تفسير سورة النّمل

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة النمل (١)
١ - (طس) قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجل، أقسم الله به (٢).
(١) سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية. "تفسير مقاتل" ٥٦ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١١٩ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٤٦، دون ذكر العدد. والوسيط ٣/ ٣٦٨. ولم يقع خلاف في مكيتها. "تفسير القرطبي" ١٣/ ١٥٤، وأبي حيان ٧/ ٥١. وحكى ابن الجوزي ٦/ ١٥٣، الإجماع على ذلك. وسماها أبو بكر بن مجاهد: سورة سليمان. "السبعة في القراءات" ٤٧٨. وذكر ابن عاشور ١٩/ ٢١٥، عن ابن العربي، في أحكام القرآن، أنها تسمى سورة: الهدهد، ولكني لم أجده عنده. ثم قال: ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ: النمل، ولفظ: الهدهد، لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها: سليمان؛ فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلًا لم يذكر مثله في غيرها. وذكر الألوسي ١٩/ ١٥٤، الخلاف في مدنية بعض آياتها. قال المهايمي: سميت سورة النمل لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدًا. وهو مما يوجب الثقة بهم، وهو من أعظم مقاصد القرآن. "تفسير المهايمي" ٢/ ٩٩.
وذكر الواحدي، في "الوسيط" ٣/ ٣٦٨، حديث أبي بن كعب في فضل هذه السورة، وهو حديث موضوع. تخريج الزيلعي للكشاف ٣/ ٢٣. و"الفتح السماوي" ٢/ ٨٩٢. وقد سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٣٨، من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٠. وفي "تنوير المقباس" ٣١٥: ط، طوله، وسين، سناؤه، ويقال: قسم أقسم به.
وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن (١).
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ تفسيره قد تقدم في أوائل سور (٢).
٢ - وقوله: ﴿هُدًى﴾ قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون ﴿هُدًى﴾ في موضع نصب على الحال، المعنى: تلك آيات الكتاب هاديةً ومبشرةً، ويجوز أن يكون في موضع رفع من جهتين؛ أحدهما: على إضمار: هو هدى، وإن شئت على البدل من آيات؛ على معنى: تلك هدى وبشرى. قال: وفي الرفع وجه ثالث، وهو حسن؛ على أن يكون خبرًا بعد خبر، وهما جميعًا خبرٌ لتلك، كقولهم: هو حلو حامض، أي: قد جمع الطعمين، فيكون خبر (تِلْكَ): (آيَتُ) (٣) و: (هُدًى) أيضًا فتجمع أنها آيات، وأنها هادية ومبشرة (٤).
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: بيان من الضلالة لأولياء الله، ولمن عمل به، وبشرى (٥) بما فيه من الثواب للمصدقين بالقرآن أنه من عند الله، وبالجنة لمن آمن بمحمد عليه السلام. ثم نعتهم فقال (٦): ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩. وذكر الواحدي، في "الوسيط" ٣/ ٣٦٨، عن مجاهد: هو من الحروف المقطعة، التي هي فواتح يفتح الله بها القرآن، وليست من أسماوئه. وذكر البرسوي ٦/ ٣١٨، تأويلات باطلة لهذه الحروف.
(٢) سبق ذكر ما أحال عليه الواحدي في أول سورة الشعراء.
(٣) آيات. سقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٧.
(٥) (وبشرى) ساقطة من نسخة (أ)، (ب).
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب.
٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ لا يصدقون بالبعث (١) ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني: ضلالتهم حتى رأوها حسنة (٢). وفي هذا تكذيب للقدرية حيث أضاف الله تزيين القبيح لهم إلى نفسه (٣).
وقال أبو إسحاق: أي: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه (٤) ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ يترددون فيها متحيرين (٥).
٥ - ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ شدة العذاب (٦). وقال ابن عباس:
(١) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب. و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٨٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب.
(٣) قال ابن كثير ٦/ ١٧٨: أي: حسنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم. وذكر الزمخشري ٣/ ٣٣٧، أن إسناد التزيين إلى الله تعالى هنا مجاز، وإسناده إلى الشيطان في قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ حقيقة. قال أبو حيان ٧/ ٥٢: وهذا تأويل على طريق المجاز. قال البقاعي ١٤/ ١٢٧: والإسناد إليه سبحانه حقيقي، عند أهل السنة؛ لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز سببي.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٨. قال البرسوي ٦/ ٣١٩: حيث جعلناها مشهاة للطبع محبوبة للنفس، كما ينبئ عنه قوله عليه الصلاة والسلام:"حفت النار بالشهوات" أي: جعلت محفوفة ومحاطة بالأمور المحبوبة المشتهاة. واعلم أن كل مشيئة وتزيين وإضلال ونحو ذلك منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة، وإلى غيره بالتبعية. والحديث، أخرجه مسلم ٤/ ٢١٧٤، كتاب الجنة وصفة نعيمها، رقم: ٢٨٢٣، والترمذي ٤/ ٥٩٨، كتاب صفة الجنة، رقم: ٢٥٥٩.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب. قال مجاهد: فهم في ضلالهم يترددون، "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٦٩. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤١، عن ابن عباس: في كفرهم يترددون.
(٦) "تنوير المقباس" ٣١٥. و"تفسير مقاتل" ٥٦ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٤٦. و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٨٩.
أشد العذاب (١).
قال مقاتل والكلبي: يعني في الآخرة (٢).
وقال غيرهما: يعني في الدنيا؛ وهو القتل والأسر ببدر (٣).
﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ قال ابن عباس: خسروا أنفسهم وأهليهم، وقرنوا بالشياطين.
٦ - ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾ قال مجاهد ومقاتل: لتؤتى بالقرآن (٤).
وقال السدي: يلقى عليك الوحي (٥).
وقال الكلبي: لتعطى القرآن (٦). ومضى تفسير التلقية والتلقي عند قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ﴾ [البقرة: ٣٧] (٧).
قال أبو إسحاق: أي يُلقى إليك القرآن وحيًا من عند الله عز وجل أنزله بعلمه وحكمته (٨).
(١) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٨، ولم ينسبه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب. و"تنوير المقباس" ٣١٥.
(٣) ذكره ابن جرير ١٩/ ١٣٢، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٢. واقتصر على هذا القول في تفسيره الوسيط ٣/ ٣٦٨، و"الوجيز" ٢/ ٧٩٩.
(٦) "تنوير المقباس" ٣١٥، بلفظ: ينزل عليك جبريل بالقرآن. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤١، عن قتادة: لتأخذ القرآن.
(٧) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: التلقي في اللغة معناه: الاستقبال، ومنه الحديث: (أنه نهى عن تلقي الركبان) قالوا معناه. الاستقبال، الليث يقول: خرجنا نتلقى الحاج؛ أي: نستقبلهم، وفي حديث آخر: (لا تتلقوا الركبان والأجلاب) هذا معنى التلقي في اللغة.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٨.
٧ - قوله: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ قال الزجاج: موضع (إِذْ) نصب، المعنى: اذكر ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ أي: اذكر قصته (١).
وقوله: (لأَهْلِهِ) قال مقاتل: لامرأته (٢) ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ مفسر في سورة: طه (٣).
﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أين الطريق، أي: بخبر عن الطريق؛ وقد كان تَحيَّر، وترك الطريق. قاله ابن عباس ومقاتل (٤) (أَوْءَاتِيكُم) أي: فإن لم أجد أحدًا يخبرني عن الطريق ﴿آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ (٥).
قال ابن السكيت: الشهاب: العود الذي فيه نار (٦).
وقال أبو الهيثم: الشهاب: أصل خشبة فيها نار ساطعة (٧).
وقال الليث: الشهاب شُعلةٌ نارٍ ساطعة، والجمعُ: الشُّهب والشُّهبان (٨).
وقال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب (٩).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ رقم: ١٠.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٢، عن ابن عباس. وذكره عنه الماوردي ٤/ ١٩٤.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٦ ب.
(٦) "تهذيب اللغة" ٦/ ٨٨ (شهب).
(٧) "تهذيب اللغة" ٦/ ٨٨ (شهب). و"تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٩، ولم ينسبه.
(٨) "العين" ٣/ ٤٠٣ (شهب)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" ٦/ ٨٧ (شهب).
(٩) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٨. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٣.
161
ويدخل في هذا النجم والنار والسنان (١)، وقد استعمل الشهاب في هذا كله.
وقال أبو علي: الذي قاله أبو إسحاق لا أدري أقاله رواية أم استدلالًا (٢). وتفسير القبس قد سبق في سورة طه (٣).
وقرئ قوله: ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ بالتنوين، وبالإضافة (٤)، قال أبو إسحاق: فَمَنْ نَوَّن جعل قبس من صفة الشهاب (٥). ومن أضاف؛ فقال الفراء: هو مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف الاسمان؛ كقوله: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ [يوسف: ١٠٩] (٦).
(١) السنان: سنان الرمح، وجمعه: أسنة؛ وسنان الرمح: حديدته لصقالتها ومَلاستها. "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٩٨ (سنن) و"لسان العرب" ١٣/ ٢٢٣.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٧٣.
(٣) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ [طه: ١٠]: القبس شعلة من نار يقتبسها من معظم النار. قال أبو زيد: أقبست الرجل عِلمًا، بالألف واللام، وقبسته نارًا؛ إذا جئته بها، فإن كان طلبها قال: أقبسته بالألف. وقال الكسائي: أقبسته نارًا وعِلمًا سواء، وقد يجوز طرح الألف منهما. قال المبرد: والأصل واحد؛ لأن كلاهما مستضاء به.
(٤) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالإضافة."السبعة في القراءات" ٤٧٨. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٧٢، و"النشر في القراءات العشري" ٢/ ٣٣٧.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٨. ويجوز أن يكون بدلًا منه."معاني القراءات"، للأزهري ٢/ ٢٣٣.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٦.
وقد رد قول الفراء، النحاس، فقال: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين؛ لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم اليء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليبين به معنى الملك والنوع فمحال أن يبين أنه =
162
قال أبو علي: القبس يجوز أن يكون صفة، ويجوز أن يكون اسمًا غير صفة، فأما جواز كونه وصفًا فلأنهم يقولون: قَبَسْتُه أَقْبِسُه قَبْسًا، والقَبْسُ: اسم للشيء المقبوس، وكذلك الحَلْب قد يكون بمعنى: المحلوب، والقَبَس ما اقتبست، من قولهم: قَبَسْتُه نارًا إذا جئته بها. وإذا كان قوله: (قَبَسٍ) صفة فالأحسن التنوين؛ لأن الموصوف لا يضاف إلى صفة (١).
وقال أبو الحسن: الإضافة أكثر وأجود في القراءة كما تقول: دار آجُرٍّ، وسوارُ ذهب، قال: ولو قلت: سوار ذهبٌ، ودارٌ آجرٌ كان عربيًا، والأكثر في كلام العرب الإضافة (٢).
قال أبو علي: فأبو الحسن: جعل القبس غير صفة، ألا ترى أنه جعله بمنزلة الآجرِّ والذهب، وليس واحد منهما صفة (٣).
وقال المفسرون: شعلة نار (٤)، ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ لكي تصطلوا، من البرد (٥). قال الكلبي: وكان ذلك في شدة الشتاء (٦).
= مالك نفسه أو من نوعها، و ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ إضافة النوع إلى الجسم، كما تقول: هذا ثوب خز... "إعراب القرآن" ٣/ ١٩٨.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٧٣، مختصرًا.
(٢) ذكر قول أبي الحسن، أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٧٧.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٧٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ. و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٢. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٣٣.
(٥) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٤٧. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٣٣. و"تفسير الماوردي" ٤/ ١٩٤.
(٦) "تنوير المقباس" ٣١٦. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٤٧، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٢، عن ابن عباس. وذكره الماوردي ٤/ ١٩٤، عن قتادة.
163
ويقال: صَلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ. واستقصاء تفسير هذه الآية قد تقدم في سورة طه.
٨ - وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ﴾ قال الفراء (أَن) في موضع نصب إذا أضمرت اسم موسى في (نُودِيَ) وإن لم تضمر اسم موسى كانت (أَن) في موضع رفع. ونحو هذا قال الزجاج (١).
وقوله: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ قال الفراء: العرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه (٢)، قال الشاعر:
فبوركت مولودًا وبوركت ناشئًا وبوركت عند الشيب إذ أنت أَشْيَبُ (٣)
والمعنى: بورك فيمن في النار، أو على من في النار. وقال آخر:
بورك الميتُ الغريبُ كما بورِكَ نَظْمُ الرُّمان والزيتون (٤)
واختلفوا فيمن في النار؟ فالأحسن: أن الآية من باب حذف المضاف على تقدير: بورك من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام، وكأنه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيمَ بالبركة على ألسنة
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٦. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٩.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٦. وذكره النحاس، عن الكسائي. "إعراب القرآن" ٣/ ١٩٩.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢١ أ، ولم ينسبه. وعنه القرطبي ١٣/ ١٥٨. وذكره أبو حيان ٧/ ٥٤، ولم ينسبه. والبيت للكميت، يمدح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- "شرح هاشميات الكميت" ٦١.
(٤) أنشده الزجاج ٤/ ٤٥، ولم ينسبه. بلفظ: نظم، واستشهد به على أنه ليس شيء يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان. وذكره البغدادي، "خزانة الأدب" ١٠/ ٤٦٧، بلفظ: نضح، وبلفظ: غصن الريحان، ونسبه لأبي طالب؛ عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من قصيدة له يرثي بها مسافر بن أبي عمرو. ديوان أبي طالب ٩٣.
164
الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: ٧٣] (١).
وقال أبو علي: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ مَنْ في قرب النار ليس يراد به: متوغلها.
وقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة في قوله: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾: قُدِّس من في النار، وهو الله سبحانه؛ عني به نفسه (٢). وعلى هذا إسناد البركة إلى الله كقوله: تبارك الله، وقد ذكرناه.
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٠ ب. ولم ينسبه. واقتصر على هذا القول في "الوسيط" ٣/ ٣٦٩، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٠. وجعله الرازي ٢٤/ ١٨٢، أقرب الأقوال. واقتصر عليه ابن عاشور ١٩/ ٢٢٦.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٣، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٥، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة. وأخرجه عن ابن عباس، عبد الله ابن الإمام أحمد، كتاب السنة ١/ ٣٠٠، رقم: ٥٨٢. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩، عن قتادة بلفظ: نور الله بورك. وعن الحسن بلفظ: هو النور. وهو موافق لما عند ابن جرير. وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية مقررًا له. مجموع الفتاوى ٥/ ٤٦١. ومن الروايات التي ذكرها شيخ الإسلام عن ابن أبي حاتم رواية سعيد بن أبي مريم ثنا مفضل ابن أبي فضالة حدثني ابن ضمرة: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: إن موسى كان على شاطئ الوادى -إلى أن قال- فلما قام أبصر النار فسار إليها، فلما أتاها ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: إنها لم تكن نارًا ولكن كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله. وعلى هذا فلا وجه لرد هذه الأخبار أو تأويلها كما فعل بعض المفسرين؛ كالرازي ٢٤/ ١٨٢، وابن جزي ٥٠٢، وأبي حيان ٧/ ٥٤. وتوجيه الواحدي لهذا القول توجيه حسن. وذكر الألوسي عن الشيخ: إبراهيم الكوراني، تصحيحه لخبر ابن عباس، وأنه لا يحتاج إلى تأويل، وأن معناه ظاهر.
165
والمراد بالنار هاهنا: النور، وذلك أن موسى رأى نورًا عظيمًا فظنه نارًا لذلك ذكرها هنا بلفظ النار (١)، والمعنى: بورك الله الذي في النار، وحسن هذا؛ لأنه ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار (٢).
وهذا كما روي أنه مكتوب في التوراة: جاء الله من سيناء يعني: بعث الله موسى من سيناء حتى يدعو الخلق إليه، ويعرفهم توحيده ودينه
(١) "الوسيط" ٣/ ٣٦٩، وصدره بقوله: ومذهب المفسرين. ونقله عنه الشوكاني ٤/ ١٢٢، ولم يعترض عليه. وذكره الماوردي ٤/ ١٩٥، ولم ينسبه. واقتصر عليه ابن كثير ٦/ ١٧٩، وذكر عن ابن عباس، أنه قال: نور رب العالمين. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٤، بلفظ: يعني نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة. ثم ذكر ابن كثير بعد ذلك حديثَ أَبِي مُوسَى؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الله لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيرْفَعُهُ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. أخرجه ابن ماجه ١/ ٧١، المقدمة، رقم: ١٩٦. ومسلم ١/ ١٦٢، كتاب الإيمان، رقم: ١٧٩. دون ذكر الآية. وصححه الألباني، "صحيح سنن ابن ماجه" ١/ ٣٩، رقم: ١٦٢. وجوَّد إسناده محقق مسند أبي يعلي الموصلي ١٣/ ٢٤٥. قال السيوطي: أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب، قال: النار: نور الرحمن. "الدر المنثور" ٦/ ٣٤١.
قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها. "تفسير البغوي" ٦/ ١٤٥، ثم قال البغوي والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث (حجابه النار). وهي رواية للحديث السابق أخرجها الإمام أحمد، مسند الكوفيين، رقم: ١٩٠٩٠. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- صحة هذا التأويل، ولا يلزم من القول به لوازم باطلة فإن الله تعالى قد أخبر بنفسه عن نفسه بذلك كما أخبرنا عن تجليه سبحانه وتعالى للجبل فقال: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣] والله أعلم.
(٢) "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٧٧.
166
وشرائعه، فلما عرفوا بعثة موسى من سيناء قيل: جاء الله من سيناء، كذلك لما ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار، وصف بأنه في النار؛ على معنى: أنه عُرف منها (١).
وقال بعضهم: على هذا القول تقدير الآية: ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ سلطانه وقدرته، فحذف للإحاطة (٢).
وروي عن مجاهد في هذه الآية أنه قال: معناه: وبوركت النار (٣). والتبرك عائد إلى النار. وهذا يكون على قراءة [أبيِّ، فإنه كان يقرأ: أن بوركت النار ومن حولها (٤).
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٠ أ. قال النيسابوري في وضح البرهان ٢/ ١٣٨: وفي التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. أي: من هذه المواضع جاءت آياته، وظهرت رحمته حيث كلم موسى بسيناء، وبعث عيسى من ساعير، ومحمدًا من فاران جبال مكة. "وضح البرهان" ٢/ ١٣٨.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٠ب.
(٣) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٦٩. وفيه: قال مجاهد: وكذلك قال ابن عباس. وهو كذلك عند ابن جرير ١٩/ ١٣٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٥.
(٤) أخرجها ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٦. وذكرها الثعلبي ٨/ ١٢٠ ب. قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير. "إعراب القرآن" ٣/ ١٩٩. وذكر هذه القراءة ابن جني، بلفظ: تباركت الأرض. "المحتسب" ٢/ ١٣٤. واختار هذا القول لهذه القراءة الزمخشري ٣/ ٣٣٨. وذكره أبو السعود ٦/ ٢٧٣، وصدر غيره بـ: قيل. واختاره البيضاوي ٢/ ١٧١. والبرسوي ٦/ ٣٢١، قال: أي: من في مكان النار، وهو البقعة المباركة. ورجح هذا القول شيخنا: عبد الله الوهيبي، في تحقيقه لتفسير العز بن عبد السلام ٢/ ٤٥٧، مع أن العز لم يذكر هذا القول. وأما قول السعدي ٥/ ٥٦٢: أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله موضعًا لتكليم الله لموسى وإرساله. فإنه لا يلزم منه نفي ما عداه من الأقوال إذ لم يصرح بذلك. والله أعلم. وقد ذكر القاسمي =
167
ولا يتوجه قول مجاهد على قراءة] (١) العامة.
وقال السدي: كان في النار ملائكة (٢). فعلى هذا ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ الملائكة (٣).
وروي أيضًا عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا: ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ نور الله (٤). وعلى هذا تكون: (مَن) بمعنى: ما، والله تعالى خلق نورًا في النار التي رآها موسى فكانت نارًا ونورًا (٥).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ هم الملائكة وموسى، في قول الجميع (٦).
= ١٣/ ٥٨، هذه الأقوال كلها ولم يرجح. لكنه قدم القول الذي اختاره الزمخشري، وقدمه أيضًا المراغي ١٩/ ١٢٣.
(١) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٦، عن السدي. وذكره عنه الماوردي ٤/ ١٩٥.
(٣) وذكر هذا القول النيسابوري، في "وضح البرهان" ٢/ ١٣٨، ولم ينسبه.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩. وابن جرير ١٩/ ١٣٤، عن قتادة بلفظ: نور الله بورك. وعن الحسن بلفظ: هو النور. وذكره الزجاج ٤/ ١٠٩، ولم ينسبه.
(٥) حكى هذا القول الماوردي ٤/ ١٩٥، والنيسابوري ٢/ ١٣٨، ولم ينسباه.
(٦) هما قولان، الأول: الملائكة، "تفسير مقاتل" ٥٧ أ، و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٤٧، وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩، عن الحسن، وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٥، عن ابن عباس، والحسن، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٧، عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. وأخرجه عن ابن عباس، عبد الله بن الإمام أحمد، كتاب السنة ١/ ٣٠٠، رقم: ٥٨٢. وذكره الفراء ٢/ ٢٨٦، ولم ينسبه. والثاني: موسى والملائكة، أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٦، عن محمد بن كعب. وذكره الثعلبي، ٨/ ١٢١ أ، ولم ينسبه. والقولان في "تنوير المقباس" ٣١٦، و"تفسير الماوردي" ٤/ ١٩٥. ونسبه ابن عطية ١١/ ١٧٢، للحسن، وابن عباس. وذكر ابن الجوزي ٦/ ١٥٥، قولًا ثالثًا، وهو: موسى فقط. والمعنى: بورك فيمن يطلبها وهو قريب منها. وذكر هذا القول العز في "تفسيره" ٢/ ٤٥٧.
168
وذلك أنه كان حول ذلك النور الذي رأى موسى ملائكةٌ، لهم زَجَل بالتسبيح والتقديس (١).
وقال أبو علي: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ ومن لم يقرب منها قرب الآخذ فيها وهو موسى. يعني: أن موسى هو الآخذ منها، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾ [التوبة: ١٠١] لم يَقرب المنافقدن الذين حولهم قرب المخالِطين لهم؛ حيث يحضرونهم ويشهدونهم في مشاهدهم (٢).
﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس: نزه نفسه (٣).
٩ - قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قال مقاتل: إنَّ النور الذي رأيت ﴿أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٤).
[وقال الكلبي: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ﴾ إنَّ ذلك النور ﴿أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾] (٥) فجعلا الكناية في (إِنَّهُ) عن النور. وهو فاسد من وجهين؛ أحدهما: أن النور لا يجوز أن يكون الله تعالى. والثاني: أن المذكور في القرآن النار، وكني عنها بالتأنيث كقوله: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ [لقصص: ٣٠] وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ فلو كان الأمر على ما ذُكر لقيل: إنها؛ والصحيح: أن الكناية في قوله:
(١) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٩. و"تفسير البغوي" ٦/ ١٤٥، ولم ينسبه. والزَجَل: رفع الصوت الطَرِب. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٦١٦ (زجل).
(٢) هكذا في نسخة (ج). وفي نسخة أ: لم يقرب المنافق الذي حولهم قرب بالمخاطبين لهم. وفي نسخة ب: لم يقرب المنافقون الذي حولهم قرب بالمخاطبين لهم.
(٣) "تنوير المقباس" ٣١٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٣٦٩، ولم ينسبه. وذكره الماوردي ٤/ ١٩٥، عن السدي، من كلام موسى عليه الصلاة والسلام.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٥) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج).
(إِنَّهُ) كناية عن الشأن والأمر، أراد: الشأن والأمر (أَنَا الله) وقد ذكرنا نظائر هذا عند قوله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ [الحج: ٤٦] وفي مواضع (١).
وقال الفراء: هذه الهاء عماد، وهو اسم لا يظهر (٢). وعلى هذا الهاء ليست بكناية (٣)، ولكنها عماد تذكر تأكيدًا.
١٠ - قوله: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ في الآية محذوف؛ تقديره: فألقاها فصارت حية تهتز ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ وحذف فألقاها؛ لأنه ذُكِر في سورتين؛ الأعراف، والشعراء (٤).
﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ قال الليث: الجانّ: حية بيضاء (٥). وقال ابن شميل: الجانّ حية أبيض دقيق أملس لا يضر أحدًا، وجمع الجانّ: جنان (٦).
وفي الحديث: نهى عن قتل جنان البيوت؛ وهي حيات بيض تكون
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: الهاء هاء عماد يوفى بها: إن، ويجوز مكانها: إنه، وكذلك هي في قراءة عبد الله.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٧، وفي الحاشية: هو المعروف عند البصريين بضمير الشأن. وذكر ذلك الطوسي، فقال: يسميها البصريون: إضمار الشأن والقصة. "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٧٧. واستظهر هذا القول أبو حيان ٧/ ٥٥. وهو قول البيضاوي ٢/ ١٧١.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢١ ب. قال ابن الجوزي ٦/ ١٥٦: وعلى قول السدي: هى كناية عن المنادي؛ لأن موسى قال: من هذا الذي يناديني؟ فقيل: ﴿إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ﴾. وصحح كونها كناية القرطبي ١٣/ ١٦٠.
(٤) في سورة الأعراف [١٠٧] والشعراء [٣٢] ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ وفي سورة: طه [١٩، ٢٠] ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾.
(٥) "العين" ٦/ ٢١ (جن)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٩٦.
(٦) في "تنوير المقباس" ٣١٦: حية لا صغيرة، ولا كبيرة. وكذا في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٢. ولم أجده في "تهذيب اللغة".
170
في البيوت، لا تضر ولا تؤذي (١).
قال أبو إسحاق: المعنى: أن العصا صارت تتحرك كما يتحرك الجانّ حركة خفيفة وكانت في صورة ثعبان (٢).
ونحو هذا قال ثعلب: شبهها في عظمها بالثعبان، وفي خفتها بالجانّ، فلذلك قال الله تعالى مرة: ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ ومرة: ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٠٧، والشعراء: ٣٢] (٣)
وقيل: الاختلاف في التشبيه لاختلاف الحالين؛ فالجانّ عبارة عن أول حالها ثم لا تزال تزيد وتربو حتى تصير ثعبانًا عظيمًا (٤).
قوله تعالى: ﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ قال مقاتل: من الخوف من الحية {وَلَمْ
(١) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ". قَالَ عَبْدُ الله: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لا تَقْتُلْهَ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ قَالَ: إِنَهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَهِيَ الْعَوَامِرُ. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم: ٣٢٩٧، ٣٢٩٨، فتح الباري ٦/ ٣٤٧، وفيه: وذا الطفيتين جنس من الحيات يكون على ظهره خطان أبيضان، والأبتر: مقطوع الذنب. والعوامر: عمار البيوت؛ أي: سكانها من الجن. وأخرج مسلم ٤/ ١٧٥٦، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا فحرجوا عليه ثلاًثا؛ فإن ذهب وإلا فاقتلوه". "صحيح مسلم" كتاب: السلام (٢٢٣٦).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٩.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٩٦ (جن). و"تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٩، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢١ أ. ولم ينسبه. قال أبو الليث: الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور. "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩٠. وذكره الطوسي، ولم ينسبه، "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٧٨. وهذا التفريق له وجه؛ لكنه يحتاج إلى دليل يشهد له. والله أعلم.
171
يُعَقِّبْ} يعني: ولم يرجع (١).
يقال: عَقَّبَ فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولَّى (٢).
وهذا قول مجاهد (٣)، وأهل اللغة (٤).
قال شمر: وكل راجع مُعَقِّب (٥).
وقال ابن عباس: ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يقف (٦).
وقال قتادة: لم يلتفت (٧). وهذان معنى، وليس بتفسير.
وروى شمر عن عبد الصمد عن سفيان: لم يمكث، قال: وهو من كلام العرب (٨).
قوله تعالى: ﴿لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ قال ابن عباس: لا
(١) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ. و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٢. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٦، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٨، عن مجاهد. وهو قول السمرقندي ٢/ ٤٩٠. والثعلبي ٨/ ١٢١ أ.
(٢) ذكر نحوه الأزهري، عن أبي الهيثم. "تهذيب اللغة" ١/ ٢٧٢ (عقب).
(٣) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٦٩. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٦.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٠٩، بلفظ: وأهل اللغة يقولون: لم يرجع، يقال: قد عقب فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولى.
(٥) "تهذيب اللغة"١/ ٢٧٣ (عقب).
(٦) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٨، عن السدي: لم ينتظر.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩. وابن جرير ١٩/ ١٣٦. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٨. و"تنوير المقباس" ٣١٦. واقتصر عليه الفراء ٢/ ٢٨٧. وذكره الهواري ٣/ ٢٤٧، ولم ينسبه.
(٨) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٧٣ (عقب)، دون قوله: وهو من كلام العرب، وإنما ذكر أبياتًا بعد ذلك تدل عليه. وعبد الصمد هو ابن حسان، أبو يحيى المروزي، قاضي هراة، حدث عن: زائدة، والثوري، وإسرائيل، والكوفيين، وحدث عنه: الذهلي، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، وأحمد بن يوسف السلمي. ت: ٢١٠ هـ. "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٥١٧.
172
يخاف عندي من أرسلته برسالتي (١). والمعنى: لا يُخيف الله الأنبياء، أي: إذا أمنهم فلا يخافونه، فيكف يخاف الحية، فنهى عن الخوف من الحية، ونبه على أمن المرسلين عند الله ليعلم أن من أمنه الله من عذابه بالنبوة ودرجة الرسالة لا يستحق أن يخاف الحية (٢).
١١ - ثم قال: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ يعني: أذنب (٣) ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا﴾ أي: توبة وندمًا ﴿بَعْدَ سُوءٍ﴾ عمله فإنه يخاف ويرجو ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وعلى هذا الاستثناء صحيح من المرسلين؛ ويكون المعنى: إلا من ظلم نفسه [فيما فعل من صغيرة، فالاستثناء متصل. وفيه إشارة إلى أن موسى وإن ظلم نفسه] (٤) بقتل القبطي، وخاف من ذلك فإن الله يغفر له؛ لأنه ندم على ذلك وتاب منه (٥)؛ وهذا أحد قولي الفراء، واختيار ابن قتيبة (٦).
(١) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٩، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٤٩، عن قتادة، بلفظ: أي: عندي المرسلون. وهو قول ابن جرير ١٩/ ١٣٦، والزجاج ٤/ ١١٠.
(٢) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٦٩، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ، وذكر لذلك أمثلة فقال: فكان منهم آدم، ويونس، وسليمان، وإخوة يوسف، وموسى بقتله النفس، عليهم السلام. قال ابن عطية ١١/ ١٧٦: أجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عدا هذا.
(٤) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج).
(٥) "الوسيط" ٣/ ٣٧٠. ويشهد له قوله تعالى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٦) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: ١٦ - ١٧].
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ٢١٩. واختاره ورجحه ابن جرير ١٩/ ١٣٧.
173
القول الثاني: قال: هذا الاستثناء ليس من المرسلين، ولكنه من متروكٍ في الكلام على تقدير: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ إنما الخوف على غيرهم، ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ أي: أشرك، فهو يخاف عذابي (١) ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾ يعني توحيدًا بعد شرك. أي: فتاب وعمل حسنًا فذلك مغفور له ليس بخائف (٢).
قال ابن قتيبة: وهذا يبعد؛ لأن العرب إنما تحذف من الكلام ما يدل عليه ما يظهر، وليس في ظاهر الكلام دليل على هذا التأويل (٣). والقول الأول قول مقاتل (٤)، والثاني قول الكلبي (٥).
قال ابن الأنباري: الذي استقبحه ابن قتيبة من قول الفراء عندي جيد غير قبيح؛ لأنه لما قال: ﴿لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ كان معناه: يأمن المرسلون عندي ويخاف غيرهم، فاكتفى بالشيء من ضده، كما قال: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ﴾ [النحل: ٨١] (٦). وذهب قوم إلى أن هذا من الاستثاء المنقطع؛ المعنى: لكن من ظلم من العباد ثم تاب {فَإِنِّي غَفُور
(١) اختار هذا القول ابن جزي ٥٠٣. ورد هذا القول النحاس، فقال: استثاء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر، ولو جاز هذا لجاز: إني أضرب القوم إلا زيدًا، بمعنى: لا أضرب القوم إنما أضرب غيرهم إلا زيدًا، وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٠.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٧. وذكره السمرقندي ٢/ ٤٩٠، عن الكلبي.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ٢١٩.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ٣١٦.
(٦) ذكر هذا الخطيب الإسكافي، درة التنزيل ٣٣٦، ولم ينسبه، وفيه: فحذف البرد لعلم المخاطبين به.
174
رَحِيمٌ} أي: فإني أغفر له، والمعنى: لا يخاف الأنبياء والتائبون. وهذا اختيار أبي إسحاق (١).
وذهب آخرون إلى أن معنى (إِلا) هاهنا: ولا؛ كأنه قال: لا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء، فيكون المعنى في هذا الوجه كالمعنى في الاستثناء المنقطع، ولم يُجز الفراء هذا الوجه (٢). وذكرنا جواز كون (إِلا) بمعنى: ولا، عند قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ١٥٠] (٣).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٠. وبه قال أبو حيان ٧/ ٥٥. والبيضاوي ٢/ ١٧٢. وابن الأنباري، في البيان ٢/ ٢١٨. والمراغي ١٩/ ١٢٤. والبرسوي ٦/ ٣٢٣، لكنه جعل المعنى راجعًا إلى الأنبياء، فقال: استثناء منقطع، أي: لكن من ظلم نفسه من المرسلين بذنب صدر منه كآدم ويونس وداود وموسى، وتعبير الظلم لقول آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف ٢٣] وموسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ [القصص: ١٦].
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٧، قال الفراء: لم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله، وهو قائم، إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. واعترض على هذا القول أيضًا النحاس، فقال: معنى: إلا، خلاف معنى: الواو، لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدًا، أخرجت زيدًا مما دخل في الأخوة، وإذا قلت: جاءني إخوتك وزيدٌ، أدخلت زيدًا فيما دخل فيه الأخوة، فلا شبه بينهما ولا تقارب. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٠. واعترض عليه أيضًا ابن الأنباري، في "البيان" ٢/ ٢١٩. وذكر هذا القول ابن قتيبة، ولم يعترض عليه. "تأويل مشكل القرآن" ٢٢٠.
(٣) ذكر الواحدي في تفسيره لهذه الآية الخلاف في الاستثناء، واستطرد بذكر أقوال أهل اللغة، ثم قال: وقال معمر بن المثنى: إلا هاهنا معناها: الواو فهو عطف عُطف به: الذين، على: الناس، والمعنى: لئلا يكون للناس والذين ظلموا عليكم حجة، واحتج على هذا المذهب بأبيات منها: =
175
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ﴾ قال مجاهد: كفك في جيبك (١).
قال المفسرون: كانت عليه مِدْرَعةٌ إلى بعض يده (٢)، ولو كان لها كُمٌّ أمره أن يُدخل يده في كُمِّه (٣). والجَيْب: حيث جِيبَ من القميص: أي قُطع (٤).
قوله تعالى: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ قال أبو إسحاق: المعنى وأخرجها تخرج بيضاء.
قال مقاتل: لها شعاع مثل شعاع الشمس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ من غير برص (٥).
= وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال: أراد: والفرقدان أيضًا يفترقان.. ثم ذكر تخطئة الفراء لهذا الوجه، ثم قال: ومن الناس من صوب أبا عبيدة في مذهبه، وصحح قوله بما احتج من الشعر.
(١) أخرجه ابن جرير ١٣٨/ ١٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٣٨، عن مجاهد. وكذا ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٠، وأخرج نحوه عن ابن عباس. قال الزجاج ٤/ ١١٠: وجاء أيضًا أنه كانت عليه مدرعة صوف بغير كُمين. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢١ ب.
(٤) "تهذيب اللغة" ١١/ ٢١٨ (جاب)، وفيه: يقال: جِبتُ القميص وجُبته. وذكره الواحدي في: الوسيط ٣/ ٣٧٠. وكذا ابن الجوزي ٦/ ١٥٨. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٠، عن السدي: الجيب جيب القميص. قال ابن عطية ١١/ ١٧٨: الجيب: الفتح في الثوب لرأس الإنسان.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ. وذكره الهواري ٣/ ٢٤٨. وابن جرير ١٩/ ١٣٩، والثعلبي ٨/ ١٢١ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥١، عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس. وذكر ابن الأنباري أن السوء يطلق ويراد به: الآفة والعلة، قال تعالى: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾ [الأعراف ٧٣] أي: بآفة وعقر، "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ٣٦٥، وأما أبو عبيدة ٢/ ١٨، فقد قيد السوء بالمرض والبرص، فقال: السوء: كل داء معضل من جذام أو برص، أو غير ذلك.
176
وهذا مما فسرناه في سورة طه [٢٢] (١).
قوله: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ قال أبو إسحاق: (في) من صلة قوله: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ﴾ والتأويل: وأظهر هاتين الآيتين ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ والمعنى من تسع آيات. كما تقول: خذ لي عشرة من الإبل فيها فحلان؛ والمعنى: منها فحلان (٢).
وفسر الآيات التسع في سورة بني إسرائيل (٣).
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ من غير برص في قول جميع المفسرين. قال الليث: ويكنى بالسوء عن اسم البرص. وقال أبو عمرو: ﴿سُوءٍ﴾ أي: برص. وقال المبرد: السوء إذا أطلق فهو البرص، وإذا وصلوه بشيء فهو كل ما يسوء، والأغلب عند العرب من الأدواء: البرص.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٠. وذكره السمرقندي ٢/ ٤٩٠، ولم ينسبه. و"تفسير الوجيز" ٢/ ٨٠٠. وهو قول ابن كثير ٦/ ١٨٠.
قال الهواري ٣/ ٢٤٨: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ أي: مع تسع آيات. وذكر ذلك ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٢١٧، و"غريب القرآن" ٣٢٣، ولم ينسبه. وهو قول الثعلبي ٨/ ١٢٢ أ. وأما ابن جرير، فقد جعل: في، على ظاهرها فقال ١٩/ ١٣٩: فهي آية في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون. ولم يذكر غير هذا القول. واستحسنه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠١.
