اسم السورة :
سورة النور مدنية، وآياتها ٦٤ آية، ونزلت بعد سورة الحشر، وسميت بهذا الاسم لكثرة ذكر النور فيها : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... ( النور : ٣٥ ).
نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء... ( النور : ٣٥ ).
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ... ( النور : ٤٠ ).
روح السورة :
هذه سورة الآداب والأخلاق والتربية الإسلامية الهادفة.
وقد ذكر النور في هذه السورة بلفظه، كما ذكر بمظاهره وآثاره في القلوب والأرواح، ممثلة هذه الآثار في بيان الفرائض والأحكام التي يقوم عليها بناء السورة، وهي أحكام وآداب نفسية، وعائلية وجماعية، تؤدي إلى طهارة الفرد وسلامة المجتمع.
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية، التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود، وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرقيقة التي تصل القلب بنور الله.
وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة، بوصفها : نابعة كلها من معين واحد، هو العقيدة والاهتداء بنور الله.
تاريخ نزول السورة :
نزلت سورة النور في مرحلة متأخرة من حياة المسلمين في المدينة، بعد أن استقر الإيمان في القلوب، واستعدت نفوس المسلمين لتقبل أحكام هذه السورة.
وأحكام الحجاب في الإسلام، نزلت في سورتين فحسب من سور القرآن، هما : سورة الأحزاب، وسورة النور.
وقد اختلف العلماء في ترتيب نزولهما، كما اختلفوا في ترتيب حدوث غزوتين شهيرتين، ارتبطت كل غزوة منهما بإحدى السورتين.
فغزوة الأحزاب ارتبطت بسورة الأحزاب، وغزوة بني المصطلق ارتبطت بسورة النور، وفي إثر غزوة بني المصطلق تخلفت عائشة – رضي الله عنها – عن الجيش، وتكلم المنافقون بحديث الإفك، ونزلت ثلاث عشرة آية في سورة النور بشأن ذلك الموضوع.
الخلاف بين المؤرخين هو :
هل كانت غزة بني المصطلق في السنة الخامسة قبل غزوة الأحزاب، أم بعدها في السنة السادسة من الهجرة ؟.
فإن كانت غزوة الأحزاب قبل غزوة بني المصطلق، فمعناه أن أحكام الحجاب في الإسلام، كان بدؤها بالتعليمات التي وردت في سورة الأحزاب، وكمالها بالأحكام التي وردت في سورة النور. وأما إذا كانت غزوة بني المصطلق قبل غزوة الأحزاب، انعكس الترتيب في نزول أحكام الحجاب، وصار بدؤها بسورة النور، وكمالها بسورة الأحزاب.
يقول ابن سعد :
إن غزوة بني المصطلق وقعت في شعبان من سنة خمس، ووقعت بعدها غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، في ذي القعدة من السنة نفسها.
ويقول ابن إسحاق :
إن غزوة الأحزاب وقعت في شوال من سنة خمس، وغزوة بني المصطلق في شعبان من سنة ست.
وقد جزم ابن حزم وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين بصحة رواية ابن إسحاق، ورجحناها على رواية ابن سعد.
وتفيد روايات صحيح البخاري وغيره أن أحكام الحجاب كانت قد نزلت قبل قصة الإفك، أي : في سورة الأحزاب، ومما تفيده هذه الروايات كذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد نزوج زينب بنت جحش – رضي الله عنها – قبل ذلك، في ذي القعدة من سنة خمس، وجاء ذكره في سورة الأحزاب، بل مما تفيده هذه الروايات كذلك أن حمنة أخت زينب بنت جحش، إنما شاركت في رمي عائشة لأنها ضرة أختها، والظاهر أنه لا بد من أن تمضي مدة من الزمن – ولو يسيرة – على صلة الضرارة بين امرأتين، حتى تنشأ في القلوب مثل هذه النزعات، فهذه الأمور كلها مما يؤكد رواية ابن إسحاق ويقويها، وتجعلنا نختار أن سورة النور نزلت بعد سورة الأحزاب بأشهر، في النصف الأخير من سنة ست للهجرة١.
قيام الدولة الإسلامية :
نزلت سورة النور في مرحلة قويت فيها سواعد المسلمين، وارتفعت راياتهم، وتأكدت أخوتهم، وترابطت صفوفهم، وأصبحوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا.
وكان عدد المسلمين قليلا لا يزيد عل عشر العرب كلها، وكان سلاحهم قليلا، ويتمتع أعدائهم بتفوق في المال والسلاح، والمكانة والتجارة.
وكان المسلمون يتميزون بسمو العقيدة، وطهارة القلب، ودقة النظام، واحترام تعاليم السماء، مما جعلهم ينتصرون على أعدائهم.
وإذا هزم المشركون والمنافقون في معركة السلاح والحرب، فإنهم قد ولجوا من باب آخر هو الدس والوقيعة والفتنة، فتحدث المنافقون عن السيدة عائشة واتهموها في طهارتها وعفتها، وكان قصدهم إحراج النبي، وإحداث الفتنة والبلبلة بين المسلمين، ولكن الله أنزل أحكامه العادلة في هذه السورة، لحفظ المجتمع وحفظ المسلمين، وإحكام بناء الدولة الإسلامية، والجماعة الإسلامية، وتربية الفرد والمجتمع، بما يحقق السمو النفسي والروحي، ويغلق منافذ الشر، ويقود الأمة إلى التماسك والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الإثم والعدوان.
من أحكام سورة الأحزاب :
تعتبر سورة الأحزاب مقدمة وممهدة لسورة النور، ولذلك سنذكر بعض ما اشتملت عليه سورة الأحزاب من أحكام تتصل بحماية المرأة وسد ذرائع الفتنة :
١. أمرت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلزمن بيوتهن ولا يخرجن منها بغير حاجة، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وإذا احتجن إلى الكلام مع غير المحارم من الرجال ؛ فلا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض.
٢. منع الرجال أن يدخلوا بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يؤذن لهم، وإذا أرادوا أن يسألوا أزواجه شيئا ؛ فليسألوهن من وراء حجاب.
٣. أقيم الفرق بين المحارم وغير المحارم من الرجال.
٤. قيل للمؤمنين إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمهاتهم، وإن حرمتهن عليهم أبدية، فعلى المؤمنين جميعا أن يكونوا طاهري القلوب والنيات نحوهن.
٥. أمرت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناته ونساء جميع المسلمين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والمراد : تغطية الوجه من فوق الرأس إذا خرجن من بيوتهن في حاجة.
من أحكام سورة النور :
١. اعتبار الزنا جريمة جنائية، وجعل حد الزاني مائة جلدة.
٢. نهي المؤمنين عن أن يرتبطوا بالفاسقين والفاسقات بصلة الزواج.
٣. جعل حد من يرمي المحصن أو المحصنة بالزنا، ثم لا يأتي عليه بأربعة شهداء ثمانين جلدة.
٤. جعل اللعان لمن يرمي زوجته بالزنا.
٥. تحريم ظن السوء بالآخرين، والتحريض على كبت الشائعة الباطلة والافتراءات الكاذبة.
٦. وجوب الاستئناس والاستئذان قبل دخول بيوت الآخرين.
٧. أمر الرجال بالغض من أبصارهم، وأمرت النساء بالغض من أبصارهن.
٨. أمرت النساء بأن يضربن بخمرهن على نحورهن وصدورهن ورءوسهن.
٩. أمرت النساء ألا يواجهن أحدا من غير المحارم وخدام البيت بزينتهن.
١٠. إذا خرجت النساء من بيوتهن لحاجة فليسترن زينتهن، بل لا يلبسن ما له صوت من حليهن.
١١. فيها حث الرجال والنساء على الزواج، وحث العبيد والإماء عليه، وتأكيد أن الرزق من عند الله، ليقبل الجميع على الزواج، وإشباع النفس من الطريق الشرعي السليم، وبقاء الرجال والنساء بدون نكاح مولد للفحشاء، وأقل ما يكون من هؤلاء الأفراد الذين لا أزواج لهم أنهم لا يتمالكون أنفسهم، من تحسس الأخبار الفاحشة والتلذذ بنقلها في المجتمع.
١٢. جعلت المكاتبة لتحرير العبيد والإماء، وأمر السادة بأن يجيبوهم إلى طلبهم إذا أرادوا منهم المكاتبة، وأمر عامة المسلمين بأن يساعدوا المكاتبين مساعدة مالية.
١٣. نهى عن إكراه الفتيات – وهن الإماء – على البغاء، ولما كانت مهنة البغاء في العرب مقصورة على الإماء ؛ فما كان هذا النهي عنها إلا سدا قانونيا للبغاء، وبيع الأعراض.
١٤. وجوب استئذان الخدم والأطفال دون البلوغ في ثلاثة أوقات : قبل صلاة الفجر، عند الظهيرة، بعد صلاة العشاء. فيجب أن يعود الإنسان أطفاله على هذه القاعدة، ويربيهم عليها، فإذا بلغ الأطفال سن البلوغ وجب أن يستأذنوا في جميع الأوقات.
١٥. سمح للعجائز اللاتي لا أرب لهن في الرجال، أن يتخففن من ثيابهن، وأن يخلعن الخمر عن رءوسهن ووجوههن.
١٦. جعل من حق الأقرباء الأدنين، والأصدقاء الذين لا كلفة بينهم، أن يأكل بعضهم من بيت بعض من دون إذنه، وبهذا طوى ما بين أفراد المجتمع من التباعد والتحاسد، وأزيلت الوحشة ليحل محلها الحب والإخلاص.
١٧. أماطت السورة اللثام عن علامات المؤمنين والمنافقين، واتجهت بكل قوتها إلى تربية المسلمين وتنظيم حياتهم، وتهذيب سلوكهم، وغرس مفاهيم الإيمان في قلوبهم، وسد الطريق أمام فتن المنافقين وألاعيبهم.
١٨. سلكت السورة سبيل الحكمة في تشريع الأحكام، وخلت من المرارة التي قد تنشأ في الأذهان والقلوب، عند رد الحملات الشنيعة، واتسمت بالرزانة والتدبير المعتدل، في معالجة أقسى الظروف المثيرة للعواطف، إنها تشريع الحكيم العليم، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو يشاهد أحوال الناس ومعاملاتهم دقيقها وجليلها من مقام رفيع، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. ( المائدة : ٥٠ ).
فقرات السورة :
يجري سياق سورة النور في خمس فقرات :
الفقرة الأولى :
وفيها بيان حد الزنا، وحد القذف، وأحكام اللعان، ثم حديث الإفك وقصته، وتستغرق هذه الفقرة من أول السورة إلى الآية ٢٦.
الفقرة الثانية :
وفيها وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية، وفيها آداب البيوت، والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر، والنهي عن إبداء الزينة لغير المحارم، والحض على إنكاح الأيامى، والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٢٧- ٣٤.
الفقرة الثالثة :
اشتملت على مجموعة من الآداب النفسية والقلبية، فتحدثت عن تعمير بيوت الله، وتسبيح الخلائق لله، وإزجاء السحاب، وتقليب الليل والنهار، وخلق كل دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها مما هو معروف في صفحة الكون للبصائر والأبصار، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٣٥ – ٤٦.
الفقرة الرابعة :
تتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الطاعة والتحاكم، وتصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم لله والرسول، وتعدهم على هذا بالاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٤٧ – ٥٧.
الفقرة الخامسة :
تستأنف هذه الفقرة الحديث عن آداب الاستئذان والضيافة، في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء، وتتحدث عن آداب الجماعة المسلمة كلها، كأسرة واحدة مع رئيسها ومربيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتتم السورة بإعلان ملكية الله في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم، وهو بكل شيء عليم، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٥٨ – ٦٤.
وبصفة عامة فهي، سورة النور، نور يضيء القلب بتقوى الله، ونور يرشد الفرد والمجتمع إلى أسباب العفة والتصون، فهي سياج للفرد والمجتمع من الانحلال والتردي في الخطيئة، وفيها أح
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١ ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾.التفسير :
١-سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
يقول تعالى : هذه سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا، وفيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفى ما عداها، وَفَرَضْنَاهَا. أي : فرضنا أحكامها التي فيها.
قال مجاهد : أي بينا الحلال والحرام، والأمر والنهي والحدود.
وقال البخاري : فرضناها عليكم وعلى من بعدكم. ونلمح من فرضية أحكام هذه السورة إشارة إلى أن ما تحتوي عليه من الآداب والأحكام في الحلال والحرام، والأمر والنهي والحدود ؛ ليست بمثابة التوصيات بل إنها أحكام قاطعة لا بد أن تتبعوها، وتكيفوا شئون حياتكم الفردية والاجتماعية على حسبها، إن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر.
وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
أي : مفسرات واضحات ليس فيها شيء من الالتباس والإبهام، بل هي أحكام واضحة بينة لا يمكنكم أن تعتذروا عن العمل بها بأنكم لا تفهمونها.
لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. لكي تتعظوا. فهذه الآية كأنها مقدمة لمرسوم ملكي، وفيها التنبيه على مدى اهتمام الرب – سبحانه وتعالى – بما جاء في سورة النور من الأحكام والآداب، ولا تساويها في هذا الشأن مقدمة أي سورة أخرى.
١. في هذه الآية بيان لحد الزاني البكر، وفي السنة الصحيحة بيان لحد الزاني المتزوج وهو الرجم، وقد بينت الآية وجوب الصرامة في إقامة الحد، وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته، تراخيا في دين الله وحقه، وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.
٢. في بيان حكم السرقة بدأ الله تعالى بالرجل فقال سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ( المائدة : ٣٨ ).
وفي بيان حكم الزنا بدأ الله تعالى بالمرأة ؛ لأن السرقة يغلب وقوعها من الرجال وهم عليها أجرا من النساء وأجلد وأخطر فقدموا عليهن لذلك. أما الزنا من المرأة فهو أشد خطرا لما يترتب عليه من فساد الأنساب وتلطيخ فراش الرجل، وهو عار على عشيرة المرأة وأشد وألزم، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم ؛ فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم.
قال القرطبي : قدمت الزانية في هذه الآية حيث كان زنا النساء فاشيا في ذلك الزمان، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، كن مجاهرات بذلك، وقيل : لأن الزنا في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر، وقيل : لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب ؛ فصدرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد ركب فيها حياء، لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، وأيضا : فإن العار بالنساء ألحق، إذ موضعهن الحجاب والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما٢.
٣. بدأت دعوة الإسلام ببيان حكم العقيدة والدعوة إلى الإيمان بالله، ولو بدأت بتحريم الزنا لقال الناس : لا نترك الزنا أبدا، ولو بدأت بتحريم الخمر لقال الناس : لا نترك الخمر أبدا كما قالت عائشة – رضي الله عنها - : فلما استقر الإيمان في القلوب ؛ بين الله بالتدريج أحكام الحلال والحرام.
وفي الآية الخامسة عشر من سورة النساء ذكر القرآن أن الزنا جريمة اجتماعية أو عائلية.
ثم بين القرآن في سورة النور، أن الزنا جريمة جنائية، يجلد الزاني مائة جلدة إذا كان بكرا، وهناك مواصفات لطريقة الجلد منها : أن يضرب بسوط لا ثمرة فيه، وأن يكون السوط وسطا، وأن يوزع الجلد على جسمه لينال الألم كل عضو تمتع باللذة الحرام، ولا يضرب على وجهه لأنه مجمع المحاسن، ولا يضرب في فرجه لأنه مقتل.
٤. لقد حرم الزنا في جميع الشرائع، وبذلت المجتمعات الإنسانية سعيها لسد باب الزنا، فهو رذيلة من ناحية الأخلاق، وإثم من ناحية الدين، وعيب وعار من ناحية الاجتماع، وهذا أمر مازالت المجتمعات البشرية مجمعة عليه منذ أقدم عصور التاريخ إلى يومنا الحاضر، ولم يخالفها فيه حتى اليوم إلا شرذمة قليلة من الذين جعلوا عقولهم تابعة لأهوائهم وشهواتهم البهيمية، ويظنون كل مخالفة للنظام والعرف الجاري اختراعا لفلسفة جديدة.
والعلة في هذا الإجماع العالمي، أن الفطرة الإنسانية بنفسها تقتضي حرمة الزنا، لأن التمدن الإنساني لم يتكون إلا بمعاشرة الرجل والمرأة معا، وإنشائهما أسرة ثم امتداد وشائج النسب والطهر بين تلك الأسرة، ( فالأسرة هي المحضن الصالح للتربية، وهي الجو الملائم لتربية الأطفال، ورعايتهم وتهذيب غرائزهم، ورعاية نموهم النفسي والبدني والاجتماعي )٣.
وإذا رجعنا إلى تاريخ البشرية الطويل، رأينا أنه ما من أمة من الأمم فشت فيها الفاحشة ؛ إلا صارت إلى انحلال وهزيمة.
٥. الزنا المحض :
رغم اتفاق الشرائع على أن الزنا رذيلة، إلا أن بعضها فرق بين الزنا المحض والزنا بزوجة الغير، فاعتبر الأول خطيئة أو زلة يسيرة، واعتبر الثاني جريمة مستلزمة للعقوبة.
والزنا المحض عندهم أن يجامع رجل – بكرا كان أو متزوجا – امرأة ليست بزوجة أحد. فالعبرة هنا بحال المرأة، فإذا كانت غير متزوجة فعقوبة هذه الخطيئة هين جدا في قوانين مصر القديمة وبابل وآشور والهند، وهذه القاعدة هي التي أخذت بها اليونان والرم، وبها تأثر اليهود أخيرا، فهي لم تذكر في الكتاب المقدس لليهود، إلا كخطيئة يلزم الرجل عليها غرامة مالية لا غير.
فقد جاء في كتاب الخروج :( وإذا راود رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها يمهرها لنفسه زوجة، إن أبى أبوها أن يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى )٤.
وجاء هذا الحكم بعينه في كتاب الاستثناء بشيء من الاختلاف في ألفاظه، وبعده التصريح بأنه :( إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة، فأمسكها واضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين مثقالا من الفضة، وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها )٥. غير أنه إذا زنى أحد ببنت القسيس عوقب بالشنق بموجب القانون اليهودي، وعوقبت البنت بالإحراق.
٦. إن القوانين الغربية – وهي التي يتبعها معظم بلاد المسلمين في هذا الزمان – إنما تقوم على هذه التصورات المختلفة، فالزنا في نظرها وإن كان عيبا أو رذيلة خلقية أو ذنبا، ولكنه ليس بجريمة على كل حال. وإن الشيء الوحيد الذي يحوله إلى جريمة، هو الجبر والإكراه، أي : أن يجامع الرجل المرأة بدون رضاها، أما الرجل المتزوج فإن كان ارتكابه لفعلة الزنا سببا للنزاع والشكوى، فإنما هو كذلك لزوجته وحدها، فلها – إن شاءت – أن تطلب من المحكمة تخليصها منه. وأما إذا كانت المرتكبة للزنا امرأة متزوجة، فإن لزوجها أن يشكوها إلى المحكمة ويطلقها، بل له أن يشكو إلى المحكمة ذلك الرجل الذي ارتكب الزنا بزوجته وينال منه غرامة مالية.
٧. الزنا في الإسلام :
يقرر الإسلام أن الزنا جريمة مستلزمة للمؤاخذة والعقوبة، وقد عرف الفقهاء الزنا بأنه : وطء الرجل المرأة في القبل حراما، كالميل في المكحلة، أو القلم في الدواة.
وجاء في كتاب الاختيار في الفقه الحنفي ما يأتي : يثبت الزنا بالبينة والإقرار، والبينة أن يشهد أربعة على رجل أو امرأة بالزنا، فإذا شهدوا يسألهم القاضي عن ماهيته، ومكانه وزمانه، والمزنى بها، فإذا بينوا ذلك، وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه، وشهدوا به كالميل في المكحلة، والقلم في الدواة، وعدلوا في السر والعلانية ؛ حكم القاضي عليه بالحد، وحد الزاني إذا كان محصنا٦ الرجم بالحجارة حتى يموت، يخرج إلى أرض فضاء، فإن كان ثبت بالبينة يبتدأ بالشهود ثم الإمام ثم الناس، فإذا امتنع الشهود أو بعضهم لا يرجم، وإذا ثبت بالإقرار ابتدأ الإمام ثم الناس. وإن لم يكن محصنا فحده الجلد مائة جلدة يضرب بسوط لا ثمرة له، ضربا متوسطا٧، يفرقه على أعضائه إلا رأسه ووجهه وفرجه، ويجرد من ثيابه إلا الإزار، ولا تجرد المرأة عن الفرو والحشو٨.
٨. التدرج في التشريع :
نبه القرآن المكي إلى ضرر الزنا وحذر المؤمنين من آثامه، ومثال ذلك ما نجده في سورة الفرقان : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. ( الفرقان : ٦٨ ).
ومن سورة الإسراء المكية يقول سبحانه : وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً. ( الإسراء : ٣٢ ).
وفي السنة الثالثة بعد الهجرة النبوية، قرر القرآن أن الزنا جريمة مستلزمة للعقوبة، ولكنه ما كان إذ ذاك جريمة قانونية، حيث يكون لشرطة الدولة وحكمتها أن تؤاخذ عليها الناس، وإنما كان بمثابة جريمة اجتماعية أو عائلية لأهل الأسرة أن يعاقبوا من يأتيها منهم بأنفسهم، وهذا الحكم قد جاء في الآيات : ١٥، ١٦، ١٧ من سورة النساء. قال تعالى : وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. ( النساء : ١٥ – ١٧ ).
وفي الآية الأولى إشارة واضحة إلى أن هذا الحكم مؤقت، وسيأتي الحكم النهائي لحد الزنا في المستقبل، وهذا الحكم هو الذي نزل بعد سنتين ونصف في سورة النور، وقد نسخ الحكم السابق، وجعل الزنا جريمة قانونية مستلزمة لمؤاخذة الشرطة والمحكمة٩.
٩. رجم المحصن :
الحد الذي أشارت إليه الآية الثانية في سورة النور، إنما هو حد الزاني البكر الذي لم يتزوج، أما حد الزنا بعد الإحصان والزواج فهو الرجم، وقد ثبت من السنة الصحيحة بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام حد الرجم على الزاني المحصن، ثم أقامه بعده خلفاؤه الراشدون – رضي الله عنهم – في عهودهم، وأجمع على ذك الصحابة والتابعون، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولا، يدل على أنه كان في القرن الأول رجل عنده شك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة، ثم ظل فقهاء الإسلام في كل عصر ومصر، على كونه سنة ثابتة، بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها. وقد خالف الجمهور في هذه القضية الخوارج وبعض المعتزلة. فرأوا أن لا عقوبة في الزنا غير مائة جلدة، للمتزوج وغير المتزوج١٠.
١٠. الرجم في التوراة :
ورد في التوراة أن عقوبة الزاني المحصن الرجم، جاء في سفر التثنية :( وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل بالمدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما من المدينة وارجموهما حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لن تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فينتزع الشر من المدينة، ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها ؛ يموت الذي اضطجع معها وحده، وأما الفتاة فلا يفعل بها شيء )١١.
١١. وردت أحاديث في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، تفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام حد الرجم على الزاني المحصن.
أخرج البخاري، ومسلم : أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا – يعني أجيرا – على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس – لرجل من أسلم – إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ف
سبب نزول الآية :
وردت روايات عدة في سبب نزول هذه الآية، ولا يبعد أن يكون هناك أكثر من سبب لنزول الآية، فقد ذكر العلماء أنه إذا تعددت أسباب النزول، وفيها الصحيح والضعيف، أخذنا بالصحيح وتركنا الضعيف.
وإذا تعددت أسباب النزول وكلها صحيح، وأمكن الجمع بينها لتقارب حدوثها، حملنا ذلك على تعدد السبب والنازل واحد، وهذه ثلاث روايات في سبب نزول الآية :
١. روى الترمذي، وأبو داود، والنسائي، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال :
كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد الغنوى، وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال : وكانت امرأة بغى بمكة، يقال لها : عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إلي عرفتني، فقالت : مرثد ؟ فقلت : ثريد. فقالت : مرحبا وأهلا، هلم فبت عندنا الليلة، فقلت : يا عناق حرم الله الزنا، فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية، ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار، أو كهف، فدخلت فيه، فجاءوا حتى أقاموا على رأسي، فبالوا فظل بولهم على رأسي، فأعماهم الله عني، ثم رجعوا، فرجعت إلى صاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا، حتى انتهيت إلى الأذخر، ففككت عنه أحبله، فجعلت أحمله ويعينني، حتى أتيت به المدينة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله : أنكح عناقا ؟ أنكح عناقا ؟ مرتين، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد علي شيئا : حتى نزل : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً... فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها )٤٠.
