والسورة تُعنى بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث همته، وتقوية عزيمته، ليبقى متمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد، بعد أن تُثبت له الأجر العظيم، والخُلق العظيم وتثبته بقوله تعالى :﴿ فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون ﴾....
ثم قوّت عزيمته حول موقف المجرمين من دعوته، وما أعد لهم من العذاب ﴿ فلا تطع المكذبين، ودّوا لو تدهن فيدهنون، ولا تطع كل حلاّف مهين... ﴾.
ثم ضربت مثلا لكفار مكة في جحودهم وكفرانهم نعمة الله العظمى، ببعثه الرسول العظيم إليهم، رحمة وتشريفا لهم لأنه منهم، وشبهت ما وقع لأهل مكة من العذاب، بما وقع لأصحاب الجنة البخلاء، الذين حذر بعضهم بعضا بقولهم :﴿ أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين ﴾، وساروا إليها في أول النهار، وهم على هذه النية السيئة، فلما وصلوا إليها وإذا بها محترقة خاوية على عروشها، فلما رأوها كذلك ﴿ قالوا إنا لضالون ﴾.
ثم بشرت المؤمنين بما لهم عند ربهم من جنات ونعيم، ﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون ﴾. ثم أنكرت على المكذبين ما يدعونه لأنفسهم بغير حق، وعمدت إلى تخويفهم بوصف حالهم في الآخرة، وتهديدهم، ثم إلى النصح لرسول الله بالصبر والاحتمال ﴿ فاصبر لحكم ربك... ﴾ ثم ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم، وأن دعوته صلى الله عليه وسلم للعالمين أجمعين.
ﰡ
ن : حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور، وقد تقدّم الكلام عليها.
أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت ﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ.... ﴾ [ العلق : ١ ].
يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها.
﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾.
لستَ يا محمد مجنوناً كما يزعمون، فقد أنعم اللهُ عليك بالنبوّة والرسالة، والعقل الراجح.
إن لك على ما تَلْقاه في تبليغ الرسالة الأجرَ العظيم الدائم الّذي لا ينقطع أبدا.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ ؟ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه ؟ ».
وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت :«ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً، ولا ضرب بيدِه شيئا قط إلا أن يُجاهِد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ إلا كان أحبُّهما إليه أيسَرَهما. وكان أبعدَ الناس عن الإثم، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتَهك حرماتُ الله ».
ويبصرون : ويعلمون.
ثم بعد أن نفَى عنه ما يقوله المشركون، ومدَحه بشهادةٍ عظمى، جاء يطمئنُهُ بأنه هو الفائز وأنهم هم الخاسرون فيقول :
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون ﴾
ستعلمُ أيها الرسولُ، وسَيعلمُ الكافرون الجاحدون.
من هو الضالّ المفتون.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾
وهذا وعدٌ من الله يشير إلى أن المستقبلَ سيكشف عن الحقيقة، ويُثبِت أن هذا الرسول جاءَ برسالةٍ من عند الله، وهو على هدىً وحق، والمشركون على ضلالٍ مبين. وقد صدق وعدُ الله وظهرت الحقيقة، ونصره اللهُ وأظهر هذا الدينَ القيّم.
فقد تمنَّوا لو تتركُ بعضَ ما أنتَ عليه وتلينُ لهم وتصانِعُهم فَيَلينون لك طمعاً في تَجاوُبك معهم.
وقد حاول زعماءُ قريشٍ أن يساوموه، وأن يجمعوا له الأموال، وأن يُمَلِّكوه عليهم، وهم لا يَعلمون أن هذا الرسول الكريم فوقَ هذا كلّه، لا يريدُ منهم جزاءً ولا شُكورا، ولا يريد إلا هدايتَهم إلى هذا الدينِ القويم.
ثم بيّن بعضَ صفات أولئك المكذّبين الذي هانت عليهم نفوسُهم،
وفي هذه الآية والآيات التي بعدها عدّد تسع صفات من صفات السوء.
ويقول المفسّرون : إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان من زعماء قريش الأثرياء. وهناك أقوال كثيرةٌ لا حاجة إلى إيرادها،
فالآية عامة في كلّ من يكذِب ويحلِف كذبا.