(٣) ليس في سورة بني إسرائيل تفصيل الآيات التسع، وإنما فيها ذكر العدد جملة، في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [١٠١] قال الواحدي في تفسير هذه الآية: اختلفوا في الآيات التسع مع اتفاقهم أن منها: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فهذه خمس، وأما الأربعة الباقية، فروى قتادة عن ابن عباس قال: هي يده البيضاء عن غير سوء، وعصاه إذا ألقاها، وما ذكر في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [الاعراف ١٣٠] قال: ﴿السِّنِينَ﴾ لأهل البوادي حتى هلكت مواشيهم ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لأهل القرى، وهاتان آيتان، ونحو هذا روى أبو صالح وعكرمة، وهذا قول مجاهد، وقال محمد بن كعب القرظي بدل السنين ونقص من الثمرات فلق البحر والطمس =
177
وقوله: ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ قال الفراء: (إِلَى) من صلة الإرسال والبعث، المعنى: مرسلًا إلى فرعون أو مبعوثًا، فترك ذكر الإرسال والبعث؛ لأن شأن موسى في أنه كان مبعوثًا إلى فرعون معروف (١).
١٣ - قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أي. بينة (٢) واضحة، كقوله: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩] وقد مَرَّ (٣). قالوا هذا الذي تراه عيانًا ﴿لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ كقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨] وقد مر (٤).
=وهي أن الله تعالى مسخ أموالهم حجارة من النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير، وهذا الذي ذكرنا أجود ما قيل في تفسير الآيات. "البسيط" ٣/ ١٦٥ ب، النسخة الأزهرية. ويعني بالطمس قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: ٨٨]. ومن جعل الآية التاسعة: الطمس، أو: نقص الثمرات، فلا تعارض بينهما، لما في ذلك من التلازم، والله أعلم.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٨، بمعناه. وكذا ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٢١٧. وذكره أبو علي، "الإيضاح العضدي" ١/ ٢٦٥. وكذا الثعلبي ٨/ ١٢٢ أ.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٠، عن ابن جريج.
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية:
قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ قال ابن عباس: يريد كانت لهم عيانًا، وقال قتادة: بينة، وقال مجاهد: آية مبصرة، قال الأخفش: المُبْصِرةُ: البَيِّنَة؛ كما تقول المُوضِحَة والمُبَيِّنَة، فعلى هذا أبصر واقع بمعنى بصر، وقال الفراء: جعل الفعل لها، ومعنى ﴿مُبْصِرَةً﴾: مضيئة، كما قال تعالى: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس ٦٧] أي مضيئًا، قال الأزهري: والقول ما قال الفراء، أراد آتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي مضيئة، وقد ذكرنا هذا في سورة يونس، وفي هذه السورة عند قوله: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢].
(٤) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو بكر بن الأنباري: إنما قال: هذا، =
١٤ - قوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾ أي: أنكروها، ولم يقروا بأنها من عند الله قال قتادة: الجحود لا يكون إلا من بعد المعرفة (١). وقال المبرد: لا يكون الجحود إلا لما قد علمه الجاحد، كما قال عز وجل: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] (٢).
قال أبو عبيدة: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾ جحدوها، والباء: زائدة، وأنشد:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرَج (٣)
﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ أنها من الله (٤)، وأنها ليست بسحر (٥) ﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ قال السدي: هذا من التقديم والتأخير. ونحو هذا قال مقاتل (٦).
قال الزجاج: المعنى: وجحدوا بها ظلمًا، وعلوًا، ترفعًا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، فجحدوا بها وهم يعلمون أنها من الله (٧).
= والشمس مؤنثة؛ لأن الشمس بمعنى: الضياء والنور، فحمل الكلام على تأويلها فذُكِّر، وأعان على التذكير أيضًا أن الشمس ليست فيها علامة التأنيث فلما أشبه لفظها المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين.
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٢.
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ٣٢٢، ولم ينسبه.
(٣) أنشده كاملًا أبو عبيدة، "مجاز القرآن" ٢/ ٥٦، ولم ينسبه، وقبله:
نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَجْ
وأنشده ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ٢٤٩، ولم ينسبه، وكذا البغدادي، "الخزانة" ٩/ ٥٢١، ثم نقل عن أبي عبيدة: الفلج: بفتح الفاء واللام، موضع لبني قيس. وهو في "ديوان النابغة الجعدي" ٢١٦. والشاهد الباء الثانية، أما الأولى فللاستعانة. "مغني اللبيب" ١/ ١٠٨.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٨.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١١.
وقال مقاتل: ﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ شركًا وتكبرًا (١). وهذا يدل على أن اليقين بالقلب مع الجحود والإنكار باللسان لا ينفع ولا يكون إيمانًا.
﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ في الأرض بالمعاصي (٢).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ قال ابن ىاس ومقاتل: علمًا بالقضاء، وبكلام الطير والدواب (٣) وتسبيح الجبال (٤).
﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾ أي: بالنبوة والكتاب، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجن، والإنس (٥)، والمُلْك الذي أعطاهما الله وفضلهما به (٦) ﴿عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٧).
١٦ - وقوله: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ قال ابن عباس: ورث منه النبوة.
وقال السدي: ورث نبوته.
وقال مقاتل: ورث سليمان علم داود وملكه (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٧ أ.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. وذكره السمرقندي ٢/ ٤٩١، ولم ينسبه. وفي "تنوير المقباس" ٣١٦: فهمًا بالنبوة والقضاء.
(٤) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٠، عن ابن عباس.
(٥) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٠، ولم ينسبه. وتفسير الطبرسى ٧/ ٣٣٤. وتفسير ابن الجوزي ٦/ ١٥٩.
(٦) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩١.
(٧) قال الشوكاني ٤/ ١٢٥: وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا، على كثير من العباد، ومنح شرفًا جليلًا.
(٨) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. وهو قول ابن جرير ١٩/ ١٤١.
180
وقال قتادة: كان لداود تسعة عشر ذكرًا فورث سليمان مُلْكه من بينهم ونبوته (١). فمعنى تخصيص سليمان بالوراثة هو هذا (٢).
وذكر الفراء والزجاج معنى قول قتادة (٣).
(١) "تنوير المقباس" ٣١٦. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٤، عن قتادة، دون ذكر العدد. وذكره الزجاج ٤/ ١١١، ولم ينسبه. وكذا الثعلبي، ٨/ ١٢٢ أ. وذكره الماوردي ٤/ ١٩٨، والقرطبي ١٣/ ١٦٤، عن الكلبي.
(٢) قال الماوردي ٤/ ١٩٨: وإنما خص سليمان بوراثته؛ لأنها وراثة نبوة وملك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء. والرافضة يخالفون هذا فيجعلون الوراثة هنا وراثة مال أيضًا، قال الطوسي: قال أصحابنا: إنه ورث المال، والعلم، وقال مخالفونا: إنه ورث العلم، لقوله -صلى الله عليه وسلم -: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). ثم أجاب عن الحديث بقوله: والخبر المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - خبر واحد لا يجوز أن يخص به عموم القرآن، ولا نسخه به."التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٨٢. قال ابن القيم: فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصًا به، وأيضًا فإن كلام الله يصان عن الإخبار بمثل هذا، فإنه بمنزلة أن يقال: مات فلان وورثه ابنه. ومن المعلوم أن كل أحد يرثه ابنه، وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة، وأيضًا فإن ما قبل الآية وما بعدها يبين أن المراد بهذه الوراثة ورائة العلم والنبوة، لا وراثة المال، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان، وما خصه الله به من كرامته، وميراثه، وما كان لأبيه من أعلى المواهب، وهو العلم والنبوة ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ وكذلك قول زكريا عليه الصلاة والسلام: ﴿وإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٥، ٦] فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله، وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله، فيسأل الله العظيم ولدًا يمنعهم ميراثه، ويكون أحق به منهم، وقد نزه الله أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله، فبعداً لمن حرف كلامه، ونسب الأنبياء إلى ما هم برآء منزهون عنه. "مفتاح دار السعادة" ٦٧.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٨. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١١.
181
قوله: (وَقَال) أي: قال سليمان لبني إسرائيل (١) ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (٢) وهذا كالتحدث من سليمان بما أنعم الله به عليه.
قال الليث: كلام كل شيء منطقه، وتلا الآية (٣).
وقال الأصمعي: صوت كل شيء منطقه، ونُطقُه، ومنه قولهم: مالَه صامت ولا ناطق؛ الناطق: الحيوان من الرقيق وغيره سمي ناطقًا لصوته (٤).
قال الفراء: منطق الطير، يعني: كلام الطير، فجعله كمنطق الرجل إذ فُهِم، وأنشد لحميد بن ثور:
عجبتُ لها أنى يكون غِناؤها فصيحًا ولم تفغرْ بمنطقها فما
فجعله كالكلام لَمَّا ذهب به إلى أنها تغني (٥).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٥، عن الأوزاعي: الناس عندنا: أهل العلم.
(٢) وقد استدل قتادة بهذه الآية على أن النملة من الطير. أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩، وعنه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٥. وهذا ليس بلازم، قال ابن العربي فجعل الله لسليمان معجزة فهم كلام الطير، والبهائم، والحشرات، وإنما خص الطير لأجل سوق قصة الهدهد بعدها، ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها، وليست من الطير. أحكام القرآن ٣/ ٤٧٢. وزاده بيانًا في ٤٧٥. قال الشوكاني ٤/ ١٢٥ إنه عُلم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندًا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس.
(٣) "العين" ٥/ ١٠٤ (نطق)، وليس فيه ذكر الآية، وإنما ذكرها الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٦/ ٢٧٥.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٦/ ٢٧٩ (نطق). وفيه الصامت: الذهب والفضة والجوهر.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٨، وفيه: تبكي، بدل: تغني. ولم ينسب البيت. وفيه: بليغًا، بدل: رفيعا. وتفتح، بدل تفغر. وأنشده الطوسي، "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٨٥. وأنشده في "الوسيط" ٣/ ٣٧٢، وكذا في "وضح البرهان" ٢/ ١٣٩، منسوبًا، وذكره ابن الجوزي ٦/ ١٦٠، ولم ينسبه. وهو في "ديوان حميد بن ثور" ٤٢.
182
وقال أبو علي الفارسي: القول والكلام والمنطق يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر، ويعبر بكل واحد منها عما عبر بالآخر، قال رؤبة:
لو أنني أعطيت علم الحُكْل علمَ سليمانَ كلامَ النملِ (١)
وقال الله تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ [النمل: ١٨] وقال إخبارًا عن الهدهد: ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ﴾ [النمل: ٢٢] فذَكَر له القول. وأنشد الأخفش:
صدَّها منطقُ الدجاجِ عن القصدِ وصوت الناقوس بالأسحار (٢)
وأنشد أيضًا:
فَصبَّحتْ والطيرُ لم تكلَّم
فوضع كل واحد من الكلام والنطق موضع الصوت.
وقال الراعي يصف ثورًا يحفر كِناسًا (٣) إلى الصباح:
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ١٠٠ (حكل)، ونسبه لرؤبة، وهو في ديوانه ١٣٣، وأنشده ابن فارس، ولم ينسبه، وفيه: أوتيت. وقال: الحاء والكاف واللام أصل صحيح منقاس، وهو الشيء الذي لا يبين، يقال: إن الحُكل الشيء الذي لا نطق له من الحيوان، كالنمل وغيره. "معجم مقاييس اللغة" ٢/ ٩١. وأنشده ابن جني، ولم ينسبه، "الخصائص" ١/ ٢٢. وذكر الواحدي كلمة الحكل في مقدمة تفسيره فقال: ويعلم قول الحُكل. تفسير الواحدي ١/ ٢٠١، تحقيق الفوزان.
(٢) أنشده الأخفش ٢/ ٥٨٨، كاملًا في سورة: يوسف، وعجزه:
وضرب الناقوس فاجتُنبا
وأنشده ٢/ ٦٤٨، في سورة النمل مقتصرًا على صدره، ولم ينسبه في الموضعين، وفي الحاشية: لم تفد المراجع شيئًا في القائل والقول.
(٣) المَكْنِس: مَوْلِجُ الوحش من البقر تسكن فيه من الحر، وهو الكِناس، والجمع: أكنسة، وكُنُس، واشتقاقه من الكَنْس، وهو: كَسْحُ القُمَام عن وجه الأرض، فهي تكْنِس الرمل حتى تصل إلى الثرى. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٦٣ (كنس)، و"لسان العرب" ٦/ ١٩٧.
183
حتى إذا نطق العصفور وانكشفتْ عَمَايَة الليلِ عنه وهو مُعتمِدْ (١)
ومعنى الآية: فهمنا ما يقول الطير.
قوله تعالى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: يريد من أمر الدنيا والآخرة (٢).
وقال مقاتل: يعني أُعطينا المُلك والنبوة والكتاب، في تسخير الرياح، وسُخِرت الجن والشياطين، ومنطق الطير (٣).
وقال الزجاج: المعنى ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وكذلك قوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] يؤتى مثلها. وعلى هذا جرى كلام الناس؛ يقول القائل: قد قصد فلانًا كلُّ أحد، أي: قَصَدَه كثير من الناس (٤).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ قال مقاتل: إن هذا الذي أعطينا (٥) ﴿لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ قال ابن عباس: مِن الله علينا (٦).
١٧ - قوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾ وجُمع له ﴿جُنُودُهُ﴾ (٧)
(١) "ديوان الراعي" ٩٢، نطق العصفور: كناية عن انبلاج الصبح، وعماية الليل: ظلمته، والمعتمِد: الذي يمشي طوال الليل. حاشية الديوان. وفي "لسان العرب" ٣/ ٣٠٥ (عمد): اعتمد فلان ليلته إذا ركبها يسير فيها.
(٢) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١١.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب.
(٦) "تنوير المقاس" ٣١٦، بلفظ: المن العظيم من الله علىَّ.
(٧) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. قال الراغب: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب، ونحوها. المفردات ١١٩. وقد أحسن الواحدي صنعًا في تركه =
184
جموعه، وكل صنف من الخلق جند على حدة، يدل عليه قوله: ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ (١) قال المفسرون والكلبي: كان سليمان إذا أراد سفرًا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط له عظيم ثم يأمر الريح فتحملهم، فتجعلهم بين السماء والأرض (٢). وكان سليمان يعرف ألسنتهم ويقضي بينهم، فمعنى قوله: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾ أي في مسير له.
وقوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ معنى الوزع في اللغة: الكف (٣). وزَعْتُه، أَزَعُه، وَزْعًا، أي: كففته (٤). والشيب وازع؛ أي: مانع (٥).
وتقول العرب: لأزعنكم عن الظلم (٦).
= الحديث عن عدد جند نبي الله سليمان عليه السلام، قال ابن عطية ١١/ ١٨٣: واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافًا شديدًا لم أُرد ذكره لعدم صحته.
وقال الشوكاني ٤/ ١٢٥: وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده، وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول، ولا تصح من جهة القتل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك.
(١) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٢، ولم ينسبه.
(٢) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٠، عن عبد الله بن شداد. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، عن الحسن. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ ب. وذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٢، وصدره بقوله: قال المفسرون.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٢. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ أ. و"تفسير البغوي" ٦/ ١٥٠. والزاهر في معاني كلمات الناس ٢/ ٣٩٨.
(٤) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٣. و"تهذيب اللغة" ٣/ ٩٩ (وزع).
(٥) قال النابغة الذبياني:
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما تصحُ والشيب وازع
"الكتاب" ٢/ ٣٣٠، و"الأضداد" لابن الأنباري ١٤٠.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٨.
185
قال الليث: والوازع في الحرب: الموكل بالصفوف يَزَع مَن تقدم بغير أمره، وقال الله -عز وجل-: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي: يُكفون (١).
قال الكلبي وأكثر أهل التفسير: يُحبس أولهم على آخرهم (٢).
وقال قتادة: يُرَدُّ أولُهم على آخرهم (٣): يعني ليجتمعوا ويتلاحقوا (٤).
وقال السدي: يُوقفون (٥).
وقال الوالبي عن ابن عباس: ﴿يُوزَعُونَ﴾ يدفعون (٦).
وقال ابن زيد ومقاتل: يساقون (٧).
والدفع والسوق ضد: الوقف والكف. وقد ذكر المبرد وجه هذا؛ فقال: تأويل ذلك أنه يُدفع آخرهم على أولهم، وقولهم: وزعته بمعنى:
(١) "العين" ٢/ ٢٠٧، بلفظ: الوازع: الحابس للعسكر، قال الله -عز وجل-: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي: يكف أولهم على آخرهم. وما ذكره الواحدي عن الليث بنصه عند الأزهري، "تهذيب اللغة" ٣/ ٩٩ (وزع).
(٢) "تنوير المقباس" ٣١٦. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤١، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٦، عن مجاهد. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ أ. و"تفسير الماوردي" ٤/ ١٩٩. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٠١. وذكره ابن الأنباري، في "الأضداد" ١٣٩. و"الزاهر في معاني كلمات الناس" ٢/ ٣٩٨. واقتصر عليه ابن كثير ٦/ ١٨٣. و"البيضاوي" ٢/ ١٧٣.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩. وعنه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧، وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٢، ورجح هذا القول على غيره.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٩.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ أ. و"تفسير البغوي" ٦/ ١٥٠.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ أ. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٤٢، عن الحسن: يتقدمون.
(٧) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٢، عن ابن زيد. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ (أ).
186
كففته، كلمة عامة؛ تقول: وزعته أي: كففته عن الإبطاء، بمعنى: دفعته وسقته، وتكون بمعنى كففته عن الإسراع، أي: حبسته، ووقفته (١). فمن قال في تفسير: ﴿يُوزَعُونَ﴾ يدفعون ويساقون، أراد: أن الآخِرين يُمنعون عن الإبطاء والتوقف.
وذكر أبو عبيدة الوجهين؛ فقال: يُدفع أخراهم، وُيحبس أولاهم (٢). يعني: إذا تقدم الأولون وسرعانهم وزعوا، وإذا توقف المتأخرون دفعوا ووزعوا عن الإبطاء. وهكذا يفعل الشُّرَط والوزعة للعساكر (٣).
١٨ - قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ أي: أشرفوا عليه (٤). ولهذا المعنى أُدخل (عَلَى) ولم يكن: أتوا وادي النمل. قال كعب: هو بالطائف (٥). وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام (٦).
(١) قال ابن الأنباري: الصحيح عندنا أن يكون: أوزعت، بمعنى: أمرت وأغريت، ووزعت، بمعنى: حبست. "الأضداد" ١٣٩. قال ابن العربي: وقد يكون بمعنى: يلهمون. "أحكام القرآن" ٣/ ٤٧٤.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٢.
(٣) أخرج نحوه ابن جرير ١٩/ ١٤١، عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضًا ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧، عن مجاهد. قال الحسن لما ولي القضاء: لابد للناس من وزعة أي شرط يكفونهم عن القاضي. "الأضداد" ١٤٠.
(٤) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٤ أ. و"تفسير الماوردي" ٤/ ١٩٩. و"تفسير البغوي" ٦/ ١٥٠. قال البقاعي ١٤/ ١٤٢: وهو الذي تميل إليه النفس، فإنه معروف عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضًا: نخب، وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار. والطائف مدينة معروفة في غريب المملكة العربية السعودية، على بعد ١٠٠كم من مكة المكرمة.
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧، عن قتادة. و"تفسير =
187
﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ ذكرنا أن القول والكلام والمنطق يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر، ويعبر به عن الصوت، كقوله: حتى إذا نطق العصفور. أي: صاح (١). كذلك قوله: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ أي: صاحت بصوت خلق الله لها. ولما كان ذلك الصوت مفهومًا لسليمان -عليه السلام-، عبَّر عنه بالقول علي ما ذكر الفراء، في منطق الطير (٢). وهذان وجهان في قول النملة.
قال الكلبي: وكانت نملة صغيرة مثل النمل (٣). وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كانت نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم (٤).
وعن بريدة الأسلمي: أنها كانت كهيئة النعاج (٥). ولعل الأقرب قول
= الثعلبي" ٨/ ١٢٤ أ. و"تنوير المقباس" ٣١٦. واقتصر عليه الهواري ٣/ ٢٤٩، ولم ينسبه. وذكره الزجاج ٤/ ١١٢، ولم ينسبه. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٠١، وذكر القولين في تفسيره الوسيط ٣/ ٣٧٣. وكذا البغوي ٦/ ١٥٠.
(١) تقدم ذكر البيت عند قول الله تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦].
(٢) وذهب إلى هذا سيبويه، الكتاب ٢/ ٤٦، وكذا المبرد، "المقتضب" ٢/ ٢٢٦.
(٣) نسبه للكلبي القرطبي ١٣/ ١٧١، وفي "تنوير المقباس" ٣١٦: نملة عرجاء يقال لها: منذرة!. وما دليل ذلك؟.
(٤) "تفسير القرطبي" ١٣/ ١٧١. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٢، عن عوف، بلفظ: الذباب. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٠١. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٨، عن نوف الحميري: كان نمل سليمان مثل أمثال الذئاب. وذكره كذلك الثعلبي ٨/ ١٢٤ أ. وذكر السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٣٤٧، عن كعب: وكانت مثل الذئب في العظم. وذكره الزجاج ٤/ ١١٢، ولم ينسبه. وذكره ابن كثير ٦/ ١٨٣، عن الحسن، ثم نقد ابن كثير هذه الأقوال بقوله: ومن قال من المفسرين: إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه التكملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧ عن الشعبي: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات في حين.
(٥) ذكره عنه القرطبي ١٣/ ١٧١.
188
الكلبي؛ لقوله: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾ ولو كانت كالذئاب والنعاج، ما حطمت بالوطء ولا خافت ذلك (١).
والنملة، جمعها: نَمْل، ونِمَال (٢)، ومنه قول الأخطل:
دبيبُ نِمَالٍ في نَقًا يتهيّلُ (٣)
ويقال: رجل نَمِل الأصابع، إذا كان خفيف الأصابع في العمل. وفرسٌ نَمِل القوائم؛ لا يكاد يستقر (٤). والنمل إذا خرجت من قريتها لا تُرى مُستقرة ثابتة، بل تتحرك وتعدُو يمنة ويسرة، وهي كثيرة الحركة.
قال أهل المعاني: ومعرفة النملة سليمان معجزة له ألهمها الله تعالى معرفته حتى عرفت وحَذَّرت النملَ حَطْمَه، والنمل تعرف كثيرًا مما فيه نفعها وضرها؛ فمن ذلك: أنها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت، إلا الكُزْبَرَة (٥) فإنها تكسرها بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا كُسرت بقطعتين. فمَنْ هداها إلى هذا هو الذي ألهمها معرفة سليمان (٦).
(١) ورجح ذلك القرطبي ١٣/ ١٧١، ولم يذكر من سبقه له. قال البغوي ٦/ ١٥١، والبرسوي ٦/ ٣٣٣: والمشهور أنه النمل الصغير.
(٢) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٦٦ (نمل).
(٣) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٦٦ (نمل)، عن الليث، ونسبه للأخطل، وصدره:
تدِب دبيبًا في العظام كأنه
النقا: ما ارتفع من الرمل، يتهل: ينحدر. "شرح ديوان الأخطل" ٢٦٢.
(٤) "تهذيب اللغة " ١٥/ ٣٦٦ (نمل).
(٥) نوع من أنواع البقول. "لسان العرب" ٥/ ١٣٨ (كزبر)، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٧٨٦.
(٦) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣، ولم ينسبه. و"تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠٠، ولم يشبه. وذكره الطوسي للدلالة على أن معرفة النمل لسليمان، ليس على سبيل المعجزة الخارقة للعادة؛ لأنه لا يمتنع أن تعرف البهيمة كثيرًا مما فيه نفعها وضرها. =
189
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: جاء لفظ: (ادْخُلُوا) كلفظ ما يعقل؛ لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما نطق الآدميون (١).
وذكرنا استقصاء هذا عند قوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ﴾ الآية [يوسف: ٤] (٢).
قوله تعالى: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ الحَطم: كسر الشيء، والحُطَام: ما يُحطم من ذلك (٣).
ومعنى: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ لا يكسرنكم (٤). قال مقاتل: لا يهلكنكم سليمان وجنوده (٥). وذكرنا وجه جواب الأمر بنون التأكيد عند قوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الآية، [الأنفال: ٢٥] وهذه الآية وتلك سواء (٦).
= "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٨٤. وذكر ابن القيم عجائب صنع الله تعالى في المل، في كتابه "شفاء العليل" ٦٩، ٧٠.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٢.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله: ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾ وهي مما لا يَفهم، ولا يُفهم وحسن ذلك؛ لأنه لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨].
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٩ (حطم).
(٤) "تنوير المقباس" ٣١٧. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٤١.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٦) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة الأنفال: ووجه إعراب الآية على هذا القول ما ذكره أبو إسحاق، وهو أن قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ نهي بعد أمر، والمعنى: اتقوا فتنة، ثم نهى بعدُ، ثم قال: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ الفتنة الذين ظلموا، أي: لا =
190
وقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: بحطمكم ووطئكم. قال مقاتل: لقد علمت النملة أنه مَلِك لا بغي فيه، ولا فخر، وأنه إن علم بها قبل أن يغشاها لم يتوطاها (١)، لذلك قالت: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (٢).
ثم وقف سليمان بمَنْ معه ليدخل النمل مساكنها (٣). وهذا يدل على
= يتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم من العذاب. ثم ذكر شرح ابن الأنباري لهذا القول، ثم ذكر قول أبي علي الفارسي: إنه نهي بعد أمر، واستغني عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما استغني عن ذلك في قوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] و ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩، وغيرها] ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، ودخول النون هاهنا يمنع أن تكون: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ جوابًا للأمر.
قال أبو حيان: دخول نون التوكيد على المنفي بـ: لا، مختلف فيه؛ فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة، أو الندور، والذي نختاره الجواز، وإليه ذهب بعض النحويين. "البحر المحيط" ٤/ ٤٧٧، وأطال الحديث عن هذه المسألة في سورة الأنفال، وفي سورة النمل، وتبعه السمين الحلبي، "الدر المصون" ٥/ ٥٨٩. قال ابن الأنباري: (لا) ناهية، ولهذا دخلت النون الشديدة في ﴿يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ ولا يجوز أن يكون تقديره: إن دخلتم مساكنكم لم يحطمنكم، على ما ذهب إليه بعض الكوفيين؛ لأن نون التوكيد لا تدخل في الجزاء إلا في ضرورة الشعر. "البيان" ٢/ ٢٢٠.
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٢) أي: لا يعلمون أنهم يحطمونكم. "تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٤١. وذكر الهواري ٣/ ٢٤٩، قولاً آخر اقتصر عليه ولم ينسبه، فقال أي: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم كلامهم. وفي ذلك بعد، وقد نقد هذا القول محقق الكتاب. واستبعده الشوكاني ٤/ ١٢٧. وذكر القولين السمرقندي ٢/ ٤٩٢. والماوردي ٤/ ٢٠٠. ورد هذا القول ابن العربي، في أحكام القرآن ٣/ ٤٧٥. وذكر ابن الجوزي ٦/ ١٦٢، عن ابن عباس: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب. ونسبه "الماوردي" ٤/ ٢٠٠، لابن عباس.
191
أن سليمان وجنوده كانوا ركبانًا ومشاة على الأرض، ولم تحملهم الريح؛ لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ما خافت النمل أن تتوطَّأهم بأرجلهم (١). ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله تعالى الريح لسليمان.
قال المفسرون: طارت الريح بكلام النملة فأدخلته أذن سليمان (٢). قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى أعطى سليمان زيادة في ملكه، لا يذكره أحد من الخلق إلا حملت الريح ذلك الكلام إليه حتى يسمعه، فلما سمع كلام النملة تبسم (٣).
وفي هذه الآية ذكر أنواعٍ من المعجزة لسليمان؛ وهي: معرفة النمل لسليمان وجنوده، وكلامُ النملة للنمل، وفَهْمُ النمل عنها ما حذرتهم من الحطم؛ لأنها لما سمعت كلام النملة دخلت المساكن، وسماعُ سليمان كلام النملة.
١٩ - قوله تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾ يقال: بَسَم يَبْسِم وابتَسَم وتبَسَّم يتَبَسَّم، إذا أبدى عن أسنانه، وكَشَّر للضحك (٤).
قال أبو إسحاق: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، و ﴿ضَاحِكًا﴾ حال مؤكدة؛ لأن تبسم بمعنى: ضحك، هذا كلامه (٥). ومعناه: أن التبسم عبارة
(١) أي: تتوطأهم الجنود. ونحو هذا ذكر الحافظ ابن كثير، في "البداية والنهاية" ٢/ ١٩. وفي هذا رد على ما سبق من حمل الريح لجنود نبي الله سليمان -عليه السلام-.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٤ أ. و"الماوردي" ٤/ ٢٠٠. و"تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٣ أ. وظاهر الآية أنه سمع كلام النملة لقربه منها. والله أعلم.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٣ (بسم).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٢. قال ابن الأنباري: منصوب على الحال المقدرة، وتقديره: فتبسم مقدرًا الضحك. ولا يجوز أن يحمل على الحال المطلقة؛ لأن =
192
عن ابتداء الضحك، والضحك عبارة جامعة للابتداء والانتهاء، فمعنى تبسم ضاحكًا: تبسم مبتسمًا، أو ضحك ضاحكًا، فَذِكرُ لفظ التبسم دلالة علي أن ضحكه كان تبسمًا. وذِكرُ الحال بلفظ الضحك؛ ليكون الكلام اْحسن، وليس المراد بلفظ الضحك هاهنا أكثر من التبسم (١)، ونحوهذا قيل في قول كُثَيِّر:
غَمرُ الرِّداءِ إذا تبسَّمَ ضاحكًا (٢)
وقالوا: إن أكثر ضحك الملوك تبسم. وسبب ضحك سليمان من قول النملة: التعجب؛ وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك (٣).
قال مقاتل: ثم حمد ربه حين علمه منطق كل شيء، فسمع كلام النملة (٤) ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ أي: ألهمني. ونحو هذا قال ابن عباس، والمفسرون، وأهل المعاني، في تفسير ﴿أَوْزِعْنِي﴾ (٥).
= التبسم غير الضحك. البيان ٢/ ٢٢٠. وقد ذكر ابن العربي، في "أحكام القرآن" ٣/ ٤٧٦، عددًا من الأحاديث في ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(١) قال القرطبي ١٣/ ١٧٠: أكد التبسم بقوله: ﴿ضَاحِكًا﴾ إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون: تبسم تبسم الغفسبان، وتبسم تبسم المستهزئين.
(٢) "ديوان كثير" ١٨٧، من قصيدة له في مدح عبد العزيز بن مروان، وعجزه:
علقت لضحتكه رقاب المال.
وفي الحاشية: غمر الرداء: كناية سعة المعروف والكرم. وأنشده ابن جني، "الخصائص" ٢/ ٤٤٥، ولم ينسبه.
(٣) نسبه بنصه، "البغوي" ٦/ ١٥٢، لمقاتل، وهو عند مقاتل ٥٧ ب، بمعناه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٥) "تنوير المقباس" ٣١٧، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٩، و"تفسير مقاتل" ٧٥ ب =
193
قال الزجاج: وتأويله في اللغة: كفني عن الأشياء، إلا عن شكر نعمتك (١). ولهذا يقال في تفسير المُوزَع: إنه المُولَع، ومنه الحديث: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موزعًا بالسواك" (٢) أي: مولعًا به، كأنه كُفَّ ومُنِع إلا منه.
قوله: ﴿فِي عِبَادِكَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يريد مع عبادك (٣).
وعلى هذا في الكلام محذوف تقديره: مع عبادك الصالحين الجنة، فحُذِف للعلم به.
وقال آخرون: معناه: وأدخلني في جملتهم. يعني: أثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم (٤).
قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومَنْ بعدهم من النبيين (٥).
٢٠ - قوله: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ التفقد: تَطَلُّبُ ما غاب عنك من شيء (٦). وأصله: تَتَبُّع الشيء المفقود وتَطَلُّبه هل هو
= و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٣. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٤٣، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٨، عن قتادة، والسدي، وابن زيد. وذكره الأنباري في "الزاهر" ٢/ ٣٩٨، و"الأضداد" ١٤٥. وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ١٠٠ (وزع). وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، بلفظ: اجعلني. وكذا عند ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٨.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٢.
(٢) ذكره ابن الأثير، "النهاية في غريب الحديث" ٥/ ١٨١، ولم يعزه لأحد، وقد بحثت عن الحديث فلم أجده.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٥. و"تنوير المقباس" ٣١٧. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٩، عن ابن زيد.
(٤) "تفسير البغوي" ٦/ ١٥٢، ولم ينسبه.
(٥) ذكره عنه البغوي ٦/ ١٥٢. وفي "تنوير المقباس" ٣١٧: مع عبادك المرسلين الجنة.
(٦) "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٢ (فقد).
194
مظفور به. وكل شيء غاب عنك ثم تَتَبَّعْته طالبًا له قلت: تَفَقَّدته، بُنِي على: تفعل؛ لأنه تكلف الطلب، كما تقول: تعرفتُ الشيء إذا تتبعتَه تطلب معرفته.
والطير: اسم جامع، والواحد طائر (١). والمراد بالطير هاهنا: جنس الطير وجماعتها، وكانت تصحبه في سفره تظله بأجنحتها (٢). فقال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُد﴾ هذا استفهام عن حال نفسه. والمراد به الاستفهام عن حمال الهدهد. على تقدير: ما للَّهدهد لا أراه، ولكنه من القلب الذي يوضحه المعنى. تقول العرب: ما لي أراك كئيبًا؟ معناه: مالَك (٣)؟ والهُدهُد: طير معروف، وهَدْهَدتُه صوتُه (٤).
قال مجاهد: سُئل ابن عباس كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلًا ولم يَدرِ ما بُعد الماء، وكان الهدهد مهتديًا، فأراد أن يسأله عنه. قال: قلت كيف يكون مهتديًا والصبي يضع له الحِبَالَة (٥) فيصيده؟! قال: إذا جاء القدر حال دون البصر (٦).
(١) "تهذيب اللغة" ١٤/ ١١ (طار).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٠، عن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شداد، والسدي. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٤، عن ابن عباس. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٠، عن ابن عباس، كتاب التفسير، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٣) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣، ولم ينسبه. وذكر نحوه أبو علي، "المسائل الحلبيات" ١٥٢.
(٤) "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٥٣ (هد). وذكره القرطبي ١٣/ ١٧٨، ولم ينسبه.
(٥) الحِبَالَة: جمع الحَبْل، يقال: حَبَل وحِبال، وحِبالة، والحَبْل: مصدر حَبَلت الصسِد واحتبلته: إذا نَصبت له حِبالَة فنَشِب فيها وأخذته. انظر: "تهذيب اللغة" ٥/ ٧٩.
(٦) ذكر نحوه الهواري ٣/ ٢٥٠، ولم ينسبه، وفيه تعيين السائل، وهو: نافع الأزرق. =
195
وروى مجالد عنه قال: بينما سليمان ذات يوم في مسيره إذ تفقد الطير، ففقد الهدهد فقال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُد﴾ قال عطاء عنه: وكان الهدهد يدله على الماء إذا أراد أن ينزل، فلما فقده سأل عنه (١).
قال الكلبي: ولم يكن معه في سيره ذلك إلا هدهد واحد. هذا قول أكثر المفسرين: إن السبب في تفقد الطير كان طلب الماء (٢)، وكان الهدهد مهندسَ الماء، وإنما كان يعرف سليمان قُرب الماء وبُعده من جهته؛ وذلك أنه كان يرى الماء في الأرض كما يُرى الماءُ في الزجاجة (٣).
قال عبد الله بن شداد: الهدهد ينظر إلى الماء كما ينظر بعضنا إلى بعض (٤).
= وأخرجه ابن جرير ١٤٣/ ١٩، ١٤٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٩، عن ابن عباس، وفيه ذكر نافع الأزرق. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٥ أ. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٠، كتاب التفسير، رقم: ٣٥٢٥، ٣٥٢٦، من طريق عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، "كتاب السنة" ٢/ ٤١٢، رقم: ٩٠٠.
(١) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٠، هذا المعنى عن عدد من المفسرين.
(٢) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٠. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠. و"ابن جرير" ١٩/ ١٤٣.
(٣) أخرج نحوه ابن أبي حاتم ٢٨٥٩/ ٩، عن ابن عباس. وذكره بنصه، الزجاج ٤/ ١١٣، ولم ينسبه. وذكره السمرقندي ٢/ ٤٩٢، ولم ينسبه.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٠. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن تفقد نبي الله سليمان عليه السلام للَّهدهد من شمام متابعته لجنده وتفقده لهم، واستظهر هذا المعنى أبو حيان ٧/ ٦١. ورد ابن سعدي ٥/ ٥٧٠، القول بأن سبب تفقد الهدهد، طلب الماء، بأنه لا يدل عليه دليل، بل الدليك العقلي، واللفظي دال على بطلانه، ثم شرع في بيان ذلك، ثم قال: فإن عنده من الشياطين، والعفاريت، ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ، وسخر له الريح غدوها شهر، ورواحها =
196
وروي عن ابن عباس، في سبب تفقد الطير: أنها كانت تظله، فوقعت نفحة من الشمس على رأسه، فنظر وتفقد الطير، فإذا موضح الهدهد خالٍ، فذلك قوله: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ (١) قال أبو إسحاق: معناه: بل كان من الغائبين (٢).
قال مقاتل: والميم هاهنا صلة (٣) كقوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الطور: ٤١، القلم: ٤٧] (٤). ونحو هذا قال الكسائي.
وقال المبرد: لما تفقد سليمان الطير ولم ير الهدهد قال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك، فشك (٥) في غيبته عن ذلك الجمع حيث لم يره، فقال (٦): {أَمْ كَانَ مِنَ
= شهر، فكيف مع ذلك يحتاج إلى الهدهد.. والشاهد: أن تفقد سليمان -عليه السلام- للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه، وتدبيره للملك بنفسه، وكمال فطنته، حتى تفقد هذا الطائر الصغير.
(١) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٤، بنحوه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦١، عن سفيان. قال ابن جرير: والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل، ولا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيح.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٣. فأم، منقطعة بمعنى: بل.
(٣) أي: حرف زائد، فيكون المعنى على الاستفهام: أكان من الغانيين والظاهر في الآية أنها أم المنقطعة. وجزم بذلك الزمخشري ٣/ ٣٤٦. قال أبو حيان: والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما ففات شرط المتصلة، وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب، وتقديره: ما للهدهد لا أراه، ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. "البحر المحيط" ٧/ ٦٢، وتبعه في ذلك السمين الحلبي، "الدر المصون" ٨/ ٥٩٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. وذكره البغوي ٦/ ١٥٣، ولم ينسبه.
(٥) في نسخة: (ج): فقال.
(٦) فقال، غير موجودة في (ج).
