الدكتور عبد الله شحاتة
تفسير سورة الأحقاف
أهداف سورة الأحقاف
سورة الأحقاف مكية، وآياتها ٣٥ آية، نزلت بعد سورة الجاثية.
سورة الإيمان والتوحيد
تعرض سورة الأحقاف قضية الإيمان بوحدانية الله، وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه، والإيمان بالوحي والرسالة، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب، ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا. وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية، ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط، فتبقى حية حارة تبعث من التأثر الدائم بذلك الإيمان.
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل، وتوقع فيها على كل وتر، وتعرضها في مجالات شتى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية، كما أنها تجعلها قضية الوجود كله -لا قضية البشر وحدهم- فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن، كما تذكر موقف بعض بني إسرائيل منه، وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا، كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة، كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة، وتجعل من السماوات والأرض كتبا تنطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
أربعة مقاطع
تشتمل سورة الأحقاف على أربعة عناصر متماسكة كأنها عنصر واحد ذو أربعة مقاطع :
١- نقاش المشركين :
يبدأ المقطع الأول بالحرفين ( حا. ميم ). وهي بداية تكررت في ست سور سابقة تسمى بالحواميم. وهي : غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والسورة السابعة هي الأحقاف.
ونلحظ أن هذه السور السبع تبدأ بالحرفين ( حا. ميم )، ثم تعقب بذكر الكتاب، مما يؤيد أن هذه الأحرف نزلت على سبيل التحدي لأهل مكة أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
وتشير سورة الأحقاف في بدايتها إلى القرآن فتقول :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾. ( الأحقاف : ٢ ) وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون وقيامه على الحق وعلى التقدير والتدبير :﴿ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى... ﴾ ( الأحقاف : ٣ ). فيتوافق كتاب القرآن المتلو، وكتاب الكون المنظور، على الحق والتقدير.
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند إلى حق من القول ولا مأثور من العلم. ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ﴾. ( الأحقاف : ٧ ).
ثم يسوق إنكارهم للحق وتطاولهم على الوحي، واتهامهم النبي بالكذب والافتراء. ويرد عليهم بأن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة، وادعاءاتهم العابثة، إذ هو أمر الله العليم الخبير، يشهد ويقضى، وفي شهادته وقضائه الكفاية :﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ﴾. ( الأحقاف : ٨ ).
ثم يبين أن محمدا ليس بدعا من الرسل فقد سبقه رسل كثيرون، فهو مبلغ عن الله وملتزم بوحي السماء، ويسوق حجة أخرى على صدق رسالته، تتمثل في موقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل، حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى عليه السلام. ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية على هذا الإصرار، وهم يقولون عن المؤمنين :﴿ لو كان خيرا ما سبقونا إليه... ﴾ ( الأحقاف : ١١ ).
ويشير إلى كتاب موسى من قبله، وإلى تصديق هذا القرآن له، وإلى وظيفته ومهنته :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ﴾. ( الأحقاف : ١٢ ).
وفي نهاية المقطع الأول يصور لهم جزاء المحسنين، ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم بشرطها، وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾. ( الأحقاف : ١٣ ) فقد آمنوا بالله وأعلنوا ذلك، واستقاموا على منهج الإيمان فاستحقوا حياة كريمة في الدنيا، ونعيما خالدا في الآخرة.
٢- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة :
يحتوي المقطع الثاني على ست آيات هي الآيات من ( ١٥-٢٠ )، وفيها حديث عن الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف.
يبدأ بالوصية بالوالدين، وكثيرا ما ترد الوصية بالوالدين لاحقة للكلام عن العقيدة، لبيان أهمية الأسرة والعمل على ترابطها، وتذكير الإنسان بأصل نعمته ورعايته.
وتذكرنا الآيات بجهود الأم وفضلها في الحمل والولادة والرضاع.
" إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية، تسعى للالتصاق بجدار الرحم وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله، فيتوارد دم الأم على موضعها حيث تسبح هذه البويضة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصه لتحيا به وتنمو، وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول.
وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير، ذلك أنها تعطى محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير، وهذا كله قليل من كثير.
ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة تلبية الفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تفيض وتمتد بينما هي تذوي وتموت.
ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي مع هذا وذاك فرحة سعيدة رحيمة ودود، لا تمل أبدا، ولا تراها كارهة لتعب هذا الوليد، وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد " ١.
وقد تكررت وصية القرآن للأبناء ببر الآباء، لأن الوالدين قدما كل شيء، كالنبتة التي ينمو بها النبات فإذا هي قشة، وكالبيضة التي ينمو منها الكتكوت فإذا هي قشرة.
ومن الواجب رد الجميل والعرفان بالفضل لأهله، وأن يحسن الإنسان إلى أصله وأن يدعو لهما، وهو نوع من تكافل الأجيال، قال تعالى :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ١٥ ) ﴾. ( الأحقاف : ١٥ ).
وهذا النموذج الذي نشاهده في الآية، نموذج للفطرة المستقيمة التي ترعى أصلها وتتعهد ذريتها، وهذا النموذج يقبل الله عمله ويحشره في أصحاب الجنة.
أما النموذج الثاني فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال، نموذج ولد عاق يجحد معروف والديه، وينكر البعث والجزاء ويقول :﴿ ما هذا إلا أساطير الأولين ﴾. ( الأحقاف : ١٧ ).
وهذا النموذج جدير بالخسران، لقد خسر اليقين والإيمان في الدنيا، ثم خسر النعيم والرضوان في الآخرة.
وينتهي هذا المقطع من السورة بعرض هذين النموذجين ومصيرهما في النهاية، ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة حيث يعرض المتكبرون على النار، وفي ذلك المشهد نرى الغائب شاهدا ماثلا يستحث النفوس على الهدى، ويستجيش الفطر السليمة القوية لارتياد الطريق الواصل المأمون.
٣- قصة عاد :
يتناول المقطع الثالث من السورة قصة عاد، وهم قوم نبي الله هود، ويشمل الآيات ( ٢٠-٢٨ ).
والقصة هنا تخدم الفكرة وتؤيدها، فقد أنكر أهل مكة رسالة النبي محمد، وأعرضوا عن دعوته، فجاء هذا المقطع يذكرهم بأشباههم وينذرهم أن يصيبهم ما أصاب السابقين.
﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾ ( الأحقاف : ٢١ ). وأخو عاد هو هود عليه السلام، دعا قومه إلى التوحيد، وحذرهم من عذاب الله.
والأحقاف جمع حِقف، وهو الكثيب المرتفع من الرمال، وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة، ويقال إنها كانت في حضرموت.
وقد أنذر أخو عاد قومه ودعاهم إلى عبادة الله وحده، وحذرهم بطشه وانتقامه، ولم تؤمن عاد برسالة هود وقابلت دعوته بسوء الظن وعدم الفهم والتحدي والاستهزاء، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به، فلما رأوا العذاب في صورة سحابة ظنوه مطرا مفيدا لهم :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) ﴾. ( الأحقاف : ٢٤-٢٥ ).
وتقول الروايات إنه أصاب القوم حر شديد، واحتبس عنهم المطر، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف، ثم ساق الله إليهم سحابة ففرحوا بها فرحا شديدا، وخرجوا يستقبلونها في الأودية وهم يحسبون فيها الماء :﴿ قالوا هذا عارض ممطرنا... ﴾ وجاءهم الرد بلسان الواقع :﴿ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها... ﴾ وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى كما جاء في صفتها :﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ﴾. ( الذاريات : ٤٢ ).
لقد اندفعت الريح تحقق أمر الله وتدمر كل شيء بأمر الله، فهلك القوم بجميع ما يملكون من أنعام ومتاع وأشياء، وبقيت مساكنهم خالية موحشة لا ديار فيها ولا نافخ نار.
ويلتفت السياق إلى أهل مكة يلمس قلوبهم، ويحرك وجدانهم، ويذكرهم بأن الهالكين كانوا أكثر منهم تمكنا في الأرض، وأكثر مالا ومتاعا وقوة وعلما، فلم تغن عنهم قدرتهم ولا قوتهم، ولم يغن عنهم ثراؤهم، ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، بل أغلقوا قلوبهم عن سماع الحق، ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتخذوها تقربا إلى الله.
وكذلك يقف المشركون في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم، فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم، ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل، خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير، وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل، وتبدو
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
المفردات :
حم : تقرأ ( حا ميم )، وهما حرفان من حروف المعجم للتنبيه، أو للتحدي والإعجاز، كما سبق في أول سورة البقرة.
التفسير :
١- ﴿ حم ﴾.
حرفان من حروف المعجم، للتنبيه أو للتحدي والإعجاز، وبيان أن هذه الأحرف المقطعة مبنى كتاب الله العزيز، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
التفسير :
٢- ﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾.
هذا الكتاب منزل من عند الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن صفة الله سبحانه أنه، ﴿ العزيز ﴾ : الغالب وهو القاهر فوق عباده، وهو سبحانه، ﴿ الحكيم ﴾. في خلقه وتدبيره.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
المفردات :
وأجل مسمى : هو يوم القيامة.
أنذروا : خوفوا.
معرضون : مدبرون، لاهون.
التفسير :
٣- ﴿ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ﴾.
إن هذا الكون بما فيه من سماء وأرض وفضاء، لم يخلق عبثا، بل أبدعته يد القدرة الإلهية، لحكمة عليا هي الاختبار والابتلاء، وإعطاء الإنسان فرصة في هذه الدنيا، ومعه قدرة وإرادة واختيار للسلوك الذي يفضله، فمن أطاع الله فله الجنة، ومن عصى الله فله النار، وحياة هذا الكون لمدة محددة هي عمر الدنيا، فإذا انتهت الحياة على هذه الأرض، بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وبرز الجميع لله الواحد القهار، لكن الكفار لم يستمعوا لهذا الكتاب، ولا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن دين الإسلام، وهو سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
المفردات :
أرأيتم : أخبروني.
لهم شرك : شركة ونصيب.
أثارة من علم : بقية من علم.
التفسير :
٤- ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
أخبروني أيها الكفار، هل الأصنام أو الأوثان أو الجن أو الملائكة، أو جميع ما تعبدون من دون الله، هل هذه المعبودات الزائفة خلقت شيئا من هذا الكون البديع ؟ أروني هذا الذي خلقته من الأرض، هل خلقت الماء أو اليابس ؟ الشرق أو الغرب ؟ السهل أو الجبل ؟ الحيوان أو الإنسان ؟ والجواب معلوم : إن أحدا لم يدع مطلقا أنه خلق الأرض، ولا جانبا منها، لأن هذه المعبودات الزائفة لا تقدر على خلق شيء من ذلك، وهذه الأرض لم تخلق نفسها، فلم يبق إلا أن تكون من خلق الله.
ثم قل لهم أيها الرسول الكريم :﴿ أم لهم شرك في السماوات... ﴾
أي : تدرج معهم واسألهم : هل لهم مشاركة وإسهام في خلق السماوات ؟
هل ساعدوا الله وأعانوه في خلق شيء من ذلك ؟ والجواب معلوم، ولكن القرآن يستمر في مناقشتهم وتحديهم بأن يثبتوا بأي حجة أو دليل، يفيد أن هذه المعبودات قد خلقت أي شيء في الأرض أو السماء حتى تعبد.
﴿ ائتوني بكتاب من قبل هذا... ﴾
أي : هل عندكم كتاب من الكتب المنزلة قبل القرآن، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، تشهد بأن هذه المعبودات الزائفة قد خلقت شيئا، أو جانبا من الأرض أو السماء ؟ وإذا لم تكن عندكم وثيقة مكتوبة تثبت ذلك، فهل عندكم بقية من علوم الأولين تنطق باستحقاق هذه المعبودات للعبادة، أو أنهم خلقوا شيئا من الأرض، أو اشتركوا في خلق السماوات ؟ هل لديكم أي دليل نقلي أو عقلي يثبت لهذه الأصنام خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
﴿ إن كنتم صادقين ﴾.
فقدموا ما يثبت صدقكم، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي، وحيث إنه لا دليل لكم فقد ثبت بطلان كفركم، وأقيمت الحجة عليكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
التفسير :
٥- ﴿ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ﴾.