وهذه الأصنافُ من البشَر موجودةٌ في كل زمانٍ فَلْنحذَرْها ونتقي شرّها.
مشّاء بنميم : كثير الوشاية والنميمة بين الناس.
فالآية عامة في كل من ينمُّ ويمشي بالسوءِ بين الناس، ويثير الفتنَ والشرَّ بينهم.
وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه أن ينقلَ إليه أحدٌ منهم ما يُغيِّر قلبه على صاحبٍ من أصحابه. وكان يقول :« لا يبلّغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئا، فإني أُحبّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليمُ الصدر »، رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« لا يدخلُ الجنةَ فتّان » والفتان هو النمّام.
وهناك أحاديثُ كثيرة تحذّر من هذه الأخلاق الفاسدة، فالإسلامُ جاء لينقِّيَ الأخلاقَ، ويعلّم الناسَ الخير، ورفيعَ الأخلاق، والمعاملةَ الطيبة، وحُسنَ المعاشرة، وهو يشدِّد في النهي عن الخلُق الذميم الوضيع.
معتد : ظالم.
أثيم : كثير الذنوب.
زنيم : دعيّ، يُعرف بالشر واللؤم.
قراءات :
قرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر : أأن كان ذا مال، على الاستفهام. وقرأ ابن عامر آن كان بمد الهمزة. والباقون : أ، كان ذا مال كما هو في المصحف.
لا آياتٍ من عند الله.
وبعد أن ذكَر قبائح أفعاله توعّده بشرٍ عظيم فقال :
﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم ﴾
سنجعلُ له وسْماً وعلامةً على أنفه يوم القيامة، أي أنّنا سنفضح أمره حتى لا يخفى على أحدٍ في الدنيا، ثم يأتي يومَ القيامة وعلى أنفه وسمٌ ظاهر.
الجنة : البستان.
ليصرمنّها : ليقطفنّ ثمارها.
مصبحين : وقت الصباح.
إنا امتحنّا كفارَ قريشٍ بأن أغدقنا عليهم النِعَم والأمن لنعلمَ : أيشكرون هذه النعم أم يكفرونها، كما اختبرنا أصحابَ الجنّة التي يعرفون قصتها.
فقد كان لرجلٍ بستانٌ كبير فيه من شتى أنواع الفاكهة، وكان هذا الرجل يتصدَّق منه ويعطي الفقراءَ والمساكين والمحتاجين. فلما تُوفي قال أولادُه : لو أعطينا الفقراءَ والمساكين من بستاننا هذا، لما بقيَ لنا شيء. فاتفقوا أن يذهبوا إلى جنّتهم صباحاً مبكّرين. وأقسموا بأن لا يدخلنّها عليهم مسكين.
فأرسل الله عليها آفة أحرقتْها وهم نائمون لا يدرون ماذا جرى لها.
فأصبحت جنتهم سوداء خاوية.
فلما أصبحوا نادى بعضُهم بعضا
حَرْثكم : زرعكم.
صارمين : قاطعين الثمار.
ليذهبوا إليها ويقطفوا ثمارها.
وانطلقوا خِلسة وهم يتهامسون حتى لا يسمع بهم أحدٌ من المحتاجين فيلحقَهم.
وغدَوا إليها في حماسة وهم يظنّون أنهم قادرون على تنفيذ ما خطّطوا له.
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾... لقد سَلَبَنا اللهُ ما رزقَنا.
لولا تسبّحون : ليتكُم تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم عليكم.
فقال لهم ﴿ أَوْسَطُهُمْ ﴾ أي : أعدلُهم وأرجحهم عقلا : أَلم أقل لكم هلاَّ تسبِّحون اللهَ وتشكرونه على ما أَولاكم من النعم، فتؤدوا حقَّ المساكين والمحتاجين !
ثم بعد ذلك ألقى كل واحدٍ منهم تَبِعَة ما وقع على الآخر كما قال تعالى :﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ﴾.
طاغين : متجاوزين حدود الله.