٢. وروى النسائي، وأحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :
كانت امرأة يقال لها : أم مهزول، وكانت تسافح – أي : تحترف البغاء – فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوجها، واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله – عز وجل – هذه الآية٤١.
٣. روي أنها نزلت في جماعة من فقراء المهاجرين، استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء، اللاتي كن بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية٤٢.
الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً...
وللمفسرين في معنى هذه الآية أقوال شتى :
١- قال النسفي :
الخبيث الذي من شأنه الزنا، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في خبيثة من شكله، أو في مشركة.
والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين، فالآية تزهيد في نكاح البغايا، إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصين، وهو نظير قوله : الخبيثات للخبيثين. ( النور : ٢٦ ).
٢ - وقيل :
إن الكلام نهي جيء به في صورة الخبر للمبالغة، ويؤيده قراءة عمر بن عبيد : لا ينكح. بالجزم، ويكون التحريم على ظاهره، والإشارة إلى النكاح المفهوم من الفعل، وكان الحكم كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ، قال سعيد بن المسيب : كان الحكم عاما في الزناة ألا يتزوج أحدهم إلا زانية، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك يقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم... ( النور : ٣٢ ). والزانية من أيامى المسلمين، وبهذا القول قال مجاهد، والشافعي، والجبائي، وغيرهم٤٣.
قال ابن عمر : دخلت الزانية في أيامى المسلمين. وقال أبو جعفر النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء٤٤.
٣ – ذهب الإمام أحمد إلى أن زواج الزاني المعروف بالفسوق باطل غير صحيح، ولا يجوز نكاحه حتى يتوب، وقد رجح ابن تيمية رأى الإمام أحمد.
وقال ابن تيمية : يدل قوله تعالى : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن ذلك حرام على المؤمنين، وليس هذا لمجرد كونه فاجرا، بل لخصوص كونه زانيا، وكذلك في المرأة ليس لمجرد فجورها بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيا، كما جعل الرجل زانيا إذا تزوج زانية، هذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنا، وإذا كانا مشركين فينبغي أن يعلم ذلك، ومضمونه أن الرجل الزاني لا يجوز نكاحه حتى يتوب، وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة إذا كانت زانية لا تحصن فرجها عن غير زوجها، بل يأتيها هو وغيره، وإذا كان الزوج زانيا هو وغيره يشتركون في وطئها كما يشترك الزناة في المرأة الواحدة، ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه، فمن نكح زانية فهو زان، أي تزوجها، ومن نكحت زانيا فهي زانية، أي تزوجته، فإن كثيرا من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني، فتكون المرأة خدنا وخليلا له لا يأتي غيرها، فالرجل إذا كان زانيا لا يعف امرأته، وإذا لم يعفها تشوقت هي إلى غيره فزنت به، كما هو الغالب على نساء الزواني، أو من يلوط بالصبيان، فإن نساءه يزنين ليقضين أربهن ووطرهن، ويراغمن أزواجهن بذلك، حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير أزواجهم، فهن أيضا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن، ولهذا يقال :( عفوا تعف نساؤكم وأبناؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ) وكما تدين تدان.
ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، فإن الرجل إذا رضى أن ينكح زانية، رضى أن تزني امرأته، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيا ؛ فقد رضيت عمله، وكذلك إن رضى الرجل أن ينكح زانية ؛ فقد رضى عملها، ومن رضى الزنا كان بمنزلة الزاني، فإن أصل الفعل هو الإرادة، ولهذا جاء في الأثر :( من غاب عن معصية فرضيها ؛ كان كمن شهدها أو فعلها ).
وفي الحديث :( المرء على دين خليله )٤٥ وأعظم الخلة خلة الزوجين٤٦.
وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير، فلا يزال يزني بمن يعجبه، وتبقى امرأته بمنزلة المعلقة، التي لا هي أيم ولا ذات زوج، فيدعوها بذلك إلى الزنا، ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص، مكايدة له ومغايظة، فإنه لم يحفظ غيبتها لم تحفظ غيبته، ولها في بضعه حق، كما له في بضعها حق، فإن كان من العادين، لخروجه عما أباح الله لم يكن أحصن نفسه، وأيضا فإن داعية الزنا تشتغل بمن يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدنا، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها٤٧.
٤ – جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
روى أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي كر – رضي الله عنه – فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الآخر، ونفاهما سنة، وروى مثل ذلك عن عمر، وابن مسعود، وجابر – رضي الله عنهم – وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة، فما سرق حرام وما اشترى حلال، وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة ورأوا أن الماء لا حرمة له٤٨.
وروي عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك ؛ فهما زانيان أبدا، وبهذا أخذ مالك – رضي الله عنه – فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح، فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة٤٩.
٥ – بدأت الآية هنا بالحديث عن الزاني، وفي الآية السابقة بدأت بالحديث عن الزانية.
لأن الآية الثانية من سورة النور تتكلم عن حد الزناة، والزنا من المرأة أشنع، لما يترتب عليه من اختلاط الأنساب وغيره، فقال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مائَةَ جَلْدَةٍ...
أما الآية الثالثة فتتحدث عن الزواج، والرجل فيه هو الأصل، لأن إبداء الرغبة والتماس النكاح بالخطبة، إنما يكون من الرجل لا من المرأة في مجرى العرف والعادة، فبدأت الآية بالزاني لا بالزانية، حيث قالت : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
٦ – قال أبو الأعلى المودودي :
ومقصود الآية أن الفجار الذين يظهرون فجورهم ويعلنون خلاعتهم في المجتمع، ليس الميل إليهم والاتصال بهم بصلة النكاح، إلا ذنبا يجب أن يجتنبه أهل الإيمان، لأن ذلك مما يشجع الفجار، إذ إن الشريعة تريد أن تجعلهم في المجتمع عنصرا قبيحا يعافه الناس، وكذلك ليس معنى الآية أن نكاح الزاني المسلم لامرأة مشركة، أو نكاح الزانية المسلمة لرجل مشرك، صحيح، وإنما معنى الآية : أن الزنا فعل شنيع، إذا ارتكبه أحد مع كونه مسلما، لا يجدر بأن يرتبط بالصالحين الأعفاء، من أفراد المجتمع، بل عليه أن يرتبط إما بأمثاله من الزناة والفجار، أو بالمشركين الذين لا يعتقدون أصلا بالأحكام الإلهية٥٠.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾.
تمهيد :
أراد الإسلام أن يحفظ المجتمع من إشاعة السوء، وإلقاء التهم وقذف الآخرين بسوء السلوك، فإن هذا القول إذا انتشر في المجتمع، هون الجريمة، وأوهم المستقيم أن الانحراف منتشر، وأنه سهل التناول فتشيع الفاحشة وتنتشر قالة السوء بين الناس.
من أجل هذا أمر الإسلام بكبت الشائعات المغرضة، وحفظ الألسن من الولوغ في أعراض الناس.
التفسير :
٤ - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
الرمي : معروف، يقال : رمى بالحجر في الماء، أي : قذف به، ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان كالزنا والسرقة، والرمي هو القذف، والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة.
المحصنات : العفيفات الحرائر البالغات والعاقلات المسلمات، وأشهر معاني الكلمة : العفيفات المنزهات عن الزنا.
وأصل الإحصان : المنع، والمحصن – بالفتح – يكون بمعنى : الفاعل والمفعول، وهي إحدى الكلمات الثلاث اللاتي جئن نوادر. يقال : أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وأفلج – إذا افتقر – فهو مفلج، الفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء.
والذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا، ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم، فاجلدوهم ثمانين جلدة، على قذفهم أعراض الناس دون وجه حق.
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا.
وردوا شهادتهم، ولا تقبلوها في أي واقعة كانت لظهور كذبهم.
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
الخارجون عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات.
فالإنسان إذا رأى منكرا ولم يكن معه شهود، وجب أن يسكت سترا على الآخرين، وحفاظا على سلامة المجتمع، حتى لا يوقع الناس في شك وحيرة وبلبلة.
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة، كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به٥١.
قال السيوطي في :( الإكليل )
في هذه الآية تحريم القذف، وأنه فسق، وأن القاذف لا تقبل شهادته، وأنه يجلد ثمانين جلدة، إذا قذف محصنة أي عفيفة، ومفهومه : أنه إذا قذف من عرفت بالزنا لا يحد للقذف، ويصرح بذلك قوله : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء. وفيها أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة رجال لا أقل، ولا نساء، وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين، واستدل بعموم الآية من قال : يحد العبد أيضا ثمانين، ومن قال : يحد قاذف الكافر، والرقيق، وغير البالغ، والمجنون، وولده.
واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحد لنفسه، لأنه لم يرم أحدا، واستدل بها من قال : إن حد القذف من حقوق الله تعالى، فلا يجوز العفو عنه. ١ ه٥٢.
وقال ابن تيمية :
وقوله تعالى : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا. نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم، واحدا كانوا أو عددا، بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان الذين قذفوا عائشة عددا، ولم يكونوا واحدا لما رأوها قدمت في صحبة صفوان بن المعطل، بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فقدت، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها، ولم تكن فيه فلما رجعت لم تجد أحدا فمكثت مكانها، وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش، فلما رآها أعرض بوجهه عنها، وأناخ راحلته حتى ركبتها، ثم ذهب إلى العسكر، فكانت خلوته بها للضرورة، كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة، مثلما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة، وقصة عائشة.
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم، مجتمعين ولا متفرقين، ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور، فإنه كان من جملتهم مسطح، وحسان، وحمنة، ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد شهادة أحد منهم، ولا المسلمين بعده، لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء مازالوا مسلمين، وقد نهى القرآن عن قطع صلتهم.
من أحكام الآية ما يأتي :
١ – أجمع الفقهاء على أن حكم الآية غير مقصور على قذف الرجال للنساء، بل إنه حكم شامل، سواء كان القذف من الرجال أو النساء، للرجال أو النساء.
٢ – هناك شروط لا بد من استيفائها في القاذف، والمقذوف، وفعلة القذف. قال القرطبي : للقذف شروط عند العلماء تسعة :
شرطان في القاذف، وهما : العقل، والبلوغ، لأنهما أصل التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما.
وشرطان في المقذوف به، وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد وهو الزنا واللواط، أو بنفيه عن أبيه دون سائر المعاصي.
وخمسة في المقذوف، وهي : العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والعفة عن الفاحشة التي رمى بها، كان عفيفا عن غيرها أولا، وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف، وإن لم يكونا من معاني الإحصان، لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الأذى بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ٥٣.
٣ – اختلف العلماء في حد القذف، فقال بعضهم : هو حق الله تعالى، فتقوم شرطة الدولة ومحكمتها بتنفيذه، سواء أطالب به المقذوف أم لم يطالب به، وهذا هو قول ابن أبي ليلى.
وهو من حق الله تعالى، ولكن للمقذوف فيه حق من حيث دفع العار عنه عند أبي حنيفة وأصحابه.
وذهب الشافعي، والأوزاعي إلى أنه إذا ثبتت الجريمة على أحد وجب أن يقام عليه الحد، ولكن يتوقف رفع أمره إلى الحكام على إرادة المقذوف ومطالبته، فهو من هذه الجهة من حقوق العباد.
قال القرطبي :
اختلف العلماء في حد القذف... هل هو من حقوق الله، أو من حقوق الآدميين، أو فيه شائبة منهما، الأول : قول أبي حنيفة، والثاني : قول مالك، والشافعي، والثالث : قول بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام ؛ أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، وينشطر فيه الحد بالرق كالزنا.
وإن كان حقا للآدمي ؛ فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
٤ – إذا ثبت عن رجل أنه ارتكب القذف، فإن الشيء الوحيد الذي ينقذه من الحد، هو شهادة أربعة شهداء في المحكمة بأنهم قد رأوا المقذوف يزني بفلانة٥٤.
٥ – من لم يستطع أن يقدم للمحكمة أربعة شهود يؤيدون قوله، فقد حكم عليه القرآن بثلاثة أحكام هي :
( أ ) أن يجلد ثمانين جلدة.
( ب ) ألا تقبل له شهادة أبدا.
( ج ) ثبوت الفسق عليه.
٦ – مرتكب القذف بدون شهادة الشهود فاسق، ولو كان صادقا في حد ذاته، لأنه أشاع التهم وبلبل المجتمع، بدون دليل حاسم يخرج الناس من الشك إلى اليقين، ولو سكت وستر لكان أولى به وأفضل.
٧ – يرى فقهاء الحنفية في حد القذف، أن يكون ضرب القاذف أخف من ضرب الزاني، لأن الجريمة التي يعاقب فيها، ليس كذبه فيها بمتيقن على كل حال.
أراد الإسلام أن يحفظ المجتمع من إشاعة السوء، وإلقاء التهم وقذف الآخرين بسوء السلوك، فإن هذا القول إذا انتشر في المجتمع، هون الجريمة، وأوهم المستقيم أن الانحراف منتشر، وأنه سهل التناول فتشيع الفاحشة وتنتشر قالة السوء بين الناس.
من أجل هذا أمر الإسلام بكبت الشائعات المغرضة، وحفظ الألسن من الولوغ في أعراض الناس.
٥ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فإذا تاب القاذف وندم واستقام ؛ قبل الله توبته وعفا عنه.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٦ ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( ٧ ) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) ﴾.
التفسير :
٦، ٧، ٨، ٩، ١٠ - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ... الآيات.
يرمون أزواجهم : يقذفونهن بالريبة وتهمة الزنا.
لعنة الله : الطرد من رحمته.
يدرأ : يدفع.
غضب الله : سخطه والبعد عن فضله وإحسانه.
سبب النزول :
تعددت روايات أسباب نزول آيات اللعان، ويمكن أن يجمع بينها بتعدد السبب والنازل واحد.
١ – أخرج البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشريك ابن سمحاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : البينة أو حد في ظهرك )٥٥. فقال : يا رسول الله، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا، ينطلق يلتمس البينة ؟ وفي رواية أنه قال : والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل – عليه السلام – وأنزل عليه : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ. حتى بلغ : إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ١ ه. وهي الآيات : ٦ – ١٠ من سورة النور.
٢ – وأخرج الشيخان ( واللفظ للبخاري ) عن سهل بن سعد : أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان، فقال : كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع ؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها، فقال عويمر : والله، لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فجاءه عويمر، فقال : يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبك )، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها٥٦. فهاتان الروايتان صحيحتان، ولهما شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة، وتفيدان تأخر الجواب إلى وقت الحاجة إليه.
كيفية اللعان :
١ – روى أصحاب الصحاح الستة، والإمام أحمد في مسنده، وابن جرير الطبري في تفسيره، عن ابن عباس، وأنس بن مالك – رضي الله عنهما – أن هلال بن أمية وزوجته٥٧، أرسل إليهما بعد نزول هذه الآية، فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال : والله، يا رسول الله، لقد صدقت عليها. فقالت : كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لاعنوا بينهما ). فقيل لهلال : اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له : يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. وأيضا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرارا :( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب ) ؟ فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها. فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين٥٨.
ثم قيل للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة : اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي. فشهدت في الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقضى ألا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها.
ثم قال للناس :( إن جاءت به أصيهب٥٩ أريشح٦٠ حمش الساقين٦١ فهو لهلال، وإن جاءت به أورق٦٢ جعدا٦٣ حماليا٦٤ خدلج الساقين٦٥ سابغ الإليتين٦٦ فهو الذي رميت به ). فجاءت به أوراق، حماليا، خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رميت به ). فجاءت به أورق حماليا، خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لولا الأيمان – وفي رواية أخرى – لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن )٦٧.
٢ – جاءت قصة عويمر العجلاني التي سبق ذكرها في الصحيحين٦٨ وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عويمرا وزوجته فذكرهما، وقال لهما ثلاثا :( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب... فهل منكما تائب ) ؟ فلما لم يتب أحدهما لاعن بينهما.
قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، فطلقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال سهل بن سعد فنفذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرق بينهما، وقال :( لا يجتمعان أبدا ) وزاد سهل بن سعد : وكانت حاملا فأنكر حملها، وكان ابنها يدعى إليها، ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لهما.
٣ – ولهاتين القضيتين شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. وليس فيها التصريح بأسماء المتلاعنين، فقد تكون بعضها متعلقة بهاتين القضيتين، ولكن قد جاء في بعضها ذكر قضايا أخرى، فهذه التفاصيل تزودنا بكثير من الأمور الموضحة لأحكام اللعان :
( أ ) روى الجماعة عن ابن عمر، أن رجلا رمى امرأته فانتفى من ولدها، في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلاعنا كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بينهما.
( ب ) روى البخاري، ومسلم، وأبو داود، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتلاعنين :( حسابكما على الله، أحدكما كاذب ولا سبيل لك عليها ). قال : يا رسول الله مالي ؟ قال :( لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت فذلك أبعد لك منها ).
( ج ) روى البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، عن أبي هريرة : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال :( هل لك من إبل ) ؟ قال : نعم. قال :( ما لونها ) ؟ قال : حمر. قال :( فهل فيها أورق ) ؟ قال : نعم. قال :( فكيف ذاك ) ؟ قال : نزعة عرق. قال :( فلعل هذا نزعة عرق )٦٩.
فلم يقبل نفيه لولده، ولم يحمل قوله على الرمي بالزنا.
( د ) روى أبو داود، والنسائي، والدارمي، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ؛ فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ؛ احتجب الله منه يوم القيامة، وفضحه على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين ).
فآيات اللعان ؛ وهذه الروايات والشواهد، ومبادئ الشرع العامة هي المصادر لقانون اللعان في الإسلام، وهي التي على ضوئها وضع الفقهاء ضوابط مفصلة للعان.
ومن أهم هذه الضوابط يأتي :
١ – أجمع الفقهاء على أن اللعان كالشهادة، فلا يثبت إلا في المحكمة.
٢ – ليس الحق في المطالبة باللعان للرجل فحسب، بل هو للمرأة أيضا، إذا اتهمها زوجها بالفاحشة أو أنكر ولدها.
٣ – اختلف العلماء من السلف في من وجد مع امرأته رجلا فقتله، هل يقتل به أم لا ؟ فقال بعضهم : يقتل به، لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن من الحاكم، وقال بعضهم : لا يقتل، ويعذر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد وإسحاق رحمهما الله، أن يأتي بشاهدين على أنه قتله بسبب ذلك وقد وافقهما على هذا الشرط ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، ولكن زاد عليه أن يكون المقتول محصنا، وإلا فإن القاتل عليه القصاص إن كان بكرا، أما الجمهور فذهبوا إلى أنه لا يعفى من القصاص، إلا أن يأتي بأربعة يشهدون على الزنا، أو يعترف به المقتول قبل موته بشرط أن يكون محصنا.
٤ – أن اللعان لا يجب بمجرد الكناية أو إظهار الشبهة، وإنما يجب بأن يرمي الزوج زوجته بالزنا صراحة، أو ينكر أن ولدها منه بألفاظ واضحة، وقد زاد مالك، والليث بن سعد – رحمهما الله – أن الزوج عليه أن يصرح عند اللعان بأنه قد رأى بعينيه زوجته تزني، ولكن لا أصل لهذه الزيادة في القرآن ولا في السنة.
٥ – أخذ العلماء من أحاديث اللعان، أنه يندب أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد، وأن يعظهما القاضي أو نائبه، بمثل قوله لكل منهما عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب : اتق الله فإنها موجبة، ولعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، كما يستحب التغليظ بالزمان والمكان، وحضور جمع من عدول المسلمين، على خلاف في ذلك بين الفقهاء ومحله كتب الفروع.
٦ - قال القرطبي :
اللعان يفتقر إلى أربة أشياء :
عدد الألفاظ : وهو أربع شهادات، والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها.
والوقت : وذلك بعد صلاة العصر.
وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان٧٠.
٧ – من نتائج اللعان ما يأتي :
( أ ) أن الرجل والمرأة لا يستحق أحدهما شيئا من العقوبة.
( ب ) إن كان الرجل منكرا لولد المرأة، ألحق الولد بها، ولا يدعى إليه ولا يرثه، وإنما يرث أمه وترث منه.
( ج ) لا يجوز لأحد أن يقول للمرأة زانية، ولولدها ولد الزنا، ولو كانت عند اللعان حيث لا يشك أحد في زناها.
( د ) من أعاد إليها الاتهام السابق، وجب عليه حد القذف.
( ه ) لا يسقط عن الرجل صداق المرأة.
( و ) لا نفقة ولا بيت للمرأة على الرجل.
( ز ) تحرم المرأة على الرجل.
٨ – ذكر القرطبي في تفسيره أن آيات اللعان فيها ثلاثون مسألة، منها كيفية وقوع الفرقة في اللعان :
قال مالك وأصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده، وهو قول الليث بن سعد، وزفر بن الهذيل، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن : لا تقع الفرقة بعد فراغها من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول الثوري، لقول ابن عمر : فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المتلاعنين. فأضاف الفرقة إليه، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا سبيل لك عليها ). وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان، فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن، قال : وأما التعانها فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير٧١.
( والذي تقتضيه
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ ) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رءوف رَحِيمٌ ( ٢٠ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢١ ) وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾.
قصة الآيات :
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
التفسير :
١١ - إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
الإفك : أبلغ الكذب والافتراء.
العصبة : الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبي بن سلول وقد تولى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب – رضي الله عنها – وزوج طلحة بن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت.
كبره :( بكسر الكاف وضمها وسكون الباء ) أي : معظمه، فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه.
تبدأ هذه الآية الحديث عن موضوع الإفك، وتبين أن الله خبأ فيه الخير من حيث ظن المسلمون أن فيه الشر.
لقد كان حديث الإفك محنة شديدة مرت بالنبي الكريم، فهو القائد الموحى إليه يتهم في عرضه وفي أحب نسائه إليه، وكان محنة للصديق الذي أخلص للإسلام ولنبي الإسلام، ثم يتهم في كريمته، ويجدها تبكي ذات يوم لما أصابها فيبكي لبكائها، ويقول : ما وقع منا ذلك في الجاهلية، فكيف نتهم به في الإسلام ؟ وكان محنة – أي محنة – لعائشة فهي الحصان الرزان المؤمنة الغافلة عن الإثم، تعود مريضة من غزوة بني المصطلق ثم تشفى من مرضها، فتعرف أن القوم يتحدثون عنها، وهي بريئة ولكنها لا تملك إلا البكاء والألم.
وكان محنة لصفوان بن المعطل الصحابي الجليل الذي شهد بدرا، وكان من ساقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمدافعين عنه، ولا يعلم عنه إلا كل خير. وكان محنة للشرفاء والمخلصين من المسلمين، فهذا أبو أيوب الأنصاري يقول لزوجته : يا أم أيوب، ألا ترين ما يقال ؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوءا ؟ قال : لا. قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة – رضي الله عنها – ما خنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك٧٧.
لقد كشفت حديث الإفك عن المنافقين، وكان درسا عمليا خاض فيه الناس شهرا كاملا، وملأ المجالس والمنتديات، ولم يتحرج بعض المسلمين من إطلاق ألسنتهم بهذه المقالة، وبعد شهر كامل نزل الوحي من السماء، يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله.
أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن التجربة وضريبة الابتلاء، وفي الحديث الصحيح :( أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه )٧٨.
لقد نجح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الامتحان، فاجتنب أهله، ولم تصدر منه كلمة جارحة لأحد، ونجح الصديق وأهل بيته في الصبر والاحتساب، وكانت هذه الآيات وساما لعائشة.
ثم هي آيات ترسم الطريق للمسلمين، فيما يجب عليهم أن يفعلوه إزاء مثل هذه الشائعات.
أما الذين خاضوا في الإفك، ونشروا هذه المقالة الآثمة ؛ فلكل منهم عقوبته في الدنيا.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين، هو الذي روج هذا الأمر وبدأ به، وأشاعه بين أتباعه، فادخر الله له عقابه الأليم يوم القيامة.