لا أحد أشد ضلالا ممن يعبد من دون الله أصناما أو أوثانا أو جنا أو ملائكة، وهذه المعبودات لا تسمع ولا تبصر، ولا تستجيب لمن يدعوها، أو تدفع عنه ضرا، أو تملك له نفعا، لأنها مخلوقات فانية، ولأن الملائكة مرتبطة بطاعة الله، والتزام أوامره، وهي لا ترضى أن يعبد أحد من دون الله، وهذه الأصنام وغيرها غافلة من هذه العبادة لا تحس بها.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
بدأ الله هذه السورة بمثل ما بدأ به سورة الجاثية، وأتبع ذلك ببيان أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، ولوقت معين ينتهي فيه عمر هذا الكون :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ومن الحق أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء في الآخرة، بيد أن الكفار أعرضوا عن الاستماع للوحي، أو الاهتداء به، وهنا يسألهم الله : هل اشتركت هذه الأصنام في خلق الأرض أو في خلق السماوات ؟
هل عندكم كتاب -مثل التوراة والإنجيل- يثبت للأصنام أو الأوثان أو غيرها خلقا للأرض، أو مشاركة في خلق السماء ؟
وهل لديكم بقية من علم تثبت هذا، وإذا لم تكن لديكم وثيقة مكتوبة، ولا أثر معقول، فعلى أي شيء تعتمدون في عبادة هذه الأصنام ؟
وفي يوم القيامة تتبرأ الأصنام ممن عبدها، وتعلن العداء لمن عبدها من دون الله، وتندد بهذه العبادة.
المفردات :
حشر : جمع.
كافرين : مكذبين.
التفسير :
٦- ﴿ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ﴾.
وإذا قامت القيامة واجتمع الناس في صعيد واحد، ووقف الكل أمام الجبار للقضاء، تبرأت الأصنام ممن عبدها، كما يتبرأ عيسى عليه السلام ممن اتخذه إلها هو وأمه، ورفض الجميع كل عبادة لهم.
قال تعالى :﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ﴾. ( فاطر : ١٤ ).
وقال عز شأنه :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ﴾. ( مريم : ٨١، ٨٢ ).
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( ٧ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٨ ) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( ٩ ) ﴾
المفردات :
تتلى : تقرأ.
بينات : واضحات.
التفسير :
٧- ﴿ وإذا تتلى عليهم آيات بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ﴾.
وإذا قرأت عليهم القرآن واضحا جليا ميسرا، أنكر الكفار أن يكون هذا القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وقالوا : هذا سحر مبين، أي هذا سحر واضح، وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا.
افتراه : نسبه كذبا إلى الله.
تفيضون : تندفعون وتخوضون فيه.
التفسير :
٨- ﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ﴾.
في هذه الآية رد على الكفار، وبيان لعظمة الألوهية، وإطلاع الله على كل شيء، وأنه منتقم ممن كذب عليه، وهو الحكم بين النبي وقومه، وهو سبحانه غفور لمن تاب، وقد جمعت الآية بين تعظيم الله جل جلاله والرد على اتهام الكفار للرسول، وفتح الباب أمام توبة التائبين منهم.
ومعنى الآية :
بل أيقولن إن محمدا افترى هذا القرآن واختلقه من عند نفسه، وثم نسبه زورا إلى الله ؟
ثم يلقن الله رسوله الحجة ليقول لهم :
﴿ إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا... ﴾
أي : لمن أفتري ؟ ألأجل أن أكسب أتباعا يؤمنون برسالتي من البشر ؟ إن الله أقوى من كل قوي، وهو على كل شيء قدير، وإذا كذبت عليه فمن يعصمني من بطشه وأخذه وقوته.
والخلاصة : أنا لا أكسب مخلوقا وأسخط خالقا، لأن هذا الخالق إذا غضب علي فلن يملك أحد منكم أن يعصمني من عقوبته لي.
﴿ هو أعلم بما تفيضون فيه... ﴾
لقد أحاط علم الله بكل شيء، وبما تندفعون فيه من القول، واتهامكم للقرآن بأنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين، واتهامكم لمحمد صلى الله عليه وسلم بصنوف الفِرى.
﴿ كفى به شهيدا بيني وبينكم... ﴾
إن الله تعالى يشهد لي بالصدق، وبأنه أنزل القرآن من عنده على محمد صلى الله عليه وسلم، وكفى بشهادة الله تعالى شهادة تكفيني وتشرفني، وقد رضيت بحكمه بيني وبينكم، وفي ذلك من تعظيم الله والرضا بشهادته وإطلاعه، وتهديد الكافرين بما يستحقونه من عقوبة الله الشهيد على كل نفس بما كسبت.
﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾.
من قصد بابه تائبا غفر له وشمله برحمته وفضله، ونعمته وقبوله، فما أوسع فضله، وما أوسع رحمته لمن تاب إليه ورجع إلى مرضاته.
قال تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء... ﴾ ( الأعراف : ١٥٦ ).
بدعا : البدع بالكسر : الشيء المبتدع.
قال الرازي : والبدع والبديع من كل شيء المبدع، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجودا قبله بحكم السنة.
إن أتبع : ما أتبع.
التفسير :
٩- ﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ﴾.
لقد أرسل الله الرسل قبلي، وأنزل عليهم الكتب، واتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وبشر عيسى قومه برسالة أحمد صلى الله عليه وسلم، فرسالتي إليكم ليست بالأمر البديع أو الغريب.
أما الغيب فعلمه عند الله، وكان المشركون قد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بمعجزات، والإخبار عن مغيبات، فأنزل الله عليه هذه الآية لتفيد الآتي :
- لست أول من أرسله الله رسولا.
- أنا بشر يوحى إلي، أؤدي واجبي في تبليغ الرسالة والجهاد في سبيلها، أما الغيب فعلمه عند الله، والمعجزات يأتي بها الله حين يشاء هو، لا تلبية لطلب المشركين.
- أنا أتبع الوحي وأبلغه، وأنفذ ما يدعوني إليه ربي.
- رسالتي لا تقوم على المعجزات المادية، فالقرآن أسلوب يخاطب العقل والفطرة، ويحذر من معصية الله، وأنا أحذركم عقاب الله تعالى، على نحو واضح لكل عاقل.
وقد أورد ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث الصحيحة عند تفسيره لهذه الآية، منها ما رواه أحمد، والبخاري، عن أم العلاء -وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت : لما مات عثمان بن مظعون، قلت : رحمك الله أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك أن الله أكرمه ؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله، ما يفعل بي ولا بكم )، قالت أم العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحدا٣.
قال المفسرون :
وفيه دليل على أنه لا يقطع لشخص معين بالجنة، إلا الذين نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة المبشرين بالجنة٤، وعبد الله بن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، ومن أشبه هؤلاء رضي الله عنهم.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي تعليقا طويلا على قوله تعالى في هذه الآية :
﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم... ﴾
ثم قال القرطبي : والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد، عن الحسن :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ﴾.
قال أبو جعفر الطبري : وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة، ورخص وغلاء، وغنى وفقر.
ومثله قوله تعالى :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير... ﴾ ( الأعراف : ١٨٨ ).
وقال المهايمي :
﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم... ﴾
أي : فيما لم يوح إلي، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي، ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذبا من عندي٥.
من تفسير ابن كثير
قال عكرمة والحسن وقتادة٦ :
إن قوله تعالى :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم... ﴾ منسوخ بقوله تعالى :﴿ ليفغر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر... ﴾ ( الفتح : ٢ ).
ولما نزلت هذه الآية قالوا : هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ﴾. ( الفتح : ٥ ).
قال المفسرون :
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يئول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا، أما في الآخرة فهو صلى الله عليه وسلم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وذلك في الجملة٧ اه.
خاطرة
ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أن الله تعالى زوى الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم :( وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي من الأرض، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل ). ٨
وفي البخاري ما يفيد أن رجلا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يركبون ثبج البحر غزاة في سبيل الله، كأنهم الملوك على الأسرة٩.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته بفتح القطر المصري، وقال :( سيفتح عليكم بعدي بلد يذكر فيه القيراط، فاستوصوا بأهله خيرا فإن لهم ذمة ورحما )١٠.
وروح الأحاديث النبوية تبشر بنصر هذه الأمة، وفي غزوة الخندق اعترضت المسلمين صخرة لم يستطيعوا كسرها، فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول المعول وضرب الصخرة فصارت كثيبا أهيل، وقال للمسلمين :( إن الله أضاء لي منها كنوز كسرى وقيصر )١١.
كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بن جشعم، وقال له :( أسلم يا سراقة ولك سوار كسرى )١٢، وكل هذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بالنصر، وبشر أمته بذلك.
وخلاصة الأمر : أن القضاء والقدر في علم الله، ولا يعلم الغيب إلا الله، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه، وهو لا يعلم الغيب، كما قال القرآن الكريم :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء... ﴾ ( الأعراف : ١٨٨ ).
لكن الله تعالى بشره في الجملة بنصره على المشركين، وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بنصر الإسلام على بلاد الفرس والروم والحيرة ومصر وغيرها.
وفي القرآن الكريم طائفة من هذه البشارات، مثل قوله تعالى :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾. ( الصف : ٨، ٩ ).
ومثل قوله سبحانه :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ﴾. ( الروم : ٤، ٥ ).
وقوله عز شأنه :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾. ( المجادلة : ٢١ ).
وقوله عز شأنه :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾. { الروم : ٤٧ ).
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ ) ﴾.
سبب النزول :
أفادت الأحاديث الصحيحة أن الآية العاشرة من سورة الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام، حيث إنه قد شهد بصحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التوراة قد بشرت برسالته صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٣.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه )، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال : كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال : أي رجل تعلمونني يا معشر اليهود ؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا : كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا فأنزل الله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾١٤.
وفي تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٥.
وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام١٦.
المفردات :
قل أرأيتم : أخبروني ماذا تكون حالكم.
إن كان من عند الله : إن كان القرآن من عند الله.
وشهد شاهد : وشهد عبد الله بن سلام.
على مثله : على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند الله.
فآمن : الشاهد.
واستكبرتم : تكبرتم عن الإيمان، ألستم ظالمين ؟
التفسير :
١٠ – ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
كان عبد الله بن سلام من أحبار اليهود، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة جاء إليه عبد الله ابن سلام، وقال : لما نظرت إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم قلت : ما هذا بوجه كذاب، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة لا يعلمها إلا نبي :
الأول : ما أول أشراط الساعة ؟
الثاني : ما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟
الثالث : ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإذا سبق ماء المرأة نزعته )، فقال : أشهد أنك رسول الله حقا١٧.
ومعنى الآية الكريمة :
أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة، وأعلنتم كفركم به، ثم شهد شاهد من أهل الكتاب على صدق القرآن، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وشهد أن القرآن منزل من عند الله، وأن القرآن مماثل لما بشرت به التوراة، ثم آمن هذا الشاهد بالقرآن والإسلام، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، واستكبرتم عن الإيمان بالله، ألستم ظالمين خاسرين ؟
وبعبارة أخرى :
ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان القرآن الذي أنزل علي من عند الله، وقد كفرتم به وكذبتموه، مع أن شاهدا من بني إسرائيل قد شهد أن القرآن مماثل لما في التوراة، وأن في التوراة بشارة بالنبي محمد، فآمن هذا الشاهد ودخل في الإسلام، واستكبرتم عن الدخول فيه، ألستم ظالمين ؟
إذن فاعلموا :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾. أي : لا يوفقهم إلى الهدى والإيمان.
وجمهور المفسرين على أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، لكن عبد الله بن سلام لم يدخل في الإسلام إلا في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وسورة الأحقاف مكية، لذلك قال علماء القرآن : هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة، أمر الله أن توضع في سورة مكية، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية قال :( ضعوا هذه الآية في سورة كذا )، وعنوان السورة مكتوب في المصحف هكذا :( سورة الأحقاف مكية، إلا الآيات : ١٠، ١٥، ٣٥ فمدنية ).
