بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النوروهي مدنية، وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ فيما خرجه من الزيادة على الصحيحين برواية شعيب بن إسحق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النساء :«لا تسكنوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور »( ١ ).
ﰡ
وَقَوله: ﴿وفرضناها﴾ قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، أما بِالتَّخْفِيفِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: ألزمناكم الْعَمَل بِمَا فرض فِيهَا، وَالْآخر: فرضناها أَي: قَدرنَا مَا فِيهَا من الْحُدُود، وَالْفَرْض هُوَ التَّقْدِير، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿فَنصف مَا فرضتم﴾ أَي: مَا قدرتم، وَأما بِالتَّشْدِيدِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان:
أَحدهمَا: فَرضنَا فرائضها، وشدد لما فِيهَا من الْكَثْرَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: فرضناها أَي: بيناها وفصلناها.
قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْأَمر بالحلال وَالنَّهْي عَن الْحَرَام.
وَقَوله: ﴿وأنزلنا فِيهَا آيَات بَيِّنَات﴾ أَي: دلالات واضحات.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ أَي: تتعظون.
وَقَوله: ﴿فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة﴾ الْجلد: ضرب الْجلد، يُقَال: جلدته إِذا ضربت جلده، وبطنته إِذا ضربت بَطْنه، وظهرته إِذا ضربت ظَهره، وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْأَبْكَار وَالثَّيِّب، فتجلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم. رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَنه جلد شراحة الهمدانية يَوْم الْخَمِيس مائَة، ورجمها يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ: جلدتها بِكِتَاب الله، ورجمتها بِسنة رَسُول الله ".
وَأما قَول عَامَّة الْعلمَاء فَهُوَ: أَن الْآيَة مَخْصُوصَة للأبكار، وَأَن الثّيّب يرْجم وَلَا يجلد، وَاتفقَ أهل الْعلم أَن هَذِه الْآيَة ناسخة؛ لِأَن الْمَذْكُورَة فِي الْإِمْسَاك فِي سُورَة النِّسَاء.
وَقد رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي نزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَنحن عِنْده، وَكَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي تغير وَجهه، وصرفنا أبصارنا عَنهُ، فَلَمَّا سرى عَنهُ قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عني فَقُلْنَا: نعم يَا رَسُول الله، فَقَالَ: قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا، الثّيّب بِالثَّيِّبِ الرَّجْم، وَالْبكْر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام ".
وَذكر النقاش أَن فِي حرف أبي بن كَعْب فِي سُورَة الْأَحْزَاب، " الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم ".
وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - قد هم أَن يكْتب هَذَا على حَاشِيَة الْمُصحف ثمَّ ترك لِئَلَّا يلْحق بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله﴾ وقرىء: " رافة " بِغَيْر همز، وقرىء فِي الشاذ: " رآفة " يَعْنِي: رَحْمَة. وَاعْلَم أَن الرَّحْمَة والرأفة معنى فِي الْقلب لَا ينْهَى عَنهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجد فِي الْقلب من غير اخْتِيَار إِنْسَان، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: اسْتِعْمَال الرَّحْمَة فِي (تَعْطِيل الْحَد) وتخفيفه.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه ضرب أمة لَهُ الْحَد، وَكَانَت قد زنت، فَجعل يضْرب رجلهَا وظهرها، فَقَالَ لَهُ سَالم ابْنه: ﴿وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله﴾ فَقَالَ: يَا بني: إِن الله لم يَأْمُرنِي بقتلها، وَلَا بِضَرْب رَأسهَا، وَقد ضربت فأوجعت. وَقد قَالَ أهل الْعلم: يجْتَهد فِي جلدَة الزَّانِي مَا لَا يجْتَهد فِي جلدَة شَارِب الْخمر لنَصّ الْكتاب.
(وَقَوله: ﴿فِي دين الله﴾ أَي: فِي حكم الله).
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمن لَا تَأْخُذهُ رَحْمَة ورقة إِذا جَاءَ أَمر الرب.
وَقَوله: ﴿وليشهد عَذَابهَا طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَاحِد فَمَا فَوْقه. وَعَن عَطاء: رجل إِلَى ألف رجل. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة: رجلَانِ. وَعَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة: ثَلَاثَة نفر. وَقَالَ مَالك: أَرْبَعَة نفر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أهل الْعلم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا: " كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا على أبوابهن رايات يعرفن بهَا، وَكن مخاصيب الرِّجَال، فَلَمَّا هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمَدِينَة أَرَادَ نَاس من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين أَن يتزوجوا بِهن لينفقن عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: معنى الْآيَة: " الزَّانِي المجلود لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة مجلودة، والزانية المجلودة لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان مجلود وَفِي بعض المسانيد: روى هَذَا القَوْل عَن النَّبِي بطرِيق أبي هُرَيْرَة.
وَالْقَوْل الْخَامِس - وَهُوَ أحسن الْأَقَاوِيل - قَول سعيد بن الْمسيب: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقد كَانَ فِي حكم الْإِسْلَام لَا يجوز أَن يتَزَوَّج الزَّانِي بالمزني بهَا. قَالَ عبد الله بن مَسْعُود. إِذا تزوج الزَّانِي بالزانية فهما زانيان أبدا. قَالَ سعيد بن الْمسيب: ثمَّ نسخ هَذَا بقوله تَعَالَى: ﴿وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم﴾ والزانية أيم، فَيجوز التَّزَوُّج بهَا للزاني وَغَيره، وَالدَّلِيل على أَن الحكم الْآن هَذَا، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْمَسْجِد وَعِنْده عمر، فجَاء رجل وَقد دهش، وَكَانَ بِهِ لوث، فَقَالَ أَبُو بكر: قد جَاءَ هَذَا لأمر، سَله يَا عمر، فَقَالَ لَهُ عمر: مَا شَأْنك؟ فَذكر أَنه جَاءَهُ ضيف، وَأَن الضَّيْف زنى بابنته، فَقَالَ لَهُ عمر: قبحك الله، ودق على صَدره، وَقَالَ: هلا سترت على ابْنَتك، ثمَّ دَعَا بِالرجلِ وَالْمَرْأَة، فَأمر أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يجلد الْجلد، (ثمَّ زوج الْمَرْأَة من الرجل) وَذكر أَبُو عبيد - رَحمَه الله - أَنه يكره للرجل أَن يتَزَوَّج بالفاجرة، وَإِن فجرت امْرَأَته اسْتحبَّ لَهُ طَلاقهَا، قَالَ: وَأما الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي " أَن رجلا أَتَاهُ وَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس، فَقَالَ: طَلقهَا فَقَالَ: إِنِّي أحبها. قَالَ: استمتع بهَا. قَالَ أَبُو [عبيد] هَذَا الْخَبَر نقل
وَقَوله: ﴿وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا أَن ذَلِك مَنْسُوخ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء﴾ أَي: على زناهن، وَالْمرَاد من الرَّمْي الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ الْقَذْف بِالزِّنَا.
وَقَوله: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة﴾ أَي: اضربوهم ثَمَانِينَ سَوْطًا.
وَقَوله: ﴿وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا﴾ اخْتلف السّلف فِي هَذَا، فَروِيَ عَن شُرَيْح وَالْحسن وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَجَمَاعَة أَنهم قَالُوا: شَهَادَة الْقَاذِف لَا تقبل أبدا إِذا حد وَإِن تَابَ، وَهَذَا قَول أهل الْعرَاق.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَجَمَاعَة: أَنه إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز.
وَقَالَ الشّعبِيّ: يقبل الله تَوْبَته، وَلَا تقبلون شَهَادَته؟ ! وَحكى سعيد بن الْمسيب أَن عمر قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، فَلم يتب، وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة.
وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا﴾ فَمن قَالَ: إِن شَهَادَة الْقَاذِف
قَوْله: ﴿وَأَصْلحُوا﴾ أَي: استقاموا على التَّوْبَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم﴾ أَي: غير أنفسهم.
وَقَوله: ﴿فشهادة أحدهم أَربع﴾ بِالرَّفْع، وقرىء بِالنّصب " أَربع "، فَأَما بِالرَّفْع فتقديره: فشهادة أحدهم الَّتِي تدرأ الْحَد أَربع، فَيكون رفعا على خبر الِابْتِدَاء، وَأما بِالنّصب فتقديره: فشهادة أحدهم أَن يشْهد أَربع.
وَقَوله: ﴿شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الصَّادِقين﴾ يَعْنِي: فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا.
(فِي فتية كسيوف الْهِنْد قد علمُوا | أَن هَالك كل من يخفى وينتعل) |
وَقَوله: ﴿إِن كَانَ من الْكَاذِبين﴾ يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.
وَقَوله: ﴿أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين﴾ يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.
وَقَوله: ﴿إِن كَانَ من الصَّادِقين﴾ أَي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، وَسبب نزُول الْآيَة، مَا روى ابْن عَبَّاس " أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته بِشريك بن سَحْمَاء عِنْد النَّبِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: الْبَيِّنَة، (وَإِلَّا) فحد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال: يَا رَسُول الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق، وسينزل الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا رَسُول الله هلالا وَامْرَأَته، ولاعن بَينهمَا، فَبَدَأَ هِلَال، والتعن أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغ الْخَامِسَة قَالَ لَهُ النَّبِي: أمسك فَإِنَّهَا مُوجبَة. فَقَالَ هِلَال إِن الله يعلم أَنِّي صَادِق وَشهد بالخامسة، ثمَّ قَامَت الْمَرْأَة فالتعنت أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغت الْخَامِسَة قَالَ لَهَا النَّبِي: أمسكي فَإِنَّهَا مُوجبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: فتلكت تلكؤا سَاعَة، حَتَّى ظننا أَنَّهَا سترجع ثمَّ قَالَت: لَا أفضح قومِي الْيَوْم، وَشهِدت بالخامسة، فَقَالَ النَّبِي: " إِن جَاءَت بِالْوَلَدِ أكحل الْعَينَيْنِ سابغ الأليتين خَدلج السَّاقَيْن، فَهُوَ لِشَرِيك بن سَحْمَاء، فَجَاءَت بِهِ على هَذَا النَّعْت، فَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَالْخَبَر صَحِيح.