روى أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين، وعبد الله بن أبي بن سلول في ملأ من قومه قال : من هذه ؟ فقالوا : عائشة – رضي الله عنها – فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها.
وقد وردت في الروايات أسماء الذين كانوا يتناقلون حديث الإفك في المجتمع وهم : عبد الله بن أبي، وزيد بن رفاعة – والغالب أنه ابن رفاعة بن زيد من اليهود المنافقين – ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. فكان عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة من المنافقين، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش من المؤمنين، ولكن انخدعوا لمكائد الأولين، وخاضوا في حديث الإفك على خطأ منهم وضعف، ولا نعلم من كتب الحديث والسيرة أسماء غير هؤلاء ممن خاضوا في حديث الإفك وإشاعة أخباره.
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...
إن الذين تقولوا بالإثم هم جماعة منكم، تعاونوا على إعلانه وإذاعته بين الناس.
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...
أي : لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم لما حمل في طياته من الابتلاء والامتحان، ونزول آيات القرآن.
قال الزمخشري :
ومعنى كونه خيرا لهم، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشر آية، كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين – رضوان الله عليها – وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ...
أي : لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقل، وبعضهم أكثر.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ...
أي : والذي تحمل معظم ذلك الإثم، وهو عبد الله بن أبي له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وكان عبد الله ابن أبي هو الذي ابتدأ هذا الكلام وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها. فهو الذي بدأ الخوض، وهو الذي بثه وأشاعه، وقد أخزاه الله في الدنيا وأظهر نفاقه، وله في الآخرة عذاب عظيم.
وقال الضحاك : الذي تولى كبره حسان ومسطح، فجلدهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله عذرها.
وهذا رأي ضعيف، فحسان وقع في الفتنة التي دبرها المنافقون، ولم يكن هو الذي تولى كبر الإشاعة وأحكم تدبيرها.
قال ابن كثير :
وهو – أي كون حسان مصداقا لهذه الآية بدلا من عبد الله بن أبي – قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإن حسان من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر.
اسم السورة :
سورة النور مدنية، وآياتها ٦٤ آية، ونزلت بعد سورة الحشر، وسميت بهذا الاسم لكثرة ذكر النور فيها : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... ( النور : ٣٥ ).
نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء... ( النور : ٣٥ ).
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ... ( النور : ٤٠ ).
روح السورة :
هذه سورة الآداب والأخلاق والتربية الإسلامية الهادفة.
وقد ذكر النور في هذه السورة بلفظه، كما ذكر بمظاهره وآثاره في القلوب والأرواح، ممثلة هذه الآثار في بيان الفرائض والأحكام التي يقوم عليها بناء السورة، وهي أحكام وآداب نفسية، وعائلية وجماعية، تؤدي إلى طهارة الفرد وسلامة المجتمع.
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية، التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود، وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرقيقة التي تصل القلب بنور الله.
وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة، بوصفها : نابعة كلها من معين واحد، هو العقيدة والاهتداء بنور الله.
تاريخ نزول السورة :
نزلت سورة النور في مرحلة متأخرة من حياة المسلمين في المدينة، بعد أن استقر الإيمان في القلوب، واستعدت نفوس المسلمين لتقبل أحكام هذه السورة.
وأحكام الحجاب في الإسلام، نزلت في سورتين فحسب من سور القرآن، هما : سورة الأحزاب، وسورة النور.
وقد اختلف العلماء في ترتيب نزولهما، كما اختلفوا في ترتيب حدوث غزوتين شهيرتين، ارتبطت كل غزوة منهما بإحدى السورتين.
فغزوة الأحزاب ارتبطت بسورة الأحزاب، وغزوة بني المصطلق ارتبطت بسورة النور، وفي إثر غزوة بني المصطلق تخلفت عائشة – رضي الله عنها – عن الجيش، وتكلم المنافقون بحديث الإفك، ونزلت ثلاث عشرة آية في سورة النور بشأن ذلك الموضوع.
الخلاف بين المؤرخين هو :
هل كانت غزة بني المصطلق في السنة الخامسة قبل غزوة الأحزاب، أم بعدها في السنة السادسة من الهجرة ؟.
فإن كانت غزوة الأحزاب قبل غزوة بني المصطلق، فمعناه أن أحكام الحجاب في الإسلام، كان بدؤها بالتعليمات التي وردت في سورة الأحزاب، وكمالها بالأحكام التي وردت في سورة النور. وأما إذا كانت غزوة بني المصطلق قبل غزوة الأحزاب، انعكس الترتيب في نزول أحكام الحجاب، وصار بدؤها بسورة النور، وكمالها بسورة الأحزاب.
يقول ابن سعد :
إن غزوة بني المصطلق وقعت في شعبان من سنة خمس، ووقعت بعدها غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، في ذي القعدة من السنة نفسها.
ويقول ابن إسحاق :
إن غزوة الأحزاب وقعت في شوال من سنة خمس، وغزوة بني المصطلق في شعبان من سنة ست.
وقد جزم ابن حزم وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين بصحة رواية ابن إسحاق، ورجحناها على رواية ابن سعد.
وتفيد روايات صحيح البخاري وغيره أن أحكام الحجاب كانت قد نزلت قبل قصة الإفك، أي : في سورة الأحزاب، ومما تفيده هذه الروايات كذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد نزوج زينب بنت جحش – رضي الله عنها – قبل ذلك، في ذي القعدة من سنة خمس، وجاء ذكره في سورة الأحزاب، بل مما تفيده هذه الروايات كذلك أن حمنة أخت زينب بنت جحش، إنما شاركت في رمي عائشة لأنها ضرة أختها، والظاهر أنه لا بد من أن تمضي مدة من الزمن – ولو يسيرة – على صلة الضرارة بين امرأتين، حتى تنشأ في القلوب مثل هذه النزعات، فهذه الأمور كلها مما يؤكد رواية ابن إسحاق ويقويها، وتجعلنا نختار أن سورة النور نزلت بعد سورة الأحزاب بأشهر، في النصف الأخير من سنة ست للهجرة١.
قيام الدولة الإسلامية :
نزلت سورة النور في مرحلة قويت فيها سواعد المسلمين، وارتفعت راياتهم، وتأكدت أخوتهم، وترابطت صفوفهم، وأصبحوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا.
وكان عدد المسلمين قليلا لا يزيد عل عشر العرب كلها، وكان سلاحهم قليلا، ويتمتع أعدائهم بتفوق في المال والسلاح، والمكانة والتجارة.
وكان المسلمون يتميزون بسمو العقيدة، وطهارة القلب، ودقة النظام، واحترام تعاليم السماء، مما جعلهم ينتصرون على أعدائهم.
وإذا هزم المشركون والمنافقون في معركة السلاح والحرب، فإنهم قد ولجوا من باب آخر هو الدس والوقيعة والفتنة، فتحدث المنافقون عن السيدة عائشة واتهموها في طهارتها وعفتها، وكان قصدهم إحراج النبي، وإحداث الفتنة والبلبلة بين المسلمين، ولكن الله أنزل أحكامه العادلة في هذه السورة، لحفظ المجتمع وحفظ المسلمين، وإحكام بناء الدولة الإسلامية، والجماعة الإسلامية، وتربية الفرد والمجتمع، بما يحقق السمو النفسي والروحي، ويغلق منافذ الشر، ويقود الأمة إلى التماسك والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الإثم والعدوان.
من أحكام سورة الأحزاب :
تعتبر سورة الأحزاب مقدمة وممهدة لسورة النور، ولذلك سنذكر بعض ما اشتملت عليه سورة الأحزاب من أحكام تتصل بحماية المرأة وسد ذرائع الفتنة :
١. أمرت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلزمن بيوتهن ولا يخرجن منها بغير حاجة، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وإذا احتجن إلى الكلام مع غير المحارم من الرجال ؛ فلا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض.
٢. منع الرجال أن يدخلوا بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يؤذن لهم، وإذا أرادوا أن يسألوا أزواجه شيئا ؛ فليسألوهن من وراء حجاب.
٣. أقيم الفرق بين المحارم وغير المحارم من الرجال.
٤. قيل للمؤمنين إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمهاتهم، وإن حرمتهن عليهم أبدية، فعلى المؤمنين جميعا أن يكونوا طاهري القلوب والنيات نحوهن.
٥. أمرت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناته ونساء جميع المسلمين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والمراد : تغطية الوجه من فوق الرأس إذا خرجن من بيوتهن في حاجة.
من أحكام سورة النور :
١. اعتبار الزنا جريمة جنائية، وجعل حد الزاني مائة جلدة.
٢. نهي المؤمنين عن أن يرتبطوا بالفاسقين والفاسقات بصلة الزواج.
٣. جعل حد من يرمي المحصن أو المحصنة بالزنا، ثم لا يأتي عليه بأربعة شهداء ثمانين جلدة.
٤. جعل اللعان لمن يرمي زوجته بالزنا.
٥. تحريم ظن السوء بالآخرين، والتحريض على كبت الشائعة الباطلة والافتراءات الكاذبة.
٦. وجوب الاستئناس والاستئذان قبل دخول بيوت الآخرين.
٧. أمر الرجال بالغض من أبصارهم، وأمرت النساء بالغض من أبصارهن.
٨. أمرت النساء بأن يضربن بخمرهن على نحورهن وصدورهن ورءوسهن.
٩. أمرت النساء ألا يواجهن أحدا من غير المحارم وخدام البيت بزينتهن.
١٠. إذا خرجت النساء من بيوتهن لحاجة فليسترن زينتهن، بل لا يلبسن ما له صوت من حليهن.
١١. فيها حث الرجال والنساء على الزواج، وحث العبيد والإماء عليه، وتأكيد أن الرزق من عند الله، ليقبل الجميع على الزواج، وإشباع النفس من الطريق الشرعي السليم، وبقاء الرجال والنساء بدون نكاح مولد للفحشاء، وأقل ما يكون من هؤلاء الأفراد الذين لا أزواج لهم أنهم لا يتمالكون أنفسهم، من تحسس الأخبار الفاحشة والتلذذ بنقلها في المجتمع.
١٢. جعلت المكاتبة لتحرير العبيد والإماء، وأمر السادة بأن يجيبوهم إلى طلبهم إذا أرادوا منهم المكاتبة، وأمر عامة المسلمين بأن يساعدوا المكاتبين مساعدة مالية.
١٣. نهى عن إكراه الفتيات – وهن الإماء – على البغاء، ولما كانت مهنة البغاء في العرب مقصورة على الإماء ؛ فما كان هذا النهي عنها إلا سدا قانونيا للبغاء، وبيع الأعراض.
١٤. وجوب استئذان الخدم والأطفال دون البلوغ في ثلاثة أوقات : قبل صلاة الفجر، عند الظهيرة، بعد صلاة العشاء. فيجب أن يعود الإنسان أطفاله على هذه القاعدة، ويربيهم عليها، فإذا بلغ الأطفال سن البلوغ وجب أن يستأذنوا في جميع الأوقات.
١٥. سمح للعجائز اللاتي لا أرب لهن في الرجال، أن يتخففن من ثيابهن، وأن يخلعن الخمر عن رءوسهن ووجوههن.
١٦. جعل من حق الأقرباء الأدنين، والأصدقاء الذين لا كلفة بينهم، أن يأكل بعضهم من بيت بعض من دون إذنه، وبهذا طوى ما بين أفراد المجتمع من التباعد والتحاسد، وأزيلت الوحشة ليحل محلها الحب والإخلاص.
١٧. أماطت السورة اللثام عن علامات المؤمنين والمنافقين، واتجهت بكل قوتها إلى تربية المسلمين وتنظيم حياتهم، وتهذيب سلوكهم، وغرس مفاهيم الإيمان في قلوبهم، وسد الطريق أمام فتن المنافقين وألاعيبهم.
١٨. سلكت السورة سبيل الحكمة في تشريع الأحكام، وخلت من المرارة التي قد تنشأ في الأذهان والقلوب، عند رد الحملات الشنيعة، واتسمت بالرزانة والتدبير المعتدل، في معالجة أقسى الظروف المثيرة للعواطف، إنها تشريع الحكيم العليم، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو يشاهد أحوال الناس ومعاملاتهم دقيقها وجليلها من مقام رفيع، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. ( المائدة : ٥٠ ).
فقرات السورة :
يجري سياق سورة النور في خمس فقرات :
الفقرة الأولى :
وفيها بيان حد الزنا، وحد القذف، وأحكام اللعان، ثم حديث الإفك وقصته، وتستغرق هذه الفقرة من أول السورة إلى الآية ٢٦.
الفقرة الثانية :
وفيها وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية، وفيها آداب البيوت، والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر، والنهي عن إبداء الزينة لغير المحارم، والحض على إنكاح الأيامى، والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٢٧- ٣٤.
الفقرة الثالثة :
اشتملت على مجموعة من الآداب النفسية والقلبية، فتحدثت عن تعمير بيوت الله، وتسبيح الخلائق لله، وإزجاء السحاب، وتقليب الليل والنهار، وخلق كل دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها مما هو معروف في صفحة الكون للبصائر والأبصار، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٣٥ – ٤٦.
الفقرة الرابعة :
تتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الطاعة والتحاكم، وتصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم لله والرسول، وتعدهم على هذا بالاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٤٧ – ٥٧.
الفقرة الخامسة :
تستأنف هذه الفقرة الحديث عن آداب الاستئذان والضيافة، في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء، وتتحدث عن آداب الجماعة المسلمة كلها، كأسرة واحدة مع رئيسها ومربيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتتم السورة بإعلان ملكية الله في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم، وهو بكل شيء عليم، وتستغرق هذه الفقرة الآيات من ٥٨ – ٦٤.
وبصفة عامة فهي، سورة النور، نور يضيء القلب بتقوى الله، ونور يرشد الفرد والمجتمع إلى أسباب العفة والتصون، فهي سياج للفرد والمجتمع من الانحلال والتردي في الخطيئة، وفيها أح
١٢ - لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ.
لولا : كلمة بمعنى هلا، تفيد الحث على فعل ما بعدها.
مبين : ظاهر مكشوف.
هلا إذ سمعتم هذا الكلام، ظننتم خيرا بأفراد ملتكم ومجتمعكم.
ثم إن عائشة لها منزلتها، فهي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابنة أبي بكر، وهي أم المؤمنين وحرمتها عليهم كحرمة أمهاتهم.
والشخص الذي رميت به صحابي جليل مجاهد عفيف، حيث أقسم بالله أنه ما كشف عن كنف أنثى قط، أي في حرام.
فكان أولى بالمسلمين إذ سمعوا هذه الشائعة ألا يصدقوها، ولكنهم ظنوا أسوأ ما يكون الظن بأنفسهم، وبأخلاق مجتمعهم، وكانت طبيعة الإيمان تقتضي أن ينفر المسلم من سماع هذا الإثم، وأن يعلن رفضه بدون تردد، وأن يقول : هذا كذب ظاهر ملفق، وفرية صريحة، وبهتان عظيم، لا أساس له من الحقيقة والواقع.
قال الزمخشري :
فإن قلت : هلا قيل :( لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا ) ؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ؟ وعن الضمير إلى الظاهر ؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ ( اّلإيمان ) دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها، قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن، إذ سمع مقالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن الحسن، لا على الشك، وأن يقول بملء فيه – بناء على ظنه بالمؤمن الخير - : هذا إفك مبين، هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بأخوات !. انتهى.
وينبغي أن يكون الأساس للروابط الاجتماعية في المجتمع الإسلامي ظن الناس فيما بينهم خيرا، فالأصل هو أن الإنسان برئ إلى أن تثبت إدانته.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٣ - لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ.
أي : هلا جاء الخائضون في الإفك بأربعة شهداء، يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به، فإذا لم يأتوا بهم فأولئك الكاذبون عند الله، أي : في قانون الله، أو بحسب قانونه.
وإلا فمن الظاهر أن الاتهام في نفسه كان إفكا وكذبا، فما كان لأحد له حظ من العقل أن يقول في مثل هذه الحال : إن عائشة تخلفت عن الرحيل بحيلة مدبرة، لأن الذين يدبرون الحيل، لا يدبرونها بأن تتخلف زوج رئيس القوم خفية مع رجل منهم، ثم تأتي راكبة جهرة على بعير هذا الرجل نفسه في وقت الظهيرة والجيش كله يشهد ذلك، ورئيس القوم بين أظهرهم، فهذه الصورة من الواقع، تدل بنفسها دلالة واضحة على براءة ساحتها، لأن الأساس الوحيد الذي كان من الممكن أن يتهما عليه في مثل هذه الحال، هو أن يكون القائلون قد رأوهما يرتكبان الفاحشة بأعينهم، وإلا فإن القرائن التي بنى عليها الظالمون اتهامهم، ما كان فيها أدنى مجال للريبة والشبهة.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٤ - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أفضتم : خضتم في حديث الإفك.
أي : ولولا تفضله – سبحانه – عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من أجلها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو بعد التوبة، لعجل لكم العقوبة في الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٥ - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
تلقونه : تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال : تلقى القول : وتلقنه، وتلقفه. ومنه : فتلقى آدم من ربه كلمات... ( البقرة : ٣٧ ).
أي : ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب، وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك، وأخبر بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ في القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله.
وخلاصة ذلك أنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام هي :
( أ ) تلقي الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له : ما وراءك ؟ فيحدثه حديث الإفك ؛ حتى شاع وانتشر، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه.
( ب ) أنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده، ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه.
( ج ) استصغار ذلك وحسبانه صغيرا يسيرا هينا، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.
قال الزمخشري :
فإن قلت : ما معنى قوله : بأفواهكم. والقول لا يكون إلا بالفم ؟
قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم، من غير ترجمة عن علم به في القلب.
كقوله تعالى : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم... ( آل عمران : ١٦٧ ).
وقيل : إنه توبيخ، كما تقول : قاله بملء فيه، فإن القائل ربما رمز، وربما صرح وتشدق٧٩.
وقد قيل هذا في قوله تعالى : قد بدت البغضاء من أفواههم... ( آل عمران :( ١١٨ ).
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٦ - وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
سبحانك : تعجب ممن تفوه به.
بهتان : كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته.
لقد كان ينبغي أن تتحرج الألسنة من مجرد النطق بهذا الإفك، وأن تتوقف عن الخوض فيه، وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا، وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم.
ونذكر في هذا المقام موقف زينب بنت جحش ( وهي التي تسامى عائشة في منزلتها، وفي قربها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عائشة، فقالت : أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا. إن هذا النموذج الكريم هو الذي طالبت به الآية، وأرشدت المسلمين إلى ما ينبغي قوله.
أي : هلا حين سمعتم هذا الإفك، قلتم : لا يحل لنا أن نتكلم بهذا، ولا ينبغي لنا أن نتفوه به، سبحانك ربنا هذا كذب صراح، يحير السامعين أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت الطاهر بيت النبوة، الذي هو في الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٧ - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
يعظكم : ينصحكم.
لقد تكررت الآيات وألحت على هذا الموضوع لتبين خطورته، وعرضت هذه الخطورة بألوان متعددة، لتأخذ على النفوس كل سبيل حتى لا تعود إلى مثله.
وهنا يحذر القرآن المؤمنين أن يعودوا إلى مثل هذا الحديث، من القذف أو الاستماع إليه أبدا ما دمتم أحياء مكلفين.
إن كنتم مؤمنين. فيه تهييج لهم ليتعظوا، وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو الإيمان الصاد عن كل قبيح٨٠.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٨ - وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي : ويفصل لكم في كتابه آيات التشريع، ومحاسن الفضائل والآداب، والله عليم حكيم. يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف، ويعلم مداخل القلوب ومسارب النفوس، وهو حكيم في علاجها، وتدبير أمرها، ووضع النظم والحدود التي تصلح الفرد والمجتمع.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
١٩ - إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
تشيع : تنتشر.
الفاحشة : الخصلة المفرطة في القبح، وهي الزنا.
تطلق الفاحشة على كل أمر قبيح، وأحيانا تطلق على الزنا خاصة.
ومقصود الآية : ذم من ينشر الأخبار الكاذبة، ويذيع أنباء الزنا عن المحصنين والمحصنات من المؤمنين فهناك صنف من الناس لا يحلو له الحديث إلا في تجريح الشرفاء ولمز الغافلات المحصنات.
هذا الصنف مريض، وربما كان فاسقا أو زانيا ويرى في سلوك كل شريف وشريفة تحديا له، وإعلانا عن النزاهة والاستقامة في هذه الدنيا، فهو يريد أن يستر كل خير، وأن يذيع كل إثم، وقد توعد الله هذا الصنف بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وأوجب علينا أن نقفل أبواب الفتنة، وأن نرفض كل حديث يتصل بتجريح الأعراض، وأن نسد منافذ الشر والإثم في المجتمع، وأن نحافظ على شبابنا وبناتنا من التيارات الغريبة، والانحرافات الآثمة.
يقول المودودي :
والآية تنطبق كذلك على إنشاء دور للفاحشة والبغاء، وما يرغب الناس فيها ويثير غرائزهم الدنيئة، من القصص والروايات والأشعار والغناء والصور والألعاب والمسارح والسينما، كما تنطبق كذلك على المجالس والنوادي والفنادق، التي يعقد فيها الرقص والطرب ويشترك فيه الرجال والنساء، على صورة خليعة مختلطة.
فالقرآن يصرح بأن هؤلاء جميعا من الجناة، يجب ألا ينالوا عقابهم في الآخرة فقط بل في الدنيا كذلك، فمن واجب كل دولة مسلمة أن تبذل جهدها في استئصال جميع هذه الوسائل والأسباب لإشاعة الفاحشة، وتقرر أن جميع هذه الأفعال جرائم مستلزمة للعقوبة، وتؤاخذ عليها الشرطة والمحكمة٨١.
وقد روى من حديث أبي الدرداء : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها ؛ فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأيما رجل حال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام ؛ فقد عاند الله حقا، وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها برئ، يريد أن يشينه بها في الدنيا، كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار )، ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ٨٢.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
٢٠ - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
كرر الله تعالى تفضله على المؤمنين ببيان هذه الأحكام، ليؤكد على أهمية الخطأ الجسيم الذي وقع، فقد كان خليقا أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء، ( ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته... ذلك ما وقاهم السوء، ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة، وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين )٨٣.
قال النسفي في قوله تعالى : وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ...
لعجل لكم العذاب، وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب، مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم. وَأَنَّ اللَّه رَءُوفٌ رَحِيمٌ. حيث أظهر براءة المقذوف، وقبل توبة القاذف٨٤.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
٢١ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
خطوات : واحدها خطوة ( بالضم )، ما بين القدمين من المسافة، ويراد بها : نزعات الشيطان ووساوسه.
المنكر : ما تنكره النفوس فتنفر منه.
زكا : طهر من دنس الذنوب.
لقد حذر الله من اتباع طريق الشيطان فقال عز شأنه : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. ( فاطر : ٦ ). وإذا كان الشيطان للإنسان عدوا مبينا، فإن هذا الإنسان الغافل ينسى أحيانا نفسه، ويسلك سبل الشيطان وطرقه، وينهج على منواله حين يشيع الفحشاء في الذين آمنوا، ويذيعها وينقلها ويرويها بين الناس فيفتح العيون الغافلة، ويوهم الأبرياء أن الشر فاش ومنتشر، فيشجعهم ذلك على الرذيلة.
( وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان، فيتبع المؤمنون خطاه، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان، وأن يسلكوا طريقا غير طريق المشئوم !
صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن، ويرتجف لها وجدانه، ويقشعر لها خياله !
ورسم هذه الصورة، ومواجهة المؤمنين بما يثير في نفوسهم اليقظة، والحذر والحساسية )٨٥.
وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...
إن الشيطان يتحين الفرصة لإضلالكم، وإيقاعكم في الفواحش والمنكرات والمعاصي، فاحذروا طريقه، واقصدوا باب الله بالتوبة، فهو الباب الوحيد الذي يعصمكم من الفتنة والغواية : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. ( الأعراف : ٢٠١ ).
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا...
الهداية والتوفيق والتوبة كلها تتم بفضل الله ورحمته.
قال النسفي :
ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس الإفك.
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء... يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محصوها
وَاللَّهُ سَمِيعٌ. لقولهم. عَلِيمٌ. بضمائرهم وإخلاصهم٨٦.
