وامرأة جسور «وما كانت أمك بغيّا» وقد سبق ذكرها في سورة مريم.
٢- فعيل بمعنى مفعول نحو رجل جريح وامرأة جريح، فإن قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية الالتباس بالمذكر لأنك لم تذكر الموصوف.
٣- مفعال بكسر الميم نحو منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار.
٤- مفعيل بكسر الميم كمعطير من العطر وشذّ امرأة مسكينة وسمع امرأة مسكين على القياس.
253
٥- مفعل كمغشم وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته.
تاء الفصل: وتأتي التاء لفصل واحد من الجنس كتمرة وتمر، أو فصل الجنس من الواحد نحو كماة وليس منه سيارة في قوله تعالى «وجاءت سيارة» فإنها جمع سيار لا من أسماء الأجناس.
تاء العوض: وتاء العوض وهي التي تأتي عوضا من فاء كعدة، أو عين كإقامة، أو لام كسنة، أو من حرف زائد لغير معنى كزنديق وزنادقة فالتاء عوض من ياء زناديق.
تاء التعريب: وتاء التعريب وهي التي تأتي لتعريب الأسماء الأعجمية كموازجة جمع موزج بفتح الميم وسكون الواو وفتح الزاي بعدها جيم وهو الخف أو الجورب والقياس موازج فدخلت التاء في جمعه لتدل على أن أصله أعجمي فعرب.
تاء المبالغة: وتاء المبالغة في الوصف كراوية لكثير الرواية ونسّابة لكثير العلم بالأنساب.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
254
الإعراب:
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الفاء الفصيحة لأنها تفريع على قوله العزيز العليم أي ان عرفت هذه الصفات لله تعالى وآمنت بها فتوكل. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل وجملة انك على الحق المبين لا محل لها لأنها تعليل للتوكيل وإن واسمها وخبرها والمبين صفة. (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تعليل ثان للأمر بالتوكل، يقطع طمعه عن متابعتهم. وان واسمها وجملة لا تسمع خبر والموتى مفعول به ولا تسمع الصم عطف على سابقتها والصم مفعول به أول والدعاء مفعول به ثان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ولوا مجرورة باضافة الظرف إليها ومدبرين حال. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم متعلقان بهادي وعدي بعن لتضمنه معنى تصرفهم، وأجاز أبو البقاء وجها آخر وهو أن يتعلق بالعمى لأنك تقول عمي عن كذا وهو وجه سائغ مقبول، ومثل الزمخشري للوجه الأول بقولهم: سقاه عن العيمة أي أبعده عنها بالسقي، والعيمة شهوة اللبن كما في الصحاح. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة وبآياتنا متعلقان بيؤمن والفاء الفصيحة وهم مبتدأ ومسلمون خبر.
(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان بعض أمائر الساعة الدالة عليها والمراد
255
بالقول ما نطق به القرآن من الآيات التي تنبيء عن الساعة والمراد بوقوعه وهو لم يقع قرب حصوله. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة وقع القول في محل جر بإضافة الظرف إليها والقول فاعل وقع وعليهم متعلقان بوقع وجملة أخرجنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولهم متعلقان بأخرجنا ودابة مفعول به ومن الأرض صفة لدابة وسيأتي ما قيل في دابة الأرض في باب الفوائد.
(تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) جملة تكلمهم صفة ثانية لدابة أو حال منها لأنها وصفت، وأن بفتح الهمزة على تقدير الباء أي بأن الناس والجار والمجرور متعلقان بتكلمهم وقرئ بكسرها على الاستئناف، وان واسمها وجملة كانوا خبر ان وكان واسمها وبآياتنا متعلقان بيوقنون ولا نافية وجملة لا يوقنون خبر كانوا والكلام إما من الله تعالى وإما من كلام الدابة، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه وردّ على المعترضين بأن قوله بآياتنا يعكر على ذلك بأن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده وانها من خواص خلقه أضافت آيات الله الى نفسها كما يقول بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وانما هي خيل مولاه وبلاده.
