وآياتها اثنتان وخمسون
كلماتها : ٣٠٠ ؛ حروفها : ١٤٥٦.
ﰡ
﴿ ن والقلم وما يسطرون ( ١ ) ﴾
﴿ ن ﴾ مثلها مثل حروف المعجم التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم مثل ﴿ ص ﴾ و﴿ ق ﴾ والكلام فيها كالكلام في تلك الحروف : إما أن تكون أسماء للسور، أو قد أراد الله بها تحدي العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلغتهم، إذ الكتاب العزيز مكونة كلماته من حروف كالتي ينطقون بها، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله.
﴿ والقلم ﴾ أقسم الله تعالى به لعظمته، كما امتن به على البشر فقال :﴿ الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ﴾١.
﴿ وما يسطرون ﴾ ما يكتبونه ويتعلمونه.
وربما يراد به جنس القلم الذي تكتب به الملائكة، وما يسطرون ويكتبون من أفعال العباد.
وفي المعنى الأول عبرة تبصر بدرجة العلم ووسائله، وعظة أن نحرص على طلبه وتدارسه.
وفي المعنى الثاني عبرة تذكر بعظيم سلطان الله وجنده، وعظة أن نحذر اكتساب الآثام حتى لا نجزى بها يوم العرض على الملك العلام.
يشهد الله تعالى- وكفى به شهيدا- أن نبيه صلى الله عليه وسلم على الحق المبين، وليس بحمد الله من المجانين، كما افترى عليه أعداء الدين، وحكى القرآن بهتانهم هذا في الآية الكريمة :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ﴾١. والجملة جواب القسم، والباء الأولى للملابسة، والثانية لتوكيد النفي. ومعلوم أنهم رموه بالجنون حسدا وعداوة ومكابرة.
يعد الله تعالى نبيه وعدا مؤكدا- ووعد الله لا يخلف- يعد الثواب والجزاء الأوفى الذي لا يكدر بمن ولا يقطع ولا ينقص. وبقدر ما صبر الرسول الكريم على الأذى في سبيل دعوته إلى ربه، ولم يهن لما استهزئ به، فإن المولى تبارك اسمه يمنحه الدرجات والنعيم والكرامة، ويتفضل بالمزيد :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.. ﴾١.
كرم الله تعالى رسوله، تمت كلمة ربنا صدقا وعدلا.
إن خاتم النبيين على درجة من الخلق كمله ربه بها، فهو يحتمل ما لا يحتمله أولوا العزم في سبيل دعوة الحق وهداية الخلق، فوق ما جمله به مولاه من مكارم الأخلاق.
في صحيح الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها : إن خلقه كان القرآن. حتى صار امتثال القرآن- أمرا أو نهيا- سجية له، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.
ومما في الصحيحين – صحيح البخاري ومسلم- عن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته ؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ؛ وبهذا أمرنا١.
فستعلم ويعلمون، في الدنيا بأي الفريقين المجنون أو المخذول... ؟ أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى ؟ وذلك بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم، وصيرورتك مهيبا معظما في قلوب العالمين، وكونهم أذلة صاغرين.
أو ستعلم ويعلمون في الآخرة بأي الفريقين المجنون أو المخذول... ؟ أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى ؟ !
وعلى كلا المعنيين فهو وعيد للكافرين المستهزئين، كما هو بشرى للنبي والمؤمنين، كما قال الله تعالى :﴿ .. فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ﴾١ وقال تبارك اسمه :﴿ سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ﴾٢.
٢ - سورة القمر. من الآية ٢٦..
مولاك أعلم أي الفريقين منكم ومنهم هو الضال عن الحق، وأعلم أي الحزبين هو المهتدي.
فالذين ضلوا عن الطريق السوي، واستحبوا العمى واختاروا ما يعقب الشقوة والنكال في العاجل والمآل، هم الذين يليق لهم أن يدمغوا بالجنون.
وهو سبحانه يجازي كلا بما عمل.
دم على ما أنت عليه من المجاهرة بالحق، والتنفير من الحمق ؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فنهي عن مطاوعتهم أو ملاينتهم، أو عدم الجهر بشططهم وزيغهم.
أحبوا لو تلاينهم فيلاينونك ؛ قيل : شبه التليين في القول بتليين الدهن.