ثم نادَوا على أنفسِهم بالويل والثبور، واعترفوا بذنبهم، ورجعوا إلى الله.
﴿ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم ﴾ الخالصِ الدائم.
وعندما سمع كفارُ قريش هذه الآية قالوا : إن الله فضّلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ أن يفضّلنا عليكم في الآخرة،
﴿ أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ! ﴾
لا يجوز أن نظلمَ في حُكمنا فنجعلَ المسلمين كالكافرين ونسوّيَ بينهم.
وهل عندكم كتابٌ نزل من السماءِ تقرؤون فيه.
إنّ لكم فيه ما تختارون ؟
إن لكم لَما تحكمون : إنه سيحصل لكم كل ما تريدون يوم القيامة.
أم أقسَمْنا لكم أيماناً مؤكدة باقيةً إلى يوم القيامة ؟ ﴿ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾ وسيحصل لكم كل ما تشتهون.
اسأل المشركين أيها الرسول : من الذي يكونُ كفيلاً بتنفيذ هذا ؟
قد شمّرتْ عن ساقِها فشدّوا*** وجدّت الحربُ بكم فجِدّوا
يوم يشتد الأمر ويصعُب، ويُدعى الكفارُ إلى السجود فلا يستطيعون، كما أنه لن يُجديَهم التلاومُ ولا السجودُ في ذلك اليوم نفعا، فتزداد حسرتُهم وندامتهم على
ما فرّطوا فيه.
ويأتون في ذلك اليوم خاشعةً أبصارُهم منكسرةً تغشاهم ذلةٌ مرهِقة، وقد كانوا يُدعون إلى السجود في الدنيا وهم قادرون.... فلا يسجدون !
بهذا الحديث : بهذا القرآن.
سنستدرجهم : سننتقل بهم من حال إلى حال.
اترك يا محمد من يكذّب بالقرآن لي، فإني عالم بما ينبغي أن أفعلَ بهم.... سنُدْنِيهم من العذابِ درجةً بعد درجة فتزدادُ معاصيهم من حيث لا يشعرون.
كيدي متين : تدبيري قوي.
وأُمهلهم بتأخير العذاب، إن تدبيري حين آخذُهم قويٌّ لا يفلت منه أحد.
وفي الحديث الصحيح : إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه.
مثقلون : ثقيلة عليهم.
وإن أمْرَهم لَعجيب، فأنت تدعوهم إلى الله بلا أجرٍ تأخذُه منهم، ﴿ فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ فهل كُلّفوا أن يدفعوا أجراً لك فهم من هذه الغرامة مثقلون ؟
مكظوم : مملوء غيظا.
ثم بعد ذلك أمر رسولَه الكريم أن يصبر على أذاهم فقال :
﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت.... ﴾
اصبر أيها الرسولُ، على قضاء ربك.. لا تكن كيونسَ صاحبِ الحوت حينَ ذهبَ مغاضِبا لقومه فكان من أمرِه ما كان، فنادى ربَّه في الظلمات وهو مملوء غيظا ﴿ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧، ٨٨ ].
ولولا أن تداركته نعمةُ ربه بقَبول توبته لَطُرِحَ في الأرض الفضاء وهو مذموم.
﴿ فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين ﴾ وردّه إلى قومه نبيّاً فانتفعوا به.
لمّا سمعوا الذِكر : القرآن الكريم.
ثم بين الله تعالى كيف ظهرتْ عداوتُهم للنبي الكريم، وكيفَ كانوا ينظُرون إليه بحقدٍ وضِيق فقال :
﴿ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾
إنهم لِشدةِ عداوتهم لك ينظُرون إليك بهذه الكراهية حتى لَيكادون يُزِلّون قدمك حسداً وبغضا حين سمعوا القرآن، ثم يزيدون في كُرههم ويقولون إنك لَمجنون.
قراءات :
قرأ نافع وحده : ليزلقونك بفتح الياء والباقون : بضمها، وهما لغتان زَلِق وأزلق.
وما هذا القرآن إلا عِظةٌ وحِكمة وتذكيرٌ للعالمين، والذِكر لا يقوله مجنون، فصدَقُ الله وكذَب المفترون.