197
الْغَائِبِينَ} أي: بل أكان من الغائبين، كأنه ترك الكلام الأول، واستفهم عن حاله وغيبته.
وقال صاحب النظم: (كَانَ) هاهنا بمنزلة: صار، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ [الأنفال: ٦٧] أي: أن يصير له أسرى، والتأويل: صار من الغائبين. أي: صار ممن يغيب عن مركزه. انتهى كلامه.
وقال أبو علي: معنى: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ أخبروني عن الهدهد، أحاضرٌ هو ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [فعرنت الجملة لقوله (أَمْ كَانَ)] (١) ومثله قوله: ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص: ٦٣] وسنذكره في موضعه (٢). وقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾ [الزمر: ٩] (٣) قال: وهذا قول أبي
(١) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج).
(٢) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾: قال أبو علي: في إلحاق همزة الاستفهام بعض البعد؛ لأنهم قد علموا أنهم اتخذوهم سخريًا، فكيف يستقيم أن يستفهموا عن اتخاذهم سخرِيًا، وقد علموا ذلك، يدل على علمهم به أنه قد أخبر عنهم بذلك في قوله: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ [المؤمنون: ١١٠] فالجملة التي هي: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ صفة للنكرة وهي قوله: ﴿رِجَالًا﴾ ووجه قول من ألحق الهمزة الاستفهام أنه على التقرير لا على المعنى، وذلك ليعادل قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ بـ (أم) في قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المنافقدن: ٢] وإن لم يكن استفهامًا في المعنى وكذلك قولهم: ما أبالي أزيد قائم أم عمرو، فإن قلت: ما الجملة المعادلة بقوله: ﴿أَمْ زَاغَتْ﴾ فالقول فيه: أنها محذوفة المعنى: أمفقودون أم زاغت عنهم الأبصار، وهذا كما ذكرنا في قوله تعالى: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [النمل: ٢].
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قرئ بالتخفيف والتشديد، واختلف أهل المعاني في توجيه القراءتين، واختار أبو عبيد التشديد، قال: ومعناها عند أهل العلم: هذا أفضل أمن هو فانت على تأويل: أم الذي هو قانت.. وهذا قول أبي علي في وجه هذه القراءة وشرحه فقال: الجملة التي قد عادلت أم قد حذفت، =
198
الحسن (١). وإنما قال: ﴿مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ ولم يقل: من الغائبة؛ لوفاق رؤوس الآي (٢). ووجه جوازه: أن الطير من سليمان بمنزلة من يعقل، حيث فهم عنها وفهمت عنه، فهي عنده كبني آدم وغيرهم ممن يعقل، فلما كان عنده سواء قال: ﴿مِنَ الْغَائِبِينَ﴾. ثم أوعده على غيبته فقال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾.
٢١ - ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ قال ابن عباس: فتألى ليعذبنه؛ قال: والله لأعذبنه عذاباً شديدًا، قال: يريد النتف، نتف ريشه، وهو أن ينتفه ثم يلقيه بالأرض، فلا يمتنع من نملة، ولا من شيء من هوام الأرض (٣). هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو قول جماعة المفسرين؛ قالوا: تعذيبه إياه: نتفه وتشميسه (٤).
وقال مقاتل: يعني: لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطير حولًا (٥).
= والمعنى: الجاحد الكافر خير أم الذي هو قانت، ودل على الجملة المحذوفة المعادلة لـ (أم) ما جاء بعدُ من قوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
(١) لم أجده في "معاني القرآن" للأخفش.
(٢) سبق الحديث عن هذه المسألة في تفسير الآية الرابعة من سورة: (الشعراء).
(٣) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٢، عن قتادة. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٤ ب. واستظهر هذا القول البغوي ٦/ ١٥٣.
(٤) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٠، عن مجاهد، وعبد الله بن شداد. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧٩، عن ابن عباس، وقتادة، وعبد الله بن شداد وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٥، عن ابن عباس، من طرق، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٢، عن ابن عباس، وعبد الله بن شداد وقال به ابن قتيبة في "غريب القرآن" ٣٢٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. قال ابن كثير: اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير. "البداية والنهاية" ٢/ ٢١.
199
قوله: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ أي: بحجة بينة في غيبته (١). وقرأ ابن كثير: (ليأتينني) بنونين. وكذلك في مصاحفهم. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة، وحذفوا النون الثانية التي قبل ياء المتكلم؛ لاجتماع النونات، وكذلك في مصاحفهم (٢).
قال صاحب النظم: قوله: ﴿لَيَأْتِيَنِّي﴾ ليست بموضع قسم؛ لأنه عذر للهدهد في دفع الذبح والعذاب عنه، فلم يكن ليقسم على أن يأتي بعذر، ولكنه لما جاء بها في إثْر (٣) ما يجوز فيه القَسَم أجراه مجراه، كما تقول في باب المحاذاة والمعارضة (٤)، ولو لم يجيء باللام لم يجز فيه النون، فكان يكون: أو يأتيني، على أن يكون (أَوْ) بمنزلة حتى أو على نظم (٥): أو أن يأتيني، وهذا شبيه بقوله -عز وجل-: ﴿قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ [النساء: ٩٠] فاللام الأولى دخلت لـ: لو، والثانية على المحاذاة والمعارضة.
(١) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. و"هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، منسوبًا لابن عباس. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٣، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير ١٩/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٣، عن ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
(٢) "السبعة في القراءات" ٤٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٥. و"المبسوط في القراءات العشر". و"الحجة" ٥/ ٣٨٠، و"النشر" ٢/ ٣٣٧٠ قال الأزهري: من قرأ: بنونين، ثقل النون للتأكيد، وجاء بنون أخرى للإضافة. "معاني القراءات" ٢/ ٢٣٥. قال الداني: في مصاحف أهل مكة ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنني﴾ بنونين، وفي سائر المصاحف بنون واحدة. "المقنع" ١٠٦.
(٣) قال ابن السكيت: خرجت في أَثَره، وإثْره. وقال ابن الأعرابي: جاء في أَثَره، وإِثْره. "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٢١ (أثر).
(٤) يعني: أن اللام لما دخلت على: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ و ﴿لَأَذْبَحَنَّهُ﴾، لكونها في موضع قسم دخلت على: ﴿لَيَأْتِيَنِّي﴾ من باب: المحاذاة والمعارضة. والله تعالى أعلم.
(٥) في نسخة، (ج): (وزن).
200
٢٢ - وقوله: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ قرئ بفتح الكاف (١). قال المبرد: يقال: مكَث ومكِث ومكُث فمن قال: مكَث أو مكِث فالمضارع منه: يمكث، ومن قال: مكُث فالمضارع منه: يمكُث، واسم الفاعل من المفتوحة والمكسورة: ماكث، ومن المضمومة: مكيث، نحو: شَرُف فهو شريف، وظَرُف فهو ظريف.
قال أبو علي: ومما يقوي الفتح قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧] وقوله: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ٣] فماكثون تدلك على: مَكَث. ألا ترى أنك لا تكاد تجد فاعلًا من فعُل (٢).
قال ابن عباس: يريد: لم يلبث إلا يسيرًا (٣).
قال الفراء: ومعنى ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ غير طويل من الإقامة، والبعيد والطويل متقاربان (٤). وقال الزجاج: أي غير وقت بعيد (٥).
(١) قرأ عاصم وحده، بفتح الكاف، والباقون بضم الكاف. "السبعة في القراءات" ٤٨٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٦، وفيه اختار ابن خالويه: الفتح. و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٨. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨١، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧، قال ابن جرير ١٩/ ١٤٧: هما لغتان مشهورتان، وإن كان الضم فيها أعجب إلي؛ لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما. وقال الأزهري: ضم الكاف أكثر في كلام العرب.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨١. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يقول: الدليل على أن: مكَث أفصح قولهم ماكث، ولا يقولون: مَكِثٌ. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٣. قال الأزهري: وكان أبو حاتم يختار النصب؛ لأنه قياس العربية، ألا ترى أنه يقال: فهو ماكث، ولا يقال: مكيث. "معاني القراءات" ٢/ ٢٣٥.
(٣) "تنوير المقباس" ٣١٧، بمعناه.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٩.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٣.
201
وقوله: ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ (١) قال صاحب النظم: فيه محذوف على تقدير: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ حتى جاء (فَقَالَ) (٢).
وقال الزجاج: المعنى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ فجاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته، فقال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ وحذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه. ومعنى: (أَحَطتُ) علمتُ شيئًا من جميع جهاته (٣).
قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة، فقال: اطلعتُ على ما لم تَطَّلِع عليه (٤).
وقال مقاتل: علمتُ ما لم تعلم؛ يقول: جئتك بأمر لم تخبرك به الجنُ، ولم تعلم به الإنس، وبلغتُ ما لم تبلغه أنت ولا جنودك (٥).
قوله تعالى: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (٦) قرئ ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ بالإجراء، والتنوين. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو غير مجري (٧).
(١) في هذه الآية رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٠٣.
(٢) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩٣، ولم ينسبه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٤. و"تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠١، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠١.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٤، عن قتادة.
(٦) سبأ: بفتح أوله وثانيه: أرض باليمن مدينتها مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وسميت بهذا لأنها كانت منزل ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. "معجم البلدان" ٣/ ٢٠٣. وهي تقع شمال شرق صنعاء.
(٧) "السبعة في القراءات" ٤٨٠. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٧. و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٨. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧. وقد صوب القراءتين ابن جرير ١٩/ ١٤٧. ومعنى: غير مجري؛ أي: غير مجرور، فهو ممنوع من الصرف.
202
قال الفراء: من أجرى فلأنه فيما ذكروا: رجل. قال: وسُئل أبو عمرو عن قراءته بغير إجراء، فقال: لست أدري ما هو، قال: وقد ذهب مذهبًا إذ لم يدر ما هو فلمَ يُجره (١)؛ لأن العرب إذا سمت بالاسم المجهول تركوا إجراءه كما قال الأعشى:
وتُدفنَ منه الصالحاتُ وإن يُسئ يكن ما أساءَ النارَ في رأس كَبْكَبَا
فكأنه جهل كبكب (٢).
وقال الكسائي: من جعله اسم ذكرٍ، رجلٍ أو غيره، أجراه، ومن جعله اسمًا مؤنثًا قبيلة أو مدينة، أو مكان لم يجره (٣).
وأنكر أبو إسحاق على الفراء قولَه: الاسم إذا لم يُدرَ ما هو لم يُصرف؛ فقال: الأسماء حقها الصرف فإذا لم يعلم الاسم لمذكرٍ هو أم
(١) اعترض النحاس على كلام الفراء عن قول أبي عمرو؛ فقال: أبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكايته الرُّؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٤.
(٢) أنشده مع بيت قبله ونسبه سيبويه، الكتاب ٣/ ٩٣، وأنشده كذلك الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٥. وعن الفراء ذكره النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٤. والبيت في "شرح ديواد الأعشى" ٤٠، من قصيدة يهجو فيها عمرو بن المنذر بن عبدان. وفي حاشية الكتاب: كبكب: اسم جبل بمكة، والنار في رأس الجبل أظهر وأشهر؛ أي: من اغترب عن قومه جرى عليه الظلم فاحتمله لعدم ناصره، وأخفى الناس حسناته وأظهروا سيئاته.
(٣) ذكر هذا سيبويه، "الكتاب" ٣/ ٢٥٢، فقال: فأما ثمود وسبأ، فهما مرة للقبيتين، ومرة للحيين. قال ابن الأنباري: من قرأ بالصرف جعله اسمًا للحي، أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسمًا لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. "البيان" ٢/ ٢٢١.
203
لمؤنثٍ فحقه الصرف حتى يُعلم أنه لا ينصرف؛ لأن أصل الأسماء الصرف، فكل ما لا ينصرف فهو يُصرف في الشعر.
قال: ومن قال: إن سبأ اسم رجل فغلط؛ لأن سبأ هي: مدينة تعرف بمأرب من اليمن، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. فمَن لم يصرف فلأنه اسم مدينة، ومن صرف والصرف أكثرة فلأنه اسمٌ للبلد فيكون مُذَكّرًا سُمِّيَ به مُذكَّر (١).
والذي قاله أبو إسحاق: من أنه اسم مدينة، قول بعض المفسرين (٢)، وبه قال مقاتل؛ لأنه قال: يعني من أرض سبأ باليمن (٣).
وظاهر هذا القول: أنه أراد مدينة، مع احتمال أن سبأ اسم القبيلة أضاف الأرض إليهم. وكثير من الناس ذهبوا إلى أن سبأ اسم رجل.
رُوي في الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن سبأ فقال: "كان رجلاً له عشرة من البنين" الحديث (٤).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٤.
(٢) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٥٢.
(٤) ذكره الهواري ٣/ ٢٥٥، ولفظه: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبأ، أرجل هو أم امرأة، أم أرض. فقال: بل هو رجل، ولَدَ عشرة، فباليمن منهم ستة، وبالشام أربعة، ثم ذكر أسماءهم. وأخرجه بسنده ابن جرير، في تفسير سورة سبأ ٢٢/ ٧٦. وأخرج بسنده الأزهري في "معاني القراءات" ٢/ ٢٣٧، وقال: إسناد الحديث حسن، وهو يدل على أن إجراء سبأ أصوب القراءتين. والحديث أخرجه الترمدي ٥/ ٣٣٦، كتاب تفسير القرآن، رقم: ٣٢٢٢، وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٦٠، كتاب التفسير، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وهو في "صحيح سنن الترمذي" ٣/ ٩٦، رقم: ٢٥٧٤.
204
وقال أبو الحسن (١) في سبأ: إن شئت صرفت فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحي، وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة. قال: والصرف أعجب إليَّ؛ لأني قد عرفت أنه اسم أبيهم، وإن كان اسم الأب يصير كالقبيلة، إلا أني أحمله على الأصل (٢).
وقال غيره: هو اسم رجل، واليمانية كلها تنسب إليه، يقولون: سبأ ابن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان (٣). فبان بما ذكرنا أن إنكار أبي إسحاق على من قال: سبأ: اسم رجل، لا يتوجه.
قال الأزهري: سبأ: اسم رجل ولَدَ عشرة بنين، فسميت القرية باسم أبيهم (٤). وفي هذا بيان أن القرية إن سميت سبأ فهي مسماة باسم رجل، نحو: مدين سميت باسم مدين بن إبراهيم، والعرب قد تكلمت بالإجراء وغير الإجراء في: (سبأ)؛ قال جرير:
الواردون وتيمٌ في ذُرَى سبإٍ (٥)
(١) نص ابن الجوزي ٦/ ١٦٥، على أنه الأخفش. لكني لم أجد هذا القول في كتابه المعاني في هذه السورة، ولا في سورة سبأ.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢، منسوبًا لأبي الحسن. قال الشوكاني ٤/ ١٢٨: أقول: لا شك أن سبأ اسم مدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضًا اسم رجل من قحطان، وهو: سبأ بن يشجب، بن يعرب، بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا: أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢. ولم يسم القائل. وهذا النسب ذكره النحاس في "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٥.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٣/ ١٠٦ (سبأ)، وصدَّره بـ: قيل، ولم ينسبه.
(٥) أنشده كاملًا الفراء ٢/ ٢٩٠، ولم ينسبه، وعجزه:
قد عض أعناقهم جِلد الجواميس
205
فأجرى، وقال آخر:
من سبأَ الحاضرين مَأربَ إذ يَبْنون من دون سيله العَرِما (١)
وقوله: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ قال ابن عباس: بخبر صادق (٢).
وقال مقاتل: بحديث حق لا شك فيه. فقال سليمان: وما ذاك؟ فقال الهدهد (٣):
٢٣ - ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ قال مقاتل: يعني تملك أهل سبأ (٤) ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يريد من زينة الدنيا من
= وهو في "ديوان جرير" ٢٥٢، من قصيدة طويلة يهجو فيها التيم، ورواية البيت في الديوان:
تدعوك تيم وتيم في ذرى سبإ قد عض أعناقَهم جِلدُ الجواميس
وفي حاشية الديوان: أراد أنهم أسرى، وفي أعناقهم أطواق من جلد الجواميس.
(١) أنشده ولم ينسبه: سيبويه ٣/ ٢٥٣، والزجاج ٤/ ١١٤، والأنباري في "الإنصاف" ٢/ ٥٠٢. والشاهد فيه: ترك صرف سبأ، على معنى القبيلة. حاشية الكتاب ٣/ ٢٥٣. وأنشده النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٤، ونسبه للنابغة الجعدي، وهو في ديوانه ١٣٤، من قصيدة طويلة مطلعها:
الحمدُ لله لا شريك لهُ من لم يقُلها فنفسَه ظَلَمَا
يذكر في هذه القصيدة ضروبًا من دلائل التوحيد، والإقرار بالبعث والجزاء، والجة والنار، وصفةِ بعض ذلك: على نحو شعر أمية بن أبي الصَّلت، وقد قيل: إن هذه القصيدة لأمية بن أبي الصلت، ولكنه قد صححه يونس بن حبيب، وحمادٌ الراوية، ومحمد بن سلام، وعلي بن سليمان الأخفش، للنابغة الجعدي. "خزانة الأدب" ٣/ ١٧٢. والبيت في "ديوان أمية بن أبي الصلت" ١٩٠.
(٢) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، بلفظ: بخبر يقين. وأخرجه ابن أي حاتم ٩/ ٢٨٦٥، بلفظ: خبر حق.
(٣) و (٤) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ.
206
المال والجنود والعلم (١).
والمعنى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يؤتاه مثلها (٢). قال أبو علي: أي: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ في زمانها فحذف المفعول لدلالة الإيتاء عليه (٣). ويجوز في قياس أبي الحسن أن يكون المعنى: وأوتيت كلَّ شيء، ولا يجوز في قياس قول سيبويه (٤).
﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ قال ابن عباس: يريد: سريرًا من ذهب تجلس عليه، طوله ثمانون ذراعًا، وعرضه أربعون ذراعًا، وارتفاعه في السماء
(١) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ.
وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٤٨، عن الحسن: من كل أمر الدنيا، ونسبه في "الوسيط" ٣/ ٣٧٥، لعطاء.
وذكر البغوي ٦/ ١٤٩، عن ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وفي "تنوير المقباس" ٣١٧: أعطيت علم كل شيء في بلدها.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١١.
(٣) المفعول المحذوف تقديره: وأوتيت من كل شيء شيئًا يؤتاه مثلها.
(٤) يعني بذلك الواحدي الخلاف في: ﴿مِّن﴾ هل هي زائدة للتوكيد كما هو رأي أبي الحسن الأخفش؛ حيث يرى أن: (مِن)، تزاد في الإيجاب مطلقًا، كقوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١] قال: ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ تريد: لما آتيتكم كتابٌ وحكمةٌ، وتكون: (من)، زائدة. "معاني القرآن" ١/ ٤١٣.
كتبن بالرفع: كتاب وحكمة. وذكر رأي أبي الحسن الأخفش، أبو البركات الأنباري، "البيان في غريب إعراب القرآن" ١/ ٣٢٠. وأما سيبويه فهو يرى أن: مِن، لا تزاد إلا إذا كان مجرورها نكرة في سياق نفي، أو نهي، أو استفهام. "الكتاب" ١/ ٣٨.
وذكر هذه المسألة بالتفصيل د. عبد الفتاح الحموز في رسالته للدكتوراه: "التأويل" النحوي في القرآن الكريم" ٢/ ١٢٩٢. كما ذكرها د. صالح بن إبراهيم الفراج، في رسالته للدكتوراه: "الواحدي النحوي من خلاق كتابه البسيط" ٢/ ٤٢٥.
207
ثلاثون ذراعًا، مضروب بالذهب، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر (١).
وقال مقاتل: كان عرشها ثمانون ذراعًا، في ثمانين ذراعًا، وارتفاع السرير من الأرض ثمانون ذراعًا مكلل بالجوهر (٢).
٢٤ - وقوله تعالى: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية، وتفسيرها ظاهر.
٢٥ - وقوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ قرئ بالتشديد والتخفيف (٣)؛ فمَنْ شدد فتقديرها: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا. وهذا قول الزجاج (٤).
ويجوز أن يُعلق: أنْ، بزين؛ كأنه زين لهم الشيطان لئلا يسجدوا.
(١) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٥، عن عطاء. وذكر هذا التفصيل وزاد عليه الثعلبي ٨/ ١٢٧ أ. والبغوي ٦/ ١٥٦.
وتفسير العرش بأنه: السرير ذكره البخاري، عن ابن عباس، ولفظه: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ﴾ سرير ﴿كَرِيم﴾ حُسنُ الصنعة، وغلاء الثمن. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٤. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٨، بلفظ: عرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ. وكذا عند ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٦.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٧، عن زهير بن محمد: سرير من ذهب، وصفحتاه مرمول بالياقوت، والزبرجد، طوله ثمانون ذراعًا، في أربعين عرضًا. وهذا التفصيل مما لم يثبت، ولا فائدة في معرفته، فالأولى تركه. والله أعلم. قال ابن عطية ١١/ ١٩٣، عن ملكة سبأ: وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية أنها مختصة بامرأة مُلكت على مدائن اليمن، وكانت ذات ملك عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
(٣) كلهم شدد اللام، غير الكسائي. "السبعة في القراءات" ٤٨٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٨، و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٩، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٥. وذكره أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة" ٥/ ٣٨٣.
208
وهذا قول الفراء (١).
واللام في الوجهين داخلة على مفعول له ثم حذفت، وموضع أن نصب بقوله: ﴿فَصَدَّهُمْ﴾، ويجوز أن يكون موضعها خفضًا ولو حذفت اللام. والوجه: قراءة من قرأ بالتشديد لتجري القصة على سَنَنِها، ولا يفصل بين بعضها وبعضٍ بما ليس منها، وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع؛ لأنه يجري مجرى الاعتراض، وما يسدد القصة، وكأنه لما قيل: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ فدل هذا الكلام علي أنهم لا يسجدون لله، ولا يتدينون بدين. قال الهدهد: ألا يا قوم، أو يا مسلمون اسجدوا لله الذي خلق السموات والأرض، خلافًا عليهم (٢)، وحمدًا لله لمكان ما هداكم لتوحيده، فلم تكونوا مثلهم في الطغيان والكفر.
ووجه دخول حرف التنبيه على الأمر، أنه: موضع يُحتاج فيه إلى استعطاف المأمور، لتأكيد ما يؤمر به عليه، كما أن النداء موضع يُحتاج فيه إلى استعطاف المنادى، لما ينادى له من إخبار أو أمر أو نهي، ونحو ذلك مما يخاطب به، وإذا كان كذلك فقد يجوز أن لا يريد منادى في نحو قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ ويجوز أن يراد بعد يا: مأمورون، فحذفوا كما حذف من
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٠، ولفظه: زين لهم الشيطان ألا يسجدوا. وهو قول الأخفش ٢/ ٦٤٩. وذكره أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٣. قال ابن كثير ٦/ ١٨٨: ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له نُهي عن قتله. ثم ساق حديث ابْنِ عَبَّاس قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوابِّ النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ). أخرجه أبو داود ٥/ ٤١٨، كتاب الأدب، رقم: ٥٢٦٧، وابن ماجه ٢/ ١٠٧٤، كتاب الصيد، رقم: ٣٢٢٣، وصححه الألباني، "صحيح أبي داود" ٣/ ٩٨٨، رقم (٤٣٨٧).
(٢) المعنى -والله أعلم-: لمخالفتكم لهم في عبادتهم، فاحمدوا الله.
209
قوله:
يا لعنةُ الله والأقوامِ كلِّهم والصالحينَ على سمعانَ مِنْ جَارِ (١)
وكما أن (يا)، هنا لا تكون إلا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم أو يا هؤلاء، كذلك في الآية يجوز أن يكون المأمورون مرادِين، وحُذفوا من اللفظ، وقد جاء هذا في غير موضع من الشعر، فمِن ذلك ما أنشده أبو زيد:
وقالت ألا يا اسمع نَعِظْكَ بِخُطَّةٍ فقلتُ سمعنا فانطقي وأصيبي (٢)
قال الفراء: من قرأ بالتخفيف فهو على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فيُضمر: هؤلاء، ويُكتفى منها بقوله: يا، وأنشد للأخطل:
ألا يا اسلمي يا هندُ هندَ بني بدرِ وإن كان حيَّانا عِدًى آخرَ الدهرِ (٣)
(١) أنشده سيبويه ٢/ ٢١٩، ولم ينسبه، وفي الحاشية: البيت من شواهد سيبويه التي لم يعرف قائلها. والشاهد فيه: حذف المدعو لدلالة حرف النداء عليه، والمعنى: يا قوم، أو يا هؤلاء، لعنة الله على سمعان، ولذا رفع: لعنة، بالابتداء، ولو أوقع النداء عليها لنصبها. وأنشده المبرد، "الكامل" ٣/ ١١٩٩، وأبو علي، "الحجة" ٥/ ٣٨٤، وأبو القاسم الزجاجي، في كتابه: "اشتقاق أسماء الله" ١٦٦، والنحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٧، والأنباري، "الإنصاف" ١/ ١١٨، ولم ينسبوه. وكذا البغدادي، "الخزانة" ١١/ ١٩٧، وفي الحاشية: البيت مجهول القائل.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٣ - ٣٨٥. من قوله: واللام في الوجهين. بتصرف يسير. وذكر البيت من إنشاد أبي زيد، وهو في كتاب النوادر في اللغة ٢٢، منسوبًا للنمر بن تَوْلَب. وأنشده الأنباري، "الإنصاف" ١/ ١٠٢، وفي الحاشية: الخطة: شبه القصة. وأنشده أبو حيان ٧/ ٦٦، بلفظ: بخطبة. وكذا في "الدر المصون" ٨/ ٦٠١.
(٣) أنشده الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٠، وأبو عبيدة، "مجاز القرآن" ٢/ ٩٤، والزجاج، "معاني القرآن" ٤/ ١١٥، ونسبوه للأخطل. العدى: التباعد، يخاطب صاحبته هندًا ويرجو لها السلامة، وينسبها إلى بني قومها، ويقول: إنه يأمل أن =
210
وقال أبو إسحاق: من قرأ بالتخفيف، فـ (أَلا) لابتداء الكلام والتنبيه، والوقف عليه: ألا يا، ثم يستأنف فيقول: ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ (١)، ومثله: قول ذي الرمَّة:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميَّ على البِلى ولا زال مُنْهلًّا بجَرعائكِ القطرُ (٢)
وقال العجاج:
يا دارَ سلمى يا اسلمي ثُمَّ اسلَمي عن سَمْسَمٍ وعن يمين سَمْسَم (٣)
قال: وإنما أكثرنا الشاهد في هذا الحرف كما فعل مَنْ قبلنا، وإنما فعلوا ذلك لقلة اعتياد العامَّة لدخول: ياء، إلا في النداء، لا تكاد تقول
= يقيما على المودة بالرغم من الجفاء بين قوميهما. "شرح ديوان الأخطل" ١٥٠. وذكر ابن قتيبة هذا القول في "تأويل مشكل القرآن" ٢٢٣، ٣٠٦، دون ذكر البيت.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٥، وذكره أبو عبيدة، "مجاز القرآن" ٢/ ٩٣. وهود الهواري ٣/ ٢٥١. وأشار إلى هذا القول سيبويه، "الكتاب" ٣/ ٥٤٥؛ قال: وإنما حذفت الهمزة هاهنا؛ لأنك لم ترد أن تتم وأردت إخفاء الصوت، فلم يكن ليلتقي ساكن وحرفٌ هذه قصته كما لم يكن ليلتقي ساكنان.
(٢) أنشده أبو عبيدة، "المجاز" ٢/ ٩٤، والزجاج ٤/ ١١٥، ونسباه لذي الرمة. وهو في "ديوانه" ص ٢٠٢، وفي شرحه: الانهلال: شدة الصب، والجرعاء من الرمل: رابية سهلة لينة.
(٣) أنشد أبو عبيدة، الشطر الأول منه، ونسبه للعجاج. "مجاز القرآن" ٢/ ٩٤. وكذا ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٢٢٣، ولم ينسبه. وأنشده الزجاج ٤/ ١١٥، ونسبه للعجاج. وأنشده ابن خالويه، "إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٨ ولم ينسبه. وهو في "ديوان العجاج" ٢٣٤، بلفظ:
بسمسم أو عن يمين سمسم.
وفي النسخ الثلاث: عن سمسم أو عن يمين سسم.
وقال محقق الديوان: سمسم: بلد من شق بلاد تميم، أو كثبان رمل.
211
العامَّة: يا اذهب بسلام (١).
وقال أبو علي: ومما يؤكد قول من قال: (أَلَّا) مثقلة أنها لو كانت مخففة ما كتبت في (يسجدوا)؛ لأنها: اسجدوا، ففي ثبات الياء في: يسجدوا في المصحف دلالة على التشديد، وأن المعنى: أن لا يسجدوا؛ فانتصب الفعل بأن وثبتت ياء المضارعة في أول الفعل (٢).
وذكر صاحب النظم وجهين آخرين للقراءتين؛ فقال في قراءة العامَّة بالتشديد: إنه متصل بما قبله؛ لأن قوله: ﴿لَا يَهْتَدُونَ﴾ واقع على قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ على تأويل: فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله. أي: لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم، و (لا): زيادة، كما قال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] أي: ما منعك أن تسجد.
قال: ومن قرأ بالتخفيف فما قبله تمام، وقوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ كلام معترض من غير القصة الماضية؛ إما من سليمان وإما من الهدهد (٣)، وهو أمر على غير المواجهة كما تقول: لِيُضرب فلان، قال الله تعالى: ﴿فبَذَلِكَ فَليَفرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨] ومنه قوله -عز وجل-: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤] وقد قيل فيه: إنه أمر على تأويل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ اغفروا أو ليغفروا. وعلى هذا التوجيه لا يتأتى الترجيح الذي ذكره أبو علي: القراءة التشديد، غير أن الظاهر ما قال هو.
وقال الفراء والزجاج: من قرأ بالتخفيف فهو في موضع سجدة من
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٥.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٥.
(٣) ذكر هذا القول القرطبي ١٣/ ١٨٧، ونسبه للجرجاني. ورجح ابن عطية أن يكون الكلام المعترض من قول الله تعالى؛ لأنه اعتراض بين كلامين، قال: وهو الثابت مع التأمل.
212
القرآن. ومن قرأ بالتشديد فليس بموضمع سجدة. هذا قولهما (١)! وأهل العلم على أن هاهنا سجدة على القراءتين بلا خلاف بينهم في ذلك؛ لأن التشديد يتضمن مذمتهم على ترك السجود لله (٢).
ويحسن السجود في مثل هذا الموضع، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: ٢١].
وقال أبو عبيد: من قرأ بالتخفيف، جعله أمرًا من الله مستأنفًا بمعنى: ألا يا أيها الناس اسجدوا؛ وهذا وجه حسن إلا أن فيه انقطاعُ الخبر الذي كان من أمر سبأ وقومها، ثم رجع بَعدُ إلى ذكرهم، والقراءة الأولى خبرٌ
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٠. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٥. ونقد هذا القول الزمخشري ٣/ ٣٥١، حيث قال: لأن موضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم لتارك.. وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه.
(٢) سجدة سورة النمل ثابتة لا خلاف فيها كما ذكر الواحدي، وحكى ابن حزم اتفاق أهل العلم على ذلك. مراتب الإجماع لابن حزم ٣١. وأخرج السجدة فيها بسنده عبد الرزاق عن ابن عباس، وابن عمر. "المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني ٣/ ٣٣٥، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إسناد عبد الرزاق جيد. "التبيان في سجدات القرآن" ٦٩.
وموضع السجدة بعد قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ عند الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة؛ "بدائع الصنائع" ١/ ١٩٣، و"حاشية الدسوقي" ١/ ٣٠٧، و"الحاوي الكبير" للماوردي ٢/ ٢٠٢، و"المغني" لابن قدامة ٢/ ٣٥٧، لكن أشار في "المجموع" ٣/ ٥١٠، إلى الخلاف في موضع السجدة فقال: وشذَّ العبدري من أصحابنا فقال في كتابه: الكفاية: هي عند قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ قال: هذا مذهبنا، ومذهب أكثر الفقهاء.. وهذا الذي أدعاه العبدري ونقله عن مذهبنا باطل مردود. والله أعلم. وبحثت عن هذه المسألة في كتاب "الأم" للشافعي فلم أجدها. والله أعلم.
213
يتبع بعضه بعضا، لا انقطاع في وسطه (١).
ويدل على ما قال أبو عبيد، ما روى عطاء عن ابن عباس، في قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾: قال الله تعالى: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾. فجعل هذا إخبارًا عن الله ومن قوله.
وقوله: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يقال: خبأت الشيء أخبؤه، خبأً. والخبء: ما خبأتَ من ذخيرة ليوم مَّا، وكل ما خبأته فهو: خبء (٢).
قال مجاهد ومقاتل: يعني: الغيث في السماوات والأرض (٣).
وقال الزجاج: وجاء في التفسير أن الخبء هاهنا: القطر من السماء، والنبات من الأرض (٤)، قال: ويجوز وهو الوجه أن الخبء: كل ما غاب، فيكون المعنى: يعلم الغيب في السماوات والأرض (٥).
وذكر الفراء القولين أيضًا، وقال: وهي في قراءة عبد الله: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ قال: وصلحت: (في) مكان: (من)؛ لأنك تقول:
(١) ذكره عن أبي عبيد، القرطبي ١٣/ ١٨٦.
(٢) "العين" ٤/ ٣١٥ (خبأ)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٧/ ٦٠٣.
(٣) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧١. و"تفسير مقاتل" ١٥٨. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٠، عن مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٨، عن مجاهد، وسعيد بن المسيب.
(٤) وهو قول ابن زيد، أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٨. وقال به ابن قتيبة، في غريب القرآن ٣٢٣.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٦. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٨، عن ابن عباس: يعلم كل خفية في السموات والأرض. وأخرج عبد الرزاق ٢/ ٨١، عن قتادة: ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ قال: هو السر. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٨، عن عكرمة. وذكره الهواري ٣/ ٢٥١، ولم ينسبه.
214
لأستخرجن العلم فيكم. تريد: لأستخرجن العلم الذي فيكم منكم، ثم تحذف أيهما شئت، أعني. (مِنْ)، و (في)، فيكون المعنى قائمًا على حاله (١).
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ قراءة الناس بالياء؛ لأن الكلام على الغيبة، وهو قوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ وهو يعلم الغيب، وما يخفون وما يعلنون. وقرأ الكسائي وحفص: بالتاء (٢)؛ أما الكسائي فإن الكلام دخله خطاب على قراءته: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ بالتخفيف (٣).
والمعنى: اسجدوا لله الذي يعلم ما تخفون. ورواية أبي بكر عن عاصم بالياء أشبه بقراءته من رواية حفص؛ لأنه غيبةٌ مع غيبةٍ (٤).
قال مقاتل: ﴿مَا تُخْفُونَ﴾ في قلوبهم ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ بألسنتهم (٥).
٢٦ - وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ أي:
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩١.
(٢) قرأ الكسائي، وحفص عن عاصم: بالتاء فيهما. وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم: بالياء فيهما. "السبعة في القراءات" ٤٨١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٩. و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٩، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٥، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧.
(٣) قال الكسائي: ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر. "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٠.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٥، باختصار.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٩، عن ابن عباس: يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وعن الحسن: في ظلمة الليل، وفي أجواف بيوتهم.
هو الذي يستحق العبادة لا غيره، و ﴿هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ لا ملكة سبأ؛ لأن عرشها وإن كان عظيمًا لا يبلغ عرش الله في العِظَم (١).
قال ابن إسحاق وابن زيد: من قوله: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ إلى منتهى هذه الآية، من كلام الهدهد (٢). والسجود على مذهب الشافعي رضي الله عنه يكون عقيب هذه الآية.
٢٧ - قوله: ﴿قَالَ سَنَنْظُر﴾ قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا من هذه القصة ﴿أَصَدَقْتَ﴾ فيم قلت ﴿أَمْ كُنْتَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل وصاحب النظم: يعني: أم أنت من الكاذبين (٣). والكلام في الكاذبين في مخاطبة الطير كالكلام في قوله: ﴿مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ وقد مر (٤).
٢٨ - قوله: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ قال مقاتل: كتب سليمان كتابًا وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد، وقال له: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ يعني: أهل سبأ (٥).
وفي قوله: (أَلْقِهِ) أوجه من القراءة؛ أجودها: وصل الهاء بالياء: (فَأَلْقِهِي) (٦)، وترك وصله بالياء إنما يكون في الشعر؛ كقوله:
(١) بنصه في "تفسير الوسيط" للواحدي ٣/ ٣٧٦، ولم ينسبه. والأولى جعل الآية عامة، قال ابن كثير: أي: له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات. "البداية والنهاية" ٢/ ٢٢.
(٢) أخرجه عنهما ابن جرير ١٩/ ١٥١. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [النمل: ٢٠]
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب.
(٦) في قوله تعالى ﴿فَأَلْقِهْ﴾ ثلاث قراءات: =
216
ما حجَّ ربُّهُ في الدنيا ولا اعتمرا (١)
وأنشد الزجاج:
سأجعلُ عينيه لنفْسِه مَقْنَعًا (٢)
١ - إسكان الهاء، قرأ بها حمزة، وعاصم وأبو عمرو.
٢ - كسر الهاء من غير ياء، قرأ بها نافع في رواية قالون.
٣ - كسر الهاء ووصلها بالياء، قرأ بها ابن كثير والكسائي وابن عامر، وورش عن نافع.
"السبعة في القراءات" ٤٨١. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٥٠. وجود كسر الهاء مع الياء الزجاج، "معاني القرآن" ٤/ ١١٦. واختارها الأزهري، "معاني القراءات" ٢/ ٢٤١. وقال السمرقندي، في تفسيره ٢/ ٤٩٤: والقراءة بالياء أوسع اللغتين، وأكثر استعمالًا.
