تفسير سورة طه

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة طه من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة طه هذه السورة مكية١.
١ قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة طه
(هذه السورة مكية) قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
اختلف الناس في قوله طه بحسب اختلافهم في كل الحروف المتقدمة في أوائل السور إلا قول من قال هناك إن الحروف إشارة إلى حروف المعجم كما تقول أ. ب. ج. د. فإنه لا يترتب هنا لأن ما بعد طه من الكلام لا يصح أن يكون خبرا عن طه واختصت أيضا طه بأقوال لا تترتب في أوائل السور المذكورة، فمنها قول من قال طه اسم من أسماء محمد عليه السلام، وقوله من قال طه معناه «يا رجل بالسريانية» وقيل بغيرها من لغات العجم، وحكي أنها لغة يمنية في عك وأنشد الطبري: [الطويل]
دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروي مزايلا وقال الآخر: [البسيط]
إن السفاهة طه من خلائقكم لا بارك الله في القوم الملاعين
وقالت فرقة: سبب نزول الآية إنما هو ما كان رسول الله ﷺ يتحمله من مشقة الصلاة حتى كانت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له طا الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح، فالضمير في طه للأرض وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة، وقرأت «طه» وأصله طأ فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت، وقرأ ابن كثير وابن عامر «طه» بفتح الطاء والهاء وروي ذلك عن قالون عن نافع، وو روي عن يعقوب عنه كسرهما، وروي عنه بين الكسر والفتح، وأمالت فرقة، والتفخيم لغة الحجاز والنبي عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء، وقرأ أبو عمرو «طه» بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأت فرقة «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء، وقد تقدمت، وروي عن الضحاك وعمرو بن فائد أنهما
36
قرأ «طاوي». وقوله لِتَشْقى قالت فرقة: معناه لتبلغ من نفسك في العبادة والقيام في الصلاة، وقالت فرقة: إنما سبب الآية أن قريش لما نظرت إلى عيش رسول الله ﷺ وشظفه وكثرة عبادته قالت: إن محمدا مع ربه في شقاء فنزلت الآية رادة عليهم، أي إن الله لم ينزل القرآن ليجعل محمدا شقيا بل ليجعله أسعد بني آدم بالنعيم المقيم في أعلى المراتب، فالشقاء الذي رأيتم هو نعيم النفس ولا شقاء مع ذلك ع: فهذا التأويل أعم من الأول في لفظة الشقاء، وقوله إِلَّا تَذْكِرَةً يصح أن ينصب على البدل من موضع لِتَشْقى ويصح أن ينصب بفعل مضمر تقديره لكن أنزلناه تذكرة، ويَخْشى يتضمن الإيمان والعمل الصالح إذ الخشية باعثة على ذلك، وقوله تَنْزِيلًا نصب على المصدر، وقوله مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى صفة أقامها مقام الموصوف، وأفاد ذلك العبرة والتذكرة وتحقير الأوثان وبعث النفوس على النظر، والْعُلى جمع عليا فعلى. وقوله الرَّحْمنُ رفع بالابتداء ويصح أن يكون بدلا من الضمير المستقر في خَلَقَ. وقوله اسْتَوى قالت فرقة: هو بمعنى استولى، وقال أبو المعالي وغيره من المتكلمين: هو بمعنى استواء القهر والغلبة، وقال سفيان الثوري: فعل فعلا في العرش سماه استواء وقال الشعبي وجماعة غيره: هذا من متشابه القرآن يؤمن به ولا يعرض لمعناه، وقال مالك بن أنس لرجل سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني، فأدبر السائل وهو يقول يا أبا عبد الله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق أحد توفيقك.
قال القاضي أبو محمد: وضعف أبو المعالي قول من قال لا يتكلم في تفسيرها بأن قال إن كل مؤمن يجمع على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في معهود الكلام العربي، فإذا فعل هذا فقد فسر ضرورة ولا فائدة في تأخره عن طلب الوجه والمخرج البين، بل في ذلك البأس على الناس وإيهام للعوام، وقد تقدم القول في مسألة الاستواء. وقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ الآية تماد في الصفة المذكورة المنبهة على الخالق المنعم، وفي قوله ما تَحْتَ الثَّرى قصص في أمر الحوت ونحوه اختصرته لعدم صحته، والآية مضمنة أن كل موجود محدث فهو لله بالملك والاختراع ولا قديم سواه تعالى. والثَّرى التراب الندي، وقوله وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ معناه وإن كنتم أيها الناس إذا أردتم إعلام أحد بأمر أو مخاطبة أوثانكم وغيرها فأنتم تجهرون بالقول فإن الله الذي هذه صفاته يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى فالمخاطبة ب تَجْهَرْ لمحمد عليه السلام وهي مراد بها جميع الناس إذ هي آية اعتبار، واختلف الناس في ترتيب السِّرَّ وما هو أَخْفى منه، فقالت فرقة السِّرَّ هو الكلام الخفي الخافت كقراءة السر في الصلاة، و «الأخفى» هو ما في النفس، وقالت فرقة هو ما في النفس متحصلا، و «الأخفى» هو ما سيكون فيها في المستأنف، وقالت فرقة السِّرَّ هو ما في نفوس البشر وكل ما يمكن أن يكون فيها في المستأنف بحسب الممكنات من معلومات البشر، و «الأخفى» هو ما من معلومات الله لا يمكن أن يعلمه البشر البتة ع: فهذا كله معلوم لله عز وجل.
وقد تؤول على بعض السلف أنه جعل وَأَخْفى فعلا ماضيا وهذا ضعيف، والْأَسْماءُ الْحُسْنى يريد بها التسميات التي تضمنتها المعاني التي هي في غاية الحسن ووحد الصفة مع جمع الموصوف لما كانت التسميات لا تعقل، وهذا جار مجرى مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] ويا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠]
37
وغيره، وذكر أهل العلم أن هذه الأسماء هي التي قال فيها رسول الله ﷺ «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وذكرها الترمذي وغيره مسندة.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
هذا الاستفهام هو توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت إخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا، ثم تبدأ تخبره. والعامل في إِذْ ما تضمنه قوله حَدِيثُ من معنى الفعل، وتقديره وَهَلْ أَتاكَ ما فعل موسى إِذْ رَأى ناراً أو نحو هذا، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا فكان يسير الليل بأهله ولا يسير النهار مخافة كشفة الناس فضل عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئا إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب، وقيل من عوسج، وقيل من عليقة، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة، وانقضى أمره كله في تلك الليلة، هذا قول الجمهور وهو الحق. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: أقام في ذلك الأمر حولا ومكثه أهله ع: وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه. وآنَسْتُ معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة: [الخفيف]
آنست نبأة وروعها القن ناص ليلا وقد دنا الإمساء
والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار، فلذلك فسر بعضهم اللفظ برأيت، و «آنس» أعم من رَأى، لأنك تقول آنست من فلان خيرا أو شرا. و «القبس» الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه، و «الهدى» أراد الطريق، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشدا لي أو دليلا، وإن لم يكن مخبرا. و «الهدى» يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره. وروي عن نافع وحمزة «لأهله امكثوا» بضمة الهاء وكذلك في القصص، وكسر الباقون الهاء فيهما. وقوله تعالى فَلَمَّا أَتاها الضمير عائد على النار، وقوله نُودِيَ كناية عن تكليم الله له، وفي نُودِيَ ضمير يقوم مقام الفاعل، وإن شئت جعلته موسى إذ قد جرى ذكره، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «إني» بكسر الألف على الابتداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أني» بفتح الألف
على معنى «لأجل أني» أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، ونُودِيَ قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي:
[الكامل]
ناديت باسم ربيعة بن مكدم ان المنوه باسمه الموثوق
واختلف المتأولون في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها، والْمُقَدَّسِ معناه المطهر، وطُوىً معناه مرتين مرتين، فقالت فرقة معناه قدس مرتين، وقالت فرقة معناه طويته أنت، أي سرت به، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «طوى» بالتنوين على أنه اسم المكان، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «طوى» على أنه اسم البقعة دون تنوين، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء، وقرأت فرقة «طاوي» وقالت فرقة هو اسم الوادي، و «طوى» على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنيا، وقرأ السبعة غير حمزة «وأنا اخترتك» ويؤيد هذه القراءة تناسبها مع قوله أَنَا رَبُّكَ وفي مصحف أبي بن كعب «وأني اخترتك»، وقرأ حمزة «وأنّا اخترناك» بالجمع وفتح الهمزة وشد النون، والآية على هذا بمنزلة قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] ثم قال وَآتَيْنا [الإسراء: ٢] فخرج من إفراد إلى جمع، وقرأت فرقة وإنا اخترناك» يكسر الألف.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري يقول: لما قيل لموسى فَاسْتَمِعْ وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع وكان كل لباسه صوفا. وقرأت فرقة «بالواد المقدس طاوي» وقوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب، وقالت فرقة معنى قوله لِذِكْرِي أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] وقرأت فرقة «للذكرى»، وقرأت فرقة «لذكرى» بغير تعريف، وقرأت فرقة «للذكر».