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِد لَيْلَة جُمُعَة، ومعنا رجل فَخرج منا وَدخل بَيته، فَوجدَ مَعَ امْرَأَته رجلا، فجَاء إِلَى النَّبِي، وشكا إِلَيْهِ فَقَالَ: عَلَيْك بالشهود فَقَالَ: وأنى لي بالشهود؟ فَقَالَ: قد حرت فِي هَذَا الْأَمر، فَإِن الرجل إِن قتل قَتَلْتُمُوهُ، وَإِن تكلم حددتموه، وَإِن سكت سكت على
وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِيه حَدِيث عَاصِم بن عدي [وعويمر] الْعجْلَاني وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ مَذْكُور فِي كتب الحَدِيث.
جَوَاب الْآيَة مَحْذُوف، وَمثله قَول الرجل إِذا شَتمه إِنْسَان: أَيهَا الرجل لَوْلَا كَذَا أَي: لَوْلَا كَذَا لشتمتك، فعلى هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا
ويروى أَنه... تلبث الْوَحْي [سَبْعَة] وَثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن عَائِشَة اشتكت واستأذنت رَسُول الله، وَرجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَكَانَ رَسُول الله يدْخل قبل رُجُوعهَا إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَهِي مشتكية، فَيَقُول: " كَيفَ تيكم؟ " ثمَّ لما رجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا عرفت الْخَبَر من قبل أم مسطح فازدادت وبقا، وَجعلت تبْكي، وَلَا يرقأ لَهَا دمع، حَتَّى كَاد الْبكاء يصدع قَلبهَا، وَذكرت لذَلِك لأمها، فَقَالَت لَهَا أمهَا: هوني عَلَيْك فقلما تكون امْرَأَة وضيئة عِنْد رجل، وَلها ضرائر إِلَّا تكلمُوا فِيهَا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي دَعَا عليا وَأُسَامَة بن زيد، واستشارهما، فَأَما عَليّ فَقَالَ يَا رَسُول الله، إِن فِي النِّسَاء كَثْرَة، وَأما أُسَامَة فَقَالَ: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا خيرا، وسل الْجَارِيَة - يَعْنِي: بَرِيرَة - فَسَأَلَ بَرِيرَة فَقَالَت: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا جَارِيَة حَدِيثَة السن تعجن، فَتدخل الدَّاجِن فتأكل عَجِينهَا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي جَاءَ إِلَى بَيت أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - بعد أَن مَضَت الْمدَّة الَّتِي ذَكرنَاهَا، فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِن كنت أَلممْت بذنب فتوبي إِلَى الله، فَإِن الله يقبل التَّوْبَة: قَالَت: فقلص دمعي حَتَّى مَا أجد مِنْهُ قَطْرَة، ثمَّ قلت: إِن قلت أَنِّي فعلت، وَالله يعلم أَنِّي مَا فعلت ليصدقنني، وَإِن قلت: لم أفعل، وَالله يعلم أَنِّي لم أفعل ليكذبنني، وَمَا أعرف مثلي ومثلكم إِلَّا مَا قَالَ أَبُو يُوسُف، ونسيت اسْمه ﴿فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون﴾ ثمَّ تنحيت، فَأخذ رَسُول الله [] الْوَحْي، قَالَت: وَكنت أَحْقَر فِي نَفسِي أَن أَظن أَن الله ينزل فِي قُرْآنًا يُتْلَى،
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن أَبَوي كَادَت نفسهما تخرج خوفًا، فَلَمَّا سرى عَن رَسُول الله قَالَ: " أَبْشِرِي يَا عَائِشَة قد أنزل الله تَعَالَى براءتك، وتلا الْآيَات: ﴿إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم﴾ فَقَالَ لي أبي: قومِي إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت أُمِّي: قومِي إِلَى رَسُول الله، فَقلت: لَا أقوم وَلَا أَحْمد إِلَّا الله، فَإِن الله تَعَالَى أنزل براءتي ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم﴾ الْإِفْك هُوَ أَشد الْكَذِب، وَإِنَّمَا سمي إفكا لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق. وَقَوله: ﴿عصبَة مِنْكُم هَؤُلَاءِ الْعصبَة هم: عبد الله بن أبي بن سلول، ومسطح بن أَثَاثَة ابْن خَالَة أبي بكر، وَحسان بن ثَابت، وَحمْنَة بنت جحش زَوْجَة طَلْحَة بن عبد الله أُخْت زَيْنَب، وَنَفر آخَرُونَ، والعصبة الْعشْرَة فَمَا فَوْقهَا.
وَقَوله: {لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم﴾ هَذَا خطاب لعَائِشَة وَصَفوَان بن معطل فَإِنَّهُم قذفوهما جَمِيعًا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب لعَائِشَة ولأبويها وَالنَّبِيّ وَصَفوَان، وَمعنى الْآيَة: لَا تحسبوه شرا لكم، يَعْنِي: هَذَا الْإِفْك هُوَ خير لكم لأجل الثَّوَاب، وَمَا ادخر الله لَهُم من ذَلِك.
وَقَوله: ﴿لكل امرىء مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم﴾ أَي: من الْإِثْم بِقدر مَا اكْتسب.
وَقَوله: ﴿وَالَّذِي تولى كبره﴾. وقرىء: " كبره "، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " كُبره ". فَقَوله: ﴿كبره﴾ أَي: إثمه. وَقَوله: " كُبره ". أَي: معظمه، قَالَ الشَّاعِر:
(تنام عَن كبر شَأْنهَا فَإِذا | قَامَت [رويدا] تكَاد تنغرف) |
وَقد روى مَسْرُوق أَن حسان بن ثَابت اسْتَأْذن على عَائِشَة فَأَذنت لَهُ، فَقَالَ مَسْرُوق: أَتَأْذَنِينَ لَهُ، وَقد قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَت: قد أَصَابَهُ الْعَذَاب الْعَظِيم، وَكَانَ قد عمى، وَقد تَابَ حسان من تِلْكَ الْمقَالة ومدح عَائِشَة فَقَالَ:
(حصان رزان مَا تزن بريبة | وتصبح غرثى من لُحُوم الغوافل) |
( [فَإِن كَانَ مَا بلغت أَنِّي قلته] | فَلَا رفعت سَوْطِي إِلَى أناملي) |
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين﴾ أَي: كذب ظَاهر.
وَقَوله: ﴿فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يصيرون عِنْد الله كاذبين إِذا لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ، (وَمن كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَاذِب عِنْد الله سَوَاء أَتَى بِالشُّهَدَاءِ)، أَو لم يَأْتِ بهم؟ الْجَواب: قُلْنَا: قَالَ بَعضهم: ﴿عِنْد الله﴾ أَي: فِي حكم الله، وَقَالَ بَعضهم: ﴿عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ﴾ أَي: كذبوهم بِمَا أَمركُم الله، وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن هَذَا فِي حق عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَمَعْنَاه: أُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ فِي غيبي وَعلمِي.
وروت عمْرَة عَن عَائِشَة: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَات حد أَرْبَعَة نفر: عبد الله بن أبي، وَحسان بن ثَابت، ومسطح بن أَثَاثَة، وَحمْنَة بنت جحش ".
وَقَوله: ﴿وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هينا﴾ أَي: خَفِيفا.
﴿وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم﴾ أَي: كَبِير.
﴿قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم﴾ الْبُهْتَان هُوَ الْكَذِب على المكابرة، يُقَال: بَهته إِذا أخْبرته بكذبه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أم أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَت لأبي أَيُّوب: أما بلغك كَذَا، وَهُوَ مَا نسب إِلَى عَائِشَة؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: مَا كَانَ لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم، قَالَ هَذَا قبل أَن تنزل الْآيَة، ثمَّ نزلت الْآيَة على وفْق قَوْله.
﴿إِن كُنْتُم مُؤمنين وَيبين لكم الْآيَات﴾ : أَي: الدلالات.
﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ عليم بخلقه، حَكِيم فِي فعله.
( والله عليم حكيم ) عليم بخلقه، حكيم في فعله.
﴿فِي الَّذين آمنُوا﴾ أَي: عَائِشَة وَصَفوَان وَآل أبي بكر، وَكَانَت إشاعتهم أَن بَعضهم كَانَ يلقى بَعْضًا فَيَقُول لَهُ: أما بلغك كَذَا وَكَذَا من خبر عَائِشَة.
وَقَوله: ﴿لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا هُوَ الْحَد، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ يَعْنِي: بَرَاءَة عَائِشَة وَأَنه خلقهَا طيبَة طَاهِرَة
وَقَوله: ﴿وَمن يتبع خطوَات الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمر بالفحشاء﴾ أَي: القبائح من الْأَفْعَال.
﴿وَالْمُنكر﴾ أَي: كل مَا يكرههُ الله.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا﴾ أَي: مَا صلح مِنْكُم من أحد أبدا.
﴿وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء﴾ أَي: يصلح من يَشَاء. قَالَ الشَّاعِر:
(إِنَّمَا نَحن كشيء فَاسد | فَإِذا أصلحه الله صلح) |
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه | وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت) |
وَقَوله: ﴿أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين﴾ هُوَ مسطح، فَإِنَّهُ كَانَ قريب أبي بكر، وَكَانَ مِسْكينا وَمن الْمُهَاجِرين، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع؟ قُلْنَا: يجوز مثل هَذَا فِي اللُّغَة، وَيجوز أَنه أَرَادَهُ وَأَرَادَ غَيره.
وَقَوله: ﴿وليعفوا وليصفحوا﴾ أَي: ليعفوا عَن أفعالهم، وليصفحوا عَن أَقْوَالهم.
وَقَوله: ﴿أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم﴾ هَذَا خطاب لأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَرُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وقرئت عَلَيْهِ قَالَ: بلَى وَالله نحب أَن يغْفر لنا.
وَقَوله: ﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾ أَي: ستور صفوح.
