تفسير سورة القلم

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة القلم من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة نون مكية حروفها ألف وأربعمائة وستة وخمسون، كلمها ثلاثمائة، آياتها اثنتان وخمسون ).

(سورة نون)
(مكية حروفها ألف وأربعمائة وستة وخمسون كلمها ثلاثمائة آياتها اثنتان وخمسون)
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٥٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤)
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩)
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
332
القراآت:
ن وَالْقَلَمِ مظهرا: يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف. ووجه الإخفاء نية الوصل أإن كان بهمزتين: حمزة وأبو بكر وحماد آن كان بقلب الثانية ألفا، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة يبدلنا بالتشديد: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو لَما تَخَيَّرُونَ
بتشديد التاء: البزي وابن فليح ليزلقونك بفتح الياء: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالضم من الإزلاق.
الوقوف:
يَسْطُرُونَ هـ ط لأن ما بعده جواب القسم ل بِمَجْنُونٍ هـ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وعطفا على جواب القسم مَمْنُونٍ هـ ج لذلك عَظِيمٍ هـ وَيُبْصِرُونَ ج لأن ما بعده مفعول الْمَفْتُونُ هـ سَبِيلِهِ ط لاتفاق الجملتين بِالْمُهْتَدِينَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ فَيُدْهِنُونَ هـ مَهِينٍ هـ لا بِنَمِيمٍ هـ لا أَثِيمٍ هـ لا زَنِيمٍ هـ ط لمن قرأ أَنْ كانَ مستفهما وَبَنِينَ هـ ومن قرأ مقصورا يقف على البنين دون زَنِيمٍ الْأَوَّلِينَ هـ الْخُرْطُومِ هـ الْجَنَّةِ ط لاحتمال أن يكون «إذ» ظرفا ليكون وأن يكون مفعول «أذكر» محذوفا مُصْبِحِينَ هـ لا لتعلق أن المفسرة صارِمِينَ هـ يَتَخافَتُونَ هـ لا مِسْكِينٌ هـ قادِرِينَ هـ لَضَالُّونَ هـ لا لعطف «بل» واتحاد المفعول مَحْرُومُونَ هـ تُسَبِّحُونَ هـ ظالِمِينَ هـ يَتَلاوَمُونَ هـ طاغِينَ هـ راغِبُونَ هـ الْعَذابُ ط أَكْبَرُ م يَعْلَمُونَ هـ النَّعِيمِ هـ كَالْمُجْرِمِينَ هـ ط ما لَكُمْ ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر تَحْكُمُونَ هـ ج تَدْرُسُونَ هـ ج لأن ما بعده مفعول تَدْرُسُونَ وإنما كسرت «أن» لدخول اللام في خبرها تَخَيَّرُونَ هـ لا لأن «أم» معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام الْقِيامَةِ لا لأن «أن» جواب الأيمان تَحْكُمُونَ هـ زَعِيمٌ هـ لما مر في تَخَيَّرُونَ شُرَكاءُ ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء صادِقِينَ هـ فَلا يَسْتَطِيعُونَ هـ لا لأن ما بعده حال ذِلَّةٌ ط سالِمُونَ هـ بِهذَا الْحَدِيثِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ ج للعطف لَهُمْ ط مَتِينٌ هـ مُثْقَلُونَ هـ يَكْتُبُونَ هـ الْحُوتِ م بناء على أن «إذ» مفعول «اذكر» مَكْظُومٌ هـ ط مَذْمُومٌ هـ الصَّالِحِينَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار لِلْعالَمِينَ هـ
التفسير:
الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه السورة مذكورة. أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه، أو بالحوت الذي لطخ سهم نمرود بدمه، أقوال. عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن
333
وقتادة أن النون هو الدواة. قال:
إذا ما الشوق برّح بي إليهم ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون قسما بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة. وعن بعض الثقات أن أصحاب السحر يستخرجون من بعض الحيتان شيئا أسود كالنقس أو أشد سوادا منه يكتبون منه فيكون النون. وهو الحوت عبارة عن الدواة، ويعضده ما
روي أن النبي ﷺ قال «أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة»
وعن معاوية بن قرة مرفوعا أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه ما يأمرهم الله به. وقيل: نهر في الجنة. اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنسا لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علما منصرفا، وإن كان علما غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم، وقيل: النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الر وحم ون هذا الاسم الخاص. أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون: هو القلم المعهود الذي
جاء في الخبر أن «أول ما خلق الله القلم» «١»
والجوهرة التي
وردت في الحديث «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض»
كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب. و «ما» في قوله وَما يَسْطُرُونَ موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة. وقيل: أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج: «أنت» اسم «ما» والخبر بِمَجْنُونٍ وقوله بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك، أو انتفى عنك الجنون متلبسا بنعمة الله كما لو قلت: أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبسا بحمد الله، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد.
وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة.
وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان. وَإِنَّ لَكَ على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ١٧. أحمد في مسنده (٥/ ٣١٧). [.....]
334
قال الأكثرون: أي غير مقطوع كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: ١٠٨] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة. وقالت المعتزلة: في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبئ عن كونه غير ممنون. والحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثوابا عظيما. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد، والنبي ﷺ كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقا فيهم، وإليه الإشارة بقوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله لَعَلى إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع. قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن. وفي رواية: قرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١]
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك،
وقال أنس: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت،
ثم سلى نبيه ﷺ وهدد أعداءه بقوله فَسَتُبْصِرُ يا محمد ما قدر لك من عز الدارين وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة. قوله بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة: الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون. وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس: المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود. وقيل: الباء بمعنى «في» وعلى هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في أيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه.
وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غدا بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما. ثم أحال كيفية الحال إلى كمال علمه فقال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي بمن جن وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وهم لعقلاء. والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد.
قال المفسرون: إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى فَلا
335
تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ
وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملا بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه.
ثم ذكر تمنيهم فقال وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ تلين وتصانع فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعا في ادهانك. قال المبرد: أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. ثم حض النبي قائلا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله. وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية. وأيضا الحلاف يتفق له الكذب كثيرا والكذب حقير عند الناس. والهماز الذي يذكر الناس بالمكروه. وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي لأجل سعاية.
والنميم مصدر نم ينم مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الإثم عُتُلٍّ غليظ في الخلقة جاف في الخليقة. الزنيم الدعي ومعنى بَعْدَ ذلِكَ التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد. عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا وله عشر بنين يقول لهم: من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية. وقوله أَنْ كانَ بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان ذا مالٍ كذب فمتعلق الجار مدلول. قوله إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله يتلى لأنه مضاف إليه. عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى: الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة. وقيل: كان الوليد دعيا في قريش سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل: الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: في الذليل «جدع أنفه ورغم أنفه». والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة. ومتى هذا الوسم؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه. وعن النضر بن
336
شميل: الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها. وسمي الخمر خرطوما كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها. ومنهم من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم. ومنهم من قال في الدارين أي سنشهره بهذه السمة وهي أنّه حَلَّافٍ إلى زَنِيمٍ فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخرطوم. ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة. ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء الضراء.
وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، يروى أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء، وكان يجعل منها نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا: عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا لَيَصْرِمُنَّها أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح وَلا يَسْتَثْنُونَ أي لا يقولون «إن شاء الله» وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا. ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صرامها. هذا قول الأكثرين. وزعم الآخرون أن المراد يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم فَطافَ عَلَيْها عذاب طائِفٌ مِنْ حكم رَبِّكَ أو بعض من عذاب ربك، والطائف لا يكون إلا ليلا. قال الكلبي:
أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ الجنة كَالصَّرِيمِ «فعيل» بمعنى «فاعل» أو معنى «مفعول» والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، وقيل: النهار يسمى أيضا صريما لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم «صرم الإناء» إذا أفرغه. والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايرا لأثر الصرم. وقال الحسن: أي صرم عنها الخير: وقيل: الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئا ينتفع به. قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا صارِمِينَ لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين، أو
337
عبر عن الغدو لأجل الصرم بالغدو عليه كما يقال: غدا عليهم العدو يَتَخافَتُونَ يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجنة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول. قوله وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الإبل إذا منعت درها، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم. وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة. ويجوز أن تكون المحاردة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها. ويجوز أن لا يكون قوله عَلى حَرْدٍ صلة قادِرِينَ ولكن الكل يعود إلى قوله أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقوله قادِرِينَ يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين.
وقيل: الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله يَتَلاوَمُونَ وقيل: الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين. وقيل: حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله إِنَّا لَضَالُّونَ يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين. ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال. ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع بها ومنع الغير منها فقالوا: بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين. قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قال الأكثرون: معنى التسبيح هاهنا الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله وَلا يَسْتَثْنُونَ والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصا في كمال القدرة. وعن الحسن: هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر. وقال آخرون: إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء: لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة. فلم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين سُبْحانَ رَبِّنا عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته. قالت المعتزلة: سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنع المعروف وترك الاستثناء. ومعنى يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا يقول واحد لغيره: أنت
338
أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر: أنت خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال. ثم قالوا جميعا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ اعترافا بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين عَسى رَبُّنا الآية. سئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا كأنه توقف في المسألة. وعن مجاهد: إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيرا منها. وعن ابن مسعود: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. ثم هدد المكلفين بقوله كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أشد وأعظم. ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد أن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فنفى الله معتقدهم بقوله أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال القاضي: فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلما. وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثر من ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحاب الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨] وقد مر في «ص». ثم قال لهم على طريقة الالتفات ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به. ومعنى بالِغَةٌ مؤكدة مغلظة وقوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسم عليه وهو قوله إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ثم قال لنبيه ﷺ أو لكل من يستأهل الخطاب سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ أي كفيل بالاستدلال على صحته أَمْ لَهُمْ ناس شُرَكاءُ في هذا القول. والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون
ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه. قوله يَوْمَ يُكْشَفُ قيل: منصوب بقوله فَلْيَأْتُوا أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم. وقيل: بإضمار «اذكر». وقيل: التقدير يوم يكشف
339
عَنْ ساقٍ كان كيت وكيت. احتجت المشبهة على أن لله ساقا وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعا أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه، فأما المؤمنون فيخرون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ حال كونهم خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود.