البلاغة:
في قوله «ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين» فن الإيغال وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يأتي بمقطعه، فإذا أريد الإتيان به أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك الكلام، فقد انتهى الكلام عند قوله ولا تسمع الصم الدعاء فما معنى قوله ولوا مدبرين؟
256
والجواب أنه أتى بها وقد أغنى عنها ذكر التولي في الظاهر أما في الحقيقة فهو لم يغن عنها لأن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما يكون الاعراض، ولما أخبر سبحانه بذكر توليهم متمما للمعنى في حال الخطاب لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الاشارة، فإن الأصم يفهم من الاشارة ما يفهمه السامع من العبارة، ثم علم سبحانه أن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما قدمنا فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به فيدرك بعض الاشارة والمراد نفي كل الاشارة فجاءت الفاصلة «مدبرين» ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب إذ صار من ورائه فخفيت من غيبه الاشارة كما صمّت أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة الكلية في عدم الاسماع البتة، وهذا تمثيل مثلت به حال هؤلاء القوم أتى مدمجا في الإيغال وهذا الضرب من الإيغال يسمى ايغال الاحتياط.
وهناك ضرب آخر وهو ايغال التخيير وقد مضى شاهده في سورة المائدة، وقد قدمنا في المائدة ما فيه الكفاية من أمثلة الإيغال، ونورد هنا نماذج منه: يحكى أن أخوة ليلى لما علموا بحب توبة بن الحميّر العقيلي لها نذروا دمه وارتحلوا بها، فقال توبة:
257
فقد تم المعنى بقوله مع الليل، ولما أتى بالقافية زاد على ذلك.
ولأبي تمام:
وان يمنعوا ليلى وحسن حديثها فلن يمنعوا عني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم حديثها خيالا يوافيني مع الليل هاديا
إن المنازل ساورتها فرقة أخلت من الآرام كل كناس
من كل ضاحكة الترائب أرهفت إرهاف خوط البانة المياس
فإن المعنى قد تمّ قبل إتيانه بالقافية في البيت الثاني فلما أتى بها زاد عليه، وعلى هذا النحو الجميل يطرد له ذلك فيقول:
258
الفوائد:
دابة الأرض:
دابة الأرض هي الجسّاسة وتنوينها وتنكيرها لإبهام تفخيمها، لتسترعي الانتباه إليها وتلفت الأنظار الى ترقب خروجها وقد كثر الحديث عنها في المطولات وهي من الأمور المغيبة التي نؤمن بها ولا يعنينا كنهها ولا حقيقتها.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
اللغة:
(فَوْجاً) : الفوج: الجماعة والطائفة وجمعه أفواج وفئوج
259
وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج، والفائجة: الجماعة ومتسع ما بين كل مرتفعين من رمل أو غلط، وقال الراغب في مفرداته:
«الفوج الجماعة المارة المسرعة وكأن هذا هو الأصل ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع والجمع أفواج وفئوج».
(يُوزَعُونَ) : تقدم قريبا في سورة النحل فجدد به عهدا، أي يحبس أولهم على آخرهم لأجل تلاحقهم.
(داخِرِينَ) : صاغرين، وفي القاموس: دخر الشخص كمنع وفرح دخرا ودخورا صغر وذلّ، وأدخرته بالألف للتعدية. والدال مع الخاء فاء وعينا تفيدان معنا خاصا يدل على التضاؤل والتصاغر وما تنبو عنه النفس وتغثى الطباع، فالدّخ والدّخ الدخان وهو معروف يعمي العيون ويقذيها وقالت اعرابية لزوجها وكان قد كبر وأسنّ:
فتوح أمير المؤمنين تفتحت لهن أزاهير الربا والخمائل
لقد ألبس الله الإمام فضائلا وتابع فيها باللها والفواضل
فأضحت عطاياه نوازع شردا تسائل في الآفاق عن كل سائل
مواهب جدن الأرض حتى كأنما أخذن بآداب السحاب الهواطل
لاخير في الشيخ إذا ما اجلخّا وسال غرب عينيه ولخّا
وكان أكلا قاعدا وشخّا تحت رواق البيت يغشى الدّخا
وانثنت الرجل فصارت فخّا وصار وصل الغانيات أخّا
ومعنى يغشى الدخ انه يكثر التردد على النساء عند التنور يقول اطعمنني، ومعنى اجلخ سقط ولم يتحرك وقيل معناه اعوج، وأخ بفتح الهمزة كلمة تقال عند التأوه كذا قال ابن دريد ثم قال وأحسبها محدثة وقال الصاغاني: يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذر إخ بكسر الهمزة بمنزلة قول العجم كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته، ودخدخ الرجل قارب الخطو مسرعا وتدخدخ الرجل انقبض، ودخس
260
الشيء في الرماد أدخله ودسه ودخس الحافر أصابه داء الدخس وهو ورم في حافر الدابة والدخس بضم الدال دابة في البحر، ودخل معروف وهو يفيد التواري والتضاؤل ودخل في عقله بالبناء للمجهول أو جسده ودخل بكسر الخاء دخلا بفتحتين داخله الفساد فهو مدخول عليه والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك لتختزنه وتواريه عن العيون والداء والعيب والدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل والجسم والخديعة العيب في الحسب والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم والجمع دخلاء وكل كلمة أعجمية ويقال داء دخيل أي داخل في أعماق البدن ويقال: إنه لخبيث الدّخلة بكسر الدال المشددة وهي باطن أمره، ودخمه دخما دفعه بإزعاج، ودخن الطعام واللحم من باب تعب أصابهما الدخان في حال الطبخ ولا شيء أخبث من طعمه آنذاك، وكم لهذه اللغة من عجائب.
