ﰡ
(سورة الأحقاف)
(مكية غير آية نزلت في عبد الله بن سلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية حروفها ألفان وثلاثمائة كلماتها ثلاثمائة وأربع وأربعون آياتها خمس وثلاثون)
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٢٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
لتنذر على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: على الغيبة. والضمير للكتاب إِحْساناً: حمزة وعلي وخلف وعاصم. الباقون: حسنا كرها في الموضعين بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام. الباقون: بالضم وفصله يعقوب. الآخرون وفصاله أَوْزِعْنِي أَنْ بالفتح: ابن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني نَتَقَبَّلُ بالنون أَحْسَنَ بالنصب وَنَتَجاوَزُ بالنون: حمزة وعلي وخلف وحفص. الآخرون بياء الغيبة مبنيا للمفعول في الفعلين أحسن بالرفع أُفٍّ بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. وقرأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين. الباقون: بالكسر ولا تنوين أتعدانني أن بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون وَلِيُوَفِّيَهُمْ بالياء:
ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الباقون: بالنون أأذهبتم بتحقيق الهمزتين: ابن ذكوان آذهبتم بالمدّ: ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام. الباقون:
بهمزة واحدة.
الوقوف:
حم هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ مُسَمًّى ط مُعْرِضُونَ هـ السَّماواتِ هـ لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب صادِقِينَ هـ غافِلُونَ هـ كافِرِينَ هـ مُبِينٌ هـ لأن «أم» تتضمن استفهام إنكار افْتَراهُ ط شَيْئاً ط فِيهِ ط وَبَيْنَكُمْ ط الرَّحِيمُ هـ بِكُمْ ط مُبِينٌ هـ ط وَاسْتَكْبَرْتُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ إِلَيْهِ ط قَدِيمٌ هـ وَرَحْمَةً ط لِلْمُحْسِنِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ فِيها ج لأن جَزاءً يصلح مفعولا له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء يَعْمَلُونَ هـ إِحْساناً ط وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ط شَهْراً ط سَنَةً لا لأن ما بعده جواب «إذا» ذُرِّيَّتِي ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام الْمُسْلِمِينَ هـ الْجَنَّةِ ط لأن التقدير وعد الله وعدا صدقا وهو مصدر مؤكد لأن قوله نَتَقَبَّلُ في معنى الوعد يُوعَدُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ وَالْإِنْسِ ط خاسِرِينَ هـ
التفسير:
إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال ما خَلَقْنَا إلى قوله وَأَجَلٍ مُسَمًّى وقد مر في أوّل «الروم» أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا. وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وقد مر في «فاطر». والمراد أنهم لا يستحقون العبادة أصلا لأنهم ما خلقوا شيئا في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك. فقوله ائْتُونِي من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء بِكِتابٍ فيه شيء من ذلك أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال الواحدي: كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه: أحدها البقية من قولهم «سمنت الناقة على إثارة من شحم» أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والثاني أنه من الأثر بمعنى الرواية. والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علما. عن ابن عباس مرفوعا أنه الخط. قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم علمه. ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله وَمَنْ أَضَلُّ الآية. وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جمادا وعبادة الجماد محض الضلال. وقوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تأبيد على عادة العرب، ويحتمل أن يكون توقيتا بدليل قوله وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وهذا التبري والتخاطيب نوع من الاستجابة. ثم قرر غاية عنادهم بقوله وَإِذا تُتْلى ثم عجب من حالهم بقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء.
ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلا هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي، وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى وفي قوله وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم، وفيه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه. ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع
قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله ﷺ رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر؟ فسكت رسول الله ﷺ وأنزل الله الآية.
وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بأمته، فأنزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلى قوله فَوْزاً عَظِيماً [الفتح: ١] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية. والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه، وما نفي الدراية من جهة الوحي. وقوله وَلا بِكُمْ في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم. و «ما» موصولة أو استفهامية، ومحل الأولى نصب، والثانية رفع.
ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وقد مر نظيره في آخر «حم السجدة» إلا أنه زاد هاهنا حديث الشاهد وفيه أقوال: أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به. وعن سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ على مثل القرآن.
والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد. وعلى هذا فقوله عَلى مِثْلِهِ يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن. ويجوز أن يعود الضمير في مِثْلِهِ إلى المذكور وهو كونه من عند الله، فيكون الجار متعلقا ب شَهِدَ قال جار الله:
الواو الأخيرة عاطفة ل اسْتَكْبَرْتُمْ على شَهِدَ وأما الواو في وَشَهِدَ فقد عطفت جملة قوله وَشَهِدَ إلى آخره على جملة قوله كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قلت: هذا كلام حسن. ويجوز
القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد ﷺ وإيمانه تصديقه ذلك.
القول الثالث أن الشاهد ليس شخصيا معينا وتقدير الكلام لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم، ألم تكونوا ظالمين ضالين؟
والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي حقهم لَوْ كانَ ما أتى به محمد خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وقيل: اللام كما في قولك «قلت له». وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه. وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله ﷺ خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيرا لما سبقنا إليه أولئك الغائبون.
قال المفسرون: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيرا ما سبقونا إليه، ونحن أرفع منهم حالا وأكثر مالا وهؤلاء رعاة الغنم. وقيل: قاله أغنياء قريش للفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود. وقيل: هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. والعامل في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن «إذ» للمضي، والسين للاستقبال وبينهما تدافع. والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين. وقيل: كذب ككذب عيسى عليه السلام قوله وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى خبر ومبتدأ وقوله إِماماً أي قدوة يؤتم به في أصول شرائع الله، نصب على الحال كقولك «في الدار زيد قائما». وقوله لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير الكتاب في مُصَدِّقٌ أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالا من كِتابُ لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة. وجوز أن يكون مفعولا ل مُصَدِّقٌ على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول. قوله وَبُشْرى معطوف على محل لتنذر لأنه مفعول له. وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال إِنَّ الَّذِينَ قالُوا الآية. وقد مر في «حم السجدة» إلا أنه رفع واسطة الملائكة هاهنا من البين. ثم إن أعظم
وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها، فأخبر عليا رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجا بالآية فصدّقه عمر وقال: لولا علىّ لهلك عمر.
قال جالينوس: إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة. وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك. وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا: إن لتكوّن الجنين زمانا مقدّرا، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين. وعلى هذا فلو تمت خلقة الجنين في ثلاثين يوما فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو مائة وعشرون وصار المبلغ مائة وثمانين انفصل، ولو تمت خلقته في خمسة وثلاثين يوما تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب. ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وانفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن. وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولدا قد نبتت أسنانه وعاش. وعن أرسطاطاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان. هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا. وعلى هذا قوله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أكثر المفسرين كما مر في آخر «الأنعام» وأوّل «يوسف» و «القصص». على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريبا، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني ووفقني كما مر في «النمل».
ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني إلخ. ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول. والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون واردا على طريقة الإرشاد والتعليم. سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله وَالَّذِي قالَ مبتدأ خبره أُولئِكَ والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعا. ويجوز أن يكون الخبر عاما في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل. وقيل: تقديره واذكر الذي ومن القائل. عن الحسن وقتادة: هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في «سبحان» و «الأنبياء» أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من القبر وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فلم يرجع أحدهم وَهُما
يعني أبويه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له وَيْلَكَ آمِنْ بالله وبالبعث. والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
قال السدّي: فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ كائنين فِي أُمَمٍ إلى آخره. وأن عبد الرحمن لم يبق كافرا بل كان من سادات المسلمين. وروي عن عائشة إنكاره أيضا. وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان: يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه. ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله وَلِكُلٍّ أي من الجنسين دَرَجاتٌ من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة، والباقي واضح مما مرّ. والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب، والفسق عمل الجوارح، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه. وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع. قال مؤلف
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها ورقاعا فقال: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. قال: بل أنتم اليوم خير.
وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوما فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ وعنه أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع وقال:
رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ الآية. فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع. والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٣٥]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
إني أخاف بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف.
لا يُرى بالياء التحتانية مبنيا للمفعول إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالرفع: عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب. الباقون لا ترى على خطاب كل راء مساكنهم بالنصب بَلْ ضَلُّوا بإدغام اللام في الضاد: عليّ. وَإِذْ صَرَفْنا بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه: أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في رواية خلاد وابن سعدان وأبي عمرو يقدر فعلا مضارعا من القدرة: سهل ويعقوب.
الوقوف:
عادٍ ط لأن «إذ» يتعلق بأذكر محذوفا وهو مفعول به. هذا قول السجاوندي، وعندي أن لا وقف. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من أَخا عادٍ. إِلَّا اللَّهَ ط عَظِيمٍ هـ آلِهَتِنا ج لتناهي الاستفهام مع تعقيب الفاء الصَّادِقِينَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ز لاختلاف الجملتين لفظا ولكن التقدير وأنا أبلغكم تَجْهَلُونَ هـ مُمْطِرُنا ط لتقدير القول بِهِ ط لأن التقدير هذه ريح أَلِيمٌ هـ لا لأن ما بعده صفة مَساكِنُهُمْ ط الْمُجْرِمِينَ هـ وَأَفْئِدَةً ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام يَسْتَهْزِؤُنَ هـ يَرْجِعُونَ هـ آلِهَةً ج لتمام الاستفهام عَنْهُمْ ج لعطف الجملتين يَفْتَرُونَ هـ الْقُرْآنَ ج لكلمة المجازاة مع الفاء أَنْصِتُوا ج لذلك مُنْذِرِينَ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ أَلِيمٍ هـ أَوْلِياءُ ط مُبِينٍ هـ الْمَوْتى ط قَدِيرٌ هـ النَّارِ ط لتقدير القول بِالْحَقِّ ط وَرَبِّنا ط تَكْفُرُونَ هـ لَهُمْ ط يُوعَدُونَ هـ لا لأن ما بعده خبر «كأن» نَهارٍ ط بَلاغٌ ج للاستفهام مع الفاء الْفاسِقُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها، وبعد إتمام ما انجر الكلام إليه، أمر نبيه ﷺ أن يذكر قومه بقصة هود أعني أخا عاد لأنه واحد منهم.
والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج، ويقال له الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنذر جمع نذير مصدر أو
ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال المبرد: «ما» موصولة و «إن» نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه. وقال ابن قتيبة: «إن» زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود. وقيل: «إن» للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر. قوله مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء وهو القليل منه. وقوله إِذْ كانُوا ظرف لما أغنى وفيه معنى التعليل كقولك «ضربته إذ أساء». قوله مِنَ الْقُرى يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن، وتصريف الآيات أي تكريرها. قيل: للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن شركهم، والأوّلون حملوه على الالتفات. ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم. فقوله آلِهَةً مفعول ثان ل اتَّخَذُوا والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى الَّذِينَ وقُرْباناً حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله، أو لأجل القربة بزعمهم. والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل. ويجوز أن يكون قُرْباناً مفعولا ثانيا وآلِهَةً بدلا أو بيانا. قوله وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله.
وحين بيّن أن الإنس من آمن وفيهم من كفر، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضا كذلك.
وفي كيفية الواقعة قولان: أحدهما
عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور: كانت الجن تسترق
وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه ﷺ حتى أوحى الله إليه. والقول الثاني
أنه ﷺ أمر بذلك فقال لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله ﷺ شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال: لا تبرح حتى آتيك. قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علا بالقرآن أصواتهم. فلما رجع رسول الله ﷺ سألته عن اللغط فقال: اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم.
وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمعك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر. فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال: تمرة طيبة وماء طهور.
واختلفوا في عددهم: عن ابن عباس: كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى. وقال عكرمة: كانوا عشرة من جزيرة الموصل، وزر بن حبيش: كانوا تسعة ومنهم زوبعة. وقيل:
اثني عشر ألفا.
ولنرجع إلى التفسير. قوله وَإِذْ صَرَفْنا معطوف على قوله اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ ومعنى صرفنا أملناهم إليك، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار. والضمير في حَضَرُوهُ للنبي ﷺ أو القرآن قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا والإنصاف السكوت لاستماع الكلام فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ النبي ﷺ من القراءة. وإنما قالوا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى لأنهم كانوا يهودا أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله ﷺ إلى قومهم، ومنه يعلم أنه ﷺ كان مبعوثا إلى الجن أيضا وهذا من جملة خصائصه. وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم وَآمِنُوا بِهِ لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. و «من» في قوله مِنْ ذُنُوبِكُمْ للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في «إبراهيم». واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب. قوله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ أي لا يفوته هارب. قوله وَلَمْ يَعْيَ يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه. قوله بِقادِرٍ في محل الرفع لأنه خبر «أن» وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من