وَقَوله: ﴿لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ رُوِيَ عَن خصيف قَالَ: قلت لمجاهد: من قذف مُؤمنَة لَعنه الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ فَقَالَ: ذَاك لعَائِشَة. وَيُقَال: هَذَا فِي جَمِيع أَزوَاج النَّبِي.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب عَظِيم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وأيديهم وأرجلهم﴾ يُقَال: تختم الأفواه ثمَّ تَتَكَلَّم الْأَيْدِي والأرجل.
﴿بِمَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ ظَاهر.
وَقَوله: ﴿ويعلمون أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين﴾ أَي: الْعَادِل الْمظهر لعدله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الخبيثات من النِّسَاء للخبيثين من الرِّجَال، والخبيثون من الرِّجَال للخبيثات من النِّسَاء، وَهَكَذَا الطَّيِّبَات والطيبون، والخبيث من الرِّجَال عبد الله بن أبي بن سلول ودونه، والخبيثات من النِّسَاء أهل بَيته، وَيُقَال: كَلَامه فِي عَائِشَة، والطيبات هِيَ عَائِشَة من النِّسَاء وأمثالها، والطيبون للنَّبِي وَقَومه.
وَاعْلَم أَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - كَانَت تفتخر بأَشْيَاء مِنْهَا: " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ مبرءون مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أَي: مطهرون بِمَا يَقُولُونَ.
وَقَوله: ﴿لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ الْمَغْفِرَة هُوَ الْعَفو عَن الذُّنُوب، والرزق الْكَرِيم هُوَ الْجنَّة.
قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " حَتَّى تستأذنوا " قَالَ: تستأنسوا غلط من الْكَاتِب، وَالْمَعْرُوف تستأنسوا، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال: أشهرها: " تستأذنوا " فالاستئناس بِمَعْنى الاسْتِئْذَان، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ " التنحنح " قَالَه مُجَاهِد، وَالْقَوْل الثَّالِث: " حَتَّى تستأنسوا " هُوَ التعرف والاستعلام حَتَّى يُؤذن لَهُ أَو لَا يُؤذن.
وَقَوله: ﴿وتسلموا على أَهلهَا﴾.
السّنة إِذا بلغ الْإِنْسَان بَاب دَار يَقُول: أَدخل؟ وَقَالَ بَعضهم: إِذا وَقع الْعين على الْعين يقدم السَّلَام، وَإِذا لم تقع الْعين على الْعين قدم الاسْتِئْذَان.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع " فَروِيَ أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَتَى بَاب عمر، وَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَرجع، فَقَالَ عمر: أَلَيْسَ قد سَمِعت صَوت عبد الله بن قيس؟ قَالُوا: اسْتَأْذن ثَلَاثًا وَرجع، فَدَعَاهُ وَقَالَ: لم رجعت؟ فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول كَذَا، فَقَالَ: لتَأْتِيني بِمن يشْهد لَك، وَإِلَّا لأعلونك بِالدرةِ، فجَاء أبي بن كَعْب وَذكر لَهُ ذَلِك، فجَاء وَشهد لَهُ، وَقيل: غَيره شهد لَهُ.
قَالَ الْحسن: الأول إِعْلَام، وَالثَّانِي (مُؤَامَرَة)، وَالثَّالِث اسْتِئْذَان بِالرُّجُوعِ. وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِذا لم يُؤذن لَهُ لَا يقْعد على الْبَاب، فَإِن للنَّاس حاجات. وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانَ طَرِيقا يجوز أَن يقف وَيقْعد، وَإِن كَانَ فنَاء بَيته لَا يقْعد إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالُوا: وَإِن كَانَ الْبَاب مردودا فَلَا ينظر إِلَى الدَّار من شقّ الْبَاب، وَإِن كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا فَلَا بَأْس أَن ينظر؛ لِأَنَّهُ لما فتح الْبَاب فقد أذن.
وَقَوله: ﴿وَإِن قيل لكم ارْجعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم﴾ يَعْنِي: إِذا كَانَ فِي الْبَيْت قوم وَقَالُوا: ارْجع، فَليرْجع، وَالسّنة أَن لَا يتَغَيَّر أذن أَو رد لِأَنَّهُ رُبمَا يكون للْقَوْم معاذير، وَكَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - يَأْتِي بَاب الْأنْصَارِيّ لطلب الحَدِيث، فيقعد على الْبَاب حَتَّى يخرج وَلَا يسْتَأْذن، فَيخرج ذَلِك الرجل وَيَقُول: يَا ابْن عَم رَسُول الله، لَو أَخْبَرتنِي؟ فَيَقُول: هَكَذَا أمرنَا أَن نطلب الْعلم.
وَقَوله: ﴿هُوَ أزكى لكم﴾ يَعْنِي: هُوَ أصلح لكم.
وَقَوله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْمنَازل فِي طَرِيق الْمُسَافِرين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا حوانيت التُّجَّار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْمنَازل الخربة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْخَانَات والمنازل فِي الطّرق، فَهُوَ الدُّخُول فِيهَا وَالنُّزُول، وَأما فِي حوانيت التُّجَّار فالمنفعة هُوَ البيع وَالشِّرَاء، وَأما فِي الخرابات فالبول وَالْغَائِط.
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ عَن شُعَيْب بن الحبحاب قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَالِيَة يأتيني وَأَنا فِي دكانتي، فيستأذن ثمَّ يدْخل، فَأَقُول لَهُ: إِنَّمَا هُوَ الْحَانُوت، فَيَقُول لي: الْإِنْسَان يَخْلُو فِي حانوته بِحِسَابِهِ ودراهمه، وَأما الاسْتِئْذَان على الْمَحَارِم فَإِن كَانُوا فِي دَار مُنْفَرِدَة يسْتَأْذن، وَإِن كَانُوا فِي دَار وَاحِدَة فَإِذا دخل عَلَيْهَا يَتَنَحْنَح، ويتحرك أدنى حَرَكَة، وَقيل لِقَتَادَة: لَا
وَقَوله: ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ هَذَا أَمر بالتعفف. قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: حفظ الْفرج فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى الِامْتِنَاع من الْحَرَام، وَأما هَا هُنَا فَإِنَّهُ بِمَعْنى السّتْر.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعَلي - رَضِي الله عَنهُ - " إِن لَك فِي الْجنَّة كنزا، وَإنَّك ذُو قرنيها، فَلَا تتبع النظرة النظرة؛ فَإِن الأولى لَك، وَالثَّانيَِة عَلَيْك " رَوَاهُ على نَفسه، وَعَن بعض السّلف قَالَ: إِن النّظر يزرع الشَّهْوَة فِي الْقلب، وَرب شَهْوَة أورثت حزنا طَويلا. وَعَن خَالِد بن أبي عمرَان أَنه قَالَ: إِن الرجل لينْظر نظرة فينغل قلبه، كَمَا ينغل الْأَدِيم، فَيفْسد قلبه حَتَّى لَا ينْتَفع بِهِ.
وروى أَبُو أُمَامَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من نظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة وغض بَصَره
وَقَوله: ﴿ذَلِك أزكى لَهُم﴾ أَي: أطهر لَهُم.
وَقَوله: ﴿إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون﴾ أَي: عليم بِمَا يصنعون.
وَرُوِيَ أَن ابْن أم مَكْتُوم أقبل إِلَى النَّبِي وَعِنْده أم سَلمَة ومَيْمُونَة فَقَالَ لَهما رَسُول الله: " احتجبا. فَقَالَتَا: إِنَّه أعمى، فَقَالَ: أعمياوان أَنْتُمَا ".
وَقَوله: ﴿وَلَا يبدين زينتهن﴾ الزِّينَة: كل مَا تتزين [بِهِ] الْمَرْأَة من الْحلِيّ وَالثيَاب.
وَقَوله: ﴿إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا﴾ اخْتلف القَوْل فِي هَذَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الثِّيَاب وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبيد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْكحل. وَحكى الْكَلْبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الْكحل والخاتم والخضاب، وَعنهُ أَنه قَالَ: الْوَجْه والكفان. وَاعْلَم أَن المُرَاد بالزينة
وَقَوله: ﴿وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ﴾ يَعْنِي: بمقانعهن على جُيُوبهنَّ، وَكَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الْوَقْت يسدلن خمرهن من ورائهن فتبدوا صدورهن ونحورهن، فَأمر الله تَعَالَى أَن يضربن بالمقانع على جُيُوبهنَّ؛ لِئَلَّا تظهر صدورهن وَلَا نحورهن، وروت صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة عمد نسَاء الْأَنْصَار إِلَى حجور مناطقهن، فقطعن مِنْهَا قِطْعَة، وتخمرن، فَأَصْبَحْنَ وَكَأن على رُؤْسهنَّ الْغرْبَان.
وَقَوله: ﴿وَلَا يبدين زينتهن﴾ المُرَاد من هَذِه الزِّينَة الباطنية.
وَقَوله: ﴿إِلَّا لبعولتهن﴾ أَي: أَزوَاجهنَّ.
وَقَوله: ﴿أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخْوَانهمْ أَو بني إخْوَانهمْ أَو بني أخواتهن﴾. فَيجوز لهَؤُلَاء أَن ينْظرُوا إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة، إِلَّا أَنهم لَا ينظرُونَ إِلَى مَا بَين السُّرَّة إِلَى (الرّكْبَة)، وَيحل للزَّوْج النّظر إِلَيْهِ، وَأما نفس الْفرج
وَقَوله: ﴿أَو نسائهن﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهن النِّسَاء المسلمات، فعلى هَذَا لَا يجوز للمسلمة أَن تبدي محاسنها عِنْد الْيَهُودِيَّة وَلَا النَّصْرَانِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿نسائهن﴾ عَام فِي جَمِيع النِّسَاء، فَيجوز للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى الْمَرْأَة إِلَّا مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة.