وليست مشيئة الله تعالى في تزكية الناس وتطهريهم من أدناس الفواحش والمنكرات بدون قاعدة ولا نظام، بل هي قائمة على نظام محكم، وعلم واسع، فالله يعلم من يطلب الخير، ومن يرغب في الشر، ويسمع كل ما يتكلم به الإنسان في خلواته، ولا يخفى على علمه ما توسوس به نفسه.
فهو يمنح هدايته لمن يستحق هذه الهداية، ولمن يسلك طريق الخير ويبتعد عن طريق الشر، وهو سبحانه يحجب هدايته عمن أعرض عن الله واتبع هواه، ولم يصغ لنداء الحق.
قال صلى الله عليه وآله وسلم :( اعملوا، فكل ميسر لما خلق له )٨٧، إن - الله عز وجل – يقول :
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى. ( الليل : ٥ - ١٠ ).
وجاء في تفسير ابن كثير :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ... يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به.
وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ... هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها.
قال ابن عباس : خطوات الشيطان. عمله، وقال عكرمة : نزغاته، وقال قتادة : كل معصية فهي من خطوات الشيطان.
وسأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعاما، وسماه. فقال : هذا من نزغات الشيطان، كفر عن يمينك وكل.
وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده : هذا من نزغات الشيطان، وأفتاه أن يذبح كبشا.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا...
أي : لولا أن الله يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها، وما فيها من أخلاق رديئة، كل بحسبه ؛ لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا٨٨.
بعد أن ذكر – سبحانه – حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره، عن عروة بن الزبير، عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ( نصيبي ) ؛ فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلتة فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في حر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل فيسلم، يقول :( كيف تيكم ) ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتا عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ( هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ) قبل بيتى حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت : أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( كيف تيكم ) ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال :( نعم ). قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي، فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به، فقالت : أي بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت : سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها. فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية. فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية ( يعني بريرة ) تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال :( هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ) ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت أمرا أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي. فقال وهو على المنبر :( يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). فقام سعد بن معاذ الأنصاري – رضي الله عنه – فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال : أي سعد بن معاذ، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت على امرأة من الأنصار، فأذنت لها ؛ فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس، ثم قال : أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ( يوسف : ١٨ ). ثم وليت فاضطجعت على فراشي وأنا – والله – أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج من البيت حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :( أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك )، فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ... عشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة. – إلى قوله تعالى – غفور رحيم. فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله، أحمى سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك٧٦.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء.
٢٢ - وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
لا يأتل : لا يحلف.
الفضل : الزيادة في الدين.
السعة : الغنا.
أي : ولا يحلف من كان ذا فضل منكم وسعة – أيها المؤمنون بالله – ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين.
قال ابن كثير :
وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام، ولهذا قال تعالى : وليعفوا وليصفحوا. أي : عما تقدم منهم في الإساءة والأذى، وهذا من حلمه – تبارك وتعالى – وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآيات نزلت في الصديق – رضي الله عنه – حين حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة بعدما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرع – تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة – يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق.
وكان مسكينا لا مال له، إلا ما ينفق عليه أبو بكر – رضي الله عنه – وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها، وكان الصديق – رضي الله عنه – معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية، قال الصديق : بلى والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم أعاد إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال : والله، لا أنزعها منه أبدا.
فلهذا كان الصديق هو الصديق، رضي الله عنه وعن بنته٨٩.
جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ وقيل : أرجى آية في كتاب الله – عز وجل – قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ( الأحزاب : ٤٧ ).
وقد قال تعالى في آية أخرى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ. ( الشورى : ٢٢ ).
فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ( الزمر : ٥٣ ).
وقوله تعالى : اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ... ( الشورى : ١٩ ).
وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل : ولسوف يعطيك ربك فترضى. ( الضحى : ٥ ).
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار٩٠.
في أعقاب الآية :
من حلف على يمين ثم رأى الخير في غيرها، فهل عليه أن يكفر عن يمينه أم لا ؟
تقول طائفة من الفقهاء : إن رجوعه إلى الخير هو الكفارة عن يمينه، فلا كفارة عليه غيرها، واستدلوا بهذه الآية ؛ لأن الله تعالى وإن أمر فيها أبا بكر بالرجوع عن يمينه لم يوجب عليه الكفارة.
وتقول طائفة أخرى من الفقهاء : إن الله تعالى قد أنزل في كتابه حكما واضحا مطلقا عن الرجوع في اليمين، وهو قوله تعالى : لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ... ( المائدة : ٨٩ ).
يقولون : إن هذا الحكم العام ما نسخته آية سورة النور، ولا أدخلت فيه تغييرا بألفاظ واضحة، فهو لا يزال ثابتا قائما إذ إن الله تعالى لم يذكر في قصة أبي بكر أمر الكفارة نفيا ولا إثباتا.
ويستشهدون بحديث قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه )٩١.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة، وبين عقاب من اتهمها بالإفك، وشديد عذابه يوم القيامة، وأسهب في هذا ؛ أعقب ذلك ببيان حكم عام، وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالزنا، فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة.
التفسير :
٢٣ - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
المحصنات : العفيفات.
الغافلات : أي : عن الفواحش، وهن نقيات القلوب، اللاتي لا يفكرن في فعلها.
لعنوا : طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بالحد.
تأتي هذه الآيات في أعقاب حديث الإفك، ولذلك قيل : إنها خاصة بعائشة رضي الله عنها.
فقد تحدثت الآيات ( ٤ – ٦ ) من سورة النور، عن عقوبة القذف وجعلت عقوبته الجلد، وعدم قبول الشهادة، والفسق، فإذا تاب القاذف تاب الله عليه.
أما الآية ( ٢٣ ) فجعلت عقوبة من قذف عائشة اللعنة والعذاب العظيم، والجزاء العادل يوم القيامة.
قال ابن جرير :
فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ... قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي مبهمة٩٢ وليست لهم توبة.
ثم قرأ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء... إلى قوله : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ( النور : ٤، ٥ ). قال : فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لمن قذف عائشة أو أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم توبة. قال : فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور.
وقد اختار ابن جرير عمومها وهو الصحيح٩٣، ويعضد العموم ما ورد في الصحيحين، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اجتنبوا السبع الموبقات ) قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال :( الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )٩٤.
معنى الآية : إن الذين يتهمون المؤمنات العفيفات الغافلات، ويتحدثون عن ارتكابهن الفحشاء كذبا وزورا، يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم.
( ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها، وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات، وهن غافلات غارات غير آخذات حذرهن من الرمية، وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه ! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة، ومن ثم يعاجل مقترفوها باللعنة، لعنة الله لهم وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة )٩٥.
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة، وبين عقاب من اتهمها بالإفك، وشديد عذابه يوم القيامة، وأسهب في هذا ؛ أعقب ذلك ببيان حكم عام، وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالزنا، فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة.
٢٤ - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي : لهم عذاب عظيم في يوم يظهر فيه الحق، وتشهد الجوارح بما ارتكبت من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.
ونحو الآية قوله تعالى : وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... ( فصلت : ٢١ ).
روى مسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال :( أتدرون مم أضحك ) ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال :( من مجادلة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى. فيقول : لا أجيز علي شاهدا إلا من نفسي، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه : انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل )٩٦.
وقال قتادة :
ابن آدم، والله، إن عليك لشهودا غير متهمة من بدنك ؛ فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة، وبين عقاب من اتهمها بالإفك، وشديد عذابه يوم القيامة، وأسهب في هذا ؛ أعقب ذلك ببيان حكم عام، وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالزنا، فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة.
٢٥ - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
دينهم : جزاءهم، ومنه :( كما تدين تدان ).
الحق : الثابت الذي يحق لهم لا محالة.
أن الله : أي : وعده ووعيده.
الحق : الثابت الذي يحق لهم لامحالة.
أن الله : أي : وعده ووعيده.
الحق : العدل الذي لا جور فيه.
قال ابن عباس :
دينهم. أي : حسابهم، فالله يجزيهم جزاءهم العادل ويؤدي لهم حسابهم الدقيق، ويومئذ يتيقنون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
قال النسفي :
ولم يغلظ الله تعالى في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة – رضي الله عنها – فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وما ذاك إلا لأمر.
وعن ابن عباس – رضي الله عنه - : من أذنب ذنبا ثم تاب منه ؛ قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة. وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك، ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة :
برأ يوسف – عليه السلام – بشاهد من أهلها، وموسى – عليه السلام – من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم – رضي الله عنها – بإنطاق ولدها، وعائشة – رضي الله عنها – بهذه الآي العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله، والتنبيه على عظيم مكانته صلى الله عليه و على آله وسلم٩٧.
تمهيد :
بعد أن برأ الله – سبحانه – عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامي المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله ؛ أردف ذلك دليلا ينفي الريبة عن عائشة بأجلى وضوح.
ذلك أن السنن الجارية بين الخلق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أطيب الطيبين، فيجب كون الصديقة من أطيب الطيبات، على مقتضى المنطق السليم والعادة الشائعة بين الخلق.
التفسير :
٢٦ - الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ... الآية.
قال ابن زيد :
المعنى : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.
وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى : الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، قال النحاس : في كتاب معاني القرآن : وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية، ودل على صحة هذا القول : أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ... أي : عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات٩٨.
وللمفسرين أكثر من قول في معنى هذه الآية. قيل : إن هذه الآية مبنية على قوله تعالى : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد : أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ، يعني به : الجنس. وقيل : عائشة وصفوان٩٩.
وتأتي هذه الآية في ختام حديث الإفك، وهو الحديث الذي هز المجتمع هزا شديدا، وحاول الأعداء أن يصلوا إلى بيت القائد، وأن يتهموه في عرضه، ثم جاءت آيات القرآن ببراءة عائشة، وقدمت الدليل تلو الدليل، وأيدت ذلك بطبائع الناس وغرائزهم الفطرية.
ولقد أحبت نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عائشة حبا عظيما، فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه المعصوم، إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم.
جاء في تفسير ابن كثير :
أي ما كان ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي طيبة ؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرا، ولهذا قال تعالى : أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ... أي : هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان.
لَهُم مَّغْفِرَةٌ. بسبب ما قيل فيهم من الكذب، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. أي : عند الله في جنات النعيم١٠٠.
ويقول المودودى :
إن الله تعالى يبين في هذه الآية مبدأ مهما من مبادئ الحياة الاجتماعية في الإسلام، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها.
يقول سبحانه وتعالى إن هذه حقيقة تنطوي عليها النفس الإنسانية، وتشاهدونها كل حين في حياة الناس، فكيف تظنون بعد ذلك أنه من الممكن أن يعيش رجل طيب – تعرفون حياته من بدئها إلى آخرها – إلى سنوات طوال مع امرأة زانية.
يؤكد الله هذه النصيحة للمسلمين في هذا المقام حتى إذا رمى فيهم أحد بعد ذلك، فلا يصدقون به لمجرد سماعه ؛ بل عليهم أن يزدادوا احتياطا ويتبينوا على بصيرة ويقظة : من الذي يرمى ؟ وبماذا يرمى ؟ وهل حقا يصدق عليه ذلك الرمي ؟ فإن كان كلام الذي يرميه حيث يلتئم مع القرائن فقد يصدق به الناس، أو يرونه ممكن الوقوع على الأقل.
ولكن كيف لهم أن يصدقوا بكلام تمجه القرائن والآثار، لا لشيء إلا لأن رجلا خبيثا قد تفوه به وألقاه. على عواهنه١٠١.
وجاء في تفسيري القرطبي والنسفي : أن عائشة – رضي الله عنها – قالت : لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر – عليه الصلاة والسلام – أن يتزوجني، وتزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، وكان ينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخلقت طيبة عند طيب، ووعدت مغفرة ورزقا كريما ( تشير إلى هذه الآية ) وتوفى عليه الصلاة والسلام – ورأسه في حجري، وقبر في بيتي ولقد حفته الملائكة في بيتي.
وعلى لسان عائشة قال القائل :
أنا ابنة الصديق صاحب أحمد | وجليسه وأنيسه ببيان |
والله شرفني وأنزل عصمتي | في محكم التنزيل والقرآن |
يا لائمي لا تأت قبر محمد | وكفاك ما قد نلت من حرمان |
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
سبب النزول :
روى الطبري وغيره، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر – رضي الله عنه - : يا رسول الله، أفرأيت الحانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؛ فأنزل الله تعالى : لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ... ١٠٢.
التفسير :
٢٧ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
تستأنسوا : تستأذنوا، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول.
تذكرون : تتعظون.
أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة، ومن ذلك ألا يدخلوا بيوت غيرهم، إلا بعد الاستئناس : وهو الاستعلام، واستكشاف الحال هل يراد دخولهم أم لا.
وفسر بعضهم الاستئناس بالاستئذان، وعند التدقيق نجد بين المعنيين فرقا لطيفا لا ينبغي أن يصرف النظر عنه، فالاستئناس : تلمس الحالة النفسية، والرغبة الوجدانية، لأصحاب البيت، ومن ذلك اختار الوقت المناسب، واستخدام المسرة ( التليفون ) لتعرف الاستعداد لتقبل الضيف، ورضاهم عن زيارته أم لا، فالاستئناس أعم وأشمل من كلمة ( الاستئذان )، إن الاستئذان طلب الإذن بالدخول أو عدمه، أما الاستئناس : فهو معرفة التهيؤ ومدى استعداد المزور للأنس بالزائر.
وقيل : الاستئناس، الاستعلام، ومعنى تستأنسوا : تستعلموا، أي : تحاولون إعلام صاحب البيت بقدومكم، قال مجاهد : بالتنحنح، أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك.
وفي سنن ابن ماجة، عن أبي أيوب الأنصاري قال : قلنا : يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس ؟ قال :( يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح ويؤذن أهل البيت )١٠٣.
والسنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها، قال ابن وهب : قال مالك : الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد، إذا استيقن أنه لم يسمع١٠٤. وثبت في الصحيح : أن أبا موسى الأشعري، حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فانصرف، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ( يعني : أبا موسى ) يستأذن ؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك ؟ قال : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له ؛ فلينصرف )١٠٥.
ويتعلق بالاستئذان ما يأتي :
١ – ينبغي ألا ينظر ببصره في دار غيره إلا بإذنه. روى البخاري، ومسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر )١٠٦، فخلوة الإنسان مكفولة له، ورسائله وخطاباته لا يصح أن يقرأها أحد بدون إذنه.
روى أبو داود، عن عبد الله بن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار )١٠٧.
٢ – إذا جاء إلى بيت قوم ليستأذن، فينبغي ألا يقف حيال الباب، ولكن من جانب الباب الأيمن أو الأيسر، روى أبو داود، عن عبد الله بن بسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول :( السلام عليكم ). وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور١٠٨.
٣ – ينبغي أن يكون الطرق على الباب خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، وكذلك استخدام جرس الباب ينبغي أن يكون خفيفا لا ثقيلا ولا مزعجا، روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : كانت أبواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقرع بالأظافر١٠٩.
٤ – صورة الاستئذان، أن يقول الرجل : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا، ولا ينبغي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات متوالية، بل ينبغي أن يكون بين كل استئذان وآخر فصل من الزمن ؛ حتى إذا كان صاحب الدار مشتغلا بأمر يمنعه من الإذن فليفرغ منه.
٥ – ينبغي أن يعرف الطارق بنفسه تعريفا يزيل عنه الجهالة، وإذا قال له صاحب الدار : من أنت ؟ يقول : محمد أو إبراهيم مثلا، ولا يقول : أنا، روى الشيخان وغيرهما، عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال : استأذنت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( من هذا ) ؟ فقلت : أنا، فقال النبي : صلى الله عليه وآله وسلم :( أنا، أنا ) كأنه كره ذلك١١٠.
قال علماؤنا : إنما كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، لأن قوله : أنا، لا يحصل به تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه، كما فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وأبو موسى، لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب، ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مشربة له، فقال : السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر١١١ ؟. وفي صحيح مسلم : أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري... الحديث١١٢.
٦ – يستحب أن يستأذن الرجل قبل دخوله بيته، أو يأتي بما يدل على قدومه كالتسبيح أو التنحنح، فإنه قد تكون المرأة في شأن لا تحب أن يطلع عليه زوجها أو سيدها١١٣. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا١١٤.
٧ – جعل الفقهاء حكم السمع كحكم النظر، فإذا دخل رجل أعمى في دار قوم، فهو وإن كان لا ينظر إلى شيء بعينه، ولكنه يسمع أحاديث أهل الدار، وهذا أيضا تدخل غير مشروع في حق الخلوة كالنظر. ويلحق بذلك التحسس والتجسس على أحاديث الغير، وسماع المكالمات التليفونية الخاصة بالآخرين، ومن المعذبين يوم القيامة رجل تسمع لقوم وهم لاستماعه كارهون. ويتبادر إلى الذهن الحديث عن فضيحة ووترجيت، وقد ثبت فيها أن الرئيس نيكسون سمح بالتنصت على الحزب المنافس له، وأدى اكتشاف ذلك مع ملابسات أخرى إلى إجباره على الاستقالة. وديننا الحنيف دعا إلى أدب الاستئذان منذ أربعة عشر قرنا، وفي إحياء آداب ديننا إعادة لأمجاد الإسلام.
٨ – لا يجب الاستئذان إذا عرض في الدار أمر مفاجئ شديد كمريض يستغيث، أو حريق، أو هجوم سارق أو غاصب... إلخ.
٩ – لا عبرة إلا بإذن صاحب الدار، أو من يعتقده المستأذن أنه يأذن من قبل صاحب الدار، كالخادم وغيره من أفراد الدار المسئولين، فإن كان الآذن طفلا فلا يكفي إذنه.
١٠ – عندما يأذن أصحاب الدار بالدخول ينبغي أن يبدأهم بالسلام عند مشاهدتهم ؛ لقوله تعالى : حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها...
وظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، وعليه جمهور الفقهاء، فكل من الاستئذان والسلام مطلوب، غير أن الطلب فيهما متفاوت، فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب، والطلب في السلام على سبيل الندب، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن.
وظاهرها أيضا تقدم الاستئذان على السلام، لأن الأصل في الترتيب الذكرى أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء، وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان، وحجتهم في ذلك عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الترمذي، عن جابر – رضي الله عنه - :( السلام قبل الكلام )١١٥. وما أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم، قال : لا يؤذن له حتى يسلم. وبعض العلماء فصل في المسألة وقال : إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت، سلم أولا ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم، قدم الاستئذان على السلام. وهذا قول جيد، ولا ينافيه حديث الترمذي والبخاري، فإنه يمكن أن يحمل ذلك على الحالات التي يكون فيها القادم، بحيث لا يرى أهل البيت، فالأفضل أن يقدم الاستئذان على السلام، كما هو ظاهر الآية، إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار، فينبغي أن يجيبهم أولا ثم يستأذن، وفي هذا جمع بين الأدلة١١٦.
١١ – كان العرب في الجاهلية يدخلون البيوت بغير استئذان، ويهجمون على البيت هجوما، ويرون أن الاستئذان مذلة تأباها النفوس. فلما شرع الله أدب الاستئذان قال سبحانه : ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. أي : أن أدب الإسلام في الاستئذان والسلام، خير مما كان عليه العرب في الجاهلية. فقد جعل الله البيوت سكنا، يفئ إليها الناس، فتسكن وتطمئن قلوبهم ونفوسهم، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب.
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا، لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا الناس عليها.
وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته ؛ يقول : حييتم مساء، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد. فأرشدهم القرآن إلى آداب الزيارة، ثم بين أن هذه الآداب خير وأفضل لحفظ النفوس والأعراض، والبعد عن الفتنة، كي تتذكروا وتعملوا بما أمرتم به.
روى الطبري وغيره، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر – رضي الله عنه - : يا رسول الله، أفرأيت الحانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؛ فأنزل الله تعالى : لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ... ١٠٢.
٢٨ - فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
أزكى : أطهر.
البيوت حرمات وعورات، وقد تكون البيوت المسكونة خالية من أصحابها في وقت من الأوقات، وفي هذه الحالة لا يحل أيضا لمن يجدها كذلك أن يدخلها، فإن خبيئات البيوت عورات لها، والدخول من غير إذن قد يؤدي إلى الاطلاع على هذه العورات، فيجب على الطارق أن يمتنع عن دخولها حتى يأذن له أصحابها، وليس شيء يبيح الدخول إلى هذا إلا الإذن الذي يصدر ممن يملكه، فإذن العبد والصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت التي لا يوجد بها أصحابها، كما لا يبيح الدخول في البيوت التي يكونون فيها، إلا أن يكون أحدهم رسولا من قبل صاحب الدار، وفي هذه الحالة لا يكون الإذن من هؤلاء، وإنما من صاحب الدار١١٧.
وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ...
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم، فللناس أسرارهم وأعذارهم، ويجب أن يترك لهم وحدهم تقرير ظروفهم وملابساتهم في كل حين. ( فإن حق كل رجل إذا كان لا يريد مقابلة أحد أن يأبى مقابلته، أو يعتذر إليه إن كان مشتغلا بأمر يمنعه من الفراغ لمقابلته، وقد استدل الفقهاء بكلمة : ارجعوا. في هذه الآية على أنه لا يجوز لأحد أن يقف على باب غيره، إن لم يأذن له بدخول بيته، بل عليه أن ينصرف، ولا يجوز أن يكرهه على مقابلته، أو يزعجه بالوقوف على بابه١١٨.
ولذا قال تعالى : هو. أي : الرجوع أزكى لكم. أي : أطهر مما لا يخلو عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة وأنمى لمحبتكم.
قال الزمخشري :
وإذا نهى عن ذلك لأدائه للكراهة، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها، من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس.
روى الطبري وغيره، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر – رضي الله عنه - : يا رسول الله، أفرأيت الحانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؛ فأنزل الله تعالى : لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ... ١٠٢.
٢٩ - لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.
جناح : حرج.
متاع : أي : حق تمتع ومنفعة، كإيواء الأمتعة والرحال، والشراء والبيع، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها.
ليس عليكم – أيها المؤمنون – إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدة لسكن قوم معينين، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان، كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها، مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والبيع والشراء، والاغتسال ونحو ذلك، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيوت، غير موجود فيها.
وسبب نزول هذه الآية : على ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن مقاتل : أنه لما نزل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ... الآية، قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - : يا رسول الله، فكيف بتجار قريش، الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق – يريد الحانات التي في الطريق – فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها ساكن ؟ فرخص الله – سبحانه – في ذلك فأنزل قوله تعالى : ليس عليكم جناح... فتكون الآية مخصصة لعموم الآية السابقة.
قال القاسمي :
فيها متاع لكم... أي : منفعة وحاجة. والله يعلم ما تبدون وما تكتمون. أي : والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان، إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس، أو من قصد ريبة أو فساد، وفي هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى١١٩.
جاء في تفسير القرطبي :
قال جابر بن زيد : ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، إما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها، فهذا متاع، وكل منافع الدنيا متاع.
قال أبو جعفر النحاس : وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة، والمتاع في كلام العرب : المنفعة، ومنه : أمتع الله بك، ومنه :( فمتعوهن ). قلت : واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي، وقال : أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع، فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع، فالطالب يدخل في الخانكات – وهي المدارس – لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يأتي على وجهه من بابه١٢٠.
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( ٣٠ ) ﴾.
التفسير :
٣٠- قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
سلك القرآن مسلك التربية السليمة في الحفاظ على سلامة الأنفس والأعراض، واستقرار النفوس، وسلامة الوجدان، وقد أمر الله المؤمنين بغض البصر عن المحرمات، وحفظ الفروج عن الزنا، وهذا أطهر للنفوس وأدعى إلى السعادة والعزة. فمن أطاع الله ؛ أطاع الله له كل شيء، ومن أعرض عن طريق الله ؛ غلبته شهواته، وتحكمت فيه نزواته.
