تفسير سورة النّمل

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
أشهر أسمائها سورة النمل. وكذلك سميت في صحيح البخاري وجامع الترمذي. وتسمى أيضا سورة سليمان، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في الإتقان وغيره.
وذكر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن أنها تسمى سورة الهدهد. ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها سورة سليمان فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها.
وهذه السورة مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية والقرطبي والسيوطي وغير واحد. وذكر الخفاجي أن بعضهم ذهب إلى مكية بعض آياتها كذا ولعله سهو صوابه مدنية بعض آياتها ولم أقف على هذا لغير الخفاجي.
وهي السورة الثامنة والأربعون في عداد نزول السور، نزلت بعد الشعراء وقبل القصص. كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقد عدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة خمسا وتسعين، وعند أهل الشام والبصرة والكوفة أربعا وتسعين.
من أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة افتتاحها بما يشير إلى إعجاز القرآن ببلاغة نظمه وعلو معانيه، بما يشير إليه الحرفان المقطعان في أولها.
والتنويه بشأن القرآن وأنه هدى لمن ييسر الله الاهتداء به دون من جحدوا أنه من عند الله.
والتحدي بعلم ما فيه من أخبار الأنبياء.
والاعتبار بملك أعظم ملك أوتيه نبي. وهو ملك داود وملك سليمان عليهما السلام. وما بلغه من العلم بأحوال الطير، وما بلغ إليه ملكه من عظمة الحضارة.
وأشهر أمة في العرب أوتيت قوة وهي أمة ثمود. والإشارة إلى ملك عظيم من العرب وهو ملك سبأ. وفي ذلك إيماء إلى أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة تقارنها سياسة الأمة ثم يعقبها ملك، وهو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن الشريعة المحمدية سيقام بها ملك للأمة عتيد كما أقيم لبني إسرائيل ملك سليمان.
ومحاجة المشركين في بطلان دينهم وتزييف آلهتهم وإبطال أخبار كهانهم وعرافيهم، وسدنة آلهتهم. وإثبات البعث وما يتقدمه من أهوال القيامة وأشراطها.
وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة. ثم موادعة المشركين وإنباؤهم بأن شأن الرسول الاستمرار على إبلاغ القرآن وإنذارهم بأن آيات الصدق سيشاهدونها والله مطلع على أعمالهم.
قال ابن الفرس ليس في هذه السورة إحكام ولا نسخ. ونفيه أن يكون فيها إحكام ولا نسخ معناه أنها لم تشتمل على تشريع قار ولا على تشريع منسوخ. وقال القرطبي في تفسير آية ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ الآية نسختها آية القتال اه، يعني الآية النازلة بالقتال في سورة البراءة. وتسمى آية السيف، والقرطبي معاصر لابن الفرس إلا أنه كان بمصر وابن الفرس بالأندلس، وقوله ﴿ لأعذبنه عذابا شديدا ﴾ ويؤخذ منهما حكمان كما سيأتي.

وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ هَدًى لِمَنْ يُيَسِّرُ اللَّهُ الِاهْتِدَاءَ بِهِ دُونَ مَنْ جَحَدُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالتَّحَدِّي بِعِلْمِ مَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالِاعْتِبَارُ بِمُلْكِ أَعْظَمِ مُلْكٍ أُوتِيَهُ نَبِيءٌ. وَهُوَ مُلْكُ دَاوُدَ وَمُلْكُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا بَلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الطَّيْرِ، وَمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ مِنْ عَظَمَةِ الْحَضَارَةِ.
وَأَشْهَرُ أُمَّةٍ فِي الْعَرَبِ أُوتِيَتْ قُوَّةً وَهِيَ أُمَّةُ ثَمُودَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مُلْكٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ مُلْكُ سَبَأٍ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِسَالَةٌ تُقَارِنُهَا سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ ثُمَّ يَعْقُبُهَا مُلْكٌ، وَهُوَ خِلَافَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ سَيُقَامُ بِهَا مُلْكٌ لِلْأُمَّةِ عَتِيدٌ كَمَا أُقِيمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ.
وَمُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي بُطْلَانِ دِينِهِمْ وَتَزْيِيفِ آلِهَتِهِمْ وَإِبْطَالِ أَخْبَارِ كُهَّانِهِمْ وَعَرَّافِيهِمْ، وَسَدَنَةِ آلِهَتِهِمْ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْكُتُبِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْبَاؤُهُمْ بِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَإِنْذَارُهُمْ بِأَنَّ آيَاتِ الصِّدْقِ سَيُشَاهِدُونَهَا وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ. وَنَفْيُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى تَشْرِيعٍ قَارٍّ وَلَا عَلَى تَشْرِيعٍ مَنْسُوخٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النَّمْل: ٩١، ٩٢] الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ اه، يَعْنِي الْآيَةَ النَّازِلَةَ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ. وَتُسَمَّى آيَةَ السَّيْفِ، وَالْقُرْطُبِيُّ مُعَاصِرٌ لِابْنِ الْفَرَسِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ وَابْنُ الْفَرَسِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَقَوْلُهُ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: ٢١] وَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا حُكْمَانِ كَمَا سَيَأْتِي.
[١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

216
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١)
طس.
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُؤْتَلِفٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَا فِي أَمْثَالِهَا مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي حَاوَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ.
وَيَجِيءُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ فِي حُرُوفِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ: طس مُقْتَضَبٌ مِنْ طَاءِ اسْمِهِ تَعَالَى اللَّطِيفِ، وَمِنْ سِينِ اسْمِهِ تَعَالَى السَّمِيعِ. وَأَنَّ الْمَقْصُود الْقسم بهاذين الِاسْمَيْنِ، أَيْ وَاللَّطِيفِ وَالسَّمِيعِ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ.
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ.
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَخَالَفَتْ آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ سَابِقَتَهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِذِكْرِ اسْمِ الْقُرْآنِ وَبِعَطْفِ وَكِتابٍ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِتَنْكِيرِ كِتابٍ.
فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ الْقُرْآنِ فَلِأَنَّهُ عَلَمٌ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ وَالْهَدْيِ.
وَهَذَا الْعَلَمُ يُرَادِفُ الْكِتَابَ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ الْمَجْعُولِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ أَدْخَلُ فِي التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ. وَأَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَكِتابٍ مُبِينٍ الْقُرْآنُ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِتَفْسِيرِهِ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِلتَّفَصِّي مِنْ إِشْكَالِ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ التَّفَصِّيَ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِأَنَّ عَطْفَ إِحْدَى صِفَتَيْنِ عَلَى أُخْرَى كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَلِمَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنَ الْقُرْآنِ وكِتابٍ مُبِينٍ شَائِبَةُ الْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ بِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَالثَّانِي بِوَصْفِهِ بِ مُبِينٍ، كَانَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ رَاجِعًا إِلَى عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِالثَّانِي بَدَلًا، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَعْلَقُ بِاسْتِقْلَالِ كِلَا الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ بِخِلَافِ الْبَدَلِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ [١] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فَإِنَّ قُرْآنٍ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَعْنَى عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتابِ وَلَكِنَّهُ عَطْفٌ لِقَصْدِ جَمْعِهِمَا بِإِضَافَةِ آياتُ إِلَيْهِمَا.
217
وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ عَلَى عَكْسِ مَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمُتَّبِعِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢] أَيْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي الْحَالِ وَمُبَشَّرُونَ بِحُسْنِ الِاسْتِقْبَالِ فَكَانَ الْأَهَمُّ هُنَا لِلَوْحِي الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْآيَاتِ هُوَ اسْتِحْضَارُهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الْمَنْقُولِ مِنْ مَصْدَرِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تُنَاسِبُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُتَقَبِّلِينَ لِآيَاتِهِ فَهُمْ يَدْرُسُونَهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُدْخِلَتِ اللَّامُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ، تَذْكِيرًا بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ مَدْرُوسٌ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ لِيَكُونَ التَّنْوِيهُ بِهِ جَامِعًا لِعُنْوَانَيْهِ وَمُسْتَكْمِلًا لِلدَّلَالَةِ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَعْنَى
الْكَمَالِ فِي نَوْعِهِ مِنَ الْمَقْرُوءَاتِ، وَالدَّلَالَةِ بِالتَّنْكِيرِ عَلَى مَعْنَى تَفْخِيمِهِ بَيْنَ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَأَمَّا مَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ فَهُوَ مَقَامُ التَّحْسِيرِ لِلْكَافِرِينَ مِنْ جَرَّاءَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَنَاسَبَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِاسْمِ الْكِتَابِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَلَكِنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هُنَا ذِكْرَ كِتابٍ مُبِينٍ بِالْحَالِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢].
ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ إِمَّا مِنْ (أَبَانَ) الْقَاصِرِ بِمَعْنَى (بَانَ) لِأَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ مَا لَيْسَ مِنَ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ مُوَضِّحٌ مُبَيِّنٌ. فَالْمُبِينُ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ شَوَاهِدَ صِدْقِهِ وَإِعْجَازِهِ وَهَدْيِهِ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مرشد ومفصّل.
[٢، ٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
هُدىً وَبُشْرى حَالَانِ مِنْ كِتابٍ بَعْدَ وَصْفِهِ ب مُبِينٍ [النَّمْل: ١].
وَجُعِلَ الْحَالُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ بِقُوَّةِ تَسَبُّبِهِ فِي الْهُدَى وَتَبْلِيغِهِ الْبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْهُدَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْبُشْرَى حَاصِلَانِ مِنْهُ وَمُسْتَمِرَّانِ مِنْ آيَاتِهِ.
218
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلتَّبْشِيرِ، وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْهُدَى وَالْبُشْرَى جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْهَادِي وَالْمُبَشِّرُ اللَّهُ أَوِ الرَّسُولُ بِسَبَبِ الْكِتَابِ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى: أُشِيرُ، كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢]، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
ولِلْمُؤْمِنِينَ يَتَنَازَعُهُ هُدىً وَبُشْرى لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ كَقَوْلِهِ:
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢].
وَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَوْصُولِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا يَوْمَئِذٍ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]، وَلِأَنَّ فِي الصِّلَةِ إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَمُفْلِحُونَ.
والزَّكاةَ: الصَّدَقَةُ لِأَنَّهَا تُزَكِّي النَّفْسَ أَوْ تُزَكِّي الْمَالَ، أَيْ تَزِيدُهُ بَرَكَةً. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هُنَا الصَّدَقَةُ مُطْلَقًا أَوْ صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مُوَاسَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٧، ١٨]. وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمُقَدَّرَةُ بِالنُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَة فَلَيْسَتْ مرَادا هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الصِّلَةِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ أُسْلُوبِهَا وَأُسْلُوبِ الصِّلَةِ فَأُتِيَ لَهُ بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا لِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، على أَنَّ ضَمِيرَ هُمْ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ ضَمِيرَ فَصْلٍ دَالًّا عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ مَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ.
وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودٍ حَالُهُمْ لِلْمُخَاطِبِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وللاهتمام بهَا.
219

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤]

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
لَا مَحَالَةَ يُثِيرُ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ هُدًى وَبُشْرَى لِلَّذِينِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ عَنْ حَالِ أَضْدَادِهِمُ الَّذِينَ لَا يوقنون بِالآخِرَة لماذَا لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الْبَالِغِ حَدًّا عَظِيمًا فِي التَّبَيُّنِ وَالْوُضُوحِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَصْلُحَ الْمَقَامُ لِلْإِخْبَارِ عَمَّا صَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَضْدَادَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِبَيَانِ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يعلم خبث طواياهم فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ وَلَمْ يَصْرِفْ إِلَيْهِمْ عِنَايَةً تَنْشُلُهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ مَنْ حَال مَا جبلت عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ بِتَوَابِعِهِ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ أَخْبَارِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ بِمَا سَبَقَ، وَالتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النَّمْل: ٦].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ سَبَبُ افْتِرَاقِ النَّاسِ فِي تَلَقِّي الْهُدَى بَيْنَ مُبَادِرٍ وَمُتَقَاعِسٍ وَمُصِرٍّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولا يومىء إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي الْمُسْنَدِ.
وَتَزْيِينُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَهُمْ: تَصَوُّرُهُمْ إِيَّاهَا فِي نُفُوسِهِمْ زَيْنًا، وَإِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ خُلِقَتْ نُفُوسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ قَابِلَةً لِلِانْفِعَالِ وَقَبُولِ مَا ترَاهُ
من مساوئ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اعْتَادُوهَا، فَإِضَافَةُ أَعْمَالٍ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ هِيَ أَعْمَالُ الْإِشْرَاكِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فَهُمْ لِإِلْفِهِمْ إِيَّاهَا وَتَصَلُّبِهِمْ فِيهَا صَارُوا غَيْرَ قَابِلِينَ لِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَتْهُمْ آيَاتُهُ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَعْنًى دَقِيقٍ جِدًّا وَهُوَ أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْخَيْرِ كَائِنٌ بِمِقْدَارِ رُسُوخِ ضِدِّ الْخَيْرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَعَلُّقِ فِطْرَتِهِمْ بِهِ. وَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ مَا طَرَأَ عَلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنَ التَّطَوُّرِ إِلَى الْفَسَادِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٥، ٦] الْآيَةَ. فَمُبَادَرَةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُ بِنَفْسٍ وَعَقْلٍ بَرِيئَيْنِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالشَّرِّ مُشْتَاقَيْنِ
220
إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى إِذَا لَاحَ لَهُمَا تَقَبَّلَاهُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ «مَا زَالَ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَى مِنَ الرَّحْمَنِ».
وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ مُضَارِعًا إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَأَوْمَأَ جَعْلُ الْخَبَرِ مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: زَيَّنَّا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّزْيِينَ حُكْمٌ سَبَقَ وَتَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ التَّكْوِينِ بِحَسَبِ مَا طَرَأَ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأَطْوَارِ.
فَإِسْنَادُ تَزْيِينِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨] لَا يُنَافِي إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النَّمْل: ٢٤] فَإِنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ تَجِدُ فِي نُفُوسِ أُولَئِكَ مَرْتَعًا خِصْبًا وَمَنْبَتًا لَا يَقْحَلُ فَاللَّهُ تَعَالَى مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ تَطَوُّرِ جِبِلَّةِ نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضَعْفِ سَلَامَةِ الْفِطَرِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّيْطَانُ مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَجِدُ قُبُولًا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢، ٨٣] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَفُرِّعَ عَلَى تَزْيِينِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَمَهٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُمْ بِصَوْغِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّ الْعَمَهَ متجدد مُسْتَمر فيهم، أَيْ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اهْتِدَاءٍ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ.
وَالْعَمَهُ: الضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ بِدُونِ اهْتِدَاءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥]. وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ وَفَرِحَ.
فَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْعُنْوَانِ لَا بِذَوَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ مُتَفَاوِتُ الِامْتِدَادِ فَمِنْهُ أَشَدُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَمْتَدُّ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَزْيِينِ الْكُفْرِ فِي نُفُوسِهِمْ تَزْيِينًا
221
خَالِصًا أَوْ مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي مَفَاسِدِهِ، وَتِلْكَ مَرَاتِبُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تخفي الصُّدُور.
[٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٥]
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
قَصَدَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ زِيَادَةَ تَمْيِيزِهِمْ فَضْحًا لِسُوءِ حَالِهِمْ مَعَ مَا يُنَبِّهُ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُم ناشىء عَمَّا تَقَدَّمَ اسْمَ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَعَزَّزَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فَأَعْقَبَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ.
وَجِيءَ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي حَالَتِهِمْ هَذِه قد هيّىء لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ وَخِزْيُ الْغَلَبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ بِقَرِينَةِ عَطْفِ: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى جَزَاءَيْنِ: جَزَاءٌ فِي الدُّنْيَا مَعْدُودٌ لَهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِكُفْرِهِمْ، فَهُمْ مَا دَامُوا كَافِرِينَ مُتَهَيِّئُونَ لِلْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ إِنْ جَاءَ إِبَّانَهُ وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ.
وَجَزَاءٌ فِي الْآخِرَةِ يَنَالُ مَنْ صَارَ إِلَى الْآخِرَةِ وَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْمَصِيرُ يُسَمَّى بِالْمُوَافَاةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ.
وَلِكَوْنِ نَوَالِ الْعَذَابِ الْأَوَّلِ إيَّاهُم قَابلا للتفصّي مِنْهُ بِالْإِيمَانِ قُبَيْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ الْمُفِيدَةِ كَوْنَهُ مُهَيَّأً تَهْيِئَةً، أَمَّا أَصَالَةُ جَزَاءِ الْآخِرَةِ إِيَّاهُمْ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنهُ إِن جاؤوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُفْرِهِمْ.
فَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ وَقَوْلِهِ: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [النَّمْل: ٤] بِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْعُنْوَانِ الَّذِي أَفَادَتْهُ الصِّلَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الضَّمِيرِ عَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ وَلَكِنْ عَلَى مَوْصُوفِينَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَمَنْ تَنْقَشِعُ عَنْهُ
الضَّلَالَةُ وَيَثُوبُ
إِلَى الْإِيمَانِ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ. وَصِيغَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ بِالْخُسْرَانِ فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَقُرِنَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَعَلَى انْحِصَارِ مَضْمُونِهَا فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النَّمْل: ٣].
وَجَاءَ الْمُسْنَدُ اسْمَ تَفْضِيلٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَوْحَدُونَ فِي الْخُسْرَانِ لَا يُشْبِهُهُ خُسْرَانُ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ فِي الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتُ الْمِقْدَارِ وَالْمُدَّةِ وَأَعْظَمُهُ فِيهِمَا خسران الْمُشْركين.
[٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ [النَّمْل: ١] انْتِقَالٌ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كِتَابٌ مُبِينٌ. وَذَلِكَ آيَةُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ بِأَنَّهُ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِذْ أَنْبَأَهُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِينَ الَّتِي مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَمَا كَانَ يَعْلَمُ خَاصَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهَا أَكْثَره مُحَرَّفٌ. وَأَيْضًا فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَذْكُرُ بَعْدَهُ مِنَ الْقِصَصِ.
وتلقى مُضَارِعُ لَقَّاهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ جَعَلَهُ لَاقَيًا. وَاللُّقِيُّ وَاللِّقَاءُ: وُصُولُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ قَصْدًا أَوْ مُصَادَفَةً. وَالتَّلْقِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ لَاقِيًا غَيْرَهُ، قَالَ تَعَالَى:
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان: ١١]، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ التَّلْقِيَةِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ سَعَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا بُنِيَ الْفِعْلُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ للْعلم بِأَنَّهُ الله أَوْ جِبْرِيلَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ: وَهُوَ أَنَّك مؤتى الْوَحْي من لدن حَكِيم عليم.
وتأكيد الْخَبَر لمُجَرّد الاهتمام لِأَن الْمُخَاطب هُوَ النبيء وَهُوَ لَا يتَرَدَّد فِي ذَلِك، أَو يَكُونُ التَّأْكِيدُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّامِعِينَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ.
وَفِي إِقْحَامِ اسْمِ لَدُنْ بَيْنَ مِنْ وحَكِيمٍ تَنْبِيهٌ عَلَى شِدَّةِ انْتِسَابِ الْقُرْآنِ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَصْلَ لَدُنْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ مِثْلُ (عِنْدَ) ثُمَّ شَاعَ
إِطْلَاقُهَا عَلَى مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ مَا تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْف: ٦٥].
وَالْحَكِيمُ: الْقَوِيُّ الْحِكْمَةِ، وَالْعَلِيمُ: الْوَاسِعُ الْعِلْمِ. وَفِي التَّنْكِيرِ إِيذَانٌ بِتَعْظِيمِ هَذَا
الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ حَكِيمٍ أَيُّ حَكِيمٍ، وَعَلِيمٍ أَيُّ عَلِيمٍ.
وَفِي الْوَصْفَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مُنَاسَبَةٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلِلْمُمَهَّدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى حِكْمَةِ وَعِلْمِ مَنْ أَوْحَى بِهِ، وَأَنَّ مَا يُذْكَرُ هُنَا مِنَ الْقَصَصِ وَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا مِنَ الْمَغَازِي وَالْأَمْثَالِ وَالْمَوْعِظَةِ، مِنْ آثَارِ حِكْمَةِ وَعَلْمِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، وَكَذَلِكَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَثْبِيتِ فؤاد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
قَالَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: انْتَصَبَ إِذْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، أَيْ أَنَّ إِذْ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيِ اذْكُرْ قِصَّةَ زَمَنِ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠].
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا إِفَادَةُ تَنْظِيرِ تَلَقِّي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِتَلَقِّي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ إِذْ نُودِيَ يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النَّمْل: ٩].
وَذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ قِصَصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَقِبَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا فِيهِ مَثَلٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَمَا يُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.
وَفِي ذَلِكَ انْتِقَالٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ جِهَاتِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.
224
وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِلَى آخِرِهَا تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النَّمْل: ٨] إِلَخْ. وَزَمَانُ قَوْلِ مُوسَى لِأَهْلِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ وَقْتُ اجْتِلَابِهِ لِلْمُبَادَرَةِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِحَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، ابْتُدِئَتْ بِمَا تَقَدَّمَ رِسَالَةَ مُوسَى مِنَ الْأَحْوَالِ إِدْمَاجًا لِلْقِصَّةِ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وَالْأَهْلُ: مُرَادٌ بِهِ زَوْجُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا زَوْجُهُ وَابْنَانِ صَغِيرَانِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْقَوْلِ زَوْجُهُ، وَيُكَنَّى عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْأَهْلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا»
. وَلَمْ تَظْهَرِ النَّارُ إِلَّا لِمُوسَى دُونَ غَيْرِهِ مَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَارًا مُعْتَادَةً، لَكِنَّهَا مِنْ
أَنْوَارِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ جَلَّاهُ اللَّهُ لِمُوسَى فَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَأْكِيدُهُ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ زَوْجَهُ تَرَدَّدَتْ فِي ظُهُورِ نَارٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهَا.
وَالْإِينَاسُ: الْإِحْسَاسُ وَالشُّعُورُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، فَيَكُونُ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَفِي الْأَصْوَاتِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ
وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ خَبَرُ الْمَكَانِ الَّذِي تَلُوحُ مِنْهُ النَّارُ. وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ هُنَالِكَ بَيْتًا يَرْجُو اسْتِضَافَتَهُمْ إِيَّاهُ وَأَهْلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ بَيْتٍ يَسْتَضِيفُونَ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا مُقْوِينَ يَأْتِ مِنْهُمْ بِجَمْرَةِ نَارٍ لِيُوقِدَ أَهْلَهُ نَارًا مِنْ حَطَبِ الطَّرِيقِ لِلتَّدَفُّؤِ بِهَا.
وَالشِّهَابُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ. وَالْقَبَسُ: جَمْرَةٌ أَوْ شُعْلَةُ نَارٍ تُقْبَسُ، أَيْ يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهَا مِنْ نَارٍ أُخْرَى لِيُشْعَلَ بِهَا حَطَبٌ أَوْ ذُبَالَةُ نَارٍ أَوْ غَيْرُهُمَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِإِضَافَة بِشِهابٍ إِلَى قَبَسٍ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ مِثْلُ: خَاتَمُ حَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِتَنْوِينِ شِهَابٍ، فَيَكُونُ قَبَسٍ بَدَلًا مِنْ شِهَابٍ أَوْ نَعْتًا لَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ طَهَ.
وَالِاصْطِلَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الصَّلْيِ وَهُوَ الشَّيُّ بِالنَّارِ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الِافْتِعَالِ أَنَّهُ مُحَاوَلَةُ الصَّلْيِ فَصَارَ بِمَعْنَى التَّدَفُّؤِ بوهج النَّار.
225

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٨ إِلَى ١١]