(١) عجز بيت ذكره أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٧، ولم ينسبه، وصدره:
أو مُعْبَرُ الظهر يُنبي عن وَليَّته
وهو من شواهد سيبويه، ونسبه لرجل من باهلة. وذكره المبرد، والأنباري، ولم ينسباه. والشاعر يصف لصًا يتمنى سرقة بعير لم يستعمله صاحبه في سفر لحج أو عمرة. ومعبر الظهر: كثير الشعر في امتلاء، والولية: البرذعة، ومعنى: ينبي عن وليته: يجعلها تنبو عنه لسمنه. "الكتاب" ١/ ٣٠، و"الإنصاف" ٢/ ٥١٦، و"المقتضب" ١/ ٣٨، وحاشيته. والبرذعة والبردعة، بالذال والدال: الحِلس الذي يُلقى تحت الرحل. "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٥٧ (برخ)، و"لسان العرب" ٨/ ٨ وفي "المعجم الوسيط" ١/ ٤٨: ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسرج للفرس.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧، ولم ينسبه، وصدره:
فإن يك غثًّا أو سمينًا فإنني
ونسبه سيبويه ١/ ٢٨، لمالك بن خريم الهمداني، واستشهد به سيبويه على حذف الياء في الوصل من قوله: لنفسه، للضرورة. وذكره المبرد، في "المقتضب" ١/ ٣٨، ولم ينسبه. وفي حاشيته: يقول الشاعر: إنه يقدم لضيفه ما عنده من القِرى، ويحكّمه فيه ليختار منه أفضل ما تقع عليه عيناه، فيقتنع بذلك.
217
قال: ولو قال: لنفسهي، لكسر الشعر ولكنه ترك الياء وأبقى الكسرة لإقامة الوزن، وأكثر ما يقع هذا في الشعر.
ومن أسكن الهاء فغالط؛ لأن الهاء ليست مجزومة، وليس له وجه من القياس؛ لأنه يُجري الهاء في الوصل على حالها في الوقف (١)، وزعم الأخفش أن هذا لغة كقوله:
.. مشتاقانِ لَهْ أَرِقان (٢)
ولم يحك ذلك سيبويه، وحمله على الضرورة (٣).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧. وسياق الكلام فيه يدل على الإثبات، قال: لأن الهاء ليست بمجزومة، ولها وجه من القياس، وهو أنه يجري الهاء في الوصل على حالها في الوقف، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتُبقي كسرة. وتسكين الهاء قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، في رواية عنهم. "السبعة في القراءات" ٤٨١. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٥٠.
(٢) أنشده كاملاً، الأخفش ١/ ١٧٩، في تفسير سورة البقرة، وعنه ابن جني، "الخصائص" ١/ ١٢٨، ولم ينسباه. وكذا أبو علي في "الحجة" ٥/ ٣٨٧، وحمله المبرد على الضرورة، "المقتضب" ١/ ٣٩.
والبيت بتمامه:
فَظِلتُ لدى البيت العتيق أُريغهُ ومِطواي مشتاقان لَهْ أرقان
وفي الحاشية: الأصل: فظللت فحذفت العين، ويجوز فتح الظاء وكسرها، وأريغه: بمعنى: أطلبه، ومطواي: بمعنى صاحباى، مثنى: مطوى، وضمير الغائب للبرق. "المقتضب" ١/ ٣٩. وعند الأخفش: أُخيله بدل: أريغه. والشاهد فيه تسكين الهاء من: له، وحذف حركتها.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٧. قال علي بن سليمان: لا تلتفت إلى هذه اللغة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن تحذف الإعراب من الأسماء. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٠٩. وتكلم عن هذا سيبويه ١/ ٢٦.
218
قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ قال مقاتل: انصرف عنهم (١).
وقيل: أعرض عنهم. [قال ابن زيد: هذا على التأخير والتقديم، المعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم قول عنهم (٢). قال: لأن رجوعه من عندهم] (٣) والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب.
قال الزجاج: وهذا حسن، والتقديم والتأخير كثير في الكلام (٤). ومن لم يحمل الآية على التقديم والتأخير قال: معناه: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ مستترًا من حيث لا يرونك فانظر ما يردون من الجواب (٥). فيقال: إن الهدهد فعل ذلك: ألقى الكتاب وطار إلى كَوَّة (٦) في مجلسها متواريًا
(١) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٢.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥١، وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب. وأبو علي، كتاب "الشعر" ١/ ١٠٢، ولم ينسبه.
(٣) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧. واختار هذا الوجه الأخفش، "معاني القرآن" ٢/ ٦٥١، وذكره الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩١.
وذهب إلى القول بالتقديم والتأخير الأنباري، "الأضداد" ١١١. وهذا التقديم والتأخير لا يحتاج إليه؛ لأن الكلام صحيح على ما هو عليه من الترتيب، والمعنى: فألقه إليهم ثم قول عنهم قريبًا منهم فانظر ماذا يرجعون. "تفسير الطوسي" ٨/ ٩١.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧١، عن ابن عباس: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي: كن قريبًا منهم.
وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥١، عن وهب بن منبه. واختاره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب.
(٦) الكوة: الخرق في الجدار يدخل منه الهواء والضوء. "اللسان" ١٥/ ٢٣٦ (كوي).
219
عنها (١).
٢٩ - قوله: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩)﴾ قال أبو إسحاق: تقدير الكلام: فمضى الهدهد فألقى الكتاب إليهم (٢) فقالت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها (٣).
وقال مقاتل: أتاها الهدهد حتى وقف على رأسها فرفرف ساعة، والناس ينظرون، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، فقرأت الكتاب. وكانت عربية من قوم: تبع الحميري، فأخبرت قومها وقالت: ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ (٤). قال عطاء عن ابن عباس: مطبوع (٥). وهو: قول الضحاك قال: سمته كريمًا؛ لأنه كان مختومًا (٦).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩١. فالفرق بين القولين هو في الاستتار عنهم، فالقول الأول يدل على أن الهدهد لم يتوارَ عنهم، والقول الثاني يدل على أنه فعل ذلك. والذي يظهر أن القول الثاني أقرب، ولا حاجة للتقديم والتأخير، فالمعنى بين. والله أعلم.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٠. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. وكل هذا التفصيل مما لا دليل عليه؛ والأولى الوقوف عند ظاهر الآية.
(٥) "تنوير المقباس" ٣١٧، بلفظ: مختوم. وذكره عنه بهذا اللفظ السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٣٥٣، من رواية ابن مردويه.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩١، ولم ينسبه. ونسبه مقاتل ٥٨ ب، لأبي صالح. وذكره ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ٤٩٤، ولم ينسبه. وذكره ابن جرير ١٩/ ١٥٣، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٢، عن السدي.
220
ويدل عليه ما روى ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كرامة الكتاب ختمه" (١).
وقال قتادة ومقاتل: ﴿كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ حسن (٢). وهو اختيار الزجاج، قال: حسن ما فيه (٣).
ويدل على هذا قوله: ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٥٨، والدخان: ٢٦] أي: مجلس حسن، ويقال: سمته كريمًا لكرم صاحبه؛ وذلك أنها رأت
= ذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٦، عن عطاء والضحاك، وقال: وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير.
(١) ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" ٢/ ١٤٢، وعزاه للقضاعي، وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس؛ بسند فيه متروك. وذكره الهيثمي عن الطبراني في الأوسط، وقال: فيه محمد بن مروان السدي الصغير، وهو متروك. "مجمع الزوائد" ٨/ ٩٨، كتاب الأدب، باب: في كتابة الكتب وختمها. وأخرجه الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٣٧٦، من الطريق نفسه، ولم ينبه على ضعفه، بل جعل الحديث شاهدًا على صحة تفسير عطاء والضحاك. وتكلم عنه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" ٣/ ١٦، وذكر رواية الواحدي له في "الوسيط". وحكم عليه الألباني بالوضع، وعلته: محمد بن مروان السدي. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" ٤/ ٦٩، رقم: ١٥٦٧. وذكره من المفسرين السمرقندي ٢/ ٤٩٤.
وقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-، خاتمًا، لمكاتباته ومراسلاته يقول أنس: لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختومًا، فاتخَذ خاتمًا من فضة. فكأني انظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله. أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم: ٦٥، "فتح الباري" ١/ ١٥٥. ومسلم ٣/ ١٦٥٧، كتاب اللباس والزينة، رقم: ٢٠٩٢.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٢، عن قتادة.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٧. واقتصر عليه الهواري ٣/ ٢٥٢.
221
كتاب مَلِك (١)، رسوله الطير! فوصفت كتابه بالكرم، لكرم صاحبه (٢).
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس: شريف، بشرف صاحبه (٣).
ثم بينت ما في الكتاب فقالت:
٣٠ - ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ قال الكلبي: لما أتاها الهدهد كانت في قصرها فدار حول القصر وطلب السبيل إليها حتى وصل من كوة كانت في القصر ثم قطع سبعة أبيات، حتى انتهى إليها نائمة مستلقية، فوضع الكتاب إلى جنبها، ونقرها نقرة، ثم رجع إلى مكانه من الكوة، فاستيقظت فزعة، فنظرت فإذا كتاب إلى جنبها مختوم؛ فأخذته ونظرت فإذا الأبواب مغلقة، والحرس قد أحاطوا بقصرها، فقالت: هل رأيتم أحدًا دخل إليَّ؟ قالوا: ما رأينا أحدًا دخل، ولا فتح بابًا، فوقع في قلبها أنه ألقي عليها من السماء، فعند ذلك قالت: ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ السماء، ثم فتحت الكتاب، وكانت كاتبة قارئة، فإذا فيه: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ من سليمان بن داود، إلى بلقيس بنت ذي الشرح، فقالت عند ذلك لمن حولها وكرهت الكذب: إنه من سليمان؛ أي: أن الكتاب من سليمان (وَإِنَّهُ) وإن المكتوب فيه: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (٤).
ونحو هذا قال السدي؛ قال: لما ألقاه الهدهد في حِجرها ظنت أنه من عند الله فقالت: ﴿أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ وذلك قبل أن تقرأه فلما قرأته
(١) كلمة: كتاب، سقطت من نسخة (ج).
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩١، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٣، عن ابن زيد. ونسبه الماوردي ٤/ ٢٠٦، لابن بحر.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ٤٩٤، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٥، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩٤، ولم ينسبه.
قالت: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ وفيه: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (١).
٣١ - ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ قال أبو إسحاق: (أَن) يجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: كتاب بأن لا تعلوا. أي: كتاب بترك العلو، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى: ﴿أُلْقِيَ إِلَيَّ﴾ أن لا تعلوا.
وفيها وجه آخر حسن على معنى: قال: لا تعلوا عليَّ، وهو تأويل ما ذكره سيبويه، والخليل؛ قالا: (أَنْ) في هذا الموضع في تأويل: أي، على معنى: أي لا تعلوا علي، كقوله -عز وجل-: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ [سورة ص: ٦].
قال أبو إسحاق: وتأويل أي هاهنا تأويل القول والتفسير، كأنها قالت: قال: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ كما تقول: فعل فلان كذا وكذا، أي: إني جواد، كأنك قلت: يقول: إنى جواد (٢).
وقد بان بهذا أنَّ (أَنْ) لم تكن في كلام سليمان المكتوب في الكتاب؛ وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لا تعلو عليَّ (٣).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٢.
وأخرج عبد الرزاق ٢/ ٨١، بسنده عن قتادة: لم يكن الناس يكتبون إلا: باسمك اللهم، حتى نزلت: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٣، عن ميمون بن مهران، والشعبي.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٩. وذكر الوجهين الفراء ٢/ ٢٩١، وابن جرير ١٩/ ١٥٣. والله أعلم.
ولم أجد قول سيبويه في "الكتاب".
(٣) هكذا في (ج)، وفي نسخة: (أ)، (ب): وقد بان بهذا أن لم يكن يكن من كلام سليمان. بتكرار: يكن، وإسقاط: أن، ومن بدل: في.
223
قال ابن عباس: يريد لا تتكبروا عليَّ (١). أي: لا تترفعوا عليَّ وإن كنتم ملوكًا ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ منقادين طائعين (٢).
قال قتادة: وكذلك كانت الأنبياء تكتب جَمْلًا لا تطيل (٣). يعني: أن هذا القدر الذي ذكره الله كان كتاب سليمان (٤).
قال الكلبي: كان في الكتاب: فإن كنتم من الجن فقد عُبدتم لي، وإن تكونوا من الإنس فعليكم السمع والطاعة والإجابة، مع أشياء كتب بها إليها (٥). فعلى هذا كان الكتاب طويلاً، وذكر الله تعالى منه ما هو القصد وهو أنه دعاها إلى الطاعة.
قال الكلبي ومقاتل: أرسلت إلى قومها فاجتمعوا إليها فاستشارتهم فيما أتاها من سليمان فقالت:
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٤، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٤، عن ابن زيد.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٤، بلفظ: موحدين. وذكره هود الهواري ٣/ ٢٥٢، ونسبه للكلبي. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٣، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٤، عن سفيان.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٢. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٤. وذكره هود الهواري ٣/ ٢٥٢، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب، عن قتادة.
(٤) أخرج ابن جرير ١٩/ ١٥٢، عن ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه: (إنه)، و (إنه). ونحوه عند ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٣، عن مجاهد. و"تفسير مقاتل" ٥٨ ب. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٧ ب، عن ابن جريج.
(٥) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩٤، منسوبًا للكلبي. وفي "تنوير المقباس" ٣١٧: وأشياء كانت فيه مكتوبة. ولم يذكر شيئًا منها. وهذا لا دليل عليه، ولا سبيل للجزم به إلا من طريق معصوم.
224
٣٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ يعني: الأشراف وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدًا، وهم أهل مشورتها (١). وهذا قول قتادة والثُّمالي والكلبي ومقاتل قالوا: وكان كل رجل منهم على عشرة آلاف (٢). وقال مقاتل: كان مع كل قائد: مائة ألف (٣).
وقوله: ﴿أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ قال ابن عباس: أشيروا عليَّ: أي: بينوا لي مما أعمل (٤) ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾ فاعلة أمرًا وقاضيته (٥) ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ حتى تحضرون، أي: إلا بحضوركم ومشورتكم؛ قاله ابن عباس ومقاتل (٦). قالوا مجيبين لها:
٣٣ - ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ﴾ (٧) قال عطاء عن ابن عباس: كانت من قوة أحدهم أنه يُرَكِّض الفرس حتى إذا امتلأ فُرُوجُه ضم فخذيه فحبسه بقوته (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. و"الوسيط" ٣/ ٣٧٧، ولم ينسبه.
(٢) ذكره الهواري ٣/ ٢٥٣، وصدَّره بقوله: قال بعضهم. والثمالي: هو ثابت بن أبي صفية الثُّمالي.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. و"تنوير المقباس" ص ٣١٨، دون ذكر العدد. وفي نسخة: أ، ب: كررت مائة ألف، مرتين.
(٤) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٥، عن زهير بن محمد: أشيروا برأيكم. قال الفراء: جعلت المشورة فتيا؛ وذلك جائز لسعة العربية. "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٢.
(٥) فالمعنى واحد، فاعلة وقاضية. "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٢.
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. و"تنوير المقباس" ٣١٨، بمعناه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٣، عن ابن زيد. وهو في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، غير منسوب.
(٧) تكلم أبو علي الفارسي عن كلمة: ﴿أُولُوا﴾ وأنها جمع: ذو، من غير لفظه. "كتاب الشعر" ٢/ ٤٢٢، و"المسائل الحلبيات" ١٥٤.
(٨) ذكره عن ابن عباس: القرطبي ١٣/ ١٩٥. وفي "الوسيط" ٣/ ٣٧٧: أي: في =
وقال مقاتل: يعني عدة كثيرة من الرجال، كقوله: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ [الكهف: ٩٥] يعني: بالرجال (١).
فتحمل القوة هاهنا على العدة والكثرة (٢).
قوله تعالى: ﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ يعني الشجاعة والقوة في الحرب (٣).
قال ابن زيد: عرَّضوا لها بالقتال؛ بأن ذكروا لها قوتهم وشجاعتهم، ثم قالوا: ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ (٤) أي: في القتال وفي تركه ﴿فَانْظُرِي﴾ من الرأي ﴿مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ ماذا تشيرين علينا (٥).
قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال:
٣٤ - ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ قال مقاتل: أهلكوها، كقوله -عز وجل-: ﴿لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [المؤمنون: ٧١] يعني: لهلكت (٦). وقال غيره: خربوها (٧).
= الأبدان في معنى قول ابن عباس. في "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤١٦ (وكى): وإنما قيل للذي يشتد عدوه: مُوكٍ؛ لأنه كأنه ملأ هواء ما بين رِجليه عدوًا وأوكى عليه، والعرب تقول: ملأ الفرسُ فرُوج دَوَارِجه عَدْوُا: إذا اشتد حُضْرُه.
(١) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب.
(٢) وهذا جمع حسن بين القولين.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. وكلمة: القوة، في نسخة (ج).
(٤) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٤. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٥. وذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب، بنصه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٦، عن ابن عباس. وذكره هود الهواري ٣/ ٢٥٣، ولم ينسبه.
226
وقال الزجاج: معناه: إذا دخلوها عَنْوة أي: جهارًا عن قتال وغلبة (١).
﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ قال مقاتل: أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر (٢).
قال الفراء: قالت لهم: إنهم إن دخلوا بلادكم أذلوكم وأنتم ملوك (٣).
ومعنى الآية: أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وتناهى الخبر عنها، وصدَّقها الله تعالى فقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ يعني: كما قالت هي. وهذا معنى قول ابن عباس والكلبي ومقاتل (٤).
قال الزجاج: هو من قول الله -عز وجل-؛ لأنها قد ذكرت أنهم يفسدون فليس لتكرير هذا منها فائدة (٥).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٩. أخرج ابن جرير ١٩/ ١٥٤، عن ابن عباس: إذا دخلوها عنوة خربوها.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٨ ب. وهو في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، غير منسوب.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٢.
(٤) أخرج ابن جرير ١٩/ ١٥٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٧، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ١٥٩. و"تنوير المقباس" ٣١٨. وذكره ابن قتيبة، ولم ينسبه. "تأويل مشكل القرآن" ٢٩٤. ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٠. وعلى هذا فالوقف على: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ وقف تام. "النشر" ١/ ٢٢٧.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٩. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٢. وحكى الماوردي ٤/ ٢٠٩، عن ابن شجرة: أن هذا حكايته عن قول بلقيس: كذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا. واستظهره أبو حيان ٧/ ٧٠، وكذا السمين الحلبي ٨/ ٦١١. والأقرب ما اقتصر عليه الواحدي. والله أعلم.
227
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ قال مقاتل: أصانعهم على ملكي إن كانوا أهل دنيا (١).
وقال السدي: تختبر بذلك سليمان وتعرفه أملِك هو أم نبي (٢).
قال ابن عباس: أرسلت إليهم بمائة وصيف ومائة وصيفة. وهو قول مقاتل (٣).
وقال مجاهد: مائتي غلام، ومائتي جارية (٤). وهذا قول أكثر المفسرين؛ قالوا: الهدية كانت غلمانًا وجواري. وان اختلفوا في مبلغ عدد الفريقين (٥).
وقال ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٩ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٧، عن قتادة. وأخرج عنه في ٢٨٧٩: رحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها، وشركها، قد علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.
(٢) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٣، بمعناه، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٦، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٩، عن ابن عباس.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٥. و"تفسير مقاتل" ٥٩ أ.
(٤) ذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، بنصه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٥، وليس فيه ذكر العدد، وكذا في "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧١.
(٥) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٧، عن سعيد بن جبير: أرسلت إليهم ثمانين من وصيف ووصيفة.
(٦) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨١. وابن جرير ١٩/ ١٥٥. ورواه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٧٧، ٢٨٧٩، عنه، وعن قتادة. وهناك زيادات على ما ذكر الواحدي في ماهية هذه الهدية، وقد ذكر ذلك بطوله الثعلبي ٨/ ١٢٨، وكله مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي رحمه الله في ترك ذكرها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية، فهي هدية مالية كبيرة، لقوله تعالى: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ وأما تعيينها فلا دليل عليه. والله أعلم.
228
﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ من عنده بقبولٍ أم بِرَدٍ (١). قال الفراء: انقصت الألف من (بِمَ)؛ لأنها في معنى: بأي شيء، وإذا كانت (مَا) في موضع: أي، ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من (مَا) ليعرف الاستفهام من الخبر، ومن ذلك قوله: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ [النساء٩٧] و ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: ١] وإن أتممتها فصواب (٢)، وأنشدني المفضل (٣):
إنا قتلنا بقتلانا سَراتَكم أهلَ اللواء ففيما يكثرُ القِيلُ (٤)
قال: وأنشدنىِ أيضًا:
على ما قام يشتمني لئيمٌ كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ (٥)
وقال الزجاج: حروف الجر مع (ما) في الاستفهام تحذف معها الألف من (ما)؛ لأنهما كالشيء الواحد، وليُفصل بين الخبر والاستفهام، تقول: قد رغبت فيما عندك، فتثبت الألف، وتقول: فيم نظرت يا هذا؟
(١) "تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٥٦.
(٢) قال النحاس: وأجاز الفراء إثباتها في الاستفهام، وهذا من الشذوذ التي جاء القرآن بخلافها. "إعراب القرآن" ٣/ ٢١١.
(٣) هو أبو طالب المفضل بن سلمة.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٢، ولم ينسبه. بلفظ: القيل، وفي نسخة (أ)، (ب): الفتك، وأورده البغدادي في "الخزانة" ٦/ ١٠٦، وقال: البيت من قصيدة لكعب ابن مالك، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أجاب بها ابن الزبعرى، وعمرو بن العاص، عن كلمتين افتخرا بها يوم أحد. وسراة القوم: خيارهم. وهو في "ديوان كعب" ص ٨٣.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٢. ولم ينسب البيت، وكذا ابن جرير ١٩/ ١٥٦، والشاهد فيه: دخول الألف على: ما. والبيت في "ديوان حسان" ٧٩، من قصيدة يهجو فيه بني عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
229
فتحذف الألف (١).
قال المفسرون: دعت بلقيس رجلاً من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالًا أصحاب رأي وعقل، وبعثتهم وفدًا إلى سليمان مع الهدية، وهم المرسلون في قوله: ﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ (٢).
٣٦ - قوله -عز وجل-: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ أي: جاء الرسول سليمان؛ قاله الفراء والزجاج؛ زاد أي: الزجاج: ويجوز أن يكون فلما جاء بِرُّها سليمان إلا أن قوله: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ مخاطبة للرسول (٣).
﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ روى المسيبي (٤) عن نافع: ﴿أَتُمِدُّونَ﴾ خفيفة النون بنون واحدة، وياء على حذف النون الثانية التي تصحب ضمير
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٩ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ أ. واختار ابن قتببة أن يكون المراد به واحدًا، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾. "تأويل مشكل القرآن" ٢٨٤. ولا تعارض بين اللفظين؛ فيحمل الجمع على مخاطبة رئيس الوفد، ومن معه، ويحمل الإفراد على مخاطبة رئيس الوفد وحده. والله أعلم.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٣، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٠، و"البداية والنهاية" ٢/ ٢٣. وبرها: هديتها، والمال الذي بعثت به. في "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٨٨ (بر): البر فعل كل خير من أي ضرب كان.. والبر: الإكرام.
(٤) محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن، أبو عبد الله المسيبي، المدني، مقرئ عالم مشهور، ضابط ثقة، أخذ القراءة عن أبيه عن نافع، وحدث عن سفيان بن عيينة، ومحمد بن فليح، وغيرهم، روى عنه مسلم وأبو داود في كتابيهما، وأبو زرعة، وغيرهم. ت ٢٣٦ هـ "معرفة القراء الكبار" ١/ ١٧٧، "غاية النهاية" ٢/ ٩٨.
230
المتكلم (١)، ولا يجوز حدف الأولى لأنه لحن (٢)، والثانية قد حذفت في مواضع من الكلام نحو: قَدِي (٣).
وقرأ حمزة: ﴿أَتُمِدُّونَي﴾ بنون واحدة مشددة أدغم الأولى في الثانية، ومن قرأ بنونين وجمع بين المثلين ولم يدغم؛ فلأن الثانية ليست بلازمة؛، ألا ترى أنه يجزئ في الكلام من غير الثانية نحو: أتمدون زيدًا (٤).
(١) قرأ ابن كثير: ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾ بنونين، وإثبات الياء في الوصل. وقرأ نافع في رواية المسيبي بنون واحدة خفيفة، وبحذف الياء في الوقف، وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: بنونين بغير ياء في الوصل والوقف، وقرأ حمزة بنون واحدة مشددة، وياء في الوصل والوقف. "السبعة في القراءات" ٤٨٢. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٥٠، وذكر الفراء هذه الأوجه، وصوبها كلها، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٣. وكذا ابن جرير ١٩/ ١٥٧. والأزهري، "معاني القراءات" ٢/ ٢٤١.
(٢) في نسخة: (ج): لأن حذف الأولى لحن.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٩. قال سيبويه ٢/ ٣٧١: وقد جاء في الشعر: قدي، فأما الكلام فلا بد فيه من النون، وقد اضطر الشاعر فقال: قدي، شبهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد، قال الشاعر:
قَدْني من نصر الخُبَيبيْن قَدِي.
والشاعر قيل هو: أبو نخيلة، وقيل: حميد الأرقط، وقيل غير ذلك. والخُبيبان، بالتصغير هما: عبد الله بن الزبير، وكنيته: أبو خبيب، ومصعب أخوه، غلبه عليه لشهرته، وقدني: أي: حسبي وكفاني، وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمعنى: حسبي من نصرة هذين الرجلين، أي: لا أنصرهما بعد. وقدي الثانية توكيد. والشاهد فيه: حذف النون من قدي تشبيهًا بحسبي. "حاشية الكتاب" ٢/ ٣٧١. وأنشده ولم ينسبه أبو زيد في "النوادر" ٢٠٥، وأبو علي في "الحجة" ٣/ ٣٣٤.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٩. وفيه: ألا ترى أنها تجري في الكلام، ولا تلزق بها الثانية.
231
ومعنى قوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ إنكار عليهم إهداءهم إليه، وما أتوه به من المال. قوله: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ أي: ما أعطانىِ من الإسلام والنبوة والملك خير مما أعطاكم ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ يعني: إذا أهدى بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بها إنما أريد منكم الإسلام. قاله مقاتل (١).
ثم قال سليمان لأمير الوفد:
٣٧ - ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ أي: بالهدية. هذا قول أكثر المفسرين (٢). وقال الكلبي: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ خطاب للَّهدهد كتب إليها كتابًا آخر (٣).
قوله تعالى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ قال ابن عباس والمفسرون وأهل اللغة: لا طاقة لهم بها (٤).
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٩. وفيه: إذا أهدى بعضكم إليِّ، فأما أنا فلا أفرح... وفي "تنوير المقباس" ٣١٨: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ إن ردت إليكم. وما اقنصر عليه الواحدي أقرب. والله أعلم.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٥٩، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ أ. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٥٧، عن وهب بن منبه. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨١، عن قتادة: ما نراه يعني إلا الرسل. وفي "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٤، و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٤، توجيه الخطاب للرسول، وليس فيه ذكر الهدية.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨١، عن زهير بن محمد. وفي "تنوير المقباس" ٣١٨: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ بهديتهم. وليس فيه تعيين المخاطب. حيث يحتمل أن يكون الخطاب لرسول ملكة سبأ. "تفسير الماوردي" ٤/ ٢١١.
(٤) ذكره البخاري، عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم، كتاب التفسير، الفتح ٨/ ٥٠٤. ووصله ابن جرير ١٩/ ١٥٨. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٢، عن أبي صالح، وقتادة. و"تفسير مقاتل" ١٥٩. و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٤. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٣. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٤.
﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا﴾ قال الكلبي: من قرية سبأ (١) ﴿أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أذلاء.
قال المفسرون: فلما رجعت إليها الرسل قالت: قد عرفنا ما هذا بملِك وما لنا به من طاقة. ثم تجهزت للمسير إليه (٢).
٣٨ - قال ابن عباس: وأخبره جبريل أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه (٣). فقال سليمان: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ قال عبد الله بن شداد: كانت بلقيس على رأس فرسخ (٤) من سليمان لما قال سليمان: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ وكان ما بينه وبينها كما بين الكوفة والحيرة (٥) وذلك أنه لم يُخبر بمسيرها إليه حتى رأى يومًا رهجًا (٦) قريبًا منه فسأل عنه فقيل: بلقيس يا رسول الله فحينئذ قال: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ هذا قول وهب بن
(١) "تنوير المقباس" ٣١٨. وهو في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، غير منسوب.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٢، عن يزيد بن رومان.
(٣) ذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٧، ولم ينسبه.
(٤) الفرسخ: ثلاثة أميال أو ستة؛ سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك كأنه سكن، والفرسخ: السكون. "لسان العرب" ٣/ ٤٤ (فرسخ)، والميل مقياس للطول قُدِّر قديمًا بأربعة آلاف ذراع، وهو الميل الهاشمي، وهو بري وبحري؛ فالبري يقدر الآن بما يساوي: ١٦٠٩ من الأمتار، والبحري بما يساوي: ١٨٥٢ من الأمتار. "المعجم الوسيط" ٢/ ٨٩٤.
(٥) الكُوفة بالضم: العصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق، وسميت بذلك: لاستدارتها، وقيل: لاجتماع الناس بها. "معجم البلدان" ٤/ ٥٥٧. وهي جنوب بغداد بحوالي ١٥٠ كم. والحيرة: مدينة على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له: النجف. "معجم البلدان" ٢/ ٣٧٦. وهي جنوب الكوفة بحوالي ٧٥ كم.
(٦) الرَّهَج: الغبار. "تهذيب اللغة" ٦/ ٥٢ (رهج).
233
منبه، وجميع المفسرين (١).
واختلفوا في السبب الذي خص سليمان -عليه السلام- العرش بالطلب؛ وقال قتادة: لأنه قد وُصِف له عرشها بالعِظَم فأعجبه ذلك وأحب أن يراه (٢).
وقال مقاتل وأكثر المفسرين: أحب سليمان أن يأخذ عرشها قبل أن تُسلِم فلا يحل أخذ مالها (٣). فذلك قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي: مخلصين بالتوحيد. قاله مقاتل (٤).
وقال ابن جريج: ﴿مُسْلِمِينَ﴾ بحرمة الإسلام فيمنعنا الإسلام أموالهم (٥).
(١) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٢، ٢٨٩٧، عن ابن عباس. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٢٩ أ. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد، المصنف ٦/ ٣٣٦. وهذا يخالف ما ذكره الواحدي قبل ذلك، واقتصر عليه في تفسيره الوسيط ٣/ ٣٧٧، من أن نبي الله سليمان -عليه السلام- قد أعلمه جبريل بذلك. والله أعلم.
(٢) ذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب، عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٣، عنه، وليس فيه دلالة على ما ذُكر، بل هو موافق للقول الذي ذكره الواحدي عن مقاتل، وأكثر المفسرين.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٤، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٤، عن زهير بن محمد، وعطاء والسدي. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب، عن أكثر المفسرين، ولم يسمهم. واقتصر عليه الواحدي، في "الوسيط" ٣/ ٣٧٨، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٤. ولا يخفى ما في هذا القول من البعد؛ لأن نبي الله سليمان عليه السلام لم يكن بحاجة لذلك، وكيف يظن به وهو نبي، وقد أعطاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأقرب ما يكون أن نبي الله سليمان عليه السلام أراد أن يُظهر لها عظم ملكه، وأنه من الله. والله أعلم. وقد ذكر هذا الوجه الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب، فقال: وقيل: ليريها قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه. وذكره الواحدى بعد ذلك بمعناه، لكنه لم ينتقد القول السابق.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٩.
(٥) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦١.
234
وقال ابن عباس: ﴿مُسْلِمِينَ﴾: طائعين منقادين (١).
وعلى هذا يحل له أخذ مالها بعد إتيانها. قال مقاتل: وكان قد أوحي إلى سليمان أنها تأتي مسلمة، فلذلك قال: ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (٢). فهذان قولان في سبب طلب العرش.
وقال ابن زيد: أراد سليمان أن يعاتبها بالعرش ويختبر عقلها (٣). ويدل على هذا قوله: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ ألَّا يتبين.
وقال آخرون: أراد سليمان أن يريها آية معجزة في عرشها ليجعل ذلك حجة عليها، فقال: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي: طائعين منقادين (٤). كما قال ابن عباس.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾ العفريت: النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء. يقال: رجل عِفْرٌ وعِفْريتٌ، وعِفْرية وعُفارية، بمعنى واحد (٥).
(١) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم، بلفظ: طائعين. كتاب التفسير، "الفتح" ٨/ ٥٠٤. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب، كذلك. ونسبه الهواري ٣/ ٢٥٤، للكلبي.
(٢) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٠، وفيه: وكانت الملوك يتعاتبون بالعلم. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ب، عنه بلفظ: أراد أن يختبر عقلها.
(٤) ذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب، ولم ينسبه.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٠، بنصه. و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٤، بمعناه. وقد قرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي [عِفرية]. قال ابن جني: هو العفريت. "المحتسب" ٢/ ١٤١. قال أبو عبيد: رجك عِفرٌ نِفرٌ، وعِفْرِيةٌ نِفْرِية، وعِفْرِيت نِفْرِيت، وعُفَارية نُفَارية: إذا كات خبثًا ماردا. "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢١١ (نفر).
235
وقال الفراء: من قال عفرية، فجمعه: عَفَارٍ. ومن قال: عفريت، جمعه: عفاريت، وجائز أن يقول: عفارٍ، كقولهم في جمع الطاغوت: طواغيت وطواغ (١).
قال المفسرون في تفسير العفريت: إنه المارد الداهية القوي الخبيث الغليظ القوي الشديد. كل هذا من ألفاظهم (٢).
وقال ابن قتيبة: أصله: عِفْر، زيدت التاء فيه، يقال: عِفْريت ونِفْرِيت وعُفَارِية، ولم يسمع بنُفَارِية (٣).
وقوله: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ يعني: من مجلسك الذي تقضي فيه؛ وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غُدْوة إلى نصف النهار. قاله ابن عباس والمفسرون (٤).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٤. وذكر الأزهري كلام الزجاج والفراء، ونسب الثاني دون الأول. "تهذيب اللغة" ٢/ ٣٥٢ (عفر).
(٢) قال الكلبي: داهية من الجن. تفسير عبد الرزاق ٢/ ٨١. وقال مقاتل ٥٩ ب: مارد. وقيده الهواري ٣/ ٢٥٤، بالكافر، فقال: العفريت لا يكون إلا الكافر. ويبعد أن يكون عند نبي الله سليمان عليه السلام وهو على الكفر. والله أعلم. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٦١، عن مجاهد، وقتادة: مارد من الجن. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٤، عن مجاهد. وفي "تنوير المقباس" ٣١٨: شديد. وذكر الأنباري في كتابه: "الزاهر" ١/ ٢٠٩، و"الأضداد" ٣٨٣، معان أخرى لكلمة: عفريت.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٤.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٤، عن ابن عباس، ومجاهد. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٢ عن قتادة. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٢، عن مجاهد، وقتادة، ووهب بن منبه. وهو في "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٢. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٤. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٤. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ ب.
236
فمعنى المقام هاهنا: المقعد والمشهد، لا موضع القيام. وقال أبو الحسن: إنهم يقولون للمقعد والمشهد: مقام، كالذي في هذه الآية، وكقوله: ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٥٨، الدخان: ٢٦] يعني ومجلس حسن. قال الكلبي: كانت قوة العفريت أنه يضع قدمه حيث ينال بصره.
وقال مقاتل: قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري فليس شيء أسرع مني (١).
﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ﴾ أي: على حمله (أَمِينٌ) على ما فيه من الذهب والفضة والجواهر. قاله ابن عباس (٢). فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك (٣).
٤٠ - ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ قال محمد بن إسحاق: هو آصف بن بَرْخيا، وكان صدِّيقًا، يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به الله أجاب (٤). وهو قول مقاتل والكلبي والأكثرين، ورواية الضحاك عن ابن عباس (٥).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب. وذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٨، ولم ينسبه.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٥. وذكره الثعلبي ٨/ ١٢٩ ب. وهو قول مقاتل ٥٩ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٣، عن الضحاك. وهو في "تنوير المقباس" ٣١٨. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ب.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٦، عنه، وعن يزيد بن رومان. وهو في "البداية والنهاية" ٢/ ٢٣.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٥، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. و"تفسير مقاتل" ٥٩ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٤، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٣، عن محمد بن إسحاق. وأخرجه من طريق الضحاك الثعلبي ٨/ ١٢٩ب. واقتصر عليه الواحدي، في "الوسيط" ٣/ ٣٧٨، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٤.
237
وقال قتادة: هو رجل من بني إسرائيل كان يعلم الاسم الذي إذا دعىِ به أجاب، اسمه كليخا (١).
وقال أبو صالح وشعيب بن حرب (٢): هو رجل من بني آدم (٣).
وقال عطاء عن ابن عباس: هو جبريل (٤).
وقال ابن زيد: هو رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر، فخرج ذلك اليوم ينظر مَنْ ساكن الأرض، فوجد سليمان، فدعا باسم من أسماء الله فجيء بالعرش (٥).
ومعنى: ﴿عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ علم اسم الله الأعظم، على ما ذكره
(١) أخرجه بسنده عبد الرزاق ٢/ ٨٢، دون ذكر الاسم. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٢، من طريقين؛ إحداهما: مثل رواية عبد الرزاق، والثانية: فيها ذكر الاسم فقط، ولفظه: بليخا. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٦، واسمه: آصف. وفي "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٠ أ، اسمه: مليخا. وهذا الاختلاف في تعيين اسمه مما لا طائل تحته، ولا يفيد التعيين في معنى الآية شيئًا؛ فالأولى تركه.
(٢) شعيب بن حرب المدائني، أبو صالح، نزيل مكة، ثقة عابد، روى عن إسماعيل بن مسلم العبدي، وشعبة، وسفيان، وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل، وعلي بن بحر، وغيرهم. مات سنة ١٩٧. "السير" ٩/ ١٨٨، و"تقريب التهذيب" ٤٣٧.
(٣) أخرجه بسنده عبد الرزاق ٢/ ٨٢، عن الكلبي. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٢، ١٦٣، عن أبي صالح، وابن جريج. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٥، عن أبي صالح، وزهير بن محمد. وأخرج أيضًا عن أبي صالح أنه قال: هو الخضر. وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية، والله أعلم.
(٤) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٥، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٩ ب، ولم ينسباه.
(٥) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٣. والثعلبي ٨/ ١١٣٠. وذكر ابن كثير قولاً غريبًا، وهو. أنه كان من الجن. "البداية والنهاية" ٢/ ٢٣. وكل هذه الأقوال مما لا فائدة من البحث فيها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية. والله أعلم.
238
المفسرون (١). وقال محمد بن المنكدر: ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هو سليمان عليه السلام (٢). وإلى هذا القول ذهب المعتزلة (٣)، إنكارًا لكرامة الولي (٤). وهذا القول لا يصح؛ لأنه خلاف ما عليه المفسرون، ولأن
(١) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب. وسيذكر أقوالهم الواحدي بعد ذلك.