الإعراب:
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وهو كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكذابين بصورة اجمالية وجملة نحشر مجرورة بإضافة الظرف إليها ومن كل أمة متعلقان بنحشر و «من» هنا للتبعيض وفوجا مفعول به وممن صفة لفوجا و «من» هنا للتبيين وجملة يكذب صلة من والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر.
(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
261
جاءوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومتعلق جاءوا محذوف أي الى مكان الحساب، وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى، أكذبتم: الهمزة للاستفهام التوبيخي التقريعي وكذبتم فعل وفاعل، وبآياتي متعلقان بكذبتم ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتحيطوا فعل مضارع مجزوم بلم وبها متعلقان بتحيطوا وعلما تمييز والجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ وإظهار بشاعة التكذيب القائم على الارتجال وعدم التمعن والتبصر والتحقيق، وأم حرف عطف وهي هنا منقطعة فهي بمعنى بل وما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو ماذا كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعملون وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) الواو عاطفة ووقع القول فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوقع وبما ظلموا متعلقان بوقع أيضا أي بسبب ظلمهم وما مصدرية والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا ينطقون خبر.
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية لا بصرية وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة جعلنا خبرها والجعل هنا إن كان بمعنى الخلق لا بمعنى التصيير فتتعدى لواحد والليل مفعول جعلنا واللام للتعليل ويسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا على أنه علة له فهو بمثابة المفعول من أجله، ولكن لا يجوز النصب لاختلاف الفاعل، وفيه متعلقان بيسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال أو مفعول
262
به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ويوم معطوف على ويوم نحشر منتظم في حكمه وهو الأمر بذكره وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بينفخ، ففزع عطف على ينفخ وسيأتي سر التعبير بالماضي في باب البلاغة، ومن فاعل فزع وفي السموات صلة ومن في الأرض عطف على من في السموات.
(إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى وجملة شاء الله صلة، وكلّ: الواو للحال أو هي عاطفة وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن تنوينه عوض عن المضاف اليه أي وكلهم بعد احيائهم يوم القيامة، وجملة أتوه خبر وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه كأنه وقع فعلا وداخرين حال.
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الواو حرف عطف وترى الجبال فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به والرؤية بصرية وجملة تحسبها حال من الجبال والهاء مفعول تحسبها الأول وجامدة مفعول تحسبها الثاني وهي الواو حالية وهي مبتدأ وجملة تمر خبر والجملة حال من جامدة. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) صنع مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله وأضيف المصدر الى فاعله والذي صفة لله وجملة أتقن صلة وكل شيء مفعول أتقن وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة تفعلون صلة ما.
263
البلاغة:
في هذه الآيات فنون متعددة نوجزها فيما يلي:
١- المجاز العقلي:
في قوله «والنهار مبصرا» فقد أسند الإبصار الى الزمان وهو لا يعقل ولم يأت بالكلام مقابلا لما قبله وهو «ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه» بل جعله أحدهما علة والثاني حالا لأن التقابل قد روعي من جهة المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب والمكاسب، وهذا هو النظم المطبوع غير المتكلف.