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
أُنِّثَ ضَمِيرُ جاءَها جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْمِيَةِ النُّورِ نَارًا بِحَسَبِ مَا لَاحَ لِمُوسَى. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ، فَبِنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ هُنَا لِمَا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرَاكِيبِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها هُوَ بَعْضُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فِي طَهَ [١٢] : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً لِأَنَّ مَعْنَى بُورِكَ قُدِّسَ وَزُكِّيَ.
وَفِعْلُ (بَارَكَ) يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، أَيْ جَعَلَ لَكَ بَرَكَةً وَتَقَدَّمَ بَيَانُ
مَعْنَى الْبَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي آلِ عِمْرَانَ [٩٦]، وَقَوْلُهُ وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨]. وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ نُودِيَ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، أَيْ نُودِيَ بِهَذَا الْكَلَامِ.
ومَنْ فِي النَّارِ مُرَادٌ بِهِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمَّا حَلَّ فِي مَوْضِعِ النُّورِ صَارَ مُحِيطًا بِهِ فَتِلْكَ الْإِحَاطَةُ تُشْبِهُ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِ مَنْ فِي النَّارِ وَهُوَ نَفْسُهُ.
وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِهِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، أَوْ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ إِنْ أُرِيدَ الْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِينَاسًا لَهُ وَتَلَطُّفًا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ «قُمْ أَبَا تُرَابٍ»
وَكَثِيرٌ التَّلَطُّفُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا الْتَبَسَ بِهِ الْمُتَلَطَّفُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ هُوَ بِشَارَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَرَكَةِ النُّبُوءَةِ.
وَمَنْ حَوْلَ النَّارِ: هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِمَا نُودِيَ بِهِ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ إِنَارَةُ الْمَكَانِ وَتَقْدِيسِهِ إِنْ كَانَ النِّدَاءُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ بَلْ كَانَ مِنْ لَدُنْ
226
اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا التَّبْرِيكُ تَبْرِيكُ ذَوَاتٍ لَا تَبْرِيكَ مَكَانٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ تَبْرِيكُ الِاصْطِفَاءِ الْإِلَهِيِّ بِالْكَرَامَةِ. وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إِنْشَاءُ تَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَة لإِبْرَاهِيم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: ٧٣] أَيْ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ.
وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى مَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ إِخْبَارًا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُحْدَثَاتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّدَاءَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ جَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُبْحانَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلًا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ يَقْتَضِي تَذَكُّرَ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ.
وَفِي حَذْفِ مُتَعَلَّقٍ التَّنْزِيهِ إِيذَانٌ بِالْعُمُومِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ عُمُومُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَلِيقُ إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
فَالْمَعْنَى: وَنَزِّهِ اللَّهَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ أَوَّلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَإِرْدَافُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ للتنزيه عَن شؤون الْمُحْدَثَاتِ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَلَا يُشْبِهُ شَأْنه تَعَالَى شؤونهم.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَالْمَعْنَى: إِعْلَامُهُ بِأَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، أَيْ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، لَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ تَكْوِينٌ.
وَتَقْدِيمُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ لِإِحْدَاثِ رِبَاطَةِ جَأْشٍ لِمُوسَى لِيَعْلَمَ أَنَّهُ خُلِعَتْ عَلَيْهِ النُّبُوءَةُ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَتَعَرَّضُ إِلَى أَذًى وَتَأَلُّبٍ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ سَيَصِيرُ رَسُولًا، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ قَوِيٍّ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ مَا شَاهَدَ مِنَ النَّارِ وَمَا تَلَقَّاهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا سَيُشَاهِدُهُ مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لَيْسَ بِعَجِيبٍ فِي جَانِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتِلْكَ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ، فَلِذَلِكَ
227
أَتْبَعَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَلْقِ عَصاكَ.
وَالْمَعْنَى: وَقُلْنَا أَلْقِ عَصَاكَ.
وَالِاهْتِزَازُ: الِاضْطِرَابُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْهَزِّ وَهُوَ الرَّفْعُ كَأَنَّهَا تُطَاوِعُ فِعْلَ هَازٍّ يَهُزُّهَا. وَالْجَانُّ: ذَكَرُ الْحَيَّاتِ، وَهُوَ شَدِيدُ الِاهْتِزَازِ وَجَمْعُهُ جِنَّانٌ (وَأَمَّا الْجَانُّ بِمَعْنَى وَاحِدِ الْجِنِّ فَاسْمُ جَمْعِهِ جِنٌّ). وَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الِاضْطِرَابِ لِأَنَّ الْحَيَّاتِ خَفِيفَةُ التَّحَرُّكِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ الْعَصَا بِالثُّعْبَانِ فِي آيَةِ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: ١٠٧] فَذَلِكَ لِضَخَامَةِ الْجِرْمِ.
وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ. وَفِعْلُ (تَوَلَّى) مُرَادِفُ فِعْلِ وَلَّى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ «الْقَامُوسِ» وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَا فِي فِعْلِ (تَوَلَّى) مِنْ زِيَادَةِ الْمَبْنَى أَنْ يُفِيدَ (تَوَلَّى) زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٢٤].
وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ قُوَّةِ تَوَلِّيهِ لَمَّا رَأَى عَصَاهُ تَهْتَزُّ هُوَ الدَّاعِي لِتَأْكِيدِ فِعْلِ وَلَّى بِقَوْلِهِ:
مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ فَتَأَمَّلْ.
وَالْإِدْبَارُ: التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ الْخَلْفِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّوَلِّي فَقَوْلُهُ: مُدْبِراً حَالٌ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ وَلَّى.
وَالتَّعَقُّبُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى جِهَةِ الْعَقِبِ، أَيِ الْخَلْفِ، فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ تَأْكِيدٌ لِشِدَّةِ تَوَلِّيهِ، أَيْ وَلَّى تَوَلِّيًا قَوِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَكَانَ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُ لِتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّتِي فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ عَلَى قُوَّةِ الْعَقْلِ الْبَاعِثَةِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ إِعْطَائِهِ النُّبُوءَةَ وَالتَّأْيِيدَ، إِذْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْوَاهِمَةُ مُتَأَصِّلَةً فِي الْجِبِلَّةِ سَابِقَةً عَلَى مَا تَلَقَّاهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالرِّسَالَةِ، وَتَأَصُّلُ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ يَزُولُ بِالتَّخَلُّقِ وَبِمُحَارَبَةِ الْعَقْلِ لِلْوَهْمِ فَلَا يَزَالَانِ يَتَدَافَعَانِ وَيَضْعُفُ سُلْطَانُ الْوَهْمِ بِتَعَاقُبِ الْأَيَّامِ.
وَقَوْلُهُ: يَا مُوسى لَا تَخَفْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْنَا لَهُ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ. لِأَنَّ خَوْفَهُ قَدْ حَصَلَ. وَالْخَوْفُ الْحَاصِلُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفُ رَغَبٍ مِنِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَلَيْسَ خَوْفَ ذَنْبٍ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْبُنُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لِأَنِّي أَحْفَظُهُمْ.
وإِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَتَحْقِيقٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ
228
نَهْيُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَشْرِيفِهِ بِمَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إِذْ عُلِّلَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَا يَخَافُونَ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى لَدَيَّ فِي حَضْرَتِي، أَيْ حِينَ تَلَقِّي رِسَالَتِي. وَحَقِيقَةُ لَدَيَّ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَكَانُ.
وَإِذَا قَدْ كَانَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً حَصَلَ حِينَ الْوَحْيُ كَانَ تَابِعًا لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رَبَاطَةِ الْجَأْشِ. وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ حَطٌّ لِمَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَرَاتِبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ:
مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَعَنْ كُلِّ خَوْفٍ يَخَافُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: ٧٧].
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا إِلَى مُقَاتِلٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ فَيَكُونُ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ الْوَاقِعِ فِعْلُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْخَوْفَ بِمَعْنَى الرُّعْبِ وَالْخَوْفَ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ، أَيْ إِلَّا رَسُولًا ظَلَمَ، أَيْ فَرَطَ مِنْهُ ظُلْمٌ، أَيْ ذَنْبٌ قَبْلَ اصْطِفَائِهِ لِلرِّسَالَةِ، أَيْ صَدَرَ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ بِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي مُتَعَارَفِ شَرَائِعِ الْبَشَرِ الْمُتَقَرَّرِ أَنَّهَا عَدْلٌ، بِأَنِ ارْتَكَبَ مَا يُخَالِفُ الْمُتَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ (قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ) فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهِ وَيُجَازِيَهُ عَلَى ارْتِكَابِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ كَيْدِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَخِيهِمْ، وَاعْتِدَاءِ مُوسَى عَلَى الْقِبْطِيِّ بِالْقَتْلِ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، أَيْ تَابَ عَنْ فِعْلِهِ وَأَصْلَحَ حَالَهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَسْكِينُ خَاطِرِ مُوسَى وَتَبْشِيرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَا كَانَ فَرَطَ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُ مِمَّا قَالَهُ يَوْمَ الِاعْتِدَاءِ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَص: ١٥، ١٦]، فَأُفْرِغَ هَذَا
التَّطْمِينُ لِمُوسَى فِي قَالَبِ الْعُمُومِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ.
وَاسْتِقَامَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ بِتَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ
229
فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْ قَبْلِ الْإِرْسَالِ وَتَابَ مَنْ ظُلْمِهِ فَخَافَ عِقَابِي فَلَا يَخَافُ لِأَنِّي غَافِرٌ لَهُ وَقَابِلٌ لِتَوْبَتِهِ لِأَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ اقْتَضَاهُ مَقَامُ تَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ، وَنُسِجَ عَلَى مَنْسَجِ التَّذْكِرَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِعِلْمِ الْمُتَخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أُهْمِلْ تَوْبَتَكَ يَوْمَ اعْتَدَيْتَ وَقَوْلَكَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَص: ١٥، ١٦]، وَعَزْمَكَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ يَوْمَ قُلْتَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَص: ١٧].
وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خُصُوصِ مَنْ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرَّسُولِ الْإِصْرَارُ عَلَى الظُّلْمِ.
وَمِنْ أَلْطَفِ الْإِيمَاءِ الْإِتْيَانُ بِفعل ظَلَمَ ليومىء إِلَى قَوْلِ مُوسَى يَوْم ارْتكب الاعتداءبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
[الْقَصَص: ١٦] وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ مُوسَى نَفْسَهُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الضَّحَّاكِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ فَالْكَلَامُ اسْتِطْرَادٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَلَمَ وَبَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ مِنَ النَّاسِ يُغْفَرُ لَهُ. وَعَلَيْهِ تَكُونُ مَنْ صَادِقَةً عَلَى شَخْصٍ ظَلَمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُخَالَفَاتِ بَعْضِ الرُّسُلِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ دَعَا إِلَيْهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ تُنَافِي سَبْقَ ظُلْمِ النَّفْسِ. وَالَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ إِثْبَاتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ للمستثنى، ونقيض انْتِفَاء الْخَوْف حُصُول الْخَوْف. وَالْمَوْجُود بعد أَدَاة الِاسْتِثْنَاء أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَيْهِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ ظَلَمَ وَلَمْ يُبَدِّلْ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
أَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَزَادَ عَلَى مَا سَلَكَهُ الْفَرَّاءُ والزجاج فَجعل مَا صدق مَنْ ظَلَمَ رَسُولًا ظَلَمَ. وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا هُوَ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ دَعَيَا الْفَرَّاءَ وَالزَّجَّاجَ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضًا لِحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلذَلِك جعل مَا صدق مَنْ ظَلَمَ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ ظَلَمَ بِمَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ صَغَائِرَ لِيَشْمَلَ مُوسَى وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ تَحَصَّلَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الرُّسُلَ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ (أَيْ حِينَ
230
الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الرِّسَالَةِ) لَا يَخَافُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُمُ السَّلَامَةَ، وَلَا يَخَافُونَ الذُّنُوبَ لِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمُ الْعِصْمَةَ. وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى الذُّنُوبِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا، وَأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ إِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أَمِنَ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عِقَابِ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُ تَدَارَكَ ظُلْمَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَتُبْ يَخَفْ عِقَابَ الذَّنْبِ فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ مَعَانٍ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِاحْتِمَالَيْهِ، وَذَلِكَ إِيجَازٌ.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَلَا) وَتَخْفِيفِ اللَّامِ فَتَكُونُ حَرْفَ تَنْبِيهٍ، وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَا رَأَيْنَا مِنْ كُتُبِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فَلَعَلَّهَا رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ.
وَفِعْلُ بَدَّلَ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: مَأْخُوذًا، وَمُعْطًى، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْئَيْنِ تَارَةً بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفُرْقَانِ [٧٠] فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَيَتَعَدَّى تَارَةً إِلَى الْمَأْخُوذِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُعْطَى بِالْبَاءِ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى عَاوَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: ٢]، أَيْ لَا تَأْخُذُوا خَبِيثَ الْمَالِ وَتُضَيِّعُوا طَيِّبَهُ، فَإِذَا ذُكِرَ الْمَفْعُولَانِ مَنْصُوبَيْنِ تَعَيَّنَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَبْذُولُ بِالْقَرِينَةِ وَإِلَّا فَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ هُوَ الْمَبْذُولُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَبُدِّلْتُ قَرْحًا دَامِيًا بَعْدَ صِحَّةٍ فَيَا لَكِ مِنْ نُعْمَى تَبَدَّلْنَ أَبْؤُسًا
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أَيْ أَخَذَ حُسْنًا بِسُوءٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ بَعْدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ زَالَ وَخَلَفَهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا يُفِيدُ مَعْنَى (بَعْدَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [الْأَعْرَاف: ٩٥] فَالْحَالَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الْمَأْخُوذَةُ مَجْعُولَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالة السَّيئَة.
[١٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١٢]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقِ عَصاكَ [النَّمْل: ١٠] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ آيَةَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا أَرَاهُ آيَةً أُخْرَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِالتَّأْيِيدِ، وَقَدْ مَضَى فِي «طَهَ» التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ
أَرَاهُ آيَةً أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِك أَن يَجْعَل لَهُ مَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عِنْدَ لِقَاءِ فِرْعَوْنَ.
وَقَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ حَالٌ مِنْ تَخْرُجْ بَيْضاءَ أَيْ حَالَةَ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ تِسْعِ
آيَاتٍ، وإِلى فِرْعَوْنَ صِفَةٌ لِآيَاتٍ، أَيْ آيَاتٌ مَسُوقَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. وَفِي هَذَا إِيذَانٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ إِيجَازًا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ مُوسَى بِأَنْ يَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ كَمَا بُيِّنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَالْآيَاتُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْقَحْطُ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَقَدْ عُدَّ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَجَمَعَهَا الْفَيْرُوزْآبَادِي فِي بَيْتٍ ذَكَرَهُ فِي مَادَّةِ (تِسْعٍ) مِنَ «الْقَامُوسِ» وَهُوَ:
عَصًا سَنَةٌ بَحْرٌ جَرَادٌ وَقُمَّلٌ يَدٌ وَدَمٌ بَعْدَ الضفادع طوفان
[١٣، ١٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
أوجز بَقِيَّة الْقِصَّة وَانْتَقَلَ إِلَى الْعِبْرَةِ بِتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْآيَاتِ، لِيَعْتَبِرَ بِذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَصَدَ مِنْ هَذَا الْإِيجَازِ طَيَّ بِسَاطِ الْقِصَّةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى قِصَّةِ دَاوُدَ ثُمَّ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الْمَبْسُوطَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْآيَاتِ حُصُولُهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَهِيَ الْآيَاتُ الثَّمَانِ الَّتِي قَبْلَ الْغَرَقِ.
وَالْمُبْصِرَةُ: الظَّاهِرَةُ. صِيغَ لَهَا وَزْنُ اسْمِ فَاعِلِ الْإِبْصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُ النَّاظِرُ إِلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٥٩].
وَالْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ.
واسْتَيْقَنَتْها بِمَعْنَى أَيْقَنَتْ بِهَا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَجْرُورِ عَلَى التَّوَسُّعِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ تَحَقَّقَتْهَا عُقُولُهُمْ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ
لِلْمُبَالَغَةِ. وَالظُّلْمُ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِأَنَّهُمْ أَلْصَقُوا بِهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ فَظَلَمُوهُ حَقَّهُ.
وَالْعُلُوُّ: الْكِبَرُ وَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَاسْتَيْقَنَتْها حَالِيَّةً، فَقَوْلُهُ: ظُلْماً وَعُلُوًّا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. فَالظُّلْمُ فِي الْجَحْدِ بِهَا وَالْعُلُوُّ فِي كَوْنِهِمْ مُوقِنِينَ بِهَا.
وَانْتَصَبَ ظُلْماً وَعُلُوًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ جَحَدُوا وَجُعِلَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ فِيمَا لَحِقَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لِلسَّامِعِينَ فَأَمَرَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ
بِمِثْلِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ.
وكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مُعَلِّقًا فِعْلَ النَّظَرِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ للتعجيب.
[١٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)
كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَإِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ آيَاتُ عِبْرَةٍ وَمَثَلٌ لِلَّذِينِ جَحَدُوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَمَلِكَةِ سَبَأٍ وَمَا رَأَتْهُ مِنْ آيَاتِهِ وَإِيمَانِهَا بِهِ مَثَلٌ لِعِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارٌ لِفَضِيلَةِ مَلِكَةِ سَبَأٍ إِذْ لَمْ يَصُدَّهَا مُلْكُهَا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِآيَاتِ سُلَيْمَانَ فَآمَنَتْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَثَلٌ لِلَّذِينِ اهْتَدَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ دَاوُدَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ذِكْرَ سُلَيْمَانَ إِذْ كَانَ مُلْكُهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ. وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ دَاوُدَ مَثَلٌ لِإِفَاضَةِ الْحِكْمَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَدِّيًا لَهَا. وَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَيَّامَ كَانَ فِيهِمْ أَحْبَارٌ وَعُلَمَاءُ فَقَدْ كَانَ دَاوُدُ رَاعِيًا غَنَمَ أَبِيهِ (يَسِّي) فِي بَيْتِ لَحْمٍ فَأَمَرَ اللَّهُ شَمْوِيلَ النَّبِيءَ أَنْ يَجْعَلَ دَاوُدَ نَبِيئًا فِي مُدَّةِ مُلْكِ
233
طَالُوتَ (شَاوِلَ). فَمَا كَانَ عَجَبٌ فِي نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْحِكْمَةَ وَالنُّبُوءَةَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ فِي قَوْمِهِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩]، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النَّمْل: ٦].
فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مَعْطُوفًا عَلَى إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ [النَّمْل: ٧] إِذَا جَعَلْنَا (إِذْ) مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَمُنَاسَبَةُ الذِّكْرِ ظَاهِرَةٌ. وَبَعْدُ فَفِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ عِلْمٌ وَعِبْرَةٌ وَأُسْوَةٌ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا نُبُوءَةَ مِثْلِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: ٣١].
وَتَنْكِيرُ عِلْماً لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِنُبُوءَةٍ وَحِكْمَةٌ كَقَوْلِهِ فِي صَاحِبِ مُوسَى وَعَلَّمْناهُ
مِنْ لَدُنَّا عِلْماً
[الْكَهْف: ٦٥].
وَفِي فِعْلِ آتَيْنا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُفَاضٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ أَخَصُّ مِنْ عَلَّمْنَاهُ فَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنْ كَلِمَةِ (مَنْ لَدُنَّا).
وَحِكَايَةُ قَوْلِهِمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا كِنَايَةً عَنْ تَفْضِيلِهِمَا بِفَضَائِلَ غَيْرِ الْعِلْمِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَغَيْرُهُمْ، وَتَنْوِيهٌ بِأَنَّهُمَا شَاكِرَانِ نِعْمَتَهُ.
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُمَا هَذَا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْدًا لِمُجَرَّدِ الشُّكْرِ عَلَى إِيتَاءِ الْعِلْمِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكَايَةَ قَوْلَيْهِمَا وَقَعَتْ بِالْمَعْنَى، بِأَنْ قَالَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنِي، فَلَمَّا حُكِيَ الْقَوْلَانِ جُمِعَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى مِنَحِهِ وَمِنَحِ قَرِيبِهِ، عَلَى أَنَّهُ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ
234
الْمُشَارَكِ لَا لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ بَلْ لِإِخْفَاءِ الْمُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ تَوَاضُعًا كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَقِبَ هَذَا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: ١٦]. وَجَعَلَا تَفْضِيلَهُمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا لِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ مِنَ الْمَاضِينَ وَفِيهِمْ مُوسَى وَهَارُونُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَفْضَلِ وَالْمُسَاوِي، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا اقْتَصَدَا فِي الْعِبَارَةِ إِذْ لَمْ يُحِيطَا بِمَنْ نَالَهُ التَّفْضِيلُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْعِبَادِ أَهْلَ عَصْرِهِمَا فَعَبَّرَا بِ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا هَذَا جَهْرًا وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَذْكُرَ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعِلْمِ لِفَوَائِدَ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ إِلَى أَنْ يُحَذِّرَ النَّاسَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَنْ لَيْسَتْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْجَعْجَعَةِ الْجَالِبَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَإِنْ قَالَاهُ فِي سِرِّهِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ.
[١٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١٦]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ.
طَوَى خَبَرَ مُلْكِ دَاوُدَ وَبَعْضَ أَحْوَالِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدَامَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ
سَبْعِينَ سَنَةً.
فَخَلَفَهُ سُلَيْمَانُ فَهُوَ وَارِثُ مُلْكِهِ والقائم فِي مَقَامِهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَظُهُورِ الْحِكْمَةِ وَنُبُوءَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالسُّمْعَةِ الْعَظِيمَةِ بَيْنَهُمْ. فَالْإِرْثُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْأَحْوَالِ الْجَلِيلَةِ بِالْمَالِ وَتَشْبِيهُ الْخِلْفَةِ بِانْتِقَالِ مُلْكِ الْأَمْوَالِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ غَرَضُ الْآيَةِ إِفَادَةَ مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُ دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النَّمْل: ١٥] فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِرْثَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَإِنَّهُ غَرَضٌ تَافِهٌ.
وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا فَلَا يَخْتَصُّ إِرْثُ مَالِهِ بِسُلَيْمَانَ وَلَيْسَ هُوَ أَكْبَرَهُمْ، وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ أَقَامَ سُلَيْمَانَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يحْتَج بِهِ لجَوَاز أَنْ يُورِثَ مَالُ النَّبِيءِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»
، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ جَمَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَشَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّا أَوْ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَلَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ
235
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي شَأْنِ صَدَقَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ عُمَرُ: «أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ»
وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ، فَإِذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ كَانَ هَذَا حُكْمًا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَيُنْسَخُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَخَذْنَا بِالتَّأْوِيلِ فَظَاهِرٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، خِلَافًا لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، ثُمَّ رَجَعَا حِينَ حَاجَّهُمَا عُمَرُ. وَالْعِلَّةُ هِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ خُطُورِ تَمَنِّي مَوْتِ النَّبِيءِ فِي نَفْسِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ.
وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.
قَالَ سُلَيْمَانُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مَجْمَعٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ لَهْجَةَ هَذَا الْكَلَامِ لَهْجَةُ خُطْبَتِهِ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ مَجْلِسَهُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالسَّامِعِينَ مِنَ الْعَامَّةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَا مَنَحَهُ مِنْ عِلْمٍ وَمُلْكٍ، وَلِيُقَدِّرَ النَّاسُ قَدْرَهُ وَيَعْلَمُوا وَاجِبَ طَاعَتِهِ إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ لِذَلِكَ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى نَوَايَا أَنْفَرِ الْحَيَوَانِ وَأَبْعَدِهِ عَنْ إِلْفِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الطَّيْرُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَعْرِفَةِ نَوَايَا النَّاسِ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ فَإِنَّ تَخْطِيطَ رُسُومِ الْمُلْكِ وَوَاجِبَاتِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ لِصَلَاحِ الْمَمْلَكَةِ بِالْتِفَافِ النَّاسِ حَوْلَ مَلِكِهِمْ وَصَفَاءِ النِّيَّاتِ نَحْوِهِ، وَبِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ جَانِبِهِمْ يَكُونُ التَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْزِلُ السِّكِّينَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَلَمَّا حَصَلَ مِنْ جَانِبِ سُلَيْمَانَ الِاعْتِرَافَ بِهَذَا الْفَضْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَدَّى وَاجِبَهُ نَحْوَ أُمَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ
إِلَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْأُمَّةُ وَاجِبَهَا نَحْوَ مَلِكِهَا، كَمَا كَانَ تَعْلِيمُ فَضَائِلِ النُّبُوَّةِ من مَقَاصِد الشَّارِع، فَقَدْ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» أَيْ أَقُولُهُ لِقَصْدِ الْإِعْلَامِ بِوَاجِبِ التَّقَادِيرِ لَا لِقَصْدِ الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْلَمُوا وَاجِبَ طَاعَتِهِ.
وَعِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ بِأَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي تَقَاطِيعِ وَتَخَالِيفِ صَفِيرِ الطُّيُورِ أَوْ نَعِيقِهَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا فِي إِدْرَاكِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ سَبِيلًا لَهُ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى تَعَرُّفِ أَحْوَالِ عَالَمِيَّةٍ يَسْبِقُ الطَّيْرُ إِلَى إِدْرَاكِهَا بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْقُوَى الْكَثِيرَةِ، وَلِلطَّيْرِ دَلَالَةٌ فِي تَخَاطُبِ أَجْنَاسِهَا وَاسْتِدْعَاءِ أَصْنَافِهَا وَالْإِنْبَاءِ بِمَا حَوْلَهَا مَا فِيهِ عَوْنٌ عَلَى تَدْبِيرِ مُلْكِهِ
236
وَسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ، مِثْلُ اسْتِخْدَامِ نَوْعِ الْهُدْهُدِ فِي إِبْلَاغِ الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ بالحكمة والمعرفة لكثير مِنْ طَبَائِعِ الْمَوْجُودَاتِ وَخَصَائِصِهَا. وَدَلَالَةُ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهَا: بَعْضُهَا مَشْهُورٌ كَدَلَالَةِ بَعْضِ أَصْوَاتِهِ عَلَى نِدَاءِ الذُّكُورِ لِإِنَاثِهَا، وَدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى اضْطِرَابِ الْخَوْفِ حِينَ يُمْسِكُهُ مُمْسِكٌ أَوْ يُهَاجِمُهُ كَاسِرٌ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ دَلَالَاتٌ فِيهَا تَفْصِيلٌ، فَكُلُّ كَيْفِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ تَنْطَوِي عَلَى تَقَاطِيعَ خَفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتٍ صَوْتِيَّةٍ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِيهَا دَلَالَاتٌ عَلَى أَحْوَالٍ فِيهَا تَفْضِيلٌ لِمَا أَجْمَلَتْهُ الْأَحْوَالُ الْمُجْمَلَةُ، فَتِلْكَ التَّقَاطِيعُ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّاسُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا خَالِقُهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَصِفَاتِهَا فِي لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ وَفَكِّهَا وَإِدْغَامِهَا وَاخْتِلَافِ حَرَكَاتِهَا عَلَى مَعَانٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ اللُّغَةَ مَعْرِفَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُتْقِنْ دَقَائِقَهَا. مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ ضَلَلْتُ وَظَلِلْتُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ سُلَيْمَانَ بِوَحْيٍ عَلَى مُخْتَلَفِ التَّقَاطِيعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي فِي صَفِيرِ الطَّيْرِ وَأَعْلَمَهُ بِأَحْوَالِ نفوس الطير عِنْد مَا تَصْفُرُ بِتِلْكَ التَّقَاطِيعِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي حِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَعَرِّي:
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّ تْ عَلَى غُصْنِ دَوْحِهَا الْمَيَّادِ
وَقَالَ صَاحِبُنَا الشَّاعِرُ الْبَلِيغُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَسْعُودِيُّ مِنْ أَبْيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
فَمَنْ كَانَ مَسْرُورًا يَرَاهُ تَغَنِّيًا وَمَنْ كَانَ مَحْزُونًا يَقُولُ يَنُوحُ
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْطِقِ الطَّيْرِ إِيجَازٌ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَهِيَ أَبْعَدُ الْحَيَوَانِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَسْرَعُهَا نُفُورًا مِنْهُ، عَلِمَ أَنَّ مَنْطِقَ مَا هُوَ أَكْثَرُ اخْتِلَاطًا بِالْإِنْسَانِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْأَحْرَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: ١٩]، فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مَنْطِقَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الْعِلْمُ
سَمَّاهُ الْعَرَبُ عَلِمَ الْحُكْلِ (بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَاف) قَالَ العجاج وَقِيلَ ابْنُهُ رُؤْبَةُ:
237
لَوْ أَنَّنِي أُوتِيتُ عِلْمَ الْحُكْلِ عِلْمَ سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ
أَوْ أَنَّنِي عُمِّرْتُ عُمْرَ الْحِسْلِ أَوْ عُمْرَ نُوحٍ زَمَنَ الْفِطَحْلِ
كُنْتُ رَهِينَ هَرَمٍ أَوْ قَتْلِ وَعَبَّرَ عَنْ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ بِلَفْظِ مَنْطِقَ تَشْبِيهًا لَهُ بِنُطْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذُو دَلَالَةٍ لِسُلَيْمَانَ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِ الطَّيْرِ، فَحَقِيقَةُ الْمَنْطِقِ الصَّوْتُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ.
وَضمير عُلِّمْنا- أُوتِينا مُرَادٌ بِهِ نَفْسُهُ، جَاءَ بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ إِمَّا لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ كَأَنَّ جَمَاعَةً عُلِّمُوا وَأُوتُوا وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النَّمْل: ١٥]، وَإِمَّا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِإِظْهَارِ عَظَمَةِ الْمُلْكَ، وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السُّلْطَانِ عِنْدَ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى السِّيَاسَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا أَجَابَ مُعَاوِيَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ لَقِيَهُ فِي جُنْدٍ (وَأُبَّهَةٍ) بِبِلَادِ الشَّامِ فَقَالَ عُمَرُ لِمُعَاوِيَةَ «أَكِسْرَوِيَّةً يَا مُعَاوِيَةُ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا فِي بِلَادٍ مِنْ ثُغُورِ الْعَدُوِّ فَلَا يَرْهَبُونَ إِلَّا مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: خُدْعَةُ أَرِيبٍ أَوِ اجْتِهَادُ مُصِيبٍ لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ» فَتَرَكَ الْأَمْرَ لِعُهْدَةِ مُعَاوِيَةَ وَمَا يَتَوَسَّمُهُ مِنْ أَسَالِيبِ سِيَاسَةِ الْأَقْوَامِ.
وَالْمُرَادُ بِ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ عُمُومَانِ عُمُومُ كُلِّ وَعُمُومُ النَّكِرَةِ وَكِلَاهُمَا هُنَا عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وشَيْءٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ مِمَّا لَهُ عَلَاقَةٌ بِمَقَامِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ أَخْبَارِ الْهُدْهُدِ. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: ٢٣]، أَي كثيرا مِنَ النَّفَائِسِ وَالْأَمْوَالِ. وَفِي كُلِّ مَقَامٍ يُحْمَلُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ.
وَالتَّأْكِيدُ فِي إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِهِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ لَامُ قَسَمٍ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْظِيمُ النِّعْمَةِ أَدَاءً لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا بِالْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْعِبَارَةِ.
والْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ. والْمُبِينُ: الظَّاهِر الْوَاضِح.
238

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١٧]

وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
وَهَبَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ قُوَّةً مِنْ قُوَى النُّبُوءَةِ يُدْرِكُ بِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ كَمَا يُدْرِكُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَدَلَالَةَ النَّمْلِ وَنَحْوَهَا. وَيَزَعُ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ بِهَا فَيُوزَعُونَ تَسْخِيرًا كَمَا سَخَّرَ بَعْضَ الْعَنَاصِرِ لِبَعْضٍ فِي الْكِيمْيَاءِ وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ. وَقَدْ وَهَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْقُوَّةَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وَيُخَاطِبُونَهُ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَيَزَعَهَا كَرَامَةً لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ إِذْ سَأَلَ اللَّهَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ مَحَّضَهُ لِمَا هُوَ أَهَمُّ وَأَعْلَى فَنَالَ بِذَلِكَ فَضْلًا مِثْلَ فَضْلِ سُلَيْمَانَ، وَرَجَّحَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ تَبْرِيرًا لِدَعْوَةِ أَخِيهِ فِي النُّبُوءَةِ لِأَنَّ جَانِبَ النُّبُوءَةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَقْوَى مِنْ جَانِبِ الْمُلْكِ، كَمَا قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي رُعِدَ حِينَ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ: «إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ». وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيئًا عَبْدًا أَوْ نَبِيئًا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيئًا عَبْدًا»
، فَرُتْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُتْبَةُ التَّشْرِيعِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ رُتْبَةِ الْمُلْكِ، وَسُلَيْمَانُ لَمْ يَكُنْ مُشَرِّعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، فَوَهَبَهُ اللَّهُ مُلْكًا يَتَصَرَّفُ بِهِ فِي السِّيَاسَةِ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ يَنْدَرِجُ بَعْضُهَا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَهُوَ لَيْسَ بِمَلِكٍ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي الْأُمَّةِ تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ تَصَرُّفًا بَرِيئًا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمُلْكُ مِنَ الزُّخْرُفِ وَالْأُبَّهَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «النَّقْدِ» عَلَى كِتَابِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ عَبْدِ الرَّازِقِ الْمِصْرِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ «الْإِسْلَامَ وَأُصُولَ الْحُكْمِ» (١).
وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جُنُودَهُ كَانَتْ مُحْضَرَةً فِي حَضْرَتِهِ مسخّرة لأَمره حَيْثُ هُوَ.
وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَهَا عَمَلٌ مُتَّحِدٌ تُسَخَّرُ لَهُ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ الْجُنْدِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ يُعِدُّهَا الْمَلِكُ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ وَلِحِرَاسَةِ الْبِلَادِ.
_________
(١) انْظُر صفحة ٧٦ من كتاب «الْإِسْلَام وأصول الحكم» طبع مطبعة مصر سنة ١٣٤٣ هـ، وصفحة ١٣، ١٤ من كتاب «النَّقْد العلمي» طبع المطبعة السلفية بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٣٤٤ هـ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بَيَانٌ لِلْجُنُودِ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفُ الْجِنِّ وَهُوَ لِتَوْجِيهِ الْقُوَى الْخَفِيَّةِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْأُمُور الروحية. وَصِنْفُ الْإِنْسِ وَهُوَ جُنُودُ تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ وَمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَحِرَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَصِنْفُ الطَّيْرِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْجُنْدِ لِتَوْجِيهِ الْأَخْبَارِ وَتَلَقِّيهَا وَتَوْجِيهِ الرَّسَائِلِ إِلَى قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْجِنِّ وَالطَّيْرِ لِغَرَابَةِ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجُنُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْخَيْلَ وَهِيَ مِنَ الْجَيْشِ.
وَالْوَزْعُ: الْكَفُّ عَمَّا لَا يُرَادُ، فَشَمَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، أَيْ فَهُمْ يُؤْمَرُونَ فَيَأْتَمِرُونَ وَيُنْهَوْنَ
فَيَنْتَهُونَ، فَقَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الرَّعِيَّةَ كُلَّهَا.
وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْنَى حُشِرَ لِأَنَّ الْحَشْرَ إِنَّمَا يُرَادُ لِذَلِكَ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الْجُنُودِ وَتَدْرِيبِهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُلُوكِ لِيَكُونَ الْجُنُودُ مُتَعَهِّدِينَ لِأَحْوَالِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ لِيَشْعُرُوا بِمَا يَنْقُصُهُمْ وَيَتَذَكَّرُوا مَا قَدْ يَنْسَوْنَهُ عِنْدَ تَشَوُّشِ الْأَذْهَانِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعند النفير.
[١٨، ١٩]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارِقُهَا، وَلَكِنَّهَا مَعَ الِابْتِدَائِيَّةِ غَايَةٌ غَيْرُ نِهَايَةٍ.
وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، وَهُوَ يَقْتَضِي فِعْلَيْنِ بَعْدَهُ يُشْبِهَانِ فَعَلَيِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ لِأَنَّ إِذا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وإِذا مَعْمُولٌ لِفِعْلِ جَوَابِهِ، وَأَمَّا فِعْلُ شَرْطِهِ فَهُوَ جُمْلَةٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذا. وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى قَالَتْ نَمْلَةٌ حِينَ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ. وَوَادِ النَّمْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّ لِلنَّمْلِ شُقُوقًا وَمَسَالِكَ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْأَوْدِيَةِ لِلسَّاكِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانٌ مُشْتَهِرٌ بِالنَّمْلِ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُضَافُ كَمَا سُمِّيَ وَادِي السِّبَاعِ مَوْضِعٌ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَمَكَّةَ. قِيلَ:
240
وَادِ النَّمْلِ فِي جِهَةِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ.
والنَّمْلِ: اسْمُ جِنْسٍ لِحَشَرَاتٍ صَغِيرَة ذَات سِتّ أَرْجُلٍ تَسْكُنُ فِي شُقُوقٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَهِيَ أَصْنَافٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْحَجْمِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ نَمْلَةٌ بِتَاءِ الْوَحْدَةِ، فَكَلِمَةُ نَمْلَةٍ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ فَقَوْلُهُ: نَمْلَةٌ مَفَادُهُ: قَالَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَاقْتِرَانُ فِعْلِهِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ جَرَى عَلَى مُرَاعَاةِ صُورَةِ لَفْظِهِ لِشِبْهِ هَائِهِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةُ الْوَحْدَةِ، وَالْعَرَبُ لَا يَقُولُونَ: مَشَى شَاةٌ، إِذَا كَانَ الْمَاشِي فَحْلًا مِنَ الْغَنَمِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: مَشَتْ شَاةٌ، وَطَارَتْ حَمَامَةٌ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرْدُ ذَكَرًا وَكَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ فِي أَغْرَاضِ النَّاسِ وَأَرَادُوا بَيَانَ كَوْنِهِ ذَكَرًا قَالُوا: طَارَتْ حَمَامَةٌ ذَكَرٌ، وَلَا
يَقُولُونَ طَارَ حَمَامَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ التَّفْرِقَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاعِلِ أُنْثَى، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ:
مَاذَا رُزِئْنَا بِهِ مِنْ حَيَّةٍ ذَكَرٍ نَضْنَاضَةٍ بِالرَّزَايَا صِلِّ أَصْلَالِ
فَجَاءَ بَاسِمِ (حَيَّةٍ) وَهُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ مُقْتَرِنٌ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِوَصْفِ ذَكَرٍ ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ التَّأْنِيثَ فِي قَوْلِهِ: نَضْنَاضَةٍ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِ (حَيَّةٍ).
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ»
فَوَصَفَ (حِمَارٍ) الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ بِاسْمٍ خَاصٍّ بِأُنْثَاهُ. وَلِذَلِكَ فَاقْتِرَانُ فِعْلِ قالَتْ هُنَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ أُنْثَى النَّمْلِ وَذَكَرِهِ بَلْهَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقَصْدَ وُقُوعُ هَذَا الْحَادِثِ وَبَيَانُ عِلْمِ سُلَيْمَانَ لَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ السَّفَاسِفِ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنْ قَتَادَةَ دَخَلَ الْكُوفَةَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حَاضِرًا وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ: أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى؟ فَسَأَلُوهُ، فَأُفْحِمَ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَتْ أُنْثَى. فَقِيلَ لَهُ:
مَنْ أَيْنَ عَرَفْتَ؟ قَالَ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ وَلَو كَانَت ذَكَرًا لَقَالَ:
قَالَ نَمْلَةٌ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَذَلِكَ أَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ نَحْوُ
241
قَوْلِهِمْ: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، وَقَوْلِهِمْ: وَهُوَ وَهِيَ.
اه.
وَلَعَلَّ مُرَادَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِنْ كَانَ قَصَدَ تَأْيِيدَ قَوْلَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْوَصْفِ بِالتَّذْكِيرِ مَا يَقُومُ مَقَامُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَتُقَاسُ حَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى حَالَةِ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ جَاءَ بِكَلَامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ لَا يُدْرَى أَهْوَ تَأْيِيدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَمْ خُرُوجٌ مِنَ الْمضيق. فَلم يقدم عَلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَقْتَرِنُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ إِذَا أُرِيدَ التَّفْرِقَةُ فِي حَالَةِ فَاعِلِهِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي «الِانْتِصَافِ» وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» وَالْقَزْوِينِيُّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ». وَرَأَوْا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ذُهِلَ فِيمَا قَالَهُ بِأَنَّهُ لَا يساعد قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِعْمَالٌ وَلَا سِيَّمَا نحاة الْكُوفَة بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُمْ زَادُوا فَجَوَّزُوا تَأْنِيثَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ عَلَمًا مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ مِثْلُ: طَلْحَةُ وَحَمْزَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ لَا تُنَافِي أَنْ تَكُونَ مَقَالَتُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ غَيْرَ ضَلِيعَةٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذُهُولِ أَبِي حَنِيفَةَ انْفِحَامُ قَتَادَةَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ. وَغَالِبُ ظَنِّي أَن
الْقِصَّة مُخْتَلفَة اخْتِلَاقًا غَيْرَ مُتْقَنٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهَا دَلَالَةً وَلِلنَّمْلِ الَّذِي مَعَهَا فَهْمًا لَهَا وَأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا إِلْهَامًا بِأَنَّ الْجَيْشَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ لَهُ.
وَالْحَطْمُ: حَقِيقَتُهُ الْكَسْرُ لِشَيْءٍ صُلْبٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلرَّفْسِ بِجَامِعِ الْإِهْلَاكِ. وَلَا يَحْطِمَنَّكُمْ إِنْ جُعِلَتْ لَا فِيهِ نَاهِيَةً كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَكْرِيرًا لِلتَّحْذِيرِ وَدَلَالَةً عَلَى الْفَزَعِ لِأَنَّ الْمُحَذِّرَ مِنْ شَيْءٍ مُفْزِعٌ يَأْتِي بِجُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ فَرْطِ الْمَخَافَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ حَطْمِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُنَّ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِهِنَّ عَنِ التَّسَبُّبِ فِيهِ وَإِهْمَالِ الْحَذَرِ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْهُ فَأَعْرِفْكَ بِفِعْلِهِ، وَالنُّونُ تَوْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَإِنْ جُعِلَتْ لَا نَافِيَةً كَانَتِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً فِي جَوَابِ الْأَمْرِ فَكَانَ لَهَا حُكْمُ جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ، أَيْ يَنْتَفِ حَطْمُ سُلَيْمَانَ إِيَّاكُنَّ، وَإِلَّا حَطَّمَكُمْ.
وَهَذَا مِمَّا جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ». وَفِي هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُ الْفِعْلِ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِ لَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلٌ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ مِنَ النُّحَاةِ فَيَمْنَعُ أَنْ تُجْعَلَ لَا نَافِيَةً هُنَا. وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُ مِنَ اقْتِرَانِ جَوَابِ الشَّرْطِ بِنُونِ
242
التَّوْكِيدِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ فِي الْحُكْمِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ عِنْدُهُ أَخَفُّ مِنْ دُخُولِهَا فِي الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفْيَ يُضَادُّ التَّوْكِيدَ.
وَتَسْمِيَةُ سُلَيْمَانَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ النَّمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا دَلَّتْ دَلَالَةُ النَّمْلَةِ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ حَطْمِ ذَلِكَ الْمُحَاذِي لِوَادِيهَا، فَلَمَّا حُكِيَتْ دَلَالَتُهَا حُكِيَتْ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ اللَّهُ عِلْمًا فِي النَّمْلَةِ عَلِمَتْ بِهِ أَنَّ الْمَارَّ بِهَا يُدْعَى سُلَيْمَانُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ.
وَتَبَسُّمُ سُلَيْمَانَ مِنْ قَوْلِهَا تَبَسُّمُ تَعَجُّبٍ. وَالتَّبَسُّمُ أَضْعَفُ حَالَاتِ الضَّحِكِ فَقَوْلُهُ:
ضاحِكاً حَال موكدة ل فَتَبَسَّمَ وَضَحِكُ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ، كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ ضَحِكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ التَّبَسُّمِ مِثْلَ بُدُوِّ النَّوَاجِذِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ صِفَاتِ ضَحِكِهِ.
وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَلَا تَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «كَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبِ»
. وَإِنَّمَا تَعَجَّبَ مِنْ أَنَّهَا عَرَفَتِ اسْمَهُ وَأَنَّهَا قَالَتْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَوَسَمَتْهُ وَجُنْدَهُ بِالصَّلَاحِ وَالرَّأْفَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ مَا فِيهِ رُوحٌ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِرَأْفَتِهِ وعدله الشَّامِل لكل مَخْلُوقٍ لَا فَسَادَ مِنْهُ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى نَمْلَةٍ لِيَعْلَمَ شَرَفَ الْعَدْلِ وَلَا يَحْتَقِرَ مَوَاضِعَهُ، وَأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ إِذَا عَدَلَ سَرَى عَدْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَظَهَرَتْ آثَارُهُ فِيهَا حَتَّى كَأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَا لَا إِدْرَاكَ لَهُ،
فتسير جَمِيع أُمُورُ الْأُمَّةِ عَلَى عَدْلٍ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ، فَضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِنَبِيئِهِ سُلَيْمَانَ بِالْوَحْيِ مِنْ دَلَالَةِ نَمْلَةٍ، وَذَلِكَ سِرٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ جَعَلَهُ تَنْبِيهًا لَهُ وَدَاعِيَةً لِشُكْرِ رَبِّهِ فَقَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ.
وَأَوْزَعَ: مَزِيدٌ (وَزَعَ) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى كَفَّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِزَالَةِ، أَيْ أَزَالَ الْوَزْعَ، أَيِ الْكَفِّ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُ كَافًّا عَنْ عَمَلٍ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ ضِدِّ مَعْنَاهُ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ. وَشَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَصَارَ مَعْنَى أَوْزَعَ أَغْرَى بِالْعَمَلِ. فَالْمَعْنَى: وَفِّقْنِي لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْزِعْنِي أَلْهِمْنِي وَأَغْرِنِي. وأَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ مَنْصُوبٌ
243
بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ. وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مُلَازِمًا شُكْرَ نِعْمَتَكَ. وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ الدَّوَامَ عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ لِمَا فِي الشُّكْرِ مِنَ الثَّوَابِ وَمِنَ ازْدِيَادِ النِّعَمِ، فَقَدْ وَرَدَ: النِّعْمَةُ وَحْشِيَّةٌ قَيَّدُوهَا بِالشُّكْرِ فَإِنَّهَا إِذَا شُكِرَتْ قَرَّتْ. وَإِذَا كُفِرَتْ فَرَّتْ (١). وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعْمَةَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا». وَفِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لُقْمَان: ١٢] وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ «أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ بَوَارٌ، وَقَلَّمَا أَقْشَعَتْ نَافِرَةً فَرَجَعَتْ فِي نِصَابِهَا فَاسْتَدْعِ شَارِدَهَا بِالشُّكْرِ، وَاسْتَدْمِ رَاهِنَهَا بِكَرَمِ الْجِوَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ سُبُوغَ سِتْرِ اللَّهِ مُتَقَلِّصٌ عَمَّا قَرِيبٍ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْجُ لِلَّهِ وَقَارًا» (٢).
وَأَدْرَجَ سُلَيْمَانُ ذِكْرَ وَالِديهِ عِنْد ذكره إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّ صَلَاحَ الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَسَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَنَالُهُمَا مِنْ دُعَائِهِ وَصَدَقَاتِهِ عَنْهُمَا مِنَ الثَّوَابِ.
وَوَالِدَاهُ هُمَا أَبُوهُ دَاوُدُ بْنُ يَسِّي وَأُمُّهُ (بَثْشَبَعَ) بِنْتُ (الْيَعَامَ) وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ (أُورِيَا) الْحِثِّيِّ فَاصْطَفَاهَا دَاوُدُ لِنَفْسِهِ (٣)، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا قِصَّةُ نَبَأِ الْخَصْمِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ ص.
وأَنْ أَعْمَلَ عَطْفٌ عَلَى أَنْ أَشْكُرَ. وَالْإِدْخَالُ فِي الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ مُسْتَعَارٌ لِجَعْلِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَشَبَّهَ إِلْحَاقَهُ بِهِمْ فِي الصَّلَاحِ بِإِدْخَالِهِ عَلَيْهِمْ فِي زُمْرَتِهِمْ، وَسُؤَالُهُ ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالزِّيَادَةُ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّ لِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ مَرَاتِب كَثِيرَة.
[٢٠، ٢١]
_________
(١) ذكره الطَّيِّبِيّ فِي حَاشِيَة «الْكَشَّاف» وَلم أَقف عَلَيْهِ.
(٢) لم يذكر شرَّاح «الْكَشَّاف» اسْم هَذَا الْمُتَقَدّم المعزو إِلَيْهِ الْكَلَام وأقشعت: تَفَرَّقت. والراهن:
الدَّائِم. وَرجعت فِي نصابها أَي فِي أَصْلهَا وقرارها. وَالْوَقار الْحلم، أَي مالكم لَا تظنون أَن تَأْثِير الْعَذَاب حلم من الله عَلَيْكُم يُوشك أَن يَزُول.
(٣) الإصحاح ١١ والإصحاح ١٢، من سفر صمويل الثَّانِي، والإصحاح ٢ من سفر الْمُلُوك الأول.
244