ومما يتعلق بهذه الآية ما يأتي :
١ – للعلماء كلام طويل في فوائد غض البصر، فالنظر هو النافذة التي تربط الإنسان بالحياة، والحياة بالإنسان، فإذا استقام القلب عف البصر، وإذا غض المؤمن بصره استقام قلبه، قال الشاعر :
كل الحوادث مبداها من النظر | ومعظم النار من مستصغر الشرر |
والمرء ما دام ذا عين يقبلها | في أعين العين موقوف على الخطر |
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها | فعل السهام بلا قوس ولاوتر |
يسر ناظره ما ضر خاطره | لا مرحبا بسرور عاد بالضرر |
وما سعاد غداة البين إذا رحلوا | إلا أغن غضيض الطرف مكحول |
فغض الطرف أنك من نمير | فلا كعبا بلغت ولا كلابا |
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله ما يغض البصر عنه، ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرم دون المحلل١٢١. وفي البخاري : وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن ؟ قال : اصرف بصرك، يقول الله تعالى : قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ... ١٢٢.
٣ – معنى الغض في اللغة : النقص والخفض والوضع، فيقال : غض من قدره، أي : خفض ونقص ووضع قدره، وغض الغصن أي : كسره١٢٣. والمراد بغض البصر في الآية : ألا ينظر بملء العين، وأن يكف النظر عما لا يحل له، بخفضه إلى الأرض أو بصرفه إلى جهة أخرى، وكلمة : من. في : من أبصارهم. للتبعيض، أي : أن الله تعالى لا يأمركم بصرف كل نظر من أنظاركم، وإنما يأمركم بصرف بعضها، والمراد : صرف نظر الرجال إلى النساء، أو إلى عورات غيرهم، أو إلى المناظر الفاحشة، فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء، أما النظرة المفاجئة مرة واحدة فلا مؤاخذة عليها.
قال صاحب الكشاف :
إنما دخلت من. في غض البصر دون حفظ الفرج، للدلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضائهن وسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات للبيع، وأن الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه.
وقد اختلف في المراد بحفظ الفرج، فقيل : إن معناه تجنب الزنا واللواطة، وقيل : إن المراد ستره، فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوأته، ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشف عما تحته ويبين عورته، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا١٢٤.
٤ – قال القرطبي في تفسيره :
البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إياكم والجلوس على الطرقات ) فقالوا : يا رسول الله، مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال :( فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ). قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر )١٢٥ رواه أبو سعيد الخدري، وأخرجه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظرة الفجاءة ؛ فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوى قول من يقول : إن من. للتبعيض، لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة، فلا يكون مكلفا بها فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج، لأنه يملك.
ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا، وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرم نظرة شهوة يرددها١٢٦.
٥ – من أدب النبوة :
حفلت كتب السنة المطهرة بتوجيهات النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر والعفة والنزاهة، وقد أورد ابن كثير وغيره من المفسرين طائفة من هذه الأحاديث، ومنها ما يأتي :
عن بريدة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا علي، لا تتبع النظرة النظرة ؛ فإن لك الأولى وليس لك الأخرى )١٢٧. رواه الترمذي، وأحمد، وأبو داود، والدارمي. وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يقول الله عز وجل : إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه )١٢٨ أخرجه الطبراني.
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره ؛ إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها )١٢٩ رواه الإمام أحمد في مسنده.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )١٣٠، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن وعن عبد الله بن عباس قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ؛ فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر١٣١ رواه البخاري، والترمذي، وأبو داود.
٦ – هذا الأمر بغض البصر قد استثنيت منه صور تعرض للإنسان فيها حاجة حقيقية للنظر إلى وجه المرأة، فإذا أراد مثلا أن ينكح امرأة، فليس له أن ينظر إليها فحسب، بل هو مستحب له على الأقل، فعن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( نظرت إليها ) ؟ قلت : لا. قال :( فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما )١٣٢. رواه مسم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي.
وعن أبي هريرة – رضي اله عنه – أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا )١٣٣.
وعن أبي حميد أنه – عليه الصلاة والسلام – قال : إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر للخطبة )١٣٤. رواه أحمد.
وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعو إلى نكاحها فليفعل )١٣٥ رواه أبو داود، وأحمد.
ومن هنا أخذ الفقهاء، أن هناك صورا أخرى يجوز فيها للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة، كالنظر إلى امرأة مشتبهة عن تحقيق الجرائم، أو نظر القاضي إلى وجه المرأة عند تحقيق الشهادة، أو نظر الطبيب إلى وجه المرأة للمعالجة.
٧ – من مقاصد الأمر بغض البصر ألا ينظر الإنسان إلى عورة غيره، كما قال تعالى : ويحفظوا فروجهم... وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ). رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي. وعن علي – رضي الله عنه – قال١٣٦ : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )١٣٧ رواه أبو داود، وابن ماجة.
وقد مر بنا أن المراد بقوله تعالى : ويحفظوا فروجهم. البعد عن الزنا وما يلحق به، أو عدم كشف العورة، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته، كما صح عنه ذلك في رواية للدارقطني والبيهقي، فلا يحل للرجل أن يكشف هذا الجزء من جسده إلا أمام زوجته. عن جرهد الأسلمي من أصحاب الصفة – رضي الله عنه – أنه قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندنا وفخذي منكشفة، فقال :( أما علمت أن الفخذ عورة )١٣٨ ؟ رواه أبو داود، ومالك، والترمذي.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ) فسأله السائل : يا رسول الله، فإن كان أحدنا خاليا ؟ قال :( فالله – تبارك وتعالى – أحق أن يستحيى منه )١٣٩ رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة١٤٠.
تلك نظم الإسلام شرعها الله العليم بالنفس البشرية، الخبير بما يناسبها. وفي العصر الحديث شاهدنا نظريات تشجع العرى والاختلاط، والانطلاق وراء الغريزة، وشاهدنا دولا تبنت هذه الأفكار والآراء، ثم عادت تشكو من الإرهاق النفسي والحسي، ومن كثرة الأمراض العصبية وغيرها. لأن الإنسان إنسان، لا غنى له عن القيود والضوابط، حتى يشبع غريزته في طريق مشروع، فالإسلام لم يصدم الغريزة، ولكنه هذبها ووضع لها الطرق السليمة، التي تكفل إشباعها في الحلال وإبعادها عن الحرام، وفي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول القرآن :
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ( الأعراف : ١٥٧ ).
﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣١ ) ﴾.
تمهيد :
يخاطب القرآن الرجال في كثير من آياته باعتبارهم الجنس الغالب الذي يتأتى منه الخطاب غالبا، وهناك قواعد عامة وضعها القرآن، وهي اشتراك النساء مع الرجال في أمور الشريعة، إلا ما نص عليه الخطاب بخصوصية أي منهما. قال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ( البقرة : ٢٢٨ ).
وقد أمر القرآن الرجال بغض البصر وحفظ الفرج، ثم تكرر الخطاب للنساء للتأكيد عليه، ولأنهن زدن على الرجال أحكاما تخصهن، وهي : النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى الله تعالى، والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن، وينبه الناس إليها.
وتتعلق بهذه الآية الأحكام الآتية :
١ – وردت روايات مختلفة بشأن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي، ويمكن أن نستعرض هذه الروايات على النحو الآتي :
( أ ) ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد يوم العيد، وعائشة تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم، حتى ملت ورجعت، وذلك سنة سبع من الهجرة١٤١.
وصح أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد، فذكرهن ومعه بلال، وأمرهن بالصدقة، وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى بلال حين يسمعن الموعظة، ويتصدقن١٤٢، فدل مجموع ذلك على أنه أباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي، إلى ما عدا ما بين سرته وركبته، وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار، وهو أحد قولي الشافعي.
( ب ) نصوص السنة واضحة في تحريم نظر المرأة – من غير زوجها – إلى ما بين السرة والركبة، سواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، كما حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة، كل هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا، أما نظرها ما فوق السرة وتحت الركبة فقد اختلفت الروايات فيه. فمنها ما يحظر على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي، وصححه النووي، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى : وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.
وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بأحاديث متعددة منها : ما أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه، عن أم سلمة قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( احتجبا منه ). فقلنا : يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال :( أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه ) ؟.
وفي الموطأ، عن عائشة أنها احتجبت عن أعمى، فقيل لها : إنه لا ينظر إليك، قالت : لكنني أنظر إليه.
وهناك نصوص اعتمد عليها من أباح نظر المرأة للرجل الأجنبي تقدم ذكرها، في الفقرة ( أ )، وقد حاول أصحاب كل رأي الدفاع عن رأيهم، وتوهين حجة الفريق الآخر.
ولعل أولى ما يجمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة، أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة – رضي الله عنها – عن الأعمى كان ورعا منها، وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى غير ما بين السرة والركبة١٤٣.
ويقول أبو الأعلى المودودي :
والذي يستفاد من الجمع بين هذه الروايات المختلفة : أن ليست الشدة في نظر النساء إلى الرجال الأجانب، مثل الشدة في نظر الرجال إلى النساء الأجنبيات، لا يحل لهن أن يقصدن النظر إليهم وجها لوجه في المجالس، ولكن يحل لهن أن ينظرن إليهم وهم يمشون في الطريق، أو يلعبون ألعابا غير محرمة من البعيد، بل لا حرج أن ينظرن إليهم في البيوت عند الحاجات الحقيقية، وبه تقريبا جمع بين هذه الروايات الإمام الغزالي، والحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمهما الله – وقد نقل الشوكاني في ( نيل الأوطار ) قول الحافظ : ويؤيد الجواز استمرار العمل على خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار، منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل ذلك على مغايرة الحكم بين الطائفتين١٤٤.
على أنه لا يصح أن تكرر النساء النظر إلى الرجال، ويمتعن أنفسهن بحسنهم١٤٥.
٢ – ذكر القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ... أن في هذه الآية ٢٣ مسألة، وفي المسألة الثانية حاول التوفيق بين الأحاديث المتعارضة ؛ فذكر حديث الترمذي، عن نبهان مولى أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها ولميمونة، وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم :( احتجبا ). فقالتا : إنه أعمى. قال :( أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه )١٤٦ ؟
ثم قال القرطبي : فإن قيل : هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل ؛ لأن روايه عن أم سلمة نبهان مولاها، وهو ممن لا يحتج بحديثه، وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه – عليه الصلاة والسلام – تغليظ على أزواجه لحرمتهن، كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه أبو داود وغيره، ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال :( تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك )١٤٧. قلنا : قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة، كالرأس، ومعلق القرط، وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى : وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ... وتكون من. للتبعيض كما هي في الآية قبلها.
قال ابن العربي : وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك، إلى بيت ابن أم مكتوم، لأن ذلك أولى من بقائها في بيت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك و أولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم.
التفسير :
٣١ - وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...
الخمر : واحدها خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، أي : الطرحة.
جيوبهن : الجيوب : واحدها جيب، وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد.
بعولتهن : البعولة الأزواج، واحدهم بعل.
الإربة : الحاجة إلى النساء.
الطفل : يطلق على الواحد والجمع.
لم يظهروا : لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.
توسعت كتب التفسير في عرض ما يتصل بأحكام الآية، ومن الخير أن نتعرض لتفسير كل جزء منها على حدة، والله ولي التوفيق.
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...
أي : فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، ما يستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال.
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...
عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق، ويسترنها حتى لا يراها أحد.
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا...
أي : ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضابة، فلا يؤاخذن إلا في إبداء ما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسد – وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن – لا يحل النظر إليها.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...
الخمر جمع خمار، وهو ما يخمر به – أي : يغطى به – الرأس. والجيوب جمع جيب، وهو الصدر، فالمراد بضرب النساء بخمرهن على جيوبهن، أي يغطين رءوسهن وأعناقهن ونحورهن وصدورهن بكل ما فيها من زينة وحلي، على خلاف ما كانت عليه حال النساء في الجاهلية.
قال ابن كثير :
لقد كانت المرأة في الجاهلية تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها ؛ فأمر الله المؤمنات أن يستترون في هيئاتهن وأحوالهن.
ويقول الزمخشري في تفسيره عن نساء الجاهلية : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة ؛ فأمرن بأن يسدلنهامن قدامهن حتى يغطينها.
كانت نساء الجاهلية قريبات الشبه بحال المرأة في الجاهلية الحديثة في عصرنا، فلما نزل القرآن بهذه الآيات تهذب الذوق الإسلامي، سارعت النساء إلى امتثال أمر الله، فحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، وهذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة.
روى البخاري، عن عائشة أنها قالت : رحم الله نساء المهاجرات١٤٨ الأول لما نزل : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ... شققن أزرهن فاختمرن بها١٤٩.
وأخرج أبو داود، عن صفية بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة، قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن ؛ فقالت عائشة – رضي الله عنها - :
إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لما نزلت سورة النور : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ... انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته ؛ فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل١٥٠، فاعتجرت١٥١ به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان١٥٢. وفي مسند أبي داود ما يفيد أن الخمار ينبغي أن يكون من الثوب الغليظ، ولا يكفي أن يكون ثوبا شفافا يصف ما تحته١٥٣.
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ...
من هنا يشرع الله – سبحانه و تعالى – في ذكر من يحوز للمرأة المسلمة أن تبدى لهم زينتها، أما الذين ليسوا في دائرة هؤلاء سواء أكانوا من الأق
﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٣٢ ) ﴾.
التفسير :
٣٢ - وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ... الآية.
الأيامى : واحدهم أيم، وهو كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها، بكرا كانت أم ثيبا، وليس خاصا بالنساء، قال قائلهم :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي | وإن كنت أفتى منكم أتأيم |
قال صلى الله عليه وآله وسلم :( أنا وامرأة سفعاء١٧٦ الخدين، تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله ؛ كهاتين في الجنة١٧٧.
الصالحين من عبادكم : أي : الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه.
وإمائكم : الإماء : جمع أمة، وهي الرقيقة غير الحرة.
واسع : غنى.
أي : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، أي : من الرجال والنساء، والمراد بذلك : مد يد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال وتسهيل الوسائل التي يتم بها الزواج والمصاهرة.
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ...
أي : والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية، من الصحة والمال ونحو ذلك. وقيل : المراد بالصلاح : معناه الشرعي المعروف، وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه.
والخلاصة :
أن في الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب ؛ لأنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي سائر العصور بعده، أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر ذلك عليهم أحد، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة، وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل والمرأة.
جاء في ظلال القرآن :
ونحن نرى أن الأمر هنا للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج، ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة. وينبغي أن نضع في حسابنا – مع هذا – أن الإسلام – بوصفه نظاما متكاملا – يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا، فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات، فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة، واجبا للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية، لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي – بعد ذلك – أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما دموا قادرين، ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه، رجالا ونساء – فالرزق بيد الله١٧٨.
حق الولي في التزويج :
استدل الشافعية بظاهر قوله تعالى : وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ… على أنه يجوز للولي أن يزوج البكر البالغة بدون رضاها، لأنهم تأولوا الآية على أن الخطاب فيها للأولياء، فقد جعلت للولي حق تزويج المرأة مطلقا سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، و سواء رضيت أم لم ترض، ولولا أن أدلة أخرى جعلت الثيب أحق بنفسها، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة.
وأنت تعلم أنه ليس في الآية دليل على إهدار رضا الكبيرة، ولا اعتباره، لكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها )، يدل على وجوب استئذانها، واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية.
وكذلك استدلوا بها على أن المرأة لا تلى عقد النكاح، لأن المأمور بتزويجها وليها، فلو جاز أن تتولى النكاح بنفسها، لفوتت على وليها ما جعله الله حقا من حقوقه، ولكنك قد علمت أن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا، على معنى ندبهم إلى المساعدة في النكاح والمعاونة عليه، وعلى هذا فحكم مباشرة العقد ينبغي أن يؤخذ من غير هذه الآية١٧٩.
إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...
أغلقت السورة منافذ الحرام، وفي نفس الوقت حثت على تيسير الزواج، ووعدت المتزوج بالغنى والفضل من الله، قال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية. وقال عمر – رضي الله عنه – عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى : إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... وروي هذا المعنى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أيضا١٨٠.
وأخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجة في سننه : أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف ).
وذهب كثير من المفسرين إلى أن الآية ليست وعدا من الله بإغناء من يتزوج، بل المقصود الحث على المناكحة، والنهي عن التعلل بفقر المستنكحين، فالمعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزوجها، ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح، وليس النكاح مانعا من الغنى ولا سببا في الفقر، وما استقر في الطباع من أن العيال سبب الفقر، إن هو إلا ارتباط وهمي، فقد ينمو المال مع كثرة العيال، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة، والواقع يشهد بهذا، وتحقيق ذلك : أن المراد بيان أن النكاح ليس مانعا من الغنى، فعبر عن ذلك ببيان أنه سبب في الغنى مبالغة، على حد قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض... ( الجمعة : ١٠ ). فإن ظاهر الأمر بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة، والمراد تحقيق زوال المانع، وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار، بما يقتضي طلب الانتشار مبالغة١٨١.
ويقول المودودى :
الآية في بنائها وصية لأهل الفتاة ألا يرفضوا شابا حسن السيرة والخلق لمجرد فقره، ووصية للشباب نفسه ألا يرجئ أمر زواجه انتظارا للمزيد من الغنى واليسر، بل عليه أن يقدم على الزواج متوكلا على الله، ولو كان كسبه قليلا أو غير يقيني، فإن الزواج نفسه كثيرا ما يكون السبب في إصلاح أحوال الإنسان، فكثيرا ما يتغلب على نفقاته بمساعدة زوجته، كما أنه بنفسه يرغب في الجهود لكسب معاشه بعد الزواج، أكثر مما يبذل قبله، وقد تساعده زوجته في كسب معاشه، بل لا تدري نفس ما هو المقدر لها ولغيرها في المستقبل، فكثيرا ما تتبدل أحوال الغنى واليسر بأحوال الفقر والبؤس، وبالعكس، فعلى الإنسان أن يتجنب الدقة في الحساب في هذا الباب١٨٢.
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي : والله ذو سعة وغنى، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته، فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
ولا يعترض على ذلك بأن كثيرا من الفقراء يتزوجون ويستمر فقرهم، ولا يبسط لهم في الرزق، ووعد الله لا يتخلف، لأن وعد الله مشروط بالمشيئة، كما هو الشأن في قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. ( التوبة : ٢٨ ). ويرشد إلى إضمار المشيئة قوله تعالى : وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. فإن المناسب للمقام أن يقال :( واسع كريم ) لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل، ليفيد أنه يعلم المصلحة فيبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر لمن يشاء، حسبما تقتضي به الحكمة والمصلحة ( وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لفسد حال )١٨٣.
﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٣ ) ﴾.
التفسير :
٣٣ - وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... الآية.
وليستعفف : وليجتهد في العفة.
لا يجدون : لا يتمكنون من وسائله، وهي المال وغيره.
الكتاب : والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة، يراد بها شرعا : إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال منجما، أي : في موعدين أو أكثر، فيقول له : كاتبتك على كذا درهم، ويقبل المملوك ذلك، فإذا أداه عتق وصار أحق بما كسبه، كما صار أحق بنفسه.
الفتيات : واحدهن فتاة، ويراد بالفتى والفتاة لغة : العبد والأمة.
البغاء : الزنا.
التحصن : العفة.
لتبتغوا : لتطلبوا عرض الحياة، أي : الكسب، وبيع الأولاد.
هذه الآية حلقة من سلسة الأحكام التي جاءت بها سورة الأحزاب وأكملتها سورة النور. فقد حثت الآية السابقة على الزواج، وأمرت بتيسير سبله، والمعاونة على إتمامه وإنجاحه، حتى يتم الأمن والاستقرار للفرد وللأسرة وللمجتمع.
وهنا يحث القرآن من عجز عن الزواج لأي سبب من الأسباب، أن يبحث عن العفة، وأن يتمسك بأسبابها، ومن أسباب العفة غض البصر، والبعد عن أسباب الفتنة والإثارة، وشغل الذهن بعمل نافع كتلاوة القرآن والبحث العلمي والعمل المفيد.
وفي ( إحياء علوم الدين ) يذكر أبو حامد الغزالي خمس وسائل لتدريب الإنسان على الاستقامة، وهي المشارطة، والمراقبة، والمعاتبة، والمحاسبة، والمعاقبة.
فالمشارطة : أن يشرط على نفسه صباح كل يوم أن يستقيم، ويبتعد عن أسباب المعصية ومهيجاتها.
والمراقبة : أن يكون رقيبا على نفسه، وأن يشعرها برقابة الله عليها. روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سار في الصحراء فاشتد به الجوع، فوجد عبدا يرعى أغناما، فقال له : بعنا شاة نتغذى بها.
فقال العبد : إن الشياه ليست لي ولكنها لسيدي، فقال له عمر : قل له : أكلها الذئب، فقال العبد : يا هذا، فأين الله ؟ فاشتراه عمر وأعتقه، وقال له : هذه كلمة أعتقتك في الدنيا، وأرجو أن تعتقك يوم القيامة.
والمعاتبة : أن يعاتب نفسه إذا قصرت في واجبها، أو انحرفت عن طريق الحق.
والمحاسبة : أن يحاسب نفسه كل ليلة فإن وجد خيرا حمد الله، وإن وجد أنه ارتكب معصية أو تقصيرا في حق الله لام نفسه، وأشعر قلبه الندم، وجدد العزم على التوبة والاستقامة.
والمعاقبة : هي عقوبة الإنسان لنفسه على الذنب، بالصيام أو القيام أو التلاوة، أو أي عقوبة يراها مناسبة.
وهذه المعاني يستشهد لها الغزالي بآيات من كتاب الله، وأحاديث نبوية، وآثار من هدى السلف، فالمراقبة يستشهد لها بقوله تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا. ( النساء : ١ ). وبقوله سبحانه : مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ( المجادلة ٧ ). وقد أقسم الله بالنفس اللوامة، وهي التي تلوم صاحبها على الذنب وتحثه على التوبة، قال تعالى : لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة. ( القيامة : ١، ٢ ).
ويقول سبحانه : اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. الإسراء : ١٤ )
وفي الأثر :( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا )١٨٤.
ويقول تعالى : أحصاه الله ونسوه... ( المجادلة : ٦ ).
ويقول تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
العفة في الإسلام :
العفة سلوك عملي في الحياة للفرد والجماعة، وهي مرتبطة بالتربية الإسلامية، وباحترام القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام، ومن هذه المبادئ ما يأتي :
١ – الإيمان بالله واليوم الآخر : وهذا الإيمان وحده ينبعث عنه أكمل الصفات الإنسانية والاجتماعية : من الإيثار، والتضحية، والحب، والرحمة، وإسداء الجميل، والتعاون على البر والتقوى، واحتمال مشاق الجهاد، والبذل في سبيل الحق والخير، وإقرار المثل العليا في أرض الله١٨٥.
٢ – الالتزام بآداب الإسلام وأداء فرائضه والتمسك بأحكامه، فالإسلام نظام شامل يشمل البيت والمدرسة والمسجد والحياة كلها.
وتنحصر نواحي الإصلاح التي جاء بها الإسلام في هذه الأصول.
( أ ) الربانية.
( ب ) التسامي بالنفس الإنسانية.
( ث ) تقرير عقيدة الجزاء.
( ج ) إعلان الأخوة بين الناس.
( ح ) النهوض بالرجل والمرأة جميعا، وإعلان التكافل والمساواة بينهما، وتحديد مهمة كل منهما تحديدا دقيقا.
( خ ) تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملك والعمل والصحة، والحرية والعلم والأمن لكل فرد، وتحديد موارد الكسب.
( د ) ضبط الغريزتين : غريزة حفظ النفس، وغريزة حفظ النوع، وتنظيم مطالب الفم والفرج.
( ذ ) تأكيد وحدة الأمة، والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها١٨٦.
قال القرطبي :
١ – ( استعفف ) وزنه استفعل، ومعناه : طلب أن يكون عفيفا، فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح، ولا يجده بأي وجه، أن يستعفف، ثم لما كان أغلب الموانع عن النكاح عدم المال، وعد بالإغناء من فضله، فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء.
٢ – ظن جماعة من المفسرين أن المأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف، وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف موجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، والله تعالى أعلم.
٣ – من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف، فإن أمن بالصوم فإن الصوم وجاء١٨٧، ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى وفي الخبر :( خيركم الخفيف الحاذ١٨٨ الذي لا أهل له ولا ولد ).