٢- الاخبار بالماضي عن المستقبل:
وأخبر بالماضي عن المستقبل في قوله «ففزع من في السموات ومن في الأرض» وكان السياق يقضي بأن يأتي بالمستقبل أيضا ولكنه عدل الى الماضي للإشعار بتحقيق الفزع وانه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.
٣- الطباق:
وفي قوله «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه ولكنه سريع يمر مرورا حثيثا كما يمر السحاب وهذا شأن الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها كما قال النابغة في وصف جيش:
264
وهذا بيت رائع فالأرعن الجبل العالي وقد استعاره للجيش ثم شبهه بالطود وهو الجبل العظيم ليفيد المبالغة في الكثرة والحاج اسم جمع واحده حاجة والركاب المطي لا واحد له من لفظه والهملجة السير الرهو السريع فارسي معرب وفي الصحاح: «الهملاج من البراذين واحده الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب» يقول:
حاربنا العدو بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاج لكثرتهم والحال أن ركابهم تسرع السير.
وللزمخشري وصف بليغ لهذه الآيات نورده فيما يلي:
«فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة إضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق ونحو هذا المصدر «أي صنع الله» إذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان، ألا ترى الى قوله صنع الله، ووعد الله، وفطرة الله، بعد ما وسمها بإضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: الذي أتقن كل شيء، ومن أحسن من الله صبغة، ولا يخلف الله الميعاد، لا تبديل لخلق الله».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٣]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
265
الإعراب:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق للتمهيد لختام السورة بإجمال مصير المحسن والمسيء. ومن اسم شرط جازم مبتدأ وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء أو بمحذوف حال فالباء للملابسة أي جاء ملتبسا بها والفاء رابطة وله خبر مقدم وخير مبتدأ مؤخر ومنها صفة لخير أو متعلق به على أنه اسم تفضيل. وهم مبتدأ ومن فزع متعلقان بآمنون وآمنون خبر ويوم ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بمحذوف صفة لفزع أي كائن في ذلك اليوم، وقرئ بإضافة فزع الى يومئذ.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ومن شرطية وجاء بالسيئة فعل الشرط والفاء رابطة داخلة على «قد» محذوفة أي كبت ليصح اقتران الجواب بها، وكبت فعل ماض مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بكبت وجملة فكبت في محل جزم جواب الشرط وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون على طريق الالتفات والواو نائب فاعل والجملة حال أي فكبت وجوههم مقولا لهم هل تجزون، وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها.
266
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) الجملة مقول قول محذوف أي قل لهم إنما أمرت، وإنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن أعبد في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمرت ورب مفعول به وهذه مضاف لرب والبلدة بدل من اسم الاشارة والمراد بها مكة حرسها الله والذي نعت لرب هذه البلدة وجملة حرّمها صلة. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو للحال وله خبر مقدم وكل شيء مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا الحال في باب البلاغة، وأمرت عطف على أمرت الأولى وأن أكون من المسلمين عطف أيضا على ما تقدم. (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وأن أتلو عطف على أن أكون أي وأمرت بأن أتلو والقرآن مفعول به، فمن الفاء تفريعية ومن شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها ولا بد من تقدير فعل طلبي بعد الفاء أي فقل له إنما أنا من المنذرين. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول، وسيريكم السين حرف استقبال ويريكم فعل مضارع والكاف مفعول به أول وآياته مفعول به ثان، والجملة من تتمة مقول القول منتظمة في سلكه، فتعرفونها الفاء عاطفة وتعرفونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو حرف عطف وما نافية حجازية وربك اسمها وبغافل
267
الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنها خبر ما وعما متعلقان بغافل وجملة تعملون صلة.
البلاغة:
الاحتراس:
في قوله تعالى «وله كل شيء» احتراس بديع وقد تقدم ذكر هذا الفن وأنه يؤتى به دفعا لتوهم يتوجه على الكلام، فقد أضاف سبحانه اسمه الى مكة تشريفا لها وذكرا لتحريمها، ولما أضاف اسمه الى البلدة والمخصوصة بهذا التشريف أتبع ذلك اضافة كل شيء سواها الى ملكه قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة.