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
صِيغَةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، وَالتَّكَلُّفُ: الطَّلَبُ. وَاشْتِقَاقُ تَفَقَّدَ مِنَ الْفَقْدِ يَقْتَضِي أَنَّ تَفَقَّدَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْفَقْدِ. وَلَكِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَأَطْلَقُوهُ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْفَقْدِ، أَيْ مَعْرِفَةُ مَا أَحْدَثَهُ الْفَقْدُ فِي شَيْءٍ، فَالتَّفَقُّدُ: الْبَحْثُ عَنِ الْفَقْدِ لَيَعْرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ لَمْ يَنْقُصْ وَكَانَ الطَّيْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْجُنْدِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الطَّيْرِ صَالِحٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي أُمُورِ الْجُنْدِ فَمِنْهُ الْحَمَامُ الزَّاجِلُ، وَمِنْهُ الْهُدْهُدُ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ الْمَاءِ، وَمِنْهُ الْبُزَاةُ وَالصُّقُورُ لِصَيْدِ الْمَلِكِ وَجُنْدِهِ وَلِجَلْبِ الطَّعَامِ لِلْجُنْدِ مِنَ الصَّيْدِ إِذَا حَلَّ الْجُنْدُ فِي الْقِفَارِ أَوْ نَفَدَ الزَّادُ.
وَلِلطَّيْرِ جنود يقومُونَ بشؤونها. وَتَفَقُّدُ الْجُنْدِ مِنْ شِعَارِ الْمَلِكِ وَالْأُمَرَاءِ وَهُوَ مِنْ مَقَاصِدِ حَشْرِ الْجُنُودِ وَتَسْيِيرِهَا. وَالْمَعْنَى: تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فِي جُمْلَةِ مَا تَفَقَّدَهُ، فَقَالَ لِمَنْ يَلُونَ أَمْرَ الطَّيْرِ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ.
وَمِنْ وَاجِبَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَتَفَقُّدُ الْعُمَّالِ وَنَحْوِهِمْ بِنَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ هِجْرِيَّةً، أَوْ بِمَنْ يَكِلُ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ يَتَفَقَّدُ الْعُمَّالَ.
والْهُدْهُدَ: نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ وَهُوَ مَا يُقَرْقِرُ، وَفِي رَائِحَتِهِ نَتَنٌ وَفَوْقَ رَأْسِهِ قَزَعَةٌ سَوْدَاءُ، وَهُوَ أَسْوَدُ الْبَرَاثِنِ، أَصْفَرُ الْأَجْفَانِ، يَقْتَاتُ الْحُبُوبَ وَالدُّودَ، يَرَى الْمَاءَ مِنْ بُعْدٍ وَيُحِسُّ بِهِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، فَإِذَا رَفْرَفَ عَلَى مَوْضِعٍ عُلِمَ أَنَّ بِهِ مَاءً، وَهَذَا سَبَبُ اتِّخَاذِهِ فِي جُنْدِ سُلَيْمَانَ. قَالَ الْجَاحِظُ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَاءِ فِي قَعُورِ الْأَرَضِينَ إِذَا أَرَادَ اسْتِنْبَاطَ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ شَيْءٍ حَصَلَ لَهُ فِي حَالِ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ الْهُدْهُدَ، فَ مَا اسْتِفْهَامٌ. وَاللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَجْرُورُ
245
بِاللَّامِ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ لِي.
وَجُمْلَةُ: لَا أَرَى الْهُدْهُدَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ يَاء الْمُتَكَلّم المجرورة بِاللَّامِ،
فَالِاسْتِفْهَامُ عَمَّا حَصَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَيْ عَنِ الْمَانِعِ لِرُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى خُفَرَائِهِ، يَعْنِي: أَكَانَ انْتِفَاءُ رُؤْيَتِي الْهُدْهُدَ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ نَظَرِي أَمْ مِنَ اخْتِفَاءِ الْهُدْهُدِ؟
فَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ الْهُدْهُدِ.
وأَمْ مُنْقَطِعَة لِأَنَّهَا لم تَقَعُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا تَعْيِينُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ.
وأَمْ لَا يُفَارِقُهَا تَقْدِيرُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، فَأَفَادَتْ هُنَا إِضْرَابَ الِانْتِقَالِ مِنَ اسْتِفْهَامٍ إِلَى اسْتِفْهَامٍ آخَرَ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَكَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ؟ وَلَيْسَتْ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ خَاصَّةً بِالْوُقُوعِ بَعْدَ الْخَبَرِ بَلْ كَمَا تَقَعُ بَعْدَ الْخَبَرِ تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ.
وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» مَثَّلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِاسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعَجُّبِ وَالْمِثَالُ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ هَذَا صَادِرًا بَعْدَ تَقَصِّيهِ أَحْوَالَ الطَّيْرِ وَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَابَ فَقَالَ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لِأَنَّ تَغَيُّبَهُ مِنْ دُونِ إِذْنٍ عِصْيَانٌ يَقْتَضِي عِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِاجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَرَاهُ اسْتِصْلَاحًا لَهُ إِنْ كَانَ يُرْجَى صَلَاحُهُ، أَوْ إِعْدَامًا لَهُ لِئَلَّا يُلَقِّنَ بِالْفَسَادِ غَيْرَهُ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ فِي الْجند وليكون عِقَابُهُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ. فَصَمَّمَ سُلَيْمَانُ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ عُقُوبَةً جَزَاءً عَلَى عَدَمِ حُضُورِهِ فِي الْجُنُودِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ عِقَابِ الْجُنْدِيِّ إِذَا خَالَفَ مَا عُيِّنَ لَهُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تَغَيَّبَ عَنْهُ.
وَأَمَّا عُقُوبَةُ الْحَيَوَانِ فَإِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ تَجَاوُزِهِ الْمُعْتَادَ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي «تَنْقِيحِ الْفُصُولِ» فِي آخِرِ فُصُولِهِ: سُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ قَتْلِ الْهِرِّ الْمَوْذِي هَلْ يَجُوزُ؟ فَكَتَبَ وَأَنَا حَاضِرٌ: إِذَا خَرَجَتْ أَذِيَّتُهُ عَنْ عَادَةِ الْقِطَطِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ قُتِلَ اه. قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَاحْتَرَزَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ عَمَّا هُوَ فِي طَبْعِ الْهِرِّ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ إِذَا تُرِكَ فَإِذَا أَكَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّهُ طَبْعُهُ، وَاحْتَرَزَ بِالْقَيْدِ الثَّانِي عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْقِلَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَتْلَهُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا آذَتِ الْهِرَّةُ وَقَصَدَ قَتْلَهَا لَا تُعَذَّبُ وَلَا تُخْنَقُ بَلْ تُذْبَحُ بِمُوسَى حَادَّةٍ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ»
اه.
246
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : وَلَا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَتْلِ النَّمْلِ إِذَا آذَتْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا. فَقَوْلُ سُلَيْمَانَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ.
أَمَّا الْعِقَابُ الْخَفِيفُ لِلْحَيَوَانِ لِتَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ كَضَرْبِ الْخَيْلِ لِتَعْلِيمِ السَّيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ، وَكَذَلِكَ السَّبَقُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِهَا لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ عَلَيْهَا فِي الْجُيُوشِ.
وأَوْ تُفِيدُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ فَقَوْلُهُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ جَعَلَهُ ثَالِثَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَهَا جَزَاءً لِغَيْبَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الْعِقَابَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ عُذْرٍ فِي التَّخَلُّفِ مَقْبُولٍ.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. والمبين: الْمظهر لحق الْمُحْتَجُّ بِهَا. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ اسْتِقْصَاءٌ لِلْهُدْهُدِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْغَائِبَ حُجَّتُهُ مَعَهُ.
وَأَكَّدَ عَزْمَهُ عَلَى عِقَابِهِ بِتَأْكِيدِ الْجُمْلَتَيْنِ لَأُعَذِّبَنَّهُ- لَأَذْبَحَنَّهُ بِاللَّامِ الموكدة الَّتِي تُسَمَّى لَامُ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ لِيَعْلَمَ الْجُنْدُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا فُقِدَ الْهُدْهُدُ وَلَمْ يَرْجِعْ يَكُونُ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ زَاجِرًا لِبَاقِي الْجُنْدِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ فِعْلَتِهِ فَيَنَالُهُمُ الْعِقَابُ.
وَأَمَّا تَأْكِيدُ جُمْلَةِ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَلِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّهُ لَا مَنْجَى لَهُ مِنَ الْعِقَابِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ تُبَرِّرُ تَغَيُّبَهُ، لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَهَا عَدِيلُ الْعُقُوبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْعِقَابُ مُؤَكَّدًا مُحَقَّقًا فَقَدِ اقْتَضَى تَأْكِيدَ الْمُخْرِجِ مِنْهُ لِئَلَّا يُبَرِّئَهُ مِنْهُ إِلَّا تَحَقُّقُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِئَلَّا تُتَوَهَّمَ هَوَادَةٌ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ فَكَانَ تَأْكِيدُ الْعَدِيلِ كَتَأْكِيدِ مُعَادِلِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ الْأُولَى لِلتَّخْيِيرِ وأَوْ الثَّانِيَةَ لِلتَّقْسِيمِ. وَقِيلَ جِيءَ بِتَوْكِيدِ جُمْلَةِ: لَيَأْتِيَنِّي مُشَاكَلَةً لِلْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَتَغْلِيبًا. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَلَيْسَ مِنَ التَّحْقِيقِ.
وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِف لَأَذْبَحَنَّهُ بِلَامِ أَلِفٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ حَتَّى يُخَالَ أَنَّهُ نَفْيُ الذَّبْحِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ، لِأَنَّ وُقُوعَ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ إِذْ لَا يُؤَكَّدُ الْمَنْفِيُّ بِنُونِ التَّأْكِيدِ إِلَّا نَادِرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى حَارِسٌ مِنْ تَطَرُّقِ
247
احْتِمَالِ النَّفْيِ، وَلِأَنَّ اعْتِمَادَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحِفْظِ لَا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْمَصَاحِفَ مَا كتبت حَتَّى قرىء الْقُرْآنُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ تَقَعُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَشْيَاءُ مُخَالِفَةٌ لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الرَّاسِمُونَ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ الرَّسْمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِ الضَّبْطِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ اعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى حَوَافِظِهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّني بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ، وَالثَّانِيَةُ نُونُ الْوِقَايَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِحَذْفِ نُونِ الْوِقَايَةِ لِتَلَاقِي النُّونَاتِ.
[٢٢- ٢٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢٢ الى ٢٦]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْحِكَايَةِ عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلَى جملَة وَضمير فَمَكَثَ لِلْهُدْهُدِ.
وَالْمُكْثُ: الْبَقَاءُ فِي الْمَكَانِ وَمُلَازَمَتُهُ زَمَنًا مَا، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ كَرَمَ وَنَصَرَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُور بِالْأولِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالثَّانِي.
وَأُطْلِقَ الْمُكْثُ هُنَا عَلَى الْبُطْءِ لِأَنَّ الْهُدْهُدَ لَمْ يَكُنْ مَاكِثًا بِمَكَانٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يطير وينتقل، فَأطلق الْمُكْثِ عَلَى الْبُطْءِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْمُكْثَ يَسْتَلْزِمُ زَمَنًا.
وغَيْرَ بَعِيدٍ صِفَةٌ لِاسْمِ زَمَنٍ أَوِ اسْمِ مَكَانٍ مَحْذُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ مَكَثَ زَمَنًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَوْ فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ.
وغَيْرَ بَعِيدٍ قَرِيبٌ قُرْبًا يُوصَفُ بِضِدِّ الْبُعْدِ، أَيْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا. وَهَذَا وَجْهُ إِيثَارِ التَّعْبِيرِ بِ غَيْرَ بَعِيدٍ لِأَنَّ غَيْرَ تُفِيدُ دَفْعَ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقُرْبُ يُشْبِهُ الْبُعْدَ.
وَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ حَقِيقَتُهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَكَانِ وَيُسْتَعَارَانِ لِقِلَّةِ الْحِصَّةِ بِتَشْبِيهِ
248
الزَّمَنِ الْقَصِيرِ بِالْمَكَانِ الْقَرِيبِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ قَالَ تَعَالَى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩].
وَالْفَاءُ فِي فَقالَ عَاطِفَةٌ عَلَى «مَكَثَ» وَجُعِلَ الْقَوْلُ عَقِيبَ الْمُكْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَضَرَ صَدَرَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَتِهِ فَالتَّعْقِيبُ حَقِيقِيٌّ.
وَالْقَوْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْهُدْهُدِ إِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ النَّاسُ، فَقَوْلُ الْهُدْهُدِ هَذَا لَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ مَنْطِقِ الطَّيْرِ الَّذِي عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْطِقُ الدَّالُّ عَلَى مَا فِي نُفُوسِ الطَّيْرِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ وَهِيَ مَحْدُودَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْل: ١٦]. وَلَيْسَ لِلْهُدْهُدِ قِبَلٌ بِإِدْرَاكِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَلَا بِاسْتِفَادَةِ الْأَحْوَالِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَقْوَامِ وَالْبُلْدَانِ حَتَّى تَخْطُرَ فِي نَفْسِهِ وَحَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِمَنْطِقِهِ الَّذِي عُلِّمَ سُلَيْمَانُ دَلَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَهَذَا وَحْيٌ لِسُلَيْمَانَ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ.
وَأَمَّا قَوْلُ سُلَيْمَانَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: ٢٧] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ الْهُدْهُدِ كَلَامًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ جَانِبِ الْهُدْهُدِ لِيُضَلِّلَ سُلَيْمَانَ وَيَفْتِنَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ مَمْلَكَةٍ مَوْهُومَةٍ لِيَسْخَرَ بِهِ كَمَا يَسْخَرُ بِالْمُتَثَائِبِ، فَعَزَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى اسْتِثْبَاتِ الْخَبَرِ بِالْبَحْثِ الَّذِي لَا يَتْرُكُ رِيبَةً فِي صِحَّتِهِ خِزْيًا لِلشَّيْطَانِ.
وَلْنَشْتَغِلِ الْآنَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَابْتِدَاؤُهُ بِ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمَانَ بِأَنَّ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَمَالِكَ وَمُلُوكًا تُدَانِي مُلْكَهُ أَوْ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُلْكِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ، كَمَا جَعَلَ عِلْمَ الْخَضِرِ مَثَلًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِانْتِهَاءِ الْأَمْرِ إِلَى مَا بَلَغَهُ هُوَ. وَفِيهِ اسْتِدْعَاءٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَطْلَعِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْمَمَالِكِ وَالْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعْنَى بِهِ مُلُوكُ الصَّلَاحِ لِيَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ بِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهَا، وَلِتَكُونَ مِنْ دَوَاعِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلْمَمْلَكَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّافِعِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهَا وَالِانْقِبَاضِ عَمَّا فِي أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَلَلِ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا.
249
وَمِنْ فَقَرَاتِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْخَطِيبِ الْأَنْدَلُسِيِّ (١) : فَأَخْبَارُ الْأَقْطَارِ مِمَّا تُنْفِقُ فِيهِ الْمُلُوكُ أَسْمَارَهَا، وَتُرَقِّمُ بِبَدِيعِ هَالَاتِهِ أَقْمَارَهَا، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ حُسْنَ السِّيَرِ، وَالْأَمْنَ مِنَ الْغِيَرِ، فَتَسْتَعِينُ عَلَى الدَّهْرِ بِالتَّجَارِبِ.. وَتَسْتَدِلُّ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ اه.
وَالْإِحَاطَةُ: الِاشْتِمَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَجَعْلُهُ فِي حَوْزَةِ الْمُحِيطِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِاسْتِيعَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: ٦٨] فَمَا صدق بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ مَعْلُومَاتٌ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ.
وسَبَإٍ: بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَقَدْ يُخَفَّفُ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ عَبَّشَمْسُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ ابْن قَحْطَانَ. لُقِّبَ بِسَبَأٍ. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَى فِي غَزْوِهِ. وَكَانَ الْهَمْزُ فِيهِ لِتَغْيِيرِهِ الْعِلْمِيَّةَ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَهُوَ جَدُّ جِذِمَ عَظِيمٍ مِنْ أَجْذَامِ الْعَرَبِ. وَذُرِّيَّتُهُ كَانُوا بِالْيَمَنِ ثُمَّ
تَفَرَّقُوا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَأُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ هُنَا عَلَى دِيَارِهِمْ لِأَنَّ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْأَمْكِنَةِ غَالِبًا.
فَاسْمُ سَبَإٍ غَلَبَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْمُتَنَاسِلَةِ مِنْ سَبَأٍ الْمَذْكُورِ وَهُمْ مِنَ الْجِذْمِ الْقَحْطَانِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَيْ الَّذين لم ينشأوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُمْ نَزَحُوا مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ نَازِحٍ مِنْهُمْ هُوَ يَعْرُبُ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الرَّاءِ) بن قَحْطَانَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ يَقْطَانَ) بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخَشْدَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ أَرْفَكْشَادَ) بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
وَهَذَا النَّسَبُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ سَامٍ إِلَى عَابِرٍ، فَمِنْ عَابِرٍ يَفْتَرِقُ نَسَبُ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ نَسَبِ الْعِبْرَانِيِّينَ فَأَمَّا أَهْلُ أَنْسَابِ الْعَرَبِ فَيَجْعَلُونَ لِعَابِرٍ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ قَحْطَانُ وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالْغُ). وَأَمَّا سِفْرُ التَّكْوِينِ فَيَجْعَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمُهُ (يَقْطُنُ) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ قَحْطَانُ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالِجُ) بِفَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَجِيمٍ فِي آخِرِهِ، فَوَقَعَ تَغْيِيرٌ فِي بَعْضِ حُرُوفِ الِاسْمَيْنِ لِاخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ.
وَلَمَّا انْتَقَلَ يَعْرُبُ سَكَنَ جَنُوبَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ (الْيَمَنَ) فَاسْتَقَرَّ بِمَوْضِعٍ بَنَى فِيهِ مَدِينَةَ ظَفَارِ (بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ) فَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ
_________
(١) فِي رِسَالَة من مراسلاته فِي كتاب «ريحَان الكتّاب».
250
وَانْتَشَرَ أَبْنَاؤُهُ فِي بِلَادِ الْجَنُوبِ الَّذِي عَلَى الْبَحْرِ وَهُوَ بِلَادُ (حَضْرَمَوْتَ) ثُمَّ بَنَى ابْنُهُ يَشْجُبُ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْجِيمِ) مَدِينَةُ صَنْعَاءَ وَسَمَّى الْبِلَادَ بِالْيَمَنِ، ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ عَبَّشَمْسُ (بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ) وَسَادَ قَوْمَهُ وَلُقِّبِ سَبَأٌ (بِفَتْحَتَيْنِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ) وَاسْتَقَلَّ بِأَهْلِهِ فَبَنَى مَدِينَةَ مَأْرِبَ حَاضِرَةَ سَبَأٍ، قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
وَبَيْنَ مَأْرِبَ وَصَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ خَفِيفَةٍ.
ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ سَبَأٍ ابْنُهُ حِمْيَرُ وَيُلَقَّبُ الْعَرَنْجَحَ (أَيِ الْعَتِيقُ)، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ جَعَلَ بِلَادَهُ ظَفَارِ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ أَبْنَاءُ يَشْجُبَ مِنْهَا إِلَى صَنْعَاءَ. وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ ظَفَرَ حَمَّرَ، أَيْ مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَلِهَذَا الْمَثَلِ قِصَّةٌ.
فَكَانَتِ الْبِلَادُ الْيَمَنِيَّةُ أَوِ الْقَحْطَانِيَّةُ مُنْقَسِمَةً إِلَى ثَلَاثِ قَبَائِلَ: الْيَمَنِيَّةِ، وَالسَّبَئِيَّةِ، وَالْحِمْيَرِيَّةِ. وَكَانَ على كل قبية مَلِكٌ مِنْهَا، وَاسْتَقَلَّتْ أَفْخَاذُهُمْ بِمَوَاقِعَ أَطْلَقُوا عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهَا اسْمَ مِخْلَافٍ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) وَكَانَ لِكُلِّ مِخْلَافٍ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالْقِيلِ وَيُقَالُ لَهُ: ذُو كَذَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ مِخْلَافِهِ، مِثْلُ ذُو رُعَيْنٍ. وَالْمَلِكُ الَّذِي تَتْبَعُهُ الْأَقْيَالُ كُلُّهَا وَيَحْكُمُ الْيَمَنَ
كُلَّهَا يُلَقَّبُ تُبَّعَ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ بِأُمَرَاءَ كَثِيرِينَ.
وَقَدِ انْفَرَدَتْ سَبَأٌ بِالْمُلْكِ فِي حُدُودِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَشْهَرُ مُلُوكِهِمْ أَوْ أَوَّلُهُمُ الْهِدْهَادُ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَيُلَقَّبُ الْيَشَرَّحَ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فِي آخِرِهِ). ثُمَّ وَلِيَتْ بَعْدَهُ بِلْقِيسُ ابْنَةُ شُرَحْبِيلَ أَيْضًا أَوْ شَرَاحِيلَ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً شَدَدَ بْنَ زَرْعَةَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فَمَاتَ. وَكَانَ أَهْلُ سَبَأٍ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ.
وَبَقِيَّةُ ذِكْرِ حَضَارَتِهِمْ تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ.
وأَحَطْتُ يُقْرَأُ بِطَاءٍ مُشَدَّدَةٍ لِأَنَّهُ الْتِقَاءُ طَاءِ الْكَلِمَةِ وَتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَقُلِبَتْ هَذِهِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَتَا.
251
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَبَإٍ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّ النَّبَأَ كَانَ مُصَاحِبًا لِلْهُدْهُدِ حِينَ مَجِيئِهِ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ المهم.
وَبَين ب سَبَإٍ وبِنَبَإٍ الْجِنَاسُ الْمُزْدَوَجُ. وَفِيهِ أَيْضًا جِنَاسُ الْخَطِّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْخَطِّ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفَانِ فِي النُّطْقِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٩، ٨٠].
وَوَصْفُهُ بِ يَقِينٍ تَحْقِيقٌ لَكَوْنِ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ شَيْءٌ مُحَقَّقٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً بَيَان لنبأ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ. وَإِدْخَالُ (إِنَّ) فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكًا.
وَفِعْلُ تَمْلِكُهُمْ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ مِلْكِ الْأَشْيَاءِ. وَرَوِيَ حَدِيثُ هِرَقْلَ «هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلَكٍ» بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بِالْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ هَذَا مُلْكٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْآخَرُ بِكَسْرِهَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى سَبَأٍ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أُرِيدَ بِهَا بِلْقِيسُ (بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْقَافِ) ابْنَةُ شَرَاحِيلَ وَفِي تَرْتِيبِهَا مَعَ مُلُوكِ سَبَأٍ وَتَعْيِينِ اسْمِهَا وَاسْمِ أَبِيهَا اضْطِرَابٌ لِلْمُؤَرِّخِينَ.
وَالْمَوْثُوقُ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُعَاصِرَةً سُلَيْمَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتِ امْرَأَةً عَاقِلَةً. وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي بَنَتْ سَدَّ مَأْرِبَ. وَكَانَتْ حَاضِرَةُ مُلْكِهَا مَأْرِبَ مَدِينَةً عَظِيمَةً بِالْيَمَنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ.
وَتَنْكِيرُ امْرَأَةً وَهُوَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ وَجَدْتُ لَهُ حُكْمُ الْمُبْتَدَأِ فَهُوَ كَالِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ إِذَا أُرِيدَ بِالنَّكِرَةِ التَّعَجُّبُ مِنْ جِنْسِهَا كَقَوْلِهِمْ: بَقَرَةٌ تَكَلَّمَتْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ أَمْرٍ عَجِيبٍ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ مَلِكَةً عَلَى قَوْمٍ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَجَدْتُهُمْ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْطَى مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازَمِهِ وَهُوَ النَّوْلُ.
252
وَمَعْنَى أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَالَتْ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ حسن من شؤون الْمُلْكِ. فَعُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مِنْ جِهَتَيْنِ يُفَسِّرُهُ الْمَقَامُ كَمَا فَسَّرَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: ١٦]، أَيْ أُوتِيتُ مِنْ خِصَالِ الْمُلُوكِ وَمِنْ ذَخَائِرِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَجُيُوشِهِمْ وَثَرَاءِ مَمْلَكَتِهِمْ وَزُخْرُفِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِدِ وَالْمَحَاسِنِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ أُوتِيَتْ إِلَى الْمَجْهُولِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِ أَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ مَا نَالَتْهُ عَلَى أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالْأَسْبَابَ شَتَّى، فَمِنْهُ مَا كَانَ إِرْثًا مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ سَلَفُوهَا، وَمِنْهُ مَا كَانَ كَسْبًا مِنْ كَسْبِهَا وَاقْتِنَائِهَا، وَمِنْهُ مَا وَهَبَهَا اللَّهُ مِنْ عَقْلٍ وَحِكْمَةٍ، وَمَا مُنِحَ بِلَادُهَا مِنْ خِصْبٍ وَوَفْرَةِ مِيَاهٍ. وَقَدْ كَانَ الْيُونَانُ يُلَقِّبُونَ مَمْلَكَةَ الْيَمَنِ بِالْعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى الْيُمْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: ١٥]. وَأَمَّا رَجَاحَةُ الْعُقُولِ
فَفِي الْحَدِيثِ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ»
فَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ مَا آتَاهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَخِلْقَةِ أُمَّتِهَا وَبِلَادِهَا، وَلِذَا فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَاعِلُ عُرْفًا. وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَخَصَّ مِنْ نَفَائِسَ الْأَشْيَاءِ عَرْشَهَا إِذْ كَانَ عَرْشًا بَدِيعًا وَلَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ عَرْشٌ مِثْلُهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ سُلَيْمَانَ صَنَعَ كُرْسِيَّهُ الْبَدِيعَ بَعْدَ أَنْ زَارَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ. وَسَنُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها [النَّمْل:
٣٨].
وَالْعَظِيمُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي عَظَمَةِ الْقَدْرِ وَالنَّفَاسَةِ فِي ضَخَامَةِ الْهَيْكَلِ وَالذَّاتِ. وَأَعْقَبَ التَّنْوِيهَ بِشَأْنِهَا بِالْحَطِّ مِنْ حَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِذْ هُمْ يَسْجُدُونَ، أَيْ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أُعِيدَ فِعْلُ وَجَدْتُهَا إِنْكَارًا لِكَوْنِهِمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ، فَذَلِكَ مِنْ انْحِطَاطِ الْعَقْلِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَكَانَ انْحِطَاطُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْغَيْبِيِّ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ تَفَاوَتُ عِوَضِ الْعُقُولِ عَلَى الْحَقَائِقِ لِأَنَّهُ جَانِبٌ مُتَمَحِّضٌ لِعَمَلِ الْفِكْرِ لَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ
الْمَحْسُوسَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَضِلَّ فِيهِ عُقُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَة فِي الشؤون الْخَاضِعَةِ لِلْحَوَاسِّ. قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الرّوم: ٧، ٨]
253
وَكَانَ عَرَبُ الْيَمَنِ أَيَّامَئِذٍ مِنْ عَبَدَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ دَخَلَتْ فِيهِمُ الدِّيَانَةُ الْيَهُودِيَّةُ فِي زَمَنِ تُبَّعَ أَسْعَدَ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَلِكَوْنِهِمْ عَبَدَةَ شَمْسٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ سَبَأٍ.
وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَى سُلَيْمَانَ أُصُولَ الْجُغْرَافِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ مِنْ صِفَةِ الْمَكَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَصِبْغَةِ الدَّوْلَةِ وَثَرْوَتِهَا، وَوَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِأَخْبَارِ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ إِذْ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِمَمْلَكَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ، فَأُمُورُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ أَجْدَى بِعَمَلِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحَةٍ غَيْرَ مَصْرُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ الْبِلَادِ أَوِ الْقَبِيلَةِ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْفِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦).
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ، فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْآنِ ذُيِّلَ بِهِ الْكَلَامُ الْمُلْقَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُلْقَى لِسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ جَوَابِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي الْخَطِّ مِنْ (أَنْ) وَ (لَا) النَّافِيَةِ كُتِبَتَا كَلِمَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَانِي الْمُرَادَّةِ مِنْهَا.
ويَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ. وَيُقَدَّرُ لَامُ جَرٍّ يتَعَلَّق ب فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ صَدَّهُمْ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ فَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ.
254
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمَسْبُوكُ مِنْ أَلَّا يَسْجُدُوا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ أَعْمالَهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً بِمَعْنَى (هَلَّا) فَإِنَّ هَاءَهَا تُبْدَلُ هَمْزَةً. وَجَعْلُ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ تَأْكِيدًا لِلتَّنْبِيهِ وَفِعْلِ أَمَرَ مِنَ السُّجُودِ كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى وَهُوَ لَا يُلَائِمُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رُسِمَ كَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا (أَلَا) حَرْفُ الِاسْتِفْتَاحِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْوَقْفُ فِي هَذِهِ عَلَى (أَلَا).
وَتَزْيِينُ الْأَعْمَالِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النَّمْل: ٤]. وَإِسْنَادُهُ هُنَا لِلشَّيْطَانِ حَقِيقِيٌّ والسَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ تَكُونُ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَبُلُوغُ دَارِ الثَّوَابِ.
والْخَبْءَ: مَصْدَرُ خَبَّأَ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ. أُطْلِقَ هُنَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْبُوءُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخَفَاءِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ لِحَالَةِ خَبَرِ الْهُدْهُدِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ فِيهَا اطِّلَاعًا عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ. وَإِخْرَاجُ الْخَبْءِ: إِبْرَازُهُ لِلنَّاسِ، أَيْ إِعْطَاؤُهُ، أَيْ إِعْطَاءُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَإِعْطَاءِ الْأَرْزَاقِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَقَوْلُهُ:
وَيعلم مَا يخَافُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مُؤْذِنٌ بِعُمُومِ صِفَةِ الْعِلْمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُخْفُونَ... وَيُعْلِنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ.
وَمَجِيءُ جُمْلَةِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَقِبَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ
255
لِلصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ، أَيْ لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ شُبْهَةٌ إِلَهِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَيْ مَالِكُ الْفُلْكِ الْأَعْظَمِ الْمُحِيطِ بِالْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ عَظَمَةَ مُلْكِ بِلْقِيسَ وَعِظَمِ عَرْشِهَا مَا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَغُرَّهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ الْمُلْكِ الْأَعْظَمِ، فَتَعْرِيفُ الْعَرْشِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ. وَوَصْفُهُ بِ الْعَظِيمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْعِظَمِ فِي تَجَسُّمِ النَّفَاسَةِ.
وَفِي مُنْتَهَى هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ سُجُودِ تِلَاوَةٍ تَحْقِيقًا لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ
. وَسَوَاء قرىء بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا أَمْ بِتَخْفِيفِهَا لِأَنَّ مَآلَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِنْكَارُ سُجُودِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحقيق بِالسُّجُود.
[٢٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٢٧]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧)
تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النَّمْل: ٢٢] بَيَانُ وَجْهِ تَطَلُّبِ سُلَيْمَانَ تَحْقِيقَ صِدْقِ خَبَرِ الْهُدْهُدِ. وَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ التَّأَمُّلُ، لَا سِيَّمَا وَإِقْحَامُ كُنْتَ أَدْخَلَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْكَذِبِ مِنْ صِيغَةِ أَصَدَقْتَ لِأَنَّ فِعْلَ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ يُفِيدُ الرُّسُوخَ فِي الْوَصْفِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ: مِنَ الْكاذِبِينَ أَشَدُّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْكَذِبِ بِالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْكَاذِبِينَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ عَادَةً لَهُ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِتَوْضِيحِ تُهْمَتِهِ بِالْكَذِبِ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِيذَانٌ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَيْهِ بِأَنَّ كَذِبَهُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْمَلِكِ لِيَكُونَ الْهُدْهُدُ مُغَلِّبًا الْخَوْفَ عَلَى الرَّجَاءِ، وَذَلِكَ أَدْخُلُ فِي التَّأْدِيبِ عَلَى مِثْلِ فِعْلَتِهِ وَفِي حِرْصِهِ عَلَى تَصْدِيقِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُبَلِّغَ الْكِتَابَ الَّذِي يُرْسِلهُ مَعَه.
[٢٨]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٢٨]
اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)
الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: ٢٧] لِأَنَّ فِيمَا
256
سَيَنْكَشِفُ بَعْدَ تَوْجِيهِ كِتَابِهِ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ مَا يُصَدِّقُ خَبَرَ الْهُدْهُدِ إِنْ جَاءَ مِنَ الْمَلِكَةِ جَوَابٌ عَنْ كِتَابِهِ، أَوْ يُكَذِّبُ خَبَرَ الْهُدْهُدِ إِن لم يجىء مِنْهَا جَوَابٌ. أَلْهَمَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِاتِّصَالِهِ بِبِلَادِ الْيَمَنِ طَرِيقَ الْمُرَاسَلَةِ لِإِدْخَالِ الْمَمْلَكَةِ فِي حَيِّزِ نُفُوذِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِاجْتِلَابِ خَيْرَاتِهَا وَجَعْلِهَا طَرِيقَ تِجَارَةٍ مَعَ شَرْقِ مَمْلَكَتِهِ فَكَتَبَ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ كِتَابًا لِتَأْتِيَ إِلَيْهِ وَتَدْخُلَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَتُصْلِحَ دِيَانَةَ قَوْمِهَا، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي نُفُوسِ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ رَهْبَةً مِنْ مُلْكِهِ وَجَلْبًا لِمَرْضَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلَكَتُهُ أَصْغَرَ مِنْ مَمَالِكِ جِيرَانِهِ مِثْلِ مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ وَمَمْلَكَةِ مِصْرَ. وَكَانَتْ مَمْلَكَةُ سُلَيْمَانَ يَوْمَئِذٍ مَحْدُودَةً بِالْأُرْدُنِّ وَتُخُومِ مِصْرَ وَبَحْرِ الرُّومِ (١). وَلَمْ يَزَلْ تَبَادُلُ الرَّسَائِلِ بَيْنَ الْمُلُوكِ مِنْ سُنَّةِ الدُّوَلِ وَمِنْ سُنَّةِ الدُّعَاةِ إِلَى الْخَيْرِ. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ. وَقَدْ عَظُمَ شَأْنُ الْكِتَابَةِ فِي دُوَلِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرين» :«والمنشئ جهنية الْأَخْبَارِ، وَحَقِيبَةُ الْأَسْرَارِ، وَقَلَمُهُ لِسَانُ الدَّوْلَةِ، وَفَارِسُ الْجَوْلَةِ... » إِلَخْ.
وَاتُّخِذَ لِلْمُرَاسَلَةِ وَسِيلَةُ الطَّيْرِ الزَّاجِلِ مِنْ حَمَامٍ وَنَحْوِهِ، فَالْهُدْهُدُ مِنْ فَصِيلَةِ الْحَمَامِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّدْجِينِ، فَقَوْلُهُ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا يَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا وَهُوَ أَنَّ سُلَيْمَانَ فَكَّرَ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَمْلَكَتِهِ وَبَيْنَ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ فَأَحْضَرَ كِتَابًا وَحَمَّلَهُ الْهُدْهُدَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى (مَاذَا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٤]. وَفِعْلُ انْظُرْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ إِلَى الْأَرْضِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقُوهُ فِي غيابات الْجُبِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ إِمَّا فِي حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ شَأْنُ الْهُدْهُدِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَكَانِ فَيَرْمِيَ الْكِتَابَ مِنْ مِنْقَارِهِ، وَإِمَّا فِي مَجَازِهِ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ الْمَكَانَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ فَيَتَنَاوَلُ أَصْحَابُهُ الرِّسَالَةَ مِنْ رِجْلِهِ الَّتِي تُرْبَطُ فِيهَا الرِّسَالَةُ فَيَكُونُ الْإِلْقَاءُ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٦].
وَالْمُرَادُ بِالرَّجْعِ: رَجْعُ الْجَوَابِ عَنِ الْكِتَابِ، أَيْ مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَفْضٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْآتِي: فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النَّمْل: ٣٣].
[٢٩- ٣١]
_________
(١) انْظُر الإصحاح ٤ من سفر الْمُلُوك الأولى.
257

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣١]

قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
طُوِيَتْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا بَيْنَ الْخَبِرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنِ اقْتِضَاءِ عِدَّةِ أَحْدَاثٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الْهُدْهُدُ إِلَى سَبَأٍ فَرَمَى بِالْكِتَابِ فَأَبْلَغَ الْكِتَابَ إِلَى الْمَلِكَةِ وَهِيَ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهَا فَقَرَأَتْهُ، قَالَتْ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ: قالَتْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ غَرَابَةَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا يُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ شَأْنِهَا حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ.
والْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهَا: أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْكِتَابَ سُلِّمَ إِلَيْهَا دُونَ حُضُورِ أَهْلِ مَجْلِسِهَا. وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نِظَامُ بَلَاطِهَا أَنْ تُسَلَّمَ الرَّسَائِلُ إِلَيْهَا رَأْسًا. وَالْإِلْقَاءُ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْكَرِيمِ يَنْصَرِفُ إِلَى نَفَاسَتِهِ فِي جِنْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٧٤] بِأَنْ كَانَ نَفِيسَ الصَّحِيفَةِ نَفِيسَ التَّخْطِيطِ
بَهِيجَ الشَّكْلِ مُسْتَوْفِيًا كُلَّ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ بِالتَّأَنُّقِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، وَقَدْ قِيلَ: كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، لِيَكُونَ مَا فِي ضِمْنِهِ خَاصًّا بِاطِّلَاعِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَكْتُمُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «الْوَصْفُ بِالْكَرَمِ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: ٧٧] وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ، وَالْأَثِيرِ، وَالْمَبْرُورِ، فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزُ، وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً».
وَأَمَّا مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عِنْدَهَا لِأَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النَّمْل: ٣٤].
ثُمَّ قَصَّتْ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ حِينَ قَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ إِلَى آخِرِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُرْجِمَ لَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى مَجْلِسِ مَشُورَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
258
تَكُونَ عَارِفَةً بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ الْقَحْطَانِيَّةِ، فَإِنَّ عَظَمَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَا تَخْلُو مِنْ كُتَّابٍ عَارِفِينَ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لِمَمْلَكَتِهِ، وَكَوْنُهُ بَلُغَتِهِ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِشِعَارِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلُوكِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
أَمَّا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ تَرْجَمَةُ الْكِتَابِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِتَضْمِينِ دَقَائِقِهِ وَخُصُوصِيَّاتِ اللُّغَةِ الَّتِي أُنْشِئَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلِكَةِ ابْتَدَأَتْ بِهِ مُخَاطَبَةَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِإِيقَاظِ أَفْهَامِهِمْ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي مَغْزَاهُ لِأَنَّ اللَّائِقَ بِسُلَيْمَانَ أَنْ لَا يُقَدِّمَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ اسْمِ سُلَيْمَانَ تُؤْخَذُ مِنْ خَتْمِهِ وَهُوَ خَارِجُ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَتْ بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُتَرْجِمُ عَمَّا فِي كَلَامِهِمَا بِاللُّغَةِ السَّبَائِيَّةِ مِنْ عِبَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِمُرْسِلِ الْكِتَابِ وَبِمَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ اهْتِمَامًا يُؤَدَّى مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ فِي مَقَامٍ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ (إِنَّ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ إِيمَاءٌ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ذَات الْكتاب، وَالْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ مَعْنَاهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فَلَانًا لَحَسَنُ الطَّلْعَةِ وَإِنَّهُ لَزَكِيٌّ. وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ ذِكْرِ الْعَامِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النِّسَاء: ٥٩]، أُعِيدَ أَطِيعُوا لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الطَّاعَتَيْنِ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مُرَادٌ بِهَا طَاعَتُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الرَّسُولِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ حِكَايَةٌ لِمَقَالِهَا، وَعَرَفَتْ هِيَ ذَلِكَ مِنْ عُنْوَانِ الْكِتَابِ بِأَعْلَاهُ أَوْ بِظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ طَرِيقَةِ الرَّسَائِلِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِثْلُ افْتِتَاحِ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ بِجُمْلَةِ: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ».
259
وَافْتِتَاحُ الْكِتَابِ بِجُمْلَةِ الْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادِفَهَا كَانَ خَاصًّا بِكُتُبِ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ أَنْ يُتْبِعَ اسْمَ الْجَلالَة بوصفي: الرحمان الرَّحِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِافْتِتَاحِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فِي الْإِسْلَامِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَقَايَا سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ أَنْ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَتَحُوا كُتُبَهُمْ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ «الْمَرَاسِيلِ» : أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»
كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَ يَكْتُبُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، أَيْ صَارَ يَكْتُبُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُتُبِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ أَوْ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
وَكَانَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ وَجِيزًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ لُغَةَ الْمُخَاطِبِ فَيَقْتَصِرُ لَهُ عَلَى الْمَقْصُودِ لِإِمْكَانِ تَرْجَمَتِهِ وَحُصُولِ فَهْمِهِ فَأَحَاطَ كِتَابُهُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَحْذِيرُ مَلِكَةِ سَبَأٍ مِنْ أَنْ تُحَاوِلَ التَّرَفُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ إِلَى سُلَيْمَانَ وَالطَّاعَةِ لَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ بِمِصْرَ وَصُورَ وَالْعِرَاقِ.
فَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هُوَ إِتْيَانٌ مَجَازِيٌّ مِثْلُ مَا يُقَالُ: اتَّبِعْ سَبِيلِي.
ومُسْلِمِينَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَسْلَمَ إِذَا تَقَلَّدَ الْإِسْلَامَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا دَعَا مَلِكَةَ سَبَأٍ وَقَوْمَهَا إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا وَأَمَّا دَعْوَتُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَذَلِكَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢]، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ
لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ
[يس: ٦٠]. جَمَعَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ دَعْوَتِهَا إِلَى مُسَالَمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِصِفَةِ الْمُلْكِ، وَبَيْنَ دَعْوَةِ قَوْمِهَا إِلَى اتِّبَاعِ دِينِ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِالنُّبُوءَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ يُلْقِي الْإِرْشَادَ إِلَى الْهُدَى حَيْثُمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨] وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرْسَلْ
260
إِلَيْهِمْ، فَالْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ أَمْرًا عَامًّا بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ دُعَاءُ سُلَيْمَانَ هُنَا،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»
فَهَذِهِ سُنَّةُ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُهِمَّةَ عِنْدَهَا هُوَ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ دُونَ التَّشَفِّي وَحُبِّ الْغَلَبَةِ.
وَحَرْفُ (أَنْ) مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى فِي مَوْقِعِهِ غُمُوضٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِمَّا شَمَلَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْحَرْفُ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ، أَوِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَوِ التَّفْسِيرِيَّةَ.
فَأَمَّا مَعْنَى (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ فَلَا يَتَّضِحُ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي عَامِلًا يَكُونُ مَصْدَرُهَا الْمُنْسَبِكُ بِهَا مَعْمُولًا لَهُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لَفْظًا مُطْلَقًا وَلَا مَعْنًى إِلَّا بِتَعَسُّفٍ، وَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) الَّذِي هُوَ حَرْفُ تَحْضِيضٍ وَهُوَ وُجْهَةُ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَنْ لَا تَعْلُوا إِلَخْ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ كِتابٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فَحَيْثُ كَانَ مَضْمُونُ الْكِتَابِ النَّهْيَ عَنِ الْعُلُوّ جعل أَلَّا تَعْلُوا نَفْسَ الْكِتَابِ كَمَا يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَكَذَلِكَ لِوُجُوبِ سَدِّ مَصْدَرٍ مَسَدَّهَا وَكَوْنِهَا مَعْمُولَةً لِعَامِلٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَيْضًا. وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهًا ثَالِثًا فِي الْآيَةِ فِي بَعْضِ نُسَخِ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ «الْمُغْنِي» وَلَا مِنْ «شُرُوحِهِ» وَلَعَلَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِيَّةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَضَ. وَأَعْقَبَهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ نُسْخَةِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ لِيَظْهَرَ أَنَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ مَا يُقَابِلُ حَرْفَ (أَنْ) فَلِذَلِكَ تَتَعَيَّنُ (أَنْ) لِمَعْنَى التَّفْسِيرِيَّةِ لِضَمِيرِ وَإِنَّهُ الْعَائِدِ إِلَى كِتابٌ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ كَانَ بِمَعْنَى مُعَادِهِ فَكَانَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَصَحَّ وَقْعُ (أَنْ) بَعْدَهُ فَيَكُونُ (أَنْ) مِنْ كَلَامِ
261
مَلِكَةِ سَبَأٍ فَسَّرَتْ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا مَضْمُونَ كِتابٌ فِي قَوْلِهَا: أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ.
وأَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يَكُونُ هُوَ أَوَّلَ كِتَابِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهَا حِكَايَةٌ لِكَلَامِ بِلْقِيسَ. قَالَ فِي «الْكَشْفِ» يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ بَيَانٌ لِعُنْوَانِ الْكِتَابِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِلَخْ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الْكِتَابِ فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ كَيْفَ قَدَّمَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ عَلَى إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَلَمْ تَزَلْ نَفْسِي غَيْرَ مُنْثَلِجَةٍ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ مَوْقِعَ (أَنْ) هَذِهِ اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ. وَأَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ خُطَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِافْتِتَاحَ بِ (أَنْ) فِي ثَانِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ فِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ». وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنِ الْحَمْدُ، مَضْبُوطٌ بِضَمَّةٍ عَلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ. وَلَكِنَّ كَلَامَهُ جَرَى عَلَى أَنَّ حَرْفَ (إِنَّ) مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ مُشَدَّدُ النُّونِ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْهَمْزَةَ مَفْتُوحَةٌ وَأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِ (أَنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِي افْتِتَاحِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَأَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُس: ١٠].
وأَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ نَهْيٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ بِقَوْلِهَا: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النَّمْل: ٣٢].
[٣٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٣٢]
قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)
سَأَلَتْهُمْ إِبْدَاءَ آرَائِهِمْ مَاذَا تَعْمَلُ تُجَاهَ دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا مِثْلُ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْإِفْتَاءُ: الْإِخْبَارُ بِالْفَتْوَى وَهِيَ إِزَالَةُ مُشْكِلٍ يَعْرِضُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤١].
وَالْأَمْرُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهَا لِأَنَّهَا الْمُخَاطَبَةُ بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ وَلِأَنَّهَا الْمُضْطَلِعَةُ بِمَا يَجِبُ إجراؤه من شؤون الْمَمْلَكَةِ وَعَلَيْهَا تَبِعَةُ الْخَطَأِ فِي الْمَنْهَجِ
262
الَّذِي تَسْلُكُهُ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْخَلِيفَةِ وَلِلْمَلِكِ وَلِلْأَمِيرِ وَلِعَالِمِ الدِّينِ: وَلِيُّ الْأَمْرِ. وَبِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاء: ٥٩]. وَقَالَ الرَّاعِي يُخَاطِبُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ:
أَوَلِيَّ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّا مَعْشَرٌ حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَهَا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ [النَّمْل: ٣٣].
وَقَدْ أَفَادَتْ إِضَافَةُ أَمْرِي تَعْرِيفًا، أَيْ فِي الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
وَمَعْنَى قاطِعَةً أَمْراً عَامِلَةً عَمَلًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ بِالْعَزْمِ عَلَى مَا تُجِيبُ بِهِ سُلَيْمَانَ.
وَصِيغَةُ كُنْتُ قاطِعَةً تُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهَا وَعَادَتُهَا مَعَهُمْ، فَكَانَتْ عَاقِلَةً حَكِيمَةً مُسْتَشِيرَةً لَا تُخَاطِرُ بِالِاسْتِبْدَادِ بِمَصَالِحِ قَوْمِهَا وَلَا تُعَرِّضُ مُلْكَهَا لِمَهَاوِي أَخْطَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ.
وَالْأَمْرُ فِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً هُوَ أَيْضًا الْحَالُ الْمُهِمُّ، أَيْ أَنَّهَا لَا تَقْضِي فِي الْمُهِمَّاتِ إِلَّا عَنِ اسْتِشَارَتِهِمْ.
وتَشْهَدُونِ مُضَارِعُ شَهِدَ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى حَضَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]، أَيْ حَتَّى تَحْضُرُونِ. وَشَهِدَ هَذَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى كُلِّ مَا يَحْضُرُ فَاعِلُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَاسْمِ ذَاتٍ، وَذَلِكَ تَعَدٍّ عَلَى التَّوَسُّعِ لِكَثْرَتِهِ، وَحَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ أَوْ يُعَلَّقَ بِهِ ظَرْفٌ. يُقَالُ: شَهِدَ عِنْدَ فُلَانٍ وَشَهِدَ مَجْلِسَ فُلَانٍ. وَيُقَالُ:
شَهِدَ الْجُمُعَةَ. وَفِعْلُ تَشْهَدُونِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْمُشَاوَرَةِ لِأَنَّهَا يَلْزَمُهَا الْحُضُورُ غَالِبًا إِذْ لَا تَقَعُ مُشَاوَرَةٌ مَعَ غَائِبٍ.
وَالنُّونُ فِي تَشْهَدُونِ نُونُ الْوِقَايَةِ وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا وَأُلْقِيَتْ كَسْرَةُ النُّونِ الْمُجْتَلَبَةُ لِوِقَايَةِ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْفِعْلِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَكْسُورًا، وَنُونُ الْوِقَايَةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا.
263
وَفِي قَوْلِهَا: حَتَّى تَشْهَدُونِ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى: تُوَافِقُونِي فِيمَا أَقْطَعُهُ، أَيْ يَصْدُرُ مِنْهَا فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ وَالسِّيَاسَةِ: إِمَّا بِالْقَوْلِ كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، وَإِمَّا بِالسُّكُوتِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ حُضُورَ الْمَعْدُودِ لِلشُّورَى فِي مَكَانِ الِاسْتِشَارَةِ مُغْنٍ عَنِ اسْتِشَارَتِهِ إِذْ سُكُوتُهُ مُوَافَقَةٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: إِنَّ عَلَى الْقَاضِي إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِمْ. وَكَانَ عُثْمَانُ يَقْضِي بِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ سُكُوتَهُمْ مَعَ حُضُورِهِمْ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِهِ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الشُّورَى لِأَنَّهَا لَمْ تحك شرعا إِلَيْهَا وَلَا سِيقَ مَسَاقَ الْمَدْحِ، وَلَكِنَّهُ حِكَايَةُ مَا جَرَى عِنْدَ أُمَّةٍ غَيْرِ مُتَدَيِّنَةٍ بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ غَيْرَ أَنَّ شَأْنَ الْقُرْآنِ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْقَصَصِ أَنْ يَذْكُرَ الْمُهِمَّ مِنْهَا لِلْمَوْعِظَةِ أَوْ لِلْأُسْوَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. فَلِذَلِكَ يُسْتَرْوَحُ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ حُسْنُ الشُّورَى. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الشُّورَى فِي سُورَةِ
آل عمرَان.
[٣٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٣٣]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣)
جَوَابٌ بِأُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَ وَلَمْ يُعْطَفْ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْمُحَاوَرَاتِ.
أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ، جَمَاعَةُ الْمَمْلِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَهُوَ من أخيار عُرَفَاءِ الْقَوْمِ عَن حَال جماعاتهم وَمَنْ يُفَوَّضُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِمْ. وَالْقُوَّةُ: حَقِيقَتُهَا وَمَجَازُهَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥]. وَأُطْلِقَتْ عَلَى وَسَائِلِ الْقُوَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٠]، أَيْ وَسَائِلِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنَ الْقُوَّةِ كَثْرَةُ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْعَارِفِينَ بِأَسَالِيبِهِ.
وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ عَلَى الْعَدُوِّ، قَالَ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] أَيْ فِي مَوَاقِعِ الْقِتَالِ، وَقَالَ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الْحَشْر: ١٤]، وَهَذَا الْجَوَابُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِلْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُلْكِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الدَّفْعِ
بِالْقُوَّةِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَتِهِ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُهُ عَلَى مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى هَذَا.
وَمَعَ إِظْهَارِ هَذَا الرَّأْيِ فَوَّضُوا الْأَمْرَ إِلَى الْمَلِكَةِ لِثِقَتِهِمْ بِأَصَالَةِ رَأْيِهَا لِتَنْظُرَ مَا تَأْمُرُهُمْ فَيَمْتَثِلُونَهُ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ تَأْمُرِينَ وَمُتَعَلَّقَهُ لِظُهُورِهِمَا مِنَ الْمَقَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا تَأْمُرِينَنَا بِهِ، أَيْ إِنْ كَانَ رَأْيُكِ غَيْرَ الْحَرْبِ فَمُرِي بِهِ نطعك.
وَفعل فَانْظُرِي مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مَاذَا تَأْمُرِينَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَاذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ فِي سُورَة النَّحْل [٢٤].
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
قالَتْ جَوَابُ مُحَاوَرَةٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَ.
أَبْدَتْ لَهُمْ رَأْيَهَا مُفَضِّلَةً جَانِبَ السِّلْمِ عَلَى جَانِبِ الْحَرْبِ، وَحَاذِرَةً مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ اخْتِيَارًا لِأَنَّ نِهَايَةَ الْحَرْبِ فِيهَا احْتِمَالُ أَنْ يَنْتَصِرَ سُلَيْمَانُ فَتَصِيرُ مَمْلَكَةُ سَبَأٍ إِلَيْهِ، وَفِي الدُّخُولِ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ إِلْقَاءٌ لِلْمَمْلَكَةِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ يَحْصُلُ
تَصَرُّفُ مَلِكٍ جَدِيدٍ فِي مَدِينَتِهَا فَعَلِمَتْ بِقِيَاسِ شَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَبِخِبْرَةِ طَبَائِعِ الْمُلُوكِ إِذَا تَصَرَّفُوا فِي مَمْلَكَةِ غَيْرِهِمْ أَنْ يَقْلِبُوا نِظَامَهَا إِلَى مَا يُسَايِرُ مَصَالِحَهُمْ وَاطْمِئْنَانَ نُفُوسِهِمْ مِنَ انْقِلَابِ الْأُمَّةِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَيْهِمْ فِي فُرَصِ الضَّعْفِ أَوْ لَوَائِحِ الِاشْتِغَالِ بِحَوَادِثَ مُهِمَّةٍ، فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ إِقْصَاءُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الْخَطَرَ يُتَوَقَّعُ مِنْ جَانِبِهِمْ حَيْثُ زَالَ سُلْطَانُهُمْ بِالسُّلْطَانِ الْجَدِيدِ، ثُمَّ يُبَدِّلُونَ الْقَوَانِينَ وَالنُّظُمَ الَّتِي كَانَتْ تَسِيرُ عَلَيْهَا الدَّوْلَةُ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذُوهَا عُنْوَةً فَلَا يَخْلُو الْأَخْذُ مِنْ تَخْرِيبٍ وَسَبْيٍ وَمَغَانِمَ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فَسَادًا. وَقَدِ انْدَرَجَ الْحَالَانِ فِي قَوْلِهَا إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً.
265
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: إِنَّ الْمُلُوكَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، فَقَوْلُهَا إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها اسْتِدْلَالٌ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَلِهَذَا تَكُونُ إِذا ظَرْفًا لِلْمَاضِي بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١] وَقَوْلِهِ:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: ٩٢].
وَجُمْلَةُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بِحُكْمِ الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ وَهُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَجَعْلِ الْأَعِزَّةِ أَذِلَّةً، أَيْ فَكَيْفَ نُلْقِي بِأَيْدِينَا إِلَى مَنْ لَا يَأْلُو إِفْسَادًا فِي حَالِنَا.
فَدَبَّرَتْ أَنْ تَتَفَادَى مِنَ الْحَرْبِ وَمِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ، بِطَرِيقَةِ الْمُصَانَعَةِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِإِرْسَالِ هَدِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَطْلِعْ رَأْيَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِأَنَّهُمْ فَوَّضُوا الرَّأْيَ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ عَلَى مَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ يُعَدُّ مُوَافَقَةً وَرِضًى.
وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَدِّمَةٌ لِمَا سَتُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ عَزْمِهَا، وَيَتَضَمَّنُ تَعْلِيلًا لِمَا عَزَمَتْ عَلَيْهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِهَدِيَّةٍ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ. وَمَفْعُولُ مُرْسِلَةٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ مُرْسِلَةٌ وَكَوْنُ التَّشَاوُرِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ. فَالتَّقْدِيرُ: مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَوَفْدًا مَصْحُوبًا بِهَدِيَّةٍ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَفْدُ مَصْحُوبًا بِكِتَابٍ تُجِيبُ بِهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنِ الْكِتَابِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ، وَهُوَ مَنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ فِي كِتَابٍ بِالتَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلَامِ مِنَ الْحَاضِرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَدَّ الْكِتَابِ وَاجِبًا كَرَدِّ السَّلَامِ اه. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حُكْمٍ فِيهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَوَابَ إِنْ كَانَ عَنْ كِتَابٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى صِيغَةِ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْجَوَابِ وَاجِبًا وَأَنْ
يَشْتَمِلَ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْكِتَابَةِ يُقَاسُ عَلَى الرَّدِّ بِالْكَلَامِ مَعَ إِلْغَاءِ فَارِقِ مَا فِي الْمُكَالَمَةِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ الَّتِي يَكُونُ تَرْكُ الرَّدِّ مَعَهَا أَقْرَبَ لِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ. وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا عَنْ كِتَابٍ إِلَّا جَوَابَهُ عَنْ كِتَابِ مُسَيْلَمَةَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
266
وَالْهَدِيَّةُ: فَعِيلَةُ مِنْ أَهْدَى: فَالْهَدِيَّةُ مَا يُعْطَى لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالتَّحَبُّبِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَهِيَ لُغَةٌ سُفْلَى مَعَدٍّ. وَأَصْلُ هَدَايَا: هِدَائِي بِهَمْزَةٍ بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ ثُمَّ يَاءٍ لِأَنَّ فَعِيلَةَ يُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ بِإِبْدَالِ يَاءِ فَعِيلَةَ هَمْزَةً لِأَنَّهَا حَرْفٌ وَقَعَ فِي الْجَمْعِ بَعْدَ حَرْفِ مَدٍّ فَلَمَّا وَجَدُوا الضَّمَّةَ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ ثَقِيلَةً عَلَى الْيَاءِ سَكَّنُوا الْيَاءَ طَرْدًا لِلْبَابِ ثُمَّ قَلَبُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ أَلِفًا لِلْخِفَّةِ فَوَقَعَتِ الْهَمْزَةُ بَيْنَ أَلِفَيْنِ فَثَقُلَتْ فَقَلَبُوهَا يَاءً لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ أَخَفُّ، وَأَمَّا لُغَةُ سُفْلَى مَعَدٍّ فَيَقُولُونَ: هَدَاوَى بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَلِفَيْنِ وَاوًا لِأَنَّهَا أُخْتُ الْيَاءِ وَكِلْتَاهُمَا أُخْت الْهمزَة.
وفَناظِرَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، أَيْ مُتَرَقِّبَةٌ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ فَناظِرَةٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً. وَأَصْلُ النَّظْمِ: فَنَاظِرَةٌ مَا يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ بِهِ، فَغَيَّرَ النَّظْمَ لَمَّا أُرِيدَ أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الْمُرْسَلُونَ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يَرْجِعُ قُدِّمَتْ عَلَى مُتَعَلَّقِهَا لِاقْتِرَانِهَا بِحَرْفِ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون فَناظِرَةٌ مِنَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ عَالِمَةٌ، وَتَعَلُّقُ الْبَاءِ بِفِعْلِ يَرْجِعُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَناظِرَةٌ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولِهِ أَوْ مَفْعُولَيْهِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا يَجُوزُ تعلق الْبَاء بناظرة لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهُ فَمِنْ ثَمَّ غَلَّطُوا الْحُوفِيَّ فِي «تَفْسِيرِهِ» لتعليقه الْبَاء بناظرة كَمَا فِي الْجِهَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ «مُغنِي اللبيب».
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٧]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
أَيْ فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النَّمْل: ٣٥]، فَالْإِرْسَالُ يَقْتَضِي رَسُولًا، وَالرَّسُولُ لَفْظُهُ مُفْرَدٌ وَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَدَايَا الْمُلُوكِ يَحْمِلُهَا رَكْبٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
فَاعِلُ جاءَ الرَّكْبَ الْمَعْهُودَ فِي إِرْسَالِ هَدَايَا أَمْثَالِ الْمُلُوكِ.
267
وَقَدْ أَبَى سُلَيْمَانُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ لِأَنَّ الْمَلِكَةَ أَرْسَلَتْهَا بَعْدَ بُلُوغِ كِتَابِهِ وَلَعَلَّهَا سَكَتَتْ عَنِ الْجَوَابِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ كِتَابُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٣١] فَتَبَيَّنَ لَهُ قَصْدُهَا مِنَ الْهَدِيَّةِ أَنْ تَصْرِفَهُ عَنْ مُحَاوَلَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ رِشْوَةً لِتَصْرِفَهُ عَنْ بَثِّ سُلْطَانِهِ عَلَى مَمْلَكَةِ سَبَأٍ.
وَالْخطاب فِي أَتُمِدُّونَنِ لِوَفْدِ الْهَدِيَّةِ لِقَصْدِ تَبْلِيغِهِ إِلَى الْمَلِكَةِ لِأَنَّ خِطَابَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَنْ أَرْسَلَهُمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ الْمُرْسَلِ فِيهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِأَنَّ حَالَ إِرْسَالِ الْهَدِيَّةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْجَوَابِ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةَ صَرْفِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَلَبِ مَا طَلَبَهُ بِمَا بُذِلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ مُحْتَاجًا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ فَيَقْتَنِعُ بِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ كَانَتْ ذَهَبًا وَمَالًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: أَتُمِدُّونَنِ بِنُونَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِالْإِدْغَامِ. وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْإِنْكَارِ السَّابِقِ، أَيْ أَنْكَرْتُ عَلَيْكُمْ ظَنَّكُمْ فَرَحِي بِمَا وجهتم إليّ لِأَنَّ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَاكُم، أَي هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي صِفَاتِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَفَاسَةٍ وَوَفْرَةٍ.
وَسَوْقُ التَّعْلِيلِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَلِكَةَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَدَى سُلَيْمَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا لَدَيْهَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّفْرِيعِ.
وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْفَرْقِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَلَوْ قَالَ:
وَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، لَكَانَ مُشْعِرًا بِأَنَّهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ تَكُونُ وَاوَ الْحَالِ.
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ إِمْدَادَهُ بِمَالٍ إِلَى رَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِم.
وَإِضَافَة بِهَدِيَّتِكُمْ تَشْبِيهٌ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَي بِمَا تُهْدُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَبِيهَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بِمَا يُهْدَى إِلَيْكُمْ. وَالْخَبَرُ اسْتُعْمِلَ كِنَايَةً عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ لِلْمَهْدِيِّ.
268
وَمَعْنَى: تَفْرَحُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُسَرُّونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْتَخِرُونَ، أَيْ أَنْتُمْ
تَعْظُمُ عِنْدَكُمْ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ لَا أَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي خَيْرًا مِنْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي «أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ» لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ أَنْتُمْ.
وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ.
وَتَوَعَّدَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسِلٌ إِلَيْهِمْ جَيْشًا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِحَرْبِهِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ولَنُخْرِجَنَّهُمْ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَوْمِ، أَيْ لَنُخْرِجَنَّ مَنْ نُخْرِجُ مِنَ الْأَسْرَى.
وَقَوْلُهُ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ غَزْوَ بَلَدِهَا بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِرْسَالَ جُنُودٍ لِغَزْوِهَا فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧] أَيْ أَذْهَبَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَلْنُؤْتِيَنَّهُمْ جُنُودًا، أَيْ نَجْعَلُهَا آتِيَةً إِيَّاهُمْ.
وَالْقِبَلُ: الطَّاقَةُ. وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ فَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاقَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُطِيقُ شَيْئًا يَثْبُتُ لِلِقَائِهِ وَيُقَابِلُهُ. فَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ تَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ. وَلَعَلَّ أَصْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَاظِرٌ إِلَى الْمُقَابَلَةِ فِي الْقِتَالِ.
وَالْبَاءُ فِي بِها لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمْ بِسَبَبِهَا، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمُ الْمُصَاحِبُ لَهَا، أَيْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى لِقَائِهَا.
وَضَمِيرُ بِها لِلْجُنُودِ وَضَمِيرُ مِنْها لِلْمَدِينَةِ، وَهِيَ مَأْرِبَ، أَيْ يُخْرِجُهُمْ أَسْرَى وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مَدِينَتِهِ.
وَالصَّاغِرُ: الذَّلِيلُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى ذَلَّ وَمَصْدَرُهُ الصَّغَارُ. وَالْمُرَادُ: ذُلُّ الْهَزِيمَة والأسر.
269

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٠]

قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ طُوِيَ خَبَرُ رُجُوعِ الرُّسُلِ وَالْهَدِيَّةِ، وَعَلِمَ سُلَيْمَانُ أَنَّ مَلِكَةَ سَبَأٍ لَا يَسَعُهَا إِلَّا طَاعَتُهُ وَمَجِيئُهَا إِلَيْهِ، أَوْ وَرَدَ لَهُ مِنْهَا أَنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى
الْحُضُورِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٣١].
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَطَّتْ رِحَالُ الْمَلِكَةِ فِي مَدِينَةِ أُورْشَلِيمَ وَقَبْلَ أَنْ تَتَهَيَّأَ لِلدُّخُولِ عَلَى الْمَلِكِ، أَوْ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهَا شَارَفَتِ الْمَدِينَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُحْضِرَ لَهَا عَرْشَهَا قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ لِيُرِيَهَا مَقْدِرَةَ أَهْلِ دَوْلَتِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ عَرْشُهَا مَحْمُولًا مَعَهَا فِي رِحَالِهَا جَاءَتْ بِهِ مَعَهَا لِتَجْلِسَ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَن لَا يهيىء لَهَا سُلَيْمَانُ عَرْشًا، فَإِنَّ لِلْمُلُوكِ تَقَادِيرَ وَظُنُونًا يَحْتَرِزُونَ مِنْهَا خَشْيَةَ الْغَضَاضَةِ.
وَقَوْلُهُ: آتِيكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا مِنْ أَتَى، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْهُ، وَالْبَاءُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَلَمَّا عَلِمَ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهَا سَتَحْضُرُ عِنْدَهُ أَرَادَ أَنْ يَبْهَتَهَا بِإِحْضَارِ عَرْشِهَا الَّذِي تَفْتَخِرُ بِهِ وَتَعُدُّهُ نَادِرَةَ الدُّنْيَا، فَخَاطَبَ مَلَأَهُ لِيَظْهَرَ مِنْهُمْ مُنْتَهَى عِلْمِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. فَالْبَاءُ فِي بِعَرْشِها كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النَّمْل: ٣٧] تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ.
وَجُمْلَةُ: قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَاءً لِجُزْءٍ مِنْ قِصَّةٍ. وَجُمْلَةُ: قالَ عِفْرِيتٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوَابِ الْمُحَاوَرَةِ فَفُصِلَتْ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَجُمْلَةُ: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَيْضًا جَوَابُ مُحَاوَرَةٍ.
وَمَعْنَى عِفْرِيتٌ حَسْبَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلَفِ كَلِمَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ اسْمٌ
270
لِلشَّدِيدِ الَّذِي لَا يُصَابُ وَلَا يُنَالُ، فَهُوَ يُتَّقَى لِشَرِّهِ. وَأَصْلُهُ اسْمٌ لِعُتَاةِ الْجِنِّ، وَيُوصَفُ بِهِ النَّاسُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ.
والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ مِنْ حَاشِيَةِ سُلَيْمَانَ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْكِتابِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةَ. وَقَدْ عَدَّ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا أَهْلَ خَاصَّةِ سُلَيْمَانَ بِأَسْمَائِهِمْ وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْقَصَصِ أَنَّ:
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ هُوَ «آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا» وَأَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ سُلَيْمَانَ.
وَارْتِدَادُ الطَّرْفِ حَقِيقَتُهُ: رُجُوعُ تَحْدِيقِ الْعَيْنِ مِنْ جِهَةٍ مَنْظُورَةٍ تَحَوَّلَ عَنْهَا لَحْظَةً.
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِارْتِدَادِ لِأَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ النَّظَرِ بِإِرْسَالِ الطَّرْفِ وَإِرْسَالِ النَّظَرِ فَكَانَ الِارْتِدَادُ اسْتِعَارَةً مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْعِفْرِيتِ مِنَ الْجِنِّ وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ تَرْمُزُ إِلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يَتَأَتَّى بِالْقُوَّةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ مُكْتَسَبَةٌ لِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، وَأَنَّ قُوَّةَ الْعَنَاصِرِ طَبِيعَةٌ فِيهَا، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ بِالْعِلْمِ طَرِيقٌ لِاسْتِخْدَامِ الْقُوَى الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ اسْتِخْدَامَ بَعْضِهَا بَعْضًا. فَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا لِتَغَلُّبِ الْعِلْمِ عَلَى الْقُوَّةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مُسَخَّرَيْنِ لِسُلَيْمَانَ كَانَ مَا اخْتُصَّا بِهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَزِيَّةً لَهُمَا تَرْجِعُ إِلَى فَضْلِ سُلَيْمَانَ وَكَرَامَتِهِ أَنْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقُوَى. وَمَقَامُ نُبُوَّتِهِ يَتَرَفَّعُ عَنْ أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ الْإِتْيَانَ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَقَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ مَثَلَانِ فِي السُّرْعَةِ وَالْأَسْرَعِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي رَآهُ يَعُودُ إِلَى الْعَرْشِ.
وَالِاسْتِقْرَارُ: التَّمَكُّنُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَرَارِ. وَهَذَا اسْتِقْرَارٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ الِاسْتِقْرَارِ الْعَامِّ الْمُرَادِفِ لِلْكَوْنِ، وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِمَا إِذَا وَقَعَا خَبَرًا أَوْ وَقَعَا حَالًا، إِذْ يُقَدَّرُ
271
(كَائِنٌ) أَوْ (مُسْتَقِرٌّ) فَإِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَارَ لَيْسَ شَأْنُهُ أَنْ يُصَرَّحَ بِهِ. وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ فِي الْآيَةِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْفَضْلَ إِضَافَةً إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّهُ لِإِظْهَارِ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ إِذْ هُوَ عَبْدُ رَبِّهِ. فَلَيْسَ إِحْسَانُ اللَّهِ إِلَيْهِ إِلَّا فَضْلًا مَحْضًا، وَلَمْ يَشْتَغِلْ سُلَيْمَانُ حِينَ أُحْضِرَ لَهُ الْعَرْشُ بِأَنْ يَبْتَهِجَ بِسُلْطَانِهِ وَلَا بِمَقْدِرَةِ رِجَالِهِ وَلَكِنَّهُ انْصَرَفَ إِلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ فَضْلٍ وَأَعْطَاهُ مِنْ جُنْدٍ مُسَخَّرِينَ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ، فَمَزَايَا جَمِيعِهِمْ وَفَضْلِهِمْ رَاجِعٌ إِلَى تَفْضِيلِهِ.
وَضَرَبَ حِكْمَةً خُلُقِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ: مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ فَكُلٌّ مُتَقَرِّبٌ إِلَى اللَّهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ عَمَلَهُ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ يَرْجُو بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ وَرِضَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَيَرْجُو دَوَامَ التَّفَضُّلِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَالنَّفْعُ حَاصِلٌ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَلَا يَنْتَفِعُ اللَّهُ بِشَيْءٍ من ذَلِك.
فَالْكَلَام فِي قَوْلِهِ: يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لَامُ الْأَجْلِ وَلَيْسَتِ اللَّامَ الَّتِي يُعَدَّى بِهَا فِعْلُ الشُّكْرِ فِي نَحْوِ وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: ١٥٢]. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ كَفَرَ مَنْ كَفَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ وَهُوَ كَرِيمٌ فِي إِمْهَالِهِ وَرِزْقِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النَّمْل: ١٩].
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
فَإِنَّهُ غَنِيٌّ كَرِيمٌ، تَأْكِيدٌ لِلِاعْتِرَافِ بِتَمَحُّضِ الْفَضْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَضْلِ رَبِّي.
[٤١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤١]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١)
هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ مَلَئِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ.
وَالتَّنْكِيرُ: التَّغْيِيرُ لِلْحَالَةِ. قَالَ جَمِيلٌ:
وَقَالُوا نَرَاهَا يَا جَمِيلُ تَنَكَّرَتْ... وَغَيَّرَهَا الْوَاشِي فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا
أَرَادَ: تَنَكَّرَتْ حَالَةَ مُعَاشَرَتِهَا بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الْوَاشِينَ، بِأَنْ يُغَيِّرَ بَعْضَ أَوْصَافِهِ، قَالُوا:
أَرَادَ مُفَاجَأَتَهَا وَاخْتِبَارَ مَظَنَّتِهَا.
وَالْمَأْمُورُ بِالتَّنْكِيرِ أَهْلُ الْمَقْدِرَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَلَئِهِ.
ومِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَبْلَغُ فِي انْتِفَاءِ الِاهْتِدَاءِ مِنْ: لَا تَهْتَدِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
[٤٢، ٤٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٤٢ الى ٤٣]
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣)
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ.
دلّ قَوْله: فَلَمَّا جاءَتْ أَنَّ الْمَلِكَةَ لَمَّا بَلَغَهَا مَا أَجَابَ بِهِ سُلَيْمَانُ رُسُلَهَا أَزْمَعَتِ الْحُضُورَ بِنَفْسِهَا لَدَى سُلَيْمَانَ دَاخِلَةً تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَتِهِ، وَأَنَّهَا تَجَهَّزَتْ لِلسَّفَرِ إِلَى أُورْشَلِيمَ بِمَا يَلِيقُ بِمِثْلِهَا.
وَقَدْ طُوِيَ خَبَرُ ارْتِحَالِهَا إِذْ لَا غَرَضَ مُهِمًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا خَضَعَتْ لِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَجَاءَتْهُ رَاغِبَةً فِي الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِالْقَائِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ هُوَ سُلَيْمَانُ.
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣).
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النَّمْل: ٤٠] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، أَيْ هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي [النَّمْل: ٤١] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى أَهكَذا عَرْشُكِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا بِهِ جَوَابُهَا، أَيْ وَقِيلَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا، أَيْ قَالَ الْقَائِلُ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ، أَيْ قَالَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ فِي مَلَئِهِ عَقِبَ اخْتِيَارِ رَأْيِهَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا لَدَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ قَالَ بَعْضُ مَلَأِ سُلَيْمَانَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَلَعَلَّهُمْ تَخَافَتُوا بِهِ أَوْ رَطَنُوهُ بِلُغَتِهِمُ الْعِبْرِيَّةِ
273
بِحَيْثُ لَا تَفْهَمُهُمْ.
وَقَالُوا ذَلِكَ بَهِجِينَ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لِمَلَأِ مَلِكَةِ سَبَأٍ، أَيْ لَا نَنْسَى بِمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ بَهْرَجَاتِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ أَنَّنَا فِي حَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ أَفْضَلُ. وَأَرَادُوا بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحِكْمَةِ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ سُلَيْمَانَ وَرِجَالَ مَمْلَكَتِهِ وَتَشَارَكَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ سَبَأٍ فِي بَعْضِهِ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ أَنْشَئُوا بِهَا حَضَارَةً مُبْهِتَةً.
فَمَعْنَى: مِنْ قَبْلِها إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ قَوْمَهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَسْبَقَ فِي مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَحَضَارَةِ الْمُلْكِ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ ظَهَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَهْدِ مُوسَى، فَقَدْ سَنَّ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ، وَأَقَامَ لَهُمْ نِظَامَ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَّمَهُمْ أُسْلُوبَ الْحَضَارَةِ بِتَخْطِيطِ رُسُومِ مَسَاكِنِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ وَنِظَامِ الْجَيْشِ وَالْحَرْبِ وَالْمَوَاسِمِ وَالْمَحَافِلِ. ثُمَّ أَخَذَ ذَلِكَ يَرْتَقِي إِلَى أَنْ بَلَغَ غَايَةً بَعِيدَةً فِي مُدَّةِ سُلَيْمَانَ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَسْبَقَ إِلَى عِلْمِ الْحِكْمَةِ قَبْلَ أَهْلِ سَبَأٍ، وَإِنْ أُرِيدَ بِ مِنْ قَبْلِها الْقَبْلِيَّةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ وَهِيَ الْفَضْلُ وَالتَّفَوُّقُ فِي الْمَزَايَا وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِالْمَعْنَى كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّا أَوْسَعُ وَأَقْوَى مِنْهَا عِلْمًا، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْأَوَّلُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا»
أَيْ نَحْنُ الْأَوَّلُونَ فِي غَايَاتِ الْهُدَى، وَجَعَلَ مَثَلًا لِذَلِكَ اهْتِدَاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَقَالَ: «وَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ»
. فَكَانَ الْأَرْجَحُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مِنْ قَبْلِها أَنَّا فَائِتُونَهَا فِي الْعِلْمِ وَبَالِغُونَ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ. وَزَادُوا فِي إِظْهَارِ فَضْلِهِمْ عَلَيْهَا بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ الدِّينِيَّةِ، أَيْ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ دُونَهَا. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ الْقِدَمِ.
وَصَدَّهَا هِيَ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ صَدَّهَا مَعْبُودُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُتَعَلِّقُ الصَّدِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَكُنَّا مُسْلِمِينَ. وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُوَ الشَّمْسُ. وَإِسْنَادُ الصَّدِّ إِلَى الْمَعْبُودِ مَجَازٌ عَقْلِي لِأَنَّهُ سَبَب صَدِّهَا عَنِ التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١] وَقَوْلِهِ: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٩].
وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ مَرَّتَيْنِ فِي مَا كانَتْ تَعْبُدُ. وإِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَكَانَ ذَلِكَ التَّمَكُّنُ بِسَبَبِ الِانْحِدَارِ مِنْ سُلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَالشِّرْكُ مُنْطَبِعٌ فِي نَفْسِهَا بِالْوِرَاثَةِ، فَالْكُفْرُ قَدْ أَحَاطَ بِهَا
274
بِتَغَلْغُلِهِ فِي نَفْسِهَا وَبِنَشْأَتِهَا عَلَيْهِ وَبِكَوْنِهَا بَيْنَ قَوْمٍ كَافِرِينَ، فَمِنْ أَيْنَ يَخْلُصُ إِلَيْهَا الْهدى وَالْإِيمَان.
[٤٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٤]
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
جُمْلَةُ: قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِجُزْءٍ مِنَ الْقِصَّةِ. وَطُوِيَ ذِكْرُ تَرَحُّلِهَا إِلَى وُصُولِهَا فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِهَا أَمَامَ صَرْحِ سُلَيْمَانَ لِلدُّخُولِ مَعَهُ إِلَيْهِ أَوِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ.
لَمَّا أَرَاهَا سُلَيْمَانُ عَظَمَةَ حَضَارَتِهِ انْتَقَلَ بِهَا حَيْثُ تُشَاهِدُ أَثَرًا بَدِيعًا مِنْ آثَارِ الصِّنَاعَةِ الْحَكِيمَةِ وَهُوَ الصَّرْحُ. وَالصَّرْحُ يُطْلَقُ عَلَى صَحْنِ الدَّارِ وَعَرْصَتِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَرْحَ الْقَصْرِ الَّذِي ذُكِرَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَهُوَ بَيْتٌ وَعْرٌ لَهُ بَابَانِ كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ سُلَيْمَانُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالْقَائِل لَهَا: ْخُلِي الصَّرْحَ
هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي رفقتها.
وَالْقَائِل نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
هُوَ سُلَيْمَانُ كَانَ مُصَاحِبًا لَهَا أَوْ كَانَ يَتَرَقَّبُهَا وَزُجَاجُ الصَّرْحِ الْمُبَلَّطُ بِهِ الصَّرْحُ بَيْنَهُمَا.
وَذِكْرُ الدُّخُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرْحَ مَكَانٌ لَهُ بَابٌ. وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ: فَلَمَّا رَأَتِ الْبَيْتَ الَّذِي بَنَاهُ.
وَحِكَايَةُ أَنَّهَا حسبته لجة عِنْد مَا رَأَتْهُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ بَدَا لَهَا فِي حِينِ دُخُولِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّرْحَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَدَا لَهَا مِنَ الْمَدْخَلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ سَاحَةٌ مَعْنِيَّةٌ لِلنُّزْهَةِ فُرِشَتْ بِزُجَاجٍ شَفَّافٍ وَأَجْرِيَ تَحْتَهُ الْمَاءُ حَتَّى يَخَالَهُ النَّاظِرُ لُجَّةَ مَاءٍ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي
اخْتُصَّتْ بِهَا قُصُورُ سُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْيَمَنِ عَلَى مَا بَلَغَتْهُ مِنْ حَضَارَةٍ وَعَظَمَةَ بِنَاءٍ.
وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَن ابْن كثيرنْ ساقَيْها
بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ عِوَضًا عَنِ الْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَهْمِزُ حَرْفَ الْمَدِّ إِذَا وَقَعَ وَسَطَ الْكَلِمَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
275
لَحَبُّ الْمُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
فَهَمَزَ الْمُؤْقِدَانِ وَمُؤْسَى.
وَكَشْفُ سَاقَيْهَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا شَمَّرَتْ ثِيَابَهَا كَرَاهِيَةَ ابْتِلَالِهَا بِمَا حَسِبَتْهُ مَاءً.
فَالْكَشْفُ عَنْ سَاقَيْهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخَلْعِ خُفَّيْهَا أَوْ نَعْلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَشْمِيرِ ثَوْبِهَا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَا تَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ. وَالْمُمَرَّدُ: الْمُمَلَّسُ.
وَالْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِإِنَاءٍ مِنَ الزُّجَاجِ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلْخَمْرِ لِيَظْهَرَ لِلرَّائِي مَا قَرَّ فِي قَعْرِ الْإِنَاءِ مَنْ تَفَثِ الْخَمْرِ فَيَظْهَرُ الْمِقْدَارُ الصَّافِي مِنْهَا. فَسَمَّى ذَلِكَ الْإِنَاءَ قَارُورَةً لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ مَا يَقَرُّ فِي قَعْرِهِ، وَجُمِعَتْ عَلَى قَوَارِيرَ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى الطِّينِ الَّذِي تُتَّخَذُ مِنْهُ الْقَارُورَةُ وَهُوَ الزُّجَاجُ، فَالْقَوَارِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ الزُّجَاجِ، قَالَ بَشَّارٌ:
ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْتَ نِسْبَتَهُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرَ
يُرِيدُ أَنَّ نِسْبَتَهُ فِي الْعَرَبِ ضَعِيفَةٌ إِذَا حُرِّكَتْ تَكَسَّرَتْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الزُّجَاجِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ فِي سُورَة النُّور [٣٥].
لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
بَهَرَهَا مَا رَأَتْ مِنْ آيَاتٍ عَلِمَتْ مِنْهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ صَادِقٌ فِيمَا دَعَاهَا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمَتْ أَنَّ دِينَهَا وَدِينَ قَوْمِهَا بَاطِلٌ فَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا فِي اتِّبَاعِ الضَّلَالِ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ. وَهَذَا دَرَجَةٌ أُولَى فِي الِاعْتِقَادِ وَهُوَ دَرَجَةُ التَّخْلِيَةِ، ثُمَّ صَعَدَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي فَوْقَهَا وَهِيَ دَرَجَةُ التَّحَلِّي بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ فَقَالَتْ: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
فَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَذَا مَقَامُ التَّوْحِيدِ.
وَفِي قَوْلهَا: عَ سُلَيْمانَ
إِيمَانٌ بِالدِّينِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ سُلَيْمَانُ وَهُوَ دِينُ
276
الْيَهُودِيَّةِ، وَقَدْ أَرَادَتْ جَمْعَ مَعَانِي الدِّينِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِيَكُونَ تَفْصِيلُهَا فِيمَا تَتَلَقَّاهُ مِنْ سُلَيْمَانَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَام.
وَجُمْلَة: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
جَوَابٌ عَنْ قَول سُلَيْمَان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ.
وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَلُّدُ بِلْقِيسَ لِلتَّوْحِيدِ كَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا دَانَتْ لِلَّهِ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَ سَبَأٍ انْخَلَعُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَأَمَّا دُخُولُ الْيَهُودِيَّةِ بِلَادَ الْيَمَنِ فَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ. وَسَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ خَبَرِهَا وَرُجُوعِهَا إِلَى بِلَادِهَا، وَلِلْقَصَّاصِينَ أَخْبَارٌ لَا تَصِحُّ فَهَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ.
وَمَكَانُ الْعِبْرَةِ مِنْهَا الِاتِّعَاظُ بِحَالِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ، إِذْ لَمْ يَصُدَّهَا عُلُوُّ شَأْنِهَا وَعَظَمَةُ سُلْطَانِهَا مَعَ مَا أُوتِيَتْهُ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَذَكَاءِ الْعَقْلِ عَنْ أَنْ تَنْظُرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الدَّاعِي إِلَى التَّوْحِيدِ وَتُوقِنَ بِفَسَادِ الشِّرْكِ وَتَعْتَرِفَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ، فَمَا يَكُونُ إِصْرَارُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الْهَدْيُ الْإِسْلَامِيُّ إِلَّا لِسَخَافَةِ أَحْلَامِهِمْ أَوْ لِعَمَايَتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَتَصَلُّبِهِمْ فِيهِ. وَلَا أَصْلَ لِمَا يَذْكُرُهُ الْقَصَّاصُونَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ سُلَيْمَانَ تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ، وَلَا أَنَّ لَهُ وَلَدًا مِنْهَا. فَإِنَّ رَحْبَعَامَ ابْنَهُ الَّذِي خَلَفَهُ فِي الْمُلْكِ كَانَ مِنْ زَوْجَة عمّونيّة.
[٤٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)
هَذَا مَثَلٌ ثَالِثٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَقِصَّةِ مَلِكَةِ سَبَأٍ إِلَى ذِكْرِ ثَمُودَ وَرَسُولِهِمْ دُونَ ذِكْرِ عَادٍ لِمُنَاسَبَةِ جِوَارِ الْبِلَادِ، لِأَنَّ دِيَارَ ثَمُودَ كَانَتْ عَلَى تُخُومِ مَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ وَكَانَتْ فِي طَرِيقِ السَّائِرِ مِنْ سَبَأٍ إِلَى فِلَسْطِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعْقَبَ ذِكْرَ ثَمُودَ بِذِكْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُمْ أَدْنَى إِلَى بِلَادِ فِلَسْطِينَ، فَكَانَ
سِيَاقُ هَذِهِ الْقِصَصِ مُنَاسِبًا لِسِيَاقِ السَّائِرِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى فِلَسْطِينَ. وَلَمَّا كَانَ مَا حَلَّ بِالْقَوْمِ أَهَمَّ ذِكْرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ، وَأَمَّا الْمَفْعُولُ فَهُوَ مَحَلُّ التَّسْلِيَةِ، وَالتَّسْلِيَةُ غَرَضٌ تَبَعِيٌّ.
وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْإِرْسَالِ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ
لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَإِمَّا أَنْ يُبْنَى عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِوَعِيدِ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِهِ. وَحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي عَدَمِ الْعِظَةِ بِمَا جَرَى لِلْمُمَاثِلِينَ فِي حَالِهِمْ جَعَلَهُمْ كَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ.
وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَرْسَلْنا مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً إِلَخْ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ. فَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا لِإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ فَفَاجَأَ مِنْ حَالِهِمْ أَنْ أَعْرَضَ فَرِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَآمَنَ فَرِيقٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ انْقِسَامِهِمْ غَيْرَ مَرْضِيٍّ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَقَّبٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ لِإِنْكَارِ كَوْنِ أَكْثَرِهِمْ كَافِرِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ بَقَاءِ الْكُفْرِ فِيهِمْ كَافٍ فِي قُبْحِ فِعْلِهِمْ. وَحَالُهُمْ هَذَا مُسَاوٍ لِحَالِ قُرَيْشٍ تِجَاهَ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَأُعِيدَ ضَمِيرُ يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْمُثَنَّى وَهُوَ فَرِيقانِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] وَلَمْ يَقُلْ: اقْتَتَلَتَا.
وَالْفَرِيقَانِ هُمَا: فَرِيقُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَفَرِيقُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَفِيهِمْ صَالِحٌ. وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ تَعْقِيبٌ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَةِ. وَالِاخْتِصَامُ وَاقِعٌ مَعَ صَالِحٍ ابْتِدَاءً، وَمَعَ أَتْبَاعه تبعا.
[٤٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٦]
قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)
لَمَّا كَانَ الِاخْتِصَامُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَأْنِ صَالِحٍ ابْتِدَاءً جِيءَ بِجَوَابِ صَالِحٍ عَمَّا
278
تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مِنْ مُحَاوَلَتِهِمْ إِفْحَامَهُ بِطَلَبِ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَمَقُولُ صَالِحٍ هَذَا لَيْسَ هُوَ ابْتِدَاءَ دَعْوَتِهِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النَّمْل: ٤٥] وَلَكِنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ جُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ مَفْصُولَةً جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ جَوَابٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى مُرَاجَعَةِ صَالِحٍ قَوْمَهُ فِي شَأْنِ غُرُورِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنَّ تَأَخُّرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فَأْتِنَا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَعْرَاف:
٧٠] كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا مَوْعِظَةُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] بِحَالِ ثَمُودَ الْمُسَاوِي لِحَالِهِمْ
لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ مُمَاثِلَةٌ لِعَاقِبَةِ ثَمُودَ لِتَمَاثُلِ الْحَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:
٥٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إِنْكَارٌ لِأَخْذِهِمْ بِجَانِبِ الْعَذَابِ دُونَ جَانب الرَّحْمَة.
فالسيئة: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِالْحَالَةِ السَّيِّئَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنَةِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاهُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ، أَيْ تَصْدِيقُهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، فَالِاسْتِعْجَالُ: الْمُبَادَرَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَسْتَعْجِلُونَنِي مُتَلَبِّسِينَ بِسَيِّئَةِ التَّكْذِيبِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُمْ بِطَرَفِ التَّكْذِيبِ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَرَدِّدِينَ فِي أَمْرِي فَافْرِضُوا صِدْقِي ثُمَّ انْظُرُوا. وَهَذَا اسْتِنْزَالٌ بِهِمْ إِلَى النَّظَرِ بَدَلًا عَنِ الْإِعْرَاضِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ الَّتِي يَتَرَقَّبُونَ حُلُولَهَا، وَهِيَ مَا سَأَلُوا مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَبِ الْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ أَيْ حَالَةُ سَلَامَتِهِمْ مِنْ حُلُول الْعَذَاب فالسيئة مَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
279
وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ جَعْلِهِمْ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الْوَعِيدِ بِهِ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا امْتِدَادَ السَّلَامَةِ أَمَارَةً عَلَى إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَيَتَّقُوا حُلُولَ الْعَذَابِ، أَيْ لِمَ تَبْقَوْنَ عَلَى التَّكْذِيبِ مُنْتَظَرِينَ حُلُولَ الْعَذَابِ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا بِالتَّصْدِيقِ مُنْتَظَرِينَ عَدَمَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْمَرَّةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ صَالِحٍ إِيَّاهُمْ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِجَعْلِ يَقِينِهِمْ بِكَذِبِهِ مَحْمُولًا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ حَالٌ مِنَ السَّيِّئَةِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحٌ صَادِقًا فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لَعَجَّلَ لَهُمْ بِهِ، فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَعِيدٍ حَقٍّ، لِأَنَّ الْعَذَابَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ تَحْتَ احْتِمَالِهِ فِي مَجَارِي الْعُقُولِ. فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ مَجَازٌ فِي اخْتِيَارِ الْأَخْذِ بِجَانِبِ احْتِمَالِ السَّيِّئَةِ وَتَرْجِيحِهِ عَلَى الْأَخْذِ بِجَانِبِ الْحَسَنَةِ، فَكَأَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا الْحَسَنَةَ.
وَظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عِلَّةِ اسْتِعْجَالِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَعْلُولِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِعِلَّتِهِ.
ثُمَّ أُعْقِبَ الْإِنْكَارُ الْمُقْتَضِي طَلَبَ التَّخْلِيَةِ عَنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا مَضَى مِنْهُمْ وَيَرْجُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فَلَا يُعَذِّبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ جَعَلَ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لم يُذنب.
[٤٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٧]
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
هَذَا مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ مَعَ صَالِحٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ فِعْلَا الْقَوْلِ وَجَاءَ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأَصْلُ اطَّيَّرْنا تَطَيَّرْنَا فَقُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَسُكِّنَتْ لِتَخْفِيفِ
280
الْإِدْغَامِ وَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِابْتِدَاءِ الْكَلِمَةِ بِسَاكِنٍ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
وَمَعْنَى التَّطَيُّرِ: التَّشَاؤُمُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ التَّطَيُّرُ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ مِنْ سَانِحٍ وَبَارِحٍ. وَكَانَ التَّطَيُّرُ مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ وَثَمُودُ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَوْلُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكِيَ بِهِ مُمَاثَلَةً مِنْ كَلَامِهِمْ وَلَا يُرِيدُونَ التَّطَيُّرَ الْحَاصِلَ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وَقد تقدم مثله عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣١]. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشُّؤْمِ هُنَالِكَ.
وَأَجَابَ صَالِحٌ كَلَامَهُمْ بِأَنَّهُ وَمَنْ مَعَهُ لَيْسُوا سَبَبَ شُؤْمٍ وَلَكِنَّ سَبَبَ شُؤْمِهِمْ وَحُلُولِ الْمَضَارِّ بِهِمْ هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ.
وَاسْتُعِيرَ لِمَا حَلَّ بِهِمُ اسْمُ الطَّائِرِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، وَمُخَاطَبَةً لَهُمْ بِمَا يَفْهَمُونَ لِإِصْلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا بِكَ.
وعِنْدَ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ مُسْتَعَارًا لِتَحَقُّقِ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِهِ يُقَدِّرُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَهُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْأَعْرَافِ.
وَأَضْرَبَ بِ بَلْ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ بِأَنْ لَا شُؤْمَ بِسَبَبِهِ هُوَ وَسبب مَنْ مَعَهُ وَلَكِنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا ذَلِكَ قَوْمٌ فَتَنَهُمُ الشَّيْطَانُ فِتْنَةً مُتَجَدِّدَةً بِإِلْقَاءِ الِاعْتِقَادِ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَصِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ بِذَلِكَ. وَصِيغَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ الْفِتُونِ وَاسْتِمْرَارِهِ.
وَغَلَبَ جَانِبُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تُفْتَنُونَ عَلَى جَانِبِ الْغَيْبَةِ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ من الْغَيْبَة.
281

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٤٩]

وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
عَطَفَ جُزْءَ الْقِصَّةِ عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا. والْمَدِينَةِ: هِيَ حِجْرُ ثَمُودَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ الْمَعْرُوفُ مَكَانُهَا الْيَوْمَ بِدِيَارِ ثَمُودَ وَمَدَائِنَ صَالِحٍ، وَهِيَ بَقَايَا تِلْكَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَطْلَالٍ وَبُيُوتٍ مَنْحُوتَةٍ فِي الْجِبَالِ. وَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَتَبُوكَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَقَدْ مَرَّ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَسِيرِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَأَوْا فِيهَا آبَارًا نَهَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ مِنْهَا إِلَّا بِئْرًا وَاحِدَةً أَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ بِهَا
وَقَالَ: «إِنَّهَا الْبِئْرُ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا نَاقَةُ صَالِحٍ»
. وَالرَّهْطُ: الْعَدَدُ مِنَ النَّاسِ حَوَالَيِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ مِثْلُ النَّفَرِ. وَإِضَافَةُ تِسْعَةٍ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْجُزْءِ إِلَى اسْمِ الْكُلِّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَهُوَ إِضَافَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِثْلَ: خَمْسُ ذَوْدٍ. وَاخْتَلَفَ أَيِمَّةُ النَّحْوِ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهَا سَمَاعِيَّةٌ.
وَكَانَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ مِنْ عُتَاةِ الْقَوْمِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَسْمَائِهِمْ عَلَى رِوَايَاتٍ هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْقَصَّاصِينَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ مَا يُعْتَمَدُ. وَاشْتُهِرَ أَنَّ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ اسْمُهُ «قدار» بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَدْ تَشَاءَمَ بَعْضُ النَّاسِ بِعَدَدِ التِّسْعَةِ بِسَبَبِ قِصَّةِ ثَمُودَ وَهُوَ مِنَ التَّشَاؤُمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
والْأَرْضِ: أَرْضُ ثَمُودَ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ.
وَعَطْفُ لَا يُصْلِحُونَ عَلَى يُفْسِدُونَ احْتِرَاسٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِلْإِفْسَادِ وَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ خَلَطُوا إِفْسَادًا بِإِصْلَاحٍ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا صِفَةٌ لِ تِسْعَةُ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِ كانَ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ لِ كانَ.
وَفِي الْمَدِينَةِ مُتَعَلِّقٌ بِ كانَ ظَرْفًا لَغْوًا وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ وَالْمَعْنَى: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
وتَقاسَمُوا فِعْلُ أَمْرٍ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَقَاسَمُوا، أَيِ ابْتَدَأَ بَعْضُهُمْ
282
فَقَالَ:
تَقَاسَمُوا. وَهُوَ يُرِيدُ شُمُولَ نَفْسِهِ إِذْ لَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ تَوَافَقُوا عَلَيْهِ وَأَعَادُوهُ فَصَارَ جَمِيعُهُمْ قَائِلًا ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى التِّسْعَةِ.
وَالْقَسَمُ بِاللَّهِ يَدُلُّ على أَنهم كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ الْآلِهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَصِهِمْ فِيمَا مَرَّ مِنَ السُّورِ.
ولَنُبَيِّتَنَّهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى صَالِحٍ. وَالتَّبْيِيتُ وَالْبَيَاتُ: مُبَاغَتَةُ الْعَدُوِّ لَيْلًا. وَعَكْسُهُ التَّصْبِيحُ: الْغَارَةُ فِي الصَّبَاحِ، وَكَانَ شَأْنُ الْغَارَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ تَكُونَ فِي الصَّبَاحِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا بِحُلُولِ الْعَدُوِّ: «يَا صَبَاحَاهُ»، فَالتَّبْيِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ غَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى بَيْتِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُونَهُ وَأَهْلَهُ غَدْرًا مِنْ حَيْثُ لَا يُعْرُفُ قَاتِلُهُ ثُمَّ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ قَتَلُوهُمْ وَلَا شَهِدُوا مَقْتَلَهُمْ.
وَالْمَهْلِكُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَهْلَكَ الرُّبَاعِيِّ، أَيْ شَهِدْنَا إِهْلَاكَ مَنْ أَهْلَكَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ:
وَإِنَّا لَصادِقُونَ هُوَ مِنْ جملَة مَا هيّأوا أَنْ يَقُولُوهُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَيْ وَنُؤَكِّدُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ عَلَى أَنَّهُمْ صَادِقُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الَّتِي قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمِّ التَّاءِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَمْرُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَهَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنَقُولَنَّ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ فِي أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبِضَمِّ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: مُهْلَكَ بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام وَهُوَ مصدر الإهلاك أَو مَكَانَهُ أَو زَمَانه. وقرأه حَفْص بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام وَيحْتَمل الْمصدر وَالْمَكَان وَالزَّمَان. وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم بِفَتْح الْمِيم وَفتح اللَّام فَهُوَ مصدر لَا غير.
وَوَلِيُّ صَالِحٍ هُمْ أقرب الْقَوْم لَهُ إِذَا رَامُوا الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ.
وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ سَبَبَ
283
ذِكْرِهِ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ فِي وَقْتٍ تَآمَرَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ التَّآمُرُ
الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَال: ٣٠] فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِتَآمُرِ الرَّهْطِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَمَكْرِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَى بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تُشَابُهًا وَتَرَى تَكْرِيرَ ذِكْرِ مَكْرِهِمْ وَمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، وَذِكْرِ أَنَّ فِي قِصَّتِهِمْ آيَةً لقوم يعلمُونَ.
[٥٠- ٥٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٣]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
سَمَّى اللَّهُ تَآمُرَهُمْ مَكْرًا لِأَنَّهُ كَانَ تَدْبِيرَ ضُرٍّ فِي خَفَاءٍ. وَأَكَّدَ مَكْرَهُمْ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّتِهِ فِي جِنْسِ الْمَكْرِ، وَتَنْوِينِهِ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْمَكْرُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَكْرٌ مَجَازِيٌّ. اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَكْرِ لِمُبَادَرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَبْيِيتِ صَالِحٍ وَأَهْلِهِ، وتأخيره استئصالهم إِلَى الْوَقْتُ الَّذِي تَآمَرُوا فِيهِ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ لِشَبَهِ فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ فِي تَأْجِيلِ فِعْلٍ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْعَارِ مَنْ يُفْعَلُ بِهِ.
وَأُكِّدَ مَكْرُ اللَّهِ وَعُظِّمَ كَمَا أُكِّدَ مَكْرُهُمْ وَعُظِّمَ، وَذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ جِنْسَهُ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا يُدَانِيهِ عَذَابُ النَّاسِ فَعَظِيمُهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْجَلَالَةِ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَأْكِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكْرِ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْصَالِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَلَا تَجْرِيدٌ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاقْتِرَانُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ
284
الِاعْتِبَارَ بِمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرٌ قَلْبِيٌّ، وَقد علق عَن الْمَفْعُولَيْنِ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا
يُثِيرُهُ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ مِنْ سُؤَالٍ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بَدَلًا مِنْ عاقِبَةُ. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِلِاهْتِمَامِ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي دَمَّرْناهُمْ لِلرَّهْطِ. وَعُطِفَ قَوْمَهُمْ عَلَيْهِمْ لِمُوَافَقَةِ الْجَزَاءِ لِلْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ مَكَرُوا بِصَالِحٍ وَأَهْلِهِ فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَقَوْمَهُمْ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ. وَتَقَدَّمَ إِنْجَاءُ صَالِحٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ حِينَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِتَمَتُّعٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً عَلَى جُمْلَةِ: دَمَّرْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ.
وَالْإِشَارَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَقُومُ مَقَامَ حُضُورِهِ فَإِنَّ دِيَارَ ثَمُودَ مَعْلُومَةٌ لِجَمِيعِ قُرَيْشٍ وَهِيَ فِي طَرِيقِهِمْ فِي مَمَرِّهِمْ إِلَى الشَّامِ.
وَانْتَصَبَ خاوِيَةً عَلَى الْحَالِ. وَعَامِلُهَا مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢].
وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، وَمَصْدَرُهُ الْخَوَاءُ، أَيْ فَالْبُيُوتُ بَاقٍ بَعْضُهَا فِي الْجِبَالِ لَا سَاكِنَ بِهَا.
وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَانَ خَوَاؤُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ، فَذَلِكَ ظُلْمٌ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَظُلْمٌ لِلرَّسُولِ بِتَكْذِيبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ.
وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ عَمَلَهُمْ بِوَصْفِ الظُّلْمِ مِنْ بَيْنِ عِدَّةِ أَحْوَالٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كُفْرُهُمْ
285
كَالْفَسَادِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي خَرَابِ بِلَادِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الظُّلْمَ يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَتَلَا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ أَخْذِ كُلِّ مَا يُحْتَمَلُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَنَزِيدُهُ هُنَا مَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا فِي نَظَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ لَمَّا كَانَ قِوَامَ مَاهِيَّاتِهَا حَاصِلًا فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ كَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْهَا انْتِسَابٌ وَتَقَارُبٌ يُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. فَالشِّرْكُ مَثَلًا حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَكُونُ بِهَا جِنْسًا عَقْلِيًّا وَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ يَنْتَسِبُ إِلَى حَقَائِقَ أُخْرَى مِثْلُ الظُّلْمِ، أَيْ الِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّاسِ بِأَخْذِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمِثْلُ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ، وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١]، وَمِثْلُ الْكِبْرِ وَمِثْلُ الْإِسْرَافِ فَإِنَّهُمَا مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: فَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الشِّرْكِ بِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ عِدَّةَ فَظَائِعَ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِسَابِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ فَسَادَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُنَا بِالظُّلْمِ وَهُوَ كَثِيرٌ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ جِنْسَ الظُّلْمِ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ، نَاهِيكَ أَنَّ الشِّرْكَ مِنْ أَنْوَاعِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: ٢٨] أَيْ هُوَ مُتَأَصِّلٌ فِي الشِّرْكِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَالْكَاذِبِينَ بِالتَّوْبَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ. وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ عَلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لِرُسُلِهِ.
وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ يَعْنِي آيَةً لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةُ إِنْ لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا فَهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ (قَوْمٍ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَقْلِ حَتَّى كَانَ الْعَقْلُ مِنْ صِفَتِهِ الْقَوْمِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
286
وَفِي تَأْخِيرِ جُمْلَةِ: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ عَنْ جُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ طَمْأَنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِمْ مِمَّا تَوَعَّدَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا نَجَّى الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنْ ثَمُودَ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ صَالِحٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ ثَمُودَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَخَرَجُوا وَنَزَلُوا فِي مَوْضِعِ الرَّسِّ فَكَانَ أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقيل: نزلُوا شاطىء الْيَمَنِ وَبَنَوْا مَدِينَةَ حَضْرَمَوْتَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ صَالِحًا نَزَلَ بِفِلَسْطِينَ. وَكُلُّهَا أَخْبَارٌ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا.
وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي وَكانُوا يَتَّقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ من التَّقْوَى.
[٥٤، ٥٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
عَطَفَ لُوطاً عَلَى صالِحاً فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [النَّمْل: ٤٥]. وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمَعْطُوفِ تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: إِلى ثَمُودَ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ لَيْسَ قَيْدًا لِمُتَعَلَّقِهِ، وَلَكِنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمَفَاعِيلِ فَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولٍ آخَرَ. فَإِنَّ الْإِتْبَاعَ فِي الْإِعْرَابِ يُمَيِّزُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَمْ يُذْكَرِ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُنَا كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ قَوْمِ لُوطٍ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِيمَا عَدَا التَّكْذِيبَ وَالشِّرْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ وَلُوطاً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ لُوطًا، لِأَنَّ وُجُودَ إِذْ بَعْدَهُ يُقَرِّبُهُ مِنْ نَحْوِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَة: ٣٠].
وَتَعْقِيبُ قِصَّةِ ثَمُودَ بِقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ جَارٍ عَلَى مُعْتَادِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ قِصَصِ هَذِهِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانُوا مُتَأَخِّرِينَ فِي الزَّمَنِ عَنْ ثَمُودَ.
وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَثِيرُ سُؤَالًا هُنَا هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ دُونَ قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ. وَقَدْ بَيَّنْتُهُ آنِفًا أَنَّهُ لِمُنَاسَبَةٍ مُجَاوِرَةِ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ لِمَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ وَوُقُوعِهَا بَيْنَ دِيَارِ ثَمُودَ وَبَيْنَ فِلَسْطِينَ وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ مَمَرَّ قُرَيْشٍ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، قَالَ
287
تَعَالَى وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: ٧٦] وَقَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات:
١٣٧، ١٣٨].
وَظَرْفُ إِذْ يَتَعَلَّقُ بِ (أَرْسَلْنَا) أَوْ بِ (اذْكُرْ) الْمُقَدَّرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْتُونَ إِنْكَارِيٌّ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حَالٌ زِيَادَةٌ فِي التَّشْنِيعِ، أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَنًا يُبْصِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ التَّجَاهُرَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا وَذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بالنواهي.
وَقَوله: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ [٨١] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ، فَهُنَا جِيءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَمَا فِي الْأَعْرَافِ جَاءَ الْخَبَرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ لُوطٌ قَدْ قَالَ لَهُمُ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ تَفَنُّنًا مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَكِلَا الْأُسْلُوبَيْنِ يَقَعُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ.
عَلَى أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَأَبَا عَمْرٍو وَابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَأَبَا بَكْرٍ عَن عَاصِم قرأوا مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِهَمْزَتَيْنِ فَاسْتَوَتِ الْآيَتَانِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ [٨٠] أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْقِصَّةِ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ ذِكْرِ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ ذِكْرِهِ هُنَا.
وَنَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ أُفْنِ الرَّأْيِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ.
وَفِي الْأَعْرَافِ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ.
وَفِي إِقْحَامِ لَفْظِ قَوْمٌ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النَّمْل: ٥٢].
288
وَرُجِّحَ فِي قَوْلِهِ: تَجْهَلُونَ جَانِبُ الْخِطَابِ عَلَى جَانِبِ الْغَيْبَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَجْهَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَكِلَاهُمَا مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَقْوَى دلَالَة كَمَا قرىء فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النَّمْل: ٤٧].
289