(٢) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ.
(٣) المعتزلة من الفرق الكلامية التي نشأت في أواخر العصر الأموي، على يد واصل بن عطاء الذي اعتزل الجماعة بعد خلافه مع الحسن البصري، في القدر، في أوائل المائة الثانية، فكان مع أصحابه يجلسون معتزلين فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، عظم شأنهم في العصر العباسي، والمعتزلة يعتمدون على العقل المجرد في فهم العقيدة الإِسلامية لتأثرهم بالفلسفة اليونانية، ولا يقيمون للنصوص الشرعية إذا خالفت عقولهم وزنًا ولا قدرًا، ولهم أصول خمسة هدموا بها كثيرًا من الدين؛ وهي:
١ - التوحيد، وهو عندهم توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات؛ فقالوا: إن الله لا يرى، وأن القرآن مخلوق، وأنه ليس فوق العالم، وأنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع، ولا بصر ولا مشيئة، ولا صفة من الصفات.
٢ - العدل، ومضمونه عندهم أن الله لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شره.
٣ - المنزلة بين المنزلتين، في مرتكب الكبيرة فإنه عندهم يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر.
٤ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومضمونه جواز الخروج على أئمة المسلمين بالقتال إذا جاروا؛ دون تقييد ذلك بالكفر البواح الصريح.
٥ - إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يُخرج أحدًا منهم من النار. "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٣٥٧، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢٩٨، ٥٢٠، و"الفرق بين الفرق" ٢١.
(٤) ذكره الطوسي، عن الجبائي. "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٩٦. وذكره الزمخشري ٣/ ٣٥٥، مع غيره من الأقوال، ولم يرجح بينها. قال ابن أبي العز: والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنباء بالمعجزات، لكن كثير منهم =
239
الخطاب في قوله: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ لسليمان. وكيف يصح أن يقال: ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هو سليمان؟.
وقوله: ﴿أَنَا آتِيكَ﴾ أمال حمزة (ءَاتِيكَ) أشم الهمزة شيئًا من الكسر (١) من أجل لزوم الكسرة في آتي، وإذا لزمت الكسرة جازت الإمالة فأمال الفتحة التي على همزة المضارعة ليميل الألف في آتي نحو الياء، وإمالة الكسائي فتحة الياء في (ءَاتَانِ الله) أحسن من إمالة حمزة؛ لأن (ءَاتَى) مثال الماضي، والهمزة في (ءَاتِيكَ) همزة المضارعة، فإمالتها لا تحسن، ألا ترى أنه لو كانت الياء التي للمضارعة في الفعل، لم تجز الإمالة، وإذا لم تجز الإمالة في حرف من حروف المضارعة، كان ما بقىِ من الحروف في حكمه، ألا ترى أنهم قالوا: يَعِدُ، فأتبعوا سائر الحروف الياء، وكذلك أُكرِمُ (٢).
وقوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ قال محمد بن إسحاق: قال له آصف: تمد عينيك، فلا ينتهي إليك طرفك إلى مداه حتى أُمثِّلَه بين يديك (٣). ثم قال: امدد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ينظر نحو اليمن، ودعا آصف فانخرق العرش مكانه الذي هو فيه، ثم نبع بين يدي سليمان (٤).
= لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم في منهم إنكار خوارق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر، ونحو ذلك. "شرح العقيدة الطحاوية" ١٥٠.
(١) "السبعة في القراءات" ٤٨٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٠.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩١، بشيء من التصرف.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٤.
(٤) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٤. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٧.
240
ونحو هذا روى عكرمة عن ابن عباس، في كيفية حصول العرش عند سليمان؛ قال: لم يخر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض، ولكنه انشقت به الأرض، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان (١).
وقال ابن سابط: دخل السرير فصار له نفق في الأرض حتى نبع بين يدي سليمان (٢).
وقال مجاهد: خرج العرش من نفق في الأرض (٣).
وقال الكلبي: خر آصف ساجدًا ودعا باسمه الأعظم، فعاد عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان (٤).
وقال مقاتل: احتمل السرير احتمالًا فوضع بين يدي سليمان (٥). هذا قول المفسرين.
وقال أهل المعاني: الله عز وجل قادر على ذلك بأن يُعدمه من حيث كان، ثم يوجده، حيث كان سليمان بلا فصلٍ، بدعاء ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (٦). وتفسير ذلك العلم: هو اسم الله الأعظم على ما ذكرنا عن
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٤، ونسبه لابن عباس. وأخرج نحوه ابن جرير ١٩/ ١٦٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٧، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد، المصنف ٦/ ٣٣٦. وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٣٦١، عن ابن سابط، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٧، عنه، وعن عبد الله بن شداد. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٢.
(٤) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٨، ونسبه للكلبي.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب.
(٦) ذكره الطوسي، ولم ينسبه. "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٩٧. وذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٨، ولم ينسبه. وهذا أحسن مما سبق مما لا دليل عليه.
241
المفسرين. واختلفوا في ذلك الاسم، فقال مجاهد ومقاتل: يا ذا الجلال والإكرام (١).
وقال شعيب بن حرب: قال الذي جاء بعرشها: إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحداً لا إله إلا أنت أئت به؛ فإذا هو مستقر عنده (٢). ونحو هذا قال الزهري (٣).
وروت عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الاسم الذي دعا به آصف: يا حي يا قيوم. وهو قول الكلبي (٤).
وأما تفسير قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فقد ذكرنا فيه قول محمد ابن إسحاق؛ وهو انتهاء طرفه إلى مداه، وهذا ضد الارتداد وإنما يصح تفسيره بتقدير محذوف في الآية؛ كأنه: قبل أن يرتد إليك طرفك بعد
(١) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٦، عن مجاهد. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٢. و"تفسير مقاتل" ٥٩ ب. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٤، ولم ينسبه، وزاد: والمنن العظام، والعز الذي لا يرام.
(٢) ذكره الزجاج، "معاني القرآن" ٤/ ١٢١، ولم ينسبه. ونسبه في "الوسيط" ٣/ ٣٧٨، لبكر بن عبد الله.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٦. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ.
(٤) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ. وهو في "تنوير المقباس" ٣١٨، غير مرفوع. وذكره مرفوعًا القرطبي ١٣/ ٢٠٤. وذكره البغوي منسوبًا لعائشة، ولعله أقرب. والله أعلم. وكون يا حي يا قيوم هو الاسم الذي إذا دعي الله به أجاب ثابت؛ فعن أنس؟، قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعا رجل فقال: يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك، فقال: (أتدرون بما دعا؟ والذي نفسي بيده دعا الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب). أخرجه البخاري، الأدب المفرد ١٤١، باب: الدعاء عند الاستخارة. وأخرج أبو داود ٢/ ١٦٧، كتاب الصلاة، رقم: ١٤٩٥. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى ١/ ٣٨٦، رقم: ١٢٢٣. وهو في صحيح الأدب المفرد ٢٦٢، رقم: ٥٤٣.
242
الانتهاء، فحذف ذكر الانتهاء؛ لأن الارتداد يدل عليه، وذلك أنه لا يرتد إليه طرفه إلا بعد مده إياه، حتى ينتهي طرفه ثم يعود إليه (١).
وقال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طَرُف (٢) حتى جاء به فوضعه بين يديه (٣). وعلى هذا حتى يرتد إليك طرفك من السماء.
ومعنى: ﴿يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ يعود إليك بصرك بعد مده إلى منتهاه.
وفسر مجاهد ارتداد الطرف تفسيرًا صالحًا؛ فقال: هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئًا (٤). وعلى هذا معنى الآية: أن سليمان يمد بصره إلى أقصاه وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب إليه بصره حسيرًا، يكون قد أتى بالعرش.
وقال مقاتل: يقول قبل أن ينتهي إليك الذي هو على منتهى بصرك وهو جاءٍ إليك (٥).
وقال الكلبي: يقول قبل أن يأتيك الشخص من مد النظر (٦). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء. وكذلك قال أبو صالح: قبل أن يأتيك
(١) وجعله ابن كثير أقرب الأقوال. "البداية والنهاية" ٢/ ٢٤.
(٢) الطَّرْف: إطباق الجفن على الجفن. "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣١٩ (طرف).
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٤. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٧، عنه، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي ٨/ ١١٣٠.
(٤) أخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٩. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب.
(٦) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٢. وهو في "تنوير المقباس" ٣١٨. بمعناه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ، عن قتادة.
243
الشيء من مد البصر (١). واختاره الفراء (٢). وعلى هذا التفسير يجب أن يكون التقدير: قبل أن يرتد إليك مَنْ على منتهى طرفك؛ وهذا التقدير بعيد، ثم إتيان الشخص إليه من مد البصر لا يسمى ارتدادًا إلا أن يكون قد خرج من عنده، فالقول هو الأول؛ ولهذا قال قتادة: هو أن يبعث رسولاً إلى منتهى طرفه، فلا يرجع حتى يؤتى به (٣). فعلى هذا يصح أن يقال للرسول إذا رجع إليه: ارتد إليه، ولو صح أن يحمل الطرف على من ينظر إليه ويبصره من بعيد، يصح هذا التفسير الثاني؛ ولكنه بعيد.
وفي ارتداد الطرف قول ثالث؛ قال أبو إسحاق: قيل هو مقدار ما يفتح عينه ثم يَطْرُف؛ قال: وهذا أشبه بارتداد الطرف، ومثله من الكلام: فَعَل ذلك في لحظة عين؛ أي: في مقدار ما نظر نظرة واحدة (٤). وعلى هذا معنى الآية: إذا نظرت إلى شيء فقبل أن تَطْرُف يكون العرش عندك.
والإتيان بالعرش كان كرامة للولي، ومعجزة للنبي، فلا ينكر سرعة حصول ذلك، إذ كان الله تعالى قادرًا على تحصيله عنده في أسرع من لمحة ولحظة. فهذه ثلاثة أقوال في تفسير قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾ في الآية محذوف تقديره: فدعا الله فأتى به ﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾ أي: رأى العرش مستقرًا عنده ثابتًا بين يديه {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ
(١) ذكره ابن قتيبة، غريب القرآن ٣٢٤، ونسبه لأبي صالح. واقتصر عليه الهواري ٣/ ٢٥٤. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٦٤، عن سعيد بن جبير.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٤.
(٣) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ أ، بمعناه.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢١، وذكر هذا القول ابن قتيبة، في غريب القرآن ٣٢٤، ولم ينسبه.
244
رَبِّى} هذا النصر والتمكين في المُلك من فضل ربي وعطائه (١).
قال قتادة: والله ما جعله فخرًا ولا بطرًا، ولكن جعله منة لله وفضلًا منه ونعمة (٢) ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ﴾ على ما أعطاني ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾.
وقال مقاتل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ هذا السرير ﴿مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ أعطانيه (٣). يعني: جيء به في حال شركها قبل أن تسلم ﴿لِيَبْلُوَنِي﴾ قال: يقول: ليختبرني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ الله في نعمه إذ أُتيت بالعرش ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ إذ رأيت مَنْ هو دوني أعلم مني.
ثم عزم الله له على الشكر فقال: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أي: لأجل نفسه يفعل ذلك (٤)؛ لأن ثواب شكره يعود إليه ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ﴾ عن شكره ﴿كَرِيمٌ﴾ بالإفضال على من كفر نعمه (٥).
٤١ - وقوله: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي﴾ قال وهب، ومحمد ابن كعب، والمفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمانُ بلقيسَ فتفشي عليه أسرار الجن، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده، فأساءوا
(١) "تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٦٥.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٩.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب وتبعه على ذلك الهواري ٣/ ٢٥٥، فقال.. كأنه وقع في نفسه مثل الحسد له، ثم فكر، فقال: أليس هذا الذي قدر على ما لم أقدر عليه مسخرًا لي. ونسبه لابن عباس، بدون إسناد، وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٥، عنه من طريق عطاء الخرساني. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٩، عن السدي. وكيف يظن بنبي الله سليمان عليه السلام مثل ذلك. والله أعلم.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٠ ب. وهو بنصه، في "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٨. ولم ينسبه. ويمكن أن يحمل: الكريم، هنا على الصفوح. "تأويل مشكل القرآن" ٤٩٤.
245
الثناء على بلقيس ليزهدوه فيها؛ وقالوا: إن في عقلها شيئًا، وإن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختجر عقلها بتنكير عرشها، فذلك قوله. ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ (١).
قال المفسرون: يقول: غيروا لها سريرها (٢). يقال: نكرته فتنكر أي: غيرته فتغير (٣).
ومعنى التنكير في اللغة: التغيير إلى حال ينكرها صاحبها إذا رآها (٤).
قال قتادة ومقاتل: نكرته: أن يزاد فيه وينقص (٥)، يقول: زيدوا في
(١) بنصه، في "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٨، ولم ينسبه. وذكره مطولاً الهواري ٣/ ٢٥٦، ونسب بعضه للكلبي. وأورده مطولًا ابن جرير، في التاريخ ١/ ٤٩٣، والتفسير ١٩/ ١٦٩. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٧، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ ب، عن وهب، ومحمد بن كعب. وذكره الفراء في المعاني ٢/ ٢٩٤، بمعناه. قال ابن كثير: وهذا ضعيف. "البداية والنهاية" ٢/ ٢٤. ولم يبين سبب ضعفه، والظاهر أنه يعني متنه؛ لأنه لم يذكر إسناده. والله أعلم. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٣، عن مجاهد، وقتادة.
(٢) ذكره البخاري، عن مجاهد، بلفظ: غيروا. كتاب التفسير، "الفتح" ٨/ ٥٠٤. وكذا عند الهواري ٣/ ٢٥٥. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٥، ١٦٦، عن قتادة، ومجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٠، عن مجاهد. وهو في "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٢.
(٣) غريب القرآن لابن قتيبة ٣٢٥، بنصه.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١٩١ (نكر)، بمعناه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٢، عن قتادة. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٦٦، ١٦٦، عن ابن عباس، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٠، عن قتادة، وعكرمة.
246
السرير وانقصوا منه، فننظر إذا جاءت ﴿أَتَهْتَدِي﴾ أتعرف السرير، أي: أتهتدي لمعرفته ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ لا يعرفون (١). والقوم تقع على الرجال والنساء، فلما جاءت المرأة قيل لها:
٤٢ - ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ قال قتادة: شِبْهُه، وكانت تركته خلفها (٢).
وقال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وعجبت من سرعته؛ فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ (٣).
وقال مقاتل: عرفته، ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها؛ ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت نعم (٤).
وقال عكرمة: كانت حكيمة؛ قالت: إن قلت: هو هو، خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ شبهه (٥).
وقال الفراء: كانت تعرف وتنكر فلم تقل: هو هو، ولا: ليس هو، فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ (٦).
قوله تعالى: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ مذهب مجاهد ومقاتل: أن هذا من قول سليمان (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب، بنصه.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٢. وابن جرير ١٩/ ١٦٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩١.
(٤) "تفسير مقاتل" ٥٩ ب، بنصه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ ب، عن الحسين بن الفضل.
(٥) بنصه، في "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٩. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٢، عن السدي.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٥.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٦٠. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٧، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي =
وعلى هذا للآية تأويلان:
أحدهما: وأوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرأة؛ أي: من قبل مجيئها ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾: مخلصين لله بالتوحيد ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾ (١).
والثاني: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ خاضعين لله.
وقال آخرون: هذا من كلام المرأة وذلك أنها لما قالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب (٢). قالت: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ بصحة نبوة سليمان ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾ أي: من قبل الآية في العرش ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ أي: طائعين منقادين لأمر سليمان من قبل أن جئنا. وهذا القول أليق بالمعنى، وأشبه بظاهر التنزيل (٣).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: منعها من الإيمان بالله والتوحيد ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وهو الشمس (٤).
= حاتم ٩/ ٢٨٩٢، عن مجاهد، وسعيد بن جبير. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٣. واقتصر على هذا القول ابن جرير، وابن أبي حاتم، والسمرقندي ٢/ ٤٩٧، والماوردي ٤/ ٢١٥. وغيرهم.
(١) "تفسير مقاتل" ١٦٠. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٢، عن زهير بن محمد. واقتصر عليه الثعلبي ٨/ ١٣٠ ب.
(٢) وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت. "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٩. وقد أخرج ابن جرير ١٩/ ١٥٩، عن وهب بن منبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٨٣، عن يزيد بن رومان. وهو من الأخبار الإسرائيلية.
(٣) واقتصر الواحدي على هذا القول في تفسيريه الوسيط ٣/ ٣٧٩، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٤، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٦٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٠ ب، ولم ينسبه.
248
قال الفراء: معنى الكلام: صدها من أن تعبد الله ما كانت تعبد، أي: عبادتها الشمس والقمر. وقد قيل: ﴿وَصَدَّهَا﴾ منعها سليمان ما كانت تعب، و (مَا)] نصب، والفعل لسليمان. ويجوز أن يكون الفعل لله على معش: وصدها الله ما كانت تعبد (١).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ كسرت الألف من (إِنَّ) على الاستئناف (٢). أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس فنشأت فيما بينهم، ولم تعرف إلا عبادة الشمس. وذُكر في التفسير أنها كانت عاقلة، ولم يصدها عن عبادة الله نقص العقل؛ إنما صدها: عبادة الشمس (٣).
وذكر الكسائي وجهًا آخر؛ فقال: هذه الآية متصلة بالتي قبلها؛ والمعنى: قال سليمان: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّهَا﴾ أن تؤتى العلم وأن تسلم عبادةُ غير الله وكفرها السابق (٤). وإذا جعلنا (مَا) في محل النصب جعلنا الصد متعديًا إلى مفعولين، وليس يتعدى الصد إلى مفعولين إلا بواسطة حرف الجر، كما تقول: صددت زيدًا عن كذا (٥)، قال الله تعالى: ﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ﴾ [الرعد: ٣٣] ولكن يجوز أن تجعل الصد بمعنى: النفع، فيتعدى إلى مفعولين. أو يقال: التقدير: صدها عما كانت تعبد، فحذف الجار، كقوله: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه﴾ [الأعراف: ١٥٥].
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٥. ولم ينسب شيئًا من هذه الأقوال.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٥، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٥، بمعناه.
(٤) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٢، عن سعيد بن جبير: أي: بصدودها كانت من قوم كافرين، وإنما وصفها، وليس بمستأنف.
(٥) ذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٣.
249
٤٤ - وقوله: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ﴾ الآية، قد ذكرنا أن الشياطين قالت لسليمان: إن رجلها كحافر الحمار.
قال ابن عباس: وكان لسليمان ناصح من الشياطين، فقال له: كيف لي أن أرى قدمها من غير أن أسألها كشفه؟ فقال: أنا أهريق لك في هذا الصرح، يعني: القصر ماء، وأبلط فوق الماء بالزجاج، حتى تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدمها.
وقال المفسرون: أراد سليمان أن يعلم حقيقة ما قالت الجن، وينظر إلى قدمها وساقها، فهيئ له بيتٌ من قوارير فوق الماء، وأُرسل فيه السمك لتحسب أنه الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، و ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ (١).
والصرح في اللغة معناه: القصر. قال ذلك أهل اللغة، والتفسير (٢)، وهو قول ابن عباس ومقاتل (٣).
وقال أبو عبيد: كل بناء موثق من صخر أو غير ذلك فهو صرح (٤)،
(١) "تفسير مقاتل" ٦٠ أ، و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٦. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٦٨، عن وهب بن منبه. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٣، عن ابن عباس، ومحمد ابن إسحاق. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٠ ب، عن وهب بن منبه. وذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٧٩، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٥، بمعناه، ولم ينسبه. وأما القول الذي ذكره عن ابن عباس، فلم أجده. ومثل هذا التفصيل مما لم يثبت في الكتاب والسنة؛ يتعين تركه خاصة ما يتعلق منه برغبة نبي الله سليمان عليه السلام رؤية قدمها وساقها.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٤. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٦٠. و"تنوير المقباس" ٣١٩.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٣٧ (صرح)، بلفظ: الصرح: كل بناء عال مرتفع، وجمعه: صروح.
250
وأنشد هو وغيره بيت أبي ذؤيب:
بهن نَعَام بناها الرجال تشبه أعلامهن الصروحا (١)
قال أبو عبيدة: كل بناء بنيته من حجارة فهو: نَعَامة، والجماع: نَعَام (٢).
وقال أبو إسحاق: الصرح في اللغة: القصر والصحن، يقال هذه ساحة الدار، وصحنة الدار، وباحة الدار، وقاعة الدار، كله في معنى الصحن (٣). ونحو هذا ذكر ابن قتيبة؛ فقال: الصرح: بلاط اتُّخِذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك (٤).
وقال مجاهد: الصرح: بركة ماء، ضرب عليها سليمان قوارير؛ ألبسها (٥).
(١) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٥، ونسبه لأبي ذؤيب، وعنه الأنباري، "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ١٥٥، وأنشده ابن قتيبة، غريب القرآن ٣٢٥، واقتصر على الشطر الثاني منه، ولفظه: تحسب أعلامهن الصروحا.
وأنشده الأزهري ٤/ ٢٣٧، عن أبي عبيد، بلفظ: تحسب آرامهن الصروحا.
وأنشده ابن جرير ٢٠/ ٧٧، كإنشاد أبي عبيدة، ولم ينسبه. وأنشده الغزنوي، "وضح البرهان" ٢/ ١٤١، مع بيت آخر بتقديم وتأخير، ولفظه:
على طرق كنحور الركا ب تحسب أعلامهن الصروحا
وهو كذلك في ديوان أبي ذؤيب الهذلي ٦٣.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٥.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٢.
(٤) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٥، ولم ينسبه، وصدره بقول: ويقال. و"تفسير مقاتل" ٦٠ أ، بمعناه.
(٥) ذكره البخاري عنه. كتاب التفسير، الفتح ٨/ ٥٠٤. ووصله ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٣. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٣.
251
﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ وهي معظم الماء (١). ولُجَّة البحر حيث لا ترى أرضًا ولا جبلًا (٢). ومر الكلام في اللجة عند قوله: ﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ [النور: ٤٠] (٣)، قال المفسرون: حسبته ماءً (٤).
﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ والساق: لكل دابة وشجرة وطائر وإنسان، والأَسْوَق: الطويل عَظْم الساق، والمصدر السَّوَق (٥)، قال رؤبة:
قُبُّ من التَّعداءِ حُقْبٌ في سَوَق (٦)
ونذكر باقي الكلام في هذا الحرف عند قوله: ﴿بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ [ص: ٣٣] (٧)، وقوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم: ٤٢] إن شاء الله (٨).
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣١ أ، والطوسي ٨/ ٩٩، ولم ينسباه. وهو كذلك في "الوسيط" ٣/ ٣٧٩، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٥. وفي "تفسير مقاتل" ٦٠ أ: يعني: غدير الماء. وفي "تنوير المقباس" ٣١٩: ماءً غمرًا، يعني: كثيرًا.
(٢) ومنه قول شمر: لُجُّ البحر: الماء الكثير الذي لا يُرى طرفاه. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٩٤ (لج).
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو عبيدة: لجي مضاف إلى اللجة، وهو معظم البحر، وقال الليث: بحر لجي واسع اللجة. وقال الفراء: بحر لُجي ولِجي، كما يقال: سُخري وسِخري. وقال المبرد: اللجي العظيم اللجة. ومعناه: كثرة الماء.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٢. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٣، عن عبد الله بن شداد.
(٥) "العين" ٥/ ١٩٠ (سوق)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٩/ ٢٣٢ (ساق).
(٦) "العين" ٥/ ١٩٠ (سوق)، ولم ينسبه، وذكره الأزهري ٩/ ٢٣٢ (ساق)، من إنشاد الليث،. وكذا في اللسان ١٠/ ١٦٨. وهو في ديوانه: ١٠٦. والأقب: الضامر، وجمعه: قُب. "اللسان" ١/ ٦٥٨، مادة: قبب.
(٧) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية القراءات في قوله تعالى: ﴿بِالسُّوقِ﴾ ولم أجد فيه ما يتعلق بالساق ومعناها في اللغة. والله أعلم.
(٨) تكلم الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة القلم عن المراد بالساق في الآية، وذكر أقوال المفسرين وأهل اللغة في ذلك. ولم أجد فيه الحديث عن معاني الساق.
252
قال ابن عباس: لما كشفت عن ساقها رأى سليمان قدمًا لطيفًا، وساقًا حسنًا خَدَلَّجًا، أَزَّبَّ (١)، فقال لناصحه من الشياطين. كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة للجسد؟ فدله على عمل النُّورَة (٢)، والحمامات من يومئذ (٣).
وقال مقاتل: نظر إليها سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقين وقدمين، ورأى على ساقها شعرًا كثيرًا، فكره سليمان من ذلك، فقالت: إن الرمانة لا تدري ما هي حتى تذوقها، فقال سليمان: ما لا يحلو في العين لا يحلو في الفم (٤).
(١) الخَدَلَّجَة، بتشديد اللام: الممتلئ الذراعين، والساقين. "تهذب اللغة" ٧/ ٦٣٦ (خدج)، واللسان ٢/ ٢٤٨، والأزب: كثير الشعر. اللسان ١/ ٢١٣، مادة: أزب.
(٢) النُّورَة من الحجر: الذي يُحرق ويسوى منه الكِلْس، ويحلق به شعر العانة. "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٣٤ (نور)، واللسان ٥/ ٢٤٤.
(٣) بنصه، في "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٩. وذكر نحوه الثعلبي ٨/ ١٣١ ب، عن ابن عباس. وذكره هود الهواري ٣/ ٢٥٧، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٦٩، اتخاذ النورة عن مجاهد، وعكرمة، وأبي صالح. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٤، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. ومثل هذا القول لا تحتمله الآية، ولا تدل عليه، وهل يليق بنبي أن يتحايل على امرأة لينظر إلى ساقيها، ولذ قال ابن كثير، بعد إيراده هذا القول: في هذا نظر. "البداية والنهاية" ٢/ ٢٤. وأولى ما تفسر به الآية: أن سليمان عليه السلام أراد إثبات عظمة ما أعطاه الله من الملك بذلك، ويؤيد هذا أن ما أراده نبي الله سليمان قد وقع وحصل، فعلمت ملكة سبأ أن ملكه أعظم من ملكها، وأنه من الله تعالى، ولذا قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. والله أعلم.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٠ أ. وهذا كلام لا يليق إيراده صبي حق الأنبياء، وكان الأولى بالواحدي أن ينبه على ذلك. والله أعلم.
253
قوله: ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ أي: قال سليمان لما رأى ساقها وقدمها، ناداها: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ أي: مملس بالزجاج، وليس ببحر (١). وذكرنا الكلام في الممرد عند قوله: ﴿كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣] (٢).
قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح، علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان، وأن ملكه من الله، فقالت حين دخلت الصرح: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ يعنيِ: بعبادة الشمس ﴿وَأَسْلَمْتُ﴾ وأخلصت ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ بالتوحيد ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خرت لله ساجدة، وتابت إلى الله من شركها، فاتخذها سليمان لنفسه، وولدت له داود بن سليمان بن داود، وأمر لها بقرية من الشام لها خراجها، وكانت عذراء فاتخذت الجن الحمامات من أجلها (٣).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كانت من أحسن نساء العالمين ساقين، وهي من أزواج سليمان في الجنة" فقالت عائشة -أم المؤمنين- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هي أحسن ساقًا مني؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت أحسن ساقين منها في الجنة" (٤).
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٥. وذكره في "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٩، ولم ينسبه.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: المريد الذي يتمرد على الله عز وجل. وقال أهل اللغة في المريد قولين؛ أحدهما: أنه المتجرد للفساد، والثاني: أنه العاري من الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ [النمل ٤٤] وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ [التوبة: ١٠١].
(٣) "تفسير مقاتل" ١٦٠. وذكره بنحوه الثعلبي ٨/ ١٣١ ب، ولم ينسبه. وذكر زواجها من نبي الله سليمان، وابنُ كثير في "البداية والنهاية" ٢/ ٢٤، ووصف هذا القول بأنه، أشهر وأوضح. والله أعلم.
(٤) ذكره بنصه، مقاتل ٦٠ أ؛ هكذا بدون إسناد. وذكره القرطبي ١٣/ ٢١٠، وصدره بقوله: وفي بعض الأخبار، وعزاه للقشيري.
254
فكان سليمان يسير بها معه إذا سار، هذا قول مقاتل (١).
وقال محمد بن إسحاق: أدخلها سليمان الصرح ليريها ملكًا وسلطانًا هو أعظم من سلطانها، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله تعالى فأسلمت، وحسن إسلامها، فقال لها سليمان حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلاً أزوجكه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكِح الرجال؟ وقد كان لي من الملك والسلطان ما كان! قال: نعم؛ إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، فقالت: زوجني إذا كان ذلك: ذا تُبَّع، ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن (٢).
وقال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتبة فسأله: هل كان سليمان تزوجها؟ قال: عهدي بها أن قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٣). يعني: أنه لا يعلم ذلك، وآخر ما سمع من حديثها أن قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾.
٤٥ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ قال مجاهد ومقاتل: مؤمنون وكافرون (٤).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٢) أخرجه ابن جرير، في التاريخ ١/ ٤٩٤، من طريق ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣١ ب، بطوله. وكل ما ذكر في هذا مما لا دليل عليه، والأحسن أن يقال ما ذكره الواحدي بعد ذلك عن عبد الله بن عتبة.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٨. واقتصر على هذا القول في "الوسيط" ٣/ ٣٧٩. وهذه إجابة حسنة توقف ما في النفوس من التطلع عما سكت عنه القرآن، مما لا فائدة من العلم به.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٧٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٨، عن مجاهد. وهو في "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٤.
وقال الكلبي: مصدق ومكذب. وهو قول قتادة (١).
﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ يقول كل فريق منهم: الحق معي (٢). قال ابن عباس ومقاتل: وخصومتهم الآية التي في الأعراف: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: ٧٥، ٧٦] (٣).
٤٦ - وقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ الآية، كان هذا القول من صالح -صلى الله عليه وسلم-، للفريق المكذب.
قال أبو إسحاق: وطلبَ الفرقة الكاذبة على تصديق صالحٍ العذاب؛ فقال: ﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (٤).
وقال مقاتل: قالوا يا صالح ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فرد عليهم صالح: ﴿يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (٥) وحذف هاهنا ذكر طلبهم العذاب؛ لذكره في سورة الأعراف، وغيرها (٦).
وقوله: ﴿بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ قال ابن عباس ومجاهد: بالعذاب
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٨. وذكره الهواري ٣/ ٢٥٧، والثعلبي ٨/ ١٣٢ أ، ولم ينسباه. قال الفراء: مختلفون؛ مؤمن ومكذب. "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٥. وليس بين القولين تعارض، ولذا قال ابن جرير ١٩/ ١٧٠: فريق مصدق صالحًا مؤمن به، وفريق مكذب به، كافر بما جاء به.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٣، بنصه. وذكره في تفسيريه "الوسيط" ٣/ ٣٨٠، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٥، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٦) قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف ٧٧].
قبل الرحمة (١). أي: لِمَ قلتم: إن كان ما أتيت به حقًا فأتنا بالعذاب (٢). والحسنة والسيئة جاءتا في التنزيل لا بمعنى الطاعة والمعصية، كقوله: ﴿بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ [الأعراف: ٩٥] (٣)، وقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ الآية [الأعراف: ١٣١] وقيل مر (٤).
قوله تعالى: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ﴾ قال مقاتل: هلا تستغفرون الله من الشرك، لكي ﴿تُرْحَمُونَ﴾ فلا تعذبوا في الدنيا (٥).
٤٧ - قوله عز وجل: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (٦) قال ابن عباس والمفسرون: تشاءمنا بك وبمن معك على دينك (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. و"تفسير الهواري" ٣/ ٢٥٧، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير ١٩/ ١٧١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٨، عن مجاهد: السيئة: العذاب، والحسنة: الرحمة، وفي رواية: العافية. وهو في "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٤، دون ذكر العافية.
(٢) ذكره في "الوسيط" ٣/ ٣٨٠، ولم ينسبه.
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: معنى السيئة والحسنة هاهنا: الشدة والرخاء؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، قال عطاء عن ابن عباس: يريد: بدل البؤس والمرض الغنى والصحة.
(٤) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس والمفسرون: معنى الحسنة: يريد بها: الغيث، والخصب، والثمار، والمواشي، والألبان، والسعة في الرزق، والعافية والسلامة.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وأخرج أوله ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٩، عن السدي.
(٦) أصل: ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ تطيرنا، فأدغمت التاء في الطاء؛ لأنها من مخرجها. "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٠. و"تأويل مشكل القرآن" ٣٥٤، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٥.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب، بنصه. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٧١. و"تنوير المقباس" ٣١٩. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٢ أ.
257
قال مقاتل: وذلك أنه قحط المطر عنهم وجاعوا فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك، فقال لهم صالح: ﴿طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (١) قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم (٢).
وقال أبو إسحاق: أي ما أصابكم من خير أو شر فمن الله (٣).
وقال الفراء: يقول هو في اللوح المحفوظ عند الله، قال: وهو بمنزلة قوله: ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾] يس: ١٩] أي: لازم لكم ما كان من خير أو شر، فهو في رقابكم لازم، وقد بينه الله في قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] (٤). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ الآية، [الأعراف: ١٣١] (٥).
وقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشر (٦). وقال عطاء عنه والقرظي: تعذبون بذنوبكم (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٢ أ، ولم ينسبه.
(٢) ذكره بنصه في "الوسيط" ٣/ ٣٨٠، ونسبه لابن عباس. وفي "تنوير المقباس" ٣١٩ شدتكم ورخاؤكم من عند الله.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٣.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٥.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: التطير: التشاؤم في قول جميع المفسرين. وقوله تعالى: ﴿يَطَّيَّرُوا﴾ هو في الأصل: يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد، من طرف اللسان وأصول الثنايا.
(٦) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١١٣٢. وهو في "الوسيط" ٣/ ٣٨٠، و"الوجيز" ٢/ ٨٠٦، غير منسوب. وفي "تنوير المقباس" ٣١٩: تختبرون بالشدة والرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٩٩، عن قتادة: تبتلون بطاعة الله ومعصيته.
(٧) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١١٣٢.
258
وقال الكلبي: تفتنون حتى تجهلون أنه من عند الله (١). يعني: أن تطيركم بي فتنة. وقيل: تختبرون بإرسالي إليكم (٢).
٤٨ - وقوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: يريد المدينة التي كان فيها صالح وهي: الحِجْر (٣) ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ ذكرنا الكلام في تفسير الرهط عند قوله: ﴿أَرَهْطِي﴾ [هود: ٩٢] ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾ [هود: ٩١] (٤). ويُجمع الرهط: أَرْهُطًا، وأراهط، ومنه:
يا بؤسَ للحرب التي... وضعتْ أراهطَ فاستراحوا (٥)
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١١٣٢. و"تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٨، بمعناه، ولم ينسبه.
(٢) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٢ أ، ولم ينسبه. وكذا الزجاج ٤/ ١٢٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٧٢، عن ابن عباس، ومجاهد. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١١٣٢. الحجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى، بين المدينة والشام، وهي بيوت منحوتة في الجبال، وفيها البئر التي كانت تردها الناقة. "معجم البلدان" ٢/ ٢٥٥، و"مراصد الإطلاع" ١/ ٣٨١. وفي "معجم المعالم الجغرافية" ٩٣: الحجر: رأس وادي القرى، وأهاه اليوم: قبيلة عنزة، وبه زراعة حسنة، وأهم ما هنالك عجائب آثار ثمود، وتبعد عن مدينة العلا ٢٢ كم، شمالاً، والعُلا على ٣٢٢ كم، على سكة الحديد، شمال المدينة النبوية، وأصبح وادي القرى يسمى: وادي العلا.
(٤) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو عبيد عن أبي زيد: النفر والرهط: ما دون العشرة من الرجال. وقال أبو العباس: المعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم، وهذا للرجال دون النساء. وقال الليث: الرهط عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة.
(٥) أنشده الأزهري، ٦/ ١٧٦، ولم ينسبه. وأنشده سيبويه مستدلًا به على إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه، الكتاب ٢/ ٢٠٧، ولم ينسبه. وكذا ابن جني، "الخصائص" ٣/ ١٠٦، وفي الحاشية: هو سعد بن مالك البكري، والبيت من قصيدة له فى الحرب التي نشبت بين بكر وتغلب لمقتل كليب بن تغلب، وهو فيها =
ولا واحد للرهط من لفظه (١). فلذلك قيل: ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ والمراد به تسعة رجل، وليس المراد به: رهط تسعة، على أن يجمع الرهط فيبلغوا خمسين أو قدره.
قال ابن عباس: كانوا تسعة من أشرافهم، وهم غواة قوم صالح (٢) ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعملون فيها بالمعاصي ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ لا يطيعون الله. قاله مقاتل (٣). وقال الكلبي: لا يدعون إلى توحيد الله (٤).
٤٩ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ ﴿تَقَاسَمُوا﴾ لفظٌ يصلح أن يراد به مثال الماضي، ويصلح أن يراد به مثال الأمر (٥).
= يحضّض على الحرب، ويعرّض بالحارث بن عباد البكري الذي كان اعتزل الحرب، وقوله: وضعت، أي: حطت قومًا بالقعود عنها، وأسقطتهم عن مرتبة الشرف فاستراحوا وآثروا السلامة كالنساء، ولم يعانوا أخطار المجد والسيادة. وعن ابن جني، ذكره البغدادي، "الخزانة" ١١/ ١٤١، ولم ينسبه.
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٠. و"تهذيب اللغة" ٦/ ١٧٤ (رهط)، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٤.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٠، وفيه ذكر أسمائهم، وذكر أسماءهم مقاتل ٦٠ ب، والثعلبي ٨/ ١٣٢ أ، وهو مما لا دليل عليه. وقال الزجاج ٤/ ١٢٣: هؤلاء عتاة قوم صالح.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٤) في "تنوير المقباس" ٣١٩: لا يأمرون بالصلاح ولا يعملون به. قال مالك بن دينار: فكم اليوم في كل قبيلة من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. تفسير ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٠.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٤، وفيه: ألا ترى أنك تقول: تقاسموا أمسِ، إذا أردت الماضي، وتقاسموا غدًا، إذا أردت به الأمر. وذكر هذا القول الثعلبي ٨/ ١٣٢ أ.