الباقلاني يحلل سورة النمل:
هذا ونحب في ختام هذه السورة أن نشير إشارة سريعة تحليلية الى كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر الباقلاني الذي سار ذكره في الناس وهو يجمع الى روحه الكلامية طابعا أديبا إذ لم يقتصر في الإعجاز على دراسته من الوجهة الكلامية بل تعرض للناحية البيانية والاسلوبية فقد نشأ الخطيب الباقلاني بارعا في الجدل، عالي القدر في علوم القرآن والسنة والكلام وتعرض لكثير من المعارضين والمخالفين وقارعهم الحجج، وجادل علماء الروم مما أثار إعجاب معاصريه به.
268
فقد أرسله الملك عضد الدولة الى ملك الروم عام ٣٧١ هـ في سفارة رسمية وأدخلوه مرة وهو في عاصمة الروم على بعض القسس فقال القاضي للقسيس: كيف أنت والأهل والأولاد؟ فتعجب الرومي وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء الملة، أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟
فأجابه القاضي أبو بكر: رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد فهل المطارنة عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله سبحانه، وأراد كبير الروم أن يخزي القاضي فقال له: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها؟ فأجابه هما اثنتان قيل فيهما ما قيل: زوج نبينا ومريم أم المسيح فأما زوج نبينا فلم تلد وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفيها وقد برأهما الله مما رميتا به، فانقطع الرومي ولم يحر جوابا.
خلاصة نظرية الباقلاني في الإعجاز:
١- يبدأ بعرض الفكرة عرضا بسيطا فيثبت صحة ما بين أيدينا من نصّ القرآن وأنه هو حقا كتاب الله المنزّل على نبيه وأنه آية محمد ومعجزته الخالدة.
٢- يثبت عجز العرب عن الإتيان بمثله على رغم تحديه لهم مرارا.
٣- وينتهي من المقدمات السالفة إلى نتيجة عامة هي خلاصة نظريته في الإعجاز وهي «خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم» ثم يشرح هذه النظرية في كتاب الإعجاز فيقول: «والوجه الثالث انه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة على تصرف
269
وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظم جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب خاص به ويتميز في فصوله عن أساليب الكلام المعتاد».
وقبل أن يلج الى نظم القرآن وتحليل سوره يتناول قصيدة لامرىء القيس وأخرى للبحتري ليرسم طريقته في النقد وتطبيق منهجه وينتقل في كلتا القصيدتين من المطلع الى النهاية منبها الى وجوه الجمال ومواطن الضعف، وفي تحليله لقصيدة امرئ القيس أو معلقته- على الأصح- يوازن بين ما جاء من فنون التعبير والتصرف في القول ونظم الكلام فيها وما جاء شبيها أو مقاربا لها في القرآن منبها إلى تفوق القرآن دائما، وكثيرا ما تدخل النقد الشخصي في رأي الباقلاني في تحليل معلقة امرئ القيس وإن خالف ذلك الرأي آراء جميع النقاد، انظر اليه كيف يخطىء الشاعر في قوله:
إذا قامتا تضوع المسك منهما...
يقول: «فوجه التكلف فيه بقوله: إذا قامتا تضوع المسك منهما، ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير» وهذا تحامل ظاهر من أبي بكر على الشاعر وعلى المعنى الذي تناوله إذ لا شك أن في هذا التعبير لمسة فنية دقيقة ترتكز على كلمة «قامتا» لأنها مبعث الحركة والحياة في الصورة كلها تريك الفتاتين غاديتين أو رائحتين وغلائلهما تبعث الأرج فيسري في الأعطاف ويعبق الجو بشذاه لما تبعثه الحركة في الهواء فيحمل العطر الى الأنوف لتستافه ولا يتسنى ذلك في القعود والسكون، ومع هذا لا ننكر بعض ما نبه اليه الباقلاني من هنات في العقيدة بل ونأخذ برأيه
270
ونقدر له عمقه وحسن استنباطه، اسمع الى هذا النقد العجيب الذي يخرس الألسن فقد تناول مطلع المعلقة في البيتين الأولين وهما:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من خبوب وشمائل
فقال: «لم يقنع بذكر حد حتى حدده بأربعة حدود كأنه يريد بيع المنزل فيخشى ان أخلّ بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا».