وَقَوله: ﴿أَو مَا ملكت أيمانهن﴾. اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فَروِيَ عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة أَنَّهُمَا قَالَت: المُرَاد مِنْهُ العبيد، فَيجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته مَا ينظر ذُو الرَّحِم المرحم من غير شَهْوَة، وَهَذَا إِذا كَانَ العَبْد عفيفا، وَالْقَوْل الثَّانِي قَول سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: لَا يجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته إِلَّا مَا ينظر الْأَجْنَبِيّ إِلَى الْأَجْنَبِيّ، فعلى هَذَا تحمل الْآيَة على الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول أظهر فِي معنى الْآيَة، لِأَنَّهُ قد سبق قَوْله: ﴿أَو نسائهن﴾ فَدخل فِيهِ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنه يجوز [أَن ينظر] العَبْد إِلَى مولاته مَا يظْهر عِنْد البذلة والمهنة، مثل الساعدين والقدمين والعنق وَلَا ينظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ يشق ستر هَذَا مَعَ العبيد، وَأما مَعَ الْأَجَانِب لَا يشق، وَعَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا كاتبت عبدا لَهَا يُقَال لَهُ نَبهَان، فَكَانَت لَا تحتجب عَنهُ، ثمَّ قَالَت لَهُ يَوْمًا: يَا نَبهَان، مَا بَقِي من كتابتك، فَقَالَ ألفا دِرْهَم، فَقَالَت: أدها إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي أُميَّة وَالسَّلَام عَلَيْك، وَأرْسلت حجابها.
وَقَوله: ﴿أَو التَّابِعين غير أولي الإربة﴾ اخْتلف القَوْل فِيهِ: قَالَ مُجَاهِد: هُوَ
وَأما الإربة هِيَ الْحَاجة، مَأْخُوذ من الإرب، وَمن هَذَا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن النَّبِي كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم، وَكَانَ أملككم لإربه " وَمن قَالَ: لَا، فقد أَخطَأ.
وَقَوله: ﴿أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا﴾ أَي: الْأَطْفَال الَّذين لم يظهروا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
وَقَوله: ﴿لم يظهروا على عورات النِّسَاء﴾ أَي: لم يطيقوا أَمر النِّسَاء، وَيُقَال: " لم يظهروا على عورات النِّسَاء " أَي: لم يعرفوا الْعَوْرَة من غير الْعَوْرَة فَلم يميزوا، وَقيل: لم يبلغُوا حد الشَّهْوَة.
وَقَوله: ﴿وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن﴾ رُوِيَ أَن الْمَرْأَة كَانَت تمر على الرِّجَال، وَفِي رجلهَا الخلخال، وَكَانَت تضرب برجلها؛ لتسمعهم صَوت خلْخَالهَا، فنهين عَن ذَلِك، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فِي ضرب الخلخال مَا يُوجب النَّهْي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ استدعاء الْميل وتحريك الشَّهْوَة.
وَقَوله: ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ التَّوْبَة من الصَّغَائِر؛ لِأَنَّهُ لمَم جَمِيع الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا الصَّغَائِر تُوجد من جَمِيع الْمُؤمنِينَ، فَأَما الْكَبَائِر فَلَا، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا بل الْآيَة عَامَّة فِي الصَّغَائِر والكبائر، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على [مَا] سلف، والإقلاع فِي الْحَال، والعزيمة على ترك الْعود، وَهَذَا هُوَ معنى النصوح المقرون بِالتَّوْبَةِ الْمَذْكُور فِي غير هَذَا الْموضع، وَذكر بَعضهم أَن الله تَعَالَى أَمر الْمُشْركين بِنَفس التَّوْبَة مُطلقًا فَقَالَ: ﴿قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف﴾، وَأمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِالتَّوْبَةِ والإصلاح وَالْبَيَان؛ وَهُوَ بَيَان صفة النَّبِي فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا﴾، وَأمر الْمُنَافِقين بِالتَّوْبَةِ والإصلاح والاعتصام وَالْإِخْلَاص فَقَالَ: ﴿إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله﴾، وَقد بَينا معنى ذَلِك من قبل، وَأمر جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذِه الْآيَة، وَلَا بُد لكل إِنْسَان أَن يَتُوب إِمَّا من صَغِيرَة أَو كَبِيرَة، وَقد ثَبت بِرِوَايَة الْأَغَر الْمُزنِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيهَا النَّاس، تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب كل يَوْم مائَة مرّة " خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ أَي: تسعدون وتفوزون.
(فَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيمي | مدى الدَّهْر مَا لم تنكحي أتأيم) |
وَثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ، وَأحْصن لِلْفَرجِ، وَمن لم يسْتَطع فليصم، فَإِن الصَّوْم لَهُ وَجَاء ".
وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: من غلبت عَلَيْهِ الشَّهْوَة وَعِنْده مَال فليتزوج، وَإِن لم يكن عِنْده مَال فليدم النّظر إِلَى السَّمَاء، فَإِن شَهْوَته تذْهب.
وَقَوله: ﴿وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾.
قرئَ فِي الشاذ: " من عبيدكم وَإِمَائِكُمْ " زوجوا الْأَيَامَى من الْحَرَائِر، وزوجوا الصَّالِحين من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْمرَاد من الْعباد: العبيد.
وَقَوله: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يغنيهم الله من فَضله﴾ رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ: عجبت
وَقَوله: ﴿وَالله وَاسع عليم﴾ أَي: وَاسع الْغنى، عليم بأحوال الْعباد، وَعَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كَانَ ينْكح وَيُطلق كثيرا، وَيَقُول: إِنَّمَا أَبْتَغِي الْغنى من النِّكَاح وَالطَّلَاق، وَيَتْلُو هَاتين الْآيَتَيْنِ، وَقد ذكر بَعضهم: أَن الأيم كَمَا ينْطَلق على الْمَرْأَة ينْطَلق على الرجل، يُقَال: رجل أيم إِذا لم يكن لَهُ زَوْجَة، وَامْرَأَة أيم إِذا لم يكن لَهَا زوج، وَالشعر الَّذِي أنشدنا دَلِيل عَلَيْهِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي نهى عَن الأيمة " أَي: الْعزبَة.
وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: أمرنَا بقتل الأيم أَي: الْحَيَّة. وَقَالَ بَعضهم: ﴿وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ﴾ أَي: بالصالحين. وَقَوله: ﴿من عبادكُمْ﴾ أَي: من رجالكم، ثمَّ أَمر من بعد بتزويج الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول الَّذِي سبق أظهر.
وَقَوله: ﴿حَتَّى يغنيهم الله من فَضله﴾ فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن يَجدوا مَالا يقدرُونَ بِهِ على النِّكَاح، وَالْآخر: أَن يوفقهم الله للصبر عَن النِّكَاح، وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: إِذا رأى الرجل امْرَأَة واشتهاها فَإِن كَانَ لَهُ امْرَأَة فليصبها، وَإِن لم يكن لَهُ امْرَأَة فَلْينْظر فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم﴾ أَي: يطْلبُونَ الْكِتَابَة مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم، أَي: من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْكِتَابَة هِيَ أَن يعْقد مَعَ عَبده عقدا على مَال بِشَرْط أَنه إِذا أدّى عتق، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَنه كَانَ لحويطب بن عبد الْعُزَّى غُلَام، وَطلب مِنْهُ أَن يكاتبه، فَأبى فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فكاتبوهم﴾ أَكثر أهل الْعلم على أَنه أَمر ندب لَا حتم، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه أَمر حتم إِذا كَانَ للْعَبد مَال يُؤدى، فروى (أَبُو مُحَمَّد بن سِيرِين) : كَانَ عبدا لأنس بن مَالك، وَطلب من أنس أَن يكاتبه، فَأبى فَذكر ذَلِك سِيرِين لعمر، فَقَالَ لأنس: كَاتبه، فَأبى، فعلاه الدرة حَتَّى كَاتبه. وَعَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: أيجب على الْمولى أَن يُكَاتب عَبده إِذا طلب؟ قَالَ: نعم، وَمثله عَن الضَّحَّاك قَالَا: وَهَذَا إِذا كَانَ عِنْد (العقد) مَال، فَإِن لم يكن عِنْده مَال لم يجب، وَرُوِيَ أَن عبدا لسلمان قَالَ لَهُ: كاتبني، قَالَ: عنْدك مَال؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَتُرِيدُ أَن تطعمني أوساخ النَّاس؟ وَلم يكاتبه.
وَقَوله: ﴿إِن علمْتُم فيهم خيرا﴾ أَي: مَالا، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمثله قَوْله: ﴿وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد﴾ أَي: لحب المَال. قَالَ الشَّاعِر:
(مَاذَا ترجى النُّفُوس من طلب | الْخَيْر وَحب الْحَيَاة كاربها) |
وَقَالَ الزّجاج: لَو أَرَادَ بِالْخَيرِ المَال لقَالَ: إِن علمْتُم لَهُم خيرا، فَلَمَّا قَالَ: ﴿فيهم خيرا﴾ دلّ أَنه أَرَادَ بِهِ الْوَفَاء والصدق.
وَقَوله: ﴿وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم﴾ فِيهِ أَقْوَال: روى عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ: هُوَ حث النَّاس على مَعُونَة الْكَاتِبين. فعلى هَذَا تتَنَاوَل الْآيَة الْمولى وَغير الْمولى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ سهم الرّقاب، وَقد جعل الله تَعَالَى للمكاتبين سَهْما فِي الصَّدقَات، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ أَن قَوْله: ﴿وَآتُوهُمْ﴾ خطاب للموالي خَاصَّة.
وَقَوله: ﴿من مَال الله الَّذِي آتَاكُم﴾ هُوَ بدل الْكِتَابَة، رُوِيَ هَذَا عَن عُثْمَان وَعلي وَالزُّبَيْر، ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم: يُعينهُ بِمَال الْكِتَابَة، وَقَالَ بَعضهم: يحط عَنهُ من مَال الْكِتَابَة، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه يحط عَنهُ الرّبع، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه يحط عَنهُ الثُّلُث، وَعَن بَعضهم: أَنه يحط شَيْئا من غير تَحْدِيد، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي، وَاخْتلفُوا أَنه على طَرِيق النّدب أم على طَرِيق الْإِيجَاب؟ فَعِنْدَ بعض الصَّحَابَة الَّذِي ذكرنَا أَنه ندب، وَعند بَعضهم: أَنه وَاجِب، وَالْوُجُوب أظهر.
