ﰡ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل من أيدي وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعدوي مفعول به، وهو يقع على الواحد فما فوقه لأنه بزنة المصدر، وعدوكم عطف على عدوي وأولياء مفعول به ثان وجملة تلقون حال من فاعل تتخذوا ويجوز أن تكون في موضع نصب صفة لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية لا محل لها لموالاتهم إياهم وقيل هي استئناف مسوق للإخبار بذلك وتلقون فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل الباء زائدة والمودّة هي المفعول به ولا حذف وإليهم متعلق بتلقون (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل والجملة حال من لا تتخذوا أو من تلقون والمعنى لا توادوهم وهذه حالهم وبما متعلقان بكفروا وجملة جاءكم صلة ومن الحق حال (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) جملة يخرجون مستأنفة أو مفسّرة لكفرهم فلا محل لها على الحالين ويجوز أن تكون حالا من فاعل كفروا والرسول مفعول وإياكم عطف على الرسول وأن تؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله أي لإيمانكم بالله وبالله متعلق بتؤمنوا وربكم بدل (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة خرجتم خبر كنتم وجهادا مفعول لأجله أي لأجل الجهاد ويجوز أن يكون النصب على الحال أي حال كونكم مجاهدين وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) جملة تسرون إما مستأنفة وإما تابعة لتلقون إليهم على أنها بدل بعض من كل لأن إلقاء المودّة أعمّ من السرّ والجهر، وتسرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف وبالمودّة متعلقان بتسرون أو الباء زائدة في
«ثقفت الشيء ثقفا من باب تعب أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف» (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) عطف على يكونوا وإليكم متعلقان بيبسطوا وأيديهم مفعول به وألسنتهم عطف على أيديهم وبالسوء حال (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف أيضا على جملة الشرط والجزاء فيكون تعالى قد أخبر بخبرين: بما تضمنته الجملة الشرطية وبودادتهم كفر المؤمنين وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي، ولو مصدرية وتكفرون فعل مضارع مرفوع ولو وما في حيّزها مصدر في محل نصب مفعول ودّوا (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للإعلام بأن أرحامهم وأولادهم لن ينفعوهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به مقدم وأرحامكم فاعل مؤخر ولا أولادكم عطف على أرحامكم ويوم القيامة ظرف متعلق بما قبله أي لن ينفعكم يوم القيامة فيوقف عليه أو متعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، ويفصل فعل مضارع
البلاغة:
عدل عن المضارع المناسب لما قبله في قوله «وودّوا لو تكفرون» إلى الماضي مع أن السياق يتطلب أن يكون مضارعا مستقبلا لاعتباره قد كان أي أن ودادتهم كفركم هو المهم لديهم ولا شيء يعدله في الرجحان، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم جميع مضار الدنيا والدين وارتدادكم كفّارا أسبق المضار لكم لأنهم يعلمون أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم وهذا من بديع التعبير.
الفوائد:
وقد آن أن ننقل إليك خلاصة وافية للقصة التي نزلت السورة بسببها لما فيها من متعة وفائدة فقد روى الأئمة واللفظ لمسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- بالصرف وعدمه- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادي خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا اخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول
نص الكتاب:
أما نص كتاب حاطب فهو «أما بعد فإن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ولأنجز له موعده فيكم فإن الله وليّه وناصره».
وذكر القشيري والثعلبي أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن وكان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزّى رهط الزبير بن العوّام وقيل كان حليفا للزبير بن العوّام فقدمت من مكة سارة إلى المدينة ورسول الله يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا قال: فما جاء بك؟
قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشير وقد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فقال عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من شباب مكة وكانت
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٧]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
(أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها وقد قرىء بها أيّ القدوة وما يتعزى به والجمع أسى بضم الهمزة وكسرها أيضا.
(بَراءٌ) جمع بريء كظريف وظرفاء ويجمع أيضا على براء بكسر الباء كظريف وظرف وعلى براء بضم الباء كتؤام وظؤار وعلى أبراء وأبرياء والبريء الخالص والخالي وخلاف المذنب والمتهم.