نقل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك... فيلينون لك في عبادتك إلهك. كما قال جل ثناؤه :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.. ﴾ ١.
دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف- كثير الحلف- في الحق والباطل، مما يهون الجرأة على اسم الله، ويصل إلى عدم استشعار عظمته جل وعز.
﴿ مهين ﴾ حقير الرأي والتدبير، أو كذاب. أو وضيع جريء على الفحش والفجور.
طعان في أعراض الناس مغتاب، ينقل الأحاديث ليفسد ما بين الناس. وفي الحديث الصحيح عن حذيفة عن رسول الله :( لا يدخل الجنة نمام ) رواه الإمام مسلم. وقيل الهماز : الذي يعيب الناس مواجهة.
بخيل ممسك للمال، أو مناع الناس الخير الذي هو الإسلام، ﴿ معتد ﴾ متجاوز الحد بالظلم، ﴿ أثيم ﴾ كثير الآثام، مقبل على المعاصي والذنوب.
فاحش لئيم، فاجر الخصومة، ﴿ بعد ذلك ﴾ بعد ما ذكر من سوئه وشره، فبعد هنا تفيد التفاوت الرتبي، فتدل على أن ما بعد، أعظم في الشر. و﴿ زنيم ﴾ أي دعي ملحق بقوم ليس منهم- كما قال ابن عباس- والمراد به ولد الزنا. وأنشد لحسان.
زنيم تداعته الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد :
زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم.
يقول الألوسي : وإنما كان هذا أشد المعايب، لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها.
هنا همزة استفهام مقدرة، والمراد التوبيخ، أو تقدر لام تعليل.
قابل ما أنعمت عليه به من المال والبنين، بالتكبر والجحود والاستهزاء بآياتي، فإذا سمعها قال : هي من اختلاق وخرافات الأولين، وأباطيل السابقين.
وكثير من المفسرين على أن الموصوف بهذه الصفات هو الوليد بن المغيرة، وفيه كذلك نزل قول الله تعالى :﴿ فقال إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر ﴾١. بعد قوله سبحانه :﴿ وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ﴾٢.
٢ - سورة المدثر. الآيات: من ١٢ إلى ١٦..
سنطبع على أنفه سمة وكيا وعلامة إذلالا له ومهانة، وذلك وعيد الله للوليد بن المغيرة.
وهل هي علامة حسية أم مجاز ؟ وهل يكون ذلك في الدنيا أم في يوم الحساب ؟
نقل عن أبي العالية ومجاهد :﴿ سنسمه على الخرطوم ﴾ أي على أنفه ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه.
إنا اختبرنا أهل مكة فيما أعطيناهم من أموال وبنين فلم يشكروا ولكن بطروا وتمادوا في عناد محمد صلى الله عليه وسلم، فأذقناهم الجوع والقحط كما بلونا واختبرنا أصحاب الجنة – الحديقة- وكانوا يعرفون ذاك الخبر ؛ روي أنها كانت بأرض اليمن على مقربة من صنعاء، وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما مات صارت إلى ولده، فحلفوا ليقطفن ثمارها، وليحصدن زرعها في الصباح الباكر، قبل أن يستيقظ الفقراء الذين ألفوا أن يذهبوا إليها كل موسم ليأخذوا حقهم.
ولم يقولوا إن شاء الله، أو لم يدعوا حق المساكين، بل تواصوا أن يأخذوا كل الثمار، دون استثناء لنصيب الفقراء، الذي كان يؤديه لأصحابه أبوهم.
فأنزل الله على الحديقة - ﴿ الجنة ﴾- جائحة، وأحاط بها ليلا بلاء نزل من السماء، وهم بعد ما زالوا في غفلتهم ونومهم.
إنه الله العزيز العليم الذي لا يعجزه كيد الكائدين، ولا يفوته تمرد المفسدين :
﴿ أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾١.
فما جاء الصبح إلا وقد غدت الحديثة محترقة مسودة كالليل المظلم- ويسمى الليل صريما لانصرامه وذهابه، وربما سمي النهار كذلك- أو أصبحت ولا ثمر فيها كالبستان المصروم الذي قطعت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء. أو مثل الزرع إذا حصد هشيما يبسا.
نادى بعضهم بعضا في الصباح ليسرعوا إلى الجذاذ، وقطع الثمر والحصاد.
بأن اخرجوا لزرعكم وبستانكم ما دمتم تقصدون قطع ثماره، وهيا مبكرين.
فخرجوا مسرعين وهم يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد- يتسارون ويتحدثون سرا ويتناجون.
ومع تناجيهم وإسرارهم فإن الله الخبير أنبأنا بخفي همسهم :﴿ .. فإنه يعلم السر وأخفى ﴾١.
وإنها لعبرة وعظة أنه مهما استخفى المفسد من الخلق فإن الخلاق به عليم :﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ﴾٢.
٢ - سورة النساء. الآية ١٠٨..
وكان تناجيهم : أن لا يدخلنها عليهم محتاج.. تواصوا أن لا يمكنوا فقيرا ولا مستحقا من دخولها أو الظفر بشيء من خيرها.
وأصبحوا على قصد وجد، وقوة وشدة قادرين في زعمهم على أن يحولوا بين المستحقين وحقوقهم.
أو أصبحوا على منع وحرمان قادرين، أي لما عزموا على حرمان المساكين جازاهم الله من جنس عملهم، وهم غافلون، فأصبحوا بحنقهم وحماقتهم وبخلهم قادرين على حرمان أنفسهم، ولم يعودوا قادرين على إدراك ثمرها وخيرها.
لما رأوها محترقة لا شيء فيها صارت سوداء كالليل المظلم قال بعضهم لبعض : ضللنا الطريق إلى جنتنا.
أو ضللنا عن الحق حين عزمنا على حرمان ذوي الحقوق فلم يبق لنا شيء بل قد حرمنا١- هذا معنى قولهم- وحرموا خيرها بجنايتهم على أنفسهم.
لما رأوها محترقة لا شيء فيها صارت سوداء كالليل المظلم قال بعضهم لبعض : ضللنا الطريق إلى جنتنا.
أو ضللنا عن الحق حين عزمنا على حرمان ذوي الحقوق فلم يبق لنا شيء بل قد حرمنا١- هذا معنى قولهم- وحرموا خيرها بجنايتهم على أنفسهم.
كان أحدهم يحاول أن يردهم عن بغيهم، ويستنقذهم من حلول غضب ربهم- وكان أرجحهم عقلا- ونصحهم أن يتذكروا جلال الله، ويقلعوا عن العزم على منع حقه، فلما أصروا، وذاقوا وبال أمرهم، ورأوا ما حل ببستانهم، عيرهم وذكرهم انتقام الله من المجرمين.
اعترفوا بذنبهم وتابوا وندموا، ولات ساعة مندم، وأتوا بالطاعة لكن بعد انقضاء وقتها، ونزهوا الله تعالى عن أن يكون ظالما فيما فعل، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بتعدي حدود ربهم، وظلموا المساكين بحرمانهم.
فاتجه كل أخ إلى أخيه يلومه على ما كان، يرميه بأنه أشار بهذا ورضي به.
إنما حل بنا الوبال ببغينا وطغياننا وتجاوزنا حدنا، ولم نشكر كما شكر آباؤنا.
رجاءنا أن يعوضنا الله أفضل من جنتنا في الدنيا، أو يثيبنا ببركة توبتنا واعترافنا بخطيئتنا.
﴿ إنا إلى ربنا راغبون ( ٣٢ ) ﴾
إنا إلى الله- دون سواه- لجأنا، وفي واسع عفوه طمعنا ؛ وهل كان ذلك منهم ندما على الذنب، وصدقا مع الله في العهد ؟ أم كان على حد ما يكون من المشركين حين ينزل بهم البأس والذين نعى عليهم القرآن الكريم :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين. قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ﴾١ ؟
ليس عندنا ما يصلح برهانا لأي من الرأيين.
هكذا نعذب في الدنيا من عتا عن أمر ربه، ونذيقه وبال أمره. فليحذر البخلاء والبطرون ومانعو الزكاة والسفهاء أن يحل بهم وبأموالهم ما حل بالبطرين من قبلهم.
ومهما عظمت القارعة التي ينزلها الله بالمجرمين والمسرفين في دنياهم فإن ما أعد لهم من نكال في الآخرة أشد وأبقى، وأدهى وأخزى، لكن حين غفلتهم لم يتدبروا مصيرهم، ولو تدبروه لتوقوه، وعملوا لما تحسن به عاقبتهم.