وَقَوله: ﴿وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء﴾ يَعْنِي: على الزِّنَا. نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول وَقوم من الْمُنَافِقين، كَانُوا يكْرهُونَ إماءهم على الزِّنَا طلبا للأجعال، فَروِيَ أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَ لَهُ أمة يُقَال لَهَا: مثلَة، فَأمرهَا بِالزِّنَا فَجَاءَت بِبرد، ثمَّ أمرهَا بِالزِّنَا فَأَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿إِن أردن تَحَصُّنًا﴾ أَي: تعففا، فَإِن قيل: الْآيَة تَقْتَضِي أَنَّهَا إِذا لم ترد التحصن يجوز إكراهها على الزِّنَا؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا ذكر قَوْله: ﴿إِن أردن تَحَصُّنًا﴾ لِأَن الْإِكْرَاه إِنَّمَا يُوجد فِي هَذِه الْحَالة، فَإِذا لم ترد التحصن بَغت بالطوع.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿إِن أردن تَحَصُّنًا﴾ منصرف إِلَى الْآيَة السَّابِقَة، وَهُوَ قَوْله: ﴿وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ إِن أردن تَحَصُّنًا.
وَقَوله: ﴿لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: لتطلبوا من أَمْوَال الدُّنْيَا، وَفِي بعض الْآثَار: الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يحكم فِيهَا ملك قَادر، فكونوا من أَبنَاء الْآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا من أَبنَاء الدُّنْيَا ".
وَقَوله: ﴿وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم﴾ أَي: لَهُنَّ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس: " فَإِن الله من بعد إكراههن لَهُنَّ غَفُور رَحِيم ".
وَقَوله: ﴿ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ﴾ مَعْنَاهُ: تَشْبِيها لحالكم بحالهم، حَتَّى لَا تَفعلُوا مثل مَا فعلوا، فيصيبكم مثل مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: ﴿وموعظة لِلْمُتقين﴾ أَي: تذكيرا وتخويفا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿مثل نوره﴾ قَرَأَ أبي بن كَعْب: " مثل نور الْمُؤمن "، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " مثل نوره فِي قلب الْمُؤمن " (وَمن الْمَعْرُوف ﴿مثل نوره﴾ وَفِيه أَقْوَال:
وَقَوله: ﴿كمشكاة﴾ الْمشكاة هِيَ الكوة الَّتِي لَيْسَ لَهُ منفذ، وَمِنْهُم من قَالَ: الْمشكاة هِيَ الحديدة الَّتِي يعلق بهَا الْقنْدِيل، وَهِي السلسلة، وَقيل: الْموضع الَّذِي تُوضَع فِيهِ الفتيلة، وَهُوَ كالأنبوب. وَالْأول أظهر الْأَقَاوِيل وَأولى، وَمعنى الْمشكاة هَاهُنَا: الصَّدْر، قَالَه أبي بن كَعْب. وَقَوله: ﴿فِيهَا مِصْبَاح﴾ أَي: شعلة نَار.
وَقَوله: ﴿الْمِصْبَاح فِي زجاجة﴾ الزجاجة شَيْء مَعْلُوم، وَهُوَ جَوْهَر لَهُ ضِيَاء، فَإِن قيل: لم خص الزجاجة بِالذكر؟ قُلْنَا: قَالَ أبي بن كَعْب: الْمشكاة الصَّدْر، والزجاجة الْقلب، والمصباح الْإِيمَان، فَإِنَّمَا ذكر الزجاجة؛ لِأَن الْمِصْبَاح فِيهَا أضواء، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الزجاجة؛ لِأَنَّهَا إِذا انْكَسَرت لَا ينْتَفع مِنْهَا بِشَيْء، كَذَلِك الْقلب إِذا فسد لَا ينْتَفع مِنْهُ بِشَيْء.
وَقَوله: ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري﴾ شبه الزجاجة بالكوكب، قَالَ بَعضهم: هَذَا الْكَوْكَب هُوَ الزهرة فَإِنَّهَا أضوء كَوْكَب فِي السَّمَاء، وَقَالَ بَعضهم: الْكَوَاكِب الْخَمْسَة زحل ومشتري والمريخ وَعُطَارِد وزهرة، فَإِن قيل: لم لم يشبه بالشمس وَالْقَمَر؟ قُلْنَا: لِأَن الشَّمْس وَالْقَمَر يلحقهما الْكُسُوف، والنجوم لَا يلْحقهَا الْكُسُوف، وَأما قَوْله: ﴿كَوْكَب دري﴾ مَنْسُوب إِلَى الدّرّ، وَنسبه إِلَى الدّرّ لصفائه ولونه، وقرىء: " درىء " بِكَسْر الدَّال والهمز وَالْمدّ، وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَأْخُوذ من الدراء،
وَقَوله: ﴿يُوقد﴾ أَي: الزجاجة، وَمَعْنَاهُ: نَار الزجاجة، فَحذف النَّار، وقرىء: " يُوقد " بِالْيَاءِ أَي: الْمِصْبَاح، وقرىء: " توقد " أَي: تتوقد، وَفِي الشاذ: " يُوقد " أَي: يُوقد الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿من شَجَرَة مباركة﴾ أَي: من زَيْت شَجَرَة مباركة، والشجرة الْمُبَارَكَة هَاهُنَا هِيَ الزَّيْتُون، وفيهَا من الْخَيْر مَا لَيْسَ فِي سَائِر الْأَشْجَار، فَإِنَّهُ دهن وإدام وَفَاكِهَة تُؤْكَل ويستصبح بِهِ، وبفضله يغسل بِهِ الثِّيَاب وَهِي شَجَرَة تورق من رَأسهَا إِلَى أَسْفَلهَا، واستخراج الدّهن مِنْهُ لَا يحْتَاج إِلَى عصار كَغَيْرِهِ، بل يَسْتَخْرِجهُ من شَاءَ من غير عسر، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ائتدموا بالزيت، وادهنوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ من شَجَرَة مباركة " رَوَاهُ معمر، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن عمر الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿لَا شرقية وَلَا غربية﴾ قَالَ الْحسن: لَيْسَ هَذَا من أَشجَار الدُّنْيَا، وَلَو كَانَت
وَقَوله: ﴿وَلَا غربية﴾ أَي: لَيست مِمَّا تغرب عَلَيْهَا الشَّمْس وَلَا تشرق عَلَيْهَا الشَّمْس، فَتكون لَا غربية وَلَا شرقية فَمَعْنَى الْآيَة. أَنَّهَا لَيست بخالصة للشرق، وَلَا خَالِصَة للغرب، بل هِيَ شرقية غربية، يَعْنِي: بَين الشرق والغرب، لَا خَالِصا للشرق، وَلَا خَالِصا للغرب، وَالشَّمْس مشرقة عَلَيْهَا فِي جَمِيع أَوْقَاتهَا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون زيتها أَضْوَأ قَالُوا: وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان لَيْسَ بأسود وَلَا أَبيض أَي لَيْسَ بأسود خَالص وَلَا أَبيض خَالص أَي: قد اجْتمع فِيهِ الْبيَاض والسواد، وَيُقَال: هَذَا الرُّمَّان لَيْسَ بحلو وَلَا حامض أَي: اجْتمع فِيهِ الْحَلَاوَة والحموضة وَلم يخلص لوَاحِد مِنْهُمَا، وَهَذَا قَول الْفراء والزجاج وَأكْثر أهل الْمعَانِي، وَزعم ابْن قُتَيْبَة أَن معنى قَوْله: ﴿لَا شرقية وَلَا غربية﴾ أَي: لَيست فِي مضحاة، وَلَا فِي مقتاة، وَمَعْنَاهُ: لَيست فِي مضحاة فَتكون الشَّمْس عَلَيْهَا أبدا، وَلَا فِي الظل فَتكون فِي الظل أبدا، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا شَجَرَة بَين الْأَشْجَار لَا هِيَ بارزة للشمس عِنْد شروقها، وَلَا هِيَ بارزة عِنْد غُرُوبهَا.
وَقَوله: ﴿يكَاد زيتها يضيء﴾ أَي: من صفائه ولونه.
وَقَوله: ﴿وَلَو لم تمسسه نَار﴾ أَي: وَإِن لم تمسسه نَار.
وَقَوله: ﴿نور على نور﴾ أَي: نور الْمِصْبَاح على نور الزجاجة.
وَقَوله: ﴿يهدي الله لنوره من يَشَاء﴾ أَي: نور البصيرة والعقيدة.
وَقَوله: ﴿وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس﴾ أَي: يبين الله الْأَمْثَال للنَّاس.
وَاعْلَم أَنه اخْتلف القَوْل فِي معنى التَّمْثِيل: مِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور الْقُرْآن، وَأما إِذا قُلْنَا: إِن التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن فَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى كَمَا بَينا.
وَقَوله: ﴿يكَاد زيتها يضيء﴾ أَي: يكَاد قلب الْمُؤمن يعرف الْحق قبل أَن يبين لَهُ لموافقته إِيَّاه.
وَقَوله: ﴿نور على نور﴾ أَي: نور الْعَمَل على نور الِاعْتِقَاد، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين خَمْسَة أنوار، وَقَوله نور، وَعَمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلَى النُّور. وَعَن غَيره أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين أَرْبَعَة أَحْوَال: إِن أعطي شكر، وَإِن ابْتُلِيَ صَبر، وَإِن قَالَ صدق، وَإِن حكم عدل. وَإِذا قُلْنَا: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، فالمشكاة صَدره، والزجاجة قلبه، والمصباح هُوَ نورة النُّبُوَّة.
وَقَوله: ﴿توقد من شَجَرَة مباركة﴾ الشَّجَرَة الْمُبَارَكَة هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَذكر زيتونة، لِأَنَّهَا أبرك الْأَشْجَار على مَا بَينا؛ وَلِأَن إِبْرَاهِيم نزل الشَّام، وَفِي زيتون الشَّام من الْبركَة مَا لَيْسَ لغيره من الْبِلَاد.