ولما لم يجعل الله بين العفة والنكاح درجة، دل على أن ما عداهما محرم، ولا يدخل في ذلك ملك اليمين، لأنه بنص آخر مباح وهو قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم... ( النساء : ٣ ) فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاسثمناء ردا على أحمد، وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في أول ( المؤمنون )١٨٩.
وقال القرطبي في أول سورة ( المؤمنون ) :
١ – قوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. ( المؤمنون : ٥ ). قال ابن العربي : من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قوله : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. فإنما خوطب الرجال خاصة دون الزوجات، بدليل قوله تعالى : إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ... ( المؤمنون : ٦ ). وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما وخصوصا، وغير ذلك من الأدلة.
قلت : وعلى هذا التأويل في الآية، فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء، لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها، كما يجوز لغيره عند الجمهور١٩٠.
٢ – قال محمد بن عبد الحكم : سمعت حرملة بن العزيز قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إلى قوله : العادون. وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر :
إذا حللت بواد لا أنيس به | فاجلد عميرة لا داء ولا حرج |
وقال بعض العلماء : إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان، وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها، فإن قيل : إنها خير من نكاح الأمة، قلنا : نكاح الأمة – ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء – خير من هذا، ولو كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنئ، فكيف بالرجل الكبير.
طريق القرآن :
لقد وضح القرآن طريق التسامي بالغرائز، والعفة والبعد عن المحرمات واجتناب الشبهات، وحث المؤمن على أن يجاهد نفسه وهواه، وأن يصبر على ترك المعصية قال تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...
وقد رسم القرآن من قصة يوسف مثلا أعلى للعفة والنزاهة والصبر، ثم جعل الله يوسف على خزائن الأرض. ولما تنبه إخوته له :
قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. ( يوسف : ٩٠ ).
مكاتبة الرقيق :
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...
أي : والمماليك الأرقاء الذين يرغبون في الكتبة – وهي العتق على مال معين – فينبغي أن تحقق رغبتهم في الحرية، إذا كان العبد قادرا على الكسب عن طريق شريف.
ولقد جاء الإسلام والرق ظاهرة اجتماعية سائدة، ولو ألغى الإسلام الرق لأدى ذلك إلى اضطراب في المجتمع، لأن هؤلاء العبيد كانوا قد تعودوا على حياتهم، ولأنه من الصعب أن يخسر المالك صفقة كبيرة من المال دفعة واحدة.
ولقد لجأ الإسلام إلى تشجيع المسلمين على تحرير الأرقاء، فجعل عتق الرقبة كفارة لكثير من الأشياء، مثل كفارة اليمين والظهار والفطر في نهار رمضان، وحث المؤمن عل عتق الرقبة ابتداء تقربا لله، قال تعالى : فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة. ( البلد : ١١ – ١٤ ).
والآية التي نفسرها تشجيع على المكاتبة، وهي وسيلة عملية للتحرير.
١ – قال القرطبي :
الكتاب والمكاتبة سواء، مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة بين السيد وعبده، يقال : كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال : قاتل قتالا ومقاتلة. فالكتاب في الآية مصدر، كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل : الكتاب ها هنا هو الكتاب المعروف، الذي يكتب فيه الشيء،
﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٣٤ ) ﴾.
التفسير :
٣٤ - وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ... الآية.
لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات تبين كم الأحكام والحدود والشرائع التي مر ذكرها من بدء السورة إلى الآن، فقد ذكرت الآيات السابقة قانون الزنا والقذف واللعان، وأمر أهل الإيمان بمقاطعة الخبيثين والخبيثات في أمر الزواج، وأمر الرجال والنساء بالغض من أبصارهم، والحفظ لفروجهم، وجاء فيها بيان حدود الحجاب للنساء، وندد فيها ببقاء الرجال والنساء بغير زواج، وأمر فيها السادة بمكاتبة عبيدهم وإمائهم إذا طالبوهم بها ووجدوا فيهم خيرا، وأمر فيها بتطهير المجتمع من لعنة الفجور وبيع الأعراض، فبعد بيان كل هذه الأحكام يقول الله – عز وجل - :
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ...
أي : قد بينا لكم أحكامنا وتعاليمنا على الوجه الذي ينبغي أن نبينها للذين يريدون أن يسلكوا في حياتهم الصراط المستقيم.
وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ...
أي : خبرا عظيما عن الأمم الماضية، وما حل بهم بظلمهم وتعديهم حدود الله.
وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ.
أي : فيتعظون بها وينزجرون عما لا ينبغي لهم.
وجاء في تفسير المراغي :
أي : ولقد أنزلنا آيات مبينات لما أنتم في حاجة إليه من الأحكام والآداب، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة، كقصة يوسف، وقصة مريم، وفيها شبه بقصص عائشة، وفيها موعظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشى عذابه١٩٨.
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣٥ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن ذكر – سبحانه – أنه أنزل في هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس في صلاح أمورهم، من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق، بين أنه نور السماوات والأرض، بما بث فيهما من الآيات الكونية، والآيات التي أنزلها على رسله.
التفسير :
٣٥ - اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآية.
نور : أي : ذو نور، أي : هو هاد أهل السماوات والأرض، والمراد : العالم كله.
مشكاة : لفظ حبشي معرب، يراد به الكوة غير النافذة.
الزجاجة : القنديل من الزجاج.
الدري : المضيء المتلألئ، منسوب إلى الدر.
لا شرقية ولا غربية : أي : ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر، ولا يحجبها عنها شيء من الشروق إلى الغروب.
يضرب الله الأمثال : يبين للناس الأشباه والأمثال.
لقد رفع الله السماء، وبسط الأرض، ونظم الكون، وأحكم قوانين الحياة.
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...
أي : أنه – سبحانه – صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما، وكمال تدبيره – عز وجل – لمن فيهما، كما يقال : الملك نور البلد، كما قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك وابن جرير١٩٩. فإذا رأيت الشمس ساطعة تملأ الكون بالنور والدفء والضياء، فذلك بفضل الله نور السماوات والأرض، وإذا رأيت القمر هلالا ثم يكبر فيصير بدرا كاملا، فذلك بفضل الله نور السماوات والأرض، وإذا رأيت الأشجار والأزهار والبحار والطيور، والهواء والفضاء والليل والنهار، وكل شيء في الكون يؤدي دوره بنظام وكمال ودقة، فذلك بفضل الله نور السماوات والأرض.
وفي الصحيحين، عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يقول :( اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لا إله إلا أنت، وعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق )٢٠٠.
وكلمة ( النور ) تستعمل للعلم أيضا، كما يعبر عن الجهل بالظلمة، فالله – سبحانه وتعالى – نور الكون بمعنى أنه لا يمكن أن تعرف الحقائق معرفة مباشرة في هذا الكون إلا به – سبحانه وتعالى – وإلا فإنه لا يمكن أن يكون فيه شيء غير ظلمة الجهل والضلالة بدون الارتشاف من فيض كرمه وهدايته.
وقال الزمخشري :
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... أي : ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات والأرض، وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين : إما للدلالة على سعة إشراقه وفشو ضوئه حتى تضيء له السماوات والأرض، وإما أن يراد أن أهل السماوات والأرض يستضيئون بنوره أو به، أي : هو النور٢٠١.
الاتجاه إلى التجسيم :
قال هشام الجواليقي : إنه – سبحانه – نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وبهذا قال طائفة من المجسمة٢٠٢.
وهذا اتجاه غريب على الفكر الإسلامي، فالله تعالى علة العلل، وهو – سبحانه – منزه عن الكيف والكم، والطول والعرض، وهو يخلق لا يخلق، وهو يجير ولا يجار عليه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ( الشورى : ١١ ) فادعاء طائفة من المجسمة بأن الله نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام خطأ فاحش.
وقد ادعى بعضهم أن لله يدا وفما وأضراسا ولهوات وغير ذلك – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – وإذا علمنا أن آيات القرآن ذكرت أن لله يدا ووجها مثل : يد الله فوق أيديهم... ( الفتح : ١٠ ). ومثل قوله تعالى : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. ( الرحمن : ٢٧ ).
فإن الصحابة – رضوان الله عليهم – قد فهموا هذه النصوص على نحو يليق بذاته تعالى وأيقنوا أنها تشير إلى قدرة الله وجلاله وبقائه وسائر كمالاته.
ولذلك لم يؤثر أن أحدا من الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير أي آية من هذه الآيات، التي سميت بآيات الصفات، لأنها تصف الله تعالى بالسمع والبصر والفوقية وغيرها.
فهم المسلمون منها كمال الله وجلاله وقدرته، وإحاطة علمه وسمعه ورؤيته لسائر الموجودات، ولم يسألوا عن تحديد ذلك، بل أيقنوا بالإيمان بالله وبصفاته وكمالاته، واستمر المسلمون على ذلك في حياة الخلفاء الراشدين، ثم لما دخل في الإسلام كثير من أصحاب الديانات الأخرى، وترجمت الفلسفة اليونانية، رأينا أصحاب المذاهب المنحرفة التي كانت تنسب إلى الآلهة الجمال والشكل، والقوام والحواس، تسقط هذه المعاني على صفات الله تعالى في الفكر الإسلامي، وكان اتجاها منحرفا قاومه المؤمنون.
والآن يهيب العلماء بنا أن نعود إلى طريقة القرآن في التفكير، فنصف الله تعالى بالكمالات بدون تشبيه ولا تجسيم.
يقول المودودي :
والمراد بالنور ما تظهر به الأشياء، أي : ما كان ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره، هذا هو المفهوم الحقيقي للنور في ذهن الإنسان. فهو يعبر بالظلام عن كيفية عدم رؤيته شيئا، ويقول عندما يتبين له كل شيء : قد بدا النور ؛ فكلمة نور. إنما استعملت لله – تبارك وتعالى – باعتبار مفهومها الأساسي هذا، ولم تستعمل بمعنى أن الله تعالى – والعياذ بالله – شعاع يسير ١٨٦٠٠٠ ميل في كل ثانية، وينعكس على الشبكية في العين، ويؤثر في مركز البصارة في الدماغ. فهذه الكيفية المخصوصة للنور ليست بشاملة لحقيقة المعنى الذي قد اخترع له الذهن الإنساني هذه الكلمة، بل نطلق عليه هذه الكلمة باعتبار الأنوار، التي تأتي تحت تجربتنا في هذه الدنيا المادية، فكل كلمة من كلمات اللسان الإنساني إنما تستعمل لله – تبارك وتعالى – باعتبار مفهومها الأساسي، لا باعتبار مدلولها المادي. فنحن نستعمل لله تعالى كلمة البصر مثلا، فليس معناها أن له عضوا يسمى بالعين ويرى به كالإنسان والحيوان. وكذلك نستعمل له كلمة السمع، فليس معناها أنه يسمع بأذنيه كما يسمع الإنسان. وكذلك نستعمل له كلمة البطش والأخذ فليس معناها أن له آلة تعرف باليد فيأخذ بها كما يأخذ الإنسان بيده. فكل هذه الكلمات إنما تستعمل لله – تبارك وتعالى – على وجه الإطلاق لا بمعنى من المعاني المحدودة، ولا نكاد نظن بالنسبة لرجل له مسكة من العقل أن يقول باستحالة أن يوجد للسمع والبصر والبطش شكل غير الشكل المحدود المخصوص الذي نعرفه في هذه الدنيا. وعلى هذا، إذا قيل عن ( النور ) إنه لا يوجد المصداق لمعناه إلا في صورة ذلك الشعاع الذي يخرج من جرم لامع وينعكس على غطاء العين ؛ فإن هذا القول لا يكون إلا من خطأ الفهم وضيقه. إن كلمة ( النور ) لم تطلق على الله – سبحانه وتعالى – بهذا المعنى الضيق المحدود وإنما أطلقت عليه بمعناها المطلق الواسع غير المحدود، أي : أن الله – سبحانه وتعالى – هو وحده ( سبب الظهور ) في هذا الكون. أما الأجرام اللامعة التي ينبعث منها النور، فما نالت نورها ولا هي تنور الكون إلا بالنور الذي قد أنعم به عليها الله – سبحانه وتعالى – وإلا فما عندها شيء يمكن أن تنور به غيرها٢٠٣.
والمراد بالنور لدى الأكثرين هو الهداية والحق، كما قال في آخر الآية : يهدي الله لنوره من يشاء. فشبهه بالنور في ظهوره وبيانه، وأضافه إلى السماوات والأرض، للدلالة على سعة إشراقه حتى تضيء السماوات والأرض، أو على حذف المضاف، أي : نور أهل السماوات والأرض، وقيل : نور السماء بالملائكة وبالأجرام المنيرة، والأرض بها وبالأنبياء والعلماء، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب، والحسن، وأبي العالية٢٠٤.
ومن هدي السنة نجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبتل في دعائه لله الذي أضاء الكون، وأبدع الوجود، وهو – سبحانه – نور السماوات والأرض، وبديع السماوات والأرض وحين ضاق النبي ذرعا بأهل مكة، ذهب إلى الطائف يدعوها للإسلام، فكذبه أهلها وآذوه، فمد يده إلى بارئ النسم وقال :( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، عافيتك هي أوسع لي )٢٠٥.
ونور الله يدركه قلب المؤمن، وتشف روحه بهداية السماء وعناية الرحمن. قال تعالى : أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ... ( الزمر : ٢٢ ).
أخرج الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه )٢٠٦.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ...
مَثَلُ نُورِهِ. أي : صفة نوره العجيبة الشأن.
قال ابن كثير :
مَثَلُ نُورِهِ : في هذا الضمير قولان :
الأول : أنه عائد إلى الله – عز وجل – أي : مثل هداه في قلب المؤمن.
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام، تقديره : مثل نور المؤمن الذي قلبه كمشكاة، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه، بالقنديل من الزجاج الشفاف، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد، الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
وقالوا أيضا : إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه، والزجاجة قلبه٢٠٧.
كَمِشْكَاةٍ. قال مجاهد : هي الكوة بلغة الحبشة، وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها.
فِيهَا مِصْبَاحٌ. أي : سراج ضخم ثاقب، شديد الإضاءة وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل، والمصباح الفتيلة المشتعلة.
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ. أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ. أي : متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته.
جاء في ظلال القرآن :
وهذا مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود، ويرسم النموذج المصغر، الذي يتأمله الحس حين يقصر عن تملى الأصل، وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور، حين يعجز عن تتبع مداه
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن ذكر تعالى نوره لعباده وهدايته إياهم، بين هنا حال من حصلت لهم هذه الهداية.
التفسير :
٣٦ - فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.
البيوت : المساجد.
أذن : أمر.
أن ترفع : أن تعظم وتطهر عن الأنجاس، وعن اللغو من الأقوال.
يسبح : ينزه ويقدس.
الغدو : أول النهار.
الآصال : واحدها أصيل، وهو العشي، أي : آخر النهار.
لقد بينت هذه الآية أن النور السابق، يستقر في بيوت طاهرة، عامرة بذكر الله، فيها رجال طهرت قلوبهم وحسنت أعمالهم، أي : كمشكاة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له.
واختار المفسرون أن المراد بالبيوت هنا : المساجد.
قال قتادة : هي هذه المساجد، أمر الله – سبحانه وتعالى – ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها.
أخرج الشيخان، عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ؛ بنى الله له مثله في الجنة )٢١٦.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب٢١٧.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالبيوت في الآية : المساجد، أو بيوت المؤمنين، حيث يذكرون ويتدارسون.
قال أبو الأعلى المودودي :
وقد اختلف المفسرون في ما هو المراد بالبيوت في هذه الآية. فقال بعضهم : إن المراد بها : المساجد، وإن المراد برفعها : بناؤها وعمارتها وتعظيمها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق به، وقال بعضهم : إن المراد برفعها : رفعها من الوجهة المعنوية والأخلاقية. وظاهر ألفاظ : ويذكر فيها اسمه. وإن كانت تؤيد التفسير الأول أكثر مما تؤيد التفسير الثاني، ولكن إذا تأملنا علمنا، أن تأييدها للتفسير الثاني لا يقل عن تأييدها للتفسير الأول، لأن شريعة الله لا تحد العبادة في المساجد كما تحدها الديانات التي فيها الكهانة، ولا يمكن أن تقام فيها طقوس العبادة بدون فرد من طبقة الكهنة والقسيسين. أما الإسلام، فكل بيت فيه معبد كالمسجد، وكل فرد من أفراد المسلمين قسيس لنفسه. فلما كانت معظم آيات هذه السورة تتعلق بتعليم المؤمنين، وهدايتهم إلى رفع حياتهم الأسروية ؛ فإن التفسير الثاني أنسب وأليق بموضوع السورة عندنا من التفسير الأول، غير أننا لا نجد سببا معقولا لعدم قبول التفسير الأول، ولا ضير البتة إذا قلنا : إن المراد بالبيوت في الآية : المساجد وبيوت المؤمنين معا.
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ...
أي : ينزه الله تعالى، ويقدسه فيها بالصلاة والعبادة.
بالغدو. أي : صلاة الفجر، والآصال : صلاة العصر، وخصهما بالذكر لحضور الملائكة في هذين الوقتين.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، اقرأوا٢١٨ إن شئتم قول الله تعالى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. ( الإسراء : ٧٨ ).
وذهب النسفي إلى أن المراد بالغداة : صلاة الفجر، وبالآصال : صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإنما وحد الغدو لأن صلاته واحدة، وفي الآصال جمع أصيل وهو العشي٢١٩.
هؤلاء الرجال لا تشغلهم تجارة في السفر، ولا بيع في الحضر عن ذكر الله.
والتجارة والبيع لتحقيق الكسب والثراء، ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العبادة في الزكاة
ولقد كان المؤمنون يسمعون الأذان ؛ فيتركون تجارتهم وبضاعتهم وبيعهم ويذهبون إلى المساجد لذكر الله، فالمؤمن خليفة الله في الأرض، يضرب فيها بالتجارة والزراعة والصناعة والعمارة، ولا تشغله الدنيا عن أداء حق الله والاستجابة لدعوته.
قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. ( المنافقون : ٩ ).
روى عمر بن دينار أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ...
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس فيها أحد، فتلا سالم هذه الآية : رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ... ثم قال : هم هؤلاء.
وقال مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحفظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها.
ونلحظ أنهم رجال متوازنون، يشتغلون بالتجارة والبيع، ويخفون إلى ذكر الله وإقام الصلاة، ذكرهم لله ليس عبادة خاوية، بل عبادة متكاملة، لأنهم يخرجون زكاة أموالهم، ويتعاونون مع المؤمنين في إقامة المجتمع الفاضل، ومساعدة المحتاج ومد يد العون للآخرين.
بعد أن ذكر تعالى نوره لعباده وهدايته إياهم، بين هنا حال من حصلت لهم هذه الهداية.
٣٧ - رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.
تلهيهم : تشغلهم وتصرفهم.
تجارة : أي : قصد الربح المادي.
بيع : أي : فرد من أفراد البياعات، والربح في البيع ناجز بالفعل، فهو أدخل في الإلهاء.
إقام الصلاة : إقامتها لمواقيتها.
إيتاء الزكاة : إخراج المال للمستحقين.
يخافون يوما : أي : يوم القيامة.
تتقلب : تضطرب وتتغير من الهول والفزع.
إنهم يؤدون الصلاة، ويخرجون الزكاة، ويقومون بتعاليم الإسلام رغبة فيما عند الله، وخوفا من عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف.
وقد عبرت آيات كثيرة عن أهوال يوم القيامة، في الحشر والبعث والحساب، والميزان والصراط. قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. ( الحج : ١، ٢ ).
بعد أن ذكر تعالى نوره لعباده وهدايته إياهم، بين هنا حال من حصلت لهم هذه الهداية.
ثم بين مآل الرجال الصادقين وحسن عاقبتهم فقال :
٣٨ - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ.
إنهم رجال أتقنوا أعمالهم، وترفعوا عن الدنايا ولم تشغلهم الدنيا عن الآخرة، فأدوا واجباتهم مرضاة لله، وهنا تفيد الآية أن الجزاء من جنس العمل، وأن الله يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم.
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ...
فيضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويتفضل عليهم بالرضا والرضوان، قال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة... ( يونس : ٢٦ ).
وفي الحديث القدسي :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )٢٢٠.
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أي : يثيب من يشاء ثوابا لا يدخل في حساب الخلق، فلا حدود لفضله ولا حساب لإحسانه، إنه واسع العطاء كريم متفضل، يعفو ويصفح، ويقبل الحسنة، ويكافئ عليها بعشر أمثالها، ثم هو يضاعف لمن يشاء أضعافا مضاعفة، بحسب نية المؤمن واجتهاده، وإخلاصه ومرضاته لربه، قال تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه. ( البينة : ٨ ).
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٣٩ ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن بين الله أحوال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم، والثواب العظيم. أردف ذلك ببيان حال الكفار، فذكر أنهم في الآخرة يكونون في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا للتوضيح والبيان.
التفسير :
٣٩ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا...
السراب : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب ويجري على وجه الأرض كأنه ماء.
القيعة : والقاع : المنبسط من الأرض.
الظمآن : شديد العطش.
قيل : نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان يترهب ملتمسا للدين في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كفر به٢٢١، وكان بعض الكفار يعمل أعمالا نافعة، كان بعضهم أئمة في الكفر يدعون الناس إليه ويحضونهم عليه، ويرجون ثوابا عليه في الآخرة، فبين الله لهم ضياع أعمالهم، وبين أنهم في الآخرة سيجدون عقاب الله أمامهم.
قال ابن القيم :
تشير الآية إلى أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والظلم باتباع أهوائهم.
وهؤلاء يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، يجهلون الحق ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب.
و( السراب ) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري.
و( القيعة ) و( القاع ) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا وادي.
شبه علوم الكفار وأعمالهم، بسراب يراه المسافر في وقت شديد الحر، فيؤمه، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم، إذا حشر الناس واشتد بهم العطش، بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء، فإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب.
وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. ( الكهف : ١٠٣، ١٠٤ ).
وهم الذين عنى بقوله : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا. ( الفرقان : ٢٣ ).
وهم الذين عنى بقوله : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ. ( البقرة : ١٦٧ ).
وخلاصة الآية :
أن الخيبة والخسران في الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال في الدنيا، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف ونحو ذلك، وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدون بوحدانيته مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد عطشه ورأى السراب فخاله ماء، وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع بخفي حنين.
وفي الصحيحين : أنه يقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال : كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون ؟ فيقولون : يا رب، عطشنا فاسقنا. فيقال : ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، فينطلقون فيتهافتون فيها٢٢٢.
بعد أن بين الله أحوال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم، والثواب العظيم. أردف ذلك ببيان حال الكفار، فذكر أنهم في الآخرة يكونون في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا للتوضيح والبيان.
٤٠ - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ...
لجى : أي : ذي لج ( بالضم )، واللج معظم الماء، والمراد : بحر عميق الماء كثيره.
يغشاه : يغطيه.
لم يكد يراها : لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها.
أي : مثل أعمالهم التي عملت على غير هدى، مثل ظلمات مترادفة في بحر عميق ماؤه، بعيد غوره، يغطيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب.
فالظلمات هي أعمال الكافرين، والبحر اللجي قلوبهم التي غمرتها الحيرة والضلالة، فلا تعقل ما في الكون من آيات، ولا تسمع عظة الناصحين، ولا تبصر حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.
قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل.
وقال ابن عباس : هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه.
والخلاصة : أن الكافر لشدة إصراره على كفره، تراكمت عليه الضلالات، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها، فقلبه مظلم، في صدر مظلم، في جسد مظلم.
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ...
ظلمة البحر اللجي، وظلمة الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله.
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا...
أي : إذا أخرج يده – وهي أقرب ما يرى إليه – لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها.
وقالت طائفة من النحاة : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد، وفي ذلك إثبات رؤيتها، بعد أعظم العسر لأجل تلك الظلمات٢٢٣.
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ.
أي : ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة، فما له هداية من أحد.
جاء في ظلال القرآن :
والتعبير في الآيتين يرسم لحال الكافرين مشهدين عجيبين حافلين بالحركة والحياة :
في المشهد الأول : يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعا كاذبا فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك... وفجأة يتحرك حركة عنيفة... فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك... يصل فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال وتورث الخبال : ووجد الله عنده. الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه، وجده هنالك ينتظره، ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد، فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار.