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَاتِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٢]، وَخَالَفَتْهَا هَذِهِ بِوُقُوعِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ دُونَ الْوَاوِ، وَبِقَوْلِهِ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ عوض أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] وَبِقَوْلِهِ قَدَّرْناها عوض كانَتْ [الْأَعْرَاف: ٨٣]، وَبِقَوْلِهِ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ عِوَضَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٤].
فَأَمَّا مَوْقِعُ الْفَاءِ هُنَا فَهُوَ لِتَعْقِيبِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَعْقِيبَ جُزْءِ
الْقِصَّةِ عَلَى أَوَّلِهِ فَلَا تُفِيدُ إِلَّا تَعْقِيبَ الْإِخْبَارِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُسَاوِيَةٌ لِلْوَاوِ. وَلَكِنْ أُوثِرَ حَرْفُ التَّعْقِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِهَا عَلَى نَسْجِ مَا حُكِيَتْ بِهِ قِصَّةُ ثَمُودَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ [النَّمْل: ٤٥]، فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَعْرَافِ تَفَنُّنٌ فِي الْحِكَايَةِ، وَمُرَاعَاةٌ لِلنَّظِيرِ فِي النَّسْجِ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ قِصَصِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَة من مُقَدمَات هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ دون أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ هُوَ تَآمُرُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ آلِ لُوطٍ فَمَا هُنَا حِكَايَةٌ بِمُرَادِفِ كَلَامِهِمْ وَمَا فِي الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَالْغَرَضُ هُوَ التَّفَنُّنُ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ قَدَّرْناها هُنَا وَبَيْنَ كانَتْ فِي الْأَعْرَافِ [٨٣]. وَأَمَّا
الِاخْتِلَافُ بَيْنَ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ وَبَيْنَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف:
٨٤] فَهُمَا عِبْرَتَانِ بِحَالِهِمْ تَفَرَّعَتَا عَلَى وَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ فَوُزِّعَتِ الْعِبْرَتَانِ عَلَى الْآيَتَيْنِ لِئَلَّا يَخْلُوَ تَكْرِيرُ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِآلِ لُوطٍ لُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ مُلَاحَظٌ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٦]، أَرَادَ فِرْعَوْن وَآله.
[٥٩]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٥٩]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لَمَّا اسْتَوْفَى غَرَضُ الِاعْتِبَارِ وَالْإِنْذَارِ حَقَّهُ بِذِكْرِ عَوَاقِبِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ وَهِيَ أَشْبَهُ أَحْوَالًا بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ وَحَفَافَيْهِ تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ بِالْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقِّنُهُ مَاذَا يَقُولُهُ عَقِبَ الْقِصَصِ وَالْمَوَاعِظِ السَّالِفَةِ اسْتِخْلَاصًا وَاسْتِنْتَاجًا مِنْهَا، وَشُكْرُ اللَّهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. أُمِرَ الرَّسُولُ بِالْحَمْدِ عَلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْقَصَصُ السَّابِقَةُ مِنْ نَجَاةِ الرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ الْحَالِّ بِقَوْمِهِمْ وَعَلَى مَا أَعْقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى صَبْرِهِمْ مِنَ النَّصْرِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ. وَعَلَى أَنْ أَهْلَكَ الْأَعْدَاءَ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: ٤٥] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٣] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ [٩٣] وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
الْآيَةَ. فَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ. فَقَوْلُهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْشَاءِ حَمْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
وَعُطِفَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ مِنَ الْحَمْدِ أَمْرٌ بِأَنْ يُتْبِعَهُ بِالسَّلَامِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ قَدْرًا لِقَدْرِ مَا تَجَشَّمُوهُ فِي نَشْرِ الدِّينِ الْحَقِّ.
وَأَصْلُ سَلامٌ سَلَّمْتُ سَلَامًا، مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَأُقِيمَ
6
مَفْعُولُهُ الْمُطْلَقُ بَدَلًا عَنْهُ. وَعَدَلَ عَنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِلَى تَصْيِيرِهِ مُبْتَدَأً مَرْفُوعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالسَّلَامُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ يَقُولُهُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ بِلَفْظِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكَ. وَمَعْنَاهُ سَلَامَةٌ وَأَمْنٌ ثَابِتٌ لَكَ لَا نُكُولَ فِيهِ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ (عَلَى) مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَمَا فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَأَصْلُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ هُوَ التَّأْمِينُ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِذْ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَلَاقَيْنِ إِحَنٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِغْرَاءٌ بِالْآخَرِ، فَكَانَ لَفْظُ (السَّلَامُ عَلَيْكَ) كَالْعَهْدِ بِالْأَمَانِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمُفَاتَحَةُ بِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّلَطُّفِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَنِيَّةِ الْإِعَانَةِ وَالْقِرَى، شَاعَ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَنَحْوِهَا عِنْدَ قَصْدِ الْإِعْرَابِ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالتَّكْرِيمِ وَتُنُوسِيَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَذْلِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، فَصَارَ النَّاسُ يَتَقَاوَلُونَهَا فِي غَيْرِ مَظَانِّ الرِّيبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَشَاعَتْ فِي الْعَرَبِ فِي أَحْيَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ إِعْرَابٌ عَنْ إِضْمَارِ الْخَيْرِ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّلَامَةِ فِي حَيَاتِهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦١] وَصَارَ قَوْلُ: السَّلَامُ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوا كَلِمَةَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) بِمُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فَانْتَقَلَتْ كَلِمَةُ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِهَذَا إِلَى طَوْرٍ آخَرَ مِنْ أَطْوَارِ اسْتِعْمَالِهَا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَحِيَّةً لِلْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْآنُ السَّلَامَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِ مُعَامَلَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِكَرَامَةِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لِلَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى إِذْ أَنْطَقَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَم: ٣٣]. وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَم: ٣٣]، وَقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
7
٥٧، ٥٨].
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ السَّلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَأَيْضًا أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهَا فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: ٥٦] أَيْ قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيءُ لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ قَدْ يُؤْتَى بِهَا لِلدَّلَالَةِ على قَول منحوب من صِيغَةِ التَّفْعِيلِ، فَقَوْلُهُ: سَلِّمُوا تَسْلِيماً مَعْنَاهُ: قُولُوا كَلِمَةَ السَّلَامِ.
مِثْلَ بَسْمَلَ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَكَبَّرَ، إِذَا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
وَفِي الْحَدِيثِ «تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»
. وَمَعْنَى وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إِنْشَاءُ طَلَبٍ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ ذِكْرًا حَسَنًا فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى.
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ غَائِبٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الدُّعَاءُ لَهُ بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَقَدْ أُزِيلَ مِنْهُ مَعْنَى التَّحِيَّةِ لَا مَحَالَةَ وَتَعَيَّنَ لِلدُّعَاءِ، وَلِهَذَا نَهَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسلمين. عَن أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ السَّلَامُ عَلَى فلَان وَفُلَان. فَقَالَ لَهُمْ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ» أَيْ لَا مَعْنَى لِلسَّلَامِ عَلَى اللَّهِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَدْعُوُّ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يُطْلَبُ لَهُ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فَقَدْ عَيَّنَ لَهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لِيَقُولَهَا يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ عِبَادَهُ الَّذِينَ اصْطَفَى بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَحُسْنِ الذِّكْرِ، إِذْ قُصَارَى مَا يَسْتَطِيعُهُ الْحَاضِرُ مِنْ جَزَاءِ الْغَائِبِ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِ أَنْ يَبْتَهِلَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَنْفَحَهُ بِالْكَرَامَةِ.
وَالْعِبَادُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ فِي مُقَدِّمَتِهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا فِي صِيغَةِ التَّشَهُّدِ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ». وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ هَذَا مِمَّا أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام أَن يَقُوله فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ
8
لِأَنَّ الْعِبَادَ الَّذِينَ اصطفاهم الله جاؤوا كُلُّهُمْ بِحَاصِلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَأُمِرَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَامِعِ
الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَمَّا تُشْرِكُونَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُفِيضُ النِّعَمَ وَلَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ، فَلَيْسَ هَذَا لِقَصْدِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْجَاءِ وَإِلْزَامِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَئِهِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ ابْتِدَاءُ النَّظَرِ فِي التَّحْقِيقِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ. فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ فُورَكَ إِنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ أَوَّلُ النَّظَرِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى النَّظَرِ ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَهُ الْأَدِلَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَقَدْ نَاسَبَ إِجْمَالَهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ جَامِعٌ لِمَا يَأْتِي مِنَ التَّفَاصِيلِ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ. فَقِيلَ: آللَّهُ خَيْرٌ. وَجِيءَ فِيمَا بَعْدُ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي صِلَاتِهِ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَجَاءَ خَيْرٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِقَصْدِ مُجَارَاةِ مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِحَيْثُ كَانَ لَهُمْ حَظٌّ وَافِرٌ مِنَ الْخَيْرِ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَّرَ بِ خَيْرٌ لِإِيهَامِ أَنَّ الْمَقَامَ لِإِظْهَارِ رُجْحَانِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَصْنَامِهِمِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَإِ مَعَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ آثَرُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. وَالْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إِلَى إِيثَارِهِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْأَفْضَلِ فِي الْخَيْرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى الْخَطَإِ الْمُفْرِطِ وَالْجَهْلِ الْمُوَرِّطِ لِتَنْفَتِحَ بَصَائِرُهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِنْ أَرَادُوا اهتداء. وَالْمعْنَى: ءَاللَّه الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ أم مَا تشركونهم مَعَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِقَرِينَةِ وُجُودِ أَمِ الْمُعَادِلَةِ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ التَّهَكُّمَ يُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ.
وَهَذَا الْكَلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ جَمِيعِهَا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ كَمَا سَتَعْلَمُهُ..
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ
9
بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهِ غَيْبَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَامِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يُشْرِكُونَهَا إِيَّاهُ، أَي أصنامكم.
[٦٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٠]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ أَوْ لَفْظِهِ بَعْدَهَا لِأَنَّ (أَمْ) لَا تُفَارِقُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. انْتَقَلَ بِهَذَا الْإِضْرَابِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ التَّهَكُّمِيِّ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ آللَّهُ خَيْرٌ أما تشركون [النَّمْل: ٥٩]، إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ. عَدَّدَ اللَّهُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَمِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ. فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ لِأَنَّهُ ذكرهم بِخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلَّ الْخَلَائِقِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ مِنَ النَّاسِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، فَهُوَ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ إِيجَادِهِمْ وَإِيجَادِ مَا بِهِ قوام شؤونهم فِي الْحَيَاةِ، وَبِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، كَمَا عَدَّدَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الرّوم:
٤٠].
وَمن لِلِاسْتِفْهَامِ. وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ جُمْلَةٌ خَلَقَ السَّماواتِ.. إِلَخْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَقْدِيرَ فِي الْكَلَامِ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَمِيعُ مُتَابِعِيهِ إِلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ آللَّهُ خَيْرٌ [النَّمْل: ٥٩] وَأَنَّ بَعْدَ (أَمْ) هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أمّن خلق السَّمَوَات إِلَخْ خَيْرٌ أَمْ مَا تُشْرِكُونَ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَلَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ لِأَنَّهُ يكون من جُمْلَةِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» فَلَا يَجْدُرُ بِهِ إِضْرَابُ الِانْتِقَالِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نِهَايَتِهِ فِي أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، فَهُوَ تَقْرِيرٌ
10
لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُنْبِتَ وَالرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ كَمَا سَيَأْتِي، أَيْ مِنْ غَرَضِ الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ إِلَى التَّفْصِيلِ.
وَالْخِطَابُ بِ لَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْركين للتعريض بِأَنَّهُمْ مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.
وَذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ، وَلِقَطْعِ شُبْهَةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمُنْبِتَ لِلشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ رِزْقُنَا هُوَ الْمَاءُ، اغْتِرَارًا بِالسَّبَبِ فَبُودِرُوا بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَهُوَ خَالِقُ الْمُسَبَّبَاتِ بِإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَارِضِ الْعَارِضَةِ لِتَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ وَبِتَوْفِيرِ الْقُوَى الْحَاصِلَةِ فِي الْأَسْبَابِ، وَتَقْدِيرِ الْمَقَادِيرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَسْبَابِ، فَقَدْ يُنْزِلُ الْمَاءَ بِإِفْرَاطٍ فَيَجْرُفُ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ أَوْ يَقْتُلُهُمَا، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَين قَوْله وَأَنْزَلَ وَقَوله فَأَنْبَتْنا تَنْبِيهًا
عَلَى إِزَالَةِ الشُّبْهَةِ.
وَنُونُ الْجمع فِي فَأَنْبَتْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ هُنَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْنَادُ الْإِنْبَاتِ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْصَرِفَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ إِلَى الْمَاءِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْمُنْبِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ التَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ رِعَايَتِهِمْ نِعَمَهُ.
وَالْإِنْبَاتُ: تَكْوِينُ النَّبَاتِ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْبُسْتَانُ وَالْجَنَّةُ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ وَعِنَبٌ. سُمِّيَتْ حَدِيقَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْدِقُونَ بِهَا حَائِطًا يَمْنَعُ الدَّاخِلَ إِلَيْهَا صَوْنًا لِلْعِنَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّخْلِ الَّذِي يَعْسُرُ اجْتِنَاءُ ثَمَرِهِ لِارْتِفَاعِ شَجَرِهِ فَهِيَ بِمَعْنَى: مُحْدَقٌ بِهَا. وَلَا تُطْلَقُ الْحَدِيقَةُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ.
وَالْبَهْجَةُ: حُسْنُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّ النَّاظِرَ يَبْتَهِجُ بِهِ.
وَمَعْنَى مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَيْسَ فِي مُلْكِكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَ تِلْكَ الْحَدَائِقِ، فَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِلْمِلْكِ وأَنْ تُنْبِتُوا اسْمُ كانَ ولَكُمْ خَبَرُهَا. وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى الِاسْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ مِلْكِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ هُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَلْقِ
11
وَالرِّزْقِ وَالْإِنْعَامِ لِلَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ يَنْتِجُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ مَعَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ تُفِيدُ مَعْنَى (لَكِنَّ) بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْكَارُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ فَكَانَ حَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَجِيءَ بِالِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ وَقَوْلُهُ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلِيلِ مَعَ أَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فَهُمْ مُكَابِرُونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ، فَهُمْ يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ غَيْرَهُ عَدِيلًا مَثِيلًا لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ يَعْدِلُونَ مِنْ عَدَلَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ عَدَلَ الَّذِي يُعَدَّى بِ (عَنْ).
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: «قَاسِطٌ عَادِلٌ»، فَظَنُّوهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ: أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنّ: ١٥] أَيْ وَذَلِكَ قَرِينَةٌ على أَن المرار بِ (عَادِلٌ) أَنَّهُ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ مَعَ وضوح دلَالَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.
وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ أَوْضَحَ الدَّلَالَاتِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَصَفَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِأَنَّهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ مُكَابَرَةٍ عُدُولًا عَنِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان:
٢٥].
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَمْ يَسْتَنِيرُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَلَا أَقْلَعُوا بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالدَّلَائِلِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ إِيمَاءٌ إِلَى تَمَكُّنِ صِفَةِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة.
[٦١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)
أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِثْلُ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ
12
الْمَشُوبِ بِالِامْتِنَانِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُجَرَّدِ بِدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ وَبِتَدْبِيرِهِ نِظَامَهَا حَتَّى لَا يَطْغَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَخْتَلَّ نِظَامُ الْجَمِيعِ.
وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِثْبَاتَ عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَحِكْمَةِ الصنع لم يَجِيء خِلَالَهُ بِخِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاء [النَّمْل: ٦٠] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ لَا يَخْلُو مَنْ لُطْفٍ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَرَادَهُ خَالِقُهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ سَوْقِ الدَّلِيلِ هُنَا.
وَالْقَرَارُ: مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا ثَبَتَ وَسَكَنَ. وَوَصَفَ الأَرْض بِهِ للْمُبَالَغَة، أَيْ ذَاتُ قَرَارٍ.
وَالْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً قَارَّةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ. وَهَذَا تَدْبِيرٌ عَجِيبٌ وَلَا يُدْرَكُ تَمَامُ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ سَابِحَةٌ فِي الْهَوَاءِ مُتَحَرِّكَةٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ قَارَّةٌ فِيمَا يَبْدُو لِسُكَّانِهَا فَهَذَا تَدْبِيرٌ أَعْجَبُ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ. وَلَوْلَا قَرَارُهَا لَكَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُتَزَلْزِلِينَ مُضْطَرِبِينَ وَلَكَانَتْ أَشْغَالُهُمْ مُعَنِّتَةً لَهُمْ.
وَمَعَ جَعْلِهَا قَرَارًا شَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ فَجَعَلَهَا خِلَالَهَا. وَخِلَالُ الشَّيْءِ: مُنْفَرَجُ مَا بَيْنَ أَجْزَائِهِ. وَالْأَنْهَارُ تَشُقُّ الْأَرْضَ فِي أخاديد فتجري خلال الْأَرْضُ.
وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، جَمْعُ رَاسٍ وَهُوَ الثَّابِتُ. وَاللَّامُ فِي لَها لَامُ الْعِلَّةِ، أَيِ الرَّوَاسِي لِأَجْلِهَا أَيْ لِفَائِدَتِهَا، فَإِنَّ فِي تَكْوِينِ الْجِبَالِ حِكْمَة لدفع الملاسة عَنِ الْأَرْضِ لِيَكُونَ سَيْرُهَا فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ مُعَدَّلًا غَيْرَ شَدِيدِ السُّرْعَةِ وَبِذَلِكَ دَوَامُ سَيْرِهَا.
وَجَعَلَ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ بَدِيعِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ حَاجِزٌ مَعْنَوِيٌّ حَاصِلٌ مَنْ دَفْعِ كِلَا الْمَاءَيْنِ: أَحَدِهِمَا الْآخَرَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِهِ، بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الثِّقْلِ النِّسْبِيِّ لِاخْتِلَافِ الْأَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا الْمَاءُ الْمِلْحُ وَالْمَاء العذب. فالحاحز حَاجِزٌ مِنْ طَبَعِهِمَا وَلَيْسَ جِسْمًا آخَرَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا، وَتقدم فِي سُورَة النَّحْلِ.
وَهَذَا الْجَعْلُ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَجْزَ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي خَلْقَهُمَا وَخَلْقَ الْمُلُوحَةِ وَالْعُذُوبَةِ فِيهِمَا.
ثُمَّ ذَيَّلَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِالِاسْتِدْرَاكِ بِجُمْلَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِمَا ذُيِّلَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ
13
الَّذِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ تَعْدِيدًا لِلْإِنْكَارِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَأُوثِرَ هُنَا نَفْيُ صِفَةِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ لِقِلَّةِ مَنْ يَنْظُرُ فِي دَقَائِقِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ وَخَصَائِصِهَا مِنْهُمْ فَإِنَّ اعْتِيَادَ مُشَاهَدَتِهَا مَنْ أَوَّلِ نَشْأَةِ النَّاظِرِ يُذْهِلُهُ عَمَّا فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ بَدِيعِ الصُّنْعِ. فَأَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي بِمَا فِيهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِك فهم يقرأون آيَاتِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِيهَا الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ.
وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا تَخْلُو عَنْ نِعْمَةٍ مِنْ وَرَائِهَا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَلَكِنَّهَا سِيقَتْ هُنَا لِإِرَادَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا للامتنان.
[٦٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٢]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
ارْتَقَى الِاسْتِدْلَالُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالتَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الَّتِي لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ فِي بعض شؤون الْحَيَاةِ وَذَلِكَ حَالُ الِاضْطِرَارِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَحَالُ انْتِيَابِ السُّوءِ، وَحَالُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ الْأَنْوَاعِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَهِيَ: حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ، وَحَالَةُ الْبُؤْسِ، وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ.
فَالْأُولَى: هِيَ الْمُضَمَّنَةُ فِي قَوْلِهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ فَالْمُضْطَرُّ هُوَ ذُو الضَّرُورَةِ أَيِ الْحَالَةِ الْمُحْوِجَةِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْعَسِرَةِ الْحُصُولِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْحَاجِيَّاتِ فَالْمَرْءُ
مُحْتَاجٌ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ بِهَا قِوَامُ أَوَدِهِ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِذَاتِهِ مِثْلَ الْأَقْوَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَلَابِسِ اللَّازِمَةِ فالمرء يتطلبها بِوُجُوه مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ يَتَعَسَّرُ بَعْضُهَا وَهِيَ تَتَعَسَّرُ بِقَدْرِ وَفْرَةِ مَنَافِعِهَا وَعِزَّةِ حُصُولِهَا فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهَا.
وَالِاضْطِرَارُ: افْتِعَالٌ مِنَ الضَّرُورَةِ لَا مِنَ الضُّرِّ. وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ نَالَتْهُ الضَّرُورَةُ فَطَاوَعَهَا. وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: اضْطَرَّهُ كَذَا إِلَى كَذَا.
وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرَّ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ يُجِيبُ فَرْدًا مَعْهُودًا فِي الذِّهْنِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ.
14
وَالْإِجَابَةُ: إِعْطَاءُ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَا لِتَحْصِيلِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إِلَّا اللَّهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ يُجِيبُ بَعْضًا وَيُؤَخِّرُ بَعْضًا.
وَحَالَةُ الْبُؤْسِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.
وَالْكَشْفُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الْغِشَاءِ، فَشُبِّهَ السُّوءُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمَضْرُورَ بِغِشَاءٍ يَحُولُ دُونَ الْمَرْءِ وَدُونَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَلَاصِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِالْكَشْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْغِشَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى السُّوءِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يُزِيلُ السُّوءَ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا أَوْ جَمِيعَهَا حِفْظٌ مِنْ تَطَرُّقِ السُّوءِ إِلَى مُهِمِّ أَحْوَالِ النَّاسِ مِثْلِ الْكُلِّيَّاتِ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعقل، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعِرْضِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمَسُوءِ إِذَا دَعَاهُ أَيْضًا فَحُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، أَيْ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمُسْتَاءِ إِذَا دَعَاهُ.
وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْإِجَابَةِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَنُوطَةٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الدَّاعِي وَمَا يَقْتَضِيهِ مُعَارِضُهُ مِنْ أُصُولٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَعْمُرُونَ الْأَرْضَ وَتَجْتَنُونَ مَنَافِعَهَا، فَضَمَّنَ الْخُلَفَاءَ مَعْنَى الْمَالِكِينَ فَأُضِيفَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى تَقْدِيرِ: مَالِكِينَ لَهَا، وَالْمِلْكُ يَسْتَلْزِمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. وَأَفَادَ خُلَفَاءَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ
مَعْنَى الْوِرَاثَةِ لِمَنْ سَبَقَ، فَكُلُّ حَيٍّ هُوَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفِهِ. وَالْأُمَّةُ خَلَفٌ عَنْ أُمَّةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ نُوحٍ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها
[هود: ٦١]. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ التَّحْسِينِيِّ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ مَا يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَهُوَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَلِمَا اقْتَضَتْهُ الْخِلَافَةُ مِنْ تُجَدِّدِ الْأَبْنَاءِ عَقِبَ الْآبَاءِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَ الْأَجْيَالِ، وَمَا
15
اقْتَضَتْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَكَشْفُ السُّوءِ مِنْ كَثْرَةِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَائِينَ عُبِّرَ فِي أَفْعَالِ الْجَعْلِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْجَعْلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ عَقِبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَكْرِيرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَقِبَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ زِيَادَةً فِي تَعْدَادِ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي حَالِ قِلَّةِ تَذَكُّرِكُمْ، فَتُفِيدُ الْحَالُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ.
وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ فَهُوَ اسْتِحْضَارُ الْمَعْلُومِ، أَيْ قَلِيلًا اسْتِحْضَارُكُمُ الِافْتِقَارَ إِلَى اللَّهِ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ إِنْعَامِهِ فَتَهْتَدُوا بِأَنَّهُ الْحَقِيقُ بِأَنْ لَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الْمُفِيدُ اسْتِدْلَالًا. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ فَاعِلُ قَلِيلًا.
وَالْقَلِيلُ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْمَعْدُومِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ الْمَقْصُودَ مَعْدُومٌ مِنْهُمْ، وَالْكِنَايَةُ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ تَلْمِيحٌ وَتَعْرِيضٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ فَإِنَّ تَذَكُّرَكُمْ قَلِيلٌ.
وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ تَتَذَكَّرُونَ فأدغمت تَاء التفعل فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا تَخْفِيفًا وَهُوَ إِدْغَامٌ سَمَاعِيٌّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نُكْتَةُ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُكَافَحَةً لَهُمْ، وَفِي قِرَاءَةِ رَوْحٍ وَهُشَامٍ نُكْتَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَأْهَلُوا الْإِعْرَاضَ بعد تذكرهم.
[٦٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٣]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
(بَلْ) لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعِ دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ إِلَى
دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ الْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَأَقْدَرُ لِمَا فِي خِلَالِهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ.
ذِكْرُ الْهِدَايَةِ فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى مَعْنَى (فِي). وَالْهُدَى فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ بِسَيْرِ النُّجُومِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: ٩٧]. فَاللَّهُ الْهَادِي لِلسَّيْرِ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ بِأَنْ خَلَقَ النُّجُومَ عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ لِلْهِدَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِأَنْ رَكَّبَ فِي النَّاسِ مَدَارِكَ لِلْمَعْرِفَةِ بِإِرْصَادِ سَيْرِهَا وَصُعُودِهَا وَهُبُوطِهَا، وَهَدَاهُمْ أَيْضًا بِمَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَخَوَّلَهُمْ مَعْرِفَةَ اخْتِلَافِهَا بِإِحْسَاسِ جَفَافِهَا وَرُطُوبَتِهَا، وَحَرَارَتِهَا وَبَرْدِهَا.
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أُدْمِجَ الِامْتِنَانُ بِفَوَائِدِ الرِّيَاحِ فِي إِثَارَةِ السَّحَابِ الَّذِي بِهِ الْمَطَرُ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَإِرْسَالُهُ الرِّيَاحَ هُوَ خَلْقُ أَسْبَابِ تَكَوُّنِهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو نَشْراً بِضَمَّتَيْنِ وَبِالنُّونِ. وَقَرَأَهُ ابْن عَامر بالنُّون بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بُشْراً بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِسُكُونِ الشِّينِ مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٤٨] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٧] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ هُنَالِكَ.
وَذُيِّلَ هَذَا الدَّلِيلُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً لِأَنَّ هَذَا خَاتِمَةُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ فَجِيءَ بَعْدَهُ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الشِّرْكِ كُلِّهِ وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ التذييلات السَّابِقَة.
[٦٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٤]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبِإِعْطَاءِ
17
الْمَدَدِ لِدَوَامِ الْحَيَاةِ الْأُولَى مُدَّةً مُقَدَّرَةً. وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْإِمْدَادِ. وَالِاسْتِفْهَامُ
تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ وَأَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ.
وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ الِاسْتِفْهَامِ قَوْلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ بَدْئِهِ الْخَلْقَ يُلْجِئُهُمْ إِلَى فَهْمِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي أَحَالُوهَا. وَلَمَّا كَانَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ مَحَلَّ جَدَلٍ وَكَانَ إِدْمَاجُهَا إِيقَاظًا وَتَذْكِيرًا أُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلِأَنَّ الرِّزْقَ مُقَارَنٌ لِبَدْءِ الْخَلْقِ فَلَوْ عُطِفَ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَرْزُقُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْإِعَادَةِ فَيَحْسَبُوا أَنَّ رِزْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ نِعَمِ آلِهَتِهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ذُيِّلَتِ الْآيَةُ بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ بِالْإِتْيَانِ بِبُرْهَانٍ عَلَى عَدَمِ الْبَعْثِ.
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧٤].
وَإِضَافَةُ الْبُرْهَانِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْبُرْهَانَ الْمُعَجَّزِينَ عَلَيْهِ هُوَ بُرْهَانُ عَدَمِ الْبَعْثِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَهَاتُوهُ لِأَنَّ الصَّادِقَ هُوَ الَّذِي قَوْلُهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ. وَالشَّيْءُ الْوَاقِعُ لَا يَعْدِمُ دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وَجُمَّاعُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ آللَّهُ خَيْرٌ أما تشركون [النَّمْل: ٥٩] أَنَّهَا أَجْمَلَتِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَحْدَهُ ثُمَّ فَصَّلَتْ ذَلِكَ بِآيَاتٍ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى قَوْلِهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: ٦٠- ٦٤] فَابْتَدَأَتْ بِدَلِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ بُرْهَانِ الْمُشَاهِدَةِ وَهُوَ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا يَأْتِي مِنْهُمَا مِنْ خَيْرٍ لِلنَّاسِ. وَدَلِيلُ كَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْهَا، وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالْمُشَاهَدَاتِ.
وَانْتَقَلَتْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ مِنْ قَبِيلِ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ وَهُوَ مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ اللَّجَإِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الِاضْطِرَارِ.
وَانْتَقَلَتْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمَا مَكَّنَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ إِذْ جَعَلَ الْبَشَرَ
18
خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ التَّصَرُّفَ بِوُجُوهِ التَّصَارِيفِ الْمُعِينَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ تَكْوِينُ هِدَايَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَصُولَ تَصَرُّفَاتِ الْخِلَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِارْتِحَالِ وَالتِّجَارَة والغزو.
وَختم ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَفِي مَطَاوِيهَا جَوَامِعُ التَّمَكُّنِ فِي
الأَرْض.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
لَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فَانْقَطَعَ دَابِرُ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ ثُنِّيَ عِنَانُ الْإِبْطَالِ إِلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ بِالْكَهَانَةِ وَإِخْبَارِ الْجِنِّ، كَمَا كَانَ يَزْعُمُهُ الْكُهَّانُ وَالْعَرَّافُونَ وَسَدَنَةُ الْأَصْنَامِ. وَيُؤْمِنُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي «مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ» وَغَيْرِهِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَا كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ بِوَقْتِهَا من شَأْن النبوءة توصلا لجحد النبوءة إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ وَقْتَ السَّاعَةِ فَأَبْطَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ إِبْطَالًا عَامًّا مِعْيَارُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ أَعْنِي خُصُوصَ الْكُهَّانِ وَسَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا سَلَكَ مَسْلَكَ الْعُمُومِ لِإِبْطَالِ مَا عَسَى أَنْ يُزْعَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَوْجَزُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ بَيْنِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَالْقَصْدُ هُنَا تَزْيِيفُ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ الْكِهَانَةُ وَنَحْوُهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا من أهل السَّمَوَات أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِانْحِصَارِ عَوَالِمِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ فِي قُوَّةِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْغَيْبَ، وَلَكِنْ أُطْنِبَ الْكَلَامُ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَعْمِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ مَقَامَ عِلْمِ الْعَقِيدَةِ مَقَامُ بَيَانٍ يُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا اللَّهُ مِنْهُ لِتَأْوِيلِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى: أَحَدٌ،
19
فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ. فَحَقَّ الْمُسْتَثْنَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَلِذَلِكَ جَاءَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لَكَانَتِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى تَنْصِبُ الْمُسْتَثْنَى.
وَبَعْدُ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ وَعَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَوَافِرَةٌ فَلِذَلِكَ يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَوَهَّمُ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا وُقُوفًا عِنْدَ ظَاهِرِ صِلَةِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ اللَّهَ يُنَزَّهُ عَنِ الْحُلُولِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَأَمَّا مَنْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الْغَيْبِ فَذَلِكَ دَاخَلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧]. فَأَضَافَ (غَيْبِ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.
وَأَرْدَفَ هَذَا الْخَبَرَ بِإِدْمَاجِ انْتِفَاءِ عِلْمِ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ بَلْ جَحَدُوا وُقُوعَهُ إِثَارَةً لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ لِشِدَّةِ عِنَايَةِ الْقُرْآنِ بِإِثْبَاتِهِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، أَيْ إِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ مُعَلَّقُ فِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ وَتَعْيِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَلْهَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِهِ.
وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ وَأَشَدُّ ارْتِقَاءً مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ إِلَى وَصْفِ عِلْمِهِمْ بِالْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْثُ مِنْ أَوَّلِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُتَدَارَكٌ أَوْ مُدْرَكٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ادَّارَكَ بِهَمْزِ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَدَارَكَ) فَأُدْغِمَتْ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي الدَّال لقرب مخرجيها بَعْدَ أَنْ سَكَنَتْ وَاجْتُلِبَ
20
هَمْزُ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَشَمِرٌ: وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرَكِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اللَّحَاقُ.
وَقَدِ امْتَلَكَتِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي تَصْوِيرِ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تُثَارُ مِنْهُ حَيْرَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْإِضْرَابِ وَكَيْفَ يَكُونَانِ ارْتِقَاءً عَلَى مَضْمُونِ هَذَا الِانْتِقَالِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا مُثْقَلَةً بِالتَّكَلُّفِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ اللُّغَوِيِّ أَنَّ مَعْنَى التَّدَارُكِ هُوَ أَنَّ عِلْمَ بَعْضِهِمْ لَحِقَ عِلْمَ بَعْضٍ آخَرَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ، وَهُوَ جِنْسٌ، لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ مِنْ مَعْنَاهُ عُلُومٌ عَدِيدَةٌ بِعَدَدِ أَصْنَافِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الضَّمِيرِ فَصَارَ الْمَعْنَى: تَدَارَكَتْ عُلُومُهُمْ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَذَلِكَ صَالِحٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ وَهُوَ التَّلَاحُقُ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ، أَيْ تَدَارَكَتْ عُلُومُ الْحَاضِرِينَ مَعَ عُلُومِ أَسْلَافِهِمْ، أَيْ تَلَاحَقَتْ وَتَتَابَعَتْ فَتَلَقَّى الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ عِلْمَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَقَلَّدُوهَا عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَيُشْعِرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً
وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[النَّمْل: ٦٧- ٦٨]. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨١] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الِاخْتِلَاطِ وَالِاضْطِرَابِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ وَالتَّلَاحُقَ يَلْزَمُهُ التَّدَاخُلُ كَمَا إِذَا لَحِقَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى أَيْ لَمْ يُرْسُوا عَلَى أَمْرٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمُ اخْتِلَافًا يُؤْذِنُ بِتَنَاقُضِهَا، فَهُمْ يَنْفُونَ الْبَعْثَ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَتَزَوَّدُونَ تَارَةً لِلْآخِرَةِ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ الرَّاحِلَةَ عَلَى قَبْرِ صَاحِبِهَا وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ، فَذَلِكَ مِنِ اضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِعْلُ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ. وَحَرْفُ (فِي) على هاذين الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّارَكَ مُبَالَغَةً فِي (أَدْرَكَ) وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا
21
تَقْدِيرُهُ:
إِدْرَاكُهُمْ، أَيْ حَصَلَ لَهُمْ عِلْمُهُمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُبْعَثُونَ فِيهِ، أَيْ يَوْمَئِذٍ يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ..
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بَلْ أَدْرَكَ بِهَمْزِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَمَعْنَاهُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. يُقَالُ: أَدْرَكَ، إِذَا فَنِيَ. وَفِي ثُبُوتِ مَعْنَى فَنِيَ لِفِعْلِ أَدْرَكَ خِلَافٌ بَيْنِ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ، فَقَدْ أَثْبَتَهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ فِي رِوَايَةِ شَمِرٍ عَنْهُ قَالَ شَمِرٌ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَثْبَتَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ». وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ:
هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَ: أَدْرَكَ الشَّيْءُ إِذَا فَنِيَ.
وَأَقُولُ قَدْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ: أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ، إِذَا انْتَهَى نُضْجُهَا، وَنَسَبَهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» لِلَّيْثِ وَلِابْنِ جِنِّي وَحَسْبُكَ بِإِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَثْبَاتِ. قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «تَبْصِرَةِ الْمُتَذَكِّرِ» : الْمَعْنَى فَنِيَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَدْرَكَتِ الْفَاكِهَةُ، إِذَا بَلَغَتِ النُّضْجَ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِفَنَائِهَا وَزَوَالِهَا.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَقَدْ تَلَقَّى بَعْضُهُمْ
عَنْ بَعْضٍ مَا يَعْلَمُونَ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، أَوْ قَدِ اضْطَرَبَ مَا يَعْلَمُونَهُ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فِي يَوْمِ الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي جَعْفَرٍ: مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، أَيْ جَهِلُوا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ.
أَمَّا عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَبَلَغَتْ عَشْرًا.
وَأَمَّا جُمْلَةٌ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها فَهُوَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ لِلِارْتِقَاءِ مِنْ كَوْنِهِمُ اضْطَرَبَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَقَلَّدَ خَلَفُهُمْ مَا لَقَّنَهُ سَلَفُهُمْ، أَوْ مِنْ أَنهم انْتَفَى عَمَلهم فِي الْآخِرَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرَابَ فِي الْعِلْمِ قَدْ أَثَارَ فِيهِمْ شَكًّا مِنْ وُقُوعِ الْآخِرَةِ. وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ وَدَوَامِهِ، وَالظَّرْفِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الشَّكِّ بِهِمْ.
22
وَجُمْلَةُ بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عُمْيَانٌ عَنْ شَأْنِ الْآخِرَةِ.
وعَمُونَ: جَمْعُ عَمٍ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ فَعِلٌ مِنَ الْعَمَى، صَاغُوا لَهُ مِثَالَ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعَمَى، وَهُوَ تَشْبِيهُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَمَى، وَعَادِمُ الْعِلْمِ بِالْأَعْمَى. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
فَشَبَّهَ ضَلَالَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ بِالْعَمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها عَمُونَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، جَعَلَ عَمَاهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْآخِرَة كَأَنَّهُ ناشىء لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ إِذْ هِيَ سَبَبُ عَمَاهُمْ، أَيْ إِنْكَارُهَا سَبَبُ ضَلَالِهِمْ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهَا عَمُونِ، فَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ عَمُونَ.
وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ لِتَنْزِيلِ أَحْوَالِهِمْ فَوُصِفُوا أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوا فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْث من شؤونها عِلْمًا مُضْطَرِبًا أَوْ جَهْلًا فَخَبَطُوا فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، فَأَعْقَبَهُمْ عَمًى وَضَلَالَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الِانْتِقَالَاتِ مُنْدَرِجَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا فَهُمْ مِنْهَا
عَمُونَ لَحَصَلَ الْمُرَادُ. وَلَكِنْ جَاءَتْ طَرِيقَةُ التَّدَرُّجِ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ أَجْزَلَ وَأَبْهَجَ وَأَرْوَعَ وَأَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِه الْأَحْوَال المترتبة جَدِيرٌ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ادَّارَكَ مِنْ خَفَاءِ تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ الْإِضْرَابِ الْأَوَّلِ.
وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ يَشْعُرُونَ، ويُبْعَثُونَ، عِلْمُهُمْ، هُمْ فِي شَكٍّ، هُمْ مِنْها عَمُونَ عَائِدَةٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
23
وَ (مَنْ) هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَالضَّمَائِرُ الْمَذْكُورَةُ عَائِدَةٌ إِلَيْهَا بِتَخْصِيصِ عُمُومِهَا بِبَعْضِ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مِنَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَسَدَنَةِ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ يَسْتَقْسِمُونَ لِلنَّاسِ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَفْظِيٌّ مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُخَصَّصِ الْمُنْفَصِلِ اللَّفْظِيِّ. وَالْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي اعْتِبَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لَفْظِيًّا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] فَإِنَّ ضَمِيرَ بُعُولَتُهُنَّ عَائِدٌ إِلَى الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] الَّذِي هُوَ عَامُّ لِلرَّجْعِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا [النَّمْل: ٦٧] هُنَا لَيْسَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعم من مَا صدق (مِنْ) فِي قَوْلِهِ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ.
[٦٧- ٦٨]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
أَعْقَبَ وَصْفَ عَمَايَةِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ بِذِكْرِ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي أَرَتْهُمُ الْبَعْثَ مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ، وَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ هُنَا إِلَى جَمِيعِ الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ خُصُوصِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْب، وَلذَلِك عطفت الْجُمْلَةَ لِأَنَّهَا غَايَرَتِ الَّتِي قَبْلَهَا بِأَنَّهَا أَعَمُّ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ قَوْلِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهِيَ مَا أَفَادَتْهُ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَقَالُوا بكفرهم أإذا كُنَّا تُرَابًا..
إِلَى آخِرِهِ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ.
أَتَوْا بِالْإِنْكَارِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِتَجْهِيلِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ وَتَعْجِيزِهِ عَنِ الْجَوَابِ بِزَعْمِهِمْ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنْ لِمُجَارَاةِ كَلَامِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ. وَالتَّأْكِيدُ تَهَكُّمٌ.
24
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِذا كُنَّا تُراباً بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ هَمْزَةِ (إِذَا) عَلَى تَقْدِيرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ لِلتَّخْفِيفِ مِنِ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ (إِذَا) ظَرْفًا مُقَدَّمًا عَلَى عَامِلِهِ وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بهمزتين فِي أَإِذا- وأَ إِنَّا عَلَى اعْتِبَارِ تَكْرِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الثَّانِيَةِ لِتَأْكِيدِ الْأُولَى، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو خَفَّفَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعَاصِمًا وَحَمْزَةَ حَقَّقَاهُمَا. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ حَذَفُوا نون الْمُتَكَلّم المشارك تَخْفِيفًا من الثّقل النَّاشِئ من وُقُوع نُونَ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ (إِنَّ). وَقَرَأَ ابْنُ عَامر وَالْكسَائِيّ أَإِذا بِهَمْزَتَيْنِ وإننا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِنُونَيْنِ اكْتِفَاءً بِالْهَمْزَةِ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ، وَكُلُّهَا اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ حِكَايَةُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْأَوَّلَ وَقَعَ مُؤَخَّرًا عَنْ نَحْنُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨٣] وَوَقَعَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ هُنَا، وَتَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ وُعِدْنا وَقَعَ بَعْدَ نَائِبِ الْفَاعِلِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَقْدِيمِهِ عَلَى تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْوَاقِعِ نَائِبًا عَلَى الْفَاعِلِ.
وَقَدْ نَاطَهَا فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ التَّقْدِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّمَ هُوَ الْغَرَضُ الْمُعْتَمَدُ بِالذِّكْرِ وَبِسَوْقِ الْكَلَامِ لِأَجْلِهِ. وَبَيَّنَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِوَضْعِ الْمَنْصُوبِ بَعْدَ الْمَرْفُوعِ وَذَلِكَ مَوْضِعُهُ. وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِكَوْنِهِ فِيهَا أَهَمَّ، يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا وَالَّذِي قَبْلَ آيَةِ سُورَة الْمُؤمنِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٢] فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ (فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ) هِيَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ تُرَابًا وَعِظَامًا، وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ هِيَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَكَوْنُ آبَائِهِمْ تُرَابًا لَا جُزْءَ هُنَاكَ مِنْ بِنَاهُمْ (جَمْعُ بِنْيَةٍ) عَلَى- أَيْ بَاقِيًا- صُورَةِ نَفْسِهِ (أَيْ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَهُوَ حَيٌّ). وَلَا شُبْهَةَ أَنَّهَا أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ فَاسْتَلْزَمَ زِيَادَةَ الِاعْتِنَاءِ بِالْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِهِ فَصَيَّرَهُ هَذَا الْعَارِضُ أَهَمَّ اه.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ حَكَتْ أُسْلُوبًا مِنْ مَقَالِهِمْ بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ... قالُوا أَإِذا مِتْنا [الْمُؤْمِنُونَ: ٨١، ٨٢] لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا.
25
وَبَعْدُ فَقَدْ حَصَلَ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، وَهِيَ الْقِصَّةُ وَالْحِكَايَةُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٤].
وَالْمَعْنَى: مَا هَذَا إِلَّا كَلَامٌ مُعَادٌ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ وَسَطَرُوهُ وَتَلَقَّفَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَقَعْ شَيْء مِنْهُ.
[٦٩]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٩]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩)
أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَلِذَلِكَ فَصَلَ فِعْلَ قُلْ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١]. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ تَكْذِيبٌ لِلرَّسُولِ وَإِجْرَامٌ. وَالْوَعِيدُ بِأَن يصيبهم مثل مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنَّهَا هُنَالِكَ عُطِفَتْ بِ ثُمَّ انْظُرُوا وَهُنَا بِالْفَاءِ فَانْظُرُوا وَهُمَا مُتَئَايِلَانِ. وَذَكَرَ هُنَالِكَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الْأَنْعَام: ١١] وَذَكَرَ هُنَا عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ: وَالْمُكَذِّبُونَ مُجْرِمُونَ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحِكَايَتَيْنِ لِلتَّفَنُّنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقدمَة السَّابِعَة.
[٧٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٠]
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
كَانَتِ الرَّحْمَةُ غَالِبَةً عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ خِلَالِهِ، فَلَمَّا أُنْذِرَ الْمُكَذِّبُونَ بِهَذَا الْوَعِيدِ تَحَرَّكَتِ الشَّفَقَةُ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَبَطَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِهَذَا التَّشْجِيعِ أَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَصَابَهُمْ مَا أُنْذِرُوا بِهِ. وَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِرْصُهُ عَلَى إِقْلَاعِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي رُوعِهِ رِبَاطَةَ جَاشٍ بِقَوْلِهِ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.
وَالضَّيْقُ: بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْكَسْرِ. وَحَقِيقَتُهُ:
عَدَمُ كِفَايَةِ الْمَكَانِ أَوِ الْوِعَاءِ لِمَا يُرَادُ حُلُولُهُ فِيهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْحَالَةِ
الْحَرِجَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ كَرَاهِيَةِ شَيْءٍ فَيُحِسُّ الْمَرْءُ فِي مَجَارِي نَفَسِهِ بِمِثْلِ ضَيْقٍ عَرَضَ لَهَا. وَإِنَّمَا هُوَ انْضِغَاطٌ فِي أَعْصَابِ صَدْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٧].
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ لَا تَكُنْ مُلْتَبِسًا وَمَحُوطًا بِشَيْءٍ مِنَ الضَّيْقِ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ.
وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤]. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ من مَكْرهمْ.
[٧١- ٧٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٢]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)
عَطْفٌ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً [النَّمْل: ٦٧]. وَالتَّعْبِيرُ هُنَا بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَانِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَهَكُّمٍ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ.
وَالْجَوَابُ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيم بِحمْل استفهامهم عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَن وَقت الْوَعيد ليتقدموه بِالْإِيمَانِ.
وعَسى لِلرَّجَاءِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيبِ مَعَ التَّحْقِيقِ.
ورَدِفَ تَبِعَ بِقُرْبٍ. وَعُدِّيَ بِاللَّامِ هُنَا مَعَ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّعْدِيَةِ بِنَفْسِهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (اقْتَرَبَ) أَوِ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ مِثْلَ شَكَرَ لَهُ. وَالْمَعْنَى: رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبَ الزَّمَنِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَسْتَعْجِلُونَ أَيْ تَسْتَعْجِلُون بِهِ.
[٧٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٣]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣)
مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْل: ٧٢] أَيْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا خَبَرٌ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ أَزْمِنَةَ التَّأْخِيرِ أَزْمِنَةُ إِمْهَالٍ فَهُمْ فِيهَا بِنِعْمَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَدْ كُنَّا قَدَّمْنَا مَسْأَلَةَ أَنَّ نِعْمَةَ الْكَافِرِ نِعْمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَيْسَتْ نِعْمَةً وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ.
وَالتَّعْبِير ب لَذُو فَضْلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفضل من شؤونه. وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَاللَّامِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ النَّاسِ لَا إِلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالتَّأْكِيدُ وَاقع موقع التَّعْرِيض بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ.
ولَكِنَّ اسْتِدْرَاك ناشىء عَنْ عُمُومِ الْفَضْلِ مِنْهُ تَعَالَى فَإِنَّ عُمُومَهُ وَتَكَرُّرَهُ يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ فَيَشْكُرُوهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ كَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: ٧١] فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ تَهَكُّمًا وَتَعْجِيزًا فِي زَعْمِهِمْ غَيْرَ قَادِرِينَ قدر نعْمَة الْإِمْهَال.
[٧٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٤]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤)
مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: ٧٣] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ أَضْمَرُوا الْمَكْرَ وَأَعْلَنُوا الِاسْتِهْزَاءَ فَحَالُهُمْ لَا يَقْتَضِي إِمْهَالَهُمْ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي صُدُورِهِمْ وَمَا أَعْلَنُوهُ وَأَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُكِنُّونَ أَشْيَاءَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، مِنْهَا: أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَأَنَّهُمْ تُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ خَوَاطِرُ إِخْرَاجِهِ وَإِخْرَاجِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ لَمَّا كَانَ ذَا جِهَةٍ مِنْ مَعْنَى وَصْفِ اللَّهِ بإحاطة الْعلم عطفت جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ اللَّهِ بِالْفَضْلِ، فَحَصَلَ بِالْعَطْفِ غَرَض ثَان مِنْهُم، وَحَصَلَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا التَّوْكِيدُ بِ إِنَّ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ لِتَنْزِيلِ السَّائِلِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ وَذَلِكَ تَلْوِيحٌ بِالْعِتَابِ.
وتُكِنُّ تُخْفِي وَهُوَ مِنْ (أَكَنَّ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا كَانًّا، أَيْ حَاصِلًا فِي كِنٍّ. وَالَكِنَّ:
الْمَسْكَنُ. وَإِسْنَادُ تُكِنُّ إِلَى الصُّدُورِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصُّدُورَ مَكَانَهُ. والإعلان:
الْإِظْهَار.
[٧٥]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٥]
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: ٧٤]. وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهَا ذُكِرَ مِنْهَا عِلْمُ اللَّهِ بِضَمَائِرِهِمْ فَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالِاسْتِقْلَالِ بِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْلِيمٌ لِصِفَةِ عِلْمِ اللَّهِ
تَعَالَى وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ.
وَالْغَائِبَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْغَائِبِ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ كَالتَّاءِ فِي الْعَافِيَةِ، وَالْعَاقِبَةِ، وَالْفَاتِحَةِ. وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيْبِ وَهُوَ ضِدُّ الْحُضُورِ، وَالْمُرَادُ:
الْغَائِبَةُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ. اسْتَعْمَلَ الْغَيْبَ فِي الْخَفَاءِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وَالْكِتَابُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْكِتَابُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحَقُّقِ وَعَدَمِ قَبُولِ التَّغْيِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا غَيْبِيًّا يُسَجَّلُ فِيهِ مَا سَيَحْدُثُ.
وَالْمُبِينُ: الْمُفَصَّلُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُفَصَّلَ يَكُونُ بَيِّنًا وَاضِحًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ حَقِيقَةُ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا
يَتَلَقَّاهُ الرُّسُلُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ الْحَدِيثُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَكَذَّبُوا بِمَا جَاءَ فِيهِ.
[٧٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٦]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)
إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّمْل: ٦٨]. وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِقَوْلِهِ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النَّمْل: ٧٥]، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ مَا فِيهِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقُّ إِذَا بَلَغَتِ الْأَفْهَامُ إِلَى إِدْرَاكِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الدَّلَالَةِ الَّتِي أُصُولُهَا فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْقِيقِ أُمُورِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْغَابِرَةِ مِمَّا خَبَطَتْ فِيهِ كُتُبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَبْطًا مِنْ جَرَّاءِ مَا طَرَأَ عَلَى كُتُبِهِمْ مِنَ التَّشَتُّتِ وَالتَّلَاشِي وَسُوءِ النَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ فِي عُصُورِ انْحِطَاطِ الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَلِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأُصُولِ الصَّرِيحَةِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِمَّا يَكْشِفُ سُوءَ تَأْوِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَلِمَاتِ كِتَابِهِمْ فِي مُتَشَابِهِ التَّجْسِيمِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ مَا يُسَاوِي قَوْلَهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]. فَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْلِيمٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا قَصَّ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مَا اخْتَلَفُوا وَهُوَ مَا فِي بَيَانِ الْحَقِّ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْرَضَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِكْمَالُ نَوَاحِي هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلْأُمَمِ فَإِنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِأَنَّهُ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَعْمَهُونَ فِي ضَلَالِهِمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَدْيِهِ. فَاسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَدْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا يُهِمُّ
مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ. وَأَكْثَرُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هُوَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِيمَا يَقْتَضِي إِرْشَادُهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُمْ، وَغَيْرُ
الْأَكْثَرِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِي بَيَانِهِ لَهُمْ.
وَمِنْ مُنَاسَبَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ مَا هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، أَنَّ مَا قَصَّهُ مِمَّا جَرَى بَيْنَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مَعَ سُلَيْمَانَ كَانَ فِيهِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا فِي كِتَابِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ وَكِتَابِ الْأَيَّامِ الثَّانِي فَفِي ذَيْنِكَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ مَلِكَةَ سَبَأٍ تَحَمَّلَتْ وَجَاءَتْ إِلَى أُورَشْلِيمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا مَحَبَّةً مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا بَلَغَ مَسَامِعَهَا مِنْ عَظَمَةِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهَا بَعْدَ ضِيَافَتِهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ قَفَلَتْ إِلَى مَمْلَكَتِهَا. وَلَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَشَوَاهِدِ التَّارِيخِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ أَنَّ مَلِكَةً عَظِيمَةً كَمَلِكَةِ سَبَأٍ تَعْمِدُ إِلَى الِارْتِحَالِ عَنْ بَلَدِهَا وَتَدْخُلُ بَلَدَ مَلِكٍ آخَرَ غَيْرَ هَائِبَةٍ، لَوْلَا أَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً إِلَى ذَلِكَ بِسِيَاسَةِ ارْتِكَاب أخف الضررين إِذْ كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَلْزَمَهَا بِالدُّخُولِ فِي دَائِرَةِ نُفُوذِ مُلْكِهِ، فَكَانَ حُضُورهَا لَدَيْهِ استسلاما وَاعْتِرَافًا لَهُ بِالسِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ تَنَصَّلَتْ مِنْ ذَلِكَ بِتَوْجِيهِ الْهَدِيَّةِ وَبَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْعَزْمَ مِنْ سُلَيْمَان على وجوب امْتِثَالِ أَمْرِهِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ إِهْمَالُ كِتَابِ الْيَهُودِ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ بِلْقِيسَ إِلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَهل يظنّ بِنَبِي أَنْ يُقِرَّ الشِّرْكَ على منتحليه.
[٧٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٧]
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي طَالِعِ السُّورَةِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢] ذُكِرَ هُنَا لِاسْتِيعَابِ جِهَاتِ هَدْيِ الْقُرْآنِ. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا اهْتَدَوْا بِهِ قَدْ نَالُوا الْفَوْزَ فِي الدُّنْيَا بِصَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ أَعْمَالِهِمْ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ. وَالرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فِي سُورَة [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] فَرَحْمَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أخص.
والتأكيد بإن مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَعْرِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: ٧٣].