وَقَوله: ﴿لَا شرقية وَلَا غربية﴾ مَعْنَاهُ: أَن إِبْرَاهِيم لم يكن يُصَلِّي إِلَى الْمشرق وَلَا إِلَى الْمغرب، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا﴾ وَالْيَهُود يصلونَ إِلَى الْمغرب، وَالنَّصَارَى إِلَى الْمشرق. وَقَوله: ﴿يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار﴾ مَعْنَاهُ: لَو لم يكن إِبْرَاهِيم نَبيا لألحقه الله بِالْعَمَلِ الصَّالح بالأنبياء فِي درجاتهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا لَو لم تأته معْجزَة لدلت أَحْوَاله على صدقه وعَلى نبوته. وَقَوله: ﴿نور على نور﴾ أَي: نور مُحَمَّد على نور إِبْرَاهِيم، وَقَوله: {يهدي
وَقَوله: ﴿وَيذكر فِيهَا اسْمه﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿يسبح﴾ وقرىء: " يسبح " بِكَسْر الْبَاء، فَقَوله بِكَسْر الْبَاء أَي: يسبح رجال، وَقَوله: " يسبح " على مَال لم يسم فَاعله، وَمعنى يسبح: يُصَلِّي.
وَقَوله: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال﴾ أَي: بالبكر والعشايا. قَالَ الشَّاعِر:
(وقفت فِيهَا أصيلا لَا أسائلها | أعيت جَوَابا وَمَا بِالربعِ من أحد) |
وَقَالَ الْفراء: التِّجَارَة مَا بيع من الجلب، وَالْبيع مَا بِعْت على يدك.
وَقَوله: ﴿وإقام الصَّلَاة﴾ فَإِن قيل: إِذا حملتم ذكر الله على الصَّلَوَات الْخمس فَمَا معنى قَوْله: ﴿وإقام الصَّلَاة﴾ ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ حفظ الْمَوَاقِيت، وَمن لم يحفظ الْمَوَاقِيت فَلم يقم الصَّلَاة. وَقَوله: ﴿وإقام الصَّلَاة﴾ أَي: وَإِقَامَة الصَّلَاة، فحذفت الْهَاء بِحكم الْإِضَافَة. قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الخليط أجدوا الْبَين فانجردوا | وأخلفوك عدي الْأَمر الَّذِي وعدوا) |
وَقَوله: ﴿وإيتاء الزَّكَاة﴾ مِنْهُم من قَالَ: هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَمِنْهُم من قَالَ: الْأَعْمَال الصَّالِحَة.
وَقَوله: ﴿يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار﴾ أَي: تتقلب الْقُلُوب عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الشَّك وَالْكفْر، وتنفتح فِيهِ الْأَبْصَار من الأغطية، وَيُقَال: يتقلب الْقلب [بَين الْخَوْف] والرجاء، فَإِنَّهُ يخَاف الْهَلَاك، ويطمع النجَاة، وَأما تقلب الْبَصَر حَتَّى من أَيْن يُؤْتى كِتَابه؛ من شِمَاله أَو من يَمِينه، وَقَالَ: تتقلب الْقُلُوب فِي الْجوف، وترتفع إِلَى الحنجرة فَلَا تَزُول وَلَا تخرج، وَأما تقلب الْبَصَر شخوصه من هول الْأَمر وشدته.
وَقَوله: ﴿ويزيدهم من فَضله﴾ أَي: زِيَادَة على مَا يسْتَحقُّونَ.
وَقَوله: ﴿وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿كسراب﴾ السراب: مَا يرى نصف النَّهَار شبه المَاء الْجَارِي على الأَرْض، وَأكْثر مَا يرَاهُ العطشان. قَالَ الْفراء: السراب مَا لزم الأَرْض، والآل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَهُوَ شُعَاع بَين السَّمَاء وَالْأَرْض شبه الملاة، يرى فِيهِ الصَّغِير كَبِيرا، والقصير طَويلا.
وَقَالَ غَيره: السراب نصف النَّهَار، والآل بالغدوات، والرقراق بالعشايا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَمَّا كففنا الْحَرْب كَانَت عهودهم | كَلمعِ سراب بالفلا متألق) |
وَقَوله: ﴿إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا﴾ أَي: لم يجده شَيْئا مِمَّا أمل وَحسب.
وَقَوله: ﴿وَوجد الله عِنْده﴾ أَي: عِنْد علمه، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَقِي الله فِي الْآخِرَة.
﴿فوفاه حسابه﴾ أَي: جَزَاء عمله، قَالَ الشَّاعِر:
(فولى مُدبرا هوى حثيثا | وأيقن أَنه لَاقَى الحسابا) |
وَاعْلَم أَن فِي نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي شيبَة بن ربيعَة - وَكَانَ يطْلب الدّين قبل أَن يبْعَث النَّبِي - فَكَانَ يلبس الصُّوف، وَيَأْكُل الشّعير، ثمَّ لما بعث النَّبِي كفر بِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي جَمِيع الْكفَّار، وَالْمرَاد من الْآيَة: تَشْبِيه أَعْمَالهم بِالسَّرَابِ، وأعمالهم هِيَ مَا اعتقدوها خيرا، من الْحَج وصلَة الْأَرْحَام، وَحسن الْجوَار،
مَعْنَاهُ: حِين يتوسط الْبَحْر فَيصير إِلَى أعمق مَوضِع، وَأما الظُّلُمَات: فَهِيَ ظلمَة الْبَحْر، وظلمة اللَّيْل، وظلمة السَّحَاب، وظلمة الموج أَيْضا.
وَقَوله: ﴿يَغْشَاهُ موج من فَوْقه موج من فَوْقه سَحَاب﴾ هَذَا هُوَ الظُّلُمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا.
وَقَوله: ﴿ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض﴾ مَعْنَاهُ: ظلمَة الموج على ظلمَة الْبَحْر، وظلمة السَّحَاب على ظلمَة الموج.
وَقَوله: ﴿إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا﴾ أَي: لم يرهَا، وَقيل: لم يُقَارب رؤيتها، وَيُقَال: يكد هَاهُنَا صلَة. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَا كَادَت إِذا رفعت سناها | ليبصر ضوءها إِلَّا الْبَصِير) |
وَقَوله: ﴿وَالطير صافات﴾ أَي: صِفَات أجنحتهن.
وَقَوله: ﴿كل قد علم صلَاته وتسبيحه﴾ قَالَ مُجَاهِد: الصَّلَاة للآدميين، وَالتَّسْبِيح لسَائِر الْخلق، وَيُقَال: إِن ضرب الأجنحة صَلَاة الطير، وصوته تسبيحه.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله الْمصير﴾.
(إِنِّي أَتَيْتُك من أرضي وَمن وطني | أزجي حشاشة نفس مَا بهَا رَمق) |
وَقَوله: ﴿ثمَّ يَجعله ركاما﴾ أَي: متراكما بعضه على بعض.
وَقَوله: ﴿فترى الودق يخرج من خلاله﴾ أَي: الْمَطَر يخرج من خلاله، والخلال جمع الْخلَل كالجبال جمع الْجَبَل، قَالَ الشَّاعِر فِي الودق:
(فَلَا مزنة ودقت ودقها | وَلَا أَرض أبقل إبقالها) |
قَالَ ابْن عَبَّاس: وَإِنَّمَا خَاطب الْقَوْم بِمَا يعْرفُونَ، وَإِلَّا مَا الثَّلج أَكثر من الْبرد، وَالْعرب مَا رَأَوْا الثَّلج قطّ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الثَّلج شَيْء أَبيض ينزل من السَّمَاء مَا رَأَيْته قطّ. وَقَالَ غَيره: قَوْله: ﴿وَينزل من السَّمَاء من جبال﴾ أَي: مِقْدَار الْجبَال فِي الْكَثْرَة، وَيُقَال: فلَان لَهُ جبال مَال، شبه بالجبال للكثرة.
وَقَوله: ﴿من﴾ صلَة مَعْنَاهُ: ينزل من السَّمَاء جبالا ﴿من برد﴾.
وَقَوله: ﴿فَيُصِيب بِهِ من يَشَاء﴾ يَعْنِي: بالبرد من يَشَاء. ﴿ويصرفه عَن من يَشَاء﴾.
وَقَوله: ﴿يكَاد سنا برقه﴾ أَي: ضوء برقه، وَقد ذكرنَا شعرًا فِي هَذَا.
وَقَوله: ﴿يذهب بالأبصار﴾ يَعْنِي: من شدَّة الضَّوْء.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا الْحميدِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب الْخَبَر.
وَيُقَال: يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار أَي: يدبر أَمر اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار﴾ أَي: آيَة وعظة لأولي الْأَبْصَار فِي الْقُلُوب، وَزعم أهل النَّحْو أَن الله تَعَالَى ذكر " من " ثَلَاث مَرَّات فِي الْآيَة الأولى، وَلكُل وَاحِد مِنْهَا معنى، فَقَوله: ﴿من السَّمَاء﴾ لابتداء الْغَايَة، وَقَوله: ﴿من جبال﴾ للتَّبْعِيض، وَقَوله: ﴿من برد﴾ للتجنيس، وَقد قَالَ بَعضهم فِي الْآيَة الثَّانِيَة: إِن معنى التقليب هُوَ أَنه يذهب بِاللَّيْلِ وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، وَيذْهب بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ.