260
وفي قوله: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ و: ﴿لَنَقُولَنَّ﴾ وجهان من القراءة؛ أحدهما: التاء وضم اللام من الفعلين على مخاطبة الجماعة (١). والثاني: النون وفتح اللام على إخبار الجماعة عن أنفسهم (٢)، فمن قرأ بالتاء كان قوله: ﴿تَقَاسَمُوا﴾ أمرًا؛ والمعنى: قال بعضهم لبعض: احلفوا لتهلكن صالحًا، وجعل: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ جوابًا لتقاسموا؛ لأن هذه الألفاظ التي تكون من ألفاظ القسم تُتَلقى بما تُتَلقى به الأيمان، كقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ [الأنعام: ١٠٩] و: ﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى﴾ [فاطر ٤٢] ومن قرأ: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ بالنون جاز أن يكون: ﴿تَقَاسَمُوا﴾ أمرًا؛ كأنهم قالوا: أَقْسِموا لنفعلن كذا وكذا (٣)، والذين أمروهم بالقسم داخلون معهم في الفعل، ألا ترى أنك تقول: قوموا نذهبْ إلى فلان، ويجوز على هذا الوجه من القراءة أن يكون قوله: ﴿تَقَاسَمُوا﴾ خبرًا، والمعنى: قالوا متقاسمين لنفعلن كذا. وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي (٤).
ومعنى: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ لنقتلنه ﴿وَأَهْلَهُ﴾ بياتًا. قاله ابن عباس (٥). ومضى تفسير
(١) أي: ضم التاء من: (لنبيتُنه) وضم اللام من: (لنقولُن).
(٢) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم، بالنون في الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي، بالتاء في الموضعين. "السبعة في القراءات" ٤٨٣، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٤، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٨، قال النحاس: وهذا أحسن ما قرئ به هذا الحرف؛ لأنه يدخل فيه المخاطبون في اللفظ والمعنى. "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٥.
(٣) وكذا. في نسخة: (ب).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٦. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٣. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٤.
(٥) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٢. و"تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
261
البيات عند قوله: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: ١٠٨] (١).
قوله: (وَأَهْلَهُ) قال ابن عباس: يريدون بني عبيد، وكانوا آمنوا معه (٢).
﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ قال مقاتل: يعني: ذا رحم صالح، إن سألونا عنه (٣).
وقال ابن عباس: يريدون قومه ولد عبيد، وهم: نفر من ثمود ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ ما قتلناه وما ندري من قتل صالحًا وأهله (٤). والمهلك يحتمل أمرين: يجوز أن يكون إهلاك أهله، ويجوز أن يكون الموضع (٥).
وروى أبو بكر عن عاصم: (مَهلَك) بفتح الميم واللام يريد: الهلاك، يقال: هلك يهلك مَهلَكًا، كما أن المصدر في: ضرب، يضرب مَضرَبًا بفتح الراء، ولكون المصدر مضافًا إلى الفاعل؛ كما تقول: هلاك أهله. وحكي أنه يقال: هلك بمعنى: أهلك، في لغة تميم، فيكون المهلَك على هذا مصدرًا مضافًا إلى المفعول به، وروى حفص بفتح الميم وكسر اللام ﴿مَهْلِكَ﴾ فيجوز أن يكون اسم المكان على: ما شهدنا موضع هلاكهم ومكانه فيكون المهلِك: كالمجلس في أنه يراد به موضع الجلوس، ويجوز
(١) أحال الواحدي في تفسير البيات عند هذه الآية على الآية ٨١، من سورة النساء، وهي قوله تعالى: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ﴾ وفيها قال الوا حدي في تفسير البيات: قال الزجاج: كل أمر فكر فيه، وخيض فيه بليل، فقد بيت، يقال: هذا أمر قد بيت بليل، ودبر بليل، بمعنى واحد.. وهو قول أبي عبيدة وأبي العباس، وجميع أهل اللغة.
(٢) قال الحسن: أهله: أمته الذين على دينه. تفسير الهواري ٣/ ٢٥٨.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٥) "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٥.
262
أن يريد به المصدر؛ لأنه قد جاء المصدر من فَعَل يفعِل على مَفْعِل؛ كقوله: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٥] و ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، والأول أكثر (١).
قال أبو إسحاق: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحًا ويقتلوه وأهله في بياتهم، ثم ينكرون عند أولياء صالح أنهم شهدوا مهلكه، ومهلك أهله، ويحلفون إنهم لصادقون، وكان هذا مكرًا عزموا عليه (٢).
٥٠ - قال الله عز وجل: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ أي: حين أرادوا قتل صالح (٣) ﴿وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ جازيناهم جزاءَ مكرهم بتعجيل عقوبتهم ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بمكر الله بهم.
٥١ - قوله تعالى ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ وقرئ: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ بالفتح (٤). قال الفراء: مَنْ كَسَرَ استأنف، وهو
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٥.
في قوله تعالى ﴿مَهْلِكَ﴾ ثلاث قراءات:
١ - قرأ عاصم في رواية أبي بكر: (مَهلَك) بفتح الميم واللام.
٢ - وقرأ عاصم في رواية حفص: ﴿مَهْلِكَ﴾ بفتح الميم وكسر اللام.
٣ - قرأ الباقون (مُهلَك) بضم الميم، وفتح اللام.
"السبعة في القراءات" ٤٣٨. قال ابن خالويه: فمن ضم جعله مصدرًا من أهلك مُهلَكًا، مثل: ﴿أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء٨٠] ومن كسر اللام أو فتحها جعله مصدر: هلك ثلاثيًا لا رباعيا. "إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٥٤.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٤.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٢، عن قتادة.
(٤) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمرة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، بكسر الهمزة. "السبعة في القراءات" ٤٨٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٦. و"النشر فى القراءات العشر" ٢/ ٣٣٨.
يُفَسَّرُ به ما كان قبله؛ مثل قوله: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ [عبس: ٢٤، ٢٥] (١). ومن فتح رده على إعراب ما قبله، فتكون (أَنَّا) في موضع رفع بجعلها متابعة للعاقبة (٢)، وإن شئت جعلتها نصبًا من جهتين؛ إحداهما: أن تردها على موضع (كَيْفَ) (٣)، والأخرى: أن تكون خبر (كَانَ) على معنى: كان عاقبة مكرهم تدميرَنا إياهم (٤).
قال أبو علي: من كسر (إِنَّا) فهو استئناف وتفسير للعاقبة، كما أن قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٩] تفسير للوعد (٥)، وتكون: كان، التي بمعنى: وقع (٦)، والمعنى: فانظر على أي حال وقع عاقبة مكرهم؛ أي: أحسنًا وقع عاقبة مكرهم (٧) أم سيئًا، ومن فتح جاز أن يكون: (كَانَ) على ضربيها فإن حملته على: وقع، جاز في (أَنَّا) أمران؛
(١) الشاهد من الآية قراءة الكسر في: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا﴾ قرأ بها ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر. "السبعة في القراءات" ٦٧٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٩٨.
(٢) أي: بدل كل، كما سيأتي ذكره عن أبي علي.
(٣) على أن ﴿كَيْفَ﴾ مفعول به.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٩٦، وفيه: والأخرى أن تكُرَّ ﴿كاَنَ﴾.. وفي الحاشية: أي تنوي تكرارها. قال النحاس عن هذا الوجه: وهذا متعسف. ثم ذكر خمسة أوجه في فتح الهمزة. وقال عن الوجه الأول: وهذا لا يحصَّل؛ لأن كيف للاستفهام، و ﴿أَنَاْ﴾ غير داخل في الاستفهام. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٥.
(٥) يعني به المذكور في صدر الآية؛ وهو قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فجملة ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ جملة تفسيرية للوعد.
(٦) أي: كان التامة، التي لا اسم لها ولا خبر.
(٧) في نسخة: ب: أمرهم.
264
أحدهما: أن يكون بدلاً من قوله: ﴿عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ والثاني: أن يكون محمولاً على مبتدأ مضمر؛ كأنه: هو أنا دمرناهم، أو ذاك أنا دمرناهم. وإن حصلت (كَانَ) على المقتضية الخبر جاز في: (أَنَّا) أمران؛ أحدهما: أن يكون بدلاً من اسم كان الذي هو العاقبة، وإذا حملته على ذلك كان (كَيْفَ) في موضع خبر كان، [والآخر: أن يكون خبرَ كان (١)، ويكون موضعه نصبًا بأنه خبر كان] (٢) كأنه كان عاقبة مكرهم تدميرَهم، ويكون: (كَيْفَ) في موضع حال (٣).
قال أبو إسحاق: من قرأها بالكسر كان المعنى: (فَانْظُرْ) أي شيء ﴿عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ ثم فسر فقال: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ فدل على أن العاقبة: الدمار، ومن قرأ: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ أضمر في الكلام شيئًا، على تقدير: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ العاقبة: أنا دمرناهم، فتكون (أَنَّا) في موضع رفع على هذا التفسير (٤).
واختلف قول المفسرين في كيفية هلاك هؤلاء النفر؛ فقال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين (٥) سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة، ولا يرون الملائكة فقتلتهم (٦). وهذا قول الكلبي.
(١) أي: جملة ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ التي كانت في الوجه الأول بدلاً من العاقبة.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٦، بتصرف.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٤.
(٥) شاهرين. في نسخة (ج).
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٢ ب، ونسبه لابن عباس، وفيه: أرسل الله عز وجل الملائكة ليلاً فامتلأت بهم دار صالح. وذكره الهواري ٣/ ٢٥٨، ولم ينسبه. ونحوه عند ابن جرير ١٩/ ١٧٣، من كلام ابن إسحاق.
265
وقال قتادة: سلط الله عليهم صخرة فدمغتهم (١).
وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضًا؛ ليأتوا دار صالح فجثم عليهم الجبل، فأهلكهم (٢).
وقال السدي: خرجوا ليأتوا صالحًا، فنزلوا جُرُفًا (٣) من الأرض يكمنون فيه فانهار عليهم (٤).
وقوله: ﴿وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يعني: بصيحة جبريل (٥).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ قال الزجاج: نصب (خاويةً) على الحال، المعنى: فانظر إلى بيوتهم خاويةً (٦)، وهذا كقوله: ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ [النحل: ٥٢] (٧) ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٢. واقتصر عليه الزجاج ٤/ ١٢٤، ولم ينسبه. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٣٢ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. وليس فيه ذكر سفح الجبل. وقد ذكره عنه بهذا اللفظ الثعلبي ٨/ ١٣٢ ب.
(٣) الجُرُف: ما ينجرف بالسيول من الأودية غريب القرآن لابن قتيبة ١٩٢. وضم الراء وكسرها وجهان؛ وقد قرئ بهما في قوله تعالى: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ "السبعة في القراءات" ٣١٨. وكَمِن له، كنَصَر وسمِع، كُمونًا: استخفى. القاموس المحيط ١٥٨٤ (كمن).
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٢ ب، وفيه: فنزلوا خرقا. أخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٣، عن عبد الرحمن بن زيد.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٥. و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٦.
(٧) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ الدين: الطاعة هاهنا، والواصب: الدائم، وهو قول ابن عباس وجميع المفسرين؛ يقال وصب الشيء يصب وصوبًا إذا دام، قال الله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ [الصافات: ٩]. =
٧٢] وقد مر (١).
قال ابن عباس: يريد ليس فيها داع ولا مجيب. وقال مقاتل: يعني خرابًا ليس لها ساكن (٢).
ومضى تفسير الخاوية في سورة: البقرة (٣).
قوله: ﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: بما أشركوا (٤). أي: بشركهم بالله أهلكناهم، حتى صارت منازلهم خاوية.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني: في هلاكهم ﴿لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لعبرة لمن علم توحيد الله (٥)، وقدرته.
٥٣ - ﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا صالحًا من العذاب ﴿وَكَانُوا
= البسيط ٣/ ١٢٧أ، النسخة الأزهرية. ولم أجد فيه إعراب {وَاصِبًا﴾.
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو إسحاق: ﴿شَيْخًا﴾ منصوب على الحال، والحال هاهنا نصْبُه من لطيف النحو وغامضه؛ وذلك أنك إذا قلت: هذا زيد قائمًا، فإذا كنت تقصد أن تخبر من لم يعرف زيدًا أنه زيد لم يجز هذا؛ لأنه لا يكون زيدًا إلا ما دام قائمًا فإذا زال عن القيام فليس يزيد، وإنما تقول للذي يعرف زيدًا: هذا زيد قائمًا فيعمل في الحال التنبيه، المعنى: انتبه لِزيد في حال قيامه، أو: أشير لك إلى زيد في حال قيامه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٠ ب. بلفظ: خاوية ليس بها سكان.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [٢٥٩١] قال الواحدي في تفسير الخاوية: قال أبو عبيد عن أبي زيد والكسائي: خوى الدار تخوي خُوِيًّا إذا خلت. قال الكسائي: ويجوز خَوِيت الدار. الأصمعي: خوى البيت فهو ينوي خَواءً ممدود إذا ما خلا من أهله. والخَوَى: خلو البطن من الطعام، وأصل معنى هذا الحرف الخلو..
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٣، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٦١ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦١ أ.
يَتَّقُونَ} الشرك. قاله مقاتل (١).
٥٤ - قوله: ﴿وَلُوطًا﴾ قال الزجاج: نصب لوط من جهتين؛ علي معنى: وأرسلنا لوطًا. وعلى معنى: واذكر لوطًا؛ لأنه قد جرت أقاصيص رسل فدخل معنى إضمار: اذكر هاهنا (٢).
قوله: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ يعني: اللواط، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والجميع (٣) ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد أنهم كانوا يدَّعون البصر بالدين. والمعنى: وأنتم تدَّعون البصر بالدين فلمَ تأتون الفاحشة.
وقال الكلبي: وأنتم تعلمون أنها فاحشة (٤). وهو قول الفراء والزجاج (٥).
وإذا كانوا يعلمون أنها فاحشة فهو أعظم لذنوبهم، فهذا من البصر الذي هو بمعنى العلم. وقيل: يرى بعضكم بعضًا، وكانوا لا يستترون عتوًا وتمردًا (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٦١ أ.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٥. و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٦.
(٣) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٤، عن ابن عباس، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، ومجاهد. و"تفسير مقاتل" ٦١ أ، و"تنوير المقباس" ص ٣١٩.
(٤) "تنوير المقباس" ٣١٩، وهو قول مقاتل ٦١ أوذكره الهواري ٣/ ٢٥٩، ولم ينسبه.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٦. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٥.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ أ، ولم ينسبه. قال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضًا في المجالس. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٦. ولم يرجح الواحدي شيئًا من هذه الأقوال؛ ولعل الأقرب -والله أعلم- أن المراد: وأنتم تعلمون أنها فاحشة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف =
وهذه الآيات التي في هذه القصة مفسرة في سورة الأعراف (١).
٥٥ - قوله عز وجل: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ قال ابن عباس: تجهلون بالقيامة، وعاقبة العصيان (٢).
٥٧ - قوله: ﴿قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [قال مقاتل: تركناها (٣). والمعنى: جعلناها بتقديرنا من الغابرين (٤)] (٥) أي: قدرناها بما كتبنا عليها، وقضينا أنها ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: الباقين في العذاب (٦).
٥٨ - وقوله: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ أي: على شذاذها مطرًا وهو الحجارة (٧) ﴿فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ مر تفسيره في سورة الشعراء
= ٨٠] ففعلهم لهذه الفاحشة كان عن إصرار ومكابرة، ولم يكن لهم فيها شبهة، ولما قال لهم نبي الله لوط عليه السلام: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ كان جوابهم: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ [هود: ٧٩] فما ذكره الواحدي عن ابن عباس من طريق عطاء لا يعول عليه إسنادًا ولا متنًا، وأما القول الثالث فهو زيادة إيضاح للقول الأول، فهم لا يرون في هذه الفاحشة بأسًا فقد استباحوها وجاهروا بها، وعاين بعضهم بعضًا، ولم ينكر أحدهم على أحد. والله أعلم.
(١) الآيات [٨٠ - ٨٤].
(٢) ذكره عنه ابن الجوزي ٦/ ١٨٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٦١.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٥.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٢. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٥، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٣ أ، ولم ينسبه.
(٧) هكذا في جميع النسخ: شذاذها، وكذا عند الثعلبي ٨/ ١٣٣ أ. وهذا مبين في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٢، ٨٣]. وقال تعالى: =
[الآية ١٧٣].
٥٩ - قوله: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ المفسرون على أن هذا خطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أُمِر أن يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ (١). قال مقاتل: على هلاك كفار الأمم الخالية (٢).
وقال الفراء: قيل للوط: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على هلاك من هلك (٣). والتقدير على هذا: وقلنا للوط: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ والمفسرون على ما ذكرنا.
قوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قال مقاتل: هم الأنبياء الذين اختارهم الله لرسالته (٤).
وقال ابن عباس في رواية أبي مالك: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (٥). وهو قول السدي، وسفيان بن سعيد (٦).
= ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الحجر ٧٤].
(١) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٢. والثعلبي ٨/ ١١٣٣. قال النحاس: وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦١ أ. وفي نسخة: ب: الماضية.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦١ أ.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٦، والثعلبي ٨/ ١٣٣ أ، كلهم من طريق السدي عن أبي مالك؛ وهو: عبيد الله بن الأخنس النخعي، أبو مالك الخزاز، صدوق يخطئ كثيرًا، روى عن نافع وابن أبي مليكة وغيرهم، وروى عنه: يحيى بن القطان، وغيره. الجرح والتعديل ٥/ ٣٠٧، و"تقريب التهذيب" ٦٣٥.
(٦) أخرجه عنهما ابن جرير ٢٠/ ٢. وسفيان بن سعيد، هو: الثوري. وقال ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٦: وروي عن السدي، وسفيان الثوري نحو ذلك. وأخرجه الثعلبي ٨/ ١٣٣ أ، عن سفيان.
270
وقال عطاء عنه: يريد الذين وحدوني وآمنوا بي (١). وعلى هذا هم جميع المؤمنين (٢).
وقال الكلبي: هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته (٣). ومعني السلام عليهم: أنهم سَلِموا مما عاب به الكفار.
ثم قال: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٤) قال ابن عباس: ثم رجع إلى المشركين فقال: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يا أهل مكة، يريد: الذين جعلتموهم لي أندادًا.
وقال مقاتل: أراد يشركون به. يقول: الله أفضل أم الآلهة التي يعبدونها، يعني: كفار مكة، قال: وكان النبي إذا قرأ هذه الآية قال: "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم" (٥).
(١) ذكره عنه من طريق عطاء ابن الجوزي ٦/ ١٨٥.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٦، عن عبد الرحمن بن زيد. وهذا القول أحسن لعمومه، فيدخل فيه الأنبياء والرسل وأتباعهم. وذكر هذا القول الهواري ٣/ ٢٦٠.
(٣) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١١٣٣. وهو في "تنوير المقباس" ٣٢٠.
(٤) قال الثعلبي ٨/ ١٣٣ ب: بهمزة ممدودة، وكذا كل استفهام لقيته ألف وصل، مثل: ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾ [الأنعام ١٤٣، ١٤٤] و ﴿آلْآنَ﴾ [يونس ٥١، ٩١] جعلت المدة علمًا بين الاستفهام والخبر.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٦١. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٣ب، من غير سند ولا راو، كما قال الزيلعىِ في تخريج أحاديث الكشاف ٣/ ١٨، وقال فيه: قال البيهقي في "شعب الإيمان" في الباب التاسع: وقد روي في ختم القرآن حديث منقطع بسند ضعيف، ثم ساقه بتمامه، وفيه هذا اللفظ. وقد أعرض عن ذكره الواحدي في كتابيه: الوسيط، والوجيز. والحديث ذكره البيهقي في شعب الإيمان في حديث طويل، في الباب التاسع عشر، ولم أجده في الباب التاسع. شعب الإيمان ٢/ ٣٧٢، رقم الحديث: ٢٠٨٢.
271
وهذا مذهب أهل التفسير (١).
وجعل الفراء هذه الآية من باب حذف المضاف؛ فقال: يقول: أعبادة الله خير أم عبادة الأصنام (٢). وأحسن من هذا أن يقال: الله خير لمن عبده أم الأصنام؛ يدل على صحة هذا أن هذا ذُكر بعد ذكر هلاك الكفار وسلامة المؤمنين، إلزامًا للحجة على المشركين، فقيل لهم بعد ما ذُكر هلاك الكفار: الله خير أم الأصنام. والمعنى: أن الله نجَّى مَنْ عبده من الهلاك، والأصنامُ لم تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب. وهذا معنى ما ذهب إليه المفسرون؛ وإن لم يبينوا هذا البيان.
وقال أهل المعاني: يجوز في الخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به أن يقال: هذا الخير خير من الشر، فلما كان المشركون يتوهمون في الأصنام وفي عبادتها خيرًا، قيل لهم احتجاجًا عليهم: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٣).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (٤) تقدير الكلام: أما تشركون خير أم من خلق السموات والأرض، فحذف ذكر الأول لقرب
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٦، عن السدي. وهو قول الهواري ٣/ ٢٦٠. وابن جرير ٢٠/ ٢. والثعلبي ٨/ ١٣٣ ب.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٧.
(٣) ذكر معناه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٧. وسبق الحديث عن هذه المسألة في سورة الفرقان عند قوله تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [١٥].
(٤) قال الأخفش: مَنْ، هاهنا ليست باستفهام على قوله: ﴿خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إنما هي بمنزلة: الذي. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٠.
272
ذكره في قوله: ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهذا معنى قول أبي حاتم (١).
وقوله: (حَدَائِقَ) قال الليث: الحديقة: أرض ذات شجر مثمر، والحديقة من الرياض: كل روضة قد أحدق بها حاجزٌ، أو أرضٌ مرتفعة، وأنشد لطرفة:
تَرَبعت القُفَّين في الشَّول ترتعي حدائق مَولِيِّ الأسرةِ أَغْيدِ (٢)
وكل شيء استدار بشيء فقد أحدق به (٣).
وقال أبو عبيدة: الحديقة والجنة في الدنيا مثل الحائط (٤).
قال الفراء: إنما يقال حديقة لكل بستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لا يقال له: حديقة (٥).
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب. ونحوه في "القطع والائتناف" ٢/ ٥٠٣.
(٢) البيت من معلقة طرفة، ومعنى: تربعت: أقامت زمن الربيع، القُفَّين: مثنى القف؛ وهو حجارة مترادف بعضها إلى بعض، لا يخالطها من اللين والسهولة شيء. والمراد هنا: موضع في نجد إذا أخصب ربعت العرب فيه لسعته واتساعه. والشول عند الناقة: فترة تمتد من انتهاء إرضاعها إلى حملها التالي، وهو فترة تنشط فيها الناقة، المولي: المكان الذي يصيبه الولي؛ وهو المطر الثاني، الأسرة: جمع السر؛ وهو من الوادي أفضل مكان فيه. أغيد: النبات الأغيد؛ هو الناعم المتثني، ويكون كذلك لنضرته ووفرة الماء في منبته. أراد طرفة بهذا البيت أن يعلل قوة هذه الناقة بحسن تغذيتها. شرح ديوان طرفة ٩٣.
(٣) "العين" ٣/ ٤١ (حدق)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤. وليس فيهما إنشاد هذا البيت.
(٤) لم أجده في كتاب المجاز، وإنما فيه: أي: جنانًا من جنان الدنيا، واحدتها: حديقة. "مجار القرآن" ٢/ ٩٥.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٧. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٣، ولم ينسبه. وقال الزجاج ٤/ ١٢٨: الحديقة: البستان، وكذلك الحائط، وقيل: القطعة من النخل.
273
وقال ابن قتيبة: إنما يقال حديقة؛ لأنها يُحدَق عليها، أي: يُحْظَر (١).
قال ابن عباس: يريد الأجنة والشجر (٢).
وقال مقاتل: يعني حيطان النخل والشجر (٣).
وقال الكلبي: الحدائق من البساتين: ما أحيط عليه حائط (٤).
قوله: ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ قال الكلبي: ذات منظر حسن (٥).
وقال ابن عباس ومقاتل: ذات حُسن (٦).
وقال قتادة: النخل الحسان (٧).
والبهجة: الحُسْن يبتهج به مَنْ رآه، أي: يُسر.
قوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ أي: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليها (٨).
(١) "غريب القرآن" ٣٢٦، بلفظ: يحظر عليها حائط. وفي الحاشية: أي: يقام عليها حظيرة من قصب وخشب.
(٢) ذكره الزجاج ٤/ ١٢٨، ولم ينسبه.
(٣) هكذا في نسخة (ج): حيطان، وكذا عند مقاتل ٦١ أ، وفي نسخة (أ)، (ب): حظار النخل والشجر. وقال عكرمة: الحدائق: النخل. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٧.
(٤) ذكره الهواري ٣/ ٢٦٠، عنه بلفظ قريب من قول مقاتل، حيث قال: الحديقة: الحائط من الشجر والنخل. وفي "تنوير المقباس" ٣٢٠: بساتين؛ ما أحيط عليها من النخل والشجر.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٠. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٣، ولم ينسبه.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٦١. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٧، عن الضحاك. وهو قول ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٢٦. والزجاج ٤/ ١٢٨.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٥. وعه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٧.
(٨) قال الثعلبي٨/ ١٣٣ ب: (ما): هي ما النفي، بمعنى: ما قدر عليه.
274
ثم قال مستفهمًا منكرًا عليهم: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه (١) ﴿بَلْ﴾ أي: ليس معه إله ﴿هُمْ قَوْمٌ﴾ يعني: كفار مكة ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يشركون به غيره. هذا معنى قول المفسرين (٢). وقال أبو إسحاق: يعدلون عن القصد والحق، أي: يكفرون (٣).
٦١ - وقوله: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ قال مقاتل: مستقرًا لا تميد بأهلها (٤) ﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا﴾ فيما بينها (٥) ﴿أَنْهَارًا﴾ كقوله: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الكهف ٣٣].
﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ قال ابن عباس: يريد الجبال الثوابت أَثْبَتَ بها الأرض (٦).
﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ قال: يريد قضاء من قضائه، وسلطانًا من قدرته، حجز بين العذب والمالح، فلا المالح يغير العذب، ولا العذب يغير المالح. وهذا قول أكثر المفسرين (٧). ومعنى الحجز في اللغة: المنع.
(١) "تفسير مقاتل" ٦١ أ، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب، ولم ينسبه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦١ أ، و"تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٠. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٨، عن مجاهد.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٦١. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣. وقال الثعلبي ٨/ ١٣٣ ب: وسطها.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٠٩، عن قتادة وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٣ ب، ولم ينسبه.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. وتفسير الهواري ٣/ ٢٦٠. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب. وظاهر الآية أنه حاجز بين البحرين؛ ولم يقيد أحدهما بالعذب فيبقى على أصله، ومثله في سورة الرحمن: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾. وهو يختلف عز الحاجز المذكور في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا =
275
قال أبو إسحاق: حجز بينهما بقدرته فلا يختلط العذب بالملح (١).
وقال أهل المعاني: ويكون ذلك بكف كل واحد منهما عن صاحبه، وفيه دليل على أن الله تعالى قادر على كف النار عن الحطب حتى لا تحرقه، ولا تسحقه، كما كف الماء الملح عن العذب المجاور له أن يختلط به.
وقال السدي: قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ هي البرزخ، وهو الحجر المحجور، وهو بحر الشام وبحر العراق والناس فيما بينهما؛ وعلى هذا معنى الحاجز بين البحرين: الجزائر والأرض والبلاد كما بين بحر فارس وبحر الروم (٢). والناس على القول الأول.
قوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ توحيدَ ربهم، وسلطانَه وقدرته. قاله ابن عباس ومقاتل (٣).
= وَحِجْرًا مَحْجُورًا}. انظر: "مجلة الإعجاز" ٤٤، العدد الثالث، ربيع الثاني ١٤١٨هـ.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٧، بلفظ: العذب بالملح. وهو موافق لنسخة: (ب)، (ج) وفي نسخة (أ): (بالمالح).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٠٩، عن الحسن. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٣ ب، ولم ينسبه، وصدره بـ: قيل. وهذا مخالف لظاهر الآية، فسياقها في بيان القدرة؛ وهي في الاختلاط وعدم التمازج أظهر. والله أعلم. وقد أثبتت الدراسات البحرية انتشار هذه الحواجز بين ملتقى الأبحر. انظر: "مجلة الإعجاز" ٤٤، العدد الثالث، ربيع الثاني ١٤١٨ هـ. وبحر فارس هو الخليج العربي، وسمي بذلك لسيطرة الإمبراطورية الفارسية عليه. ويسمى بحر العراق. "أطلس تاريخ الإسلام" ٤٤، ٤٦. وبحر الروم هو البحر المتوسط، سمي بذلك لسيطرة الإمبراطورية الرومانية عليه قبل ظهور الإسلام. ويسمى بحر الشام. "أطلس تاريخ الإسلام" ٤٤، ٤٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦١ ب.
276
وقال أهل المعاني: لا يعلمون ما لهم وما (١) عليهم في العبادة إن أخلصوها أو أشركوا فيها (٢).
٦٢ - قوله عز وجل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ (٣) قال عطاء عن ابن عباس: المضطر: المكروب. وعنه أيضًا: هو المجهود (٤). ومعنى المضطر في اللغة: المحوج الملجأ إلى الشيء. وقد مر (٥).
قال أهل المعاني: ومعنى إجابة المضطر هو فِعل ما دَعا إليه؛ وهذا لا يكون إلا من قادر على الإجابة مختار لها؛ لأنها وقعت على حسب ما دعا به الداعي (٦).
(١) (ما) ليست موجودة في النسخ الثلاث، وزدتها لتمام المعنى.
(٢) لم أجده في كتب المعاني الموجودة لدي.
(٣) عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من بلهجيم قال قلت: يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سَنَة فدعوته أثبت عليك". قال قلت فأوصني. قال: "لا تسبن أحدًا، ولا تزهدن في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وائتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة". أخرجه الإمام أحمد ٧/ ٣٥٩، رقم: ٢٠٦٦١. وإسناده صحيح. مرويات الإمام أحمد في التفسير ٣/ ٣٢٥. وقد سقت الحديث بطوله لمناسبته لهذه الآية.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب، باللفظ الثاني فقط. وعن السدي بلفظ: المضطر.
(٥) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة ١٧٣]: قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي: فمن أحوج وألجئ، وهو افتُعل من الضرورة. قال الأزهري: معناه: ضيق عليه الأمر بالجوع، وأصله من الضرر وهو: الضيق.
(٦) لم أجده في كتب المعاني الموجودة لدي.
﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ الضر (١) ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ قال السدي: خلفاء مَنْ قبلكم من الأمم (٢).
وقال غيره: معناه: جعلكم خلفاء (٣) يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، وأهلُ كل عصر أهل العصر الأول (٤). والمعنى: يهلك قرنًا وينشئ آخرين (٥). وهذا معنى (٦) قول ابن عباس: يريد: أولادُكم خلفاءُ منكم.
قوله عز وجل: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس: قليلاً ما تتعظون.
ومن قرأ بالياء فالمعنى: قليلاً يذَّكر هؤلاء المشركون الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى (٧).
٦٣ - وقوله: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ﴾ أي: يرشدكم (٨) ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [قال ابن عباس: يريد إلى البلاد التي يتوجهون إليها في البر والبحر. وهذا كقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾] (٩) [الأنعام: ٩٧].
(١) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤، عن ابن جريج.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨١٠.
(٣) خلفاء. في نسخة (ج).
(٤) أخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨١٠، عن قتادة.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب. ولم ينسبه.
(٦) معنى. في نسخة (ج).
(٧) قرأ أبو عمرو، وهشام، وروح بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. "السبعة في القراءات" ٤٨٤. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٩٩. و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٨. قال الأزهري: من قرأ بالياء فللغيبة، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، وكل جائز. "معاني القراءات" ٢/ ٢٤٣.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
٦٤ - قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ قال ابن عباس: يبدأُ الخلق في الأرحام من نطفة ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بعد الموت (١).
وقال مقاتل: بدأ الخلق فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم يعيدهم في الآخرة (٢).
﴿وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ المطر. ومن ﴿وَالْأَرْضِ﴾ النبات (٣).
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم (٤) أن لي شريكًا، قاله ابن عباس (٥).
وقال مقاتل: هاتوا حجتكم بأنه صنع شيئًا من هذه الأشياء غيرُ الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأن مع الله آلهة كما زعمتم (٦).
٦٥ - وقوله: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: الملائكة ﴿وَالْأَرْضِ﴾ يعني: الناس (٧) ﴿الْغَيْبَ﴾ قال مقاتل: يعني الساعة ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ وحده ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني كفار مكة (٨).
(١) "تنوير المقباس" ٣٢٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٥. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٣ ب.
(٤) حجتكم. في نسخة (ج).
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٠.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨١٢، عن أبي العالية، وقتادة، وقال: روي عن مجاهد والسدي نحو ذلك.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. قالت عائشة رضي الله عنها: ومن زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾. أخرجه مسلم ١/ ١٥٩، رقم: ١٧٧. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٣.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦١ ب. والساعة من الغيب. قال ابن جرير ٢٠/ ٥: ﴿الْغَيْبَ﴾ الذي =
قال ابن عباس: يريد: هم ولا من اتخذوه عن دوني أولياء ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ متى يكون البعث (١). وهذا احتجاج عليهم بأن الله هو الذي يعلم ما غاب عن العباد، وأنه هو الذي يعلم متى البعث، لا غيره.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ ﴿ادَّارَكَ﴾ معناه: تدارك، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها، وكونها من حيزها، فلما سكنت للإدغام اجتلبت لها همزة الوصل، كما اجتلبت في قوله: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة: ٧٢]، و ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ [النمل: ٤٧]، ونحوه. ومنه قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ٣٨]، أي: تلاحقوا (٢).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿بَلْ أَدْرَكَ﴾ (٣).
= استأثر الله بعلمه، وحجب عنه خلقه.. والساعة من ذلك. وجعل ابن جرير قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ عامًا فقال: وما يدري من في السموات والأرض مِن خلقه، متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة؟
(١) "تنوير المقباس" ٣٢٠. وهو في "مجاز القرآن" ٢/ ٩٥. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٦. و"تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٢. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٧، ولم ينسبوه.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠١. و"تأويل مشكل القرآن" ٣٥٤. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٨. وابن جني في "المحتسب" ٢/ ١٤٣. قال ابن الجزري:
والطاءُ والدالُ وتا منه ومِن عُليا الثنايا والصفيرُ مستكنْ
"متن الجزرية في معرفة تجويد الآيات القرآنية" ١٠.
قوله: منه، أي: من طرف اللسان، ومن أصول عليا الثنايا، وهي الأسنان المتقدمة، اثنتان فوق، واثنتان تحت. وأما قوله: (والصفير مستكن) فهو وصف لما ذكره بعد ذلك من الحروف. "الدقائق المحكمة في شرح المقدمة"، لأبي زكريا الأنصاري ١٠. ويسمى إدغام متقاربين. "منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال" ٨٣.
(٣) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿بَلْ أَدْرَكَ﴾ خفيفة لغير ألف، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ بالألف ممدودة. وروى المفضل عن =
280
[ومعنى أدرك:] (١) بلغ ولحق، يقال: فلان أدرك الحسن، إذا لحق أيامه. وتقول على هذا: أدركه علمي، أي: بلغه ولحقه (٢).
وقال شمر: أدرك، وتدارك، وادَّارك، وادَّرَك، واحد؛ يقال: أَدْرَكته، وتدارَكته، وادَّارَكته، وادَّرَكته (٣)، وأنشد لزهير:
تداركتما عَبْسًا وذُبيانَ بعدما (٤)
وأنشد للطِرمَّاح:
فلما أدركناهن أبدينَ للَّهوى (٥)
قال ابن عباس: يريد ما جهلوا في الدنيا، وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة (٦).
= عاصم. (بَلْ أَدرَكَ) مثل أبي عمرو، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ على وزن: افتعل. "السبعة في القراءات" ٤٨٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٠. و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٩.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٠.
(٣) في "تهذب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك) عن شمر: أدرك الشيء وأدركته وتدارك القوم، واداركوا، وأدركوا، إذا أدرك بعضهم بعضًا. ويقال: تداركته، وادّاركته، وادّركته.
(٤) شطر بيت من معلقة زهير، يقول: تلافيتما أمر هاتين القبيلتين بعدما أفنى القتال رجالهما، ويعني بهما: هرم ابن سنان، والحارث بن عوف. "ديوان زهير" ٧٩. وأنشد البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك).
(٥) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك). وعجز البيت:
محاسن واستولين دون محاسن
وهو في "ديوان الطرماح" ٢٦٧.
(٦) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧، عن ابن عباس، من طريق عطاء الخراساني: بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر. ومن طريق علي بن أبي طلحة، بلفظ: غاب =
281
وقال مقاتل: يقول: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شَكُّوا وعموا عنه في الدنيا (١).
وقال السدي: اجتمع عليهم يوم القيامة فلم يَشُكُّوا ولم يختلفوا (٢).
قال أبو معاذ النحوي: من قرأ: ﴿بَلْ أدْرَكَ﴾ أو قرأ: في ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ فمعناهما واحد؛ يقول: هم علماءُ في الآخرة، [ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي] (٣)، كقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: ٣٨] (٤).
وروى (٥) أبو تراب عن أبي سعيد الضرير (٦) أنه قال: أما أنا فأقرأ: (بَلْ أدرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الأَخِرَةِ) ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي
= علمهم. وأخرج عن ابن زيد: ضل علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. واختار ابن جرير رواية عطاء. وذكر الثعلبي ٨/ ١٣٤ أ، عن ابن عباس، أنه قال: أي: لم يدركه.
(١) تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٥.
(٣) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وهو ساقط من نسخة (ج). ولعل ما بعده هو: أن الذي كانوا يوعدون حق.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤. قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال قتادة: ذلك والله يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال الحسن: لئن كانوا في الدنيا صُمًا عُميًا عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة. "الوسيط" ٣/ ١٨٤.
(٥) في نسخة: (ب): قال أبو تراب.
(٦) أحمد بن خالد، أبو سعيد البغدادي، الضرير، اللغوي، لقي ابن الأعرابي، وأبا عمرو الشيباني، قدم نيسابور، وأقام بها، وأملى بها كتبًا في معاني الشعر والنوادر، وأخذ عن ابن قتيبة. "إنباه الرواة على أنباه النحاة" ١/ ٧٦، و"بغية الوعاة" ١/ ٣٠٥.
282
كانوا يوعدون حق (١).
وأنشد للأخطل:
وأدْركَ علمي في سواءةَ أنها تُقيم على الأوتار والمشربِ الكَدْر (٢)
أي: أحاط علمي بها أنها كذلك (٣).