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٥ الى ١٨]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨)
في قوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، والسَّاعَةَ في
39
هذه الآية القيامة بلا خلاف، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم «أكاد أخفيها» بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من سحاب مجلّب
ومنه قوله أيضا: [المتقارب]
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن توقدوا الحرب لا نقعد
قال أبو علي: المعنى أزيل خفاءها، وهو ما تلف به القربة ونحوها، وقرأ الجمهور «أخفيها» بضم الهمزة، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة: معناه أظهرها وأخفيت من الأضداد، وهذا قول مختل، وقالت فرقة معناه، أَكادُ أُخْفِيها من نفسي على معنى العبارة عن شدة غموضها على المخلوقين، فقالت فرقة: المعنى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ وتم الكلام بمعنى أَكادُ أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها، وهذا قلق، وقالت فرقة أَكادُ زائدة لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس، وقالت فرقة أَكادُ بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر: [الكامل] كادت وكدت وتلك خير إرادة وقد تقدم هذا المعنى، وقالت فرقة أَكادُ على بابها بمعنى أنها مقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال أَكادُ أُخْفِيها حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي، ورأى بعض القائلين بأن المعنى أَكادُ أُخْفِيها من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيرا فتأمله، واللام في قوله لِتُجْزى متعلقة ب آتِيَةٌ وهكذا يترتب الوعيد. وتَسْعى معناه تكسب وتجترح، والضمير في قوله عَنْها يريد عن الإيمان بالساعة فأوقع الضمير عليها، ويحتمل أن يعود على الصَّلاةَ [طه: ١٤] وقالت فرقة المراد عن لا إله إلا الله ع: وهذا متجه، والأولان أبين وجها. وقوله فَتَرْدى معناه تهلك، والردى الهلاك ومنه قوله دريد بن الصمة: [الطويل]
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا فقلت أعبد الله ذلكم الردي
وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام وكذلك ما بعده، وقال النقاش: الخطاب ب فَلا يَصُدَّنَّكَ لمحمد عليه السلام وهذا بعيد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «أكاد أخفيها من نفسي» وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم، وقوله عز وجل وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس
40
لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، وقوله بِيَمِينِكَ من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة: [الطويل]
عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
قال ابن الجوهري: وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له أَلْقِها [طه: ١٩] ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «عصاي» بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة «عصى» وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل] سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم وقرأ الجمهور «عصاي» بفتح الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق «عصاي» بياء ساكنة، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك، وقرأ الجمهور «وأهشّ» بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم، وقرأ إبراهيم النخعي «وأهش» بكسر والمعنى كالذي تقدم، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «وأهسّ» بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف، وقرأت فرقة «على غنمي» بالجر، وقرأت «غنمي» فأوقع الفعل على الغنم، وقرأت «غنمي» بسكون النون ولا أعرف لها وجها، وقوله أُخْرى فوحد مع
تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجرى مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى: الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: ٨] وكقوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠] وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء الذي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٩ الى ٣٥]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوءة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا فَأَلْقاها موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها، وكانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان لها فما وصارت حَيَّةٌ تَسْعى أي تنتقل
41
وتمشي وتلتقم الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة فولى مدبرا ولم يعقب، فقال الله تعالى له: خُذْها وَلا تَخَفْ وذلك أنه أوجس في نفسه خيفة أي لحقه ما يلحق البشر، وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهي سِيرَتَهَا الْأُولى ثم أمره الله عز وجل أن يضم يده إلى جنبه وهو الجناح استعارة ومجازا ومنه قول الراجز: [الرجز] «أضمه للصدر والجناح» وبعض الناس يقولون الجناح اليد وهذا كله صحيح على طريق الاستعارة، ألا ترى أن جعفر بن أبي طالب يسمى ذا الجناحين بسبب يديه حين أقيمت له الجناحان مقام اليدين شبه بجناح الطائر وكل مرعوب من ظلمة أو نحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد، وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس. وقوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، أي من غير برص ولا مثلة بل هو أمر ينحسر ويعود لحكم الحاجة إليه. وقوله لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى يحتمل أن يريد وصف الآيات بالكبر على ما تقدم من قوله الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: ٨]، ومَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين فإنهما أكبر الآيات كأنه قال لنريك الكبرى فهما معنيان، ثم أمره تبارك وتعالى بالذهاب إلى فرعون وهو مصعب بن الريان في بعض ما قيل، وقيل غير هذا، ولا صحة لشيء من ذلك. وطَغى معناه تجاوز الحد في فساد، وقوله قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي الآية، لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون علم أنها الرسالة وفهم قدر التكليف فدعا الله في المعونة إذ لا حول له إلا به. واشْرَحْ لِي صَدْرِي معناه «لفهم ما يرد علي من الأمور والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة التي جعلها في فيه حين جربه فرعون». وروي في ذلك أن فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده إلى لحية فرعون، فقالت له امرأته إنه لا يعقل، فقال بل هو يعقل وهو عدو لي، فقالت له نجربه، قال أفعل، فدعت بجمرات من نار وبطبق فيه ياقوت فقالا إن أخذ الياقوت علمنا أنه يعقل وإن أخذ النار عذرناه فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها فلم تعد على يده، فجعلها في فمه فأحرقته وأورث لسانه عقدة في كبره أي حبسة ملبسة في بعض الحروف قال ابن الجوهري «كف الله تعالى النار عن يده لئلا تقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقول موسى مكانتي» وموسى عليه السلام إنما طلب من حل العقدة قدر أن يفقه قوله، فجائزا أن يكون ذلك كله زال، وجائزا أن يكون بقي منه القليل، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول فرعون، ولا يكاد يبين، ولو فرضناه زال جملة لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته القديمة. و «الوزير» المعين القائم بوزر الأمور وهو ثقلها ويحتمل الكلام أن طلب الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل هارُونَ من الوزير المطلوب، ويحتمل أن يريد واجعل هارون وزيرا، فإنما ابتدأ الطلب فيه فيكون على هذا مفعولا أولا ب اجْعَلْ. وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بأربعة أعوام، وقرأ ابن عامر وحده «أشدد» بفتح الهمزة و «أشركه» بضمها على أن موسى أسند هذه الأفعال إلى نفسه، ويكون الأمر هنا لا يريد به النبوءة بل يريد تدبيره ومساعيه لأن النبوءة لا يكون لموسى أن يشرك فيها بشرا، وقرأ الباقون «أشدد» بضم الهمزة «وأشرك» على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوءة وهذه هي الوجه لأنها تناسب ما تقدم من الدعاء وتعضدها آيات غير هذه بطلبه تصديق هارون إياه.
42
و «الأزر» بمعنى الظهر قاله أبو عبيدة كأنه قال شد به عوني واجعله مقاومي فيما أحاوله وقال امرؤ القيس:
[الطويل]
بمحنية قد آزر الضال نبتها فجر جيوش غانمين وخيب
أي قاومه وصار في طوله، وفتح أبو عمرو وابن كثير الياء من أَخِي وسكنها الباقون وروي عن نافع «وأشركهو» بزيادة واو في اللفظ بعد الهاء ثم جعل موسى عليه السلام ما طلب من نعم الله تعالى سببا يلزم كثيرة العبادة والاجتهاد في أمر الله، وقوله كَثِيراً نعت لمصدر محذوف تقديره تسبيحا كثيرا.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)
المعنى قال الله تعالى: قد أعطيت يا موسى طلبتك في شرح الصدر وتيسير الأمر وحل العقدة إما بالكل وإما على قدر الحاجة في الإفقاه، وإتيان هذا السؤال منة من الله عز وجل فقرن إليها عز وجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته. وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يدي غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا، فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة، فولد هارون في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة، ثم ولد موسى في العالم الرابع سنة القتل فخافت أمه عليه الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها، قال بعض من روى هذا ولم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبيا، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي، وقالت فرقة بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان فرعون جالسا في موضع يشرف على النيل إذ رأى تابوتا فأمر به، فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك وروي أن التَّابُوتِ جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف يعرض للمراضع، فكلما عرضت عليه امرأة أباها. وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا منه خبر، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره فقالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي، فقالت لا، غير أني أعلم من أهل هذا البيت
43
الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها، فسرت آسية امرأة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر، فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من الملكة، وأقام موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجذبها، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه، فنا شدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفا في حل العقدة، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع، وكان فتى جلدا فاضلا كاملا فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل. ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في موضعها مستوعب، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين، فكان من أمره مع شعيب ما هو في موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سين، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها. وقوله ما يُوحى إبهام
يتضمن عظم الأمر وجلالته في النعم وهذا نحو قوله تعالى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: ١٦] وهو كثير في القرآن والكلام، وأَنِ في قوله أَنِ اقْذِفِيهِ بدل من ما والضمير الأول في اقْذِفِيهِ عائد على موسى وفي الثاني على التَّابُوتِ، ويجوز أن يعود على «موسى». وقوله فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ خبر خرج في صغية الأمر إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النبي عليه السلام «قوموا فلأصل لكم» فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك، و «والعدو» الذي هو لله ولموسى كان فرعون ولكن أم موسى أخبرت به على الإبهام ولذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين. ثم أخبر تعالى موسى أنه «ألقى عليه محبة» منه فقال بعض الناس أراد محبة آسية لأنها كانت من الله وكانت سبب حياته.
وقالت فرقة: أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى منه في غاية الوفر. وقالت فرقة: أعطاه جمالا يحبه به كل من رآه، وقالت فرقة: أعطاه ملاحة العينين، وهذان القولان فيهما ضعف وأقوى الأقوال أنه القبول. وقرأ الجمهور و «لتصنع» بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغدى وتطعم وتربى، وقرأ أبو نهيك «ولتصنع» بفتح التاء، قال ثعلب معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ولتصنع» بسكون اللام على الأمر للغالب وذلك متجه. وقوله عَلى عَيْنِي معناه بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى.
قوله عز وجل:
44

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٠ الى ٤١]

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره ومننا إذ، وتقدم تفسير هذه الآية في القصص المذكور آنفا.
وقرأت فرقة «تقر» بفتح القاف، وقرأت فرقة بكسر القاف والنفس التي قتل هي نفس القبطي الذي كان يقاتل الإسرائيلي فوكزه موسى فقضى عليه، والْغَمِّ هم النفس وكان هم موسى بأمر من طلبه ليثأر به.
وقوله فَتَنَّاكَ فُتُوناً معناه خلصناك تخليصا، هذا قول جمهور المفسرين. وقالت فرقة معناه اختبرناك وعلى هذا التأويل لا يراد إلا ما اختبر به موسى بعد بلوغه وتكليفه وما كان قبل ذلك فلا يدخل في اختبار موسى وعدة سنية فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عشرة أعوام لأنه إنما قضى أوفى الأجلين وقوله عَلى قَدَرٍ أي بميقات محدود للنبوة التي قد أرداها الله بك ومنه قول الشاعر: [البسيط]
نال الخلافة إذ كانت له قدرا... كما أتى ربه موسى على قدر
وَاصْطَنَعْتُكَ معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان، وقوله لِنَفْسِي إضافة تشريف، وهكذا كما تقول بيت الله ونحوه والصيام لي وعبر ب «النفس» عن شدة القرب وقوة الاختصاص.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون وخاطب موسى وحده تشريفا له ويحتمل أن هارون أوحي إليه مع ملك أن ينفذ، وبِآياتِي معناه بعلاماتي التي أعطيتكموها من معجزة وآية ووحي وأمر ونهي كالتوراة، وتَنِيا معناه تضعفا وتبطيا تقول ونا فلان في أمر كذا إذا تباطأ فيه عن ضعف ومنه قول الشاعر: [المضارع]
فما أنا بالواني... ولا الضرع الغمر
والونى الكلال والفتور والفشل في البهائم والإنس، وفي مصحف ابن مسعود «ولا تهنا في ذكري» معناه ولا تلينا من قولك هين لين والقول اللين قالت فرقة: معناه كنياه وقالت فرقة بل أمرهما بتحسين الكلمة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الوجه، وذلك أن كل من يريد دعاء إنسان إلى أمر يكرهه فإنما الوجه أن يحرر في عبارته بالمعنى الذي يريد حتى لا يخل به ولا يحز منه، ثم يجتهد بعد ذلك في أن تكون عبارته لطيفة ومقابلته لينة وذلك أجلب للمراد فأمر الله تعالى موسى وهارون أن يسلكا مع فرعون إكمال
الدعوة في لين من القول. وقوله لَعَلَّهُ معناه على رجائكما وطمعكما فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر وقرأ الجمهور «يفرط» بفتح الياء وضم الراء ومعناه يعجل ويسرع بمكروه فينا ومنه فارط في الماء وهو الذي يتقدم القوم إليه قال الشاعر القطامي عمير بن شييم: [البسيط]
واستعجلوا وكانوا من صحابتنا كما تعجّل فرّاط لورّاد
وقالت فرقة «يفرط» بضم الياء وكسر الراء ومعناه يشتط في إذايتنا، وقرأ ابن محيصن «يفرط» بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل على التسرع إلينا.
قوله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون، وهذا كما تقول الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه وأَسْمَعُ وَأَرى عبارتان عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية تبارك الله رب العالمين.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩)
المعنى أْتِيا
فرعون فأعلماه أنكما رسولاي إليه وعبر بفرعون تحقيرا له إذ كان هو يدعي الربوبية ثم أمرا يدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من غل خدمة القبط وقد تقدم في هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان وهذه جملة ما دعي إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل، والظاهر أن رسالته إليه ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل، وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد وقالا جِئْناكَ والجائي بها موسى تجوزا من حيث كانا مشركين وقوله عليه السلام مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أن يكون آخر كلام وفصله فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية كأنهما رغبا بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول فسلما على متبع الهدى وفي هذا توبيخ له ع: وعلى هذه الجهة استعمل الناس هذه الآية في مخاطبتهم ومحاوراتهم ويحتمل أن يكون في درج القول متصلا بقوله إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا فيقوى على هذا أن يكون خبرا بأن السلامة للمهتدين، وهذان المعنيان قالت كل واحد منهما فرقة، لكن دون هذا التلخيص، وقالوا السَّلامُ بمعنى السلامة وعلى بمعنى اللام أي السلام ل مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ولما فرغا من المقالة التي أمر بها عن قوله وَتَوَلَّى خاطبهما، وفي سرد هذه الآية حذف يدل عليه ظاهر الكلام تقديره فأتياه فلما قالا جميع ما أمرا به قال لهما فرعون فَمَنْ رَبُّكُما وقوله يا مُوسى بعد جمعه مع هارون في الضمير، نداء بمعنى التخصيص والتوقيف إذ كان صاحب عظم الرسالة ولزيم الآيات.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)
استبد موسى ﷺ من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا شرك لفرعون فيه ولا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته أنثى ثُمَّ هَدى للإتيان، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته، أي أكمل ذلك له وأتقنه ثُمَّ هَدى أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات، وقرأت فرقة «خلقه» بفتح اللام ويكون المفعول الثاني ب أَعْطى مقدرا تقديره كماله أو خلقته، وقول فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى يحتمل أن يريد محاجته بحسب ما تقدم من القول ومناقضته فيه، فليس يتجه على هذا أن يريد ما بال القرون الأولى ولم يوجد أمرك عندها، فرد موسى عليه السلام علم ذلك إلى الله تعالى، ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام الأول والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الناس روغانا في الحجة وحيدة وقال «البال» الحال فكأنه سألهم عن حالهم كما جاء في الحديث «يهديكم الله ويصلح بالكم». وقال النقاش إنما قال فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لما سمع مؤمن آله يا قوم إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غافر: ٣٠] مثل دأب قوم نوح وعاد» الآية ورد موسى العلم إلى الله تعالى لأنه لم تأته التوراة بعد. وقوله فِي كِتابٍ يريد في اللوح المحفوظ أو فيما كتبه الملائكة من أحوال البشر. وقرأت فرقة «لا يضل» بفتح الياء وكسر الضاد واختلف في معنى هذه القراءة فقالت فرقة هو ابتداء الكلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله فِي كِتابٍ ويَضِلُّ معناه ينتلف ويعمه، وقالت فرقة بل قوله لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى من صفات الكتاب أي إن الكتاب لا يغيب عن الله تعالى، تقول العرب ضلني الشيء إذا لم أجده وأضللته أنا ومنه قول النبي صلى الله عليه حكاية عن الإسرائيلي الذي طلب أن يحرق بعد موته «لعلي أضل الله» الحديث، ويَنْسى أظهرها ما فيه أن يعود ضميره إلى الله تعالى ويحتمل أن يعود إلى الكتاب في بعض التأويلات يصفه بأنه لا يَنْسى أي لا يدع شيئا، فالنسيان هنا استعارة كما قال في موضع آخر إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] فوصفه بالإحصاء من حيث حصرت فيه الحوادث.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
انظر إن هذا الأشياء التي ذكرها موسى عليه السلام هي مما تقضي بداية العقول أن فرعون وكل بشر بعيد منها لأنه لو قال هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالط فيقول أنا أفعل هذا كله فإنما أتاه موسى عليه السلام بصفات لا يمكنه أن يقول إن ذلك له وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «مهادا» بكسر الميم وبألف، والمهاد قيل هو جمع مهد، وقيل اسم مفرد كفرش وفراش، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «جعل لكم الأرض مهدا» بفتح الميم وسكون الهاء، وقوله سَلَكَ بمعنى نهج ولحب، و «السبل» الطرق، وقوله فَأَخْرَجْنا بِهِ يحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ثم وصل الله تعالى كلام موسى بإخباره لمحمد ﷺ والمراد الخلق أجمع، فهذه الآيات المنبهة عليها، و «الأزواج» هنا بمعنى الأنواع، وقوله شَتَّى نعت للأزواج أي مختلفات، وقوله كُلُوا وَارْعَوْا بمعنى هي صالحة لأن يؤكل منها وترعى الغنم فيها فأخرج العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال وأهدأها للنفوس، والنُّهى جمع نهية والنهية العقل الناهي عن القبائح، وقوله تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ يريد من الأرض، وهذا من حيث خلق آدم من تراب. وقوله وَفِيها نُعِيدُكُمْ يريد بالموت والدفن أو الفناء كيف كان وقوله وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ يريد بالبعث ليوم القيامة، وقوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ إخبار لمحمد ﷺ عن فرعون، وهذا يؤيد أن الكلام من قوله فَأَخْرَجْنا إنما هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله كُلَّها عائد على الآيات التي رآها لا أنه رأى كل آية لله، وإنما المعنى أن الله تعالى أراه آيات ما بكما لها فأضاف الآيات إلى ضمير العظمة تشريفا لها، وقوله تعالى: وَأَبى يقتضي تكسب فرعون وهذا هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
هذه المقاولة من فرعون تدل على أن أمر موسى قد كان قوي وكثر متبعوه من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، وذلك أنها مقاولة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر، وقرأت فرقة «لا نخلفه» بالرفع، وقرأت فرقة «لا نخلفه» بالجزم على جواب الأمر، ونَحْنُ تأكيد للضمير من حيث احتاج الكلام إلى العطف عليه أكد، ومَوْعِداً مفعول أول ل فَاجْعَلْ، ومَكاناً مفعول ثان هذا الذي اختار أبو علي ومنع أن يكون مَكاناً معمولا لقوله مَوْعِداً لأنه قد وصف وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الاسمية بمثل هذا لم تعمل ولا تعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فتعلق بعد ما
ذكرنا كقوله عز وجل: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ [غافر: ١٠]، فقوله إِذْ [غافر: ١٠] معلق بقوله لَمَقْتُ اللَّهِ [غافر: ١٠] وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة، وكذلك منع أبو علي أن يكون قوله مَكاناً قصيا على الظرف الساد مسد المفعول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر ومنع قوم أن يكون مَكاناً نصب على المفعول الثاني بتخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يخلف الوعد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي «سوى» بكسر السين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «سوى» بضمها، والجمهور نون الواو، وقال أبو الفتح ترك الصرف هنا مشكل والذي ينبغي أن يكون محمولا على الوقف، وقرأت فرقة «سوى» ذكره أبو عمرو عن ابن أبي عبلة ومعنى «سوى» أي عدلا ونصفة قال أبو علي: فكأنه قال «مكانا» قربه منكم قربه منا (ع) إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرب وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق أي لا يعترضكم فيه الرياسة وإنما تقصد الحجة. وسُوىً لغة في سوى ومن هذه اللفظة قول الشاعر [موسى ابن جابر الحنفي] [الطويل]
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
وقالت فرقة مستويا من الأرض لا وهد فيه ولا نشز، وقالت فرقة معناه سوى مكانا هذا فقال موسى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ اتسع في الظرف من قرأه برفع «يوم» فجعله خبرا، وقرأ الحسن والأعمش والثقفي «يوم» بالنصب على الظرف والخبر مقدر، وروي أن يَوْمُ الزِّينَةِ كان عيدا لهم ويوما مشهورا وصادف يوم عاشوراء وكان يوم سبت وقيل هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقوله وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ عطف على الزِّينَةِ فهو في موضع خفض، ويحتمل أن يكون في موضع رفع على تقدير وموعدكم أن يحشر الناس، ويقلق عطفه على «اليوم»، وفيه نظر، وقرأ الجمهور «حشر الناس» رفعا وقرأ ابن مسعود والخدري وجماعة «يحشر الناس» بفتح الياء وضم الشين ونصب «الناس» وقرأت فرقة «نحشر الناس» بالنون. والحشر الجمع ومعناه نحشر الناس لمشاهده المعارضة والتهيؤ لقبول الحق حيث كان.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
المعنى فَجَمَعَ السحرة ووعدهم وأمرهم بالإعداد لموسى، وروي أمرهم، فهذا هو كَيْدَهُ، ثُمَّ أَتى فرعون بجمعه وأهل دولته والسحرة معه وكانت عصابة لم يخلق الله أسحر منها وجاء أيضا موسى عليه السلام ببني إسرائيل معه فقال موسى للسحرة وَيْلَكُمْ وهذه مخاطبة محذرة ندبهم في هذه الآية إلى
49
قول الحق إذا رأوه وأن لا يباهتوا بكذب وقرأ ابن عباس ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «فيسحتكم» بفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «فيسحتكم» بضم الياء وهما لغتان بمعنى يقال سحت وأسحت إذا أهلك وأذهب ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
وعض زماني يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
فهذا من أسحت فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من مهابته أمر شديد فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ والتنازع يقتضي اختلافا كان بينهم في السر أي قال بعضهم لبعض هو محق، وقال بعضهم هو مبطل، وقال بعضهم إن كان من عند الله فسيغلبنا ونحو هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى.
