تفسير سورة الماعون

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة الماعون
أهداف سورة الماعون
( الآيات الثلاث الأولى من سورة الماعون مكية، وبقية السورة مدنية، وآياتها ٧ آيات، نزلت بعد سورة التكاثر )
وهي سورة ذات معنى أصيل في الشريعة، تعالج حقيقة ضخمة، هي أن هذا الدين ليس مظاهر وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة، ويقين ثابت، وإخلاص لله، ويتمثل هذا اليقين في سلوك نافع، وحياة مستقيمة. كما أن هذا الدين ليس أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، وإنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره في تحقيق الخير للفرد والجماعة.
مع آيات السورة
١- أرأيت الذي يكذّب بالدين. أي : هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية والشئون الغيبية، بعد أن ظهر له الدليل القاطع والبرهان الساطع.
قال ابن جريح : نزلت في أبي سفيان، كان ينحر جزورين في كل أسبوع، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه.
وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة.
وعن السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقيل : في أبي جهل، وحكى المارودي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه، فدفعه ولم يعبأ به، فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش استهزاء : قل لمحمد يشفع لك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتمس منه الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد محتاجا، فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل ورحب به وبذل المال لليتيم، فعيرته قريش وقالوا له : صبأت، فقال : لا والله ما صبأت، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة، خفت إن لم أجبه أن يطعنها فيّ.
وقال كثير من المفسرين : إنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين.
٢- فذلك الذي يدعّ اليتيم. أي : فذلك المكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم، ويزجره زجرا عنيفا، لقد خلا من الرحمة، وامتلأ بالكبر والغطرسة، ولذلك أهان اليتيم وآذاه، واليتيم مظهر من مظاهر الضعف، فقد فقد الأب الذي يحميه، والعائل الذي يحنو عليه، ومن واجب المجتمع أن يتعاون على إكرامه، والأخذ بيده حتى ينشأ عزيزا كريما. إن كل فرد معرّض لأن يفاجئه الموت وأن يترك أولاده يتامى، فليعامل اليتيم بما يحب أن يعامل به أولاده لو كانوا يتامى.
قال تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرّية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا. ( النساء : ٩ ).
وقد تكررت وصايا القرآن برعاية اليتيم والمحافظة على ماله، والتحذير من تضييع حقه، ورد ذلك في السور المكية والسور المدنية، ففي هذه الآيات وفي سورة الضحى –وهي من أوائل ما نزل من القرآن- وصية باليتيم، وفي صدر سورة النساء المدنية تفصيل واف لرعاية اليتيم بدأ بقوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا. ( النساء : ٢ ).
وقد وردت عدة وصايا باليتيم في الآيات : السادسة، والعاشرة، والسادسة والعشرين من سورة النساء. كما تكررت الوصية باليتيم في آيات القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم :( خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بين فيه يتيم يساء إليه ).
٣- ولا يحضّ على طعام المسكين. أي : ولا يحث على إطعام المسكين.
قال الإمام محمد عبده : وهو كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت، الذي لا يستطيع كسبا.
وليس المسكين هو الذي يطلب منك أن تعطيه وهو قادر على قوت يومه، بل هذا هو الملحف الذي يجوز الإعراض عنه، وتأديبه بمنعه ما يطلب، وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه، وفيه حث للمصدقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم، وهي طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى في سورة الفجر : كلاّ بل لا تكرمون اليتيم* ولا تحاضّون على طعام المسكين. ( الفجر : ١٧، ١٨ ). ونعمت الطريقة هي لإغاثة الفقراء، وسد شيء من حاجات المساكين.
( إن حقيقة التصدق بالدين ليست كلمة تقال باللسان، إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية، والله لا يريد من الناس كلمات، إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء لا وزن لها عنده ولا اعتبار. وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة، وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل )i.
٤، ٥- فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون. أي : إذا عرفت أن المكذب بالدين هو الذي أقفر قلبه من الرحمة، وأجدب من العدل والمكرمة، ( فويل لأولئك الذين يصلّون، ويؤدون ما يسمى صلاة في عرفهم من الأقوال والأفعال وهم مع ذلك ساهون عن صلاتهم، أي غافلة قلوبهم عما يقولون وما يفعلون، فهو يركع في ذهول عن ركوعه، ويسجد في لهوة عن سجوده )ii. وإنما هي حركات اعتادها، وأدعية حفظها، ولكن قلبه لا يعيش معها، ولا يعيش بها، وروحه لا تستحضر حقيقة الصلاة، وحقيقة ما فيها.