وَقَوله: ﴿فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه﴾ يَعْنِي: مثل الْحَيَّات وَالْحِيتَان وَمَا أشبههما، فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر المشيء على الْبَطن؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد مِنْهُ السّير، وَالسير عَام فِي القوائم وعَلى الْبَطن، وَقَالَ بَعضهم: الْمَشْي صَحِيح فِي الْمَشْي على الْبَطن، يُقَال: مَشى أَمر كَذَا.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ﴾ يَعْنِي: مثل بني آدم وَالطير، فَإِن قيل: أيسمى الطير دَابَّة؟ قُلْنَا: بلَى؛ لِأَن كل مَا يدب على الأَرْض فَهُوَ دَابَّة.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهُم من يمشي على أَربع﴾ يَعْنِي: الْبَهَائِم، فَإِن قيل: قد نرى مَا يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع، قُلْنَا: قد ذكر السّديّ أَن فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَمِنْهُم من يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع " فَيكون تَفْسِير للْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَيصير كَأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَمِنْهُم من يمشي على أَربع﴾ وعَلى أَكثر من الْأَرْبَع، وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّمَا لم يزدْ على الْأَرْبَع؛ لِأَن القوائم وَإِن زَادَت فاعتماد الْحَيَوَان على جهاته الْأَرْبَعَة، فَكَأَنَّهَا تمشي على أَرْبَعَة، وَيُقَال: إِنَّهَا وَإِن مشيت على أَكثر من الْأَرْبَع فَهِيَ فِي الصُّورَة كَأَنَّهَا تمشي على أَربع، فَإِن قيل: قَالَ: ﴿وَمِنْهُم من يمشي﴾ وَكلمَة " من " لمن يعقل لَيْسَ لما لَا يعقل، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِكَلِمَة " من " لِأَن الْكَلَام إِذا جمع من يعقل، وَمن لَا يعقل غلب من يعقل على مَا لَا يعقل.
وَقَوله: ﴿يخلق الله مَا يَشَاء﴾ يَعْنِي: يخلق الله مَا يَشَاء سوى مَا ذكر.
وَقَوله: ﴿وَالله على كل شَيْء قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: دين الْحق، وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم من بعد ذَلِك﴾ أَي: من بعد مَا قَالُوا آمنا بِاللَّه وبالرسول.
وَقَوله: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أَي: بالمصدقين.
قَوْله: ﴿إِذا فريق مِنْهُم معرضون﴾ أَي: عَن الْحق، وَقيل: عَن الْإِجَابَة، وَالْآيَة تدل على أَن القَاضِي إِذا دَعَا إِنْسَان ليحكم بَينه وَبَين خَصمه، وَجَبت عَلَيْهِ الْإِجَابَة.
وَقَوله: ﴿أم ارْتَابُوا﴾ أَي: شكوا.
وَقَوله: ﴿أم يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله﴾ الحيف هُوَ الْميل بِغَيْر حق، وَيجوز أَن يعبر بِهِ عَن الظُّلم.
وَقَوله: ﴿بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ﴾ قد بَينا.
هَذَا لَيْسَ على طَرِيق الْخَبَر، وَلكنه تَعْلِيم أدب من الشَّرْع، على معنى أَن الْمُؤمنِينَ كَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونُوا.
وَقَوله: ﴿أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا﴾ أَي: سمعنَا الدُّعَاء، وأطعنا بالإجابة.
وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم المفلحون﴾ أَي: الفائزون.
وَقَوله: ﴿ويخش الله﴾ أَي: فِيمَا مضى.
وَقَوله: ﴿ويتقه﴾ أَي: يحذرهُ فِيمَا يسْتَقْبل.
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك هم الفائزون﴾ أَي: الناجون.
وَقَوله: ﴿لَئِن أَمرتهم ليخرجن﴾ أَي: لَئِن أَمرتهم بِالْخرُوجِ إِلَى الْجِهَاد ليخرجن.
وَقَوله: ﴿قل لَا تقسموا﴾ أَي: لَا تحلفُوا.
وَقَوله: ﴿طَاعَة مَعْرُوفَة﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ليكن مِنْكُم طَاعَة مَعْرُوفَة، وَالْآخر: طَاعَة مَعْرُوفَة أمثل من يَمِين بالْقَوْل لَا يُوَافِقهَا الِاعْتِقَاد، وَالثَّالِث: هَذِه طَاعَة مَعْرُوفَة مِنْكُم أَن تحلفُوا كاذبين، وَأَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا أَمر مَعْرُوف مِنْكُم.
وَقَوله: ﴿إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل﴾ أَي: على الرَّسُول مَا حمل من التَّبْلِيغ.
﴿وَعَلَيْكُم مَا حملتم﴾ من الْإِجَابَة أَي: إِن أجبتم فلكم الثَّوَاب، وَإِن أَبَيْتُم فَعَلَيْكُم الْعقَاب.
وَقَوله: ﴿وَإِن تطيعوه﴾ يَعْنِي الرَّسُول ﴿تهتدوا﴾.
وَقَوله: ﴿وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾ أَي: التَّبْلِيغ الْبَين.
وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على صِحَة خلَافَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وهم: أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي - رَضِي الله عَنْهُم - وَمن الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بِرِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سعيد بن جمْهَان، عَن سفينة أَن النَّبِي قَالَ: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور بِبَغْدَاد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا ابْن بنت منيع عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ، عَن هدبة [بن] خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة... الْخَبَر. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقَوله: ﴿وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم﴾ أَي: لَيظْهرَن دينهم على جَمِيع الْأَدْيَان، قَالَ أهل الْعلم: يعين: فَارس وَالروم وَمن أشبههم، وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من بَيت مدر وَلَا وبر فِي الأَرْض إِلَّا ويدخله الله
وَقَوله: ﴿ارتضى لَهُم﴾ اخْتَار لَهُم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعدي بن حَاتِم: " لَيظْهرَن الله هَذَا الدّين، حَتَّى تخرج الظعينة من الْحيرَة تؤم بَيت الله، لَا تخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب على غنمها ". قَالَ عدي بن حَاتِم: فَقلت فِي نَفسِي: فَأَيْنَ اللُّصُوص؟ قَالَ عدي: وَلَقَد رَأَيْت مَا قَالَه رَسُول الله.
وَقَوله: ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا﴾. هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَقد رُوِيَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله حِين كَانُوا بِمَكَّة لم يَكُونُوا يصلونَ إِلَّا مختفين، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يحفظ صَاحبه حَتَّى يُصَلِّي، وَصَاحبه يحفظه حَتَّى يُصَلِّي، ثمَّ إِنَّهُم لما هَاجرُوا أمنُوا وعبدوا الله جَهرا، ومازال يزْدَاد الْأَمْن إِلَى زَمَاننَا هَذَا... الحَدِيث.
وَقَوله: ﴿يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا﴾ يَعْنِي: يعبدونني آمِنين وَلَا يشركُونَ.
وَقَوله: ﴿وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَنه لَيْسَ الْكفْر هَاهُنَا هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كفران النِّعْمَة بترك الطَّاعَة، فَلهَذَا قَالَ: ﴿فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾ وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ومأواهم النَّار ولبئس الْمصير﴾ أَي: ولبئس الْمرجع.
قَوْله: ﴿وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم﴾ لَيْسَ هَؤُلَاءِ هم الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء، فَإِن الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء لَا حشمة لأحد مِنْهُم؛ لأَنا بَينا أَنهم الَّذين لَا يميزون، وَلَكِن هَؤُلَاءِ هم الَّذين ميزوا، وَعرفُوا أَمر النِّسَاء، وَلَكِن لم يبلغُوا.
قَوْله: ﴿ثَلَاث مَرَّات﴾ أَي: اسْتَأْذنُوا ثَلَاث مَرَّات.
وَقَوله: ﴿من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء﴾ خص هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة بِالْأَمر بالاستئذان؛ لِأَنَّهَا أَوْقَات ينْكَشف فِيهَا النَّاس ويبدوا مِنْهُم مَا لَا يحبونَ أَن يرَاهُ أحد، فَإِن قبل الْفجْر ينتبهون من النّوم فينكشفون، وَعند الظهيرة يلقون ثِيَابهمْ ليقيلوا، وَبعد الْعشَاء (الْأَخير) ينكشفون للنوم، فَأمر الله تَعَالَى بالاستئذان فِي هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة لهَذَا الْمَعْنى، وَالْمرَاد من الْآيَة: اسْتِئْذَان الخدم وَالصبيان، فَأَما غَيرهم يستأذنون فِي جَمِيع الْأَحْوَال،
وَقَوله: ﴿ثَلَاث عورات لكم﴾ قرئَ بِرَفْع الثَّاء ونصبه، فَقَوله: ﴿ثَلَاث﴾ بِالرَّفْع، أَي: هِيَ ثَلَاث عورات لكم، وَقَوله: ﴿ثَلَاث عورات لكم﴾ بِالنّصب بدل من قَوْله: " ثَلَاث مَرَّات " فَيكون نصبا على الْبَدَل.
وَقَوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُم وَلَا عَلَيْهِم جنَاح﴾ أَي: إِثْم فِي ترك الاسْتِئْذَان فِيمَا سوى هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة.
وَقَوله: ﴿بعدهن﴾ إِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضكُم على بعض﴾ ابْتِدَاء أَي: هَؤُلَاءِ الخدم والولائد طَوَّافُونَ عَلَيْكُم، يطوفون عَلَيْكُم ليخدموكم، وَمن هَذَا قَوْله فِي الْهِرَّة: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ".
وَقَوله: ﴿بَعْضكُم على بعض﴾ أَي: يطوف بَعْضكُم على بعض.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات﴾ أَي: الدلالات، وَقيل: الْأَحْكَام.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ أَي: عليم بِأُمُور خلقه، حَكِيم فِيمَا دبر لَهُم.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته﴾ أَي: أَحْكَامه.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا﴾ يَعْنِي: لَا يردن نِكَاحا، وَقيل: لَا يردن الرِّجَال لكبرهن، وَقيل: قعدن عَن التَّصَرُّف بِالْكبرِ، وَإِنَّمَا قيل: امْرَأَة قَاعِدَة إِذا كَبرت؛ لِأَنَّهَا تكْثر الْقعُود، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَعَن ربيعَة الرَّأْي قَالَ: هن الْعَجَائِز اللواتي إِذا رآهن الرِّجَال استقذروهن، فَأَما من كَانَ فِيهِ بَقِيَّة من جمال، وَهِي مَحل الشَّهْوَة، فَلَا تدخل فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جنَاح﴾ أَي: إِثْم.
وَقَوله: ﴿أَن يَضعن ثيابهن﴾ فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أَن يَضعن من ثيابهن "، قَالَ
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن للزَّوْج مَا تَحت الدرْع، وَلِذِي الْمحرم مَا فَوق الدرْع، ولغير الْمحرم مَا فَوق الدرْع والرداء والجلباب والخمار.