إن لمن توقى الكفر والشر، وراقب الله في السر والجهر – له عند ربه في الآخرة جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
فتلك :﴿ .. أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا.. ﴾١.
أفيليق بحكمنا أن نحيف ؟ حاشا – فإنا نقضي بالحق ولا نظلم الناس شيئا ؛ فالهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على مقدر : أي أنظلم فنجعل مصير المسلم مثل مصير الكافر المجرم ؟ لا يستويان !
قيل : وفيه رد على افتراء المشركين حين سمعوا من النبي ما وعد الله من البعث فقالوا : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا... وأقصى أمرهم أن يساوونا !
أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي حتى حكمتم بهذا الحكم الزائغ ؟ وفيه تعجيب من حكمهم، واستبعاد له، وأنه لا يصدر من عاقل.
حكمكم الذي زعمتم من التساوي بينكم وبين المسلمين لا يستسيغه عقل، فهل صح به النقل ؟ وهل جاءكم وحي من السماء يشهد لهذا الادعاء ؟ ! وهل قرأتم فيه ذلك ؟
وهل قال لكم الكتاب، ووجدتم إذ تدارستموه : إن لكم للذي تختارونه ؟ وفي ذلك تبكيت لهم وأشد تثريب ؛ أم فوضناكم تحكموا بما شئتم وأقسمنا لكم وعهدنا بذلك عهودا وأقساما قصوى متناهية في التوكيد ثابتة إلى يوم القيامة تبلغ ذلك اليوم، فنحكمكم ونعطيكم ما تحكمون ؟ !
وهل قال لكم الكتاب، ووجدتم إذ تدارستموه : إن لكم للذي تختارونه ؟ وفي ذلك تبكيت لهم وأشد تثريب ؛ أم فوضناكم تحكموا بما شئتم وأقسمنا لكم وعهدنا بذلك عهودا وأقساما قصوى متناهية في التوكيد ثابتة إلى يوم القيامة تبلغ ذلك اليوم، فنحكمكم ونعطيكم ما تحكمون ؟ !
وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبكتهم على شططهم وسفههم وليسألهم سؤال تقريع : من منكم يتضمن بهذا ويتكفل ؟ وأيكم يتصدى لتصحيح هذا الحكم الخارج عما تستسيغ الأفهام، وأن يتساوى الكفار مع أهل الإسلام ؟ !
بل ألهم شركاء يشاركونهم هذا القول وادعاء تساوي المؤمنين والكافرين في الآخرة ؟ فإن كانوا صادقين في دعواهم فليجيئوا بشركائهم. أو هل الذين جعلوهم لله شركاء بزعمهم يقدرون على أن يجعلوهم في الآخرة كالمسلمين ؟ ! فهو أمر معناه التعجيز.
فليجيئوا بأوثانهم وأصنامهم يوم الفزع الأكبر يوم الدين، يوم يولون مدبرين ما لهم من الله من عاصم، فإذا اشتد الهول شمروا عن سوقهم- جمع ساق وهو ما فوق القدم-.
يقول أهل اللغة : وأصله تشمير المخدرات- النساء المحجبات- عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلا إذا عظم الخطب واشتد الأمر، فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الآية من المتشابه – الذي نؤمن به كما نزل من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تنظير ؛ وعليه فالساق قد يراد بها ساق الله تعالى، وبرهانهم ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ).
﴿ ويدعون إلى السجود ﴾ توبيخا لهم على تركهم إياه في الدنيا ( فلا يستطيعون ) لزوال القدرة على ذلك.
وفيه ترهيب من تضييع الصلاة أو عدم الإخلاص في أدائها.
يوم العرض على الله الواحد القهار تظهر الذلة على وجوه الكفرة الفجرة :﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم.. ﴾١، ﴿ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي... ﴾٢.
فالذلة الشديدة تلحقهم وتغشاهم، والخزي يعظم أثره فيهم، والحسرة تملؤهم لتفريطهم، وقد كانوا في الدنيا ينادون إلى العبادة وهم على الوفاء بها قادرون.
٢ - سورة الشورى. من الآية ٤٥..