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٨]

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
لَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ، وَذِكْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَقْتَضِي طَعْنَهُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ لِمُخَالَفَةٍ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً فَهُمْ مُوقِنُونَ بِمَا فِيهِ، تَمَخَّضَ الْكَلَامُ عَنْ خُلَاصَةٍ هِيَ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ طَاعِنٍ، وَفَرِيقٍ مُوقِنٍ، فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ حُدُوثَ تَدَافُعٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهُوَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ مَدَى هَذَا التَّدَافُعِ، وَالتَّخَالُفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَمَتَى يَنْكَشِفُ الْحَقُّ، فَجَاءَ قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي مُخْتَلِفِينَ. وَأَنَّ كَلِمَةَ (بَيْنَ) تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا، فَأَفَادَ أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَين الْمُؤمنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ قَضَاءً يُبَيِّنُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِبْطَائِهِمُ النَّصْرَ فَإِنَّ النَّبِيءَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ فَالْقَضَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَضَاء لَهُ بادىء ذِي بَدْءٍ.
وَفِيهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى جَنَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْنَادُ الْقَضَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبٌّ لَهُ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ مُرْضِيًا لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَجُعِلَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَقَامِ الْمُبَلِّغِ وَجُعِلَ الْقَضَاءُ بَيْنَ أُمَّتِهِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَتَعْجِيلٌ لِمَسَرَّةِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْإِيمَاء.
وَإِذا قَدْ أُسْنِدَ الْقَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ غَيْرَ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ وَذَلِكَ يلجيء: إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ بِمَا يُخَالِفُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْقَضَاءِ إِذَا اعْتبر اللفظان مترادين لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقْصُودًا بِهِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ الْمُضَافُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُلَّ يَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْعَدْلُ وَلِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ رَبَّكَ. يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ الْمُشْتَهَرِ اللَّائِقِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ وَاطِّرَادِ عَدْلِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاء: ٧٩] وَقَالَ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢] وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا نَبِيئًا فَيَكُونُ
الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحِكْمَتِهِ، أَيْ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، أَيْ مِنْ نَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ.
وَمَآلُ التَّأْوِيلَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَبِهِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ فِي تَذْيِيلِهِ
بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، فَإِنَّ الْعَزِيزَ لَا يُصَانِعُ، وَالْعَلِيمَ لَا يَفُوتُهُ الْحَقُّ، وَيَظْهَرُ حسن موقع التفريغ بقوله:
[٧٩]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٩]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩)
فُرِّعَتِ الْفَاءُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ رَبَّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْضِي بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ أَمْرًا لِلرَّسُولِ بِأَنْ يَطْمَئِنَّ بَالًا وَيَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِيمَا يَقْضِي بِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِحَقِّهِ، وَعَلَى مُعَانِدِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، فَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي كِنَايَتِهِ وَصَرِيحِهِ فَإِنَّ مِنْ لَازِمِهِ أَنَّهُ أَدَّى رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ تَقْصِيرًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مَعْنًى تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآن كَقَوْلِه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الْكَهْف: ٦] وَقَوْلِهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: ٧٠].
وَالتَّوَكُّلُ: تَفَعَّلٌ مِنْ وَكَّلَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، إِذَا أَسْنَدَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَهُ وَمُبَاشَرَتَهُ، فَالتَّفَعُّلُ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٥٩]، وَقَوْلِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا فِي الْمَائِدَةِ [٢٣] وَقَوْلِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [١١].
وَقَدْ وَقَعَتْ جُمْلَةُ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ مَوْقِعًا لَمْ يُخَاطِبِ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ بِمِثْلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِرَسُولِهِ بِالْعَظَمَةِ الْكَامِلَةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ عَلَى مِنَ التَّمَكُّنِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ.
وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ مُبِينٍ مِنَ الْوُضُوحِ وَالنُّهُوضِ.
وَجَاءَتْ جُمْلَةُ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ مَجِيءَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَلَا يَتَرَقَّبُ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى الْحَكَمِ الْعَدْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ
فِي تَأْيِيدِهِ وَنَفْعِهِ. وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاءِ فَلَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا وَلَكِنَّهَا لِلِاهْتِمَامِ.
وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّوَكُّلِ بِعُنْوَانِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ يَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ الْكَمَالِ كُلَّهَا، وَمِنْ أَعْلَاهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ وَنَصْرُ الْمُحِقِّ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَجَّلَتْ مَسَرَّةُ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِسْنَادِهِ الْقَضَاءَ إِلَى عُنْوَانِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ اقْتَضَاهُ وُجُودُ مُقْتَضِي جَلْبِ حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ فَلَا يُفِيدُ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصًا وَلَا تَقَوِّيًا.
والْمُبِينِ: الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِامْتِرَاءُ فِيهِ وَلَا الْمُصَانَعَةُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يَثِقَ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ حَقَّهُ وَلَوْ بعد حِين.
[٨٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٠]
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْطُرُ فِي بَالِ السَّامِعِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩] مِنَ التَّسَاؤُلِ عَنْ إِعْرَاضِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَهُوَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ، فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ فِيهِ كَمَوْقِعِهِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَهَذَا عُذْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ، وَلِكَوْنِهِ تَعْلِيلًا لِجَانِبٍ مِنَ التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْكِنَائِيُّ غَيْرَ الَّذِي عُلِّلَ بِجُمْلَةِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩] لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِالتَّعْلِيلِ.
وَالْإِسْمَاعُ: إِبْلَاغُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَسَامِعِ.
والْمَوْتى والصُّمَّ: مُسْتَعَارَانِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَيُكَابِرُونَ مَنْ يَقُولُهُ لَهُمْ. شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ فِي انْتِفَاءِ فَهْمِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ،
34
وَشُبِّهُوا بِالصُّمِّ كَذَلِكَ فِي انْتِفَاءِ أَثَرِ بَلَاغَةِ أَلْفَاظِهِ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَلِلْقُرْآنِ أَثَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَهِيَ الْمَعَانِي الَّتِي يُدْرِكُهَا وَيُسَلِّمُ لَهَا مَنْ تَبْلُغُ إِلَيْهِ وَلَو بطرِيق التَّرْجَمَةِ بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهَا الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ وَهَذَا أَثَرٌ عَقْلِيٌّ.
وَالْأَثَرُ الثَّانِي: دَلَالَةُ نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَن مقدرَة بلغاء الْعَرَبِ. وَهَذَا أَثَرٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ دَلِيلُ الْإِعْجَازِ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَرَبِ مُبَاشَرَةً، وَحَاصِلٌ لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إِذَا تَدَبَّرُوا فِي عَجْزِ الْبُلَغَاءِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَهَؤُلَاءِ يُوقِنُونَ بِأَنَّ عَجْزَ بُلَغَاءِ أَهْلِ ذَلِك اللِّسَان عَن مُعَارَضَتِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ مَقْدِرَتِهِمْ فَالْمُشْرِكُونَ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَثَرِ الْأَوَّلِ، وَشُبِّهُوا بِالصُّمِّ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَثَرِ الثَّانِي، فَحَصَلَتِ اسْتِعَارَتَانِ. وَنَفْيُ الْإِسْمَاعِ فِيهِمَا تَرْشِيحَانِ لِلِاسْتِعَارَتَيْنِ وَهُمَا مُسْتَعَارَانِ لِانْتِفَاءِ مُعَالَجَةِ إِبْلَاغِهِمْ.
وَلِأَجْلِ اعْتِبَارِ كِلَا الْأَثَرَيْنِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ وُرُودُ تَشْبِيهَيْنِ كُرِّرَ ذِكْرُ التَّرْشِيحَيْنِ فَعُطِفَ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ عَلَى لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا الصُّمَّ.
وَتَقْيِيدُ الصُّمِّ بِزَمَانِ تَوَلِّيهِمْ مُدْبِرِينَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْغَلُ فِي انْتِفَاءِ إِسْمَاعِهِمْ لِأَنَّ الْأَصَمَّ إِذَا كَانَ مُوَاجِهًا لِلْمُتَكَلِّمِ قَدْ يَسْمَعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بِالصُّرَاخِ وَيَسْتَفِيدُ بَقِيَّتَهُ بحركة الشفتين، فَأَما إِذا ولى مُدبرا فقد ابتعد عَن الصَّوْت وَلم يُلَاحظ حَرَكَة الشَّفَتَيْنِ فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُ عَنِ السَّمْعِ.
وَاسْتَدَلَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ ظَاهِرِ
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ وَفِيهِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَالَ: هَلْ وجدْتُم مَا وعد رَبُّكُمْ حَقًّا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله أتنادي أمواتنا فَقَالَ:
إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ»
. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى
حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ.
35
وَهَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الدَّلَالَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ مَرْجُوحٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَى هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ.
وَضَمِيرَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ عَائِدَانِ إِلَى الصُّمِّ، وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِلتَّشْبِيهِ حَيْثُ شُبِّهُوا فِي عَدَمِ بُلُوغِ الْأَقْوَالِ إِلَى عُقُولِهِمْ بِصُمٍّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ يَبْعُدُ عَنْ مَكَانِ مَنْ يُكَلِّمُهُ فَكَانَ أَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تقدم آنِفا.
[٨١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨١]
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ.
كَرَّرَ تَشْبِيهَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بِأَنْ شُبِّهُوا فِي ذَلِكَ بِالْعُمْيِ بَعْدَ أَنْ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى وَبِالصُّمِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ إِطْنَابًا فِي تَشْنِيعِ حَالِهِمُ الْمَوْصُوفَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ فِي تَكْرِيرِ التَّشْبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩].
وَحَسَّنَ هَذَا التَّكْرِيرَ هُنَا مَا بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ مِنَ الْفُرُوقِ مَعَ اتِّحَادِ الْغَايَةِ فَإِنَّهُمْ شُبِّهُوا
بِالْمَوْتَى فِي انْتِفَاءِ إِدْرَاكِ الْمَعَانِي الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ الْعُقَلَاءُ، وَبِالصُّمِّ فِي انْتِفَاءِ إِدْرَاكِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الَّذِي يَضْطَلِعُ بِهِ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ. وَشُبِّهُوا ثَالِثًا بِالْعُمْيِ فِي انْتِفَاءِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ طَرِيقِ الْهُدَى وَطَرِيقِ الضَّلَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ انْتِفَاءُ اتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ فَفِي تَشْبِيهِهِمْ بِالْعُمْيِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَنَفْيُ إِنْقَاذِهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَبْلُغُ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ.
وَالْهُدَى: الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقِ السَّائِرِ بِأَنْ يَصِفَهُ لَهُ فَيَقُولُ مَثَلًا: إِذَا بَلَغْتَ الْوَادِيَ فَخُذِ الطَّرِيقَ الْأَيْمَنَ.
وَالَّذِي يَسْلُكُ بالقوافل مسالك الطّرق يُسَمَّى هَادِيًا.
وَالتَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ يُسَمَّى اهْتِدَاءً. وَهَذَا التَّرْشِيحُ هُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ لِلنَّاسِ، وَالْأَعْمَى غَيْرُ قَابِلٍ لِلْهِدَايَةِ بِالْحَالَتَيْنِ حَالَةِ الْوَصْفِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ، وَحَالَةِ الِاقْتِيَادِ فَإِنَّ الْعَرَبَ لم يَكُونُوا يَأْخُذُونَ الْعُمْيَ مَعَهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُعَرْقِلُونَ عَلَى الْقَافِلَةِ سَيْرَهَا.
36
وَقَوْلُهُ عَنْ ضَلالَتِهِمْ يَتَضَمَّنُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً قَرِينَتُهَا حَالِيَّةٌ. شَبَّهَ الدِّينَ الْحَقَّ بِالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالَةِ إِلَى سَالِكِيهِ تَرْشِيحٌ لَهَا وَتَخْيِيلٌ، وَالضَّلَالَةُ أَيْضًا مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ تَبَعًا لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ، وَضَمِيرُ ضَلالَتِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعُمْيِ، وَلِتَأَتِّي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الرَّشِيقَةِ عُدِلَ عَنْ تَعْلِيقِ مَا حَقُّهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالْهَدْيِ فَعُلِّقَ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ نَفْيُ الْهَدْيِ من معنى الصَّرْفِ وَالْمُبَاعَدَةِ. فَقِيلَ عَنْ ضَلالَتِهِمْ بِتَضْمِينِ هَادِي مَعْنَى صَارِفٍ. فَصَارَ: مَا أَنْت بهاد، بِمَعْنَى: مَا أَنْتَ بِصَارِفِهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا يُقَالُ: سَقَاهُ عَنِ الْعَيْمَةِ، أَيْ سَقَاهُ صَارِفًا لَهُ عَنِ الْعَيْمَةِ، وَهِيَ شَهْوَةُ اللَّبَنِ.
وَعدل فِي هَذِه الْجُمْلَةِ عَنْ صِيغَتَيِ النَّفْيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النَّمْل: ٨٠] الْوَاقِعَيْنِ عَلَى مُسْنَدَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ، إِلَى تَسْلِيطِ النَّفْيِ هُنَا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ الثَّبَاتُ بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ.
وَوَجْهُ إِيثَارِ هَذِه الْجُمْلَة بهاذين التَّحْقِيقَيْنِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى نَفْيِ اهْتِدَائِهِمْ وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ غَايَةَ مَطْمَحِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمَقَامُ مُشْعِرًا بِبَقِيَّةٍ مِنْ طَمَعِهِ فِي اهْتِدَائِهِمْ حِرْصًا عَلَيْهِمْ فَأُكِّدَ لَهُ مَا يُقْلِعُ طَمَعَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
[الْقَصَص: ٥٦] وَقَوْلِهِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥]. وَسَيَجِيءُ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ تَوْجِيهٌ لِتَعْدَادِ التَّشَابِيهِ الثَّلَاثَةِ زَائِدًا عَلَى مَا هُنَا فَانْظُرْهُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَمَا أَنْتَ تَهْدِي بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي مَوْضِعِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ.
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَرَقُّبِ السَّامِعِ مَعْرِفَةَ مَنْ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ.
وَالْإِسْمَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
37
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ لِيَشْمَلَ مَنْ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ فَيُفِيدُ الْمُضَارِعُ اسْتِمْرَارَ إِيمَانِهِمْ وَمَنْ سَيُؤْمِنُونَ.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ التَّقْسِيمِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] إِلَى هُنَا، أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يُعَاجِلَهُ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ السَّعَادَةَ فَيُؤْمِنُ سَرِيعًا أَوْ بَطِيئًا قَبْلَ الْوَفَاةِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ الْمُفِيدُ لِلدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا فَقَدْ صَارَ الْإِسْلَامُ رَاسِخًا فِيهِمْ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بشاشته الْقُلُوب.
[٨٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (٨٢)
هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْقِيَامَةِ وَمَا ادُّخِرَ لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ. وَمُنَاسِبَةُ ذِكْرِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النَّمْل: ٨٠، ٨١]. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَوْتَى وَالصُّمِّ وَالْعُمْيِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
والْقَوْلُ أُرِيدَ بِهِ أَخْبَارُ الْوَعِيدِ الَّتِي كَذَّبُوهَا مُتَهَكِّمِينَ بِاسْتِبْطَاءِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: ٧١]، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ يُفَسِّرُهُ الْمَقَامُ.
وَالْوُقُوعُ مُسْتَعَارٌ لِحُلُولِ وَقَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ تَهَيُّؤِ الْعَالَمِ لِلْفَنَاءِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةَ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَشْرَاطِ حُلُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ وَهُوَ الْوَعِيدُ الْأَكْبَرُ يَعْنِي وَعِيدَ الْبَعْثِ، فَتُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ وُقُوعِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنَ الْمُضِيِّ، أَيْ أَشْرَفَ وُقُوعُهُ، عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ مَعَ (إِذَا) يَنْقَلِبُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ.
وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِلْحَيِّ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسَانِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّبِيبِ، وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى
الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَحْيَاءِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ دَابَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٨]. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي وَصْفِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَوقت خُرُوجهَا ومكانه أَخْبَارٌ مُضْطَرِبَةٌ ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ فَانْظُرْهَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَغَيْرِهِ إِذْ لَا طَائِلَ فِي جَلْبِهَا وَنَقْدِهَا.
وَإِخْرَاجُ الدَّابَّةِ مِنَ الْأَرْضِ لِيُرِيَهُمْ كَيفَ يحي اللَّهُ الْمَوْتَى إِذْ كَانُوا قَدْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَهَا لَهُمْ خِطَابٌ لَهُمْ بِحُلُولِ الْحَشْرِ. وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ الْكَلَامَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَابَّةٍ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَنْدِيمًا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ أَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَوْقَعِهِ مِنْ أَشْرَفِ إِنْسَانٍ وَأَفْصَحِهِ، لِيَكُونَ لَهُمْ خِزْيًا فِي آخِرِ الدَّهْرِ يُعَيَّرُونَ بِهِ فِي الْمَحْشَرِ. فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كَلَامِ رَسُولٍ كَرِيمٍ فَخُوطِبُوا عَلَى لِسَانِ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ. عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ: اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَإِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا.
وَجُمْلَةُ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِإِظْهَارِ هَذَا الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يُوقِنِ الْمُشْرِكُونَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ ذَلِكَ إِلْجَاءً لَهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ النَّاسَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ)، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلُ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَنَّ النَّاسَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ فَتْحَ هَمْزَةِ (أَنَّ) يُؤْذِنُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرِّ وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُكَلِّمُهُمْ بِحَاصِلِ هَذَا وَهُوَ الْمَصْدَرُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُسَجِّلُ عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَهُوَ تَسْجِيلُ تَوْبِيخٍ وَتَنْدِيمٍ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ القَوْل عَلَيْهِم ف لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: ١٥٨]. وَحَمْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِمَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ الدَّابَّة بعيد.
[٨٣- ٨٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٤]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤)
انْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى تَقْدِيرِ (اذْكُرْ) فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَهَذَا حَشْرٌ خَاصٌّ بَعْدَ حَشْرِ جَمِيعِ
39
الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: ٨٧] وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩] فَيُحْشَرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مُكَذِّبُو رَسُولِهَا.
وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ تَبْعِيضِيَّةٌ وَأَمَّا (مِنَ) الدَّاخِلَة على مِمَّنْ يُكَذِّبُ فَيَجُوزُ جَعْلُهَا بَيَانِيَّةً فَيَكُونُ فَوْجُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ جمَاعَة المكذبين مِنْهَا، أَي يحْشر من الْأمة كفارها وَيبقى صالحوها. وَيجوز جعل (من) هَذِه تبعيضية أَيْضا بِأَن يكون الْمَعْنى إِخْرَاج فَوْج من المكذبين من كل أمة. وَهَذَا الْفَوْجُ هُوَ زُعَمَاءُ الْمُكَذِّبِينَ وَأَئِمَّتُهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْعَذَابِ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ: مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُسَاقُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ يُسَاقُ أَمَامَ كُلِّ طَائِفَةٍ زُعَمَاؤُهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَهُمْ يُوزَعُونَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [١٧].
وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يُزْجَرُونَ إِغْلَاظًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَسْرَى.
وَالْقَوْلُ فِي حَتَّى إِذا جاؤُ كَالْقَوْلِ فِي حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ [النَّمْلِ: ١٨] وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَوْضِعُ الَّذِي جَاءُوهُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ مَكَانُ الْعَذَابِ، أَيْ جَهَنَّمُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ حَتَّى إِذا مَا جاؤُها [فُصِّلَتْ: ٢٠].
وحَتَّى فِي حَتَّى إِذا جاؤُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وإِذا الْوَاقِعَةُ بَعْدَ حَتَّى ظَرْفِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: حَتَّى حِينَ جَاءُوا.
وَفِعْلُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَمَا قَبْلَهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا وَحِينَ جَاءُوا. وَفِي قالَ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَوْلُهُ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي قَوْلٌ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْمَعُونَهُ أَوْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ الْمَلَائِكَةُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَن يكون توبيخيا مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ تَبْكِيتًا لَهُمْ، وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ
40
تَعْمَلُونَ.
فَحَرْفُ أَمْ فِيهِ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلِانْتِقَالِ وَمُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ
تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تُوقِنُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي مُدَّةِ تَكْرِيرِ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا.
وَمِنْ لَطَائِفَ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْمُعَادِلِ الْأَوَّلِ مُصَرَّحًا بِهِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْهُمْ فَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَحَذَفَ مُعَادِلَهُ الْآخَرَ تَنْبِيهًا عَلَى انْتِفَائِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ مَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ أَمْ حَدَثَ حَادِثٌ آخَرُ، فَجُعِلَ هَذَا الْمُعَادِلُ مُتَرَدَّدًا فِيهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اسْتِفْهَامٍ. وَهَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ» :«وَمِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِرَاعِيكَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ رَاعِي سُوءٍ: أَتَأْكُلُ نَعَمِي أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، فَتَجْعَلُ مَا ابْتَدَأْتَ بِهِ وَجَعَلْتَهُ أَسَاسَ كَلَامِكَ هُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ أَكْلِهِ وَفَسَادِهِ وَتَرْمِي بِقَوْلِكَ: أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، مَعَ عِلْمِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا إِلَّا الْأَكْلَ لِتَبْهَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاسْتِفْهَام تقريريا وَتَكُونُ أَمْ مُتَّصِلَةً وَمَا بَعْدَهَا هُوَ مُعَادِلُ الِاسْتِفْهَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تَتَّبِعُوا آيَاتِي».
وَجُمْلَةُ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَذَّبْتُمْ دُونَ أَنْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ تُحِيطُوا، أَيْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُكُمْ بِهَا، فَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ الْإِحَاطَةِ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى إِسْنَادِهَا إِلَى ذَوَاتِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَقَعَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَالِ فِي الْإِسْنَادِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بِالتَّمْيِيزِ.
وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْآيَاتِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بهَا وَهَذَا تعيير لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ قَبْلَ التدبر فِيهَا.
وأَمَّا ذَا اسْتِفْهَامٌ وَاسْمُ إِشَارَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا).
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْجُمْلَةَ صَارَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قُوَّةِ مَوْصُولٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) وَ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ يَكُونُ بِمَعْنَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَهُوَ بَيَانُ مَعْنًى لَا بَيَان وضع.
41

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٥]

وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى: يُقَالُ لَهُمْ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَقَدْ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ السَّابِقُ فِي آيَةِ وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: ٨٢] فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ فَكُلَّمَا تَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْهَا فَقَدْ وَقَعَ الْقَوْلُ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ وَقَعَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأُعِيدَ ذِكْرُهُ تَعْظِيمًا لِهَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا لِيُبْنَى عَلَيْهَا سَبَبُ وُقُوعِ الْقَوْلِ وَهُوَ أَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَلِيُفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حصل وَمضى.
وبِما ظَلَمُوا بِمَعْنَى الْمصدر، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، أَيْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ ظُلْمُهُمْ سَبَبَ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَكُلُّ مَنْ ظَلَمَ سَيَقَعُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الْمَوْعُودُ بِهِ الظَّالِمُونَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يَنْتَسِبُ إِلَى الشِّرْكِ وَيَنْتَسِبُ هَذَا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٢].
وَجُمْلَةُ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى وَقَعَ الْقَوْلُ أَيْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ وُقُوعًا يَمْنَعُهُمُ الْكَلَامَ، أَيْ كَلَامَ الِاعْتِذَارِ أَوِ الْإِنْكَارِ، أَيْ فَوَجَمُوا لِوُقُوعِ مَا وُعِدُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٥، ٣٦].
[٨٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٦]
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: ٨٥] أَيْ بِمَا أَشْرَكُوا،
42
فَذَكَّرَهُمْ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِذِكْرِ أظهر الْآيَات وأكثرها تَكْرَارًا عَلَى حَوَاسِّهِمْ وَأَجْدَرِهَا بِأَنْ تَكُونَ مُقْنِعَةً فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ شِرْكِهِمْ. وَهِيَ آيَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ تَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مَرَّتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْأَقَلِّ. وَتِلْكَ هِيَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الدَّالَّةُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَأَصْنَامُهُمْ تَخْضَعُ لِمَفْعُولِهَا فَتَظْلِمُ ذَوَاتِهِمْ فِي اللَّيْلِ وَتُنِيرُ فِي النَّهَارِ، وَفِيهَا تَذْكِيرٌ بِتَمْثِيلِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَهُ بِسُكُونِ اللَّيْلِ وَانْبِثَاقِ النَّهَارِ عَقِبَهُ.
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: ٨٥] وَجُمْلَةِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] لِيُتَخَلَّلَ الْوَعِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَكُونَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ بِالْإِرْهَابِ تَارَةً وَاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ تَارَةً أُخْرَى.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ لِأَنَّهَا لِغَرَابَتِهَا تَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ مَنْ
يَسْأَلُ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ فَهَذِهِ عَلَاقَةُ أَوْ مُسَوِّغُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ خَفِيَّةٌ أَشَارَ سَعْدُ الدِّينِ فِي «الْمُطَوَّلِ» إِلَى عَدَمِ ظُهُورِهَا وَتَصَدَّى السَّيِّدُ الشَّرِيفُ إِلَى بَيَانِهَا غَايَةَ الْبَيَانِ وَأَرْجَعَهَا إِلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فَتَأَمَّلْهُ.
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً وَجُمْلَةُ أَنَّا جَعَلْنَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ لِشَبَهِ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُبْصَرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَفْعُولَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَعْنَى:
كَيْفَ لَمْ يُبْصِرُوا جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارِ لِلْإِبْصَارِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بِمَرْأَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ.
وَالْجَعْلُ مُرَادٌ مِنْهُ أَثَرُهُ وَهُوَ اضْطِرَارُ النَّاسِ إِلَى السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ وَإِلَى الِانْتِشَارِ فِي النَّهَارِ.
فَجُعِلَتْ رُؤْيَةُ أَثَرِ الْجَعْلِ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجَعْلِ وَهَذَا وَاسِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُجْعَلَ الْأَثَرُ مَحَلَّ الْمُؤَثِّرِ، وَالدَّالُّ مَحَلَّ الْمَدْلُولِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ.
وَالْمُبْصِرُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبْصَرَ بِمَعْنَى رَأَى. وَوَصْفُ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مُبْصِرٌ مِنْ قَبِيلِ
43
الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ نُورَ النَّهَارِ سَبَبُ الْإِبْصَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ مِنْ أَبْصَرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ بَاصِرًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ تَعْلِيل للتعجيب مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَا عَلَى الْبَعْثِ.
وَوَجْهُ كَوْنِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَمْعُ هُوَ أَنَّ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ آيَاتٍ عَلَى الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ نُورِهَا الْخَارِقِ لِلظُّلُمَاتِ، وَخَلْقِ الْأَرْضِ، وَخَلْقِ نِظَامِ دَوَرَانِهَا الْيَوْمِيِّ تُجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَهِيَ الدَّوْرَةُ الَّتِي تُكَوِّنُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَفِي خَلْقِ طَبْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَتَلَقَّى الظُّلْمَةَ بِطَلَبِ السُّكُونِ لِمَا يَعْتَرِي الْأَعْصَابَ مِنَ الْفُتُورِ دُونَ بَعْضِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَنْشَطُ فِي اللَّيْلِ كَالْهَوَامِّ وَالْخَفَافِيشِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى تَعَاقُبِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَتِلْكَ آيَاتٌ وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا دَقَائِقُ وَنُظُمٌ عَظِيمَةٌ لَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا لَأَوْعَبَ مُجَلَّدَاتٍ مِنَ الْعُلُومِ.
وَفِي جَعْلِ النَّهَارِ مُبْصِرًا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الوحدانية ودقة صنع تُقَابِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَاتِ
جَعْلِ اللَّيْلِ سَكَنًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا إِحَالَةَ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ نَظِيرُ بَعْثِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَفِي جَلِيلِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَدَقِيقِهَا عِدَّةُ آيَاتٍ فَهَذَا وَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَتَيْنِ.
وَمَعْنَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِنَاسٍ شَأْنُهُمُ الْإِيمَانُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحُجَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِيمَانُ صِفَةً جَارِيَةً عَلَى قَوْمٍ لِمَا قُلْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظ (قوم) يومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: ٥٦]، أَيِ الْفَرَقُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَفْرَقُونَ، أَيْ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ مَنْ شِعَارُهُمُ التَّدَبُّرُ وَالِاتِّصَافُ، أَيْ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ.
وَلِكَوْنِ الْإِيمَانِ مَقْصُودًا بِهِ أَنَّهُ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ جِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْفَحْوَى وَالْأَوْلَوِيَّةِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِمَنْ يُرْجَى مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ
44
مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: ٢٧، ٢٨].
وَلِهَذَا خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٧] إِذْ قَالَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لِأَنَّ آيَةَ يُونُسَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ فَخَاطَبَ بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَجَاءَتْ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَجُعِلَتْ دَلَالَتُهَا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَضَالٌّ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهَا بِفعل يَسْمَعُونَ [يُونُس: ٦٧] الْمُؤْذِنِ بِالِامْتِثَالِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ فَجُعِلَ مَا فِيهَا آيَاتٍ لِمَنِ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنهمْ ليُفِيد بمفهومه أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ دَلَالَةٌ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِنْصَافُ وَالِاعْتِرَافُ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ فِيهِ فِعْلُ يُؤْمِنُونَ.
وَجَاءَ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيلِ بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَمَا فِي النَّهَارِ بِصِيغَةِ مَفْعُولِ الْجَعْلِ بِقَوْلِهِ مُبْصِراً تَفَنُّنًا، وَلِمَا يُفِيدُهُ مُبْصِراً مِنَ الْمُبَالَغَةِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى التَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ فِي الْمَآلِ. وَبِهَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «التَّقَابُلُ مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهَكَذَا النَّظْمُ الْمَطْبُوعُ غَيْرُ الْمُتَكَلَّفِ» أَيْ فَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ الْمَعْنَى:
جَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَنْتَشِرُوا فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قُرِّرَ هُنَا يَأْتِي فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ عَدَا مَا هُوَ مِنْ وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْبَلَاغِيَّةِ
فَارْجِعْ إِلَيْهَا هُنَالك.
[٨٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٧]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
عَطْفٌ عَلَى وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النَّمْل: ٨٣]، عَادَ بِهِ السِّيَاقُ إِلَى الْمَوْعِظَةِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّهُمْ لما ذكرُوا ب «يَوْم يحشرون إِلَى النَّارِ» ذُكِّرُوا أَيْضًا بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ وُقُوع الْبَعْث وإنذارا بِمَا يَعْقُبُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ آتُوهُ داخِرِينَ وَقَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.
45
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣] وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَهُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨]، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. وَأَمَّا النَّفْخَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَفْخَةٌ يَعْنِي بِهَا الْإِحْيَاءَ، أَيْ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهَا وَهِيَ سَاعَةُ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُمْ يُصْعَقُونَ، وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ عَقِبَهُ حُصُولُ الْفَزَعِ وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِسَابِ وَمُشَاهَدَةِ مُعَدَّاتِ الْعَذَابِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا، فَالْفَزَعُ حَاصِلٌ مِمَّا بَعْدَ النَّفْخَةِ وَلَيْسَ هُوَ فَزَعًا مِنَ النَّفْخَةِ لِأَنَّ النَّاسَ حِينَ النَّفْخَةِ أَمْوَاتٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: ٨٩] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى قَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠١- ١٠٣] وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَادِرَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ. قَالَ تَعَالَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٣] وَقَالَ هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يُونُس: ٦٤].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَعَ أَنَّ النفخ مُسْتَقْبل، للإشعار بِتَحَقُّقِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَسْتَلْزِمُ التَّحَقُّقَ فَصِيغَةُ الْمَاضِي كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَقُّقِ، وَقَرِينَةُ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ يُنْفَخُ.
وَالدَّاخِرُونَ: الصَّاغِرُونَ. أَيِ الْأَذِلَّاءُ، يُقَالُ: دَخَرَ بِوَزْنِ مَنَعَ وَفَرِحَ وَالْمَصْدَرُ الدَّخَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَالدُّخُورُ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الظَّاهِرُ فِي آتَوْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْإِتْيَانُ إِلَى اللَّهِ الْإِحْضَارُ فِي مَكَانِ قَضَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ على تَقْدِير: ءاتون فِيهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (كُلٌّ) الْمُعَوَّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ فَزِعَ مِمَّن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ آتُوهُ دَاخِرِينَ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ بِأَنَّهُ شَاءَ أَنْ لَا يَفْزَعُوا فَهُمْ لَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَوْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَتَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
46
أَتَوْهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي فَهُوَ كَقَوْلِه فَفَزِعَ.
[٨٨]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٨]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ حَكَتْ حَادِثًا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً عَطْفًا عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] أَيْ وَيَوْمَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً إِلَخْ.. وَجَعَلُوا الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةً، وَمَرَّ السَّحَابِ تَشْبِيهًا لِتَنَقُّلِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي السُّرْعَةِ، وَجَعَلُوا اخْتِيَارَ التَّشْبِيهِ بِمُرُورِ السَّحَابِ مَقْصُودًا مِنْهُ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ حَالِ الْجِبَالِ حِينَ ذَلِكَ الْمُرُورِ بِحَالِ السَّحَابِ فِي تَخَلْخُلِ الْأَجْزَاءِ وَانْتِفَاشِهَا فَيَكُونُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥]، وَجَعَلُوا الْخَطَابَ فِي قَوْلِهِ تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَرَى، وَجَعَلُوا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧]. فَلَمَّا أَشْكَلَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ تَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ دَكِّ الْجِبَالِ وَنَسْفِهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَارِعَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَوْ قُبَيْلَهَا، فَأَجَابُوا بِأَنَّهَا تَنْدَكُّ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُسَيَّرُ يَوْمَ الْحَشْرِ لِقَوْلِهِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً إِلَى أَنْ قَالَ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه: ١٠٥- ١٠٨] لِأَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ إِسْرَافِيلُ (وَفِيهِ أَنَّ لِلِاتِّبَاعِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً، وَلِلدَّاعِي مَعَانِيَ أَيْضًا).
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا نَسْفُ الْجِبَالِ وَدَكُّهَا وَبَسُّهَا. وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا عَطْفَ وَتَرَى الْجِبالَ عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] حَتَّى يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ عَمَلُ لَفْظِ (يَوْمَ) بَلْ يَجْعَلُوهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الْمَذْكُورَةُ أُولَى حَاصِلَةً ثَانِيًا.
وَجَعَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ صُنْعَ اللَّهِ إِلَخْ مُرَادًا بِهِ تَهْوِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ وَتَسْيِيرَ الْجِبَالِ مِنْ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الصُّنْعَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا فِي مَادَّة صنع مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنَّ الْإِتْقَانَ إِجَادَةٌ، وَالْهَدْمَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْقَانٍ.
47
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قِيلَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، أَيْ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. وَفِيمَا ضُرِبَ فِيهِ الْمَثَلُ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا يَظُنُّ النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ كَالْجِبَالِ وَهِيَ آخِذَةٌ بِحَظِّهَا مِنَ الزَّوَالِ كَالسَّحَابِ، قَالَهُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْإِيمَانِ تَحْسَبُهُ ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ، وَعَمَلُهُ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ تَسِيرُ إِلَى الْعَرْشِ.
وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّمْثِيلِ التَّشْبِيهَ وَالِاسْتِعَارَةَ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِدِ الْبَصِيرِ بُعْدُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجِبالَ مُشَبَّهًا بِهَا فَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجِبالَ مُسْتَعَارًا لِشَيْءٍ وَكَانَ مَرُّ السَّحَابِ كَذَلِكَ كَانَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ وَلَا ضِمْنِيًّا.
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ شِفَاءٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الرَّائِيَ يَحْسَبُ الْجِبَالَ جَامِدَةً، وَلَا بَيَانِ وَجْهِ تَشْبِيهِ سَيْرِهَا بِسَيْرِ السَّحَابِ، وَلَا تَوْجِيه التذليل بِقَوْلِهِ تَعَالَى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَضْعٌ دَقِيقٌ، وَمَعْنًى بِالتَّأَمُّلِ خَلِيقٌ، فَوَضْعُهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَبَيَانِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: ٨٧- ٨٩] بِأَنْ يَكُونَ مِنْ تُخَلِّلِ دَلِيلٍ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ إِدْمَاجًا وَجَمْعًا بَيْنَ اسْتِدْعَاءٍ لِلنَّظَرِ، وَبَيْنَ الزَّوَاجِرِ وَالنُّذُرِ، كَمَا صُنِعَ فِي جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] الْآيَةَ.
أَوْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُهُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ وَبَدِيعِ الصَّنْعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ
الَّذِي أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ مُعْجِزَةً مِنَ الْجَانِبِ الْعِلْمِيِّ يُدْرِكُهَا
48
أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِلْبُلَغَاءِ مِنْ جَانِبِهِ النَّظْمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدُورُ حَوْلَ الْأَرْضِ فَيَنْشَأُ مِنْ دَوَرَانِهَا نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَحْسُبُونَ الْأَرْضَ سَاكِنَةً. وَاهْتَدَى بَعْضُ عُلَمَاء اليونان إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَتَكَوَّنُ مِنْهَا ظُلْمَةُ نصف الكرة الأرضي تَقْرِيبًا وَضِيَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ وَذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَظَرِيَّةً مَرْمُوقَةً بِالنَّقْدِ وَإِنَّمَا كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهَا قَاعِدَةَ أَنَّ الْجِرْمَ الْأَصْغَرَ أَوْلَى بِالتَّحَرُّكِ حَوْلَ الْجِرْمِ الْأَكْبَرِ الْمُرْتَبِطِ بِسَيْرِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مُخْتَلِفَةُ الْمَدَارَاتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ الْأَصْغَرُ حَوْلَ الْأَكْبَرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ وَضَبْطِ الْحِسَابِ وَمَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا فِي الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضِيِّ (غَالِيلِي) الْإِيطَالِيِّ.
وَالْقُرْآنُ يُدْمِجُ فِي ضِمْنِ دَلَائِلِهِ الْجَمَّةِ وَعَقِبَ دَلِيلِ تَكْوِينِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ دَلِيلًا رَمَزَ إِلَيْهِ رَمْزًا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْمُفَسِّرُونَ أَوْ تَسْمَعْ لَهُمْ رِكْزًا.
وَإِنَّمَا نَاطَ دَلَالَةَ تَحَرُّكِ الْأَرْضِ بِتَحَرُّكِ الْجِبَالِ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ هِيَ الْأَجْزَاءُ النَّاتِئَةُ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَظُهُورُ تَحَرُّكِ ظِلَالِهَا مُتَنَاقِصَةً قَبْلَ الزَّوَالِ إِلَى مُنْتَهَى نَقْصِهَا، ثُمَّ آخِذَةً فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمُشَاهَدَةُ تَحَرُّكِ تِلْكَ الظِّلَالِ تَحَرُّكًا يُحَاكِي دَبِيبَ النَّمْلِ أَشَدُّ وُضُوحًا لِلرَّاصِدِ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ تَحَرُّكِ قِمَمِهَا أَمَامَ قُرْصِ الشَّمْسِ فِي الصَّباح وَالْمَاء أَظْهَرُ مَعَ كَوْنِ الشَّمْسِ ثَابِتَةً فِي مَقَرِّهَا بِحَسَبِ أرصاد البروج والأنواء.
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] فَجُعِلَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ وَتَرَى الْجِبالَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ لِمَعْنًى يُدْرِكُ هُوَ كُنْهَهُ وَلِذَلِكَ خُصَّ الْخِطَابُ بِهِ وَلَمْ يُعَمَّمْ كَمَا عُمِّمَ قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] فِي هَذَا الْخطاب، وادخارا لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدَّقِيقَةِ. فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي نِظَامِ الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، اخْتَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِهَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي قُرْآنِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِهِ للنَّاس مصلحَة حنيئذ
49
حَتَّى إِذَا كَشَفَ الْعِلْمُ عَنْهُ مِنْ نِقَابِهِ وَجَدَ أَهْلُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَاسْتَلُّوا سَيْفَ الْحُجَّةِ بِهِ وَكَانَ فِي قِرَابِهِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِلْآيَةِ هُوَ الَّذِي يساعد قَوْلُهُ وَتَرَى الْجِبالَ الْمُقْتَضِيَ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهَا
فِي هَيْئَةِ السَّاكِنَةِ، وَقَوْلَهُ تَحْسَبُها جامِدَةً إِذْ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى الْجَامِدَةِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالَةَ الْجِبَالِ إِذْ لَا تَكُونُ الْجِبَالُ ذَائِبَةً.
وَقَوْلُهُ وَهِيَ تَمُرُّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السَّيْرِ مَرَّ السَّحابِ أَيْ مَرًّا وَاضِحًا لَكِنَّهُ لَا يَبِينُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ اعْتِبَارٌ بِحَالَةِ نِظَامِهَا الْمَأْلُوفِ لَا بِحَالَةِ انْخِرَامِ النِّظَامِ لِأَنَّ خَرْمَ النِّظَامِ لَا يُنَاسِبُ وَصْفَهُ بِالصُّنْعِ الْمُتْقَنِ وَلَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ.
ومَرَّ السَّحابِ مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ مُرُورِ الْجِبَالِ، أَيْ مُرُورًا تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ مَعَ أَنَّ الرَّائِيَ يَخَالُهَا ثَابِتَةً فِي مَكَانِهَا كَمَا يَخَالُ نَاظِرُ السَّحَابِ الَّذِي يَعُمُّ الْأُفُقَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ صوب إِلَى صَوْبٍ وَيُمْطِرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاظِرُ إِلَّا وَقَدْ غَابَ عَنْهُ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَرَّ غَيْرُ السَّيْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْف: ٤٧] فَإِنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ بِتَقْدِيرِ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِهَذَا النِّظَامِ الْعَجِيبِ إِذْ تَتَحَرَّكُ الْأَجْسَامُ الْعَظِيمَةُ مَسَافَاتٍ شَاسِعَةً وَالنَّاسُ يَحْسَبُونَهَا قَارَّةً ثَابِتَةً وَهِيَ تَتَحَرَّكُ بِهِمْ وَلَا يَشْعُرُونَ.
وَالْجَامِدَةُ: السَّاكِنَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : الْجَامِدَةُ مِنْ جَمَدَ فِي مَكَانِهِ إِذَا لَمْ يَبْرَحْ، يَعْنِي أَنَّهُ جُمُودٌ مَجَازِيٌّ، كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْمَجَازِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَالصُّنْعُ. قَالَ الرَّاغِبُ: إِجَادَةُ الْفِعْلِ فَكُلُّ صُنْعٍ فِعْلٌ وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ صُنْعًا قَالَ تَعَالَى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٨٠] يُقَالُ لِلْحَاذِقِ الْمُجِيدِ:
صَنَعٌ، وَلِلْحَاذِقَةِ الْمُجِيدَةِ: صَنَاعٌ. اه. وَقَصَّرَ فِي تَفْسِيرِ الصُّنْعِ الْجَوْهَرِيُّ وَصَاحِبُ «اللِّسَانِ»
50
وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» وَاسْتَدْرَكَهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ».
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُهُم: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّخْطِئَةِ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا.
حَسَنًا وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِقُبْحِهِ. فَالصُّنْعُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ لِلْعَمَلِ الْجَيِّدِ النَّافِعِ وَإِذَا أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ عَلَى أَنَّهُ قَلِيلٌ أَوْ تَهَكُّمٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّنْعَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُتْقَنِ فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: ٦٩]، وَوَصْفُ اللَّهِ بِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ تَعْمِيمٌ
قصد بِهِ التذييل، أَيْ مَا هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ إِلَّا مُمَاثِلًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الصُّنْعِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ نِظَامٌ مُتْقَنٌ، وَأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَاسْتِدَامَةِ النِّظَامِ وَلَيْسَ من نوع الْخَرْمِ وَالتَّفْكِيكِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ تَذْيِيلٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ، عَقِبَ قَوْلِهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّ إِتْقَانَ الصُّنْعِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ سَعَةِ الْعِلْمِ فَالَّذِي بِعِلْمِهِ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُ الْخَلْقُ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يُخَالِفُوا عَنْ أَمْرِهِ.
ثُمَّ جِيءَ لِتَفْصِيلِ هَذَا بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [النَّمْل: ٨٩] الْآيَةَ فَكَانَ مِنَ التَّخَلُّصِ وَالْعَوْدِ إِلَى مَا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَمَنْ جَعَلُوا أَمْرَ الْجِبَالِ مِنْ أَحْدَاثِ يَوْمِ الْحَشْرِ جَعَلُوا جُمْلَةَ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سَائِلٍ: فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ النَّفْخِ وَالْفَزَعِ وَالْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ، فَأُجِيبَ جَوَابًا إِجْمَالِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِ النَّاسِ ثُمَّ فُصِّلَ بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.. [النَّمْل: ٨٩] الْآيَةَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَفْعَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يَفْعَلُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِينَ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: ٨٧].
[٨٩- ٩٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٨٩ الى ٩٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
هَذِهِ الْجُمْلَة بَيَان ناشىء عَنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
51
مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: ٨٧] لِأَنَّ الْفَزَعَ مُقْتَضٍ الْحَشْرَ وَالْحُضُورَ لِلْحِسَابِ. وَ (مَنْ) فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ شَرْطِيَّةٌ.
وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَسَنَةِ وبِالسَّيِّئَةِ لِلْمُصَاحَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّهُ ذُو الْحَسَنَةِ أَوْ ذُو السَّيِّئَةِ. وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ [١٦٠]. فَالْمَعْنَى هُنَا:
مَنْ يَجِيءُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مِنْ فَاعِلِي الْحَسَنَةِ وَمَنْ جَاءَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السَّيِّئَةِ، فَالْمَجِيءُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النَّمْل: ٨٧] وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا لِلْجِنْسِ وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى أَكْمَلِ
أَفْرَادِهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ، أَيْ مَنْ تَمَحَّضَتْ حَالَتُهُ لِلْحَسَنَاتِ أَوْ كَانَتْ غَالِبَ أَحْوَالِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ حَالَتُهُ مُتَمَحِّضَةً لِلسَّيِّئَاتِ أَوْ غَالِبَةً عَلَيْهِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
وخَيْرٌ مِنْها اسْمُ تَفْضِيلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ (مِنَ) التَّفْضِيلِيَّةُ، أَيْ فَلَهُ جَزَاءٌ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠] أَوْ خَيْرٌ مِنْهَا شَرَفًا لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ تَبْيِينُ قَوْلِهِ آنِفًا إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: ٨٧].
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَهْلَ الْحَسَنَاتِ، أَيْ تَمَحَّضُوا لَهَا أَوْ غَلَبَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ غَلَبَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُمْ مِنَ النَّوْعِ الْمَغْفُورِ بِالْحَسَنَاتِ أَوِ الْمَدْحُوضِ بِالتَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، أَيْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمْ وَغَطَّتْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ أَوْ تَمَحَّضُوا لِلسَّيِّئَاتِ بِأَنْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ وَالشَّقَاءِ. وَبَيْنَ أَهْلِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ فِي دَرَجَات الثَّوَاب ودركات الْعِقَابِ. وَجُمَّاعُ أَمْرِهَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أَثَرُهَا يَوْمَئِذَ عَاجلا أَو بِالآخِرَة، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أَثَرهَا السيء بِمِقْدَارِهَا وَمِقْدَارِ مَا مَعَهَا مِنْ أَمْثَالِهَا وَمَا يُكَافِئُهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ أَضْدَادِهَا فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الْأَنْبِيَاء: ٤٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى (يَوْمَ) مِنْ يَوْمَئِذٍ وَإِضَافَةِ (يَوْمَ) إِلَى إِذْ فَفُتْحَةُ (يَوْمَ) فُتْحَةُ بِنَاءٍ، لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ
52
غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ فَ فَزَعٍ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى (يَوْمَ) وَ (يَوْمَ) مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى (إِذْ) وَ (إِذْ) مُضَافَةٌ إِلَى جُمْلَتِهَا الْمُعَوِّضِ عَنْهَا تَنْوِينُ الْعِوَضِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ فَزَعِ يَوْمَ إِذْ يَأْتُونَ رَبَّهُمْ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينِ فَزَعٍ، ويَوْمَئِذٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُول فِيهِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِ آمِنُونَ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ إِذِ الْمُرَادُ الْفَزَعُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: ٨٧] فَلَمَّا كَانَ مُعَيَّنًا اسْتَوَى تَعْرِيفُهُ وَتَنْكِيرُهُ. فَاتَّحَدَتِ الْقِرَاءَتَانِ مَعْنًى لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ وَتَنْكِيرَهُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ إِفَادَةِ الْعُمُومِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ فَزَعٌ وَاحِدٌ.
وَالْكَبُّ: جَعْلُ ظَاهِرِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَعُدِّيَ الْكَبُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْوُجُوهِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ وَإِنْ كَانَ الْكَبُّ لِجَمِيعِ الْجِسْمِ لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَوَّلُ مَا يُقْلَبُ إِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْكَبِّ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
يَكُبُّ عَلَى الْأَذْقَانِ دَوْحَ الْكَنَهْبَلِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦] وَقَوْلِهِ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٤٩] وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
وَأُقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
تَذْيِيلٌ لِلزَّوَاجِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ بِذِكْرِ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ. وَذِكْرُ ضَمَائِرِهَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى هُنَا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَال: هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّلْخِيصِ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا الْعَقِيدَةُ إِلَّا عَمَلُ الْقَلْبِ فَلِذَلِكَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ بِالْمُوَاجَهَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُوَجَّهُ إِلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، أَيْ لَا يُقَالُ لِكُلِّ فَرِيقٍ: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
53
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَوُرُودُ هَلْ لِمَعْنَى النَّفْيِ أَثْبَتَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» اسْتِعْمَالًا تَاسِعًا قَالَ: «أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَا النَّفْيُ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى الْخَبَرِ بَعْدَهَا (إِلَّا) نَحْوُ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠]. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَا هَلْ أَخُو عَيْشٍ لَذِيذٍ بِدَائِمِ وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الْإِنْكَارِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَهُوَ مَعْنَى النَّفْيِ. وَهَذَا تَنْفَرِدُ بِهِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ فِي «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ»
قَوْلُهُ: يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ هَلْ النَّفْيُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ثَمَّةَ اسْتِفْهَامًا لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ» اه.
وَأَقُولُ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَهل أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ
حَيْثُ جَاءَ بِ (مِنْ) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَعَلَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّقْرِيرِ بِالنَّفْيِ.
وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ غَالِبًا وَالْحَرْفُ الزَّائِدُ فِي النَّفْيِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حَذَفُوا النَّافِيَ وَأَشْرَبُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ فَصَارَ مُفَادُ الْكَلَامِ نَفْيًا وَانْسَلَخَتْ (هَلْ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَصَارَتْ مُفِيدَةً النَّفْيَ.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَعْرَاف [١٤٧].
[٩١- ٩٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٩١ إِلَى ٩٢]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)
أَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ
54
أُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْوَعِيدِ بِأَفَانِينَ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّضَمُّنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ مُفَصَّلًا ذَلِكَ تَفْصِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ١، ٢] إِلَى هُنَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ إِلْحَافُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَجَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: ٧١].
وَأَتَتْ عَلَى دَحْضِ مَطَاعِنِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَتَوَرُّكِهِمْ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا، وَثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّثْبِيتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارا [النَّمْل:
٧] وَقَوْلِهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩]، وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ. بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فَذْلَكَةَ الْحِسَابِ، وَخِتَامًا لِلسُّورَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، أَفْسَدَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ازْدِهَاءَهُمْ بِمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَفْحَمُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ وَيَطِيرُ غُرَابُ غُرُورِهِمْ بِمَا نَظَمُوهُ مِنْ سَفْسَطَةٍ، وَجَاءُوا بِهِ مِنْ خَلْبَطَةٍ، وَيَزِيدُ الرَّسُولَ تَثْبِيتًا وَتَطْمِينًا بِأَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ بِأَنَّ أُمِرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها فَهَذَا تَلْقِينٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النَّمْل: ٩٢، ٩٣] فَإِنَّ الْأَوَّلَ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ لِإِفَادَةِ حَصْرٍ إِضَافِيٍّ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مُحَاوَرَاتُهُمُ السَّابِقَةُ مِنْ طَلَبِ تَعْجِيبِ الْوَعِيدِ، وَمَا تَطَاوَلُوا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْحَشْرِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَبْتَغُونَ مِنْ تَعْيِينِ أَجَلِ الْوَعِيدِ وَلَا مِنِ اقْتِلَاعِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ مِنْ نُفُوسِكُمْ وَلَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ أَثْبُتَ عَلَى عِبَادَةِ رَبٍّ وَاحِدٍ وَأَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ الْبَرَاهِينُ السَّاطِعَةُ وَالدَّلَالَاتُ الْقَاطِعَةُ فَمَنِ اهْتَدَى فَلَا يَمُنُّ عَلَيَّ اهْتِدَاءَهُ وَإِنَّمَا نَفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَنْ ضَلَّ فَمَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى اهْتِدَائِهِ، وَلَكِنِّي مُنْذِرُهُ كَمَا أَنْذَرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهَا فَلَمْ يَمْلِكُوا لَهُمْ هَدْيًا حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الضَّالِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠].
55
وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ هَذَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَكَّةَ وَتَعْرِيضًا بِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالَّذِي أَسْكَنَهُمْ بِهَا وَحَرَّمَهَا فَانْتَفَعُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ فَكَاشَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: ٧٤].
فَلِهَذِهِ النُّكَتِ أَجْرَى عَلَى اللَّهِ صِلَةَ حَرَّمَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ لِلْبَلْدَةِ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ: الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الصِّلَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَا تَمْلِكُ مِنَ الْبَلْدَةِ شَيْئًا وَلَا أَكْسَبَتْهَا فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَهَذَا كَقَوْلِه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
[قُرَيْش: ٣].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ بِهَا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِمْ بِحُضُورِ مَا هُوَ بَادٍ مِنْهَا لِلْأَنْظَارِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبِقَاعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاشِيَةٌ قَالَ تَعَالَى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [هود: ٦٠] وَقَالَ إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: ٣١].
وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ مَكَّةَ بِاسْمِهَا الْعَلَمِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِشَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَتَبْيِينُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْبَلْدَةِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ اسْمٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَحُوزَةٍ فَيَشْمَلُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى نِهَايَةِ حُدُودِ الْحَرَمِ. وَمَعْنَى حَرَّمَها جَعَلَهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ. وَيَعْلَمُ مُتَعَلِّقُ الْمَنْعِ بِسِيَاقِ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ الْمَمْنُوعَ. فَالْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلْدَةِ تَحْرِيمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا يُضَادُّ صَلَاحَهَا وَصَلَاحَ مَا بِهَا
مِنْ سَاكِنٍ وَدَابَّةٍ وَشَجَرٍ. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْعُ غَزْوِ أَهْلِهَا وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ وَمَنْعُ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا عَلَى حُدُودٍ مَعْلُومَةٍ. وَهَذَا التَّحْرِيمُ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لِتَوْحِيدِهِ وَبِاسْتِجَابَتِهِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: ١٢٦].
فَالتَّحْرِيمُ يَكُونُ كَمَالًا لِلْمُحَرَّمِ وَيَكُونُ نَقْصًا عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ وَصَفْتِهِ، فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مَزِيَّةٌ وَتَفْضِيلٌ، وَتَحْرِيمُ الْفَوَاحِشِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ تَحْقِيرٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمَاتُ لِلنَّسْلِ وَالرَّضَّاعِ وَالصِّهْرِ زِيَادَةٌ فِي الْحُرْمَةِ.
56
فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ: مَنْعُ مَا يَضُرُّ بِالْحَالِّ فِيهِ. وَتَحْرِيمُ الزَّمَانِ، كَتَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:
مَنْعُ مَا فِيهِ ضُرٌّ لِلْمَوْجُودِينَ فِيهِ.
وَتَعْقِيبُ هَذَا بِجُمْلَةِ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ إِضَافَةِ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى الْبَلْدَةِ اقْتِصَارُ مُلْكِهِ عَلَيْهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا لِتَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِتَعْيِينِ مَظْهَرِ مُلْكِهِ.
وَتَكْرِيرُ (أُمِرْتُ) فِي قَوْلِهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ يَعْمَلُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَمْرُ إِلْهَامٍ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ قَبْلِ الرِّسَالَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَمْرٌ يَقْتَضِي الرِّسَالَةَ وَقَدْ شَمِلَ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُكَرِّرْ (أُمِرْتُ) فِي قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِسْلَامِ والتلاوة من شؤون الرِّسَالَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جَعَلَ الله رَسُوله من آحَادَهَا، وَذَلِكَ نُكْتَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا.
وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الْبَقَرَة: ١٢١]، وَقَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التِّلَاوَةِ لِظُهُورِهِ، أَي أَن أتلوا الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ. وَفُرِّعَ عَلَى التِّلَاوَةِ مَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَيْ مُنْتَفِعٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ مُنْتَفِعٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَحْرِيضِ السَّامِعِينَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُ كَمَا آذَنَتْ بِهِ اللَّامُ.
وَإِظْهَارُ فِعْلِ الْقَوْلِ هُنَا لِتَأْكِيدٍ أَنَّ حَظَّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَعْوَةِ الْمُعْرِضِينَ الضَّالِّينَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْإِنْذَارَ فَلَا يَطْمَعُوا أَنْ يَحْمِلَهُ إِعْرَاضُهُمْ عَلَى أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ قَبُولَ دَعْوَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذِرِينَ: الرُّسُلُ، أَيْ إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الرُّسُلِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَسُنَّتِي سُنَّةُ من أرسل من الرُّسُل قَبْلِي وَهِيَ التَّبْلِيغُ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: ٣٥].
57

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٩٣]

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
كَانَ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُعَانِدِينَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِهِ النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي عِدَادِ الرُّسُلِ الْمُنْذِرِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأَبْشَرِهَا بِأَعْظَمِ دَرَجَةٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُمِرَ بِأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي حَمِدَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَامِعَةُ لِمَعَانٍ مِنَ الْمَحَامِدِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٩].
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُعَانِدُونَ حِينَ يَسْمَعُونَ آيَاتِ التَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَقَصْرِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نَقْضٌ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِتَحْقِيقِ أَنَّ الْوَعِيدَ قَرِيبٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ فَتَظْهَرُ لَهُمْ دَلَائِلُ صِدْقِ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الْوَعيد بِالْآيَاتِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا فِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُوقِنُونَ أَنَّ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى فَتَعْرِفُونَها تَعْرِفُونَ دَلَالَتَهَا عَلَى مَا بَلَّغَكُمُ الرَّسُولُ مِنَ النِّذَارَةِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَمَّا عُلِّقَتْ بِهَا بِعُنْوَانِ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ مَا فِي عُنْوَانِ الْآيَاتِ مِنْ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْعَلَامَةِ.
وَالسِّينُ تُؤْذِنُ بِأَنَّهَا إِرَاءَةٌ قَرِيبَةٌ، فَالْآيَاتُ حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ الدُّخَانِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَاسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهَا تَحْصُلُ عَقِبَ حُصُولِهَا وَلَوْ فِي وَقْتِ النَّزْعِ وَالْغَرْغَرَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣]. فَمِنَ الْآيَاتِ فِي أَنْفُسِهِمْ إِعْمَالُ سُيُوفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَرُوحُهُ فِي الْغَلْصَمَةِ يَوْمَ
بَدْرٍ «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتْلَهُ قَوْمُهُ» يَعْنِي نَفْسَهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ.
58
وَقَوْلُهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَفِيهِ زِيَادَةُ إِنْذَارٍ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَسْتَوْجِبُ مَا سَيَرَوْنَهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ: مَا يَعْمَلُونَهُ فِي جَانِبِ تَلَقِّي دَعْوَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرْآنِهِ لِأَنَّ نَفْيَ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِالْمِرْصَادِ لَا يُغَادِرُ لَهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ شَيْئًا.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَعْمَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قُلِ، وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَام بعد مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ أَحْصَى أَعْمَالَهُمْ وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَنْهَا فَلَا يَيْأَسُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ.
وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةً جَامِعَة بَالِغَة أقصد حَدٍّ مِنْ بَلَاغَةِ حُسْنِ الْخِتَامِ
59

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٨- سُورَةُ الْقَصَصِ
سُمِّيَتْ سُورَةَ الْقَصَصِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ وُقُوعُ لَفْظِ الْقَصَصَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ [الْقَصَصَ: ٢٥]. فَالْقَصَصُ الَّذِي أُضِيفَتِ إِلَيْهِ السُّورَةُ هُوَ قَصَصُ مُوسَى الَّذِي قَصَّهُ عَلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِيمَا لَقِيَهُ فِي مِصْرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا. فَلَمَّا حُكِيَ فِي السُّورَةِ مَا قَصَّهُ مُوسَى كَانَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ ذَاتَ قَصَصٍ لِحِكَايَةِ قَصَصٍ، فَكَانَ الْقَصَصُ مُتَوَغِّلًا فِيهَا. وَجَاءَ لَفْظُ الْقَصَصِ فِي سُورَةِ [٣] يُوسُفَ وَلَكِنَّ سُورَةَ يُوسُفَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ. وَفِيهَا آيَةُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَص: ٨٥]. قِيلَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ. وَهَذَا لَا يُنَاكِدُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلْ قَبْلَ حُلُولِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَدَنِيِّ مَا نَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ بِمَكَّةَ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٢- ٥٥] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.
وَهِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّمْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الطَّوَاسِينُ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً فِي النُّزُولِ كَمَا هُوَ تَرْتِيبُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي افْتِتَاحِ ثَلَاثَتِهَا بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ كُتَّابَ الْمُصْحَفِ عَلَى جَعْلِهَا مُتَلَاحِقَةً.
وَهِيَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.
61
أَغْرَاضُهَا
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ بُلَغَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَعَلَى تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٨، ١٩] مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إِلَى قَوْلِهِ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ كَانَتْ تَرْبِيَةُ مُوسَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ.
وَبَيَّنَ فِيهَا سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ.
وَفِيهَا تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٧] مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ سَارَ مُوسَى وَأَهْلُهُ وَأَيْنَ آنَسَ النَّارَ وَوَصْفَ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ بِالْوَحْيِ إِلَى أَنْ ذَكَرَتْ دَعْوَةَ مُوسَى فِرْعَوْنَ فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوْعَبَ لِأَحْوَالِ نَشْأَةِ مُوسَى إِلَى وَقْتِ إِبْلَاغِهِ الدَّعْوَةَ ثُمَّ أَجْمَلَتْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَفْصِيلَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْصِيلِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي بِعْثَةِ الرُّسُلَ وَمُعَامَلَتِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِهَا.
وَتَحَدَّى الْمُشْرِكِينَ بِعِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ذَيَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الشِّرْكِ وَأَنْذَرَهُمْ إِنْذَارًا بَلِيغًا.
وَفَنَّدَ قَوْلَهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] مِنَ الْخَوَارِقِ كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ثُمَّ انْتِقَاضِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا مُوسَى أَيْضًا.
وَتَحَدَّاهُمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ مَعَ هَدْيِ التَّوْرَاةِ.
وَأَبْطَلَ مَعَاذِيرَهُمْ ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَ اللَّهِ.
وَسَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا كُلُّهَا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
62
Icon