وقالت فرقة إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ع والأظهر أن تلك قيلت علانية ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع، والنَّجْوى السرار والمساررة أي كان كل رجل يناجي من يليه، ثم جعلوا ذلك سرا مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفا لأنهم لم يكونوا حينئذ مصممين على غلبة موسى بل كان ظنا من بعضهم، وقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ الآية، قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «إنّ» مشددة النون «هذان» بألف ونون مخففة للتثنية. وقرأ أبو عمرو وحده «إن هذين لساحران» وقرأ ابن كثير «إن هذان» بتخفيف نون «إن» وتشديد نون «هذان لسحران»، وقرأ حفص عن عاصم «إن» بالتخفيف «هذان» خفيفة أيضا «لساحران»، وقرأت فرقة «إن هذان إلا ساحران»، وقرأت فرقة «إن ذان لساحران»، وقرأت فرقة «ما هذان إلا ساحران»، وقرأت فرقة «إن هذانّ» بتشديد النون من «هذان». فأما القراءة الأولى فقالت فرقة قوله «إن» بمعنى نعم كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته: «إن الحمد لله» فرفع الحمد وقال ابن الزبير إن وراكبها حين قال له الرجل فأبعد الله ناقة حملتني إليك ويلحق هذا التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الابتداء وهو مما يجوز في الشعر ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وذهبت فرقة إلى أن هذه الآية على لغة بلحارث وهو إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض فمن ذلك قول الشاعر [هوبر الحارثي] :[الطويل]
تزود منها بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال الآخر: [الطويل]
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغا لنا باه الشجاع لصمها
وتعزى هذه اللغة لكنانة وتعزى لخثعم وقال الفراء الألف في «هذان» دعامة وليست بمجلوبة للتثنية وإنما هي ألف هذا تركبت في حال التثنية كما تقول الذي ثم تزيد في الجمع نونا وتترك الياء في حال الرفع والنصب والخفض وقال الزجاج في الكلام ضمير تقديره إنه هذان لساحران.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر وقال بعض النحاة ألف «هذان»
50
مشبهة هنا بألف تفعلان وقال ابن كيسان لما كان هذا بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته هنا كذلك، وقالت جماعة، منهم عائشة رضي الله عنها وأبو بكر، هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من أن ع وهذه الأقوال معترضة إلا ما قيل من أنها لغة، و «إن» بمعنى أجل ونعم أو «إن» في الكلام ضميرا وأما من قرأ «إن» خفيفة فهي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم ويقول الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا ووجه سائر القراءات بينّ. وعبر كثير من المفسرين عن «الطريقة» بالسادة وأنها يراد بها أهل العقل والسن والحجى وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم والأظهر في «الطريقة» هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي عليها، والْمُثْلى تأنيث أمثل أي الفاضلة الحسنة. وقرأ جمهور القراء «فأجمعوا» بقطع الألف وكسر الميم على معنى أنقذوا وأعزموا، وقرأ أبو عمرو وحده «فاجمعوا» من جمع أي ضموا سحركم بعضه إلى بعض، وقرأ ابن كثير «ثمّ» بفتح الميم «ايتوا» بسكون الياء، وقرأ أيضا في رواية شبل عنه بكسر الميم «ثم ايتوا»، قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من «ثم»، وقرأ الجمهور «ثم ائتوا» بفتح الميم وبهمزة بعد الألف، قوله صَفًّا حال أي مصطفين وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم، وأَفْلَحَ معناه ظفر ببغيته واسْتَعْلى معناه طلب العلو في أمره وسعى سعيه.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
خير السحرة موسى عليه السلام في أن يبتدىء بالإلقاء أو يتأخر بعدهم، وروي أنهم كانوا سبعين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا ثلاثين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا خمسة عشر ألف، وروي أنهم كانوا تسعمائة، ثلاثمائة من الفيوم وثلاثمائة من الفرما وثلاثمائة من الإسكندرية وكان مع كل رجل منهم حبل وعصى قد استعمل فيها السحر، وقوله فَإِذا هي للمفاجأة كما تقول خرجت فإذا زيد، وهي التي تليها الأسماء، وقرأت فرقة «عصيهم» بكسر العين، وقرأت فرقة «عصيهم» بضمها، وقرأت فرقة «يخيل» على بناء الفعل للمفعول فقوله أَنَّها في موضع رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن والثقفي «تخيل» بضم التاء المنقوطة وكسر الياء وإسناد الفعل إلى الحبال والعصي، فقوله أَنَّها مفعول من أجله ع والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين أن الحبال والعصي كانت تنتقل بحيل السحر وبدس الأجسام الثقيلة المياعة فيها وكان تحركها يشبه تحرك الذي له إرادة كالحيوان، وهو السعي فإنه لا يوصف بالسعي إلا من يمشي من الحيوان، وذهب قوم إلى أنها لم تكن تتحرك لكنهم سحروا أعين الناس وكان الناظر يخيل إليه أنها تتحرك وتنتقل ع وهذا يحتمل والله أعلم أي ذلك كان، وقوله تعالى: فَأَوْجَسَ عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوءه، وظاهر الأمر كله الصلاح، فهذا الفعل من أفعال النفس
يسمى الوجيس وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير. وخِيفَةً يصح أن يكون أصلها خوفة قلبت الواو ياء للتناسب، وخوف موسى عليه السلام إنما كان على الناس أن يضلوا لهول ما رأى والأول أصوب أنه أوجس على الجملة وبقي ينتظر الفرج، وقوله أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب لمن ناوأك في هذا المقام، وقرأ جمهور القراء «تلقّف» بالجزم على جواب الأمر وبشد القاف، وقرأ ابن عامر وحده «تلقف» وهو في موضع الحال ويصح أن يكون من الملقى على اتساع ويصح أن يكون من الملقى وهي العصا وهذه حال، وإن كانت لم تقع بعد كقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥] وهذا كثير. وقرأ حفص عن عاصم «تلقف» بسكون اللام وتخفيف القاف وأنث الفعل وهو مسند إلى ما في اليمين من حيث كانت العصا مرادة بذلك، وروى البزي عن ابن كثير أنه كان يشدد التاء من «تلقف» كأنه أراد تتلقف فأدغم، وأنكر أبو علي هذه القراءة ع ويشبه أن قارئها إنما يلتزمها في الوصل حيث يستغنى عن جلب ألف، وقرأ الجمهور «كيد ساحر» برفع الكيد، وقرأ حمزة والكسائي «كيد سحر»، وقرأت فرقة «كيد» بالنصب «سحر» وهذا على أن «ما» كافة و «كيد» منصوب ب صَنَعُوا، ورفع «كيد» على أن «ما» بمعنى الذي. ويُفْلِحُ معناه يبقى ويظفر ببغيته، وقالت فرقة معناه أن الساحر يقتل حيث ثقف ع وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة «أين أتى» والمعنى بهما متقارب، وروي من قصص هذه الآية أن فرعون، لعنه الله، جلس في عليه له طولها ثمانون ذراعا والناس تحته في بسيط وجاء سبعون ألف ساحر فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاثمائة بعير فهال الأمر.
ثم إن موسى عليه السلام ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعبانا وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها، وقيل البحر، وفرعون في هذا يضحك ويرى أن الاستواء حاصل، ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ففرت نحو فرعون ففزع عند ذلك وقال يا موسى فمد موسى يده إليها فرجعت عصى كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا الحبال والعصي فآمنوا رضي الله عنهم.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
في خلال هذه الآيات تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول فالمقدر من ذلك هنا فألقى موسى عصاه فالتقمت كل ما جاؤوا به أو نحو هذا، وروي أن السحرة لما رأوا العصا لا أثر فيها للسحر ثم رأت انقلابها حية وأكلها للحبال والعصي ثم رجوعها إلى حالها وعدم الحبال والعصي أيقنوا بنبوءة موسى وأن الأمر من عند الله تعالى وقدم هارُونَ قبل مُوسى لتستوي رؤوس آي السور فنقل معنى السحرة وهذا كقوله عز وجل: أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٣] تأخر شتى إنما هو لتستوي رؤوس الآي، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع «آمنتم» على الخبر، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ءامنتم» بهمزة
بعدها مدة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أأمنتم» بهمزتين، وقوله قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ مقاربة منه وبعض إذعان. وقوله مِنْ خِلافٍ يريد قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، قوله فِي جُذُوعِ النَّخْلِ اتساع من حيث هو مربوط في الجذع وليست على حد قولك ركبت على الفرس، وقوله أَيُّنا يريد نفسه ورب موسى عليه السلام، وقال الطبري يريد نفسه وموسى عليه السلام والأول أذهب مع مخرفة فرعون.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)
قال السحرة لفرعون لما تدعوهم لَنْ نُؤْثِرَكَ أي نفضلك ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله تعالى وآياته الْبَيِّناتِ وعلى الَّذِي فَطَرَنا هذا على قول جماعة أن الواو في قوله وَالَّذِي فَطَرَنا عاطفة، وقالت فرقة هي واو القسم، وفَطَرَنا معناه خلقنا واخترعنا فافعل يا فرعون ما شئت وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ولك بالعذاب وهؤلاء السحرة اختلف الناس هل نفذ فيهم وعيد فرعون فقالت طائفة صلبهم على الجذوع كما قال فأصبح القوم سحرة وأمسوا شهداء بلطف الله لهم وبرحمته، وقالت فرقة إن فرعون لم يفعل ذلك وقد كان الله تعالى وعد موسى أنه ومن معه الغالبون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله محتمل وصلب السحرة وقطعهم لا يدفع في أن موسى ومن معه غلب إلا بظاهر العموم والانفصال عن ذلك بين وقوله: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ قالت فرقة أرادوا ما ضمهم إليه من معارضة موسى وحملهم عليه من ذلك، وقالت فرقة بل كان فرعون قديما يأخذ ولدان الناس بتعليم السحر ويجبرهم على ذلك فأشار السحرة إلى ذلك. وقولهم خَيْرٌ وَأَبْقى رد على قوله أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: ٧١].
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد ﷺ تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيرا قد ضمنت القصة المذكورة مثاله. و «المجرم» الذي اكتسب الخطايا والجرائم، وقوله لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى مختص بالكافر فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه، فهو لا يحيى حياة هنية، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي
فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة. والدَّرَجاتُ الْعُلى هي القرب من الله تعالى وتَزَكَّى معناه أطاع الله تعالى وأخذ بأزكى الأمور وتأتل التكسب في لفظة تَزَكَّى فإنه بين.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
هذا استئناف إخبار عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هاربا. و «السرى» سير الليل، وأَنْ في قوله أَنْ أَسْرِ يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كقوله عز وجل: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: ١٠] ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب أَوْحَيْنا وقوله تعالى بِعِبادِي إضافة تشريف لنبي إسرائيل، وكل الخلق عباد الله، ولكن هذا كقوله تعالى:
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩]، وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليه السلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حليا وثيابا وكل أحد ما اتفق له.
ويروى أن موسى أذن لهم في ذلك وقال لهم: «إن الله سينفلكموها»، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون إذنه عليه السلام وهو الأشبه به وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك، ويروى أن بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر فأعجلهم موسى عليه السلام في الخروج فطبخوه فطيرا فهي سنتهم في ذلك العام إلى هلم، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحي إلى موسى أن يقصد الْبَحْرِ فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم، وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة، واختلف الناس في عدد جند فرعون فقيل كان في خيله سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان، وقيل أكثر من هذا مما اختصرته لقلة صحته، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى موسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشعراء: ٦٣]، ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدما وهو ظاهر الآية، ويروى أنه إنما أوحي إليه ذلك في موطن وقوعه واتصل
الكلام في هذه الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة، طرقا واسعة بينها حيطان ماء واقف فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا، فجففت تلك الطرق حتى يبست، ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول وجاء جبريل عليه السلام راكبا على فرس أنثى فدخل، فأتبعها فرس فرعون وتتابع الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه، فطلبوا مصداق ذلك، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة له.
قال القاضي أبو محمد: فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها وقد مضى أمر غرق فرعون بأوعب من هذا في موضع اقتضاه. وقوله تعالى: يَبَساً مصدر وصف به، وقرأ بعض الناس «يابسا» وأشار إلى ذكره الزجاج، وقرأ حمزة وحده «لا تخف دركا» وذلك إما على جواب الأمر وإما على نهي مستأنف، وقرأ الجمهور «لا تخاف» وذلك على أن يكون «لا تخاف» حالا من مُوسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير لا يخاف فيه أي يكون بهذه الصفة ومعنى هذا القول «لا تخاف دركا» من فرعون وجنوده وَلا تَخْشى غرقا من البحر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «فاتّبعهم» بتشديد التاء وتبع، واتبع إنما يتعدى إلى مفعول واحد كقوله شويت واشتويت وحفرت واحتفرت وفديت وافتديت فقوله بِجُنُودِهِ إما أن تكون الباء مع ما جرته في موضع الحال كما تقول خرج زيد بسلاحه وإما أن تكون لتعدي الفعل إلى مفعول ثان إذ لا يتعدى دون حرف جر إلا إلى واحد. وقرأ الجمهور «فأتبعهم» بسكون التاء وهذا يتعدى إلى مفعولين، فالباء على هذا إما زائدة والتقدير «فأتبعهم فرعون جنده»، وإما أن تكون بالحال ويكون المفعول الثاني مقدرا كأنك قلت رؤساءه أو عزمه ويجوز هذا، والأول أظهر. وقرأت فرقة «فغشيهم»، وقرأت فرقة «فغشاهم الله»، وقوله ما غَشِيَهُمْ إبهام أهول من النص على قدر «ما»، وهذا كقوله إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: ١٦] وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ يعني من أول أمره إلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله وَما هَدى [طه: ٧٩] مقابلة لقول فرعون وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
ظاهر هذه الآية أن هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدد الله تعالى عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث ولكن يخص الله تعالى بالذكر ما يشاء من
55
ذلك. ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصر ورسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى هذا فعلنا بأسلافكم ويكون قوله تعالى: كُلُوا بتقدير قيل لهم كلوا، وتكون الآية على هذا اعتراضا في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم» إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم» بغير ألف في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم». وقوله وَواعَدْناكُمْ قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره، وقالت فرقة هذا الطُّورِ هو الذي كلم فيه موسى أولا حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر، وقالت فرقة ليس به والطُّورِ الجبل الذي لا شعرا فيه وقوله الْأَيْمَنَ إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره. والْمَنَّ وَالسَّلْوى طعامهم، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما، وقوله تعالى: مِنْ طَيِّباتِ يريد الحلال الملذ لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن، فقال مالك رحمه الله الحلال، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش والمستقذر من الحيوان. وتَطْغَوْا معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع. وقرأ جمهور الناس «فيحل» بكسر الحاء «ومن يحلل» بكسر اللام، وقرأ الكسائي وحده «فيحل» بضم الحاء «ومن يحلل» بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل، وهَوى معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر:
فهوى هوي العقاب قال القاضي أبو محمد: وإن لم يكن سقوطا فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر: [الوافر] هويّ الدلو أسلمه الرشاء ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي» في جهنم وفي سخط الله، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم، ولما حذر الله تعالى غضبه والطغيان في نعمه فتح باب الرجاء للتائبين، والتوبة فرض على جميع الناس بقوله تعالى في سورة النور:
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور: ٣١]. والناس فيه على مراتب إما مواقع الذنب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وإما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته عن مواقعته لشيخ أو آفة فتوبته الندم واعتقاد الترك أن لو كانت قدرة، وأما من لم يواقع ذنبا فتوبته العزم على ترك كل ذنب والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مقيدة، وإذا تاب المرء ثم عاود الذنب بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت مجبة، ويحتمل أن يعيده لأنها توبة لم يواف بها، واضطرب الناس في قوله ثُمَّ اهْتَدى من حيث
56
وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل، فقالت فرقة معناه لم يشك في إيمانه، وقالت فرقة معناه ثم استقام، وقالت فرقة معناه ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه، وقالت فرقة ثم أخذ بسنة نبيه، وقالت فرقة معناه أمر بسنته، وقالت فرقة معناه والى أهل البيت ع وهذه كلها تخصيص واحد منها دون ما هو من نوعه بعيد ليس بالقوي، والذي يقوى في معنى ثُمَّ اهْتَدى أن يكون ثم حفط معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل، ورب مؤمن عمل صالحا قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع والخوارج فمعنى ثُمَّ اهْتَدى ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه ع وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل رأى علي جهة الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرا إلى أمر الله تعالى، وحرصا على القرب منه وشوقا إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه زاده في الأجل عشرا، وحينئذ وقفه على معنى استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا وقرأت فرقة «أولاي» بياء مفتوحة. وقوله عَلى أَثَرِي يحتمل أن يكون في موضع رفع خبرا بعد خبر، ويحتمل أن يكون في موضع نصب في موضع الحال، وقرأت فرقة «على أثري» بفتح الهمزة والثاء، وقرأت فرقة «إثري» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وأعلمه موسى عليه السلام أنه إنما استعجل طلب الرضى فأعلمه الله تعالى أنه قد فتن بني إسرائيل، أي اختبرهم بما صنعه السامري. ويحتمل أن يريد ألقيناهم في فتنة، أي في ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف كلمة، ومِنْ بَعْدِكَ أي من بعد فراقك لهم، وقرأت فرقة «وأضلّهم السامري» على إسناد الفعل إلى السَّامِرِيُّ وقرأت فرقة «وأضلّهم السامري» بضم اللام على الابتداء والإخبار عن السَّامِرِيُّ بأنه «أضلّ» القوم، والقراءة الأولى أكثر وأشد في تذنيب السامري والسَّامِرِيُّ رجل من بني إسرائيل يقال إنه كان ابن خال موسى، وقالت فرقة لم يكن من بني إسرائيل بل كان أصله من العجم من أهل كرمان والأول أصح، وكان قصص السامري أنه كان منافقا عنده حيل وسحر وقبض القبضة من أثر جبريل عليه السلام وعلم ما أقدره الله عليه لفتنة القوم أنه يتهيأ له بتلك القبضة ما يريد مما يجوز على الله تعالى لأنه لو ادعى النبوءة مع ذلك العجل لما صح ولا جاز أن يخور ولا أن تتم الحيلة فيه لكنه لما ادعى له الربوبية وعلامات كذبه قائمة لائحة صحت الفتنة به وجاز ذلك على الله تعالى كقصة الدجال الذي تخرق له العادات لأنه مدعي الربوبية ولو كان مدعي نبوءة لما صح شيء من ذلك. فلما رأى السامري موسى مدعا ورأى سفه بني إسرائيل في طلبهم من موسى آلهة حين مروا
على قوم يعبدون أصناما على صفة البقر، وقيل كانت بقرا حقيقة علم أنه سيفتنهم من هذه الطريق، فيروى أنه قال لهم إن الحلي الذي عندكم من مال القبط قبيح بكم حبسه ولكن اجمعوه عندي حتى يحكم الله لكم فيه، وقيل إن هارون عليه السلام أمرهم بجمعه ووضعه في حفرة حتى يجيء موسى ويستأذن فيه ربه، وقيل بل كان المال الذي جمعوه للسامري مما لفظ البحر من أموال القبط الغارقين مع فرعون، فروي مع هذا الاختلاف أن الحلي اجتمع عند العجل وأنه صاغ العجل وألقى القبضة فيه فخار، وروي وهو الأصح الأكثر أنه ألقى الناس الحلي في حفرة أو نحوها وألقى هو عليه القبضة فتجسد العجل وهذا وجه فتنة الله تعالى لهم، وعلى هذا تقول انخرقت للسامري عادة وأما على أن يصوغه فلم تتخرق له عادة وإنما فتنوا حينئذ بخواره فقط وذلك الصوت قد تولد في الأجرام بالصنعة فلما أخبره الله تعالى رجع موسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً عليهم من حيث له قدرة على تغيير منكرهم أَسِفاً أي حزينا من حيث علم أنه موضع عقوبة مأموله فدفعها ولا بد منها، والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن، وتأمل ذلك فهو مطرد إن شاء الله عز وجل.
قوله عز وجل:
قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ....
وبخ موسى عليه السلام قومه بهذه المقالة و «الوعد الحسن» هو ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى به أهل طاعته، وقوله وَعْداً إما أن يكون نصبا على المصدر والمفعول الثاني مقدرا، وإما أن يكون بمعنى الموعود ويكون هو المفعول الثاني بعينه، ثم وقفهم على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهي طول «العهد» حتى يتبين لهم خلف في الموعد أو إرادة غضب الله تعالى. وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدين وسمي العذاب «غضبا» من حيث هو عن الغضب، والغضب إن جعل بمعنى الإرادة فهو صفة ذات وإن جعل ظهور النقمة والعقاب فهو صفة فعل فهو من المتردد بين الحالين قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)
وقرأ نافع وعاصم «بملكنا» بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي «بملكنا» بضمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «بملكنا» بكسرة، قال أبو علي هذه لغات ع ظاهر هذا الكلام أنها بمعنى واحد ولكن إن أبا علي وغيره قد فرق بين معانيها فأما ضم الميم فمعناه على قول أبي علي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بقوته وسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري وليس المعنى أن لهم ملكا وإنما هذا كقول ذي الرمة: [البسيط]
لا يشتكي سقط منها وقد رقصت بها المفاوز حتى ظهرها حدب
إذ لا تكون منها سقطة فتشتكي، قال وهذا كقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: ٢٧٣] أي ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف ع وهذا كله في هذه الأمثلة غير متيقن من قول أبي علي وإنما
مشى في ذلك على أثر الزجاج دون تعقب وقد شرحت هذا المعنى في سورة البقرة في تفسير لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: ٢٧٣] وبين أن هذه الآية ليست كهذه الأمثلة لأنهم لم يرفعوا الإخلاف فيها والأمثلة فيها رفع الوجهين، وأما فتح الميم فهو مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وفقنا له بل غلبتنا أنفسنا، وأما كسر الميم فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل والمفعول مقدر أي «بملكنا الصواب»، وهذا كما قد يضاف أحيانا إلى المفعول والفاعل مقدر كقوله تعالى: بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ [ص: ٢٤] ومن دعاء الخير، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم «حمّلنا» بضم الحاء وشد الميم، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «حملنا» بفتح الحاء والميم. و «الأوزار» الأثقال، وتحتمل هذه التسمية أن تكون من حيث هي ثقيلة الأجرام، ويحتمل أن يكون من حيث آمنوا في قذفها وظهر لهم أن ذلك هو الحق فكانت آثاما لمن حملها. وقوله فَكَذلِكَ أَلْقَى أي فكما قذفنا نحن فَكَذلِكَ أيضا أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما كان بيده ع وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه السامري، ثم أخبر الله تعالى عن فعل السامري بقوله تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً، ومعنى قوله جَسَداً أي شخصا لا روح فيه، وقيل معنى جَسَداً لا يتغذى. و «الخوار» صوت البقر، وقالت فرقة كان هذا العجل يخور ويمشي ع وهكذا تكون الفتنة من قبل الله تعالى قاله ابن عباس، وقالت فرقة إنما خار مرة واحدة. ثم لم يعد وقالت فرقة إنما كان خواره بالريح كانت تدخل من دبره وتخرج من فيه فيصوت لذلك.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
الضمير في قوله فَقالُوا لبني إسرائيل، أي قالوا حين قال كبارهم لصغارهم وهذا إشارة إلى العجل. قوله تعالى فَنَسِيَ يحتمل أن يكون من كلام بني إسرائيل أي فنسي موسى ربه وإلهه فذهب يطلبه في غير موضعه، ويحتمل أن يكون قوله فَنَسِيَ إخبارا من الله تعالى عن السامري، أي نسي دينه وطريق الحق ع فالنسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول، وفي الثاني بمعنى الترك، ثم قرن تعالى مواضع خطاهم بقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ المعنى أفلم يتبين هؤلاء الذين ضلوا أن هذا العجل إنما هو جماد لا يتكلم ولا يرجع قولا ولا يضر ولا ينفع، وهذه خلال لا يخفى معها الحدوث والعجز لا أن هذه الخلال لو حصلت له أوجبت كونه إلها وقرأت فرقة «أن لا يرجع» برفع العين، «وأن» على هذه القراءة مخففة من الثقيلة والتقدير أنه لا يرجع، وقرأت فرقة «أن لا يرجع» «وأن» على هذه القراءة هي الناصبة، وأخبر عز وجل أن هارُونُ قد كان قال لهم في أول حال العجل يا قَوْمِ إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري وإنما رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع فَاتَّبِعُونِي إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه
وَأَطِيعُوا أَمْرِي في ما ذكرته لكم وقرأت فرقة «إنما وإن ربكم الرحمن» بكسر الهمزتين، وقرأت فرقة «إنما» بالكسر «وأن» بالفتح، والقراءة الوسطى ضعيفة فقال بنوا إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق لَنْ نَبْرَحَ عابدين لهذا الإله، عاكِفِينَ عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة ملازمته ومنه قول الراجز: [الرجز] عكف النبيط يلعبون الفنزجا قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
في سرد القصص اقتضاب يدل عليه ما ذكره تقديره فرجع موسى فوجد الأمر كما ذكره الله تعالى له فجعل يؤنب هارون بهذه المقالة، وقرأ الجمهور «تتبعن» بحذف الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بإثباتها في الوصل ويقف ابن كثير بالياء وأبو عمرو بغير ياء، ويحتمل قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي بني إسرائيل نحو جبل الطور فيجيء اعتذار هارون أي لو فعلت ذلك مشت معي طائفة وأقامت طائفة على عبادة العجل فيتفرق الجمع فخفت لومك على التفرق، ويحتمل قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي لا تسير بسيري وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد ويجيء اعتذار هارون بمعنى أن الأمر كان متفاقما فلو تقويت عليه وقع القتال واختلاف الكلمة فكان تفريقا بين بني إسرائيل وإنما لا ينت جهدي. وقوله تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ بمعنى ما منعك أن تتبعني، واختلف الناس في وجه دخول «لا» فقالت فرقة هي زائدة، وذهب حذاق النحاة إلى أنها مؤكدة وأن في الكلام فعلا مقدرا كأنه قال ما منعك ذلك أو حضك أو نحو هذا على «أن لا تتبعن»، وما قبل وما بعد يدل على هذا ويقتضيه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «يبنؤم» يحتمل أن يريد يا بن أما فحذف الألف تخفيفا ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا وبناه كخمسة عشر، وقرأ ابن كثير عن عاصم وحمزة والكسائي «يا بن أم» بالكسر على حذف الياء تخفيفا وهو شاذ لأنها ليست كالياء في قولك يا غلامي وإنما هي كالياء في قولك يا غلام غلامي وهذه ياء لا تحذف، ويحتمل أن يجعل الاسمين اسما واحدا ثم أضاف إلى نفسه فحذف الياء كما تحذف من الأسماء المفردة إذا أضيفت نحو يا غلام، وقالت فرقة لم يكن هارون أخا موسى إلا من أمه ع وهذا ضعيف، وقالت فرقة كان شقيقه وإنما دعاه بالأم لأن التداعي بالأم أشفق وأشد استرحاما، وأخذ موسى عليه السلام بلحية هارون غضبا وكان حديد الخلق عليه السلام.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
60
المعنى قال موسى مخاطبا للسامري فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ، وقوله «ما خطبك» كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك، و «السامري» قيل هو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، وقيل هو منسوب إلى قرية يقال لها سامرة ع وهي معروفة اليوم ببلاد مصر، وقيل اسمه موسى بن ظفر.
وقرأت فرقة «بصرت» بضم الصاد على معنى صارت بصيرتي بصورة ما فهو كطرفت وشرفت، وقرأت فرقة «بصرت» بكسر الصاد، فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل أن يراد من البصر وذلك أن في أمر السامري ما زاده على الناس بالبصر وهو وجه جبريل عليه السلام وفرسه وبالبصيرة وهو ما علمه من أن القبضة إذا نبذها مع الحلي جاءه من ذلك ما يريد، وقرأ الجمهور «يبصروا» بالياء يريد بني إسرائيل، وقرأ حمزة والكسائي «تبصروا» بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل، وقرأ الجمهور «فقبضت قبضة» بالضاد منقوطة بمعنى أخذت بكفي مع الأصابع، وقرأ ابن مسعود وابن الزبير وأبي بن كعب وغيرهم «فقبصت قبصة» بالصاد غير منقوطة بمعنى أخذت بأصابعي فقط، وقرأ الحسن بخلاف عنه «قبضة» بضم القاف. و «الرسول» جبريل عليه السلام، و «الأثر» هو تراب تحت حافر فرسه، وسبب معرفة السامري بجبريل وميزه له فيما روي أن السامري ولدته أمه عام الذبح فطرحته في مغارة فكان جبريل عليه السلام يغذوه ويحميه حتى كبر وشب فميزه بذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقوله فَنَبَذْتُها أي على الحلي فكان منها ما تراه وهذا محذوف من اللفظ تقتضيه الحال والمخاطبة، ثم قال وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي وكما حدث ووقع قويت لي نفسي وجعلته لي سولا وإربا حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا، وعلمه مع ذلك وجعل له أن يقول مدة حياته لا مِساسَ أي لا مماسة ولا إذاية. وقرأ الجمهور «لا مساس» بكسر الميم وفتح السين على النصب بالتبرئة وهو اسم يتصرف ومنه قول النابغة: [المتقارب]
فأصبح من ذاك كالسامري، إذ قال موسى له لا مساسا
ومنه قول رؤبة: [الرجز] حتى يقول الأزد لا مساسا واستعماله على هذا كثير. وقرأ أبو حيوة «لا مساس» بفتح الميم وكسر السين وهو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه والشبه صحيح من حيث هي معدولات
61
وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر، ومساس وفجار عدلت عن المصدر ومن هذا قول الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله: [الطويل] ألا لا يريد السامري مساس وقرأ الجمهور «تخلفه» بفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لن تخلفه» بكسر اللام على معنى لن تستيطع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «لن نخلفه» بالنون، قال أبو الفتح المعنى لن نصادفه مخلفا ع وكلها بمعنى الوعيد والتهديد. ثم وبخه عليه السلام بقوله: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي أي انظر صنيعك وتغيرنا له وردنا الأمر فيه إلى الواجب. وقرأت فرقة «ظلت» بفتح الظاء على حذف اللام الواحدة، وقرأت فرقة «ظلت» بكسر الظاء على نقل حركة اللام إلى الظاء ثم حذفها بعد ذلك نحو قول الشاعر: [أبو زبيد الطائي] [الوافر]
خيلا ان العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس
أراد احسسن فنقلت حركة السين إلى الحاء ثم حذفت تخفيفا، وفي بعض الروايات حسين. وقرأت فرقة «ظللت»، وظل معناه أقام يفعل الشيء نهارا، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا بمثابة طفق.
وعاكِفاً معناه ملازما حدبا. وقرأت فرقة «لنحرقنه» بتخفيف الراء بمعنى بالنار، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس «لنحرقّنه» بضم الراء وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد، وقرأ نافع وغيره «لنحرّقنه» بضم النون وكسر الراء وشدها وهذا تضعيف مبالغة لا تعدية وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل بالمبرد، وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه»، وهذه القراءة مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جمادا من ذهب فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن تكون إذابة ويكون النسف مستعارا لتفريقه في اليم مذابا.
وقرأت فرقة «لننسفنه» بكسر السين، وقرأت فرقة «لننسفنه» بضم السين. و «النسف» تفريق الريح الغبار وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف. والْيَمِّ غمر الماء من بحر وغيره وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم، ونَسْفاً تأكيد بالمصدر، واللام في قوله: لَنُحَرِّقَنَّهُ لام القسم، وفي هذه الآية من القصص أن موسى عليه السلام برد العجل حتى رجع كالغبار ثم ذراه في البحر ثم أمر بني إسرائيل أن يشرب جميعهم من الماء فكلما شرب من كان في قلبه حب العجل خرج على شاربه من الذهب فضيحة له، وقال مكي رحمه الله وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك فكلمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمع لفظ بني إسرائيل حول العجل فحينئذ أعلمهم موسى ع وهذه رواية، الجمهور على خلافها وإنما تعجل موسى عليه السلام وحده فوقع أمر العجل ثم جاءه موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة فكان لموسى عليه السلام نهضتان والله أعلم.
قوله عز وجل:
62

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٢]

إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢)
هذه مخاطبة من موسى عليه السلام لجميع بني إسرائيل مبينا لهم، وقوله تعالى: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بمعنى وسع علمه كل شيء. وعِلْماً تمييز، وهذا كقوله تفقأت شحما وتصببت عرقا، والمصدر في الأصل فاعل ولكن يسند الفعل إلى غيره وينصب هو على التمييز، وقرأ مجاهد وقتادة «وسّع كل شيء» بفتح السين وشدها بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات، وقوله تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل هذا في خبر العجل كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ فكأنه قال هكذا نقص عليك فكأنها تعديد نعمته، وقوله ما قَدْ سَبَقَ يريد به ما قد سبق مدة محمد صلى الله عليه وسلم، و «الذكر» القرآن، وقرأت فرقة «يحمّل» بفتح الميم وشدها. وقوله مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ يريد بالكفر به والتكذيب له، و «الوزر» الثقل وهو هاهنا ثقل العذاب بدليل قوله تعالى:
خالِدِينَ فِيهِ وحِمْلًا تمييز، ويَوْمَ ظرف، ويَوْمَ الثاني بدل منه وقرأ الجمهور «ينفخ» بضم الياء وبناء الفعل للمفعول، وقرأت فرقة «ينفخ» بفتح الياء وبناء الفعل للفاعل، أي ينفخ الملك. وقرأ أبو عمرو وحده «ننفخ» بالنون أي بأمرنا وهذه القراءة تناسب قوله وَنَحْشُرُ. وقرأ الجمهور «في الصور» بسكون الواو، ومذهب الجمهور أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وبهذا جاءت الأحاديث، وقالت فرقة «الصور» جمع صورة كثمرة وثمر. وقرأ ابن عياض «ينفخ في الصور» بفتح الواو وهذه صريحة في بعث الأجساد من القبور، وقرأت فرقة هي الجمهور «ونحشر» بالنون، وقرأت فرقة «ويحشر» بالياء، وقرأت فرقة «ويحشر» بضم الياء «المجرمون» على المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي قراءة مخالفة لخط المصحف وقوله: زُرْقاً اختلف الناس في معناه، فقالت فرقة يحشرهم أول قيامهم سود الألوان زرق العيون تشويه ما ثم يعمون بعد ذلك وهي مواطن، وقالت فرقة إنهم يحشرون عطاشا والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض فكأنهم بيض سواد عيونهم من شدة العطش، وقالت فرقة أراد زرق الألوان وهي غاية في التشويه لأنهم يجيئون كلون الرماد، ومهيع كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق ومنه زرقة الماء قال الشاعر:
[زهير بن أبي سلمى] [الطويل]
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
ومنه قولهم سنان أزرق لأنه نحو ذلك اللون.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٧]
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧)
أي «يتخافت» المجرمون بَيْنَهُمْ أي يتسارون، المعنى أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوها، واختلف الناس فيما ذا، فقالت فرقة في دار الدنيا ومدة العمر، وقالت فرقة في الأرض مدة البرزخ، وقالت فرقة ما بين النفختين في الصور، وأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً معناه أثبتهم يقينا وأعلمهم بالحقيقة بالإضافة إليهم فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم والضمير في قوله تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ قيل إن رجلا من ثقيف سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يكون أمرها يوم القيامة، وقيل بل سأله عن ذلك جماعة من المؤمنين، وقد تقدم معنى «النسف»، وروي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا فتدكدكها حتى تكون كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥] ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف وقوله تعالى: فَيَذَرُها يحتمل أن يريد مواضعها، ويحتمل أن يريد ذلك التراب الذي نسفه، لأنه إنما يقع على الأرض باعتدال حتى تكون الأرض كلها مستوية، و «القاع» المستوي من الأرض المعتدل الذي لا نشز فيه ومنه قول ضرار بن الخطاب: لتكونن بالبطاح قريش، بقعة القاع في أكف الماء. و «الصفصف» نحوه في المعنى، و «العوج» ما يعتري اعتدال الأرض من الأخذ يمنة ويسرة بحسب النشز من جبل وطرق وكدية ونحوه، و «الأمت» ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض، يقال مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا فكأن «الأمت» في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، و «العوج» في الآية مختص بالعرض وفي هذا نظر.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٨ الى ١١١]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)
المعنى يوم ننسف الجبال يتبع الخلق داعي الله إلى المحشر وهذا نحو قوله تعالى مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر: ٨] وقوله تعالى لا عِوَجَ لَهُ يحتمل أن يريد الإخبار به أي لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه والمشي نحو صوته. و «الخشوع التطامن والتواضع وهي الأصوات استعارة بمعنى الخفاء والاستسرار ومعنى لِلرَّحْمنِ أي لهيبته وهول مطلع قدرته، و «الهمس» الصوت الخفي الخافت وقد يحتمل أن يريد «بالهمس» المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة. ومَنْ في قوله إِلَّا مَنْ يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا وتكون مَنْ في موضع نصب يراد بها المشفوع له فكأن المعنى إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في أن يشفع له، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير «لكن من أذن له الرحمن يشفع»، ف مَنْ في
موضع نصب بالاستثناء ويصح أن يكون في موضع رفع كما يجوز الوجهان في قولك ما في الدار أحد إلا حمارا وإلا حمار والنصب أوجه ومَنْ على هذه التأويلات للشافع ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه. وقوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قالت فرقة يريد الملائكة، وقالت فرقة يريد خلقه أجمع، وقد تقدم القول في ترتيب «ما بين اليد وما خلف» في غير موضع على أن جماعة من المفسرين قالوا في هذه الآية ما خَلْفَهُمْ الدنيا وما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمر الآخرة والثواب والعقاب، وهذا بأن نفرضها حالة وقوف حتى نجعلها كالأجرام وأما إن قدرناها في نسق الزمان فالأمر على العكس بحكم ما بيناه قبل. وَعَنَتِ معناه ذلت، والعاني الأسير ومنه قول النبي ﷺ في أمر النساء: «هن عوان عندكم» وهذه حالة الناس يوم القيامة. وقال طلق بن حبيب: أراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان روي هذا أن الناس يوم القيامة سجودا وجعل هذه الآية إخبارا فهو مستقيم وإن كان أراد سجود الدنيا فإنه أفسد نسق الآية، والْقَيُّومِ بناء مبالغة من قيامه عز وجل على كل شيء بما يجب فيه، وخابَ معناه لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك على الإطلاق، وخيبة المعاصي مقيدة بوقت وحد في العقوبة.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٢ الى ١١٤]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ عادل لقوله مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه: ١١١]، وفي قوله مِنَ الصَّالِحاتِ تيسير في الشرع لأنها مَنْ التي للتبعيض، و «الظلم» أعم من «الهضم» وهما يتقاربان في المعنى ويتداخلان، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى، فقالوا «الظلم» أن تعظم عليه سيئاته وتكثر أكثر مما يجب، و «الهضم» أن ينقض حسناته ويبخسها، وكلهم قرأ فَلا يَخافُ ظُلْماً على الخبر، غير ابن كثير فإنه قرأ «فلا يخف» على النهي، ثم قال تعالى:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرنا وأَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وتوعدنا فيه بأنواع من الوعيد لَعَلَّهُمْ بحسب توقع البشر وترجيهم يَتَّقُونَ الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم وما حذرهم من أليم عقابه، هذا تأويل فرقة في قوله أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً وقالت فرقة معناه أو يكسبهم شرفا ويبقي عليهم إيمانهم ذكرا صالحا في الغابرين، وقرأ الحسن البصري «أو يحدث» ساكنة الثاء، وقرأ مجاهد «أو نحدث» بالنون وسكون الثاء ولا وجه للجزم إلا على أن يسكن حرف الإعراب استثقالا لحركته، وهذا نحو قول جرير ولا يعرفكم العرب. وقوله فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ختم للقول لأنه لما قدم صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه
بهم ختم ذلك بهذه الكلمة وجعل بعد ذلك الأمر بنوع آخر من القول وقوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ قالت فرقة سببه أن النبي ﷺ كان يخاف وقت تكلم جبريل له أن ينسى أول القرآن فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه السلام الوحي فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: ١٦] وقالت فرقة سبب هذه الآية أن النبي ﷺ كان إذا أوحي إليه القرآن أمر بكتبه للحين فأمره الله تعالى في هذه الآية أن يتأنى حتى يفسر له المعاني وتقرر عنده، وقالت فرقة سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي ﷺ أن زوجها لطمها فقال لها رسول الله ﷺ بينكما القصاص ثم نزلت الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: ٣٤]، ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن حتى يبين والله أعلم. وقرأ الجمهور «من قبل أن يقضي إليك وحيه»، وقرأ عبد الله بن مسعود «من قبل أن نقضي إليك وحيه». وباقي الآية بين رغبة في خير.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١١٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)
قال الطبري المعنى وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم ع وهذا التأويل ضعيف، وذلك أن يكون آدَمَ مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وآدَمَ إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضة عليه ﷺ وأما الظاهر في هذه الآية، إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد ﷺ أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه فَنَسِيَ فعوقب لتكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم. و «العهد» هنا في معنى الوصية، و «نسي» معناه ترك، والنسيان الذهول لكن هنا أنه لا يتعلق بالناسي عقاب، وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون الياء ووجهها طلب الخفة، و «العزم» المضي على المعتقد في أي شيء كان، وآدم عليه السلام كان معتقدا لأن لا يأكل من الشجرة لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده، وعبر بعض المفسرين عن العزم هنا بالصبر وبالحفظ وبغير ذلك مما هو أعم من حقيقة العزم والشيء الذي عهد إلى آدم هو أن يقرب الشجرة وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له، وقال أبو أمامة لو أن أحلام بني آدم وضعت منذ خلق الله إلى يوم القيامة ووضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله له وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ابتداء قصة، والعامل، في إِذْ فعل مضمر وقد تقدم استيعاب هذه القصة لكن نذكر من ذلك ما تقتضيه ألفاظ هذه الآية، فالملائكة قيل كان جميعهم مأمور بذلك وقيل بل فرقة فاضلة منهم عددهم اثنان وعشرون، و «السجود» الذي أمروا به سجود كرامة لآدم وعبادة لله تعالى، وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ الاستثناء متصل في قول من جعل إبليس من الملائكة، ومنقطع في قول من قال هو من قبيلة غير الملائكة
يقال لها الجن. وقوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما مِنَ الْجَنَّةِ ثم خصص بقوله فَتَشْقى من حيث كان المخاطب أولا والمقصود في الكلام، وقيل بل ذلك لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال وروي أن آدم لما أهبط هبط معه ثور أحمر فكأن يحرث ويمسح العرق فهذا هو الشقاء الذي خوف منه.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٨ الى ١٢١]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)
المعنى إِنَّ لَكَ يا آدم نعمة تامة وعطية مستمرة أن لا يصيبك جوع ولا عري ولا ظمأ ولا بروز للشمس يؤذيك وهو الضحاء، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «وإنك لا تظمأ» بكسر الألف، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «وأنك» بفتح الألف، وجعل الله تعالى الجوع في هذه الآية مع العري والظمأ مع الضحاء وكأن عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ المتناسب والعري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العري يمس بسببه البرد والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن تفرق النسب ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزقّ الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إقفال
وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس حافظة لنسب وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب، ومن الضحاء قول الشاعر: [الطويل]
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحي وأما بالعشيّ فيخصر
و «وسوسة الشيطان» قيل كانت دون مشافهة، إلقاء في النفس، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية، وكان آدم عليه السلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي من أكلها كان ملكا مخلدا عمد آدم إلى غير تلك التي نهي عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة، وقيل بل تأول أن النهي إنما كان على الندب لا على التحريم البت، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابتها وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما، وَطَفِقا معناه وجعلا يفعلان ذلك دائما، ويَخْصِفانِ معناه يلفقان ويضمان شيئا إلى شيء فكانا يستتران بالورق وروي أنه كان ورق التين، ثم
نص تبارك وتعالى على آدم أنه عَصى و «غوى» معناه ضل من الغي الذي هو ضد الرشد ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقرأت فرقة «وأنك» بفتح الألف عطفا على قوله أَلَّا تَجُوعَ وقرأت فرقة و «إنك» عطفا على قوله إِنَّ لَكَ.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٦]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
اجْتَباهُ معناه تخيره واصطفاه، و «تاب عليه» معناه رجع به من حال المعصية إلى حال الندم وهداه لصلاح الأقوال والأعمال وأمضى عقوبته عز وجل في إهباطه من الجنة. وقوله اهْبِطا مخاطبة لآدم وحواء، ثم أخبرهما بقوله جَمِيعاً أن إبليس والحية يهبطان معهما وأخبرهما بأن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة. وعَدُوٌّ يوصف به الواحد والاثنان والجميع، وقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً شرط وجوابه في قوله فَمَنِ اتَّبَعَ وما بعده إلى آخر القسم الثاني. و «الهدى» معناه دعوة شرعي ثم أعلمهم أنه من اتبع هداه وآمن به فإنه «لا يضل» في الدنيا وَلا يَشْقى في الآخرة، وأن مَنْ أَعْرَضَ عن ذكر الله وكفر به فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل، وصف به الواحد والجمع ذلك من وعيد لهم ثم أخبر عن حالة أخرى هي أيضا في يوم القيامة وهي حشرهم عميا، ثم يجيء قوله وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: ١٢٧] معنى هذا الذي ذكرناه من المعيشة والعمى ونحوه هو عذابه في الآخرة وهو أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: ١٢٧] من كل ما يقع عليه الظن والتخيل، فكأنه ذكر نوعا من عذاب الآخرة ثم أخبر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى. وقرأت فرقة «ونحشره» بالنون، وقرأت فرقة «ويحشره» بالياء وقرأت فرقة «ويحشره» بسكون الراء، وقرأت فرقة «أعمى» بالإمالة، وقالت فرقة العمى هنا هو عمى البصيرة عن الحجة.