وأما الفراء وكثير من المفسرين وأهل المعاني فقد تخبطوا في هذه الآية [وذهبوا إلى ما لا وجه له (٤)؛ قال الأزهري: والقول في أدرك، وادارك، في هذه الآية] (٥) ما قال السدي وأبو معاذ (٦). ولا معنى لما قال الفراء، ولم أحك قوله، ولا قول من حذا حذوه، لتشوشه واضطرابه. وروي عن مجاهد أنه قال: بل تواطأ علمهم في الآخرة (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، وفيه: روى ابن الفرج. و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤، وليس فيه: وروى أبو تراب. وهو قول الهواري ٣/ ٢٦٢، قال: أي: علموا في الآخرة أن الأمر كما قال الله، فآمنوا حين لم ينفعهم علمهم، ولا إيمانهم.
(٢) بيت من قصيدة له في هجاء قبائل قيس، وسواءة: من قيس عيلان، مراده أن بني سواءة يرضون بما قد يصيبهم من الذل، والهوان. "شرح ديوان الأخطل" ١٥٦. وذكر البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، من إنشاد أبي سعيد الضرير.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤، من إنشاد أبي سعيد الضرير.
(٤) قال الفراء ٢/ ٢٩٩: معناه: لعلهم تدارك علمهم. يقول: تتابع علمهم في الآخرة. يريد: بعلم الآخرة أنها تكون أو لا تكون. وذكر نحوه ابن قتيبة غريب القرآن ٣٢٦، وابن جرير ٢٠/ ٦. وذكر الهواري ٣/ ٢٦٢، عن الحسن: أي: لم يبلغ علمهم في الآخرة، أي: لو بلغ عحهم أن الآخرة كائنة لآمنوا بها في الدنيا كما آمن المؤمنون.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك). و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤.
(٧) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧: بلفظ: أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم. وأخرجه =
283
قال الأزهري: وهذا يوافق قول السدي؛ لأن معنى: تواطأ تحقق واتفق حين لا ينفعهم (١).
وقال أبو إسحاق: من قرأ: (بَلِ ادَّارَكَ) وهو الجيد؛ فعلى معنى: بل تدارك، أي: بل تكامل علمهم يوم القيامة بالبعث، وبأن كلَّ ما وعدوا حق. قال: ومن قرأ: (بَلْ أدْرَكَ) فهو على معنى: التقرير والاستخبار؛ كأنه قيل: لم يُدرك علمهم بالآخرة، أي: ليس يقفون في الدنيا على حقيقتها، ثم بيَّن ذلك في قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾ وقالوا في تفسير: (بَلْ أدرَكَ) أم أدرك. هذا كلامه (٢).
وقد فَصَل الزجاج بين القراءتين، فجعل القراءة الثانية استفهامًا بمعنى الإنكار، وحرف الاستفهام: (بل)، الذي هو بمعنى: (أم)، وبهذا قال جماعة، وأنشدوا أبياتًا؛ منها قوله:
أمِ النومُ أمْ كلٌّ إليَّ حبيبُ (٣)
= ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٤، بلفظ: لم يدرك علمهم في الآخرة. وفي "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٥ في قول الله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ﴾ يقول الله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾.
(١) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٧. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٨.
(٣) أنشده الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٩، كاملًا، ولم ينسبه، وصدره:
فواللَّه ما أدري أسلمى تغولت
يقال: تغولت المرأة: إذا تلونت. "تهذيب اللغة" ٨/ ١٩٣ (غال). وأنشده كذلك ابن جرير ٢٠/ ٨. وذكره الأزهري من إنشاد الفراء، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك). ولم ينشده الزجاج عند هذه الآية. وأنشده الثعلبي ٨/ ١٣٤ أ، ولم ينسبه. ونسب لعقبة المضرب برواية:
284
بمعنى: بل، وقالوا: إن أحدهما يقوم مقام الآخر (١).
وإلى هذا ذهب أبو علي؛ فقال: المعنى: إنهم لم يدركوا علم الآخرة، أي: لم يعلموا حدوثها وكونها، ومعنى قوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ معنى الباء، أي: علمهم بالآخرة، قال: وهذا كما تقول: أجئتني بالأمس أي: لم تجئ، والمعنى: لم يدرك علمهم بحدوث الآخرة (٢).
وهذا الوجه غير ما حكينا عن مقاتل وابن عباس والسدي، ولم يَفصل أبو علي بين القراءتين -كما فصل أبو إسحاق- وأجراهما على الاستفهام الذي معناه الإنكارة ويؤكد هذا الوجه قراءة ابن عباس: ﴿بَلى أدَّارَكَ﴾ بالاستفهام (٣).
قال الأزهري: هو استفهام فيه رد وتهكم، ومعناه: لم يدرك علمهم في الآخرة (٤).
(١) وهذا قول الفراء. "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٩. ورجحه ابن جرير ٢٠/ ٨، على قراءة: ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٠.
(٣) أخرج هذه القراءة ابن جرير ٢٠/ ٦، من طريق أبي حمزة، وقال ابن جرير في ضبطها: وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقرأ بإثبات ياء في: بل، ثم يبتدئ: أدَّارك، بفتح ألفها على وجه الاستفهام، وتشديد الدال. ثم قال بعد ذلك: فأما القراءة التي ذكرت عن ابن عباس، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب فخلاف ما عليه مصاحف المسلمين، وذلك أن في: بلى، زيادة ياء في قراءته ليست في المصاحف، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قراء الأمصار. وقال عنها النحاس: إسناده صحيح. "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٨. وذكر هذه القراءة ابن خالويه، ونسبها لابن عباس، وأبي حيوة، وكتبت هكذا: [بَلْ أدْرَكَ] "شواذ القراءات" ١١١، كما ذكرها ابن جني، "المحتسب" ٢/ ١٤٢، وكتبت هكذا: [بَلى ادْرَكَ] ممدودًا.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٤ (درك). وقد كتبت القراءة عنده هكذا: بلى أأدرك. وأما =
285
وروى شعبة عن أبي حمزة (١) عن ابن عباس: ﴿بَلى أدَّارَكَ﴾ بقطع الألف؛ لأنه استفهام، فحذف ألف الوصل (٢).
قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأنه أشبه بالاستهزاء بأهل الجحد، كقولك للرجل تكذبه: بلى لعمري لقد أدركتَ السلف، فأنت تروي ما لا نروي، وأنت تُكذِّبُه (٣). فهذا وجهٌ عليه أهل المعاني. والأول عليه أهل التفسير.
قال شمر: ورُوي لنا حرفٌ عن الليث، ولم أسمعه لغيره، ذَكر أشبه يقال: أدركَ الشيءُ إذا فَنِيَ (٤)، فإن صح فهو في التأويل: فني علمهم عن معرفة الآخرة. هذا كلامه (٥). و ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ على هذا القول يكون أيضًا بمعنى: بالآخرة، كما ذكره أبو علي. وقرأ عاصم في بعض الروايات
= عند الفراء ٢/ ٢٩٩، وابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٣٤٥، فقد كتبت كما عند ابن جرير.
(١) أبو حمزة، عمران بن أبي عطاء الواسطي، سمع ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وهو قليل الحديث، صدوق له أوهام، وحدث عنه سفيان، وشعبة وأبو عوانة، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣٨٧، وتقريب التهذيب ٧٥١.
(٢) يعني أن أصل الفعل: ادارك، خماسي أوله همزة وصل، ثم دخلت همزة الاستفهام فسقطت همزة الوصل لفظًا ورسما.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٩، قال ابن قتيبة عن هذه القراءة: وهذه القراءة أشد إيضاحًا للمعنى؛ لأنه قال: وما يشعرون متى يبعثون، ثم قال: بل تداركت ظنونهم في علم الآخرة؛ فهم يحدسون ولا يدرون. "تأويل مشكل القرآن" ٣٥٤.
(٤) "العين" ٥/ ٣٢٨ (درك).
(٥) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٤ (درك). وقال بعده الأزهري: وهذا غير صحيح، ولا محفوظ عن العرب، وما علمت أحدًا قال: أدرك الشيء إذا فني، ولا يعرج على هذا القول، ولكن يقال: أدركتِ الثمارُ، إذا انتهى نضجها.
286
(أدرَكَ) على افتعل، وهو بمعنى: أدرك وتدارك، كما حكينا عن شمر.
قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [قال مقاتل: بل هم اليوم في الدنيا في شك منها] (١) يعني: من الساعة (٢).
وقال أبو علي: ﴿مِنْهَا﴾: من علمها وحدوثها. يعني: علم الآخرة (٣).
﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا﴾ من علمها (٤) ﴿عَمُونَ﴾ في الدنيا (٥). والعمي عن علم الشيء أبعد منه من الشاك فيه؛ لأن الشك قد يَعرض عن ضرب من النظر، والعمي عن الشيء: الذي لم يدرك منه شيئًا (٦).
وقال الكلبي في قوله: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ يقول: هم جهلة بها (٧).
وقال المبرد: ﴿عَمُونَ﴾ جمع عمٍ، وأكثر ما يستعمل في القلب، وأنشد:
ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ (٨)
قال ابن عباس في هذه الآية: أعمى قلوبهم عما أعد لأوليائه من النعيم، وعما أعد لأعدائه من العذاب. والكلام في العمي قد تقدم عند
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٢) "تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠١.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ٣٥٤.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠١.
(٧) ذكر الهواري ٣/ ٢٦٢، عن الكلبي: أي: لا يدرون ما الحساب فيها وما العذاب.
(٨) البيت لزهير من معلقته، وصدره:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ديوان زهير ٨٦. وأنشد البيت الأزهري، ونسبه لزهير، وليس فيه النقل عن المبرد. "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٥ (عمى).
287
قوله: ﴿عَمِينَ﴾ في سورة الأعراف (١).
٦٧ - وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مفسر في سورة: المؤمنون (٢)، إلى قوله: ﴿قُلْ سِيرُوا﴾ [٦٩]، والآية ظاهرة.
٧٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ قال مقاتل: يعني على كفار مكة إن تولوا عنك ولم يجيبوك (٣) إلى الإيمان، والمعنى: على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك (٤).
﴿وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ﴾ (ضِيْقٍ) (٥) وهما لغتان (٦)؛ قال ابن السكيت: يقال: في صدر فلان ضِيْق وضَيْق، ومكان ضَيِّق وضَيْق (٧)، وقد ضاق الشيء ضِيْقًا (٨)، والنعت ضَيِّق (٩) والاسم ضَيْق.
وروى أبو عبيد عن أبي عمرو: الضِّيْق: الشيء الضَّيَق، والضَّيْق
(١) عند قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [٦٤] قال الواحدي: قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته، وشدة بطشه. وقال الزجاج: أي: قد عموا عن الحق والإيمان. قال الليث: يقال: رجل عمٍ إذا كان أعمى القلب. وقال أبو معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، ورجل أعمى في البصر.
(٢) الآيات [٨١ - ٨٣].
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٢أ.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب، بنصه.
(٥) قرأ ابن كثير بكسر الضاد، وروى خلف عن المسيبي عن نافع مثله. وقرأ الباقون بالفتح. "السبعة في القراءات" ٤٨٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٩.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٣.
(٧) "تهذيب اللغة" ٩/ ٢١٧ (ضاق).
(٨) "إصلاح المنطق" ٣٢.
(٩) في نسخة (ب): (الضيق).
288
المصدر (١).
وقال الفراء: الضَّيْق: ما ضاق عنه صدرك، والضَّيِّق: ما يكون في الذي يتسع ويضيق؛ مثل: الدار والثوب. قال: وإذا رأيت الضَّيْق قد وقع في موضع الضِّيْق، كان على أمرين؛ أحدهما: أن يكون جمعًا للضَيْقة، كما قال الأعشى:
كشفَ الضَيْقةَ عنا وفَسحَ (٢)
والوجه الآخر: أن يكون مخففًا من ضَيْق، مثل: هَيْن ولَيْن (٣). وقد حصل من هذا: أن الضَّيِّق بالتشديد: نعت، ويجوز فيه التخفيف [فيما يتسع ويضيق، ويكون لغة في الضيق.
قال أبو علي: والقراءة:] (٤) (الضَيق) بالفتح والتخفيف اسم، وليس بنعت، وهو ما يضيق عنه الصدر، ويقال فيه بالكسر. والضيق بالكسر المصدر، والاسم فيما يتسع ويضيق، ويكون لغة في الضيق.
قال أبو علي: والقراءة بالوجهين يحمل على أنهما لغتان، ولا يحمل الضيق بالفتح على التخفيف من ضيق؛ لأنك إن حملته على ذلك أقمت
(١) في "تهذيب اللغة" ٩/ ٢١٧ (ضاق)، عن أبي عمرو: الضَّيَق محركة الياء: الشك، والضَّيْق بهذا المعنى أكثر وأفشى.
(٢) "معاني القرآن" الفراء ٢/ ١١٥، وأنشد البيت ولم ينسبه. ونقله عنه الأزهري ٩/ ٢١٨. وهو في ديوان الأعشى ٨٩، من قصيدة يمدح فيها إياس بن قبيصة الطائي، وصدره: فلئن ربك من رحمته
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٥، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ من سورة النحل، آية: ١٢٧. ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٢١٧ (ضاق).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
289
الصفة مقام الموصوف، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد مندوحة عنه (١).
قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد أن مكرهم يبور، ويرجع إلى الذل والقتل.
وقال مقاتل: يقول: لا يضيق صدرك بما يقولون (٢).
وهذه الآية مذكورة في آخر سورة النحل، وقد مر تفسيرها (٣).
٧١ - ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ الذي تعدنا يا محمد به من العذاب (٤) ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأنه يكون، وأن العذاب نازل بنا. قاله مقاتل والكلبي (٥).
٧٢ - قال الله تعالى: ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ يقال: رَدِفَه يَرْدِفه (٦) رِدْفًا؛ إذا تبعه. قال أبو زيد: يقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأردفَته؛ إذا ركبت خلفه، وأنشد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا (٧)
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٣.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
(٣) وهي قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [١٢٧].
(٤) "تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٣، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ، و"تنوير المقباس" ٣٢١.
(٦) يردفه في نسخة (ج).
(٧) "تهذيب اللغة"١٤/ ٩٦ (ردف)، من إنشاد أبي زيد، ونسب إلى خزيمة القضاعي، وعجزه:
ظننت بآل فاطمة الظنونا
وأنشده في "لسان العرب" ٩/ ١١٥، ونسبه لخزيمة بن مالك بن نَهْد.
290
وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩] (١).
قال ابن عباس في معنى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ قرب لكم (٢). وهو قول مقاتل (٣). وقال السدي: اقترب لكم (٤).
وقال قتادة: أزف لكم (٥). وقال الكلبي: دنا لكم (٦). وهذه ألفاظ معناها واحد. قال الفراء: فكأن اللام دخلت إذ كان المعنى: دنا، كما قال الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تفولت أم الحلم أم كل إلى حبيب
فقلتُ لها الحاجاتُ يطرحنَ بالفتى وهمٌّ تعنَّاني مُعَنّى ركائبُهُ (٧)
فأدخل الباء في الفتى؛ لأن معنى: يطرحن: يرمين، وأنت تقول: رميت بالشيء وطرحته. قال: وتكون اللام داخلة، والمعنى: ردفكم، كما
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: اختلف أهل اللغة في: ردف وأردف؛ والأكثرون على أنهما بمعنى واحد.. وفصل آخرون بينهما؛ فقال الزجاج: ردفت الرجل إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل إذا جئت بعده. وقال شمر: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير.
(٢) ذكره البخاري معلقًا بصيغة الجزم بلفظ: اقترب. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٤. ووصله ابن جرير ٢٠/ ٩، من طريق علي بن أبي طلحة، بلفظ: اقترب لكم.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩، عن الضحاك. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٧، عن مجاهد.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٧، عن مجاهد.
(٦) "تنوير المقباس" ٣٢١، وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٤ ب، ولم ينسبه.
(٧) أنشده الفراء، ولم ينسبه. "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٩، وأنشده كذلك ابن جرير ٢٠/ ١٠، وهو في "لسان العرب" ١٥/ ١٠٦، غير منسوب، وفيه: عانى الشيء: قاساه، والمعاناة: المقاساة، يقال: عاناه، وتعناه، وتعنى.
291
تقول العرب: نفذت له مائة، أي: نفذته (١). وهذا قول الأخفش والزجاج والمبرد؛ قالوا: المعنى: ردفكم، فزيدت اللام توكيدًا كما زادوها في: لا أبا لك، و: يا بؤس للحرب (٢)، ومثله في كتاب الله: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ﴾ [الزمر: ١٢] أي: أمرت أن أكون، وبأن أكون (٣).
وقال أبو الهيثم يقال: رَدِفْت فلانًا، ورَدِفتُ لفلانٍ، أي: صرت له رِدْفًا. قال: وتزيد العرب اللام مع الفعل الواقع في الاسم المنصوب فتقول: سمع له، وشكر له، ونصح له، أي: سمعه وشكره ونصحه (٤).
وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] (٥).
(١) في نسخة: (ب)، (ج): نقدت، في الموضعين. وفي: ب: نفذت. وهو موافق لما عند الفراء ٢/ ٣٠٠، بلفظ: نفذت له مائة، وهو يريد: نفذتها مائة. ولا ينبني على هذا الفرق اختلاف في المعنى المقصود. ونقل هذا القول عن الفراء، ولم يسمه، ابن جرير ٢٠/ ٩، واختاره.
(٢) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥١. و"المقتضب" ٢/ ٣٧. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٨. وليس فيها ذكر قول: لا أبا لك ويا بؤس للحرب.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥١.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٩٦ (ردف).
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: واختلفوا في وجه دخول اللام في قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ فقال الكسائي: لما تقدم المفعول على الفعل حسنت اللام، قال: وهذا مما مات من الغريب، وقد كان يقال: لك أكرمت، ولك حدثت، فمات، ولو قلت: أكرمت لك، تريد: أكرمتك كان قبيحًا، وهو جائز؛ كما تقول: هو مكرم لك، وهو ضارب لك، بمعنى: مكرمك، وضاربك، فحسن في موضع وقبح في آخر والأصل واحد. قال النحويين: لما تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه، فصار بمنزلة ما لا يتعدى فأدخل اللام.. فعلى هذا اللام في قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ صلة =
292
وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] (١).
وقال مجاهد في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ عجل لكم (٢).
وعن ابن عباس: حضركم (٣). وقال ابن قتيبة: تبعكم (٤).
وقال الزجاج: معناه في اللغة: ركبكم وجاء بعدكم (٥).
ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر نبيه -عليه السلام- أن يقول للذين يستعجلون العذاب: إن بعض ما تستعجلون من العذاب قد دنا لكم.
قال المفسرون: فكان بعض الذي دنا لهم القتل ببدر، وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت (٦). ثم ذكر فضله في تأخير العذاب؛ فقال:
= وتأكيد، كقوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: ٧٢].. وقال بعضهم: إنها لام أجل؛ والمعنى: هم لأجل ربهم ﴿هُدًى﴾ لا رياء ولا سمعة.
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: فأما اللام في قوله: [رُّؤْيَا] فقال أحمد بن يحيى: أراد: إن كنتم للرؤيا عابرين، وإن كنتم عابرين للرؤيا، تسمى هذه اللام لام التعقيب؛ لأنها عقبت الإضافة المعنى: إن كنتم عابري الرؤيا. وقال ابن الأنباري: دخلت اللام مؤكدة مفيدة معنى التأكيد. وقيل: إنها أفادت معنى: إلى، وكأن ملخصها: إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا. ثم أحال على سورة الأعراف [١٥٤] في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾.
(٢) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٥، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠، بلفظ: أعجل لكم، وبلفظ: أزف. وذكر الهواري ٣/ ٢٦٣، عن مجاهد: اقترب لكم. وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٧.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب.
(٤) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٦.
(٥) في "مجاز القرآن" ٢/ ٩٦: جاء بعدكم.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ، بنصه. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب، ولم ينسبه. وذكر الهواري ٣/ ٢٦٣، عن الحسن: بعض الذي تستعجلون من عذاب الله، يعني: قيام الساعة التي يهلك الله بها آخر كفار هذه الأمة.
293
٧٣ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ قال مقاتل: يعني على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ يعني: أكثر أهل مكة ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ الرب في تأخير العذاب عنهم (١).
٧٤ - وقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ تسر وتخفي صدورهم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ بألسنتهم (٢). قال ابن عباس: يعني: من عداوتك والخلاف عليك فيما جئت به (٣). والمعنى: إنه يعلم كل ذلك فيجازيهم به (٤).
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ إلا هو بين في اللوح المحفوظ (٥).
قال مقاتل في هذه الآية: يريد علم ما تستعجلون من العذاب؛ متى يكون؟ هو مبين في اللوح المحفوظ عند الله (٦)، وإن غاب عن الخلق فلم يعلموه.
وقيل في دخول الهاء في الغائبة: إنها إشارة إلى الجماعة الغائبة، فهى تتضمن الإحاطة بجميع الغائبات، لا ببعضها دون بعض، ولا يبعد أن
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ. وظاهر الآية أعم، وإن كان أهل مكة يدخلون فيه دخولًا أوليا. والله أعلم.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب.
(٣) تفسير الهواري ٣/ ٢٦٤، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٨، عنه بلفظ: يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١١.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١١. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٩، عن ابن عباس، ومجاهد. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
يقال: الغائبة هاهنا مصدر، كالخائنة والعاقبة، فتكون الغائبة بمنزلة: الغيب، كأنه قيل: وما من غيب في السماء والأرض؛ أي: غائب (١).
٧٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [قال ابن عباس: يريد: ما سقط عنهم من علم التوراة، وما حرفوا. وعلى هذا المعنى: يبين لهم القرآن ما سقط من الأحكام من كتابهم واختلفوا فيه، وما حرفوه مما هم فيه مختلفون، وهذا معنى قول مقاتل: هذا القرآن يبين لأهل الكتاب اختلافهم (٢).
وقال آخرون: ﴿يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: يبين لليهود والنصارى أكثر الذي هم فيه مختلفون؛] (٣) وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك من الأمور التي هم فيها مختلفون (٤).
وقال الكلبي عن ابن عباس: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا وشيعًا، يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من دين بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أخذوا به لسلموا (٥).
٧٧ - ﴿وَإِنَّهُ﴾ وإن القرآن ﴿لَهُدًى﴾ من الضلالة ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ من العذاب لمن آمن به (٦).
(١) لم أجده في "تهذيب اللغة"، في مادة: غاب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب).
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١١.
(٥) بنصه في تفسير ابن الجوزي ٦/ ١٨٩، ولم ينسبه. وذكر نحوه الفراء ٢/ ٣٠٠، ولم ينسبه. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٩، عن قتادة.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٢
٧٨ - ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ﴾ قال مقاتل: يعني بين بني إسرائيل (١).
وقال الكلبي: بين أهل الكتاب.
وقيل: بين المختلفين (٢)؛ وهذه أقوال متقاربة.
قال ابن عباس: يريد يوم القيامة يقضي بينهم بحكمه ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب، فلا يمكن رد قضائه بما يحكم، فهو يقضي بين المختلفين، وبما لا يمكن أن يُرَد، ولا يلتبس بغير الحق.
وقيل: ﴿الْعَزِيزُ﴾ في انتقامه من المبطلين ﴿الْعَلِيمُ﴾ بالمحق من المختلفين (٣).
٧٩ - ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ قال مقاتل: يقول: فثق بالله، وذلك حين دُعي إلى دين آبائه (٤) ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ على الدين البين، وهو: الإسلام.
ثم ضرب لكفار مكة مثلًا فقال (٥):
٨٠ - ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ قال قتادة: أي كما لا تسمع الميت كذلك لا تسمع الكافر (٦).
[وقال مقاتل: شبه كفار مكة بالأموات، يقول: كما لا يسمع الميت النداء كذلك لا يسمع الكافر] (٧) النداء (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٢.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٤ ب، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ، ولفظه: وذلك حين دُعي إلى ملة آبائه، فأمره أن يثق بالله -عز وجل-.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٢١. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٤ ب، ولم ينسبه.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب).
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
296
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد بالموتى: الأحياء الذين طبع الله على قلوبهم.
يعني: ضرب لهم المثل بالموتى وشبه حالهم في أنهم لا ينتفعون بما يسمعون بحال الموتى الذين لا يسمعون بتةً (١).
(١) فهذا قولان في المراد بالموتى؛ الأول: الميت الذي فارقته الروح، والثاني: ميت القلب الذي لا ينتفع بما يسمع من الخير، أي: لا تُسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم. وظاهر كلام الواحدي ميله للقول بأن الميت في الآية: الذي فارقته الروح، واقتصر على هذا القول في تفسيره؛ "الوسيط" ٣/ ٣٨٤، وأما في "الوجيز" ٢/ ٨٠٩، فقال: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ الكفار. ولم يزد على ذلك. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن القول الثاني أقرب للصواب؛ وذلك لثبوت سماع الميت في قبره؛ كما في قصة غزوة بدر، وسماع الميت قرع نعال أصحابه إذا تولوا عنه، وغير ذلك من الأحاديث. واقتصر ابن جرير ٢٠/ ١٢، على هذا القول؛ فقال: يقول: إنك يا محمد لا تقدر أن تُفهِم الحق من طبع الله على قلبه فأماته؛ لأن الله قد ختم عليه ألا يفهمه وأحسن الشنقيطي، تقرير هذا بأدلته وشواهده. أضواء البيان ٦/ ٤١٦ إلى ٤٣٩.
وممن ذهب إلى أن النفي في الآية نفي سماع الميت جميع الكلام المعتاد: أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وقد ردت فيه على من روى تكليم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لصناديد قريش بعد أن قذف بهم في القليب، وقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه من طريق قتادة؛ قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليه رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شَفةِ الرَّكي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم؛ "يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ " قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده ما =
297
﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ قال قتادة: يقول: لو أن أصمَّ ولى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع؛ كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإيمان ونحو هذا قال مقاتل (١).
ومعنى الآية: أنهم لفرط إعراضهم عما يُدعون إليه من التوحيد والدين، كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه وإعلامه شيئًا، وكالصم الذين لا يسمعون.
= أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندما. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم: ٣٩٧٦، "فتح الباري" ٧/ ٣٠٠. ثم أخرج البخاري بعده إنكار عائشة -رضي الله عنها- لهذا؛ حيث قالت: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم قرأتْ: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ الآية.
قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه؛ لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه، أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنهم الآن يسمعون) لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المُسمِع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه -صلى الله عليه وسلم-، بذلك. "فتح الباري" ٧/ ٣٠٤. والصحيح أن الميت يسمع في قبره السماع المعتاد؛ والمنفي عنه السماع الذي ينفعه، وقد قرر هذا بشواهده وأدلته شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث رد على من نفى سماع الميت في قبره؛ وحمل ابن تيمية النفي في الآية على السماع المعتاد الذي ينتفعون به، أما سماع آخر فلا ينفى عنهم. "مجموع الفتاوى" ٤/ ٢٩٨. وهذا اختيار ابن كثيرة حيث قال: أي: لا تسمعهم شيئاً ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقرة وهو الكفر. "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢١٠. والقول بأن الموتى في الآية: الكفار، نفى الله عنهم سماع التدبر، تفسير ظاهر لا يرد عليه هذا الإشكال. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه عن قتادة ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢١. وهو في "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
298
وقرأ ابن كثير: ﴿لَا يَسْمِعُ﴾ بالياء ﴿الصُّمَّ﴾ رفعًا (١)، وقراءة العامة أشبه بما قبله من قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ﴾ ومعنى قراءة ابن كثير: إنهم لا ينقادون للحق لعنادهم، وفرط ذهابهم عنه، كما لا يسمع الأصم ما يُقال له (٢).
ثم ضَرب العُمي أيضًا مثلًا لهم فقال:
٨١ - ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ فالعمي: هم، و ﴿ضَلَالَتِهِمْ﴾ كفرهم وجهالتهم. فالمعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان.
وقراءة العامة ﴿بِهَادِي الْعُمْيِ﴾ على اسم الفاعل مضافًا، واسم الفاعل للحال، أو للآتي، وإذا كان كذلك كانت الإضافة في نية الانفصال (٣)، وقراءة حمزة: ﴿تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ (٤) على الفعل، وحجته قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ ومعنى الآية: إنك لا تهديهم لشدة عنادهم، وفَرْط إعراضهم، فإذا كان كذلك كان وجه القراءة: وما أنت تهدي العمي (٥).
قال أحمد بن موسى: وكتب ﴿بِهَادِي الْعُمْيِ﴾ في هذه السورة بياء، وكتب الذي في الروم بغير ياء (٦).
(١) "السبعة في القراءات" ٤٨٦، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٩.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٣.
(٣) هكذا: الانفصال. في نسخة: (أ)، (ب)، وهو موافق لما في "الحجة". وفي نسخة: (ج): الاتصال.
(٤) "السبعة في القراءات" ٤٨٦، و"الحجة" ٥/ ٤٠٤، و"النشر" ٢/ ٣٣٩.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٤.
(٦) في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ [الروم: ٥٣]. أحمد بن موسى، =
299
قال أبو علي: الوقف على: ﴿هَادِ﴾ و ﴿وَالٍ﴾ و ﴿وَاقٍ﴾ (١) ونحوه، فيه لغتان: الأكثر أن تقف بغير ياء، وذلك أنه كان في الوصل متحركًا بالكسر، فإذا وقفت حَذفت الحركة، كما تحذفها من سائر المتحركات، وقوم يقفون بالياء؛ لأن حذفها إنما كان لأجل التنوين؛ لأنهما ساكنان، فلما حذف التنوين في الوقف عادت الياء، وحكى سيبويه اللغتين جميعًا، فعلى هذا حَذْفُ الياء في موضع، وإثباتها في آخر، على أن تكون كتبت [على اللغتين جميعًا، أو يكون أريد] (٢) ﴿بِهَادِي﴾ الإضافة فلم ينون، فإذا لم ينون لم يلزم أن تحذف الياء. أو يكون أريد بـ: تهدي تفعل ولم يُرَد به اسم الفاعل، فإذا أريد: تَفعَلُ ثبتت الياء في الوصل والوقف، ولعل حمزة في قراءته ﴿تَهْدِي﴾ اعتبر ذلك إذ كان في الخط مكتوبًا بغير ألف (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ تُسْمِعُ﴾ أي: ما تسمع (٤)، [وتأويل ما تُسْمِع: ما
= هو أبو بكر بن مجاهد. "السبعة في القراءات" ٤٨٦. وذكره عنه أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٤. وذكر ذلك الداني، "المقنع" ٩٦.
(١) كلمة هاد، بالكسر وردت في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ سورة الحج: ٥٤، ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ سورة الروم: ٥٣.
وكلمة وال، وردت في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: ١١] وكلمة: واق، وردت في قوله تعالى: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٤] ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٧] ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [غافر: ٢١].
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٥.
قال الداني: في بعض المصاحف: ﴿تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ بالتاء بغير ألف، وفي بعضها (بهادي) بألف وياء بعد الدال. "المقنع" ٩٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
300
يَسمَع منك] (١) فيَعِي ويعمل ﴿إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ (٢) قال ابن عباس: إلا من خلقته للسعادة، وكان في سابق علمي من المهتدين (٣).
وقال مقاتل: إلا من صدق بالقرآن أنه من الله ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾: أي مخلصون بتوحيد الله (٤).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ (٥).
قال ابن عباس: حق العذاب عليهم (٦). وقال مقاتل: وإذا نزل العذاب بهم (٧). ونحو هذا قال جماعة المفسرين (٨).
قال الفراء معناه: وجب السَّخَط عليهم. وذكرنا وقع بمعنى:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٩.
(٣) ذكره عنه القرطبي ١٣/ ٢٣٣.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢١، عن زهير بن محمد، وعن ابن عباس بلفظ: موحدون. وهو قول مقاتل ٦٢ أ.
(٥) خروج الدابة علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، عندما اطلع على أصحابه وهم يتذاكرون، فقال: "ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليهما السلام، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم". أخرجه مسلم ٤/ ٢٢٢٥، كتاب الفتن، رقم ٢٩٠١، والترمذي ٤/ ٤١٤، كتاب الفتن، رقم ٢١٨٣.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٢، كلاهما عن مجاهد.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ.
(٨) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٥، و"تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٥. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ١٣، عن قتادة: وجب القول عليهم.
301
وجب (١)، وهذا كقوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ (٢) [القصص ٦٣، الأحقاف ١٨].
والمعنى: حق ووجب أن ينزل بهم ما قال الله، وحكم به من عذابه وسخطه عليهم. والكناية في: ﴿عَلَيْهِمُ﴾ للكفار الذين تخرج عليهم الدابة، وجازت الكناية عنهم؛ لأن ذكر الكفار قد سبق، وهؤلاء من جنس أولئك.
وقوله: ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال ابن عمر وعطية: وذلك حين لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر (٣).
وروي عن حفصة بنت سيرين (٤) أنها سألت أبا العالية عن هذه الآية، فقال لها مجيبًا: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾
(١) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ [الأعراف: ٧١]: يقال: وقع القول والحكم إذا وجب، ومنه قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ [النمل: ٨٢] معناه: إذا وجب، ومثله: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ [الأعراف: ١٣٤] أي: أصابهم ونزل بهم، وأصله من الوقوع بالأرض؛ يقال: وقع بالأرض مطر، ووقعت الإبل إذا بركت.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٠، دون قوله: وذكرنا وقع بمعنى. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٥ أ، ولم ينسبه وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٢، عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى: ﴿وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ قال: السخط. وقال ابن قتيبة: وجبت الحجة. "غريب القرآن" ٣٢٧.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢١، كلاهما عن عطية بن سعد عن ابن عمر. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤، عن ابن عمر، وعطية. وكذا الثعلبي ٨/ ١٣٥ أ.
(٤) حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الفقهية، الأنصارية، البصرية، ثقة، روت عن أم عطية، وأم الرائح، وعن مولاها أنس بن مالك، وعن أبي العالية، وروى عنها أخوها محمد، وقتادة، وأيوب، وابن عون، وغيرهم. ماتت بعد المائة. "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٠٧، و"تقريب التهذيب" ١٣٤٩.
302
[هود: ٣٦] (١).
قال مخلد بن الحسين (٢) -راوي (٣) هذا الحديث- يعني: أنه لا تخرج الدابة حتى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن (٤).
قال ابن عمر: وتخرج الدابة من صَدْع في الصفا (٥). وهو قول أكثر المفسرين؛ قالوا: تخرج الدابة من أرض مكة (٦).
قوله تعالى: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ [قال مقاتل: تكلمهم] (٧) بالعربية (٨).
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٣ وابن جرير ٢٠/ ١٣. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٢. وليس في أسانيد الثلاثة مخلد بن الحسين.
(٢) مَخْلَد بن الحُسين، الأزدي، أبو محمد البصري، ثقة فاضل، حدث عن موسى بن عقبة، وهشام بن حسان، ويونس بن زيد، والأوزاعي، وغيرهم، وحدث عنه: الحسن بن الربيع، وموسى بن أيوب، وغيرهم. ت: ١٩١هـ "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٢٣٦، وتقريب التهذيب ٩٢٧.
(٣) هكذا في نسخة: ج، وفي: أ، ب: رأي.
(٤) ذكر نحو هذا النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٢١. ولم يذكر قول مخلد بن الحسين. وهذا مثال على نقل الواحدي عن النحاس.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٥. والثعلبي ٨/ ١٣٦ أ. قال مقاتل ٦٢ أ: تخرج من الصفا الذي بمكة.
(٦) أخرج ذلك عبد الرزاق ٢/ ٨٤، عن حذيفة بن اليمان، وإبراهيم النخعي. وابن جرير ٢٠/ ١٤، عن حذيفة، وعبد الله بن عمرو. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٥، عن عبد الله بن عمرو، ولا تعارض بين القولين، فإن الصفا من أرض مكة، والله أعلم.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٢ أ. واقتصر عليه الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٣٨٥، و"الوجيز" ٨٠٩. وتخصيص مقاتل كلامها باللغة العربية؛ لأنه قيد الناس بأهل مكة. وظاهر الآية أعم من ذلك.
وممن ذهب إلى أن المراد في الآية تحدثهم، ولم يقيده بلغة: السمرقندي ٢/ ٥٠٥. أخرج ابن جرير. ٢٠/ ١٦ وابن أبي حاتم ٩٣/ ٢٩٢٦، عن ابن عباس، من طريق =
303
فتقول: ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾ يعني: أهل مكة (١) ﴿كَانُوا بِآيَاتِنَا﴾ قال ابن عباس: بالبعث (٢) والثواب والعقاب ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾ وقيل: تُخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن.
واختلف في قوله: ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾ فقرئ بالفتح والكسر (٣)؛ فمن فتح
= علي بن أبي طلحة: تحدثهم. وكذا عن قتادة.
وذكر ابن جرير قراءة: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ ونسبها لأبي زرعة بن عمرو، ثم قال: والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه عامة قراء الأمصار. ولعل من هذا جَزَمَ ابن كثير ٦/ ٢١٠، أن القول بأن الدابة تكلمهم فتقول لهم: ﴿أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾؛ اختيار ابن جرير، ثم قال ابن كثير بعد ذلك: وفي هذا القول نظر لا يخفى. والله أعلم.
وقال ابن عباس في رواية: تجرحهم. وعنه رواية: قال: كلا؛ تفعل يعني: هذا وهذا، وهو قول حسن، ولا منافاة، والله أعلم.
ونسب قراءة: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ ابنُ خالويه وابنُ جني لابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجحدري وأبي زرعة. "الشواذ" لابن خالويه ١١٢، و"المحتسب" ٢/ ١٤٤.
ويشهد لهذا القراءة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريته، فيقول: من أحد المخرطمين". أخرجه الإمام أحمد ٨/ ٣٠٧، رقم: ٢٢٣٧١. والبغوي في "مسند ابن الجعد" ٤٢٧، رقم: ٢٩١٩. وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" ١/ ٥٧٦، رقم: ٣٢٢. فتلخص من هذا أن الدابة تفعل هذا وهذا، ولا معارضة. والله أعلم.
(١) جعل الهواري ٣/ ٢٦٦، لفظ الناس عامًا في المشركين كلهم، وهو أولى.
(٢) بالبعث. في نسخة (ج).
(٣) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، بالكسر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالفتح. "السبعة في القراءات" ٤٨٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٦٤.
304
أراد: تكلمهم الدابة بأن الناس (١). ومن كسر فلأن معنى: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ تقول لهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ﴾ والكلام قول، فكأن القول قد ظهر (٢).
وقال مقاتل والكلبي في قوله: ﴿بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ يعني: بخروج الدابة؛ لأن خروجها من آيات الله (٣).