٦- الذين هم يراءون. أي : يفعلون ما يرى للناس فقط، ولا يستشعرون من روح العبادة ما أوجب الله على النفوس أن تستشعره.
( إنهم يصلّون رياء للناس لا إخلاصا لله، ومن ثم فهم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها، ساهون عنها لم يقيموها، والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها، وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها ). iii.
٧- ويمنعون الماعون. أي : يمنعون المساعدة عن المستحق لها، أو يمنعون ما اعتاد الناس قضاءه وتداوله فيما بينهم، تعاونا وتآزرا، ولا يمنعه إلا كل شحيح يكره الخير.
( إنهم يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية، يمنعون الماعون عن عباد الله، ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله )iv.
( وأكثر المفسرين على أن الماعون اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقدوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روي :( ثلاثة لا يحل منعها : الماء والنار والملح ).
وقد تسمى الزكاة ماعونا، لأنه بسببها يؤخذ من المال ربع العشر، وهو قليل من كثير.
قال العلماء : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك، ولا يقتصر على قدر الضرورة، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار )v.
إن الشرائع السماوية إنما أنزلت لتهذيب الضمير، ونقاء القلوب، وصفاء النفوس، وتقويم السلوك، وبذلك تسمو الحياة، ويسود الحب والتآلف، والإخاء والتكافل الجميل.
مقاصد السورة
١- الدين ليس رسوما وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة وسلوك مستقيم.
٢- الدين الحق صلاة خاشعة، ورعاية لليتيم، وحماية للمسكين، ومساعدة للمحتاجين.
٣- المكذب بالدين له سمات وصفات، هي : إذلاله لليتيم، عدم رحمة المسكين، الانشغال عن الصلاة، الرياء والنفاق، منع العون والمعونة عن المحتاج إليها.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ أرأيت الذي يكذّب بالدين ١ فذلك الذي يدعّ اليتيم ٢ ولا يحضّ على طعام المسكين ٣ فويل للمصلين ٤ الذين هم عن صلاتهم ساهون ٥ الذين هم يراءون ٦ ويمنعون الماعون ٧ ﴾
المفردات :
أرأيت الذي يكذب بالدين : الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، والمراد بالدين : الحساب والجزاء.
التفسير :
١- أرأيت الذي يكذّب بالدين.
هل شاهدت هذا الصنف من الناس الذي يكذّب بيوم الجزاء، ويكفر بالبعث والحشر، والثواب والعقاب، وقد ورد أنها نزلت في عدد من رؤوس الكفر، كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وظلموا اليتامى وأكلوا حقوقهم، ولم يعطفوا على الضعفاء ولم يساعدوهم، لذلك نجد فريقا من المفسرين يقول : إن الآيات الثلاث الأولى تتحدث عن الكافرين، والآيات الأربع الأخيرة تتحدث عن المنافقين. vi
وفريقا آخر يرى أن الآيات الكريمة في سورة الماعون تنطبق على المسلمين الذين يزعمون أنهم مسلمون، لكن تصديقهم بالدين أصبح ضعيفا أو باهتا، بدليل حبس أموالهم ومعروفهم عن اليتيم والمسكين، ودخولهم في الصلاة بدون قلب حاضر، وإنما هو الرياء والتظاهر، ولا يهتمون بالتعاون لرفع مستوى معيشة الفقراء والمساكينvii.
وعند التأمل نجد أن السورة يمكن أن تنطبق على الكافرين والمنافقين كما ذهب الفريق الأول، كما يمكن أن تشمل ضعفاء الإيمان الذين لا يقومون بحق الله كاملا، ولا يؤدون حقوق العباد على الوجه السليم، كما ذهب الفريق الثاني.
المفردات :
يدعّ اليتيم : يظلمه ويمنعه حقه، أو يزجره وينهره لو قصده لعون أو مساعدة.
التفسير :
٢- فذلك الذي يدعّ اليتيم.
أي : إن أدرت أن تعرفه فهذه صفاته، فذلك هو الذي يدفع اليتيم دفعا عنيفا بجفوة وغلظة، ويقهره ويظلمه ولا يعطيه حقه.