وأفاد الإمام القرطبي في تفسير الآية أن جمهور المفسرين على أنه عبد الله بن سلام، وقد نزل فيه قوله تعالى :﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾. ( الرعد : ٤٣ ).
وبعض المفسرين ذكر أن الشاهد من بني إسرائيل هو موسى عليه السلام، فقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذكرت التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم اه.
ويمكن لنا أن نقول : إن موسى عليه السلام بشر برسالة محمد، كما وردت صفته في التوراة، كما صدق برسالة محمد بعض علماء بني إسرائيل في المدينة، فأراد الله أن يزلزل إصرار أهل مكة على الكفر، فأخبرهم بأن هذا كتاب صادق، وأن محمدا نبي صادق، قد أيده موسى رسول الله، وسيؤيده بعض علماء بني إسرائيل، وتكون الآية من المبشرات.
وقد أفاد القاسمي في تفسيره ( محاسن التأويل ) أن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع، كقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الأعراف... ﴾ ( الأعراف : ٤٨ ).
ويرشحه أن الفعل :﴿ وشهد ﴾، معطوف على الشرط الذي يصير به للماضي مستقبلا، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بيانا للواقع، أي أن الآية يمكن أن تنطبق على إسلام عبد الله بن سلام في المستقبل١٨.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ ) ﴾.
سبب النزول :
أفادت الأحاديث الصحيحة أن الآية العاشرة من سورة الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام، حيث إنه قد شهد بصحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التوراة قد بشرت برسالته صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٣.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه )، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال : كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال : أي رجل تعلمونني يا معشر اليهود ؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا : كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا فأنزل الله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾١٤.
وفي تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٥.
وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام١٦.
المفردات :
لو كان خيرا ما سبقونا إليه : لو كان ما جاء به محمد من القرآن والإيمان خيرا، ما سبقنا إليه المؤمنون.
وإذ لم يهتدوا به : أي بالقرآن العظيم.
إفك قديم : كذب من كذب الأولين.
التفسير :
١١- ﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ﴾.
سبب نزول هذه الآية دخول جماعة من الفقراء والضعفاء في الإسلام بمكة، واعتزاز الأغنياء والأقوياء بمكانتهم، وأنفتهم من الدخول في الإسلام، خوفا على وجاهتهم، ورغبة في الاستمرار في الزنا وشرب الخمر، واستغلال الفقراء والضعفاء، من أجل ذلك نزلت هذه الآية ترد عليهم، وتحكي قولهم، وتناقش تعسفهم.
والمعنى :
وقال الذين كفروا من أهل مكة، أو من يهود المدينة : لو كان دين محمد حقا، ما سبقنا إليه الفقراء والضعفاء والأراذل من الناس، فنحن أغنياء وأقوياء وأمراء، ولنا وجاهة عند الناس، وما أعطانا الله هذه الوجاهة إلا ولنا وجاهة عنده، وفي هذا المعنى قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾. ( الزخرف : ٣١ ).
وما علموا أن شرف النفوس واستعدادها لقبول الحق فطرة فطر الله الناس عليها، فالهداية ليست قاصرة على الأغنياء كما زعموا، بل هي منحة إلهية، يهبها الله للنفوس الراغبة في الحق، المشتاقة إلى الصدق، التي تتبع الهدى عند ظهوره، ولا تتكبر ولا تستنكف عن السير وراء الحق إذا ظهر نوره لها.
قال تعالى :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله... ﴾ ( الزمر : ٢٢ ).
لقد قاس هؤلاء أمر الدين على أمر الدنيا، وما علموا أن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب.
﴿ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ﴾.
وحين لم تدخل الهداية إلى الإسلام قلوبهم، ولم يستمعوا للقرآن استماع منصت متفهم، ولم ينظروا للإسلام نظرة باحث راغب في معرفة الحق، ولم يسيروا في طريق الهدى، ولم يأخذوا في أسباب النظر والتفكر في هذا الدين، فقد اخترعوا زيفا وبهتانا، فقالوا : إن الإسلام والقرآن كذب قديم مفترى.
قيل لبعضهم : هل في القرآن :( من جهل شيئا عاداه ) ؟ قال : نعم، قوله تعالى :﴿ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ﴾. وقوله سبحانه :﴿ بل كذبوا بما لم يجحدوا بعلمه... ﴾ ( يونس : ٣٩ ).
من تفسير ابن كثير باختصار
﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه... ﴾
أي : قالوا عن المؤمنين بالقرآن : لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون ( بلالا ) و( عمارا ) و( صهيبا ) و( خبابا ) رضي الله عنهم، وأشباههم من المستضعفين والعبيد والإماء، ولقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطأوا خطأ بينا، كما قال تبارك وتعالى :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا... ﴾ ( الأنعام : ٥٣ ).
أي : يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا، ولهذا قالوا :﴿ لو كان خيرا ما سبقونا إليه... ﴾
وقوله تعالى :﴿ وإذ لم يهتدوا به ﴾. أي : بالقرآن.
﴿ فسيقولون هذا إفك قديم ﴾.
أي : كذب قديم مأثور عن الناس الأقدمين، فينتقضون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه :( الكبر بطر الحق وغمط الناس ).
و( بطر الحق )، أي : دفعه وعدم قبوله، و( غمط الناس )، أي : احتقارهم وازدراؤهم.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ ) ﴾.
سبب النزول :
أفادت الأحاديث الصحيحة أن الآية العاشرة من سورة الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام، حيث إنه قد شهد بصحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التوراة قد بشرت برسالته صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٣.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه )، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال : كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال : أي رجل تعلمونني يا معشر اليهود ؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا : كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا فأنزل الله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾١٤.
وفي تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٥.
وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام١٦.
المفردات :
وهذا كتاب مصدق : القرآن مصدق للكتب التي سبقته.
التفسير :
١٢- ﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ﴾.
من قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة على موسى، مشتملة على حكم الله ودينه في التشريع والقصاص والعقائد، والعبادات والمعاملات، فالتوراة إمام حاكم، وتشريع عادل، ورحمة للعباد ببيان حكم رب العباد، وهذا القرآن مصدق للتوراة مؤيد لها، مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية، يوافقها في الأصول التي قامت عليها، وهي الدعوة إلى التوحيد، وبيان مكارم الأخلاق، والإيمان بالكتب والرسل واليوم الآخر.
وقد أنزل الله القرآن باللسان العربي، تشريفا للعرب المرسل إليهم، وليحذر الظالمين من ظلمهم، ويبشر المحسنين برضوان الله في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ ) ﴾.
سبب النزول :
أفادت الأحاديث الصحيحة أن الآية العاشرة من سورة الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام، حيث إنه قد شهد بصحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التوراة قد بشرت برسالته صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٣.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه )، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال : كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال : أي رجل تعلمونني يا معشر اليهود ؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا : كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا فأنزل الله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾١٤.
وفي تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٥.
وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام١٦.
التفسير :
١٣- ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
هؤلاء الذين أعلنوا إيمانهم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
﴿ قالوا ربنا الله... ﴾
هو الله الجليل العلي الكبير، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، هو ربنا وخالقنا وإلهنا، به آمنا، وبشرعه التزمنا.
﴿ ثم استقاموا... ﴾
لازموا الاستقامة، وهي إتباع المأمورات، واجتناب المنهيات، هي السير على طريق الإسلام، وهدى القرآن، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، هي الاستقامة على الصراط المستقيم الموصل إلى رضوان الله في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة.
﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
والخوف هو التوجس والرهبة وتوقع الشر من أمر ما في المستقبل، والحزن هو الخوف على أولادهم أو أحفادهم أو أي أمر من أمور حياتهم.
أي أن هؤلاء المؤمنين الذين آمنوا بالله واستقاموا على شريعته وهداه، لا خوف عليهم في مستقبل أمرهم، فهم أهل لمرضاة الله وجنته.
﴿ ولا هم يحزنون ﴾.
على خطر أو كرب ينزل بأحيائهم، إنهم موصولون بالله، راضون بحكمه، شاكرون على نعمائه، صابرون على قضائه. فكيف يخافون أو يحزنون وهم في معية الرحمان ؟
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ ) ﴾.
سبب النزول :
أفادت الأحاديث الصحيحة أن الآية العاشرة من سورة الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام، حيث إنه قد شهد بصحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التوراة قد بشرت برسالته صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٣.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه )، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال : كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال : أي رجل تعلمونني يا معشر اليهود ؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا : كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا فأنزل الله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾١٤.
وفي تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله... ﴾١٥.
وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام١٦.
التفسير :
١٤- ﴿ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ﴾.
هؤلاء المذكورون سابقا هم أصحاب الجنة، ملازمون لها ملازمة المالك لداره، فهم أصحابها وأهلها، والمنعمون فيها، والخالدون فيها خلودا أبديا سرمديا، بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا، والآية دعوة لنا جميعا إلى العمل الصالح النافع المفيد، الذي يرقى بنا في الدنيا فيجعلنا سادتها، ويجعلنا الأمة الوسط المحترمة في دينها وشرعها، والعمل هو الذي يجعل الجنة جزاء عادلا لنا، لقوله تعالى :﴿ بما كانوا يعملون ﴾.
قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ).
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( ١٦ ) ﴾
تمهيد :
تحدثت آيات سابقة عن توحيد الله سبحانه وتعالى، وهنا وصية ببر الوالدين، وعادة يوصى القرآن الكريم ببر الوالدين بعد الأمر بعبادة الله وحده.
كقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ﴾ ( الإسراء : ٢٣ ).
المفردات :
ووصينا : أرشدنا وأمرنا وألزمنا وبينا له الطريق القويم ليسلكه، وهو بر والديه.
إحسانا : أن يفعل معهما فعلا ذا حسن.
كرها : فعلا ذا كره ومشقة وتعب في الحمل والوضع.
وفصاله : الفصال : الفطام، وهو مصدر ( فاصل )، فكأن الولد فاصل أمه، والأم فاصلته.
أشده : كمال عقله وقوته ورشده.
أوزعني : ألهمني ووفقني ورغبني.
التفسير :
١٥- ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
تكررت وصايا القرآن الكريم بالوالدين، وجعل هذه الوصية بعد عبادة الله تعالى، وخص القرآن الأم بمزيد من العناية بسبب العناء الذي تحملته في الحمل والولادة والرضاعة والفصال والرعاية.
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا... ﴾
ألزمنا وأمرنا وأرشدنا الإنسان أيا كان، بإكرام والديه وبرّهما، ورعايتهما والإحسان إليهما، ودفع الأذى عنهما، وعدم إيذائهما أي إيذاء.
وقد ورد أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، حيث أسلم والداه جميعا، وأسلم أولاده، ورأى أولاده النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا جميعا، ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص.
ونلاحظ مع ذلك أن الآية عامة في كل إنسان ملتزم، وأن العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم خص القرآن الأم بمزيد عناية، فقال :
﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا... ﴾
ما أشق آلام الحمل والوضع والكفالة والرضاع والفصال، بمجرد أن يتم تلقيح الحيوان المنوي لبويضة الأنثى، فإنها تسعى للالتصاق بجدار الرحم، وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله، فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصه لتحيا به وتنمو، والأم تأكل وتشرب ثم تعطي محلول أكلها وعظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير، وهذا كله قليل من كثير، فالحمل ومدته الطويلة وآلامه ومشقاته، والولادة ومشقاتها، والرضاع وفيه يمتص الوليد خلاصة دم الأم، ويرضع اللبن من أمه، ويستمد منها كل عافيته وهذا معنى :﴿ حملته أمه كرها ﴾. قاست في حمله مشقة وتعبا، من وحم وغثيان وثقل وكرب، ﴿ ووضعته كرها ﴾. حيث قاست آلام الطلق وشدته، ووجع الولادة وآلامها.
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا... ﴾
أي : مدة حمله ورضاعه ورعايته ثلاثون شهرا، عامان ونصف عام، كلها عطاء حسي ومعنوي، وعناء السهر والغذاء، والتنظيف والتربية، بمحبة وحنان، دون ضجر ولا سأم، ولذلك تأكد حق الأم، وتقدم على حق الأب، لأن الأم أكثر عطاء.