الإعراب:
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثال الجدير بالاحتذاء في النهي عن موالاة الكفّار والركون إلى الأعداء وأن الصدور المطوية على الضغن يجب أن تبقى على عدائها حتى يزول السبب القائم فإذا زال انقلبت العداوة مودّة والبغضاء محبة. وقد حرف تحقيق وكانت فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وأسوة اسمها المؤخر وحسنة نعت لأسوة، وفي إبراهيم:
لك أن تعلقه بمحذوف صفة ثانية لأسوة أو حال منها لأنها وصفت، وعبارة أبي البقاء «فيه أوجه: أحدها هو نعت آخر لأسوة والثاني هو متعلق بحسنة تعلق الظرف بالعامل والثالث أن يكون حالا من الضمير في حسنة والرابع أن يكون خبرا لكان ولكم تبيين ولا يجوز أن يتعلق بأسوة لأنها قد وصفت» وقد ردّ على أبي البقاء عدد من المعربين الوجه الأخير لأن الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر بغيرها، والذين عطف على إبراهيم ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الصلة للذين (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن أي حين قالوا وهو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أولى الأعاريب المتكلفة التي ذكرها أبو البقاء وغيره، وجملة قالوا في محل
مفتونين بهم بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، وللذين متعلقان بفتنة على الحالين وجملة كفروا صلة الموصول وربنا منادى مضاف كرره للتأكيد وإن واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن والحكيم خبر ثان على كل حال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) الجملة تابعة لجملة قد كانت لكم أسوة تأكيد لها أتى بها للمبالغة في التحريض على الحكم. واللام موطئة لقسم مقدّر وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وفيهم حال وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة نعت لأسوة ولمن
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
الإعراب:
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الترخيص في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)اللغة:
(فَامْتَحِنُوهُنَّ) فابتلوهنّ واختبروهن ولذلك سمّيت السورة الممتحنة بكسر الحاء أي المختبرة، أراد المرأة أو الجماعة الممتحنة فقد ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء يكون المعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان وسيأتي حديثها في باب الفوائد.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها والمؤمنات فاعل مؤخر ومهاجرات حال والفاء رابطة وجملة امتحنوهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبإيمانهنّ متعلقان بأعلم لأنه أفعل تفضيل والفاء عاطفة وإن شرطية وعلمتموهنّ فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به أول ومؤمنات مفعول به ثان والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية ولا ناهية وترجعوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وإلى الكفّار متعلقان بترجعوهنّ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية لقوله فلا ترجعوهنّ، ولا نافية
النسوة والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة حالية أي حال كونهنّ طالبات للمبايعة وعلى حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بيبايعنك وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ) كلام معطوف على أن لا يشركن ومعنى يقتلن أولادهنّ كما كان الحال في زمن الجاهلية من وأد البنات، وببهتان متعلقان بيأتين وجملة يفترينه حالية وبين أيديهنّ وأرجلهنّ الظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب في يفترينه أي يأتين بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، وجميل وصفه بصفة الولد الحقيقي فإن الولد متى وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها، فبايعهنّ الفاء رابطة
البلاغة:
في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» فن الاستطراد وهو فن رفيع من فنون البيان وقد ذكر الحاتمي أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسمّاه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى ومنه في القرآن المجيد «ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» فقد
وإنّا لقوم لا نرى القتل سبة | إذا ما رأته عامر وسلول |
يقرب حب الموت آجالنا لنا | وتكرهه آجالهم فتطول |
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني | فنجوت منجى الحارث بن هشام |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم | ونجا برأس طمرة ولجام |
كالهيكل المبني إلا أنه | في الحسن جاء كصورة في هيكل |
ملك العيون فإن بدا أعطيته | نظر المحب إلى الحبيب المقبل |
ما إن يعاف قذى ولو أوردته | يوما خلائق حمدويه الأحول |
لم يبق منها وقود الطابخين لها | إلا كما أبقت الأنواء من داري |
ومن الغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو كقول جرير يهجو الفرزدق:
لها برص بأسفل أسكيتها | كعنفقة الفرزدق حين شابا |
اشتملت هذه السورة على فوائد تاريخية وتشريعية نورد منها ما يتعلق بموضوع كتابنا ونحيل القارئ إلى كتب الفقه والتفاسير المطوّلة:
١- روى التاريخ أنه لما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال يوم فتح مكّة أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه يبايعهنّ بأمره ويبلغهنّ عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال رسول الله ولا يسرقن فقالت إن أبا سفيان شحيح وإني أصبت من ماله هنات فما أدري أتحلّ لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف ما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة؟
وفي رواية: ما زنت منهنّ امرأة فقال عليه الصلاة والسلام: ولا يقتلن أولادهنّ فقالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم
٢- ذكروا في كيفية وأد البنات روايات شتى نرى أن أقربها إلى المنطق ما روي عن ابن عباس قال: «كانت المرأة في الجاهلية إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها وإذا ولدت غلاما أبقته، وكان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية أي بنت ست سنين يقول لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيذهب بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب.