ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القلموهي مكية، ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل.
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)
ن حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس: نون، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: النون اسم للدواة، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب، أو تكون لفظة أعجمية عربت، قال الشاعر: [الوافر]
إذا ما الشوق برح بي إليهم | ألقت النون بالدمع السجوم |
نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في يَسْطُرُونَ للناس، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخ اللسان، ومطية الفطنة، ونعمة من الله عامة. وروى معاوية بن قرة، أن النبي ﷺ قال: ن لوح من نور، وقال ابن عباس وغيره: هو حرف من حروف الرحمن، وقالوا إنه تقطع في القرآن: الر [يونس: ١، هود: ١، يوسف: ١، إبراهيم: ١، الحجر: ١] وحم [غافر: ١، فصلت: ١، الشورى: ١، الزخرف: ١، الدخان: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١]، ون، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نون» بالنصب، والمعنى: اذكر نون، وهذا يقوى مع أن يكون اسما للسورة، فهو مؤنث سمي به مؤنث، ففيه تأنيث وتعريف، ولذلك لم ينصرف، وانصرف نوح، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة، وقرأ
«جبر» وقيل كسرت لاجتماع الساكنين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: «نون» بسكون النون، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه، وقرأ قوم، منهم الكسائي:
ن وَالْقَلَمِ بالإدغام دون غنة، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار. ويَسْطُرُونَ معناه: يكتبون سطورا، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به، وإن أراد بني آدم، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، وقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو جواب القسم وما هنا عاملة لها اسم وخبر، وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر، وقوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعتراض، كما يقول الإنسان: أنت بحمد الله فاضل. وسبب هذه الآية، أن قريشا رمت رسول الله ﷺ بالجنون، وهو ستر العقول، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون، فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر، وأنه على الخلق العظيم، تشريفا له ومدحا.
واختلف الناس في معنى: مَمْنُونٍ فقال أكثر المفسرين هو الواهن المنقطع، يقال: حبل منين، أي ضعيف. وقال آخرون: معناه غَيْرَ مَمْنُونٍ عليك أي لا يكدره من به. وقال مجاهد: معناه غير مصرد ولا محسوب محصل أي بغير حساب، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: خلقه القرآن أدبه وأوامره، وقال علي رضي الله عنه: الخلق العظيم أدب القرآن، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، أما أن الظاهر من الآية أن الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون، أي غير محصل لما يقول، وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله عليه السلام: «بعث لأتمم مكارم الأخلاق».
وقال جنيد: سمي خلقه عظيما، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق، وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق، وحسن الخلق خير كله. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة، قائم الليل وصائم النهار». وقال: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن»، وقال: «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا»، والعدل والإحسان والعفو والصلة من الخلق. وقوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ أي أنت وأمتك، ويُبْصِرُونَ أي هم. واختلف الناس في معنى قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. فقال أبو عثمان المازني:
الكلام تام في قوله: يُبْصِرُونَ، ثم استأنف قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وقال الأخفش بل الإبصار عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها، وأما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة: هي زائدة، والمعنى: أيكم المفتون. وقال الحسن والضحاك: الْمَفْتُونُ بمعنى الفتنة، كما قالوا: ما له معقول، أي عقل، وكما قالوا: اقبل ميسوره ودع معسوره، فالمعنى: بِأَيِّكُمُ هي الفتنة والفساد الذي سموه جنونا، وقال آخرون:
بِأَيِّكُمُ فتن الْمَفْتُونُ وقال الأخفش، المعنى: بِأَيِّكُمُ فتنة الْمَفْتُونُ، ثم حذف المضاف وأقيم ما أضيف إليه مقامه، وقال مجاهد والفراء: الياء بمعنى: في أي، في أي فريق منكم النوع المفتون.
والنميم: مصدر كالنميمة. وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس. وروى حذيفة أن النبي قال: «لا يدخل الجنة قتات»، وهو النمام، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه، وقالت طائفة: بل نزلت في معين، واختلف فيه، فقال بعضها: هو الوليد بن المغيرة، ويؤيد ذلك غناه، وأنه أشهرهم بالمال والبنين، وقال الشعبي وغيره: هو الأخنس بن شريق، ويؤيد ذلك أنه كانت له هنة في حلقه كزنمة الشاة، وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي:
هو أبو جهل، وذكر النقاش: عتبة بن ربيعة، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث، وظاهر اللفظ عموم من هذه صفته، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن، لا سيما لولاة الأمور.
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٢ الى ٢٠]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)
قال كثير من المفسرين: الخبر هنا المال، فوصفه بالشح، وقال آخرون: بل هو على عمومه في المال والأفعال الصالحة، ومن يمنع إيمانه وطاعته لله تعالى فقد منع الخير، والمعتدي: المتجاوز لحدود الأشياء. والأثيم: فعيل من الإثم، بمعنى: آثم، وذلك من حيث أعماله قبيحة تكسب الإثم، والعتل:
القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب، البعيد الفهم، الأكول الشروب، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار، فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت بصدر، وقد ذكر النقاش، أن النبي صلى الله عليه وسلم: فسر العتل بنحو هذا، وهذه الصفات كثيرة التلازم، والعتل:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم | كما نيط خلف الراكب القدح الفرد |
زنيم تداعاه الرجال زيادة | كما زيد في عرض الأديم الأكارع |
تُتْلى في إِذا لأنه مضاف إليه وقد أضيف إِذا إلى الجملة ولا يجوز أن يعمل في أَنْ، قال لأنها جواب إِذا ولا تعمل فيما قبلها. وأجاز أبو علي أن يعمل فيه عُتُلٍّ وإن كان قد وصف، ويصح على هذا النظر أن يعمل فيه زَنِيمٍ لا سيما على قول من يفسره بالقبيح الأفعال، ويصح أن يعمل في أَنْ كانَ، تطيعه التي يقتضيها قوله: وَلا تُطِعْ [القلم: ١٠]. وهذا على قراءة الاستفهام يبعد وإنما يتجه لا تطعه لأجل كونه كذا، وأَنْ كانَ، على كل وجه، مفعول من أجله وتأمل. وقد تقدم القول في الأساطير في غير ما موضع. وقوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ معناه على الأنف قاله المبرد، وذلك أن الْخُرْطُومِ يستعار في أنف الإنسان. وحقيقته في مخاطم السباع، ولم يقع التوعد في هذه الآية، بأن
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٢١ الى ٢٩]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «لا يدخلنها» بسقوط أن، وقوله تعالى: عَلى حَرْدٍ يحتمل أن يريد على منع من قولهم: حاردت الإبل، إذا قلت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة، إذا كانت شهباء لا غلة لها، ومنه قول الشاعر [الكميت] :[الطويل]
وحاردت النكد الجلاد فلم يكن | لعقبة قدر المستعيرين معقب |
أقبل سيل جاء من أمر الله | يحرد حرد الحبّة المغلة |
أسود شرى لاقت أسودا خفية | تساقوا على حرد دماء الأساود |
قال القاضي أبو محمد: وهذا يرد عليه قولهم: سُبْحانَ رَبِّنا فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء.
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٨]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ. وقوله تعالى: ما لَكُمْ توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: كَيْفَ تَحْكُمُونَ جملة منحازة كذلك، وكَيْفَ في موضع نصب ب تَحْكُمُونَ، وقوله تعالى: أَمْ هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: كِتابٌ معناه: منزل من عند الله، وقوله تعالى: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: إِنَّ معمولة ل تَدْرُسُونَ، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من إِنَّ لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: «أن» بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: «أن لكم» بفتح الألف. وقرأ الأعرج «أأن لكم فيه» على الاستفهام.
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٥]
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)
قوله تعالى: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان،
والزعيم: الضامن للأمر والقائم به، ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: «أم لهم شركاء فليأتوا بشركهم» بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ. وقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد»، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون:
نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا، فلا يستطيعون سجودا».
قال القاضي أبو محمد: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية أيضا من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [جد طرفة] : مجزوء الكامل]
كشفت لهم عن ساقها... وبدا عن الشر البواح
ومنه قول الراجز: [الرجز] وشمرت عن ساقها فشدوا وقول الآخر: [الرجز]
في سنة قد كشفت عن ساقها... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميرا وجدا، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: [الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه... صبور على الضراء طلاع أنجد
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه». وقرأ جمهور الناس: «يكشف عن ساق» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن
وهذا كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، وَمَنْ في موضع نصب عطفا على الضمير في:
«ذرني» أو نصبا على المفعول معه، و «الحديث» المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه. وَأُمْلِي لَهُمْ معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: ملاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر.
قوله عز وجل:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٦ الى ٥٢]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
وأنت من حب مني مضمر حزنا | عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم |
رفعت رجلا لا أخاف عثارها | ونبذت بالأرض العراء ثيابي |
«لينفدونك»، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر: [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس | نظرا يزيل مواطئ الأقدام |
نجز تفسير سورة «ن والقلم» بحمد الله تعالى وعونه وصلى الله على محمد وآله وسلم.