وقال أهل السنة: الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن الساق لم يرد بها الجارحة، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله.
«وقامت الحرب بنا على ساق». ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح «يده مغلولة» ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله. قال في الكشاف: ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن.
وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل: قلت: الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنه عظمتها كما يقول غيره. وقال أبو سعيد الضرير: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء وأصولها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب. وقال أبو مسلم: هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها. والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفا فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف. ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد. وقال الجبائي: لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضا غير حاصلة على قول الجبائي. والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل
340
ومطاوعة الأعصاب وسلامة الفقر. ثم خوفهم بنوع آخر قائلا فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وفيه تسلية للنبي ﷺ كأنه قال: حسبي مجازيا لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه. وقوله سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إلى قوله مَتِينٌ قد مر في آخر «الأعراف». وقوله أَمْ تَسْأَلُهُمْ إلى يَكْتُبُونَ قد مر في «الطور». ثم أمر نبيه ﷺ بالصبر ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام وقد تقدم مرارا. قال بعض العلماء: معنى قوله كَصاحِبِ الْحُوتِ أنه كان في ذلك الوقت مكظوما أي مملوءا من الغيظ فكأنه قيل: لا تكن مكظوما أولا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة. وقال جمع من المفسرين: أن الآية نزلت بأحد حين حل بالمؤمنين ما حل فأراد أن يدعو على من انهزم. وقيل: نزلت حين أراد أن يدعو على ثقيف والنعمة التي تداركت يونس أي التحقت به وسدت خلته هي النبوة أو عبادته السابقة، أو قوله في بطن الحوت «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وهذه النعمة التوبة بالحقيقة. وقد اعتمد في جواب لولا على الحال أعني قوله وَهُوَ مَذْمُومٌ والمعنى أن حاله كانت على خلاف الصبر حين نبذ بالعراء أي الفضاء كما مر في «الصافات». ولولا تسبيحه لكانت حاله على الذم. وقيل: أراد لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة أي بعرصتها مذموما فَاجْتَباهُ رَبُّهُ بقبول التوبة فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الأنبياء عن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه. ثم أخبر نبيه ﷺ عن حسد قومه وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبره وشجعه فقال وَإِنْ يَكادُ هي مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها. زلقه وأزلقه بمعنى.
يقال زلق الرأس وأزلقه أي حلقه. قال جار الله: يعني أنهم من شدة تخوفهم ونظرهم إليك سرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم «نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني» أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله. ثم بين بقوله لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي ﷺ القرآن حسدا على ما أوتي من النبوة. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره وتنفيرا عنه مع علمهم بأنه أعقلهم.
ثم قال تعالى وَما هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرٌ وموعظة لِلْعالَمِينَ وفيه استجهال أن يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف. واعلم أن للعقلاء خلافا في أن الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ وبتقدير كونها حقيقة فهل الآية مفسرة بها أم لا؟ أما المقام الأول فقد شرحناه في أول «البقرة» في قوله وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [الآية: ١٠٢] وفى يوسف في قوله يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ [الآية:
٦٧] والذي نقوله هاهنا: فمنهم من أنكر ذلك بناء على أن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل
341
إلا بواسطة المماسة وهو ضعيف لأن النفوس والأمزجة لها تأثيرات خاصة.
ويروى أنه ﷺ قال «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر»
وأما المقام الثاني فقد قال بعض المفسرين:
كانت العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوع ويرتاض وثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا عانه. فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله ﷺ فقال: لم أر كاليوم رجالا مثله. فعصمه الله تعالى. طعن الجبائي في هذا التأويل وقال: الإصابة بالعين مقرونة باستحسان الشيء، والقوم كانوا يبغضون النبي ﷺ وأجيب بأنهم كانوا يبغضونه من حيث الدين إلا أنهم كانوا يستحسنون مصاحبته بإيراده الأعاجيب من الحجج والبيان وأنواع المعجزات. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية وبالله التوفيق.
342
Icon