وفي تحليله لقصيدة البحتري بعض الطرائف الفنية في النقد نلخصها فيما يلي:
١- الرؤيا الشعرية: فقد أشار الى اختلالها عند البحتري في في تشبيبه الخيال بالبرق وذلك في قول البحتري:
أهلا بذلكم الخيال المقبل فعل الذي نهواه أم لم يفعل
برق سرى من بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الركاب الضلل
فقال: «إنه جعل الخيال كالبرق لإشراق مسراه» والخيال
271
لا يشبه عنده بالبرق لأن البرق سريع خاطف والخيال يسري مسرى النسيم.
٢- الحشو: وهو زيادة اللفظ على المعنى المطلوب وهو عيب في النظم.
٣- الابتذال في الصورة البيانية كالتشبيه أو الاستعارة أو الكناية.
٤- الرونق اللفظي: إذ يرى في بعض أبيات البحتري رونقا وطلاوة ويرى في بعضها الآخر قلة ماء ورونق.
٥- الاختلال في المعنى: ومن هذا قوله في نقد بعض الأبيات «وانما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ويلائمه ثم الذي ذكره من الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا وانما يقف تحسرا وتذللا وتخيرا» وهذه الأبيات التي تناولها النقد:
272
ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن فيما أتاه ولا الجمال بمجمل
عذل المشوق وإن من سيما الهوى في حيث تجهله لجاج العاذل
ماذا عليك من انتظار متيم بل ما يضرك وفقة في منزل
إن سيل عيّ عن الجواب فلم يطق رجعا فكيف يكون إن لم يسأل
٦- التضمين: وهو عيب معروف عند النقاد العرب.
٧- مخالفة بناء القصيدة العربية القديمة.
٨- التعقيد وعدم السلاسة في رصف الألفاظ وسبكها وهو عيب في الصياغة والنظم.
٩- الاستهلال وصلته بالفصل والوصل.
١٠- الاشتراك في المعاني بينه وبين غيره من الشعراء مع تفاوت في الحسن.
١١- بناء العبارة وتأليفها واختلافها بين النظم السوي والمضطرب.
تحليل سورة النمل:
يتناول الباقلاني السورة جملة: يفسر غريبها ويبين ما فيها من جمال اللفظ والمعنى ويأخذ في تحليلها من أولها فيقول: «بدأ بذكر السورة إلى أن بين أن القرآن من عنده» ثم وصل بذلك قصة موسى وانه رأى نارا فقال لأهله «امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون» وقال في سورة طه في هذه القصة:
«لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى» ثم قال: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» فانظر الى ما أجرى له الكلام الأول وكيف اتصل بتلك
273
المقدمة وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية وما دلّ عليها من قلب الفصاحة وجعله دليلا يدله عليه ومعجزة تهديه إليه وانظر الكلمات المفردة القائمة بنفسها في الحسن وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ثم ما شفع به هذه الآية وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء ثم انظر في آية آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الوصف، فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية وفي الدلالة آية فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها تجري في الحسن مجراها وتأخذ في معناها ثم من قصة الى قصة ومن باب الى باب من غير خلل يقع في نظم الفصل الى الفصل وحتى يصور لك الفصل وصلا ببديع التأليف وبليغ التنزيل».
ويبين الباقلاني فضل نظم القرآن على الكلام العادي فيدعو واحدا الى التقليد فلا يصل الى شيء ويقر بالعجز أمام لفظ القرآن ونظمه ويستطرد في تحليل السورة فيقول «متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام بعد ذكر العنوان والتسمية هذه الكلمة العالية الشريفة «ألّا تعلوا علي وأتوني مسلمين» والخلوص من ذلك إلى ما صارت اليه من التدبير واشتغلت به من المشورة ومن تعظيمها أمر المستشار ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها:
«يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» وذكر قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله «الأمر إليك» تعلم براعته بنفسه وعجيب معناه وموضع إتقانه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة وملاءمتها لما قبلها وذلك قوله:
274
«فانظري ماذا تأمرين» ثم الى هذا الاختصار والى البيان مع الإعجاز فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه» الى أن يقول: «وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر ولكني قد بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت والنحو الذي قصدت والغرض الذي إليه رميت والسمت الذي إليه دعوت».
ونحسبك بعد هذا قد ألممت بكتاب الاعجاز فقد أوردنا لك خير ما فيه.
275
Icon