تفسير سورة سورة القلم من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَعني بقوله ﴿ نۤ ﴾ الحوتُ الذي على الأرضِ واسمه لوثيا، وذلك أنَّهُ لَمّا خلقَ اللهُ الأرضَ وفتَقها، بعثَ اللهُ مَلكاً من تحتِ العرش فهبط إلى الأرضِ حتى دخلَ تحت الأرضِين السَّبع، فوضعَها على عاتقهِ وإحدَى يديهِ بالمشرقِ والأُخرى بالمغرب، فلم يكن لقَدَميهِ قرارٌ، فأهبطَ اللهُ من الفردوسِ ثَوْراً له أربعون ألفَ قَرنٍ وأربعون قائمةً، وجعلَ قرارَ قدمِ الْمَلَكِ على سنامهِ، فلم تستقرَّ قَدماهُ، فخلقَ الله قوَّة خضراءَ غِلظُها مسيرةُ خمسمائة سنةٍ، فوضعَها بين سنامِ الثور وآذانه فاستقرَّتْ عليها قدماهُ، وقُرون ذلك الثور خارجةٌ من أقطار الأرض ومنخاراهُ في البحرِ، فهو يتنفَّسُ كلَّ يومٍ نَفَساً، فاذا تنفَّسَ مدَّ البحرَ، وإذا ردَّ نفسَهُ جَزَرَ، فلم يكن لقوائمِ الثور موضعُ قرارٍ، فخلقَ الله صخرةً خضراءَ كغِلَظِ سَبعِ سماوات وسبعِ أرضين، فاستقرَّت قوائمُ الثور عليها، وهي الصخرةُ التي قالَ لقمانُ لابنهِ﴿ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ﴾[لقمان: ١٦]، فم يكن للصَّخرةِ مستَقرٌّ، فخلقَ الله نُوناً، وهو الحوتُ العظيم فجعلَ الصخرةَ على ظهرهِ وسائرَ جسدهِ خالٍ، والحوتُ على البحرِ، والبحرُ على متنِ الرِّيح، والريحُ على القدرة). وقال بعضُهم: هو اسمُ السُّورة. وَقِيْلَ: هو آخرُ حروفِ الرَّحمن وهي روايةٌ عكرمةَ عن ابنِ عبَّاس قالَ: (الر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ). وقال قتادةُ والضحَّاكُ: (النُّونُ هِيَ الدَّوَاةُ)، وقال بعضُهم: هو لوحٌ من نورٍ. وقال عطاءُ: (هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى: نُورٌ، وَنَاصِرٌ). واختلفوا القراءةَ فيه، فقرأ بعضُهم بإظهار النون، وقرأ بعضُهم بإخفائها، وقرأ ابنُ عبَّاس بالكسرِ على إضمار حروف القَسَمِ، وقرأ عيسَى بن عمر بالفتحِ على إضمار فعل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ قال المفسِّرون: هو القلمُ الذي كتبَ به اللوحَ المحفوظ، قال ابنُ عبَّاس: (أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ). وَقِيْلَ: لَمَّا خلقَ اللهُ القلمَ، نظرَ إليه فانشقَّ نِصفَين ثم قالَ لَهُ: إجْرِ، قالَ يا رب بمَا أجرِي؟ قال: بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامة، فجرَى على اللوحِ المحفوظ بذلك. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ وَرزْقٍ وَأجَلٍ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِنْ ذلِكَ " ". قوله ﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ يعني وما تكتبُ الملائكةُ الْحَفَظَةُ من أعمال بني آدمَ، وجوابُ القسَمِ ﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ وهو جوابٌ لقولهِم﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾[الحجر: ٦]، فأقسمَ اللهُ تعالى بالنُّون والقلمِ وبأعمال بني آدمَ فقال: ﴿ مَآ أَنتَ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ؛ ﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾؛ أي ما أنت بإنعامهِ عليكَ بالنبوَّةِ والإيمانِ بمجنونٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً ﴾؛ معناهُ: وإنَّ لكَ أجراً بصَبرِكَ على افترائِهم عليكَ ونِسبَتِهم إياكَ إلى الجنُونِ.
﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾؛ أي غيرَ مَنقُوصٍ ولا مقطوعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾؛ أي على دِينٍ عظيمٍ لم أخلِقْ ديناً أحبَّ إلَيَّ، ولا أرضَى عندي منهُ، يعني الإسلامَ، ورُوي عن عكرمةَ عن ابنِ عبَّاس: (يَعْنِي الْقُرْآنَ) والمرادُ آدابُ القرآنِ كما أمرَ اللهُ به نبيَّهُ عليه السلام. وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ، فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ: (إقْرَأ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أوَّلِِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَرَأهَا، فَقَالَتْ: تِلْكَ خُلُقُهُ). وَقِيْلَ: لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِهِ، قَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ، يَسْخَطُ لِسُخْطِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ). ويقال:" إنَّ جبريلَ عليه السلام لَمَّا جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ قال: " أتَيْتُكَ يَا مُحَمَّدُ بمَكَارمِ الأَخْلاَقِ: أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ "وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارمَ الأَخْلاَقِ، أدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي ". ويقال:" إنَّهُ صلى الله عليه وسلم احتملَ للهِ في البلاءِ إلى أنْ قالَ حين شُجَّ في وجههِ: " اللُّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " فأنزلَ اللهُ تعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ "قال الجنيد: (سَمَّى خُلُقَهُ عَظيماً لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ سِوَى اللهِ تَعَالَى). وَقِيْلَ: إنه صلى الله عليه وسلم عاشَرَهم بخُلقهِ وزايَلهم بقلبهِ، كان ظاهرهُ مع الْخَلقِ وباطنهُ مع الحقِّ! وَقِيْلَ: سَمَّى خلقَهُ عظيماً لاحتمالِ مكارمِ الأخلاق فيه. وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْركُ بخُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَار)، وقالَ صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ شَيْءٍ أثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ خُلُقٍِ حَسَنٍ "وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أحَبَّكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى أحَاسِنُكُمْ أخْلاَقاً، الْمُوَطِّئُونَ أكْنَافاً، الَّذِينَ يُؤْلَفُونَ وَيَأْلَفُونَ. وَأبْغَضُكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى الْمَشَّاءونَ بالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإخْوَانِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْعَثَرَاتِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾، أي ستَعلَمُ ويَعلَمُونَ، يعني أهلُ مكَّة، وهذا وعيدٌ لأهلِ مكَّة بالعذاب ببَدْر، يعني: سترَى ويرَى أهلُ مكَّة إذا نزلَ بهم العذابُ ببَدّر.
﴿ بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ ﴾؛ الباءُ زائدةٌ، والمعنى: أيُّكم المجنونُ الذي فَتَرَ بالجنون أأنتَ أم هم؟ يعني أنَّهم يعلَمُون عندَ العذاب أنَّ الجنونَ كان لَهم حين عبَدُوا الأصنامَ، وترَكُوا دِينَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾؛ معناهُ: إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ أعلَمُ بمَن سبقَ له الشَّقاءُ في علمهِ.
﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾؛ أي أعلمُ بمَن سبَقت له السَّعادةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾؛ بالكتُب والرُّسُلِ، وهم رُؤوسُ الكفَّارِ الذين كانوا يَدعونَهُ إلى دين آبائهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾؛ معناهُ: تَمنَّى الكفارُ يا مُحَمَّدُ أن تُضايعَهم فيُضَايعُونَكَ، وتُلاَينَهُم فيُلاينُونَكَ، مأخوذٌ من الدُّهن. وقال مجاهد: (مَعْنَاهُ: إظْهَارُ الْقَوْلِ باللِّسَانِ بخِلاَفِ مَا فِي الْقَلْب، كَأنَّهُ شَبَّهَ التَّلْيينَ فِي الْقَوْلِ بتَلْيينِ الدُّهْنِ). وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: وَدُّوا لَوْ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَيُمَالِؤُكَ). وقال الضحَّاكُ: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ). وقال زيدُ بن أسلمَ: (وَدُّوا لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ). قال ابنُ قتيبةَ: (كَانُوا أرَادُوهُ أنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُونَ اللهَ مُدَّةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾؛ هذا تحذيرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الرُّكون. والْحَلاَّفُ: كثيرُ الحلف بالباطلِ، والْمَهِينُ: قيل: من الْمَهَانَةِ؛ وهي الحقارةُ والضَعفُ في الرَّأي والتمييزِ، قِيْلَ: إنَّ المرادَ به الوليدُ بن المغيرةِ المخزومي، وكان قد عرضَ على النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليَرجِعَ عن دينهِ، وسُمِّي مَهيناً لاستخارتهِ الحلفَ والكذبَ على الصِّدق، ثم كانت الآيةُ عامَّةً في كلِّ مَن كان في طريقتهِ. وَقِيْلَ: المرادُ به الأسودُ بن عبدِ يَغُوث، وَقِيْلَ: الأخنسُ بن شريقٍ.