إنذار من العزيز القهار –جل علاه- ووعيد ببطش ربنا الشديد بكل مكذب بالقرآن المجيد ؛ فسأنزلهم إلى العذاب درجة بعد درجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يدرون أنه استدراج، وتلك سنة الله في المعرضين عن الهدى :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾١. والاستدراج بترك المعاجلة.
أطيل لهم المدة وأمهلهم. والملوان : الليل والنهار. وهم يظنون أن ذلك لإرادة الخير لهم، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية المباركة :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾١ وأعذر الله تبارك اسمه إليهم فقال :﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقر بكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا... ﴾٢.
﴿ إن كيدي متين ﴾ إن عذابي قوي شديد محيط بهم لن يفوتني منهم أحد.
٢ - سورة سبأ. من الآية ٣٧..
أتلتمس منهم ثوابا ومقابلا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله فهم من غرامة ذلك مثقلون لما يشق عليهم من بذل المال ؟ لا ! ليس عليهم كلفة، بل لو اتبعوك لفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وأدخلوا جنات النعيم.
بل اطلعوا على اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يجادلونك به ؟ وأنهم أفضل منكم ولا يعاقبون، ويحكمون لأنفسهم بما يشاءون ؟ !
وهو إمهالهم، وتأخير نصرتك عليهم ؛ وفيه تسلية للنبي وتوكيد لنفاذ قضاء الله تعالى فيهم، كما جاء في قوله جل ثناؤه :﴿ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ﴾١.
﴿ ولا تكن كصاحب الحوت ﴾ لا تكن كيونس عليه السلام فتستعجل قضاءنا قبل مجيء أوانه، إذ عجل يونس فضاق بتكذيب قومه له فتركهم ومضى غاضبا يريد فراقهم، وحين ركب السفينة توقفت فاقترعوا ليظهر أيهم هرب من سيده فخرجت القرعة على يونس عليه السلام فألقوه في الماء فابتلعه حوت فنادى ربه ﴿ .. أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ﴾٢.
و﴿ مكظوم ﴾ أي : مملوء غما.
٢ - سورة الأنبياء. من الآية ٨٧ والآية ٨٨..
﴿ تداركه نعمة ﴾ بدون تاء في الفعل لأن تأنيث نعمة غير حقيقي. تداركته رحمة من الله فتاب عليه ورعاه ونجاه، ولولا نعمة ربنا لبقي في بطن الحوت ثم بعث بعراء القيامة مذموما، يشير إلى ذلك ما في قوله تعالى :﴿ فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ﴾١.
وهكذا يعلمنا مولانا البر الرحيم في شخص النبي الكريم عليه الصلوات والتسليم أن لا نتعجل قضاء الله في أعداء الدين، وإنما علينا أن نحمي الحق ونحن على يقين من نصرة الله للمؤمنين، وانتقامه من المفسدين :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾٢.
٢ - سورة الأحقاف. الآية ٣٥..
اصطفاه المولى واختاره، وشفّعه في نفسه وقومه.
﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾١ وأرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون.
والصلاح مطلب وضراعة تجأر بها الأنبياء، وسلام الله على يوسف نبي الله الذي كان من دعائه.. ﴿ .. فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾٢. وصلاة وسلاما على سليمان رسول الله الذي أورد القرآن من دعائه :﴿ .. رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾٣.
٢ - سورة يوسف. الآية ١٠١..
٣ - سورة النمل. من الآية ١٩..
وإنه يكاد الكافرون أن يقتلوك بأبصارهم، ينظرون إليك نظرة مغيظة حاقدة، لو كانت نظرة تردى وتهلك لكانت تلك النظرة.
وذهب جمع من المفسرين إلى أنهم كادوا يعاينونه أي تقتله أعين الحاسدين، لكن تولاه بالعصمة من أذاهم رب العالمين ؛ كل ذلك لضيقهم بسماع ما أوحى إليه من الله العزيز الحكيم.
وزادوا على أضغانهم تلك رمي الرسول المصطفى بالجنون- لعنوا بما قالوا-
وما القرآن إلا شرف للعالمين شرفوا بما شهد لهم من كرامتهم على الله القوي المتين.
أو : ما النبي إلا شرف للناس شرفوا باتباعه صلى الله عليه وسلم.