قال مقاتل: هذا قول الدابة ﴿أَنَّ النَّاسَ كَانُوا﴾ بخروجي لا يوقنون (٤).
٨٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة: إذا، ومن ثم أجيب بالفاء في قوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ كما يجاب إذا بها؛ لأنه ليس قبله عامل يعمل فيه، وليس العامل أيضًا ﴿نَحْشُرُ﴾ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف، تعلق بما دل عليه قوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ كما أن قوله ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات: ١٦و ٨٢، الواقعة: ٤٧]، الظرف فيه متعلق بما دل عليه ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ كأنه قيل: أنبعث إذا متنا، وذَكر مثل هذا في قوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ﴾ [الإسراء
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٠، و"معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥١. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٦. وفيه وجه آخر ذكره أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها، أي: تخبرهم أن الناس.
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٢٢.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٠. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٦. قال أبو حاتم: من قرأ بفتح ﴿أَن﴾ فالوقف على ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾ ومن كسر ﴿إِنَّ﴾ فالوقف على ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ وهو من الكلام. "معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٧.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٥ أ، ولم ينسبه. و"تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. وقد أطال الثعلبي ٨/ ١٣٥ أ، في ذكر الأخبار الواردة في شأن الدابة مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي في إعراضه عنها.
٧١] (١) فكأن التقدير في هذه الآية: إذا حشرناهم وزعوا.
والفوج: الجماعة من الناس كالزمرة (٢). وأما تخصيص الفوج من الأمة المكذبة، فيحتمل أنه أريد بهم الرؤساء حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم، وهي ما ذكر في الآية الثانية.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ قال ابن عباس: يدفعون (٣). وقال مقاتل: يساقون (٤).
وذكرنا الكلام مستقصى في هذا الحرف في هذه السورة (٥).
٨٤ - قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا﴾ أي موقف الحساب وعَرْصة القيامة (٦)، قال الله لهم: ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي﴾ قال ابن عباس: كذبتم أنبيائي، وجحدتم فرائضي وحدودي (٧). وهذا استفهام يتضمن الإنكار عليهم، والتهكم بهم.
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو، قال: ويجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو، قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن يكون العامل فيه ما قبله من قوله: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾ لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾؛ كما أن قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يجعل الظرف بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٦. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٧، عن مجاهد.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٦ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٥) عند قوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ ١٧.
(٦) العَرْصة: الأرض الواسعة ليس فيها بناء. "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠ (عرص)، و"اللسان" ٧/ ٥٢.
(٧) "تنوير المقباس" ٣٢٢، بلفظ: بكتابي ورسولي.
306
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [قال ابن عباس: ولم تختبروا حتى تفهموا وتسمعوا. وقال مقاتل: ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾] (١) أنها باطل (٢). ومعنى هذا: كذبتم بآياتي غير عالمين بها. يعني: ولم تتفكروا في صحتها بل كذبتم بها جاهلين غير مستدلين لا عن خبرة ولا عن معرفة ببطلانها ﴿أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا فيها. هذا مذهب أهل التفسير في هذه الآية (٣).
وذكر صاحب النظم وجهًا آخر؛ فقال: قوله: ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾ منسوق (٤) على قوله: ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي﴾ والاستفهام واقع عليه، إلا أن معنى الفصلين والاستفهامين مختلفان؛ لأن قوله: ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي﴾ تبكيت وإنكار؛ بمعنى: لمَ كذبتم بآياتي، وقوله: ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا﴾ [بمنزلة: أوَ لَمْ تحيطوا بها علمًا] (٥)، أي: بالآيات، وتأويله: وقد أحطتم بها علمًا، كما قال -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ أي: قد شرحنا، فيكون التأويل: لِمَ كذبتم بآياتي وقد أحطتم بها علمًا، فلما كان ﴿لَمْ﴾ استفهامًا احتمل أن يوضع موضعه ألف الاستفهام؛ ثم بين -عز وجل- كيف أحاطوا بالآيات علمًا فصار ذلك تأييدًا لمذهبنا هذا؛ وهو قوله من بعده: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ﴾ الآية، وقد تضع العرب الاستفهام في غير موضعه إذا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٦ ب.
(٤) أي: معطوف.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). وفي نسخة (ب): بمنزلة: أو لم تحيطوا، وفي نسخة (أ) بمنزلة: ثم تحيطوا. ويوجد طمس في الحرف الذي قبل: لم.
307
كان متصلًا بلفظ يتصل به في المعنى، مثل قوله: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤] قد وقع الاستفهام هاهنا على قوله: إن من في الظاهر، وهو في الباطن واقع على قوله: ﴿فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾؛ لأن تأويله: ﴿فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ إن مت (١). ومثله قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤] والاستفهام في الظاهر واقع على الموت والقتل (٢)، وهو في الحقيقة واقع على الانقلاب (٣).
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا﴾ ووجب العذاب عليهم. قاله ابن عباس والمفسرون (٤). قال الحكم (٥) عن السدي: كل شيء في القرآن: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ﴾ [معناه: العذاب (٦).
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤] موضع الاستفهام قوله: ﴿فَهُمُ﴾ ولكنه قدم إلى أول الكلام.
(٢) والقتل. في نسخة (ج).
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ألف الاستفهام دخلت على حرف الشرط؛ ومعناه: الدخول على الجزاء، المعنى: أتنقلبون على أعقباكم إن مات محمد أو قتل، إلا أن شرط الجزاء معلق أحدهما بالآخر، فانعقدا جملة واحدة، وخبرًا واحداً، فدخلت ألف الاستفهام على الشرط، وأَنبأت عن معنى الدخول على الجزاء.
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٨. والثعلبي ٨/ ١٣٦ ب، و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٦. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٢٧، عن قتادة.
(٥) الحكم بن عُتَيْبَة، أبو محمد الكندي، مولاهم الكوفي، من كبار علماء الكوفة من أقران النخعي، ثقة ثبت، فقيه، وربما دلس، روى عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وحدث عنه: الأعمش وشعبة، والأوزاعي، وغيرهم. ت: ١١٥ هـ، وقيل غير ذلك. "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٠٨، و"تقريب التهذيب" ٢٦٢.
(٦) وردت جملة: ﴿وَقَعَ الْقَوْلُ﴾ في موضعين في القرآن الكريم من سورة النمل، =
وقال مقاتل: نزل العذاب (١). وقال الكلبي: ووقع القول] (٢) عليهم بالسَّخْطة (٣).
﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾ قال ابن عباس والمفسرون: بما أشركوا (٤) ﴿فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد أنه لم يكن عند القوم جواب. وقال الكلبي: ﴿فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾ بحجة عن أنفسهم (٥). وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل: ﴿فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾، لأن أفواههم مختومة (٦).
ثم احتج عليهم بقوله:
٨٦ - ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ أي: يبصر فيه، كما يقال: ليل فلان نائم إذا نام، ونهار فلان صائم إذا صام بالنهار (٧). وذلك أن الفعل لما كان يحصل في الظرف جاز أن يسند إليه، كما قال:
فنامَ ليلي وتجلَّى همي
ومعنى ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ ليبتغى فيه الرزق ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: فيما جعلنا ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
= ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ [٨٢]، و ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾ "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" ٧٥٧. وذكر ابن جرير أن معنى ﴿وَقَعَ الْقَوْلُ﴾: حق العذاب، عن مجاهد، وقتادة، وابن جريج.
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٣) "تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٦ ب، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٨، ولفظه: بحجة يدفعون بها عن أنفسهم. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٦ب، ولم ينسبه.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٦ ب، ولم ينسبه.
(٧) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٦.
٨٧ - وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ (١) قال بعض النحويين: تقديره: واذكر يوم ينفخ في الصور فيفزع (٢). والماضي هاهنا يراد به الاستقبال.
وقال الفراء: جعل: فَعَل، مردودًا على: يَفْعَل؛ لأن المعنى: إذا نفخ في الصور ففزع، ألا ترى أن قولك: أقوم يوم تقوم، كقولك: أقوم إذا تقوم، فأجبْتَ بفَعَل؛ لأن فَعَل ويَفْعَل تصلحان مع: إذا، فإن قلت: إذا قدرت هذا التقدير، فأين جواب إذا؟ قلت: قد يكون في فَعَل مضمر مع الواو، كأنه قيل: وذلك يقع يوم ينفخ في الصور، وإذا نفخ في الصور يعني وقوع القول عليهم، وإن شئت قلت: جوابه متروك كقوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ١٦٥]، وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ﴾ [سبأ: ٥١] (٣). وهذا كما ذكرنا في قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾ الآية [النمل: ٨٣]، قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى (٤).
(١) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: "قَرْن يُنفخ فيه". أخرجه الترمذي ٤/ ٥٣٦، كتاب صفة القيامة، رقم: ٢٤٣٠، وقال: حديث حسن. وأبو داود ٥/ ١٠٧، كتاب السنة، رقم: ٤٧٤٢. وهو في "صحيح سنن أبي داود" ٣/ ٨٩٨.
(٢) "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٢٢.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠١. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٢٠، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٦ ب، ولم ينسبه، ثم قال: وعلى هذا أكثر المفسرين. ونفخة الفزع هي النفخة الأولى، ثم بعد ذلك نفخة الصعق؛ وهو الموت، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين؛ فعل هذا هي ثلاث نفخات، ذهب إلى هذا البغوي ٦/ ١٨١، وتبعه على ذلك ابن كثير ٦/ ٢١٦، والصواب -والله تعالى أعلم-. أنهما نفختان؛ الأولى: نفخة الفزع والصعق، والثانية: نفخة القيام لله تعالى، ويشهد =
310
قوله: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: فمات ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من شدة الخوف والفزع (١). وفزع لا تكون في اللغة بمعنى مات، ولكن قد يبلغ الفزع من الإنسان غايته حتى يموت فزعًا، والدليل على أن المراد بالفزع هاهنا، الموت بالفزع، قوله -عز وجل-: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الزمر: ٦٨] أي: مات.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ قال ابن عباس: يريد: الشهداء لا يموتون فهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا في حديث أبي هريرة (٢).
= لذلك قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] ورجح هذا القول القرطبي ١٣/ ٢٤٠؛ قال: الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفحة الصعق؛ لأن الأمرين لازمان لهما؛ أي: فزعوا فزعًا ماتوا منه.. والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو تدل على أنهما نفختان لا ثلاث.
ويعني به حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ما بين النفختين أربعون". قالوا: يا رسول الله: أربعون يومًا؟ قال: "أَبيتُ". قال: أربعون سنة؟ قال: "أَبيتُ"، قال: أربعون شهرًا؟ قال: "أَبيتُ، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْب ذَنَبه". أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: ٤٨١٤، "فتح الباري" ٨/ ٥٥١، وأخرجه مسلم ٤/ ٢٢٧٠، كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم: ٢٩٥٥.
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. و"تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٢) يعني به حديث أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سأل جبريل -عليه السلام- عن هذه الآية: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: "هم الشهداء متقلدون سيوفهم حول العرش" أخرجه =
311
وقال الكلبي ومقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (١).
﴿وَكُلٌّ﴾ أي من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا ﴿أَتَوْهُ﴾ يأتون الله يوم القيامة. وقرأ حمزة: ﴿أَتَوْهُ﴾ (٢) على الفعل وهم فعلوه من الإتيان، وحجته: قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ﴾ [الزخرف: ٣٨] فذكر بلفظ الفعل. وحجة قراءة العامة قوله: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥] فكما أن ﴿آتِيهِ﴾ فاعله حمل على لفظ: كل، كذلك: ﴿آتَوْهُ﴾ فاعلوه محمول على معنى كل (٣).
= الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٥٩٣، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٨، بسياق آخر مطولًا من طريق إسماعيل بن رافع عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة يرفعه، ومن الطريق نفسه رواه الطبراني، "الأحاديث الطوال" ٢٦٦، رقم ٣٦، وأخرجه أيضًا ابن جرير ٢٠/ ١٩، من طريق إسماعيل بن رافع موقوفًا على أبي هريرة. وأخرجه مطولاً من الطريق نفسه الثعلبي ٨/ ١٣٧ أ، وصححه، وقال عنه: حديث صحيح جامع. فمدار الحديث على إسماعيل بن رافع بن عويمر الأنصاري، القاص، وهو ضعيف الحفظ. "تقريب التهذيب" ١٣٩، رقم: ٤٤٦. وقال الذهبي: ضعفوه جدًّا، وقال الدارقطني: متروك. المغني في "الضعفاء" للذهبي ١/ ١٣٢. فلعل الصواب وقف هذا الحديث على أبي هريرة كما أخرجه من طريق إسماعيل بن رافع موقوفًا على أبي هريرة، ابنُ جرير ٢٠/ ١٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٠. والله أعلم.
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. و"تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٢) قرأ حمزة وحفص عن عاصم: [أَتَوْهُ]، مقصورة مفتوحة التاء، وقرأ الباقون: [آتوهُ] ممدودة مضمومة التاء على معنى: جاءوه، وفي رواية أبي بكر عن عاصم كذلك مثل الباقين. "السبعة في القراءات" ٤٨٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٧. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٠.
312
وقوله: ﴿دَاخِرِينَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: صاغرين (١). وذكرنا تفسيره عند قوله: ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ [النحل: ٤٨] (٢)، وقال مقاتل: يعني بكلٍ: البَرُّ، والفاجر ﴿أَتَوْهُ﴾ في الآخرة صاغرين (٣).
٨٨ - وقوله: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ (٤) قال مقاتل: تحسبها مكانها (٥) ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ حتى تقع على الأرض فتستوي بها (٦). وقال ابن عباس: حتى تكون لا شيء، مِثلُ قوله: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ [النبأ: ٢٠] (٧).
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٦، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٠، عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٢، عن ابن عباس، وابن زيد، وقال: روي عن الحسن، وقتادة والثوري مثل ذلك. و"مجاز القرآن" ٢/ ٩٦.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي: صاغرون؛ وهذا لفظ المفسرين. يقال: دَخَرَ يَدْخَر دُخُورًا، أي صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَارَا، وهو الذي يَفعلُ ما تأمره شاء أو أبى، قال الزجاج: هذه الأشياء مجبولة على الطاعة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٤) قال النحاس: من رؤية العين، ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٢٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب، وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٣، عن ابن عباس: قائمة. وعن قتادة: تحسبها ثابتة في أصولها لا تحرك. وقال الهواري ٣/ ٢٦٨: ساكنة.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٨ أ.
(٧) ذكر البخاري عن ابن عباس معلقًا بصيغة الجزم: ﴿جَامِدَةً﴾ قائمة. ووصله ابن جرير ٢٠/ ٢١، من طريق علي بن أبي طلحة. قال ابن كثير ٦/ ٢١٧: أىِ: تزول عن أماكنها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾ [٩، ١٠] وقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [١٠٥ - ١٠٧]. وجمع القرطبي ١٣/ ٢٤٢، الآيات الواردة في شأن الجبال وزوالها؛ وجعلها تمر بستة أحوال، وصدر ذكرها بقوله: =
313
قال عبد الله بن مسلم في هذه الآية: يريد: أنها تُجمع وتُسَيِّر، فهىِ لكثرتها كأنها ﴿جَامِدَةً﴾ واقفة في رأي العين، وهي تسير سير السحاب، وكذلك كل جمع كثير يقصر عنه البصر، كأنه في حسبان الناظر واقف، وهو يسير، وإلى هذا المعنى ذهب الجعدي في وصف جيش فقال:
= ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه.
قال الشنقيطي: بعض الناس زعم أن قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب. ثم نقض هذا القول من وجهين؛ الأول: وجود القرينة الدالة على عدم صحته؛ وهو قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، أي: ويوم ينفخ في الصور فيفزع من في السموات، وترى الجبال. فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن. الثاني:.. أن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة "أضواء البيان" ٦/ ٤٤٢.
وذكر الألوسي عن بعض علماء الفلك، ولم يسمه أن هذا صفة للجبال في الدنيا، وذكر عدة وجوه يمتنع بها حمل الآية على أن ذلك في يوم القيامة. ثم ذكر كلام المرجاني في مقدمه كتابه: (وفية الأسلاف، وتحية الأخلاف) ذكر أن هذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها، وأنه لا يمكن حمل الآية على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، وذكر أدلة لفظية وسياقية في الآية تدل على ذلك، ولم يعترض عليه الألوسي. روح المعاني ١٣/ ٨٩ - ٩٢. وممن ذهب إلى هذا القول واختاره ابن عاشور ٢٠/ ٤٨؛ حيث قال: وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها يسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق.. ثم ذكر معنى الآية على هذا القول وفصله تفصيلًا حسناً. ولا مانع من حمل الآية على المعنيين، إذ لا تعارض بينهما. والله أعلم.
314
بِأَرْعَنَ مثلِ الطَّود تحسِبُ أنهم وقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلجُ (١)
وقوله: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ قال الزجاج: هو نصب على المصدر؛ لأن قوله: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ دليل على الصنعة؛ كأنه قيل: صنَع الله ذلك صُنْعًا (٢).
وقال غيره: هو نصب على الإغراء، على معنى: وأبصروا وانظروا ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (٣). قال ابن عباس: أتقن ما خلق (٤).
وقال مجاهد: أترص (٥) وأبرم وأحكم وأحسن. كل هذه الألفاظ
(١) "تأويل مشكل القرآن" ٦. وذكر قول ابن قتيبة الثعلبي ٨/ ١٣٨ ب، وصدره بقوله: قال القتبي، ويظهر أن الواحدي نقل قول ابن قتيبة من الثعلبي لتطابق الكلام، ومن مواضع الاختلاف بين ما في كتاب ابن قتيبة، وما نقله عنه الثعلبي، قوله: وكل جيش غص الفضاء به لكثرته، وبُعدِ ما بين أطرافه، فقصُر عنه البصر فكأنه في حُسبان الناظر واقف وهو يسير. وأنشد البيت ابن جرير ٢٠/ ٢١، وفي الحاشية: الأرعن يريد به الجيش العظيم، شبهه بالجبل الضخم ذي الرعان، والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدمًا، وقيل: الأرعن: المضطرب لكثرته، والطود: الجبل العظيم، والحاج: جمع حاجة، وتهملج: تمشي الهملجة، والهملجة: سير حسن في سرعة، والبيت شاهد على أن الشيء الضخم تراه وهو يتحرك فتحسبه ساكنًا، مع أنه مسرع في سيره جداً. والبيت في "ديوان الجعدي" ١٨٧.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٠. وهو قول المبرد. "المقتضب" ٣/ ٢٠٣. وأبي علي، "المسائل الحلبيات" ٣٠٣. ونسبه النحاس للخليل وسيبويه. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٢٤.
(٣) "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٢٤. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٨ ب، ولم ينسباه.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢١، من طريقين، بلفظ: أحكم كل شيء. و: أحسن كل شيء خلقه وأوثقه. وباللفظين رواه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٣، ٢٩٣٤. وقال: روي عن الحسن وعطاء والثوري مثل ذلك. ورواه عن الحسن: عبد الرزاق ٢/ ٨٦.
(٥) هكذا في نسخة: (أ)، (ب). وفي نسخة: (ج): فرض. ومعنى: أترص: أحكم وقوَّم. "مجمل اللغة" ١/ ١٤٦، و"اللسان" ٧/ ١٠، مادة: ترص.
315
مروية عنه (١).
وقال الكلبي والسدي ومقاتل: أحسن (٢).
ومعنى الإتقان في اللغة: الأحكام للأشياء؛ قال الفراء: يقال رجل تقن: حاذق بالأشياء. ويقال: الفصاحة من تِقْنه، أي من سُوسِه (٣).
قال الأزهري: الأصل في هذا: ابن تِقْن؛ وهو رجل من عاد، لم يكن يسقط له سهم (٤)، وفيه قيل:
لأكلةٌ من أَقِطٍ وسمنِ ألينُ مسًّا في حوايا البطن
من يثربيات قِذاذٍ خشن يرمي بها أرمى من ابن تِقن (٥)
[ثم قيل لكل حاذق بالأشياء: تقن، ومنه يقال: أتقن فلان عمله، إذا أحكمه.] (٦)
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد بما يفعل
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢١، بلفظ: أوثق كل شيء وسوى. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٤، بلفظ: أبرم كل شيء. وفي "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٦: أترص كل شيء، أي: أحسن وأبرم.
(٢) "تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٩. ولم ينسبه. ولفظ مقاتل ٦٢ ب: أحكم. وكذا في "تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٣) ذكره عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٩/ ٦٠ (تقن)، ولم أجده عند الفراء في تفسير هذه الآية.
(٤) "تهذيب اللغة" ٩/ ٦٠ (تقن)، ونسبه لابن السكيت، ثم قال الأزهري بعد ذلك: الأصل في التِّقن: ابن تقن هذا، ثم قيل لكل حاذق في عمل يعمله عالم بأمره: تّقن، ومنه يقال: أتقن فلان أمره، إذا أحكمه.
(٥) أنشده الأزهري عن ابن السكيت، ولم ينسبه. "تهذيب اللغة" ٩/ ٦٠ (تقن). وهو في "اللسان" ١٣/ ٧٣.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (أ)، (ب). وهو في "تهذيب اللغة" ٩/ ٦٠ (تقن).
316
أولياؤه وبما يفعل أعداؤه. وقرئ: ﴿يَفْعَلُونَ﴾ بالياء والتاء (١)، [فمن قرأ بالتاء] (٢) فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للكافة، وقد يدخل الغيب في الخطاب، ولا يدخل الخطاب في الغيب (٣).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ قال ابن عباس: يريد: شهادة أن لا إله إلا الله. وهو قول ابن مسعود وسفيان ومجاهد وأبي مجلز وأبي صالح والحسن والسدي ومقاتل وإبراهيم وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء؛ كلهم قالوا: الحسنة: كلمة الإخلاص؛ شهادة أن لا إله إلا الله (٤).
(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالياء، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي، بالتاء. "السبعة في القراءات" ٤٨٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٨. و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٦، عن الحسن. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٢، عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وعكرمة. وأخرجه عنهم كذلك ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٤. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٦. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٨ ب. وأخرجه الحاكم، عن عبد الله بن مسعود. المستدرك ٢/ ٤٤١، رقم: ٣٥٢٨. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأما الهواري فقد زاد على ذلك: وعمل صالحًا وعمل جميع الفرائض. "تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٩. وهذا بناءً على مذهبه الإباضي، ولذا لما ذكر حديث جابر بن عبد الله؟ في "صحيح مسلم" ١/ ٩٤، كتاب الإيمان، رقم: ٩٤، (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) ورد عنده بهذا اللفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئًا وعمل بفرائض الله دخل الجنة". ويشهد لدخول الجنة لمن حقق التوحيد حتى لو كان متلبسًا ببعض المعاصي حديث أبي ذَرَّ؟ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَانِي جبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرك باللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وإنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ وَإِنْ سَرَقَ وإنْ زَنَى". أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم: ٧٤٨٧، "فتح الباري" =
317
والمعنى: من وافى يوم القيامة بالإيمان (١)، وكلمة الإخلاص ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ والخير يحتمل الاسم من غير تفضيل، ويحتمل التفضيل إذا قلت: خير من كذا. والمذهبان في الآية رُويا عن المفسرين؛ والأكثرون على أنه اسم من غير تفضيل.
قال ابن عباس: يريد: فله منها خير (٢)، وهو: الجنة (٣).
وقال مقاتل: فيها تقديم؛ يقول: له منها خير (٤).
قال ابن عباس: أي فمنها يصل إليه الخير (٥).
وقال الحسن مثلَ قول مقاتل (٦).
وقال عكرمة وابن جريج: ليس شيء خيرًا من: لا إله إلا الله، ولكن له منها خير (٧). والمعنى على هذا القول: له من تلك الحسنة خيرٌ يوم القيامة، وهو: الثواب والأمن من العذاب والجنة (٨). فهذا أحد المذهبين.
= ١٣/ ٤٦١. ومسلم ١/ ٩٤، كتاب الإيمان، رقم: ٩٤. وانظر تعليق محقق "تفسير الهواري" ١/ ٣٨٨. فصاحب الكبيرة أمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وعفا عنه، وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه، لكنه لا يخلد في النار. والله أعلم.
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٨ ب.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٥.
(٣) ويشهد لهذا حديث جابر رضي الله عنه، قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". أخرجه مسلم ١/ ٩٤، كتاب الإيمان، رقم: ٩٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. وهو مذهب الهواري ٣/ ٢٦٩.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٣.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٣. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ أ.
(٧) أخرجه عنهما ابن جرير ٢٠/ ٢٣.
(٨) والجنة. في نسخة (ج).
318
والمذهب الآخر: أن خيرًا يراد به التفضيل، روي عن ابن عباس: ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ يعني: الثواب؛ لأن الطاعة: فعل العبد، والثواب: فعل الله سبحانه وتعالى. وقيل: ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ يعني: رضوان الله، قال الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢].
وقال القرظي وابن زيد: ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ يعني: الأضعاف يعطيه الله بالواحدة عشرًا فصاعدًا، وهذا خير منها. وعلى هذا الذي قالا، يجب أن يكون تفسير الحسنة: الفِعَلة الحسنة من صلاة وصدقة وتسبيحة، فيضعفها الله تعالى حتى تكتب أضعاف ما عمل، فيكون الإضعاف خيرًا مما عمل.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ قرئ بالإضافة، وبالتنوين في ﴿فَزَعٍ﴾ (١). واختار أبو عبيد: الإضافة؛ قال: لأنه أعم التأويلين؛ وهو أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. وإذا قال: ﴿مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ صار كأنه فزع دون فزع. واختار الفراء الإضافة أيضًا؛ قال: لأنه فزع معلوم، ألا ترى أنه قال: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] فصيَّره معرفة، وإذا أضفته كان معرفةً، فهو أعجب إلى (٢).
قال أبو علي: إذا نون ﴿فَزَعٍ﴾ يجوز أن يُعنى به: فزعًا واحداً، ويجوز أن يُعنى به كثرة؛ لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإن كانت منفردة الألفاظ، كقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:
(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: ﴿مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ بالإضافة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ بالتنوين. "السبعة في القراءات" ٤٨٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٨، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٠.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠١. وهو اختيار ابن جرير ٢٠/ ٢٣
319
١٩] وكذلك إذا أضاف يجوز أن يُعنى: به مفرد (١)، ويجوز أن يعني به: كثرة (٢)؛ وعلى هذا: القراءتان سواءٌ لا فضل بينهما. قال: ومن نَوَّن قوله: ﴿مِنْ فَزَعٍ﴾ كان في انتصاب: يوم، ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون منتصبًا بالمصدر، كأنه: وهم من أن يفزعوا يومئذ. والآخر: أن يكون صفة لفزع؛ لأن أسماء الأحداث توصف بأسماء الأزمان، كما يخبر عنها بها، وفيه ذكر للموصوف، وتقديره في هذا الوجه أن يتعلق بمحذوف؛ كأنه: من فزعٍ يحدث يومئذ. والثالث: أن يتعلق باسم الفاعل كأنه: آمنون يومئذٍ من فزعٍ. وأما القول في إعراب: يوم، وبنائه إذا أضيف إلى: إذ، فقد ذكرناه فيما تقدم (٣).
فأما تفسير الفزع في هذه الآية؛ فإن أريد به: الكثرة فهو شامل لكل فزع؛ وهو الأولى، وإن أريد به واحد، فتفسيره ما ذكرنا في قوله: ﴿الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣].
وقال الكلبي عن ابن عباس في هذه الآية: إذا أطبقت النار على أهلها فزع أهل النار فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة آمنون من فزعهم (٤).
(١) في نسخة (أ)، (ب): منفرد.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٩. رجعت إلى كلام الواحدي في "البسيط"، في أكثر المواضع المتقدمة التي وردت فيها كلمة: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ فلم أجده فيحتمل أن يكون ذكر ذلك في سورة النساء الآية ٤٢ ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهو من القسم المفقود كما أفاد محقق سورة النساء. د المحيميد. وأما إعرابها فيوم: ظرف زمان منصوب، وإذا اسم ظرفي في محل جر مضاف إليه، والتنوين تنوين العوض عن جملة محذوفة. "الجدول في إعراب القرآن" ٢/ ٣٦٦.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٢، بنحوه.
320
٩٠ - وقوله: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ كلهم قالوا: يعني الشرك (١) ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ قال الكلبي: أُلقيت (٢). وقال الضحاك: طرحت.
وقال أبو العالية: قلبت (٣). يقال: كَببَتُ الإناء إذا قلبته على وجهه، وكَبَبْتُ الرجل إذا ألقيته لوجهه فانكب، وأكبَّ إذا انتكس (٤).
[قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾ أي: وقيل لهم: هل تجزون. قال مقاتل: تقول لهم خزنة جهنم:] (٥) ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ﴾ أي: إلا جزاء ما كنتم ﴿تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الشرك. قاله ابن عباس والكلبي (٦).
٩١ - وقوله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ كأنه قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: قل للمشركين ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾. قال ابن عباس والمفسرون: يريد مكة (٧) ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ جعلها حرمًا آمنًا من القتل فيها والسبي والظلم، فلا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها (٨)، وحَدُّ
(١) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. والثعلبي ٨/ ١٣٩ أ. وسبق ذكر من قال به عند تفسير الحسنة، بقول: لا إله إلا الله.
(٢) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ أ، عن ابن عباس. وفي "تنوير المقباس" ٣٢٢، بلفظ: قلبت.
(٣) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٣٩ أ.
(٤) قال الأصمعي: كبَّ الرجل إناءه يكبه كبًا، وأكب الرجل يُكبُّ إكبابًا، إذا ما نكس. "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٦٢ (تقن).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٢٤، ولم ينسبه. وهو في "تنوير المقباس" ٣٢٢، بلفظ: تعملون في الدنيا يا محمد.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٦، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٤، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٦٢ ب، وذكره الهواري ٣/ ٢٦٩، ولم ينسبه. و"تفسير الثعبي" ٨/ ١٣٩ أ.
(٨) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب.
321
ما حَرُم من أرض مكة معلوم بالأميال حوله والعلامات، وذلك القدر يحرم صيده وكسر أشجاره وقلعها وخبطها، ولكن تحش حشًا رقيقًا، وكذلك حرم المدينة كحرم مكة (١)،
وكذلك وَجّ الطائف في تحريم الصيد، وتحريم كسر الأشجار (٢)؛ إلا
(١) الدليل على هذا التحريم حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوم افتتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينظر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال: قال: "إلا الإذخر" أخرجه البخاري، كتاب: جزاء الصيد، رقم: ١٨٣٤، فتح الباري ٤/ ٤٦. ومسلم ٢/ ٩٨٦، كتاب الحج، رقم: ١٣٥٣.
وتحريم المدينة دليله حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة". أخرجه البخاري، كتاب البيوع، رقم: ٢١٢٩، فتح الباري ٤/ ٣٤٦، ومسلم ٢/ ٩٩١، كتاب الحج، رقم: ١٣٦١.
(٢) وَجّ: قيل: هي بلد بالطائف، وقيل: هي الطائف. "تهذيب اللغة" ١١/ ٢٣٧ (وجج)، و"لسان العرب" ٢/ ٣٩٧. و"معجم البلدان" ٤/ ١٠. هكذا ضُبط بض الواو، وأما أهل الطائف فينطقونه بالكسر، وهو وادي الطائف الرئيس، وقد عُمر اليوم جانباه بأحياء من مدينة الطائف، فإذا تجاوز الطائف كانت عليه قرى ومزارع كثيرة، وأما سكانه ففي أعلاه هذيل، وعند الطائف الأشراف ذوو غالب. "معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية" ٣٣١.
ما ذكره الواحدي واقتصر عليه من تحريم الصيد، وكسر الأشجار في وادي وج، هو مشهور مذهب الشافعية؛ قال الشيرازي: يحرم صيد وج؛ وهو واد بالطائف لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل صيد وج، فإن قتل فيه صيدًا لم يضمنه بالجزاء؛ لأن الجزاء وجب بالشرع، والشرع لم يرد إلا في الإحرام والحرم. "المهذب" مع =
322
أن الصيد في حرم مكة مضمون بالجزاء، وفي الحرمين الآخرين غير (١) مضمون بالجزاء (٢).
= "المجموع" النووي ٧/ ٤٠٤. قال النووي: وقال الشافعي في الإملاء: أكره صيد وج، وللأصحاب فيه طريقان؛ أصحهما عندهم القطع بتحريمه.. والثاني: يكره. المجموع ٧/ ٤٠٨. قال شيخ الإسلام: وج: واد بالطائف؛ فإن هذا روي فيه حديث، رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي؛ لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرما عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به "مجموع الفتاوى" ٢٧/ ١٥.
والحديث الوارد فيه هو حديث الزبير بن العوام؟، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صيد وَجٍّ، وعِضاهَه حَرَم مُحَرَّم لله، وذلك قبل نزوله وحصاره الطائف". أخرجه الإمام أحمد ٣/ ١٠، رقم: ١٤١٦، تح/ أحمد شاكر. وأخرجه من الطريق نفسه أبو داود ٢/ ٥٢٨، كتاب المناسك، رقم: ٢٠٣٢، والبيهقي، "السنن الكبرى" ٥/ ٢٠٠. وضعف إسناده محققو المسند، ط/ الرسالة ٣/ ٣٢؛ لضعف محمد بن عبد الله بن إنسان. كما ضعفه الألباني، "ضعيف سنن أبي داود" ١٩٨، رقم: ٤٤١. قال ابن القطان عن هذا الحديث: هو حديث لا يصح؛ فإنه من رواية محمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة، ومحمد بن عبد الله بن إنسان قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، في حديثه نظر، وذكر له البخاري هذا الحديث وقال: لا يُتابع عليه. وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين قال: ليس به بأس، فأما أبوه عبد الله ابن إنسان فلا يعرف روى عنه غير ابنه محمد، قال البخاري: لا يصح حديثه. وممن ضعف الحديث النووي، "المجموع" ٧/ ٤٠٥، وابن حجر، "التلخيص الحبير" ٢/ ٢٨٠.
ومع ذلك فقد صحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند؛ لذكر ابن حبان لمحمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي، في الثقات. وهذا لا يكفي فإن ابن حبان من المتساهلين في التوثيق، كما هو معروف عند أهل العلم، إضافة إلى أن محمد قد تكلم فيه الحفاظ، ولم يوجد للحديث متابعات تشهد له. والله أعلم.
(١) غير. في نسخة (ج).
(٢) بالجزاء. في نسخة. (أ)، (ب).
323
وقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ لأنه خالقه ومالكه ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ قال ابن عباس: من الموحدين (١).
وقال مقاتل: ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ من المخلصين لله بالتوحيد (٢).
٩٢ - وقوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ يعني: تلاوة الدعوة إلى الإيمان قال ابن عباس: يريد قراءته عليهم (٣).
وقال مقاتل: وأمرت ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ عليكم يا أهل مكة (٤).
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ له ثواب اهتدائه ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ عن الإيمان بالقرآن (٥)، [وأخطأ طريق الهدى (٦) ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ أي: من المخوفين بالقرآن] (٧) فليس علي إلا البلاغ.
قال المفسرون: كان هذا قبل أن أمر بالقتال (٨).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي: احمده على نعمه.
﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ قال الكلبي: وقد أراهم إياها، وكان منها: الدخان وانشقاق القمر (٩).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٦.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٢٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٦) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٦، عن مقاتل بن حيان: ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ يقول: أخطأ.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٨) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب. وفيه: نسختها آية القتال. وهذا ليس بصواب؛ بل الآية محكمة يعمل بها في أوقاتها المناسبة، وقد سبق بيان نظير هذه الآية في سورة الفرقان: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ آية رقم: ٦٣.
(٩) "تنوير المقباس" ٣٢٢، بلفظ: علامات وحدانيته وقدرته بالعذاب يوم بدر. ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، إلى أن الدخان قد مضى ووقع لأهل مكة؛ عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة فقال يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم يأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا فأتيت بن مسعود =
324
.........................
= وكان متكئا فغضب فجلس فقال: من علم فليقل ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم، فإن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] وإن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقال اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله فقرأ: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ إلي قوله: ﴿عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٠، ١٥] أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ [الدخان: ١٦]، يوم بدر، و: ﴿لِزَامًا﴾ [الفرقان: ٧٧] يوم بدر ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ إلى ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ والروم قد مضى. أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: ٤٧٧٤، فتح الباري ٨/ ٥١١، ومسلم ٤/ ٢١٥٥، كتاب: صفات المنافقين، رقم: ٢٧٩٨. قال ابن كثير ٦/ ٢٤٧: وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف؛ كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.. وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد؛ بل هو من أمارات الساعة، ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، ورجح ابن كثير هذا القول؛ وقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن.
وأما انشقاق القمر فإنه أمر قد وقع قال ابن كثير ٦/ ٤٧٢: قوله: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١]، قد كان هذا في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة.. وهو أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. ثم ساق الأحاديث في ذلك ومنها حديث أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حِراءَ بينهما. أخرجه البخاري، كتاب: مناقب الأنصار، رقم: ٣٨٦٨، فتح الباري ٧/ ١٨٢. وعن أنس أيضًا أن ذلك وقع مرتين. أخرجه مسلم ٤/ ٢١٥٩، كخاب صفات المنافقين، رقم: ٢٨٠٢.
325
وقال مجاهد: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق (١).
وقال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا، والقتل ببدر (٢). كقوله في سورة الأنبياء [٣٧]: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي﴾ (٣) وهذا القول يجب أن يكون الصحيح؛ لأنه قال: ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾ [وقد أراهم تلك الآيات التي ذكرها الكلبي ومجاهد، فلم يعرفوها] (٤) ولم يقروا بها (٥).
وقوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيد لهم.
قال مقاتل: فعذبهم الله بالقتل ببدر، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجلهم الله إلى النار (٦). وقرئ: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء والياء (٧)؛ فالتاء للخطاب؛ لأن قبله ﴿سَيُرِيكُمْ﴾ والياء لأنه وعيد للمشركين (٨).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٦. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٧. و"تفسير مجاهد" ٢/ ٤٧٦. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٢ ب.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٥) جعل الهواري ٣/ ٢٦٠، ذلك في يوم القيامة؛ أي: الوعد والوعيد، ولا مانع من حمل الآية على العموم، والله أعلم.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ.
(٧) قرأ عاصم في رواية حفص، ونافع وابن عامر بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. "السبعة في القراءات" ٤٨٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٠، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٢٦٣.
(٨) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٠.
326
سورة القصص
327
Icon