فوفاه حسابه... هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والمفاجأة. والله سريع الحساب. تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع.
وفي الشمهد الثاني : تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب، ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجى، موج من فوقه موج من فوقه سحاب، وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى لتخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام.
إنه الكفر، ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون، وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، ومخافة لا أمن فيها ولا قرار.
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. ونور الله هدى في القلب، وتفتح في البصيرة، واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض، والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض، فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه، ونهاية العمل سراب ضائع، يقود إلى الهلاك والعذاب، لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان، إن هدى الله هو الهدى، وإن نور الله هو النور٢٢٤.
ويقول أبو الأعلى المودودي :
والله تعالى قد ضرب ههنا مثلين للكفار والمنافقين :
ففي المثل الأول : بين حال أولئك الذين قد يأتون بأعمال حسنة على كفرهم ونفاقهم، ويقولون بالحياة الآخرة في جملة معتقداتهم، ويظنون أن مجرد أعمالهم الظاهرة – مع كونهم لا يؤمنون بصدق قلوبهم، ولا يتصفون بصفات أهل الإيمان، ولا يتبعون الرسول في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه – سوف تنقذهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة. فالله تعالى بضربه هذا المثل يبين لهؤلاء أن هذه الأعمال الظاهرة التي يرجون عليها النفع في الآخرة ليست في حقيقتها إلا كسراب في الصحراء. فكما أن الظمآن يحسب السراب ماء في الصحراء ويقصده ليشرب منه، كذلك إن هؤلاء الكفار والمنافقين يقطعون مسافة الحياة الدنيا لينتهوا إلى حياتهم الآخرة، لا يعتمدون في ذلك إلا على أعمالهم الكاذبة، ولكن كما أن الظمآن الذي يسرع إلى السراب في الصحراء ليشرب منه ولا يجده شيئا عندما ينتهي إليه، كذلك فإن هؤلاء الكفار والمنافقين عندما يدخلون منزل الموت بعد حياتهم الدنيا، لا يجدون فيه عملا من أعمالهم ينقذهم من بطش الله تعالى وعذابه، بل سوف يجدون الله تعالى ليوفيهم حسابهم، ويجازيهم على كفرهم ونفاقهم وسيئاتهم التي كانوا يعملونها في حياتهم الدنيا مختلطة ببعض الحسنات الظاهرة.
وفي المثال الثاني : وهو يبدأ من قوله : أو كظلمات... يبين الله تعالى حال جميع الكفار والمنافقين، وفيهم من قد مر ذكرهم في المثال الأول. فالله تعالى يقول عن هؤلاء جميعا إنهم لا يقضون حياتهم من بدئها إلى آخرها إلا في حالة الجهل الكامل، ولو كانوا حسب اعتبارات الدنيا كبار علمائها وأساتذتها الذين قد سبقوا سائر أهلها في الفنون والعلوم والاختراع. ولكن مثلهم – حسب بيان القرآن – كمثل رجل يعيش في مكان ليس فيه إلا الظلمة، ولا ينفذ إليه من أي جوانبه شعاع واحد من النور. فيظن هؤلاء أن العلم إنما هو عبارة عن اختراع القنبلة الذرية أو قنبلة الهيدروجين أو الصاروخ الطائر إلى القمر، وأن المهارة في الاقتصاديات والماليات والقانون والفلسفة هي العلم... ألا إن العلم الحقيقي هو شيء آخر ليسوا على أدنى إلمام بألفه وبائه، فهم على الجهل المحض باعتبار هذا العلم، حيث إن رجلا من البدو هو أعلم منهم إن كان سعيدا بمعرفة الحق.
وقوله تعالى : وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. فيه يبين الله تعالى مقصوده الحقيقي الذي مهد له الكلام من قوله : الله نور السماوات والأرض... فلما لم يكن في الكون كله نور غير نور الله تعالى في حقيقة الواقع، ولا تظهر فيه الحقائق إلا بنوره، فهل يكون في غير الظلمة التامة من كان لم يجعل الله له نورا من عنده ؟ إن هدى الله هو الهدى، وإن نور الله هو النور٢٢٥.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ ) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٤٦ ) ﴾.
التفسير :
تشتمل هذه الآيات على ألوان من قدرة الله ٢٢٦ سبحانه وتعالى :
٤١ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.
ألم تر أن الله يسبح له.. : الصلاة لبني آدم، والتسبيح صلاة غيرهم، من الخلق، ويجوز أن يكون التسبيح بلسان الحال، بمعنى : أن جميع من في الكون ينطق بقدرة الله الخالق المبدع لهذا الكون.
والطير صافات : في الهواء تسبح ربها.
كل قد علم : كل من ذكر من الخلق قد علم.
صلاته وتسبيحه : الذي كلفه وألزمه، أو كل قد علم الدور الذي يقوم به في ناموس هذا الكون، مما يدل على عظمة الإله، فهو تسبيح بلسان الحال أو بلسان المقال، وقيل : كل مصل ومسبح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه.
إن الكون جميعه خاضع لقدرة الله، فالسماء عالية، والأرض مبسوطة، والجبال راسية، والليل مظلم، والنهار مضيء، والشمس سراج، والقمر نور، والنجم زاهر، والهواء والفضاء والسحاب والنبات والإنسان والحيوان، كل ما خلقه الله، له رسالة يؤديها في هذا الكون، ولسان حاله ينطق بقدرة الصانع سبحانه، كل مخلوق له صلاة يؤديها، وتسبيح يقوم به، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع تسبيح الحصى بين يديه، وكان داود – عليه السلام – يسمع تسبيح الجبال وترديدها لدعائه وصلاته، أو كل قد علم الله صلاته وتسبيحه على اختلاف ألسنتهم وأدوارهم قد علم وسمع صلاتهم وتسبيحهم، وهو العليم بكل ما كان وما يكون في هذا الكون.
بيد الله ملك السماء وما فيها، وبيده ملك الأرض وما عليها، وإليه المصير يوم القيامة حيث يرجع إليه الخلائق أجمعون، يوم يقوم الناس لرب العالمين. ( المطففين : ٦ ).
وينادي الرب – جل جلاله - : لمن الملك اليوم. فيكون الجواب : لله الواحد القهار. ( غافر : ١٦ ).
يزجى سحابا : يسوق سحابا.
ثم يؤلف بينه : يجمع كل مفترقه.
ثم يجعله ركاما : متراكما بعضه على بعض.
فترى الودق يخرج من خلاله : الودق : المطر، من خلاله : من خلال السحاب.
وينزل من السماء من جبال : في السماء مخلوقة هناك.
من برد : هن من برد، كما يقال : جبال من طين.
فيصيب : يعذب به، ويجوز أن يكون المعنى : يغيث به، ويرحم به.
ويصرفه عمن يشاء : رحمة بهم، أو عقابا لهم.
يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار : يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار.
إن يد الله تجزى السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثم يؤلف بينه ويجمع بين متفرقه، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة ؛ فتشاهد المطر ينزل من خلال السحاب، والسحب في تراكمها فوق بعضها أشبه بالجبال الضخمة الكثيفة فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.. ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة، وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها ومساقطها، وارتفاعها وانخفاضها، وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الإنسان إلا بعدما ركب الطائرات.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون، ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.. وتكملة المشهد الضخم : يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ. يضيء البرق بشدة وسرعة، حتى ليكاد البرق أن يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء.
يتتابع الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل في حركة مستمرة، ويزيد الليل في الشتاء وينقص في الصيف، ويختلف الليل والنهار وتتغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، والزيادة والنقصان.
وفي مظهر الشروق والغروب والضحى والظهيرة عبرة لأصحاب البصيرة، إذ يتأملون في مظاهر هذا الكون، وتنفس الصباح، وتشابك النجوم، وتألق البدر، فيتجدد إحساسهم مع التأمل والتفكر والتدبر في بديع صنع الله.
خلق الله كل حيوان يدب عل الأرض من ماء مخصوص هو النطفة، وفيه تنزيل للغالب منزلة الكل ؛ لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة.
أو كل حيوان خلق من ماء هو جزء مادته، وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد، لظهور احتياج الحيوان إليه ولا سيما بعد كمال تركيبه.
ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض، فقال :
فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ... كالحيات والسمك، وغيرهما من الزواحف.
وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ... كالإنسان والطير.
وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ... كالأنعام والوحوش.
يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء...
غير مقيد بشكل ولا هيئة، فاختلاف هذه الحيوانات في الأعضاء والقوى، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق، لا بد أن يكون بتدبير إله قادر عليم حكيم.
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فهو الخالق المبدع، الذي قدر فهدى، والذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى.
لقد أبدع الله آيات الخلق وأحكم صنع هذا الكون، وأنزل على عباده آيات القرآن واضحة، تذكرهم ببديع صنع الله، وتفتح قلوبهم وعقولهم على أسرار هذا الكون وجميع مشاهده، فمن تأمل في هذا الخلق، أيقن أن وراء الصنعة البديعة، صانعا قادرا هو رب العالمين.
﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير :
٤٧ - وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
يتولى : يعرض.
أي : ويقول هؤلاء المنافقون، صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن في قلوبهم مرض وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وخلاصة ذلك : لا يدخل في زمرة المؤمنين من يقول : آمنا بالله والرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة، وينحاز إلى غير المؤمنين.
ثم بين هذا التولي بقوله : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
٤٨ - وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ.
أي : وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله ؛ أعرضوا عن قبول الحق، واستكبروا عن اتباع حكمه ؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق.
ونحو الآية قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا. ( النساء : ٦٠، ٦١ ).
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
٤٩ - وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ.
مذعنين : منقادين.
أي : وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين، لعلمهم بأنه يحكم لهم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد بأن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جراء هذا لما خالف الحق قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.
ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب في عدولهم عن قبول حكمه صلى الله عليه وآله وسلم.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
٥٠ - أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ.
مرض : أي : فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال.
ارتابوا : شكوا في نبوتك.
يحيف : يجور.
الظالمون : الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم.
أي : أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وآله وسلم أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في ثبوته صلى الله عليه وآله وسلم على ظهور أمرها ؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم ؟
وخلاصة ذلك : لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك في الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.
ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال :
بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي : ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم، ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم لقضائه.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق، بين صفات المؤمن الكامل، فقال :
٥١ - إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ويخش الله : أي : فيما صدر منه من الذنوب في الماضي.
ويتقه : أي : فيما بقى من عمره.
أي : ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم : سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف.
وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال :
٥٢ - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
٥٢ - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
أي : ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به، وترك ما نهياه عنه، ويخش الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي، ويتقه في مستأنف أموره، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة، والآمنون من عذابه.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله :
٥٣ - وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ...
جهد أيمانهم : أي : أقصى غايتها، من قولهم : جهد نفسه، إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها.
أي : وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها، لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ؛ ليلبن الطلب وليخرجن كما أمرت.
والخلاصة : أنهم أغلظوا الأيمان وشددوها في أن يكونوا طوع أمرك ورهن إشارتك، وقالوا : أينما تكن نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوه بهذه الأيمان الفاجرة، وأمره أن يقول لهم :
قُل لَّا تُقْسِمُوا...
أي : قل لهم : لا تحلفوا، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه. ثم علل النهي عن الحلف بقوله :
طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ...
أي : لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا، فهي طاعة باللسان فحسب، من غير مواطأة القلب لها، ولا يجهلها أحد من الناس.
ونحو الآية قوله : يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. ( التوبة : ٩٦ ).
وقوله : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ. ( المجادلة : ١٦ ).
ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة، وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة، ولا سيما ذلك النفاق المفضوح، فقال :
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي : أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين، ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبرتموها.
بعد أن ذكر - سبحانه – الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا، وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول ؛ قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدعون الإخلاص فيها. فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان، لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم لليهودي ؛ فلم يرض المنافق بقضائه، فقال : نتحاكم إلى عمر – رضي الله عنه – فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل – رضي الله عنه – بيته، وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد. وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما نبه سبحانه إلى خداعهم، وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم : أمر بترغيبهم مشيرا إلى الإعراض من عقوبتهم بقوله :
٥٤ - قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...
تولوا : أي : تتولوا، بحذف إحدى التاءين.
أي : مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وفي هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها في شيء.
ثم أكد الأمر السابق، وبالغ في إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله :
فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ...
أي : فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها، فما ضررتم الرسول بشيء، بل ضررتم أنفسكم، لأنه عليه ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي : وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه ؛ تهتدوا إلى الحق الموصل إلى كل خير، المنجي من كل شر، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم في الهلكة.
والخلاصة : أن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقى ما يجب عليكم أن تفعلوه.
ونحو الآية قوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. ( الرعد : ٤٠ ). وقوله : فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر. ( الغاشية : ٢١، ٢٢ ).
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن بين الله تعالى أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم، أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء في الأرض، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله وحده وهم آمنون، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.
روى الطبراني، والحاكم، وابن مردويه، عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار ؛ رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله ؟ فنزلت الآية.
التفسير :
٥٥ - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... الآية.
أي : وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم، ليورثنهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها، كما استخلف بني إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.
وقد وفى سبحانه بوعده، فإنه لم يمت صلى الله عليه وآله وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس في مصر، والنجاشي ملك الحبشة.
ولما قبض صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون، فنهجوا منهجه، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق قول رسوله :( إن الله زوى لى الأرض ؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها )٢٢٧.
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ...
أي : وليجعلن دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم، ويعظم أهله في نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار في التدبير لإطفاء أنواره، لتعفو آثاره.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا...
أي : وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن، قال الربيع بن أنس : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لن تصبروا إلا يسيرا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة ). فأنزل الله : وعد الله الذين آمنوا... إلى آخر الآية.
ونحو الآية قوله تعالى : وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. ( الأنفال : ٢٦ ).
ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله :
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...
أي : يعبدونني غير خائفين أحدا غيري.
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أي : ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها، وتناسوا جليل خطرها.
رأى المودودي في استخلاف المؤمنين الصالحين :
يقول الأستاذ المودودي : هذا وعد من الله تعالى للمسلمين بأنه سيجعلهم خلفاء الأرض، أي : أئمة الناس وقادتهم. والمقصود من هذه الآية : تنبيه المنافقين إلى أن هذا الوعد الذي قد قطعه الله – تبارك وتعالى – للمسلمين، ليس الخطاب فيه لكل من ينتمي إلى الإسلام ولو اسما، بل إنما هو للمسلمين الذين هم صادقون في إيمانهم، وصالحون باعتبار أخلاقهم وأعمالهم، ومتبعون لدين الله الذي قد ارتضاه وملتزمون لعبادته وعبوديته وحده وغير مشركين به شيئا، وأما الذين ليسوا على تلك الصفات وإنما يدعون الإيمان بألسنتهم : فلا يستأهلون هذا الوعد لأنه لم يقطع لهم، فلا يرجون أن ينالوا نصيبا منه.
قد رأينا بعض المغرضين من الناس يجعلون ( الخلافة ) بمعنى مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم والتمكن، ثم يستنتجون من هذه الآية أن كل من حصل له العلو والغلبة في الأرض، فهو مؤمن صالح متبع لدين الله المرتضي، قائم بعبوديته مجتنب للشرك به، بل هم – فوق ذلك – يبدلون مفهوم كل كلمة من كلمات الإيمان والصلاح والدين والعبادة والشرك، حتى يجعلوها متفقة مع أهوائهم ونظريتهم الزائفة هذه. فهذا أشنع تحريف معنوي للقرآن، قد فاق تحريف اليهود والنصارى لكتبهم، وبين لآية الاستخلاف هذه معنى يريد أن يمسخ تعليم القرآن كله ولا يترك شيئا من الإسلام في مقامه، فإنه لا بد بعد هذا التحريف للخلافة أن تنطبق هذه الآية على كل من لهم العلو والغلبة في الأرض اليوم، أو كانت لهم في الزمن الماضي، ولو كانوا جاحدين بالله والرسالة والوحي واليوم الآخر. منغمسين في أدناس الفسق والفجور التي قد عدها القرآن من الكبائر، كأكل الربا وارتكاب الزنا وشرب الخمر ولعب الميسر وما إليها. فإن كان أمثال هؤلاء من المؤمنين الصالحين، ولأجل إيمانهم وصلاحهم نالوا العلو والغلبة في الأرض، فأي معنى يمكن أن يكون للإيمان غير الإذعان لقوانين الطبيعة، وللصلاح غير العمل وفق هذه القوانين ؟ وماذا يمكن أن يكون دين الله المرتضى غير بلوغ الكمال في العلوم الطبيعية وترقية الصناعة والتجارة والسياسة القومية ؟ وهل يمكن بعد التسليم بنظريتهم الزائفة أن تكون عبادة الله غير التزام القواعد والضوابط التي تساعد على بلوغ النجاح في السعي الفردي والاجتماعي فطرة ؟ وهل يبقى الشرك إذن عبارة عن شيء غير مزج هذه القواعد والضوابط المفيدة بالطرق المضرة ؟ ولكن هل لأحد قد قرأ القرآن مرة بقلب مفتوح وعينين مبصرتين أن يقول بأن هذه هي المعاني لكلمات الإيمان والعمل الصالح ودين الحق والعبادة والتوحيد والشرك المذكورة في القرآن ؟ الحقيقة أنه لا يكاد يقول هذه المعاني إلا رجل لم يكن قد قرأ القرآن ولا مرة واحدة من بدئه إلى آخره مع فهم معانيه، وإدراك مقاصده، وإنما أخذ آية من هنا وأخرى من هناك فحرفها وفقا لأهوائه ونظرياته وأفكاره، أو رجل مازال عند قراءته للقرآن يبطل ويخطئ بزعمه جميع الآيات التي فيها دعوة الناس إلى الإيمان بالله ربا واحدا، وإلها لا شريك له، وبوحيه الذي أنزل على رسوله وسيلة وحيدة لمعرفة الهداية، وبكل نبي أرسله إلى الدنيا قائدا يجب على الناس أن يطيعوه، أو فيها الأمر للناس باعتقاد حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، بل قيل لهم فيها أن لا فلاح للذين يريدون الحياة الدنيا فقط وهم عن الآخرة غافلون.
وهذه الموضوعات قد أبدئ في ذكرها وأعيد في القرآن بكثرة وبطرق مختلفة وبألفاظ واضحة صريحة، حيث يتعسر علينا تصديق أن يقرأ أحد القرآن بإخلاص وأمانة ثم يقع في مثل الأخطاء والأغلوطات التي قد وقع فيها هؤلاء المفسرون الجدد لآية الاستخلاف، فالحقيقة أن المعنى الذي بينوه لكلمتي الخلافة والاستخلاف وعلى أساسه قد رفعوا بناءهم، إنما اختلقوه من عند أنفسهم، ولا يكاد يقول به أحد يعرف القرآن.
إن القرآن يستعمل كلمة الخلافة بثلاثة معان مختلفة، وفي كل موضع من مواضع استعماله لهذه الكلمة تعرف بسياقها، في أي معنى من هذه المعاني الثلاثة قد استعملها. فمعناها الأول :( حمل أمانة السلطة والصلاحيات )، وبهذا المعنى أن ذرية آدم كلها خليفة الله في الأرض. ومعناها الثاني :( ممارسة صلاحيات الخلافة تحت أمر الله التشريعي، لا تحت أمره التكويني فقط، مع التسليم بحاكميته العليا )، وبهذا المعنى إنما المؤمن الصالح هو الخليفة في الأرض، لأنه هو الذي يؤدي حق الخلافة على وجهه الصحيح، وعلى العكس منه ليس الكافر والفاسق بخليفة لله، بل هو خارج عليه، لأنه يتصرف في ملكه على طريق معصيته. ومعناها الثالث :( قيام أمة جديدة مقام أمة غالبة في عصر من العصور بعد انقراضها ). المعنيان الأولان مأخوذان من الخلافة بمعنى النيابة، والمعنى الثالث مأخوذ من الخلافة بمعنى البقاء والقيام مقام الغير، وهذان المعنيان لكلمة الخلافة معروفان في لغة العرب. فمن قرأ الآن آية الاستخلاف بهذا السياق فإنه لا يكاد يشك لطرفة عين في أن كلمة الخلافة قد استعملت في هذا المقام بمعنى الحكومة القائمة بحق نيابة الله تعالى وفق أمره الشرعي، ولأجل ذلك يأبى الله تعالى أن يشمل المنافقين المدعين بإسلامهم في وعده الذي يقطعه للمسلمين في هذه الآية، فضلا عن أن يشمل فيه الكفار، ولأجل ذلك يقول إنه لا يستحق هذا الوعد إلا المتصفون بصفات الإيمان والعمل الصالح، ولجل ذلك يذكر – سبحانه وتعالى – من ثمرات قيام الخلافة في الأرض أن يقوم دينه الذي ارتضى – أي : الإسلام – على الأسس القوية، ولأجل ذلك ذكر هذه النعمة مشترطة بأن يبقى المسلمون قائمين بحق عبادته : يعبدونني لا يشركون بي شيئا. أما توسيع هذا الوعد إلى النطاق الدولي، والتقرب به إلى كل من كان له العلو والكلمة النافذة في العالم – أمريكا أو روسيا أو غيرهما – فإن هو إلا طغيان في الغي، وتماد في الجهل والضلال ولا غير.
وأمر آخ يجدر بالذكر في هذا المقام، هو أن هذا الوعد، وإن كان شاملا للمسلمين في جميع الأزمان، ولكن الخطاب المباشر فيه لأولئك المسلمين الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحقا إن المسلمين كانوا في حالة شديدة من الخوف أيام نزول هذا الوعد، حتى كانوا لا يضعون سلاحهم، وما كان دين الإسلام قد تمكن لهم حتى ولا في أرض الحجاز، ولكن هذه الحالة ما تبدلت في عدة سنوات بحالة الأمن والرفاهية والطمأنينة فحسب، بل تجاوز فيها الإسلام حدود جزيرة العرب وانتشر في أكبر جزء من أفريقية وآسيا، ولم ترسخ جذوره في منبت أرومته فقط بل وفي أكثر أقطار الأرض. فهذا شاهد تاريخي بأن الله تعالى قد أنجز وعده في أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – ولا يكاد يشك بعد ذلك رجل يقيم أدنى وزن للإنصاف في أن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان حق قد صادق عليه القرآن نفسه، وأن الله تعالى نفسه يشهد بكونهم مؤمنين صالحين. بيد أن من كان في ريب من ذلك، فعليه أن يراجع كتاب نهج البلاغة ويقرأ
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن بشر الله المؤمنين بالتمكين في الأرض، أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة، فهي دليل الفلاح وسبيل النجاح وصلة بين المخلوق والخالق. وأمرهم بإيتاء الزكاة رحمة وصدقة، وصلة بين الغني والفقير، وكل ذلك من شأنه أن يعود عليهم بالفلاح والرشاد وعز الدنيا وسعادة الآخرة.
التفسير :
٦٥ - وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
أقيموا الصلاة في أوقاتها، وبالمحافظة على ركوعها وسجودها وخشوعها. قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، من حافظ عليهن في أوقاتهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له على الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ). ٢٣٣
بعد أن بشر الله المؤمنين بالتمكين في الأرض، أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة، فهي دليل الفلاح وسبيل النجاح وصلة بين المخلوق والخالق. وأمرهم بإيتاء الزكاة رحمة وصدقة، وصلة بين الغني والفقير، وكل ذلك من شأنه أن يعود عليهم بالفلاح والرشاد وعز الدنيا وسعادة الآخرة.
٥٧ - لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ... الآية.
معجزين في الأرض : أي : جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم، وإن هربوا في الأرض جميعها.
أي : أيها الرسول، لا تظنن الكافرين يجدون مهربا في الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا ذلك.
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ. ومآلهم جهنم يوم القيامة.
وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي : بئس المآل مآل الكافرين، وبئس المهاد.
وتلك طبيعة القرآن، فهو يتخول السامعين بالنصيحة، ويراوح بين الأوامر والنواهي، بالدعوة إلى طاعة الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبتهديد الكافرين، وبشارة المؤمنين، ويتضمن ذلك دعوة للمؤمنين بأن أقيموا منهج الله، وحققوا أوامره، ولا عليكم بعد ذلك من كثرة أعدائكم.
( فما هم بمعجزين في الأرض، وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق، أنتم أقوياء بإيمانكم، أقوياء بنظامكم، أقوياء بعدتكم التي تستطيعون، وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية، ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب.
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات، ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية. وهو يدرك شروطها على حقيقتها، قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب أو يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات.
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها... إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة، وذلت، وطرد أبناؤها من الهيمنة على البشرية، واستبد بها الخوف، وتخطفها الأعداء، ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله )٢٣٤.
هذه السورة نور يضيء للمؤمنين طريق الحياة، وأدب رفيع مع النفس ومع الآخرين، ونظام إلهي عادل في الاستئذان وغض البصر، وحفظ الفروج وستر العورات، ونظام التعامل بين أفراد الأسرة وبين الأقارب والأصدقاء.
وإذا أردنا أن نتمعن في معنى هذه الآيات بالتفصيل، فمن الخير أن نأخذ كل آية على حدة، لنتبين أحكامها وآدابها.
والله ولي التوفيق.
آداب الاستئذان :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) ﴾.
التفسير :
٥٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء....
ملكت أيمانكم : يشمل العبيد والإماء، أي : الذكران والإناث.
الحلم : بسكون اللام وضمها، أي : وقت البلوغ، إما بالاحتلام، وإما ببلوغ الخامسة عشرة، من حلم بفتح اللام.
تضعون : تخلعون.
الظهيرة : وقت اشتداد الحر حين منتصف النهار.
عورات : أي : الأوقات التي يختل فيها تستركم، من قولهم : أعور الفارس، إذا اختلت حاله.
جناح : إثم وذنب.
طوافون عليكم : يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية.
ترتيب الآيات :
بين الله في آيات سابقة آداب دخول البيوت، وأوجب الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير للجميع، فإن لم يجد الزائر أحدا رجع، لما في ذلك من صيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب.
ثم استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاثة أوقات هي عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ. في الستر.
أي : لا يدخل عليكم – أيها المؤمنون – في بيوتكم، عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن : قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.
وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، وربما كان الرجل مع زوجته في لحاف واحد، كما ورد ذلك في سبب النزول.
ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ...
أي : هذه الأوقات الثلاثة، ثلاث عورات لكم، يختل فيها التستر عادة، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا، فالهجوم فيها على أهل البيت، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الكراهة.
والعورة في اللغة : الخلل في ثغر البلاد وغيره، مما يخشى هجوم الأعداء منه، وفي القرآن : يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا. ( الأحزاب : ١٣ ).
والعورة كل شيء يستره الإنسان من أعضاء جسده ويستحي من انكشافه، وقد تطلق على كل شيء غير محفوظ، وهذه المعاني متقاربة ويشملها مفهوم الآية إلى حد كبير.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ...
أي : إن للأطفال الصغار وخدام البيت من الرقيق، أن يدخلوا عليكم في حجراتكم أو أماكن خلوتكم، بدون استئذان في غير هذه الأوقات، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ...
أي : إن هذا هو السبب في إذن الله تعالى للخدم والأطفال في الدخول عليكم بدون استئذان، في غير أوقات الخلوة الثلاثة، وذلك لأنهم طوافون عليكم فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة.
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ... أي : بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا، أو بعضكم يطوف على بعض.
قال الزمخشري :
يعني إن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة، وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدى إلى الحرج.
وهذا ما يؤيد قاعدة مهمة من قواعد الفقه الإسلامي، هي أن أحكام الشرع مبنية على المصلحة، وأن لكل حكم من أحكامه علة سواء أكان الشارع قد بينها أم لم يبينها.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي : ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه ؛ والله عليم بما يصلح أحوال عباده، حكيم في تدبير أمورهم ؛ فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم في المعاش والمعاد.
في أعقاب الآية :
١ – كان العمل بهذه الآية واجبا، إذ كانت البيوت لا أبواب لها ولا أقفال، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس٢٣٥.
٢ – روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... الآية، وقوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا. ( النساء : ٨ ).
وقوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ( الحجرات : ١٣ ).
٣ – روى عكرمة : أن نفرا من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد. قول الله – عز وجل - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ... قال ابن عباس : إن الله حليم رحيم بالمؤمنين، يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال٢٣٦، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله ؛ فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد٢٣٧.
وقد عقب القرطبي على هذا الحديث بقوله : هذا متن حسن، وفيه رد على قول سعيد بن المسيب، وابن جبير بأنها منسوخة، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية. ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها٢٣٨.
٤- قال فخر الدين الرازي :
الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن : لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما : بقوله تعالى : ثلاث عورات لكم. والثاني : بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، بأنه ليس ذلك إلا لعلة التكشف في هذه الثلاثة، وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات٢٣٩.
﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) ﴾.
التفسير :
٥٩ - وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ... الآية.
الحلم : وقت البلوغ والاحتلام، والمراد : بلغوا حد العقل والتمييز، أما الأولاد والبنات الذين لا تظهر في أجسادهم هذه التغييرات لسبب من الأسباب، فيمكن أن يقدر لهم العمر الزمني للبلوغ، وهو سن الخامسة عشرة على أرجح الأقوال.
لقد أذن الله للأطفال الصغار أن يدخلوا على آبائهم وأمهاتهم دون استئذان إلا في ثلاثة أوقات يغلب فيها التكشف، وكان هذا الإذن للأطفال لكثرة دخولهم ولحاجتهم إلى معونة أسرتهم، ولقلة إدراكهم لمعنى العورة.
فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حد الطفولة بأن احتلموا، أو بلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا... ( النور : ٢٧ ).
تنبيهات :
١ – قال في الإكليل :
في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ، وأن البلوغ يكون بالاحتلام، وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا باستئذان كالأجانب.
٢ – إذا لم تظهر علامات البلوغ على الصبي أو الفتاة، يمكن أن نحكم لهم بالبلوغ الزمني وهو خمسة عشر عاما على الراجح، وقد اختلف الفقهاء في تحديد سن البلوغ.
فقال الشافعي : وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله : إن الولد – وكذلك البنت – إذا بلغ خمسة عشر عاما يكون بالغا، ويؤيده قول من أبي حنيفة، إلا أن قوله المشهور : أن الولد لا يكون بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة، وأن البنت لا تكون بالغة حتى تبلغ سبع عشرة سنة، وليس هذان القولان بمبنيين على نص في الشريعة، وإنما هما مبنيان على الاجتهاد الفقهي، فليس من الضروري أن نقرر أن خمس عشرة أو ثماني عشرة سنة، هي سن البلوغ في أمر الأولاد غير المحتلمين، والبنات غير الحائضات، في الدنيا كلها، فإن أحوال نمو الجسد الإنساني تختلف باختلاف الأقطار والأزمان٢٤٠، ومعرفة السن المعتادة للبلوغ، أمر يرجع فيه إلى أهل الاختصاص كالأطباء ومن في حكمهم، فهؤلاء يقدرون العمر الزمني للبلوغ في قطر من الأقطار.
وعند ذلك يمكن لرجال القانون أن يقرروا حد البلوغ للأطفال غير العاديين في ذلك القطر.
وما قدره الفقهاء من تحديد خمس عشرة سنة عمرا لبلوغ الولد غير المحتلم، أمر قياسي يقوم على الاجتهاد لا على نص من النصوص الشرعية.
٣ – جاء في كتب الفقه أن ابنة اللبان والجزار تدرك البلوغ في سن مبكرة عن مثيلاتها. وكأن الفقهاء بهذه اللمحة يتركون للقاضي تقدير سن البلوغ لكل فرد، فقد يكون أحد الأطفال ضعيف البنية أو متأخر النمو ؛ فيتأخر العمر الزمني للحكم ببلوغه، ويكون طفل آخر قوي الجسم سليم البنية فنحكم ببلوغه في سن متقدمة عن مثيله.
﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾.
التفسير :
٦٠ - وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا... الآية.
القواعد : جمع قاعد، بغير تاء، لأنه مختص بالنساء، كحائض وطامث، قال ابن السكيت : امرأة قاعد : قعدت عن الحيض. وفي القاموس : إنها هي التي قعدت عن الولد وعن الزوج.
لا يرجون نكاحا : لا يطمعن في الزواج لكبر سنهن.
أن يضعن ثيابهن : يخلعنها.
التبرج : التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، والبرج ( بالضم ) الحسن، والبارجة : السفينة الكبيرة للقتال.
أباح الله للأطفال وللتابعين غير أولي الإربة من الرجال أن يروا زينة المرأة، وكذلك رخص للنساء العجائز أن يتخففن من ثيابهن الخارجية، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها، ولو أدى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب ما دامت الفتنة مأمونة٢٤١ بشرط ألا يقصدن – بهذا التخفف من الثياب – إبداء الزينة وإظهار المحاسن أما الرجال، وبشرط ألا تنكشف عوراتهن، وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة، وسمى هذا استعفافا، أي : طلبا للعفة، وإيثارا لها، لما بين التبرج والفتنة، وبين التحجب والعفة من صلة، وذلك حسب نظرية الإسلام، في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
يسمع ويعلم ويطلع ويشاهد، فالأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير، قال تعالى : يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. ( غافر : ١٩ ).
في أعقاب الآية :
١ - لم تبين الآية الثياب التي رخص للقواعد أن يخلعنها، وللمفسرين في بيانها رأيان :
الرأي الأول : أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة، كالجلباب السابغ الذي يغطي البدن كله، وكالرداء الذي يكون فوق الثياب، وكالقناع الذي فوق الخمار، وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير، عن الشعبي : أن أبيا وابن مسعود وابن عباس قد قرأوا :( أن يضعن من ثيابهن ) بزيادة ( من ). قال ابن عباس : وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا :( أن يضعن من جلابيبهن ) وهي قراءة ابن عباس أيضا.
قال : والجلباب وما تغطى به المرأة ثيابها من فوق، كالملحفة، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال، وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
الرأي الثاني : أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كن في بيوتهن أو من وراء الخدور والستور.
وهو رأي ضعيف ؛ لأن للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.
٢ – قد يتساءل الإنسان قائلا : إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة، فما معنى نفي الجناح فيه ؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهم حظره ومنعه ؟
والجواب أن الله تعالى ندب نساء المسلمين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب، فإنه أبعد عن الريبة بهن وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن، ونفى عنهن الجناح في ذلك، وخيرهن بين خلع الجلباب ولبسه، ولكنه جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة وأنفى للمظنة٢٤٢.
٣ – تقول العرب : امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها، وقال قوم : الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار، والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما٢٤٣.
٤ – أخرج ابن أبي حاتم، عن أم الضياء أنها قالت : دخلت على عائشة – رضي الله عنها – فقلت : يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ، والقرطين والخلخال وخاتم الذهب، وثياب الرقاق ؟ فقالت : يا معشر النساء، قصتكن كلها واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات٢٤٤.
٥ – من هدي السنة : أخرج البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )٢٤٥.
وروي في الصحيح، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة ؛ لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )٢٤٦.
قال ابن العربي :
وإنما جعلن كاسيات لأن الثياب عليهن، وإنما وصفن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رق يصفهن ويبدي محاسنهن، وذلك حرام.
وقال القرطبي :
( رءوسهن كأسنمة البخت ) والبخت : ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبه رءوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن، وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم٢٤٧.
﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ( ٦١ ) ﴾.
أسباب النزول :
قال الحسن : أنزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، وضع الله عنه الجهاد، وكان أعمى.
وقال ابن عباس :
نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد مع أهله، فلما رجع وجده مجهودا، فسأل عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وهناك روايات أخرى في أسباب النزول تجدها في كتب التفسير، وهي ما يعبر عنه بالسبب المباشر، بيد أن ذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب عامة نزلت من أجلها الآية.
ومن هذه الأسباب ما يأتي :
الأول : هذا الانقلاب الهائل الذي حدث في عقلية العرب بتعاليم القرآن الخلقية، وجعل حسهم مرهفا في التمييز بين الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، حتى أنه لما نزل قوله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ... ( البقرة : ١٨٨ ). قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ؛ فكف الناس عن ذلك ؛ فأنزل الله عز وجل : ليس على الأعمى حرج... إلى : أو ما ملكتم مفاتحه٢٤٨.
الثاني : اشتملت الآية على جزءين.
( أ ) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، وغيرهم من المعذورين في التخلف عن الجهاد، أو في الأكل من بيوت غيرهم.
( ب ) رفع الحرج عن سائر الناس في أكلهم من بيوت أقربائهم المذكورين في الآية.
التفسير :
٦١ - لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ... الآية.
الحرج : الضيق، ومنه : الحرجة، للشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه، والمراد بالحرج هنا : الإثم.
ما ملكتم مفاتحه : المفاتح : جمع مفتح أو مفتاح، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه، كأن يكون وكيلا عن رب المال، أو أمينا وحافظا.
الصديق : من يصدق في مودتك وتصدق في مودته، يطلق على الواحد والجمع، كالخليط والعدو، والمراد بالصديق هنا : الجمع.
جميعا : مجتمعين.
أشتاتا : متفرقين، واحدهم شتيت.
على أنفسكم : أي : على أهل البيوت.
تحية : أصل معنى التحية : طلب الحياة، كأن يقول : حياك الله، ثم توسع فيه فاستعمل في كل دعاء، وتحية الإسلام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مباركة : بورك فيها بالأجر.
طيبة : تطيب بها نفس السامع.
أي : ليس على هؤلاء الثلاثة إثم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم. ونحو الآية قوله تعالى : لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ... ( التوبة : ٩١ ).
وقوله عز شأنه : لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ... ( النساء : ٩٥ ).
وعن ابن عباس : أن المراد من الحرج المنفي في الآية : الحرج في الأكل، ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ... ( البقرة : ١٨٨ )، تحرج المسلمون من مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام ؛ فأنزل الله هذه الآية، والمعنى على هذه الرواية : ليس في مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.
وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون، فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
هذا بعض ما ذكر المفسرون، ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ونفي الحرج عنه كله.
وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ...
إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوى به ما بعده في الحكم، وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم، وقد استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( أنت ومالك لأبيك )٢٤٩.
وقال الترمذي الحكيم : ووجه قوله تعالى : وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ... كأنه يقول : مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم، فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه ي ذلك حرج٢٥٠.
أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ...
لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما.
وجاء في ظلال القرآن :
ولأن الآية آية تشريع، فإنا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي، والترتيب الموضوعي، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض، كما نلمح فيها ترتيب القرابات، فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم، بل تقول الآية : من بيوتكم، فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج، فبيت الابن بيت لأبيه، وبيت الزوج بيت لزوجته، وتليها بيوت الآباء، فبيوت الأمهات، فبيوت الإخوة، فبيوت الأخوات، فبيوت الأعمام، فبيوت العمات، فبيوت الأخوال، فبيوت الخالات٢٥١.
أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ...
عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة، ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدخر، قال سعيد بن جبير، والسدي : هو خادم الرجل من عبد وقهرمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.
وقال الزهري : عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : كان المسلمون يذهبون مع النفير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء : فأنزل الله : أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ...
أَوْ صَدِيقِكُمْ...
أي : بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهونه.
قال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.
وقال جماعة من المفسرين : إنما كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ، واستقرت الشريعة على أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه.
قال ابن زيد :
هذا شيء قد انقطع، إنما كان في أوله ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة. فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوغ له أن يأكل منه، ثم قال : ذهب ذلك اليوم. البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوها٢٥٢.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع التعارض بين النصوص : أن إباحة الأكل من هذه البيوت مقيدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال، بإذن صريح أو قرينة، فإذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ؛ قام ذلك مقام الإذن الصريح٢٥٣.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا...
أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام.
قال القرطبي :
قيل : إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له | أكيلا فإني لست آكله وحدي |
وروى أن قوما من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم٢٥٥ ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم وتعطيل مصالحهم، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك، وبيان أن أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد، وتراعى فيه الاعتبارات الدقيقة المعنتة٢٥٦.
فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ...
أي : فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض. وفي الآية تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين، فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه.
تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً...
أي : حيوا تحية ثابتة بأمره تعالى، مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع.
أخرج البخاري وغيره، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، تحية من عند الله مباركة طيبة )٢٥٧.
وأخرج الحافظ البزار، عن أنس بن مالك قال : أوصاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس خصال قال :( يا أنس، أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيت من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت – يعني : بيتك – فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس، ارحم الصغير، ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة )٢٥٨.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون.
بين الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المتقنة المبرمة ؛ لكي تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وتأخذوا بأسباب السيادة، وتدركوا ما في المنهج الإلهي من حكمة وتقدير.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾.
التفسير :
٦٢ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ... الآية.
أمر جامع : خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء، كقتال عدو، أو التشاور في حادث قد عرض.
المعنى العام :
حثت الآيات السابقة على أدب الاستئناس والاستئذان في دخول البيوت، وفي ختام سورة النور تبين هذه الآية أدب الاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كان المؤمنون في أمر عام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتشاور في قتال أو تدارس حادث عرض، ومن يلتزم بأدب الجماعة ويحرص على الالتزام بمهامها ؛ فهو كامل الإيمان حقا، وللرسول أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه.
أي : ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله، وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمعهم : من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل ؛ لم ينصرفوا عما اجتمعوا له، حتى يستأذنوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
روى الترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة )٢٥٩.
وهذا الاستئذان كما يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو كذلك لمن يأتي بعده من خلفائه، وأمراء النظام الإسلامي في جماعة المسلمين، فكلما اجتمع المسلمون لغاية اجتماعية – في السلم والحرب – فإنه لا يحل لهم أن ينفضوا من هذا الأمر بدون إذن أميرهم، ولما كان الإذن كالدليل على الإيمان، مدح الله الملتزمين به فقال :
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...
أي : إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك – أيها الرسول – في أمر جامع إلا بإذنك لهم، طاعة منهم وتصديقا، أولئك هم المؤمنون حقا. وتشير الآية إلى أن الاستئذان لا يكون إلا في عذر حقيقي، وحاجة ماسة، وأن للرسول وأمير الجماعة بعد الرسول، أن يأذن أو لا يأذن حتى بعد بيانكم للحاجة والعذر، فإن له تقدير الموقف، وترجيح حاجة الجماعة أو حاجة المستأذن.
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ...
أي : بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر – رضي الله عنه – حين خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، حيث استأذن في الرجوع إلى أهله، فأذن له صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : ارجع فلست بمنافق ).
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ...
فيه التنبيه على أن الاستئذان إذا كان فيه أدنى دخل للاحتيال، أو يريد المستأذن أن يؤثر مصلحته الفردية على المصلحة الجماعية ؛ فإن ذلك موجب للإثم واللوم، ولأجل ذلك ينبغي للرسول وللخليفة من بعده، ألا يكتفي بالإذن لمن استأذنه من المسلمين، بل عليه أن يستغفر لكل من يأذن له.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فهو يغفر الذنب للتائبين، وهو رحيم لا يعاقبهم على الذنوب بعد توبتهم منها.
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) ﴾.
التفسير :
٦٣ - لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا... الآية.
التسلل : الخروج من المكان تدريجيا وخفية.
اللواذ : والملاوذة : التستر، يقال : لاذ فلان بكذا، إذا استتر به.
يخالفون عن أمره : يعرضون عنه ويخالفونه.
فتنة : بلاء وامتحان في الدنيا، أو عذاب أليم في الآخرة.
في معنى هذه الجملة ثلاثة وجوه :
الأول : لا تجعلوا أمر الرسول إياكم، ودعاءه لكم، كما يكون من بعضكم لبعض، أي : إن دعاء الرسول ونداءه لكم، له أهمية ليست لدعاء غيره، فإذا دعاكم غيره فلكم أن تجيبوه أو لا تجيبوه، وأما إذا دعاكم الرسول ولم تجيبوه ؛ فإنكم توقعون أنفسكم في الحرج، وإن ذلك مما يتهدد إيمانكم، وينذركم بحبط أعمالكم.
الثاني : ألا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا، فلا تقولوا له : يا محمد. ولا تقولوا : يا بن عبد الله. ولكن شرفوه وعظموه في الدعاء، فقولوا : يا رسول الله، أو يا نبي الله.
الثالث : ألا تعتقدوا أن دعاء الرسول على إنسان كدعاء غيره، فإن دعاء الرسول مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم إذا عملتم ما يسخطه.
وقد رجح ابن كثير المعنى الثاني، واستشهد له بجملة من الآثار، منها ما يأتي :
قال ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله – عز وجل – عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأمرهم أن يقولوا : يا نبي الله، يا رسول الله.
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه وأن يبجل وأن يعظم.
وقال مقاتل : لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا... يقول : لا تسموه إذا دعوتموه : يا محمد، ولا تقولوا : يا بن عبد الله، ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله، يا رسول الله، وهذا كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. ( الحجرات : ٢ ). فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكلام معه وعنده. كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته٢٦٠.
وإذا ضممنا آخر الآية إلى صدرها ترجح لنا أن المراد هو المعنى الأول. أي : إذا دعاكم الرسول فلا تهملوا دعوته، واستجيبوا لأمره.
ومن إعجاز القرآن : أن الآية تشير إلى معنى، وتحتمل معنى، وتستتبع معنى.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا...
قال القرطبي :
التسلل والانسلال : الخروج، واللواذ من الملاوذة : وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك، فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة ( لواذا ) – مصدر في موضع الحال، أي : متلاوذين –أي : يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة.
وقيل : كانوا يتسللون في الجهاد، رجوعا عنه، يلوذ بعضهم ببعض.
وقال الحسن : لواذا. فرارا من الجهاد. ومنه قول حسان :
وقريش تلوذ منا لوذا | لم يقيموا وخف منها الحلوم٢٦١ |
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ...
أي : يعرضون عن أمره.
وقال أبو عبيدة الأخفش : عن. في هذا الموضع زائدة٢٦٢.
والآية تحذر من يخالف أمر الرسول، أو يتهرب من دعوته ولا يلبي أمره، بأن تصيبه الفتنة أو العذاب الأليم. وبهذه الآية قد احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، ووجهها أن الله – تبارك وتعالى – قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. فتحرم مخالفته ويجب امتثال أمره٢٦٣.
والفتنة هنا : القتل، قاله ابن عباس، وقال عطاء : الزلازل والأهوال، وقال جعفر بن محمد : يسلط عليهم سلطان جائر. أي : إن المسلمين إن أعرضوا عن أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخالفوها، فإن الله سيسلط عليهم من الحكام من لا يرحمهم، وعلى كل حال فهذه إحدى صور الفتنة، كما يمكن أن تكون لها صور كثيرة أخرى، كتفرق كلمة المسلمين، ونشوب الحرب الداخلية بينهم، وانحطاطهم الخلقي، وتشتت جماعتهم، وظهور الفوضى فيهم، وانكسار قوتهم السياسية والمادية، وتحكم غيرهم في رقابهم٢٦٤.
التفسير :
٦٤ - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآية.
هذه الآية ختام السورة، وقد بدئت السورة بقوله تعالى : سورة أنزلناها وفرضناها...
وهنا يثبت علمه الواسع، وإحاطته الشاملة، وملكه العميم، لكل ما في السماوات والأرض، واطلاعه على الضمائر والنوايا، وحسابه للجميع يوم القيامة.
قال ابن كثير :
قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ... وقد : للتحقيق، كما قال قبلها : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا... وقال تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم... ( الأحزاب : ١٨ ). فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد، فقوله تعالى : قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ. أي : هو عالم به مشاهد له، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ. ( يونس : ٦١ ).
وقال تعالى : سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. ( الرعد : ١٠ ).
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا٢٦٥.
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ...
أي : ويوم يرجع الخلائق إلى الله، وهو يوم القيامة.
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي : يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. من أعمالهم وأحوالهم. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. ( الملك : ١٤ ).
وفي هذا الذيل حث على الطاعة والانقياد لما شرعه الله من الأحكام، كما أن في الصدر حثا على القبول من جهة أن الله إنما شرعها لعلمه بحاجتهم إليها.
عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول :( بكل شيء بصير ). أخرجه الطبراني وغيره. قال السيوطي : بسند حسن.
روى أن ابن عباس – رضي الله عنه – قرأ سورة النور على المنبر في الموسم، وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت. والله أعلم٢٦٦.
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه، كما يرضى ربنا ويحب، اللهم لك الحمد في الأولى والآخرة، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لا إله إلا أنت، وعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.