وَقَوله: ﴿غير متبرجات بزينة﴾ أَي: لَا يردن بإلقاء الرِّدَاء والجلباب إِظْهَار زينتهن ومحاسنهن، وأصل التبرج من الظُّهُور، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى﴾ أَي: لَا تنكشفن تكشف الْجَاهِلِيَّة الأولى، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْمَرْأَة إِذا مشت بَين يَدي الرِّجَال، فقد تبرجت تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء " رَوَاهُ أُسَامَة.
وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء: مَا أحن السبَاع؟ قَالَ: الْمَرْأَة. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ لآخر: لم يدْخل بَاب دَاري شَرّ قطّ، قَالَ: من أَيْن تدخل امْرَأَتك؟. [وَعَن] بَعضهم أَنه رأى امْرَأَة مصلوبة، فَقَالَ: لَو أَن كل شَجَرَة تثمر مثل هَذِه، لنجى النَّاس من شَرّ كَبِير.
وَقَوله: ﴿وَأَن يستعففن﴾ يَعْنِي: أَلا يلقين الرِّدَاء والجلباب خير لَهُنَّ، وَعَن عَاصِم الْأَحول قَالَ: كُنَّا ندخل على حَفْصَة، وَهِي متجلببة متردية مُتَقَنعَة، فَقُلْنَا لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَلَسْت من الْقَوَاعِد؟ فَقَرَأت قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن يستعففن خير لَهُنَّ﴾.
وَقَوله: ﴿وَالله سميع عليم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن النَّاس كَانُوا يخرجُون إِلَى الْغَزْو، ويخلفون هَؤُلَاءِ فِي بُيُوتهم، فَكَانُوا يتحرجون من الْأكل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَرفع الْحَرج، وَهَذَا قَول عَائِشَة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا يدْخلُونَ على الرجل لطلب الطَّعَام فَلَا يَجدونَ شَيْئا، فَيذْهب ذَلِك الرجل إِلَى بَيت آخر، ويحملهم مَعَ نَفسه ليصيبوا من طَعَام ذَلِك الرجل، وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَعَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي قَالَ: المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْأَعْمَى الَّذِي مَعَه قَائِد، فَيحمل مَعَه قائده ليَأْكُل مَعَه، وَكَذَلِكَ الْأَعْرَج وَالْمَرِيض يحْملَانِ إنْسَانا مَعَ أَنفسهمَا.
وَقَوله: ﴿وَلَا على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ﴾ أَي: وَلَا حرج على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه بيُوت الْأَوْلَاد، رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنْت وَمَالك لأَبِيك ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بيُوت الْأزْوَاج، وَيُقَال: بَيت كل إِنْسَان فِي نَفسه، وَالْأَوْلَاد أظهر.
وَقَوله: ﴿أَو بيُوت آبائكم﴾ الْآيَة إِلَى آخرهَا ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿أَو مَا ملكتم مفاتحه﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا وَكيل الرجل وقيمه فِي ضيعته وغنمه، يَأْكُل من الثَّمر، وَيشْرب من اللَّبن، وَلَا يحمل وَلَا يدّخر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة بيُوت العبيد، والمفاتح: الخزائن، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَعِنْده مفاتح الْغَيْب﴾ أَي: خَزَائِن الْغَيْب.
وَقَوله: ﴿أَو صديقكم﴾ الصّديق هُوَ الَّذِي صدقك فِي الْمَوَدَّة، وَيُقَال: الصّديق هُوَ الَّذِي ظَاهره مثل ظاهرك، وباطنه مثل باطنك، وَالصديق هَا هُنَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
قَالَ الشَّاعِر:
( [دعون] الْهوى [ثمَّ ارتمين] قُلُوبنَا | بأسهم أَعدَاء وَهن صديق) |
وَقَوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتا﴾ رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض﴾ توقى النَّاس غَايَة التوقي، وَقَالُوا: لَا نَأْكُل مَعَ أحد حَتَّى لَا نَأْكُل بَاطِلا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي مَالك بن زيد مَعَ الْحَارِث بن عَمْرو، وَكَانَ الْحَارِث خلف مَالك بن زيد فِي دَاره، وَخرج غازيا، وأباح لَهُ الْأكل، فَلم يَأْكُل شَيْئا. وَمن الْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي بني بكر من كنَانَة، وَكَانَ لَا يَأْكُل أحد مِنْهُم وَحده حَتَّى يجد ضيفا يَأْكُل مَعَه، وَإِذا لم يجد وأجهده الْجُوع نصب خَشَبَة ولف عَلَيْهَا ثوبا وَأكل عِنْدهَا؛ ليظن النَّاس أَنه إِنْسَان يَأْكُل مَعَه، وَرُوِيَ أَن وَاحِدًا مِنْهُم نزل بلقاحه وَاديا، فجاع فَحلبَ لقحة مِنْهَا، ونادى فِي الْوَادي: من كَانَ هَا هُنَا فليحضر ليَأْكُل، وَكَانَ فِي الْوَادي رجل فاختفى وَلم يجب، وأجهده الْجُوع، فَجَلَسَ يَأْكُل وَحده، فَخرج الرجل، وَقَالَ لَهُ: يَا رَضِيع، أتأكل وَحدك، فَأخذ الرجل سَيْفه وعدى عَلَيْهِ وَقَتله مَخَافَة أَن ينشر فِي النَّاس ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وأباح للْقَوْم أَن يَأْكُلُوا منفردين وَجَمَاعَة، فَإِن قيل: مَا قَوْلكُم فِي هَذِه الْآيَة، وَإِذا دخل بَيت وَاحِد مِمَّن سبق ذكره، هَل يجوز لَهُ أَن يَأْكُل بِغَيْر إِذْنه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ أَبُو بكر الْفَارِسِي: إِن كَانَ سبق مِنْهُ إِذن على الْإِجْمَال - وَإِن لم يكن على التَّعْيِين - فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَفِي غير هَؤُلَاءِ لَا يجوز إِلَّا أَن يعين. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ الطَّعَام مبذولا غير مُحرز، جَازَ لَهُ أَن يَأْكُل وَإِن كَانَ محرزا فِي حرز لَا يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَأما حمل الزَّاد ومباذلة الْغَيْر فَهُوَ حرَام مَا لم يُؤذن على التَّعْيِين، وَقد قيل: إِذا كَانَ يَسِيرا فَلَا بَأْس بِهِ للعبيد والخدم.
وَقَوله: ﴿فَإِذا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم﴾ أَي: ليسلم بَعْضكُم على بعض، وَهَذَا كَقَوْلِه: ﴿وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم﴾ أَي: وَلَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا،
وَقَوله: ﴿تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة﴾ أَي: حَسَنَة جميلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: ذكر الْبركَة وَالطّيب هَا هُنَا لما فِيهِ من الثَّوَاب، وَمن أهْدى سَلاما إِلَى إِنْسَان، فَهِيَ هَدِيَّة خَفِيفَة الْمحمل، طيبَة الرّيح، مباركة الْعَاقِبَة.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الرجل من الْمُسلمين كَانَ إِذا كَانَ مَعَ النَّبِي فِي أَمر، وَأَرَادَ الاسْتِئْذَان لحَاجَة لَهُ، قَامَ وَأَشَارَ إِلَى النَّبِي كَأَنَّهُ يسْتَأْذن، فيشير إِلَيْهِ النَّبِي أَذِنت لَك ". وَقد قَالُوا: إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان إِذا لم يكن هُنَاكَ سَبَب يمنعهُ من الْمقَام، فَأَما إِذا عرض سَبَب يمنعهُ من الْمقَام مثل امْرَأَة تكون فِي الْمَسْجِد فتحيض، أَو رجل يجنب، أَو عرض لَهُ مرض وَمَا أشبه، فَلَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان.
وَقَوله: ﴿إِن الَّذين يستأذنوك أُولَئِكَ الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله﴾ رُوِيَ أَن عمر اسْتَأْذن رَسُول الله فِي غَزْوَة تَبُوك أَن يرجع إِلَى أَهله فَقَالَ: " ارْجع فلست بمنافق وَلَا مرتاب " يعرضه بالمنافقين، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى فِي سُورَة التوية: ﴿عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم﴾.
وَقَوله: ﴿فَإِذا استأذنوك لبَعض شَأْنهمْ﴾ أَي: أَمرهم.
وَقَوله: ﴿فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم﴾ مَعْنَاهُ: إِن شِئْت فَأذن، وَإِن شِئْت فَلَا تَأذن.
﴿واستغفر لَهُم الله إِن الله غَفُور رَحِيم﴾ أَي: ادْع لَهُم إِذا طلبُوا الدُّعَاء مِنْك.
وَقَوله: ﴿قد يعلم الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ﴾ التسلل هُوَ الْخُرُوج على خُفْيَة، وَكَانَ المُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ هَكَذَا، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم حُضُور الْمَسْجِد والمكث فِيهِ، وَسَمَاع خطْبَة النَّبِي، فَكَانَ [يسير] بَعضهم بِبَعْض وَيخرج من الْمَسْجِد.
وَقَوله: ﴿لِوَاذًا﴾ أَي: يلوذ بَعضهم بِبَعْض، وَقيل: (رحلا).
وَقَوله: ﴿فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره﴾ أَي: أمره.
وَقَوله: ﴿أَن تصيبهم فتْنَة﴾ مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تصيبهم فتْنَة أَي: بلية.
وَقَوله: ﴿أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم﴾ يُقَال: الْعَذَاب الْأَلِيم فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ﴾ يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿فينبئهم بِمَا عمِلُوا﴾ أَي: يُخْبِرهُمْ الله بِمَا عمِلُوا.
وَقَوله: ﴿وَالله بِكُل شَيْء عليم﴾ أَي: عَالم. تمّ بِحَمْد الله تَعَالَى المجلد الثَّالِث من تَفْسِير أبي المظفر السَّمْعَانِيّ ويتلوه المجلد الرَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وأوله تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان على عَبده ليَكُون للْعَالمين نذيرا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يتَّخذ ولدا وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا﴾.تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان
وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ الضَّحَّاك: هى مَدَنِيَّة.