أخرج البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال :( أمك )، قال : ثم من ؟ قال :( أمك )، قال : ثم من ؟ قال :( أمك )، قال : ثم من ؟ قال :( أبوك )١٩.
﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة... ﴾
حتى إذا تناهى عقله ورشده وقوته في الفترة من الثلاثين إلى الأربعين، ويكمل الأشد ببلوغ الأربعين، لذلك قيل : إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين، إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام.
﴿ قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي... ﴾
هو إنسان مؤمن مخلص ملتزم قد امتد عمره إلى كماله وقوته، فمد يده إلى الله طالبا توفيقه وعنايته وفضله، في أن يلهمه الله شكره على النعم التي أنعم بها عليه وعلى والديه، من الهداية إلى الحق والتوحيد، وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة والعافية، وسعة العيش وحنان الأبوين حين عطائهما وتربيتهما، ومن نعم الآخرة مثل الهداية والتوفيق.
﴿ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي... ﴾
وفقني يا رب للعمل الصالح الذي يرضيك وتقبله، فنعم العمل إذا كان في مرضاة الله، وإذا حظي بالتوفيق والقبول، ويمتد الدعاء إلى الذرية وتوفيق الله لها فيقول :﴿ وأصلح لي في ذريتي... ﴾
أي : اجعل الصلاح والتوفيق والهداية في ذريتي، اجعلها صالحة نافعة ملتزمة تسير في الطريق المستقيم.
﴿ إني تبت إليك وإني من المسلمين ﴾.
إني رجعت إليك تائبا منيبا، نادما على ما فرطت في جنب الله، وإني من المسلمين المنقادين لطاعتك، الملتزمين بأوامرك، الخاضعين لربوبيتك.
قال ابن كثير : وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، ويعزم عليها.
قال شيخ زادة في حاشيته على تفسير البيضاوي :
طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء :
الأول : أن يوفقه الله للشكر على النعمة.
الثاني : أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عنده تعالى.
الثالث : أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية. اه.
من تفسير ابن كثير
روى الحافظ الموصلي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه في أهل بيته، وكتب في السماء أسير الله في أرضه )٢٠.
أقل مدة الحمل
استدل العلماء بهذه الآية الكريمة مع قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة... ﴾ ( البقرة : ٢٣٣ ).
على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين، واستشهد ابن كثير بما رواه محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فذكر لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فأمر عثمان برجمها، فبلغ ذلك عليا، فقال لعثمان : أما تقرأ القرآن ؟ فقال : بلى، قال : أما سمعت الله عز وجل يقول :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾. وقال :﴿ حولين كاملين ﴾. فما نجده بقي إلا ستة أشهر، قال عثمان : والله ما فطنت لهذا.
وروى ابن كثير أن قوما نالوا من عثمان رضي الله عنه، ثم سألوا عليا عن عثمان، فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى عنهم :﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ﴾. ( الأحقاف : ١٦ ).
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( ١٦ ) ﴾
تمهيد :
تحدثت آيات سابقة عن توحيد الله سبحانه وتعالى، وهنا وصية ببر الوالدين، وعادة يوصى القرآن الكريم ببر الوالدين بعد الأمر بعبادة الله وحده.
كقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ﴾ ( الإسراء : ٢٣ ).
المفردات :
نتقبل عنهم : القبول هو الرضا بالعمل، والإثابة عليهم.
في أصحاب الجنة : منتظمين في سلك أصحاب الجنة، كما تقول : أكرمني الأمير في أصحابه، أي : منتظما في سلكهم.
التفسير :
١٦- ﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ﴾.
هذه العينة الممتازة من هذا الإنسان البار بوالديه، المتبتل إلى ربه، الراغب في شكر الله على نعمائه، الراغب في توفيقه للصلاح، والراغب في هداية ذريته وصلاحهم، والمتبع ذلك بالتوبة إلى الله، والعمل بالإسلام، والانضمام لجماعة المسلمين، هؤلاء المذكورون نتقبل منهم أحسن أعمالهم، ونتفضل عليهم بالتوبة والمغفرة لسيئاتهم، حال كونهم ضمن أصحاب الجنة، فهم من أهل الجنة وفي عداد أهلها، وأكرم بذلك من صحبة ونعمة، لقد أكرمهم بالجزاء الحسن، والقبول الحسن، والمغفرة، تحقيقا لوعدنا الصادق على ألسنة الرسل بمكافأة المتقين، في مثل قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. { الكهف : ٣٠ ).
وقوله عز شأنه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
وقوله سبحانه :﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ﴾. ( آل عمران : ١٩٤ ).
﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ١٨ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٩ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( ٢٠ ) ﴾
تمهيد :
هذا نموذج آخر لوالدين مؤمنين، يدعوان ولدهما للإسلام والإيمان، فيأبى ويكذب بالبعث، وهما يستغيثان بالله أن يهديه، لكنه يزداد كفرا وعنادا، ويستحق ما أعد الله له من العقوبة في جهنم.
المفردات :
أف لكما : صوت يصدر عن المرء عند تضجره.
أخرج : أبعث من القبر للحساب.
خلت القرون من قبلي : مضت الأزمان ولم يخرج منها أحد.
يستغيثان الله : يلجأن إلى الله أن يدفع الكفر عن ولدهما.
ويلك : هلاكا لك، والمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الدعاء بالهلاك.
أساطير الأولين : أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة.
التفسير :
١٧- ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾.
زعم مروان بن الحكم أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد ردت عليه أم المؤمنين عائشة، والحق ما قالته رضي الله عنها، فإن عبد الرحمن بن أبي بكر هداه الله للإسلام والإيمان، وهذا النموذج توعده الله بالعذاب في جهنم، والآية عامة في كل كافر يكذب بالبعث ويسخر من الحساب.
والمعنى :
هذا الابن العاق لوالديه ولدينه ولربه، فهو يتضجر ويتأفف، ويتألم من دعوة والديه له إلى الإيمان، ويقدم حججا واهية، حيث يقول لهما :
﴿ أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي... ﴾
أي : أتذكرانني بالبعث والحشر والجزاء، مع أن طبقات متعددة من البشر قد ماتت ولم تعد إلينا، ولم يخبرنا أحد ممن ماتوا إن كان في جنة أو في نار.
والله تعالى لا يعجل لعجلة العباد، ولا يحيى الموتى بعد قرون معينة، بل يترك الدنيا وأهلها إلى انتهاء أجلها، ثم يبعث الناس جميعا مرة واحدة، فإذا نفخ إسرافيل في الصور صعق الناس جميعا وماتوا، ثم إذا نفخ مرة أخرى قاموا للبعث والحساب والجزاء.
﴿ وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق... ﴾
أي : وهما يستعظمان قوله وكفره، ويتضرعان إلى الله تعالى لهدايته، ويحذرانه من الكفر والجحود، ويستحثانه على الإيمان والهداية فيكون جوابه لهما.
﴿ ما هذا إلا أساطير الأولين ﴾.
ما هذه الأفكار التي تقولانها عن البعث والحشر والحساب والجزاء، وضرورة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إلا أكاذيب السابقين، وليس لهذه الأفكار ظل من الحقيقة.
﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ١٨ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٩ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( ٢٠ ) ﴾
تمهيد :
هذا نموذج آخر لوالدين مؤمنين، يدعوان ولدهما للإسلام والإيمان، فيأبى ويكذب بالبعث، وهما يستغيثان بالله أن يهديه، لكنه يزداد كفرا وعنادا، ويستحق ما أعد الله له من العقوبة في جهنم.
المفردات :
حق عليهم القول : ثبت ووجب عليهم قوله تعالى لإبليس :﴿ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾. ( ص : ٨٥ ).
خاسرين : ضيعوا عمرهم الشبيه برؤوس الأموال، بإتباعهم همزات الشياطين.
التفسير :
١٨- ﴿ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ﴾.
إن هؤلاء المكذبين بالبعث الكافرين بالله، أهل لعذاب جهنم، ولقوله تعالى لإبليس :﴿ قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾. ( ص : ٨٤، ٨٥ ).
وسيكون هذا وأمثاله في عداد أمم وجماعات من الجن والإنس، تركوا الهدى وأهملوا عقولهم وفكرهم، وساروا وراء الهوى، فكانوا خاسرين خسرانا حقيقيا، فقد باعوا الجنة ونعيمها وطاعة الرحمان، وآثروا جهنم وطاعة الشيطان.
﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ١٨ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٩ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( ٢٠ ) ﴾
تمهيد :
هذا نموذج آخر لوالدين مؤمنين، يدعوان ولدهما للإسلام والإيمان، فيأبى ويكذب بالبعث، وهما يستغيثان بالله أن يهديه، لكنه يزداد كفرا وعنادا، ويستحق ما أعد الله له من العقوبة في جهنم.
المفردات :
درجات : منازل، واحدها درجة، وهي المنزلة.
التفسير :
١٩- ﴿ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ﴾.
تحدثت آيات سابقة عن نموذج جيد لرجل مؤمن بلغ أربعين سنة، طلب من الله التوفيق للشكر وللعمل الصالح، وطلب منه توفيق ذريته للصلاح، ووعد بالتوبة والدخول في زمرة المسلمين، ثم تحدثت الآيتان ( ١٧، ١٨ ) من سورة الأحقاف، عن نموذج رديء منكر للبعث والحشر والجزاء، مستحق لدخول جهنم.
وهما نموذجان ظاهران :
الأول : مثل أعلى للإيمان والدعاء.
الثاني : مثل رديء للكفر والضلال، وسَوْق الحجج الزائفة.
وفي هذه الآية رقم ١٩ بيان أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ولكل عامل درجة مناسبة لعمله، وأن للنار دركات في شدة العذاب والسعير، ولكل كافر جزاء مناسب لكفره وجحوده، وسيملأ الله الجنة بالعدل والقسطاس، وسيملأ الله النار بالعدل والقسطاس، وسيلقى كل عامل جزاء عمله بلا ظلم.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾. ( النساء : ٤٠ ).
وقال عز شأنه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ١٨ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٩ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( ٢٠ ) ﴾
تمهيد :
هذا نموذج آخر لوالدين مؤمنين، يدعوان ولدهما للإسلام والإيمان، فيأبى ويكذب بالبعث، وهما يستغيثان بالله أن يهديه، لكنه يزداد كفرا وعنادا، ويستحق ما أعد الله له من العقوبة في جهنم.
التفسير :
٢٠- ﴿ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ﴾.
من شأن القرآن أن يستعرض مشاهد القيامة، فإذا الغائب حاضر، وإذ بك ترى رأي العين هؤلاء الكفار الذين أسرفوا على أنفسهم في المعاصي، ولم يستجيبوا لداعي الإيمان، فيقال لهم :
﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها... ﴾
لقد أفنيتم حياتكم مستمتعين باللذائذ والمحرمات، معرضين عن هدى السماء، كافرين بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.
﴿ فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ﴾.
في هذا اليوم، يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، تجازون على كفركم وإسرافكم في المعاصي، بعذاب الهوان والمذلة في جهنم، بسبب استكباركم وعتوكم وظلمكم وعدم إيمانكم، وبسبب فسوقكم وخروجكم على طاعة الله وهديه.
وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طلبات المآكل والمشارب وتنزه عنها، وقال : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة، وإني أخاف أن أكون من الذين قال الله فيهم :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها... ﴾
وعند التأمل نجد أن الإسلام دين وسط، لا يحرم الطيبات، فالله تعالى يقول :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة... ﴾ ( الأعراف : ٣٢ ).
والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة العملية- كان يأكل ما يجده، يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا ولا يجعله ديدنا، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم منقولة.
وقيل : إن التوبيخ واقع على ترك الشكر، والاستعانة بالطيبات على الشهوات والمحرمات.
وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل :
هذه الآية في الكفار بدليل قوله تعالى :﴿ ويوم يعرض الذين كفروا... ﴾
وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله -وقد رآه اشترى لحما- : أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه ! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية، ممن قال الله فيهم :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا... ﴾
من تفسير الفخر الرازي
وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا، ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه، ودليله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق... ﴾ ( الأعراف : ٣٢ ).
نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، وعليه يحمل قوله عمر : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما، وأحسنكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة.
وأرى أن دين الله يتسع للتمتع بالطيبات، ويتسع للزهد فيها وتغليب جانب الآخرة، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، فمن استمتع بالطيبات وأدى حق الله وأطعم الجائع وساعد المحتاج، فهو ناج إن شاء الله، ومن زهد في الطيبات -بدون أن يحرمها على غيره- فله نيته واجتهاده وصبره، واقتداؤه بالزاهدين من السلف الصالح.
وأخيرا.. أرى أن خير الأمور الوسط، وشر الأمور الشطط، والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وكان ينال من طيبات الدنيا وزينتها وطيبها، ويتزوج من نسائها، ويستمتع بالنعمة عند وجودها.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري :( إن أتقاكم لله أنا، وإن أعلمكم بالله أنا، وإن أخوفكم من الله أنا، ومع ذلك فأنا أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )٢١.
وكان صلى الله عليه وسلم قدوة أيضا في الصبر والتجلد والزهد، ليظل المؤمن شديد المراس، لا يلين ولا يخنع، ولا يرغب في الطيبات إلا إذا كانت من حلال، وفي قدرته وفي متوسط دخله، ولا يتطلع إلى الشبهات ولا إلى الكماليات، إذا كان دخله حلالا لا يتسع لذلك.
قال صلى الله عليه وسلم :( استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك )٢٢.
وقال صلى الله عليه وسلم :( البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )٢٣.
وقال صلى الله عليه وسلم :( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.. )٢٤.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
أخا عاد : هود عليه السلام، وكانت أخوته لعاد في النسب لا في الدين.
الأحقاف : جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبلا، من أحقوقف الشيء، إذا اعوج.
النذر : واحدهم نذير، أي : منذر.
من بين يديه : من قبله.
ومن خلفه : ومن بعده، أي : وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده.
التفسير :
٢١- ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.
هذه القصة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بذكر قصة أخ له من المرسلين، كذب من قومه، فصبر حتى نصره الله وأهلك الكافرين، وفيها تهديد ووعيد لأهل مكة، وأشباههم من المكذبين.
والمعنى :
اذكر في نفسك قصة هود مع قومه عاد، واذكرها لقومك ليعتبروا بمضمونها، فهو رسول كريم، دعا قومه الذين كانوا يسكنون الأحقاف، وهي رمال ملتوية لم تبلغ أن تكون جبلا، وكانت بالشِّحر يقال ( شِحْر عمان ) أي في مكان بين عمان واليمن على ساحل البحر، ويقال في حضرموت.
وحين كنت أعمل أستاذا ورئيسا لقسم العلوم الإسلامية بجامعة السلطان قابوس في المدة من ( ١٩٨٦م-١٩٩٦م ) بسلطنة عمان، اكتشفت آثار قرب مدينة صلالة، وهي مدينة تقع بين سلطنة عمان واليمن، وذكر المكتشفون أن المرجح أنها القرى التي طمرتها الرياح وأهلكت أهلها، ولم يبق من أهلها إلا المساكن، أي بقايا عاد الأولى.
وقد أرسل الله الرسل إلى قومهم من قبل هود ومن بعده، يدعون قومهم إلى الإيمان بالله تعالى، ويحذرونهم من عبادة الأوثان والأصنام والتكذيب بالمرسلين حتى لا ينزل بهم العذاب الذي نزل بمن كذب قبلهم، كقوم نوح.
قال تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ﴾ ( الإسراء : ١٧ ).
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
لتأفكنا : لتصرفنا وتمنعنا عن عبادة آلهتنا.
بما تعدنا : أي من العذاب.
التفسير :
٢٢- ﴿ قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾.
قال قوم هود مكذبين له أجئتنا بدعوتك الجديدة لتصرفنا عن عبادة آلهتنا التي تعودنا على عبادتها، ولقد ورثنا ذلك عن آبائنا فلن نترك عبادة آلهتنا، وإن كنت صادقا في رسالتك فهات العذاب الذي تهددنا به.
قال الضحاك : تأفكنا : تصرفنا، من الإفك بمعنى الصرف.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
إنما العلم من عند الله : العلم بوقت نزول العذاب عند الله.
تجهلون : تتصفون بالجهل وعدم الإدراك، في سؤالكم العذاب ممن بعث إليكم منذرا.
التفسير :
٢٣- ﴿ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾.
أنا رسول من عند الله، وظيفتي تبليغ الرسالة، والبشارة بالجنة للطائعين، وبالعذاب للمكذبين، وقد ينزل عذاب المكذبين في الدنيا، لكن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فهو الحكيم الذي يعلم متى ينزل العذاب، وما هو الوقت المناسب لذلك.
﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾.
حيث تقابلون رسالة رسول يدعوكم إلى الخير والإيمان، ويحذركم عقوبة الكفر والجحود، تقابلون ذلك باستعجال العذاب، والاستخفاف بالرسول، والتحدي لقدرة الله، وهو سبحانه على كل شيء قدير.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
العارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء.
مستقبل أوديتهم : متجها إليها.
التفسير :
٢٤- ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ﴾.
كان قوم عاد على جانب من الثروة والغنى، والبأس والقوة، قال تعالى :﴿ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ﴾. ( فصلت : ١٥ ).
ومن ذلك نلمح أن القوم كذبوا واستهتروا واستخفوا بقدرة السماء، وتحدوا نبيهم، ومكثوا فترة في الجفاف وعدم المطر، ثم رأوا سحابة تعترض الأفق ففرحوا بها فرحا شديدا، وخرجوا إلى الأودية ينتظرون نزول المطر، ففاجأهم لسان الحال بتحول السحابة إلى ريح عاتية، مكلفة بتدمير عاد، وإفنائهم عن آخرهم.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
تدمر : تهلك.
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم : فاجأتهم الريح فدمرتهم، ولم يبق شيء يرى إلا مساكنهم.
كذلك نجزي القوم المجرمين : بمثل تلك العقوبة يجزي الله كل من كذب رسله.
التفسير :
٢٥- ﴿ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾.
إنها جزء من هذا الكون الخاضع لأمر الله، المسبح بحمده، فهذه الريح تحولت إلى عذاب أليم، وإلى ريح صرصر عاتية، تأخذ بأنفاس المكذبين وتقطع رقابهم.
وقد ورد أنهم حفروا لأنفسهم حفرا، وربطوا أنفسهم بالسلاسل، وتركوا رقابهم فوق الأرض، فكانت الريح تقطع أعناقهم، وتترك أجسامهم، كالنخلة الهالكة التي قطع أعلاها المثمر المفيد وترك أسفلها قليل الفائدة.
وفي سورة الحاقة يقول الله تعالى :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( ٦ ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ٧ ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( ٨ ) ﴾. ( الحاقة : ٦-٨ ).
لقد أهلكهم الله هلاكا مدمرا، جزاء عتوهم وكفرهم وعنادهم، وجعل مثل هذا الهلاك لكل من أجرم وكفر.
﴿ كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾.
أي : مثل تلك العقوبة التي نزلت بعاد قوم هود، يعاقب الله بها كل من أجرم وكذب وعتا وتكبر، وكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
قال الإمام فخر الدين الرازي : والمقصود منه تخويف أهل مكة.
وفي السنة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح يقول :( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به ). فإذا تخيلت السماء تغير لون الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرِّى عنه، فسألته أم المؤمنين عائشة فقال :( لعله يا عائشة كما قال قوم هود :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا... ﴾٢٥ ( الأحقاف : ٢٤ ) ).
أخرج الحديث مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن عائشة، وأورده ابن كثير في تفسير الآية مع غيره من الأحاديث النبوية.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
المفردات :
ولقد مكناهم : جعلنا لهم سلطانا وقدرة على التصرف في الذي ما مكناكم فيه، ولا سخرناه لكم.
التفسير :
٢٦- ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
إن هؤلاء الذين أهلكوا كانوا أكثر قوة من أهل مكة، أعطاهم الله النعم والمنعة والقوة، ليشكروا الله عليها، ويحركوا عقولهم وأسماعهم وأبصارهم للتأمل والتفكر والتدبر، والانتقال من النعمة إلى المنعم، ومن الكون إلى المكون، ومن خلق السماوات والأرض إلى الصانع المبدع، ومن جملة النعم والقوة التي منحها الله لهم إلى العرفان والشكر، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لقد أهملوا منافذ المعرفة، وعطلوا عقولهم عن التأمل، وأبصارهم عن النظر، وأسماعهم عن سماع حجج الحق وأقوال الرسل، وآيات الله في الأنفس والآفاق، وجحدوا بآيات الله وكذبوا بما جاءت به الرسل، فأحاط بهم العذاب، وأطبق عليهم عقاب الله الذي كانوا يستهزؤون به، ويستعجلون وقوعه.
قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير :
المعنى : إنا فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصارا فما استعملوها في تأمل العبر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها، فلا جرم لم تغن عنهم من عذاب الله شيئا. اه.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
التفسير :
٢٧- ﴿ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ﴾.
أهلكنا عددا من القرى المحيطة بمكة، في الجنوب والشمال، جهة اليمن جنوبا، والشام شمالا، وكانت أخبار هذه القرى معروفة مألوفة لأهل مكة، فهم يمرون على هذه القرى في رحلتهم إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء، ويشاهدون قرى قوم لوط التي أهلكت، ومدائن شعيب، والمؤتفكة التي أهلكت مع أهلها.
قال ابن كثير في تفسير الآية :
وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حول مكة، كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون عليها أيضا. اه.
﴿ وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ﴾.
بينا ووضحنا وكررنا ولونا في أنواع العظات وألوان البينات لأهل تلك القرى، لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الطاعة والإيمان.
﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٢١ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٢ ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( ٢٣ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٥ ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٢٦ ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٧ ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٢٨ ) ﴾
تمهيد :
ساق القرآن القصص للعظة والاعتبار، وتكرر ذكر قصص عاد مع نبيهم هود، وغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها فاستحقت العذاب، وبهذا سجل القرآن الكريم تاريخ الأنبياء والمرسلين وأحيا ذكراهم، وسجل كفاحهم، كما سجل تكذيب الأمم المكذبة لرسلها، وعقاب السماء لها، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلكت الريح العاصفة قوم هود، حيث قال تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف... ﴾
وقال فيما سبق :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ).
وأطبق الهلاك على كثير من المكذبين، مثل ثمود قوم صالح، ومثل فرعون وقومه، ومدين قوم شعيب، وقوم لوط وغيرهم.
وقد تكرر التنبيه بما أصاب المكذبين لتحذير أهل مكة، ولتحذير كل مكذب بآيات الله ورسله.
قال تعالى :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
التفسير :
٢٨- ﴿ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ﴾.
في أعقاب قصة عاد وهلاكها، تأتي هذه الآية للتأمل في نهاية قوم كانوا يعبدون أوثانا يتقربون بها إلى الله، ويقولون :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ﴾ ( الزمر : ٣ ).
فهل نفعتهم هذه الأصنام ؟ وهل أنقذتهم من الهلاك ؟ والجواب معلوم، وهو أنه لم يكن لهذه الأصنام أي أثر في نصرتهم، بل غابوا عنهم فأصبحوا كالمعدومين.
﴿ وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ﴾.
وهذا الهلاك عاقبة كذبهم وافترائهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء لله، وشفعاء لهم عند الله، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( ٢٩ ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٣٠ ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣١ ) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ٣٢ ) ﴾
تمهيد :
هذه آيات تفيد أن الجن استمعت إلى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فانصرف نفر منهم إلى قومهم يحثونهم على الإيمان، ويحذرونهم من الكفر، وتفيد الأحاديث النبوية الشريفة أن حضور الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر.
كما يفيد القرآن والسنة بمعلومات عن الجن، منها ما يأتي :
١- هناك في هذا الكون عوالم متعددة، ومعلومات كثيرة، ومنها عالم الملائكة، وعالم الجن.
٢- الجن عالم له تجمعات وقبائل :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم... ﴾ ( الأعراف : ٢٧ ).
أي أن الجن لهم قدرة على التشكل والتكيف والحياة في هذه الدنيا، وهم يرون الإنسان ولا يراهم الإنسان.
٣- سخر الله الجن لسليمان عليه السلام :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... ﴾ ( سبأ : ١٣ ).
٤- الجن فريقان : طائع مهتد مستمع القرآن، مستخدم عقله في استجلاب أسباب الهداية، وعاص ضال.
٥- مكن الله سليمان من تسخير العصاة من الجن، وحبسهم وتقييدهم في السلاسل.
قال تعالى :﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾. ( ص : ٣٨ ).
كما سخر الله له الجن الطائعين. قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... ﴾ ( سبأ : ١٢ ).
٦- الجن خلقت من النار، والملائكة من النور، والإنسان مخلوق من تراب، خلط بالماء فصار طينا، ثم ترك الطين فترة حتى صار حمأ مسنونا كالفخار.
٧- الجن مدعوون إلى الإيمان، ومحذرون من الكفر والجور والظلم والعدوان.
قال تعالى :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ﴾. ( الجن : ١١ ).
وقال سبحانه :﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ( ١٣ ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( ١٤ ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( ١٥ ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( ١٦ ) ﴾ ( الجن : ١٣-١٦ ).
وقال سبحانه :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾. ( الأنعام : ١٣٠ ).
٨- من أطاع من الجن فله الثواب، ومن عصى فعليه العقاب.
٩- الجن عالم تحت قبضة الرحمان، يسكن هذا الكون، وطعامه عظام الحيوانات التي ذكر اسم الله عليها، وطعام دوابه روث الحيوانات.
١٠- ينبغي أن نحارب الخرافة والأسطورة والدجل الذي يرتبط بالجن في أذهان الناس، ويكفينا ما ورد عنهم من طريق صحيح، ولا ينبغي التزيد في ذلك، فالقرآن تحدث كثيرا عن الإنس، وتحدث عن الجن بقدر يسير يكفينا، ويفيدنا أن معنا في هذا الكون عوالم أخرى، وأن معلوماتنا محدودة، وربما تطور العلم في المستقبل بأمور لم تكن في الحسبان، كما قال سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ﴾ ( فصلت : ٥٣ ).
١١- الجن لهم قدرة على التشكل والانطلاق إلى السماء، وقد ورد في صحيح البخاري أن الجن كانت ترص بعضها فوق أكتاف بعض، وكان آخر جني يستمع إلى أخبار السماء فيبلغها للكهان، فيكذب الكاهن مع هذا الخبر مائة كذبة، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شدت الحراسة على السماء، ولم يستطيعوا التقاط أخبارها، فأخبرت الجن رئيسها، فقال لهم : ما ذلك إلا لأمر قد حدث في الأرض، انطلقوا في مشارقها ومغاربها حتى تعرفوا الخبر، فانطلقوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما في صلاة الفجر يقرأ القرآن، فآمن به من استمع له، وقد نزلت سورة الجن في هذا المعنى، وفيها قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولم نشرك بربنا أحدا ﴾. ( الجن : ١، ٢ ).
وقوله تعالى :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾. ( الجن : ٨، ٩ ).
١٢- يؤخذ من إيمان الجن بالقرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الإنس والجن.
١٣- من العلماء من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى الجن ولم يكلمهم، وإنما استمعوا إليه في صلاة الفجر قائما يقرأ القرآن فآمنوا، ودعوا قومهم إلى الإيمان.
١٤- ومن العلماء من يستأنس بأحاديث نبوية، تفيد أن لقاء الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم تم ست مرات، دعته الجن في إحداها إلى الذهاب إليهم، فظل قائما يدعوهم وقد تكاثروا على الاقتراب منه، واستأنسوا لذلك بقوله تعالى :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾. ( الجن : ١٩-٢١ ).
١٥- سورة الجن مكملة لموضوع الجن في القرآن، وكذلك ما ورد في القرآن من معلومات عن الجن وأصلهم وعملهم، وحياتهم ومناهجهم، وعقلياتهم وطوائفهم.
١٦- في موضوع الآيات التي سنفسرها إن شاء الله توبيخ لأهل مكة، فهذا الكتاب العزيز آمن به الإنس والجن، وعجزتم عن الإصغاء إليه، وفيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن إيمان الجن تم بعد رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان دعاؤه في الطائف ينبع من شغاف قلبه، حيث قال :( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، عافيتك هي أوسع لي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
وبعد هذا الدعاء نزل ملك الجبال، وقال : يا محمد، إن ربك أمرني أن أطيعك في قومك، بسبب ما فعلوه بك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم :( لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ). ونلحظ أن تكذيب أهل مكة قد اشتد قبل الهجرة، وكذلك تكذيب أهل الطائف، وقد كان إيمان الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من رحلة الطائف مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الإسراء والمعراج لإطلاعه على إيمان الملأ الأعلى به، كما قال سبحانه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾. ( فصلت : ٣٨ ).
المفردات :
صرفنا : وجهنا.
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال.
فلما قضي : فرغ من تلاوته.
منذرين : مخوفين من عذاب الله ومن عواقب الضلال.
التفسير :
٢٩- ﴿ وإذ صرفنا إليك نفر من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين ﴾.
واذكر لقومك ولنفسك حين وجهنا إليك مجموعة دون العشرة يستمعون القرآن الكريم، وكان ذلك بوادي نخلة عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف، يقرأ القرآن في تهجده أو في صلاة الفجر.
﴿ فلما حضروه قالوا أنصتوا… ﴾
عندما حضروا تلاوة القرآن تواصوا بالإنصات والتفرغ التام، وحشد الذهن لاستماع القرآن وتأمله.
﴿ فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ﴾.
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن، رجعوا إلى قومهم منذرين لهم من الكفر، مرغبين لهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم.
وتفيد الروايات أن الجن استمعت للقرآن، وانصرفت في هذه الليلة دون مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم وفدوا عليه جماعات جماعات، وتم لقاء الجن بالنبي صلى الله عليه وسلم ست مرات، في بعضها انصرفوا، وفي بعضها دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارتهم في مكان حددوه له، وذهب بعض المفسرين إلى أن الجن كان لهم منذرون فقط، وقال قوم : كانت للجن رسل منهم، وانظر تفسير هذه الآية في الكشاف للزمخشري.
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( ٢٩ ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٣٠ ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣١ ) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ٣٢ ) ﴾
تمهيد :
هذه آيات تفيد أن الجن استمعت إلى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فانصرف نفر منهم إلى قومهم يحثونهم على الإيمان، ويحذرونهم من الكفر، وتفيد الأحاديث النبوية الشريفة أن حضور الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر.
كما يفيد القرآن والسنة بمعلومات عن الجن، منها ما يأتي :
١- هناك في هذا الكون عوالم متعددة، ومعلومات كثيرة، ومنها عالم الملائكة، وعالم الجن.
٢- الجن عالم له تجمعات وقبائل :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم... ﴾ ( الأعراف : ٢٧ ).
أي أن الجن لهم قدرة على التشكل والتكيف والحياة في هذه الدنيا، وهم يرون الإنسان ولا يراهم الإنسان.
٣- سخر الله الجن لسليمان عليه السلام :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... ﴾ ( سبأ : ١٣ ).
٤- الجن فريقان : طائع مهتد مستمع القرآن، مستخدم عقله في استجلاب أسباب الهداية، وعاص ضال.
٥- مكن الله سليمان من تسخير العصاة من الجن، وحبسهم وتقييدهم في السلاسل.
قال تعالى :﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾. ( ص : ٣٨ ).
كما سخر الله له الجن الطائعين. قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... ﴾ ( سبأ : ١٢ ).
٦- الجن خلقت من النار، والملائكة من النور، والإنسان مخلوق من تراب، خلط بالماء فصار طينا، ثم ترك الطين فترة حتى صار حمأ مسنونا كالفخار.
٧- الجن مدعوون إلى الإيمان، ومحذرون من الكفر والجور والظلم والعدوان.
قال تعالى :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ﴾. ( الجن : ١١ ).
وقال سبحانه :﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ( ١٣ ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( ١٤ ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( ١٥ ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( ١٦ ) ﴾ ( الجن : ١٣-١٦ ).
وقال سبحانه :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾. ( الأنعام : ١٣٠ ).
٨- من أطاع من الجن فله الثواب، ومن عصى فعليه العقاب.
٩- الجن عالم تحت قبضة الرحمان، يسكن هذا الكون، وطعامه عظام الحيوانات التي ذكر اسم الله عليها، وطعام دوابه روث الحيوانات.
١٠- ينبغي أن نحارب الخرافة والأسطورة والدجل الذي يرتبط بالجن في أذهان الناس، ويكفينا ما ورد عنهم من طريق صحيح، ولا ينبغي التزيد في ذلك، فالقرآن تحدث كثيرا عن الإنس، وتحدث عن الجن بقدر يسير يكفينا، ويفيدنا أن معنا في هذا الكون عوالم أخرى، وأن معلوماتنا محدودة، وربما تطور العلم في المستقبل بأمور لم تكن في الحسبان، كما قال سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ﴾ ( فصلت : ٥٣ ).
١١- الجن لهم قدرة على التشكل والانطلاق إلى السماء، وقد ورد في صحيح البخاري أن الجن كانت ترص بعضها فوق أكتاف بعض، وكان آخر جني يستمع إلى أخبار السماء فيبلغها للكهان، فيكذب الكاهن مع هذا الخبر مائة كذبة، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شدت الحراسة على السماء، ولم يستطيعوا التقاط أخبارها، فأخبرت الجن رئيسها، فقال لهم : ما ذلك إلا لأمر قد حدث في الأرض، انطلقوا في مشارقها ومغاربها حتى تعرفوا الخبر، فانطلقوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما في صلاة الفجر يقرأ القرآن، فآمن به من استمع له، وقد نزلت سورة الجن في هذا المعنى، وفيها قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولم نشرك بربنا أحدا ﴾. ( الجن : ١، ٢ ).
وقوله تعالى :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾. ( الجن : ٨، ٩ ).
١٢- يؤخذ من إيمان الجن بالقرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الإنس والجن.
١٣- من العلماء من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى الجن ولم يكلمهم، وإنما استمعوا إليه في صلاة الفجر قائما يقرأ القرآن فآمنوا، ودعوا قومهم إلى الإيمان.
١٤- ومن العلماء من يستأنس بأحاديث نبوية، تفيد أن لقاء الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم تم ست مرات، دعته الجن في إحداها إلى الذهاب إليهم، فظل قائما يدعوهم وقد تكاثروا على الاقتراب منه، واستأنسوا لذلك بقوله تعالى :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾. ( الجن : ١٩-٢١ ).
١٥- سورة الجن مكملة لموضوع الجن في القرآن، وكذلك ما ورد في القرآن من معلومات عن الجن وأصلهم وعملهم، وحياتهم ومناهجهم، وعقلياتهم وطوائفهم.
١٦- في موضوع الآيات التي سنفسرها إن شاء الله توبيخ لأهل مكة، فهذا الكتاب العزيز آمن به الإنس والجن، وعجزتم عن الإصغاء إليه، وفيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن إيمان الجن تم بعد رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان دعاؤه في الطائف ينبع من شغاف قلبه، حيث قال :( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، عافيتك هي أوسع لي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
وبعد هذا الدعاء نزل ملك الجبال، وقال : يا محمد، إن ربك أمرني أن أطيعك في قومك، بسبب ما فعلوه بك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم :( لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ). ونلحظ أن تكذيب أهل مكة قد اشتد قبل الهجرة، وكذلك تكذيب أهل الطائف، وقد كان إيمان الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من رحلة الطائف مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الإسراء والمعراج لإطلاعه على إيمان الملأ الأعلى به، كما قال سبحانه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾. ( فصلت : ٣٨ ).
المفردات :
كتابا أنزل من بعد موسى : وهو القرآن الكريم.
مصدقا لما بين يديه : مؤيدا ومؤكدا لما قبله من التوراة، لأنهم كانوا مؤمنين بموسى.
التفسير :
٣٠- ﴿ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴾.
قال النفر من الجن لقومهم : يا قومنا، إنا سمعنا كتابا كريما، أنزله الله تعالى على نبي أرسله بعد نبيه موسى، هذا الكتاب يصدق الكتب السابقة في أصولها، وهي الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والحث على مكارم الأخلاق، هذا الكتاب يرشد إلى الحق المبين، وإلى دين الله القويم.
وتعتبر التوراة كتابا كاملا في الأحكام، أما الإنجيل فهو مشتمل على كثير من المواعظ، وقليل من الأحكام، والعهد القديم أساس للعهد الجديد، فالتوراة كتاب أساسي عند الجميع، ولذلك قالوا :﴿ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى... ﴾
فالعمدة في التشريع لليهود والنصارى على السواء هي التوراة.
وقال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا.
وقال بعضهم : لم تسمع الجن بعيسى عليه السلام، ونلحظ أن ذلك أمر بعيد كما قال المفسرون.
وفي صحيح البخاري أن ورقة بن نوفل حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نزول الوحي عليه، قال ورقة : قدوس هذا هو الناموس ( الوحي ) الذي أنزله الله على موسى٢٦.
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( ٢٩ ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٣٠ ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣١ ) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ٣٢ ) ﴾
تمهيد :
هذه آيات تفيد أن الجن استمعت إلى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فانصرف نفر منهم إلى قومهم يحثونهم على الإيمان، ويحذرونهم من الكفر، وتفيد الأحاديث النبوية الشريفة أن حضور الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر.
كما يفيد القرآن والسنة بمعلومات عن الجن، منها ما يأتي :
١- هناك في هذا الكون عوالم متعددة، ومعلومات كثيرة، ومنها عالم الملائكة، وعالم الجن.
٢- الجن عالم له تجمعات وقبائل :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم... ﴾ ( الأعراف : ٢٧ ).
أي أن الجن لهم قدرة على التشكل والتكيف والحياة في هذه الدنيا، وهم يرون الإنسان ولا يراهم الإنسان.
٣- سخر الله الجن لسليمان عليه السلام :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... ﴾ ( سبأ : ١٣ ).
٤- الجن فريقان : طائع مهتد مستمع القرآن، مستخدم عقله في استجلاب أسباب الهداية، وعاص ضال.
٥- مكن الله سليمان من تسخير العصاة من الجن، وحبسهم وتقييدهم في السلاسل.
قال تعالى :﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾. ( ص : ٣٨ ).
كما سخر الله له الجن الطائعين. قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... ﴾ ( سبأ : ١٢ ).
٦- الجن خلقت من النار، والملائكة من النور، والإنسان مخلوق من تراب، خلط بالماء فصار طينا، ثم ترك الطين فترة حتى صار حمأ مسنونا كالفخار.
٧- الجن مدعوون إلى الإيمان، ومحذرون من الكفر والجور والظلم والعدوان.
قال تعالى :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ﴾. ( الجن : ١١ ).
وقال سبحانه :﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ( ١٣ ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( ١٤ ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( ١٥ ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( ١٦ ) ﴾ ( الجن : ١٣-١٦ ).
وقال سبحانه :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾. ( الأنعام : ١٣٠ ).
٨- من أطاع من الجن فله الثواب، ومن عصى فعليه العقاب.
٩- الجن عالم تحت قبضة الرحمان، يسكن هذا الكون، وطعامه عظام الحيوانات التي ذكر اسم الله عليها، وطعام دوابه روث الحيوانات.
١٠- ينبغي أن نحارب الخرافة والأسطورة والدجل الذي يرتبط بالجن في أذهان الناس، ويكفينا ما ورد عنهم من طريق صحيح، ولا ينبغي التزيد في ذلك، فالقرآن تحدث كثيرا عن الإنس، وتحدث عن الجن بقدر يسير يكفينا، ويفيدنا أن معنا في هذا الكون عوالم أخرى، وأن معلوماتنا محدودة، وربما تطور العلم في المستقبل بأمور لم تكن في الحسبان، كما قال سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ﴾ ( فصلت : ٥٣ ).
١١- الجن لهم قدرة على التشكل والانطلاق إلى السماء، وقد ورد في صحيح البخاري أن الجن كانت ترص بعضها فوق أكتاف بعض، وكان آخر جني يستمع إلى أخبار السماء فيبلغها للكهان، فيكذب الكاهن مع هذا الخبر مائة كذبة، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شدت الحراسة على السماء، ولم يستطيعوا التقاط أخبارها، فأخبرت الجن رئيسها، فقال لهم : ما ذلك إلا لأمر قد حدث في الأرض، انطلقوا في مشارقها ومغاربها حتى تعرفوا الخبر، فانطلقوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما في صلاة الفجر يقرأ القرآن، فآمن به من استمع له، وقد نزلت سورة الجن في هذا المعنى، وفيها قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولم نشرك بربنا أحدا ﴾. ( الجن : ١، ٢ ).
وقوله تعالى :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾. ( الجن : ٨، ٩ ).
١٢- يؤخذ من إيمان الجن بالقرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الإنس والجن.
١٣- من العلماء من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى الجن ولم يكلمهم، وإنما استمعوا إليه في صلاة الفجر قائما يقرأ القرآن فآمنوا، ودعوا قومهم إلى الإيمان.
١٤- ومن العلماء من يستأنس بأحاديث نبوية، تفيد أن لقاء الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم تم ست مرات، دعته الجن في إحداها إلى الذهاب إليهم، فظل قائما يدعوهم وقد تكاثروا على الاقتراب منه، واستأنسوا لذلك بقوله تعالى :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾. ( الجن : ١٩-٢١ ).
١٥- سورة الجن مكملة لموضوع الجن في القرآن، وكذلك ما ورد في القرآن من معلومات عن الجن وأصلهم وعملهم، وحياتهم ومناهجهم، وعقلياتهم وطوائفهم.
١٦- في موضوع الآيات التي سنفسرها إن شاء الله توبيخ لأهل مكة، فهذا الكتاب العزيز آمن به الإنس والجن، وعجزتم عن الإصغاء إليه، وفيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن إيمان الجن تم بعد رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان دعاؤه في الطائف ينبع من شغاف قلبه، حيث قال :( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، عافيتك هي أوسع لي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
وبعد هذا الدعاء نزل ملك الجبال، وقال : يا محمد، إن ربك أمرني أن أطيعك في قومك، بسبب ما فعلوه بك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم :( لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ). ونلحظ أن تكذيب أهل مكة قد اشتد قبل الهجرة، وكذلك تكذيب أهل الطائف، وقد كان إيمان الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من رحلة الطائف مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الإسراء والمعراج لإطلاعه على إيمان الملأ الأعلى به، كما قال سبحانه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾. ( فصلت : ٣٨ ).
المفردات :
يجركم : ينقذكم.
التفسير :
٣١- ﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ﴾.
تلطفت الجن في دعوة قومها إلى الإيمان، والتصديق بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الذي أنزله الله عليه.
ومعنى الآية :
استجيبوا يا قومنا لداعي الإيمان بالله تعالى، وهو القرآن الكريم أو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بالله، وأطيعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، يكن جزاؤكم مغفرة بعض ذنوبكم، تلك التي بينكم وبين الله، أما مظالم العباد فيجب أن ترد إلى أصحابها، ومغفرة الذنوب وسترها يضاف إليها أن يخلصكم الله وينجيكم من عذاب شديد مؤلم.
وقد ذهب عدد من الأئمة إلى أن الجن الصالح يكافأ بالمغفرة والنجاة من العذاب، ودخول الجنة مثل الإنس تماما، وذهب بعض الأئمة إلى أن الجن الصالح يكافأ بمغفرة الذنوب والنجاة من العذاب في جهنم، ولا يدخلون الجنة.
قال الحسن :
ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، فيقال لهم : كونوا ترابا : فيكونون ترابا، وبه قال أبو حنيفة.
وقال القشيري معلقا على هذا الخلاف :
والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.
ونعم ما قال، فلماذا الاسترسال في بحث الأمور من الأفضل السكوت عنها، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( ٢٩ ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٣٠ ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣١ ) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ٣٢ ) ﴾
تمهيد :
هذه آيات تفيد أن الجن استمعت إلى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فانصرف نفر منهم إلى قومهم يحثونهم على الإيمان، ويحذرونهم من الكفر، وتفيد الأحاديث النبوية الشريفة أن حضور الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر.
كما يفيد القرآن والسنة بمعلومات عن الجن، منها ما يأتي :
١- هناك في هذا الكون عوالم متعددة، ومعلومات كثيرة، ومنها عالم الملائكة، وعالم الجن.
٢- الجن عالم له تجمعات وقبائل :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم... ﴾ ( الأعراف : ٢٧ ).
أي أن الجن لهم قدرة على التشكل والتكيف والحياة في هذه الدنيا، وهم يرون الإنسان ولا يراهم الإنسان.
٣- سخر الله الجن لسليمان عليه السلام :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... ﴾ ( سبأ : ١٣ ).
٤- الجن فريقان : طائع مهتد مستمع القرآن، مستخدم عقله في استجلاب أسباب الهداية، وعاص ضال.
٥- مكن الله سليمان من تسخير العصاة من الجن، وحبسهم وتقييدهم في السلاسل.
قال تعالى :﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾. ( ص : ٣٨ ).
كما سخر الله له الجن الطائعين. قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... ﴾ ( سبأ : ١٢ ).
٦- الجن خلقت من النار، والملائكة من النور، والإنسان مخلوق من تراب، خلط بالماء فصار طينا، ثم ترك الطين فترة حتى صار حمأ مسنونا كالفخار.
٧- الجن مدعوون إلى الإيمان، ومحذرون من الكفر والجور والظلم والعدوان.
قال تعالى :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ﴾. ( الجن : ١١ ).
وقال سبحانه :﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ( ١٣ ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( ١٤ ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( ١٥ ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( ١٦ ) ﴾ ( الجن : ١٣-١٦ ).
وقال سبحانه :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾. ( الأنعام : ١٣٠ ).
٨- من أطاع من الجن فله الثواب، ومن عصى فعليه العقاب.
٩- الجن عالم تحت قبضة الرحمان، يسكن هذا الكون، وطعامه عظام الحيوانات التي ذكر اسم الله عليها، وطعام دوابه روث الحيوانات.
١٠- ينبغي أن نحارب الخرافة والأسطورة والدجل الذي يرتبط بالجن في أذهان الناس، ويكفينا ما ورد عنهم من طريق صحيح، ولا ينبغي التزيد في ذلك، فالقرآن تحدث كثيرا عن الإنس، وتحدث عن الجن بقدر يسير يكفينا، ويفيدنا أن معنا في هذا الكون عوالم أخرى، وأن معلوماتنا محدودة، وربما تطور العلم في المستقبل بأمور لم تكن في الحسبان، كما قال سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ﴾ ( فصلت : ٥٣ ).
١١- الجن لهم قدرة على التشكل والانطلاق إلى السماء، وقد ورد في صحيح البخاري أن الجن كانت ترص بعضها فوق أكتاف بعض، وكان آخر جني يستمع إلى أخبار السماء فيبلغها للكهان، فيكذب الكاهن مع هذا الخبر مائة كذبة، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شدت الحراسة على السماء، ولم يستطيعوا التقاط أخبارها، فأخبرت الجن رئيسها، فقال لهم : ما ذلك إلا لأمر قد حدث في الأرض، انطلقوا في مشارقها ومغاربها حتى تعرفوا الخبر، فانطلقوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما في صلاة الفجر يقرأ القرآن، فآمن به من استمع له، وقد نزلت سورة الجن في هذا المعنى، وفيها قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولم نشرك بربنا أحدا ﴾. ( الجن : ١، ٢ ).
وقوله تعالى :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾. ( الجن : ٨، ٩ ).
١٢- يؤخذ من إيمان الجن بالقرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الإنس والجن.
١٣- من العلماء من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى الجن ولم يكلمهم، وإنما استمعوا إليه في صلاة الفجر قائما يقرأ القرآن فآمنوا، ودعوا قومهم إلى الإيمان.
١٤- ومن العلماء من يستأنس بأحاديث نبوية، تفيد أن لقاء الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم تم ست مرات، دعته الجن في إحداها إلى الذهاب إليهم، فظل قائما يدعوهم وقد تكاثروا على الاقتراب منه، واستأنسوا لذلك بقوله تعالى :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾. ( الجن : ١٩-٢١ ).
١٥- سورة الجن مكملة لموضوع الجن في القرآن، وكذلك ما ورد في القرآن من معلومات عن الجن وأصلهم وعملهم، وحياتهم ومناهجهم، وعقلياتهم وطوائفهم.
١٦- في موضوع الآيات التي سنفسرها إن شاء الله توبيخ لأهل مكة، فهذا الكتاب العزيز آمن به الإنس والجن، وعجزتم عن الإصغاء إليه، وفيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن إيمان الجن تم بعد رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان دعاؤه في الطائف ينبع من شغاف قلبه، حيث قال :( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، عافيتك هي أوسع لي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
وبعد هذا الدعاء نزل ملك الجبال، وقال : يا محمد، إن ربك أمرني أن أطيعك في قومك، بسبب ما فعلوه بك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم :( لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ). ونلحظ أن تكذيب أهل مكة قد اشتد قبل الهجرة، وكذلك تكذيب أهل الطائف، وقد كان إيمان الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من رحلة الطائف مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الإسراء والمعراج لإطلاعه على إيمان الملأ الأعلى به، كما قال سبحانه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾. ( فصلت : ٣٨ ).
المفردات :
داعي الله : هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
فليس بمعجز في الأرض : لا ينجو منه هارب، ولا يسبق قضاءه سابق.
أولئك في ضلال مبين : أولئك الذين لا يستجيبون لله في خسران واضح بين.
التفسير :
٣٢- ﴿ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ﴾.
من رفض الإيمان بالله، ورفض تلبية دعوة رسوله وكتابه المنزل، فإنه لا يفوت الله طلبا، ولا يعجزه هربا، فالله سبحانه على كل شيء قدير، والكون كله في قبضته، وهو سبحانه لا يغلبه غالب، ولا يعجزه هارب، وهذا الكافر لا يجد وليا ينصره، ولا سندا يمنعه من عذاب الله، وليس له من دونه ولي ولا نصير، إن هذا الهارب الآبق الكافر، قد خسر الدنيا والآخرة، وسار في ضلال واضح لاختياره الكفر، وابتعاده عن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
لقد كان هذا النفر من الجن حكيما في دعوته، حيث استعمل أسلوب الترغيب والترهيب، لذلك نجحت دعوتهم في هداية كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود وفودا.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٣ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٤ ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ٣٥ ) ﴾
تمهيد :
في ختام سورة الأحقاف نجد ثلاث آيات :
الأولى : تستعرض مشاهد الكون، وتستلفت النظر إلى أن خالق الأكوان قادر على إحياء الموتى، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
الثانية : تستعرض مشهدا من مشاهد القيامة، حين يكلف الكفار بمشاهدة نار جهنم عيانا جهارا، ويقال لهم : كنتم تكذبون بالبعث والحشر والجزاء والجنة والنار، فهل هذه النار حقيقة ماثلة ؟ فيشهدون بذلك مقسمين :﴿ بلى وربنا ﴾.
لقد كذبوا بالله وبالجزاء في الدنيا، فكان الجزاء على كفرهم هو : ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم.
أما الآية الثالثة : فهي ختام السورة، وهي دعوة للصبر والمصابرة، والتجلد أمام تكذيب الكفار وتعنتهم، كما صبر الأنبياء المرسلون الكبار، أصحاب العزائم، أما الكفار فلهم يوم يصلون فيه العذاب، فإذا شاهدوا عذاب النار وطول مدته استهانوا بكل أيام الدنيا، وبكل شهواتها ولذائذها، من شدة هول عذاب الآخرة، وكأن الدنيا بالنسبة لهم ساعة من نهار بالنسبة لطول عذاب الآخرة، ثم تختم السورة بأن هذه موعظة بليغة، لا يحرم من الاستجابة لها إلا محروم فاسق.
المفردات :
لم يعي : لم يعجز ولم يتعب.
التفسير :
٣٣- ﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ﴾.
أو لم يشاهدوا مظاهر القدرة الإلهية في خلق السماوات الطباق، وما فيها من أبراج وأفلاك، وشموس وأقمار، وملائكة ومخلوقات عديدة، وخلق الأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار، وإنس وجن، وحيوانات وطيور، وحشرات وهوام، ودواب متعددة لا يعلمها إلا الله، وقد خلق الله السماوات والأرض، بدون أن يصيبه تعب، أو إعياء أو لغوب أو كلال، أليس هذا الخالق المبدع بقادر على أن يحيي الموتى، بأن يعيد الروح إلى الجسد، ويأمر الموتى بالقيام والبعث، ثم بالحشر والنشر والجزاء ؟ بلى إنه سبحانه قادر على الخلق في البدء، وقادر على الإعادة، وهو سبحانه على كل شيء قدير.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٣ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٤ ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ٣٥ ) ﴾
تمهيد :
في ختام سورة الأحقاف نجد ثلاث آيات :
الأولى : تستعرض مشاهد الكون، وتستلفت النظر إلى أن خالق الأكوان قادر على إحياء الموتى، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
الثانية : تستعرض مشهدا من مشاهد القيامة، حين يكلف الكفار بمشاهدة نار جهنم عيانا جهارا، ويقال لهم : كنتم تكذبون بالبعث والحشر والجزاء والجنة والنار، فهل هذه النار حقيقة ماثلة ؟ فيشهدون بذلك مقسمين :﴿ بلى وربنا ﴾.
لقد كذبوا بالله وبالجزاء في الدنيا، فكان الجزاء على كفرهم هو : ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم.
أما الآية الثالثة : فهي ختام السورة، وهي دعوة للصبر والمصابرة، والتجلد أمام تكذيب الكفار وتعنتهم، كما صبر الأنبياء المرسلون الكبار، أصحاب العزائم، أما الكفار فلهم يوم يصلون فيه العذاب، فإذا شاهدوا عذاب النار وطول مدته استهانوا بكل أيام الدنيا، وبكل شهواتها ولذائذها، من شدة هول عذاب الآخرة، وكأن الدنيا بالنسبة لهم ساعة من نهار بالنسبة لطول عذاب الآخرة، ثم تختم السورة بأن هذه موعظة بليغة، لا يحرم من الاستجابة لها إلا محروم فاسق.
المفردات :
يعرض الذين كفروا على النار : يوقفون عليها، ويمررون بها.
التفسير :
٣٤- ﴿ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾.
واذكر لهم أحداث يوم القيامة، ومنها أخذ الكفار لمشاهدة النار وأهوالها، وعذابها وحميمها وغسلينها، وسائر أحوالها. وعندئذ يقال للكفار الذين كانوا يسخرون من المؤمنين، ويستبعدون وقوع العذاب، ويقولون :﴿ هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ﴾. ( المؤمنون : ٣٦، ٣٧ ).
لكنهم يوم القيامة يؤكدون أن النار والعذاب، والحساب والقيامة، والجزاء والعقاب، حق وصدق، ويقسمون بالله مؤكدين ذلك، لعلهم بهذه الشهادة والحلف عليها لتأكيدها أن يفروا من العذاب، لكن الجواب عليهم يكون مقابلا لأعمالهم في الدنيا.
﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾.
أي : اصطلوا بنار جهنم، وذوقوا ألوان العذاب فيها، بسبب كفركم بالله، وعدم استجابتكم لرسل الله في الدنيا، وتكذيبكم بقدرة الله على البعث والحشر، والجزاء والعقاب، فالجزاء لكم من جنس العمل، بسبب كفركم، ولا ظلم في ذلك لكم، لأن الله لا يظلم أحدا وهو عادل كل العدل.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٣ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٤ ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ٣٥ ) ﴾
تمهيد :
في ختام سورة الأحقاف نجد ثلاث آيات :
الأولى : تستعرض مشاهد الكون، وتستلفت النظر إلى أن خالق الأكوان قادر على إحياء الموتى، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
الثانية : تستعرض مشهدا من مشاهد القيامة، حين يكلف الكفار بمشاهدة نار جهنم عيانا جهارا، ويقال لهم : كنتم تكذبون بالبعث والحشر والجزاء والجنة والنار، فهل هذه النار حقيقة ماثلة ؟ فيشهدون بذلك مقسمين :﴿ بلى وربنا ﴾.
لقد كذبوا بالله وبالجزاء في الدنيا، فكان الجزاء على كفرهم هو : ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم.
أما الآية الثالثة : فهي ختام السورة، وهي دعوة للصبر والمصابرة، والتجلد أمام تكذيب الكفار وتعنتهم، كما صبر الأنبياء المرسلون الكبار، أصحاب العزائم، أما الكفار فلهم يوم يصلون فيه العذاب، فإذا شاهدوا عذاب النار وطول مدته استهانوا بكل أيام الدنيا، وبكل شهواتها ولذائذها، من شدة هول عذاب الآخرة، وكأن الدنيا بالنسبة لهم ساعة من نهار بالنسبة لطول عذاب الآخرة، ثم تختم السورة بأن هذه موعظة بليغة، لا يحرم من الاستجابة لها إلا محروم فاسق.
المفردات :
أولوا العزم : أولو العزم من الرسل خمسة : نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد صلى الله عليه وسلم، نظمهم الشاعر في قوله :
أولو العزم نوح والخليل الممجد | وموسى وعيسى والحبيب محمد |
بلاغ : أي أن ما وعظوا به كفاية في الموعظة.
التفسير :
٣٥- ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾.
تأتي هذه الآية في ختام السورة، سورة الأحقاف المكية، وفيها أدلة التوحيد والقصص، وحديث عن إيمان الجن، ومناقشة الكافرين، ثم توجه الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى الصبر والمصابرة، كما صبر أولو العزم من الرسل، وهم أصحاب العزائم والثبات، الذين اجتهدوا في تبليغ الشريعة، وتأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاق الدعوة، ومعاداة الطاعنين فيها.
قال مقاتل : هم ستة :
١- نوح صبر على أذى قومه مدة طويلة.
٢- وإبراهيم صبر على النار.
٣- وإسماعيل صبر على الذبح.
٤- ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر.
٥- ويوسف صبر على البئر والسجن.
٦- وأيوب صبر على الضر.
وقال ابن عباس : كل الرسل كانوا أولي عزم، أي : اصبر كما صبر الرسل.
وقيل : هم نجباء الرسل المذكورون في الآيات ( ٨٣-٨٧ ) من سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر :
إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. ٢٧
وأشهر الآراء أن أولي العزم من الرسل خمسة : نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وكم صبر محمد صلى الله عليه وسلم وصابر، وتحمل في مكة والطائف، وطريق الهجرة وأعمال المدينة، وسائر الغزوات، حتى لقي ربه راضيا مرضيا، فالآية تثبيت لصبره، وتأكيد ومؤازرة، وأيضا تهديد للكفار، وهذا معنى :
﴿ ولا تستعجل لهم... ﴾
لا تتعجل وقوع العذاب بهم في الدنيا، فإن لهم موعدا لن يفلتوا منه :﴿ فارتقب إنهم مرتقبون ﴾. ( الدخان : ٥٩ ).
وقال مقاتل : لا تدع عليهم في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة.
﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون... ﴾
من العذاب في الآخرة، لم يمكثوا في الدنيا أو في قبورهم إلا وقتا يسيرا، لطول مدة عذاب الآخرة، وامتداد عذابها أبد الآبدين، ويزيد في طولها أنه لا أمل في النجاة، ولا في الرجوع إلى الدنيا، ولا في تخفيف العذاب.
﴿ بلاغ ﴾. أي : بلغنا، وقد أعذر من أنذر، أو إن في هذا القرآن وما يحمل من صنوف الآيات، وألوان الهداية، ما يكفي في تبليغ الدعوة، وفي فتح الأبواب لمن أراد أن يلج في طريق الهداية، فكم فتح الله فيه من أبواب رحمته وهدايته، وكم لون وصرف من طرق الهداية، فلا يهلك على الله إلا هالك، فما أوسع أبواب رحمته.
﴿ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾.
أي : لا يستحق الهلاك إلا خارج على طاعة الله، معرض عن أسباب الهداية وما أكثرها، فهذا الفاسق الخارج على طاعة الله، الكافر بالله وألوان هدايته، أهل للهلاك العادل :﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( النحل : ٣٣ ).