قوله تعالى: ﴿ هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ ﴾؛ الهمَّازُ: الْمُغتَابُ الطعَّانُ للناسِ، مَشَّاءٍ بنَمِيمٍ: أي يَمشِي بالنَّميمةِ بين الناس؛ ليُفسِدَ بينهم. وَقِيْلَ: الهمَّازُ: الوقَّاعُ في الناسِ، العائِبُ لهم بما ليس فيهم، ويُسمَّى النَّمَّامُ: القَتَّاتُ، قال صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ ﴾؛ أي كثير المنعِ للخير، وكان الوليدُ بن المغيرة بهذه الصِّفة يمنعُ الناسَ من اتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان يمنعُ أهلَهُ وولدَهُ والحميَّة عن الإسلام، يقالُ: المنَّاعُ للخيرِ البخيلُ الذي هو كثيرُ المنعِ للحقوق الواجبةِ في المال. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾؛ المعتدِي: هو الغَشُومُ الظلومُ على عبادِ الله، والأثيمُ: الكذابُ الذي هو كثيرُ الإثمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾؛ العُتُلُّ: شديدُ الخصومةِ بالباطلِ. وَقِيْلَ: الشديدُ الحلفِ، أكُولٌ شَرُوبٌ رحيبُ البطنِ سَرِيحٌ صحيحٌ الْجَسمِ على بطنهِ، ويُجِيعُ عبدَهُ ويمنعُ رَفْدَهُ، ومأخوذٌ من العَتْلِ وهو الشدَّةُ في السَّحب. وقِيْلَ: شديدُ الْخُلْقِ وأحسَنُ الْخَلقِ. وَقِيْلَ: هو الجافِي القاسِي اللئيمُ العَسِرُ الضَّجِرُ. وقال الكلبيُّ: (هُوَ الشَّدِيدُ فِي كُفْرِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ أي مع ما وصفناهُ به زَنِيمٌ، وَقِيْلَ: معناه عُتُلٍّ مع ذلك زَنِيمٍ، والزَّنِيمُ: الْمُلصَقُ في القومِ وليس منهم، والزَّنِيمُ هو الدَّعِيُّ، قال الشاعرُ: زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَنْ أبُوهُ بَغِيُّ الأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمِوعن ابنِ عبَّاس في قوله تعالى ﴿ زَنِيمٍ ﴾ قالَ: (يُعْرَفُ بالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بزَنْمَتِهَا). وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ زَنِيمٍ ﴾ أيْ هُوَ مَعَ كُفْرِهِ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْهُمْ). قِيْلَ: إنما ادعاهُ أبوه إلاَّ بعدَ ثمانِي عشرةَ سنةً. وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (الزَّنِيمُ الَّذِي لاَ أصْلَ لَهُ). قال ابنُ قتيبةَ: (لاَ نَعْلَمُ أنَّ اللهَ وَصَفَ أحَداً كَمَا ذكَرَهُ، وَلاَ بَلَغَ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبهِ كَمَا بَلَغَ عُيُوبَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، لأنَّهُ وَصَفَهُ بالْحَلْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَيْب لِلنَّاسِ وَالْمَشْيِ بالنَّمَائِمِ وَالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالإثْمِ وَالْجَفَا وَالدَّعْوَةِ، فَأَلْحَقَ بهِ عَاراً لاَ يُفَارقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" " لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلاَ جَعْظَرِيٌّ وَلاَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " وَقِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْجَوَّاظُ؟ قَالَ: " الَّذِي جَمَعَ وَمِنْعَ تَدْعُوهُ لَظَّى نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى " قِيلَ: وَمَا الْجَعْظَرِيُّ؟ قَالَ: " الْفَظُّ الغَلِيظُ " قِيلَ: وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ: " الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الرَّحِيبُ الْبَطْنِ، ظَلُومٌ لِلنَّاسِ " ". قال صلى الله عليه وسلم:" " تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ رَجُلٍ أصَحَّ اللهُ جِسْمَهُ وَأرْحَبَ جَوْفَهُ وَأعْطَاهُ الدُّنْيَا، فَكَانَ لِلنَّاسِ ظَلُوماً، فَذلِكَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " قَالَ: " وَتَبْكِي السَّمَاءُ مِنَ الشَّيْخِ الزَّانِي مَا تَكَادُ الأَرْضُ تُقِلُّهُ "وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا وَلاَ وَلَدُهُ وَلاَ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَأنَّ أوْلاَدَ الزُّنَاةِ يُحْشَرُونَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" لاَ تَزَالُ أُمَّتِي بخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَى، فَإنْ فَشَا فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَا فَيُوشَكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابٍ "، وقال عكرمةُ: (إذا كَثُرَ أوْلاَدُ الزِّنَا قَلَّ الْمَطَرُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴾؛ معناهُ: لا تُطِعْهُ لأنه كان ذا مالٍ وبنين؛ أي لا تُطِعْهُ لِمَالهِ وبَنِيهِ، وكان مالهُ نحواً من سبعةِ آلاف مثقالٍ من فضَّة، وكان له بنون عَشرَةٌ، وكان يقولُ لَهم: مَن أسلَمَ منكم فلا يدخلَنَّ داري، ولا أنفعهُ بشيءٍ أبداً. وقرأ ابنُ عامر ويعقوب (أنْ كَانَ ذا مَالٍ) بالمدِّ، وقرأ حمزةُ وعاصم (أأنْ) كان بهمزَتين. وقرأ غيرُهم على الخبرِ حين قرأ بالاستفهام، فمعناهُ: ألأَنِ كان ذا مال وبنينٍ تطيعهُ، ويجوزُ أن يكون رَاجعاً الى ما بعدَهُ، والمعنى: لأجلِ أنْ كان ذا مالٍ وبنين.
قوله تعالى: ﴿ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾؛ وهي القرآنُ أبَى أن يقبَلها و؛ ﴿ قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي ما كَتَبَهُ الأوَّلون من أحاديثهم قد درسه مُحَمَّدٌ وأصحابهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ ﴾؛ أي سَنَسِمُهُ بالسَّوادِ على الأنفِ، وذلك أنه يَسْوَدُّ وجههُ قبلَ دخولِ النار، والمعنى: سنُعْلِمهُ بعلامةٍ يَعرِفُهُ بها جميعُ أهلِ القيامة، ويقال: سَنَسِمُهُ بسِيمَاءَ لا تفارقهُ آخرَ الدهرِ؛ أي نُلْحِقُ به عَاراً يبقى ذلك عليه أبداً، كما تُعرَفُ الشاةُ بسِيمَتِها، والخرطومُ: الأنفُ، وقال الضحَّاك: (سَنَكْوِيهِ عَلَى وَجْهِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾؛ معناهُ: إنَّا امتَحنَّا أهلَ مكة بالجوعِ والقحط والقتلِ والسَّبي والهزيمةِ يومَ بدرٍ، كما امتحنَّا أهلَ البُستان، وأراد به بُستاناً كان باليمنِ يعرَفُ بالقيروان دونَ صَنعاء بفرسخَين، كان يطئُوه أهلُ الطريقِ، قد غرسَهُ قومٌ بعدَ عيسى عليه السلام وهم قوم بخلاء، وَقِيْلَ: من بني إسرائيلَ، وكانوا مُسلمين باليمنِ، ورثُوا هذا البستانَ من أبيهم وفيه زرعٌ ونخيل، وكان أبوهم يجعلُ مما فيه حظّاً للمسلمين عند الحصادِ والصِّرامِ. فلمَّا ماتَ أبوهم ورثوهُ وكانوا ثلاثةً، قالوا: إنَّ المالَ قليلٌ والعيالَ كثيرٌ، فلا يسَعُنا أن نفعلَ ما كان يفعلُ أبونا، وإنما كان أبونا يفعلُ ذلك لأن المالَ كان كثيراً والعيالَ قليلاً، فعزَمُوا على حِرمان المساكين، فتحالَفُوا بينهم يوماً ليَغْدُوا غدوةً قبل خروجِ الناس ليَقطَعُوا نَخلَهم إذا أصبَحُوا بسَرِقَةٍ من الليلِ من غير أن يشعُرَ بهم المساكينُ.
﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾؛ أي ولا يقُولون إنْ شاءَ اللهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾ أي ليقطعُنَّ ثَمرَها ﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ أي عندَ طُلوعِ الفجرِ قبلَ أن يخرُجَ المساكينُ إليه ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ أي ولم يقولوا إنْ شاءَ اللهُ. ورُوي أنَّ أبَاهم كان يأخذُ من هذا البستان قُوتَ سَنَةٍ لنفسهِ، وكان يتصدَّقُ بما بَقِيَ على المساكين. وَقِيْلَ: إنه كان يتركُ لَهم ما خرجَ من السِّباط الذي كان يسقطُ تحتَ النَّخلة إذا صُرمت، فقالَ بنوهُ بعدَ موتهِ: نحن جماعةٌ وإنْ فعَلنا ما كان يفعلهُ أبونا ضاقَ عَيشُنا، فحَلَفوا ليَصْرِمُنَّها مُصبحين لئلاَّ يصِلَ إلى المساكين منها شيءٌ، وَلاَ يَسْتَثْنُونَ. وإنما شبَّهَ اختبارَ أهلَ مكَّة باختبار أهلِ البستان؛ لأن أبَا جهلٍ كان قال يومَ بدرٍ قبل التقاءِ الفئتين، وَاللهِ لَنَأْخُذهُمْ أخْذاً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ:" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ "، وكان هذا الدعاءُ قبلَ وقوعِ الهزيمة على الكفَّار، فابتلاهُم اللهُ بالجوعِ والقحط سبعَ سنين حتى أكَلُوا العظامَ المحرَّقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾؛ وذلك أنَّهم لَمَّا تخافَتوا تلك الليلةَ على أن يَصرِمُوها، سلَّطَ اللهُ على جنَّتِهم بالليلِ نَاراً فأحرقتْهُ وهم نائمون. ولا يكون الطَّائِفُ إلاّ بالليلِ.
﴿ فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ ﴾؛ أي كاللِّيل المظلمِ سوداءَ محترقةً. والصَّرِيْمَانِ: الليلُ والنهارُ، ولا يَصرِمُ أحدُهما من الآخرِ، وَقِيْلَ: سُمي الليلُ صَرِيماً؛ لأنه يقطعُ بظُلمَتهِ عن التصرُّف في الأمور.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾؛ أي أصبَحُوا عند طُلوعِ الفجرِ يُنادِي بعضُهم بعضاً: أن اغدُوا إلى بستانِكم وزُروعِكم إنْ كُنتم قَاطِعين للثِّمار والأعناب والزُّروعِ قبلَ أن يعلم المساكينُ بنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾؛ أي فتنَادَوا مُصبحين، وخَرَجُوا مُسرعين يتخَافَتُون؛ أي يُسِرُّون الكلامَ فيما بينهم ويتشَاوَرُون فيما بينهم ﴿ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ ﴾؛ يزاحمهم على الثمرةِ أن لا يقطَعنَّها أحدٌ من المحتاجين، والمعنى: أنَّهم كانوا يتشَاوَرون يقولُ بعضهم لبعضٍ: ﴿ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ ﴾، والتَّخَافُتُ: هو إخفاءُ الحركةِ، والْخُفُوتُ: السُّكوت.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾؛ أي غدَوا على قصدِ منع الفقراء قادِرين في زَعمِهم على إحراز ما في جنَّتهم من الثمار دون الفقراءِ، وهم لا يعلَمُون أنَّها قدِ احتَرقَتْ ليلاً وهم نائمون. وَقِيْلَ: إن الْحَرْدَ هو المنعُ والغضبُ والحنقُ على المساكين، وَقِيْلَ: الحردُ هو الْجِدُّ، وَقِيْلَ: الغِلْظُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾؛ فلمَّا رأوا جنَّتَهم عند الصباحِ سوداءَ محترقةً قالوا: إنا قد ضلَلنا الطريقَ وليست هذه جنَّتُنا، فلما أمعَنُوا النظرَ عرَفُوها، فعلموا أنَّها عقوبةٌ، فقالوا: ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي حُرِمنا ثَمرَ جنَّتنا لِمَنعِنَا المساكين، وما أخطَأْنا الطريقَ إليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾؛ أي قالَ أعدَلُهم وأفضَلُهم، وَقِيْلَ: أوسطُ الثلاثةِ سِنّاً، قال لَهم: ألَمْ أقُلْ لكم هلاَّ تَستَثْنُونَ في حَلفِكم وقد كان قالَ لَهم ذلك عندَ قسَمِهم. وإنما أُقيم لفظُ التَّسبيحِ مقامَ الاستثناءِ؛ لأنَّ في الاستثناءِ تعظيمَ اللهِ، والإقرارَ بأنَّ أحداً لا يقدِرُ أن يفعلَ فِعلَهُ إلاَّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ: كان استثناءُ القومِ في ذلك الزمان التسبيحُ. ويجوزُ أن يكون معنى التسبيحِ ها هُنا: هلاَّ تُنَزِّهُونَ اللهَ وتستغفرونَهُ من سُوءِ نيَّاتِكم؟ ﴿ قَالُواْ ﴾؛ عندما رأوا مِن قدرةِ الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَآ ﴾؛ أي تَنْزيهاً لرَبنا وتعظيماً واستغفاراً له.
﴿ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾؛ لأنفُسنا بما عَزَمنا عليه من الذهاب بحقوق الفُقراءِ ومَنعِنا لهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ﴾؛ أي أقبَلُوا يلومُ بعضهم بعضاً بما كان منهم من منعِ المساكين، يقولُ كلُّ واحدٍ منهم لصاحبهِ: هذا مِن عمَلِكَ، وأنتَ الذي بَدأتَ بذلكَ، ثم ﴿ قَالُواْ ﴾؛ بأَجْمَعِهم: ﴿ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾؛ حين لم نَصْنَعْ ما صنعَ أبونا من قبلُ. والطَّاغِي: المتجاوزُ عن الحدِّ. ثم رجَعُوا إلى اللهِ تعالى ورَجَوا منه العُقبَى، وسألوهُ أن يُبدِلَهم خَيراً منها فقالوا: ﴿ عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾؛ أي نرغبُ إليه ونرجُو منه الْخَلَفَ في الدُّنيا، والثوابَ في الآخرة. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ ﴾؛ أي هذا العذابُ في الدنيا لِمَن منعَ حقَّ اللهِ ولِمَن كفرَ بنعمةِ الله.
﴿ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾؛ وأشدُّ على كفَّار مكة.
﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أن الذي يخوِّفُهم اللهُ به حقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾؛ وذلك أنَّ عتبةَ بن ربيعةَ كان يقولُ: إنْ كان ما يقولهُ مُحَمَّدٌ حقّاً في النعيمِ في الآخرة لنكوننَّ أفضلَ منهم في الآخرةِ، فضَّلنا عليهم في الدُّنيا. فأنزلَ اللهُ هذه الآيات لبيانِ أنَّ جناتِ النعيمِ في الآخرة خاصَّةٌ للَّذين يتَّقون الشِّركَ والفواحشَ. وقوله تعالى: ﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ هذا استفهامٌ معناهُ الإنكار والتوبيخُ. وقوله تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ إنكارٌ عليهم أيضاً لَمَّا حكَمُوا بالسويةِ وبين أهلِ الثواب وأهل العقاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴾ أي ألَكُم يا أهلَ مكَّة كتابٌ من اللهِ، فيه تقرَأون بأنَّ لكم في الدُّنيا والآخرة ما تختارُون لأنفسكم. والمعنى: ألَكُم فيه كتابٌ تقرأون أنَّ لكم في ذلك الكتاب ما تختَارون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾؛ معناهُ: ألَكُم علينا عهودٌ وثيقة إلى يومِ القيامة، بأن لكم ما تقضون لأنفسكم أن لكم من الخير والكرامة، وإنما كُسرت (إنَّ) في هَاتين الآيتَين لدخولِ اللام في خَبرِها. ثُم قال تعالى لنبيِّهِ عليه السلام: ﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾؛ أي سَلهُم يا مُحَمَّدُ أيُّهم كفيلٌ لهم بأنَّ لهم في الآخرةِ ما للمسلمين، والزَّعِيمُ هو الكفيلُ الضَّامِنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾؛ معناهُ: ألَهُم فيما يقولون شُهداء وأعوان عليهِ؟ فليَأْتُوا بشُركائهم يشهدون لَهم بذلك إنْ كانوا صَادِقين في مَقالتِهم، وأرادَ بالشُّركاء الأصنامَ التي أشرَكوها باللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ معناهُ: يومَ يُكشَفُ عن الأمُور الشدائدِ وهو يومُ القيامةِ، وهذا مما كَثُرَ استعمالهُ في كلامِ العرب على معنى يومٍ يشتدُّ الأمرُ كما يشتدُّ ما يحتاجُ إلى أن يكشفَ فيه عن ساقٍ، ومِن ذلك قولُهم: قَامَتِ الحربُ على ساقٍ، وكَشَفَتْ عن ساقٍ، وإن لم يكن للحرب ساقٌ. وانتصبَ قوله ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ ﴾ على الظَّرفِ لقوله ﴿ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ ﴾ في ذلك اليومِ لتَنفَعهم أو تشفعَ لهم، وعن عكرمةَ قالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ فَقَالَ: إذا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَب، أمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَالْخَيْلُ تَعْدُو عِنْدَ وَقْتِ الإشْرَاقِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ بنَا عَلَى سَاقِأي يومُ القيامة يومُ كَرْبٍ وشدَّة، وقال ابنُ قتيبة: (أصْلُ هَذا أنَّ الرَّجُلَ إذا وَقَعَ فِي أمْرٍ عَظيِمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْجِدِّ فِيْهِ يُشَمِّرُ عَنْ سَاقَيْهِ) فاستُعيرَ الكشفُ عن الساقِ في موضع الشدَّة، وقال دريدُ بن الصمَّة يرثِي أخاهُ: كَشَمْسِ الإزَار خَارجٌ نِصْفُ سَاقِهِ صَبُورٌ عَلَى الْجَلاَ طَلاَّعُ أنْجُدِيقالُ للأمرِ إذا اشتدَّ وتفاقمَ وتراكبَ غمُّهُ وكشفَ عن ساقهِ يومَ يشتدُّ الأمرُ، كما يشتدُّ ما يحتاجُ إليه إلى أنْ يكشفَ عن ساقٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ قال المفسِّرون: يسجدُ الخلق كلُّهم سجدةً واحدةً، ويبقى الكفَّارُ والمنافقون يرِيدُون أن يسجُدوا فلا يستطيعون، كما رُوي: أن أصلاَبَهم يومئذٍ تصيرُ عَظْماً واحداً مثلَ صَيَاصِيِّ البقرِ، يعني قُرونَها. ويقالُ: يأمرُ الله أهلَ القيامةِ بالسُّجود، فمَن كان يسجدُ له في الدُّنيا قَدَرَ على السُّجود في الآخرةِ، ومَن لا فلاَ، فيكون ذلك أمارَةَ تَمييزِ المؤمن من الكافرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ ﴾؛ أي ذليلةً، وذلك إذا عايَنوا النارَ، وأيقَنُوا بالعذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾؛ أي تَغشَاهُم ذِلَّةُ الندامةِ والحسرةِ، وتعلُوهم كآبةٌ وحزنٌ وسوادُ الوجهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ ﴾؛ يعني وقد كَانُوا يُدعَون بالأذانِ في الدُّنيا، ويُؤمَرون بالصلاةِ المكتوبَة.
﴿ وَهُمْ سَٰلِمُونَ ﴾؛ أي مُعَافُون ليس في أصلابهم مثل سَفَافِيدِ الحديدِ.
قولهُ تعالى: ﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ ﴾؛ أي خَلِّ بيني وبينَ مَن يكذِّبُ بهذا القرآنِ، لا تشغَلْ قلبَكَ بهِ، كِلْهُ فأنا أكفيكَ أمرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي كلما جدَّدُوا معصيتَهُ جدَّدنَا لهم نعمةً وأنسينَاهُم شُكرَها ثم أخَذناهم بغتةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قوله تعالى: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾؛ أي أتسأَلُهم أجراً يا مُحَمَّدُ على ما تَدعُوهم إليه من الإيمان جُعْلاً فهُم مِن الغَرمِ الذي يَلزَمُهم بإجابتِكَ مُثقَلُونَ فيمتنعون عن الإجابةِ بسَبَبهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾؛ أي أعِندَهم الوحيُ بأنَّكَ على الباطلِ وهم على الحقِّ، فيكتُبون ذلك الوحيَ ويخاصمونَكَ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ ﴾؛ أي اصبرْ يا مُحَمَّدُ على تبليغِ الوحيِ والرسالة، ولا تكُنْ في الضَّجَرِ والعجَلةِ كصاحب الحوتِ يونُسَ عليه السلام، والمعنى: لا تَضْجَرْ فيما يلحقُكَ من الأذيَّة من جهلهم كما ضَجِرَ صاحبُ الحوتِ، فخرجَ من بين ظَهرَانِيهم قبلَ أن يأذنَ اللهُ له حتى الْتَقَمَهُ الحوتُ.
﴿ إِذْ نَادَىٰ ﴾؛ فنادَى وهو في بطنِ الحوتِ:﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾[الأنبياء: ٨٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾؛ أي مَمْلُوءٌ غمّاً.
﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾؛ بقبُولِ توبتهِ.
﴿ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾؛ أي لأُلقِيَ من بطنِ الحوت على وجهِ الأرض، وَقِيْلَ: معناه: لنُبذ بالضَّجَرِ وهو مَلُومٌ مذمومٌ، ولكنْ قَبلَ اللهُ توبتَهُ، فنُبذ وهو غيرُ مَذْمُومٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ أي اختارَ يونُسَ لنُبوَّتهِ وللإِسلامِ، فجعلَهُ من الصَّالحين بقَبُولِ تَوبَتهِ، فردَّ إليه الوعيَ وشَفَّعَهُ في قومهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾؛ اختلَفُوا في ذلكَ، قال بعضُهم: كان عادةِ العرب أنَّهم إذا حَسَدُوا إنساناً تجوَّعُوا ثلاثةَ أيَّام، ثم خرَجُوا عليه فقالوا لَهُ: ما أحْسَنَكَ؛ ما أجْمَلَكَ؛ ما كذا وكذا ليُصِيبوهُ بأَعيُنهم، فتوَاطَؤا على أنْ يفعلوا ذلك بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدفعَ اللهُ عنه كيدَهم وشرَّهم. وَقِيْلَ: إن العينَ كان في بني إسرائيل أشدَّ، حتى أنَّ الناقةَ السمينة والبقرةَ السَّمينة كانت تَمُرُّ بأحدِهم، فيُعَاينُوها ثم يقولُ: يا جاريةُ خُذِي الزَّنبيلَ والدرهمَ واذهَبي ائْتِنَا بلحمٍ مِن هذه، فما يبرحُ أن تُنحَرَ من سَاعَتِها. قال الكلبيُّ: (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب يَمْكُثُ لاَ يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاَثَة، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بهِ الإبلُ، فَيَقُولُ فِيْهَا مَا يُعْجِبُهُ، فَمَا تَذْهَبُ إلاَّ قَرِيباً حَتَّى تَسْقُطَ لِوَقْتِهَا، فَسَأَلَ الْكُفَّارُ هَذا الرَّجُلَ أنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَيْنِهِ وَيَفْعَلَ بهِ مِثْلَ ذلِكَ، فَأجَابَهُمْ إلَى ذلِكَ، فَعَصَمَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّهُ وَحَفِظَهُ عَنْهُمْ، وَأنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ). ورُوي أنَّ الكفارَ كانوا يَقصِدُون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُصِيبوهُ بالعينِ، وكانوا ينظُرون إليه نظرَ أشدّ يَداً بالعينِ، وقال الزجَّاجُ: (مَعْنَى الآيَةِ: أنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مِنْ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُونَ إلَيْهِ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ)، والمعنى: تكادُ الكفَّارُ بنظرِهم إليكَ أنْ يصرَعُوكَ. وقرأ نافعُ (لِيَزْلِقُونَكَ) بفتحِ الياء، يقالُ: زَلَقَ هو وَزَلَقْتُهُ، مثلُ حَزَنْتَهُ وحَزَنَ هُوَ، وقرأ الباقون (لِيُزْلِقُونَكَ) من أزْلَقَهُ من موضعهِ إذا نَحَّاهُ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ "وقال:" إنَّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ "وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: وإن يكادُ الذين كفَرُوا من شدَّة إبغاضِهم وعداوتِهم لكَ يُسقِطُونَكَ وَيصرِفُونَكَ عمَّا أنتَ عليه من تبليغِ الرِّسالةِ ويُزِيلونَكَ عن المقامِ الذي أقامكَ اللهُ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾؛ أي لما أعيَتهُم الحيلةُ عن صرفِ الناس عنكَ نسبُوكَ إلى الجنونِ مع علمِهم بخلاف ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ ﴾ يعني القرآنَ، وذلك أنَّهم كانوا يكرَهُون القرآنَ أشدَّ الكراهةِ، فيُحِدُّونَ النظرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين يتلوهُ بالبغضاءِ، وكانوا يَنسِبُونَهُ إلى الجنونِ إذا سَمعوهُ يقرأ القرآنَ، فقال اللهُ تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي ما القرآنُ الذي يقرؤهُ عليهم إلاَّ عِظَةٌ للخلائقِ كلِّهم.