المفردات :
يحض : الحضّ هو الحثّ على الشيء والترغيب فيه بشدة.
التفسير :
٣- ولا يحضّ على طعام المسكين.
أي : إنه لا يطعم المسكين، ولا يحثّ غيره على ذلك، والسبب هو ضعف الإيمان باليوم الآخر، وعدم اليقين بالجزاء العادل من الله، فلو أن الإيمان بالله كان ثابتا في القلب لرأيت صاحبه رحيما باليتيم، متعاونا مع غيره لإطعام المسكين، وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا عجز عن مساعدة المسكين، كان عليه أن يحث غيره من القادرين على ذلك، ويدعوه إلى فعل الخير.
المفردات :
فويل : الويل : الهلاك والعذاب، وقيل : اسم لواد في جهنم شديد العذاب.
التفسير :
٤، ٥- فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون.
عذاب شديد للمنافقين المتصفين بهذه الأوصاف القبيحة، وهي عدم الاهتمام بالصلاة، وأنهم لا يستحضرون قلوبهم وخشوعهم فيها.
قال ابن عباس : هو المصلي الذي إن صلّى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقاباviii.
أي : إنهم من أهل الصلاة، ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية، أو إخراجها عن وقتها.
وقال عطاء بن دينار :
الحمد لله الذي قال : عن صلاتهم ساهون. ولم يقل : في صلاتهم ساهون.
فيؤخرونها إلى آخر الوقت، أو لا يؤدونها بأركانها وشروطها، من الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، كما ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا )ix.
فالإيمان غير وثيق قلبه، وذكر الله ضعيف باهت عنده، ولعل الذي حمله على الصلاة هو الرياء.
قال تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. ( النساء : ١٤٢ ).
قال ابن عباس : يعني المنافقين الذين يصلّون في العلانية ولا يصلون في السرx.
التفسير :
٦- الذين هم يراءون.
يتظاهرون بالعبادة والصلاح أمام الناس، وقلوبهم خاوية من التقوى والإيمان والإخلاص لله تعالى.
المفردات :
الماعون : المراد بالماعون : الزكاة، ومن معانيه : المعروف، والماء، وكل ما ينتفع به، أو كل مستعار بين الجيران من فأس وقدر ودلو ونحو ذلك.
التفسير :
٧- ويمنعون الماعون.
أي : يمنعون الزكاة عن أصحابها، أو يمنعون الصدقة والمعروف.
وسئل ابن مسعود عن الماعون : فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو، وأشباه ذلك من متاع البيت.
وقال عكرمة : رأس الماعون زكاة المال، وأدناه المنخل والدلو والإبرة. اه.
أي أن الماعون يشمل كل معونة كبيرة أو صغيرة، للفرد أو الجماعة، فالمؤمن نافع لإخوانه، مهتم بشئون المسلمين، ولهذا جاء في الحديث :( كل معروف صدقة ).
( تم بحمد الله تعالى وتوفيقه تفسير سورة الماعون )
i في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ٣٠/٦٨٠.
ii تفسير جزء عم للإمام محمد عبده ص ١٢٤.
iii في ظلال القرآن ٣٠/٦٨١.
iv المرجع السابق.
v تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ٣٠/١٩٧٤، طبعة بولاق.
vi صفوة التفاسير محمد علي الصابوني ٣/٦٠٨ -٦٠٩.
vii تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده مطابع الشعب ١٢٤.
viii التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي.
ix تلك صلاة المنافق :
رواه مالك في النداء للصلاة ( ٥١٢ ) ومسلم في المساجد ( ٦٢٢ ) وأبو داود في الصلاة ( ٤١٣ ) والترمذي في الصلاة ( ١٦٠ ) والنسائي في المواقيت ( ٥١١ ) وأحمد في مسنده ( ١١٥٨٨ ) من حديث العلاء بن عبد الرحمان أنه دخل على أنس ابن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر وداره بجنب المسجد فلما دخلنا عليه قال : أصليتم العصر ؟ فقلنا له : إنما انصرفنا الساعة من الظهر قال : فصلوا العصر، فقمنا فصلينا فلما انصرفنا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ).
وروى البخاري في المواقيت ( ٥٤٩ ) مختصرا ولم يذكر فيه شاهد الحديث :( تلك صلاة المنافق... ).
x صفوة التفاسير محمد علي الصابوني ٣/٦٨١.
Icon