قال القاضي أبو محمد: ولو كان هذا لم يخش الكافر لأنه كان أعمى البصيرة ويحشر كذلك، وقالت فرقة العمى عمى البصرع وهذا هو الأوجه مع أن عمى البصيرة حاصل في الوجهين، وأما قوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: ١٠٢] فمن رآه في العينين فلا بد أن يتأول فيها مع هذه إما أنها في طائفتين أو في موطنين، وقوله تعالى: كَذلِكَ أَتَتْكَ ذلك إشارة إلى العمى الذي حل به، أي مثل هذا في الدنيا أن أَتَتْكَ آياتُنا
فَنَسِيتَها
والنسيان في هذه الآية بمعنى الترك ولا مدخل للذهول في هذا الموضع، وتُنْسى بمعنى تترك في العذاب وروي أن هذه الآية نزلت في المرشي.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٧ الى ١٣٠]
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
المعنى وكما وصفنا من أليم الأفعال نَجْزِي المسرفين المتعدين الكفار بالله عز وجل، وقوله وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ إن كانت معيشة الضنك في الدنيا أو البرزخ فجاء هذا وعيدا في الآخرة بعد وعيد، وإن كانت المعيشة في الآخرة فأكد الوعيد بعينه هذا القول، الذي جعل به عذاب الآخرة فوق كل عذاب يتخيله الإنسان أو يقع في الدنيا، ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله أَفَلَمْ يَهْدِ، لَهُمْ وقرأت فرقة «يهد» بالياء بمعنى يتبين، واختلفت هذه الفرقة في الفاعل فقال بعضها الفاعل كَمْ وهذا قول كوفي، ونحاة البصرة لا يجيزونه لأن «كم» لها صدر الكلام، وفي قراءة ابن مسعود «أفلم يهد لهم من أهلكنا» فكأن هذه القراءة تناسب ذلك التأويل في كَمْ وقال بعضهم الفاعل الله عز وجل، والمعنى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ما جعل الله لهم من الآيات والعبر فأضاف الفعل إلى الله عز وجل بهذا الوجه قاله الزجاج، وقال بعضهم الفاعل مقدر الهدى أو الأمرع أو النظر أو الاعتبار هذا أحسن ما يقدر به عندي، وقرأت فرقة «نهد» بالنون وهذه القراءة تناسب تأويل من قال في التي قبلها الفاعل الله تعالى. وكَمْ على هذه الأقوال نصب ب أَهْلَكْنا، ثم قيد الْقُرُونِ بأنهم يمشي هؤلاء الكفرة فِي مَساكِنِهِمْ فإنما أراد عادا أو ثمود أو الطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، وقرأت فرقة «يمشون» بفتح الياء، وقرأت فرقة «يمشون» بضم الياء وفتح الميم وشد الشين، والنُّهى جمع نهية وهو ما ينهى الإنسان عن فعل القبيح، ثم أعلم عز وجل قبله أن العذاب كان يصير لهم لِزاماً لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى أَجَلٌ مُسَمًّى عنده فتقدير الكلام وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ في التأخير وَأَجَلٌ مُسَمًّى لكان العذاب لِزاماً كما تقول لكان حتما أو واجبا واقعا لكنه قدم وأخر لتشتبه رؤوس الآي. واختلف الناس في الأجل فيحتمل أن يريد يوم القيامة والعذاب المتوعد به على هذا هو عذاب جهنم، ويحتمل أن يريد ب «الأجل» موت كل واحد منهم فالعذاب على هذا هو ما يلقى في قبره وما بعده، ويحتمل أن يريد بالآجال يوم بدر فالعذاب على هذا هو قتلهم بالسيف وبكل احتمال مما ذكرناه، قالت فرقة، وفي صحيح البخاري، أن يوم بدر وهو اللزام وهو البطشة الكبرى، ثم أمره تعالى بالصبر على أقوالهم إنه ساحر وإنه كاهن وإنه كذاب إلى غير ذلك، والمعنى لا تحفل بهم فإنهم مدركة الهلكة وكون اللزام يوم بدر أبلغ في آيات نبينا عليه السلام وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال أكثر المتأولين هذه إشارة إلى الصلوات
الخمس قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الصبح وَقَبْلَ غُرُوبِها صلاة العصر ومِنْ آناءِ اللَّيْلِ العتمة وَأَطْرافَ النَّهارِ المغرب والظهر. وقالت فرقة آناءِ اللَّيْلِ المغرب والعشاء، وَأَطْرافَ النَّهارِ الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من سبح قبل غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» ع وسمى الطرفين أطرافا على أحد وجهين إما على نحو فقد صغت قلوبكما: وإما على أن يجعل النهار للجنس، فلكل يوم طرف وهي التي جمع، وأما من قال أَطْرافَ النَّهارِ لصلاة الظهر وحدها فلا بد له من أن يتمسك بأن يكون النهار للجنس كما قلنا أو نقول إن النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال ولكل قسم طرفان فعند الزوال طرفان الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر فقال عن الطرفين أطرافا على نحو فقد صغت قلوبكما، وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل والآناء جمع أنى وهي الساعة من الليل ومنه قول الهذلي:
حلو ومر كعطف القدح مر به في كل أنى حداة الليل تنتقل
وقالت فرقة في الآية إشارة إلى نوافل، فمنها آناءِ اللَّيْلِ ومنها قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وركعتا الفجر والمغرب أَطْرافَ النَّهارِ، وقرأ الجمهور «لعلك ترضى» بفتح التاء أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم «لعلك ترضى» أي لعلك تعطى ما يرضيك.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣١ الى ١٣٣]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)
قال بعض الناس سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل به ضيف فلم يكن عنده شيء فبعث إلى يهودي ليسلفه شعيرا فأبى اليهودي إلا برهن فبلغ الرسول بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» فرهنه درعه فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معترض أن يكون سببا لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنّه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم والصبر على أقوالهم والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذاك منحصر عندهم صائر بهم إلى خزي، وقوله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أبلغ من ولا تنظر، لأن الذي يمد بصره إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه. و «الأزواج» الأنواع فكأنه قال إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أقواما منهم وأصنافا. وقوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا شبه نعم هؤلاء الكفار
بالزهر وهو ما اصفر من النور، وقيل «الزهر» النور جملة لأن الزهر له منظر ثم يضمحل فكذلك حال هؤلاء، ونصب زَهْرَةَ يجوز أن ينصب على الحال وذلك أن تعرفها ليس بمحض، وقرأت فرقة «زهرة» بسكون الهاء، وفرقة «زهرة» بفتح الهاء ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن ذلك إنما هو ليختبرهم به ويجعله فتنة لهم وأمرا يجازون عليه بالسوء لفساد تقلبهم فيه، وَرِزْقُ الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده خَيْرٌ وَأَبْقى أي رزق الدنيا خير ورزق الآخرة أبقى وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة وتمثيلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها ويتكفل هو برزقه لا إله إلّا هو، وأخبره أن العاقبة الأولى التقوى وفي حيزها فثم نصر الله في الدنيا ورحمته في الآخرة، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل في عمومه جميع أمته. وروي أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا الآية إلى قوله وَأَبْقى، ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل بهذه الآية، وقرأ الجمهور «نحن نرزقك» بضم القاف، وقرأت فرقة «نزرقك» بسكونها، ثم أخبر تعالى عن طوائف من الكفار قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي بعلامة مما اقترحناها عليه وبما يبهر ويضطر.
قال القاضي أبو محمد: ورسل الله إنما اقترنت معهم آيات معرضة للنظر محفوفة بالبراهين العقلية ليضل من سبق في علم الله تعالى ضلاله ويهتدي من سبق في علم الله تعالى هداه، فوبخهم الله تعالى بقوله أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى يعني التوراة أعظم شاهد وأكبر آية له. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «تأتهم» على لفظة بَيِّنَةُ وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «يأتهم» بالياء على المعنى، وقرأت فرقة «بينة ما» بالإضافة إلى ما وقرأت فرقة «بينة» بالتنوين، وما على هذه القراءة فاعلة ب «تأتي»، وقرأ الجمهور «في الصحف» بضم الحاء، وقرأت فرقة «في الصحف» بسكونها.
قوله عز وجل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٥]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
أخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه لو أهلك هذه الأمة الكافرة قبل إرساله إليهم محمدا لقامت لهم حجة رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا الآية. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة والمغلوب على عقله والصبي الصغير فيقول المغلوب على عقله رب لم تجعل لي عقلا ويقول الصبي نحوه ويقول الهالك في الفترة رب لم ترسل إليّ رسولا ولو جاءني لكنت أطوع خلقك لك» قال «فترفع لهم نار ويقال لهم ردوها» قال «فيردها من كان في علم الله تعالى أنه سعيد ويكع عنها الشقي فيقول الله تعالى إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم» أما الصبي
71
والمغلوب على عقله فبين أمرهما وأما صاحب الفترة فليس ككافر قريش قبل النبي ﷺ لأن كفار قريش وغيرهم ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في أقطار الأرض فليس بصاحب فترة والنبي ﷺ قد قال أبي وأبوك في النار ورأى عمرو بن لحي في النار إلى غير هذا مما يطول ذكره، وأما صاحب الفترة يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود اللهم إلا أن يشد في أطراف الأرض والمواضع المنقطعة عن العمران. و «الذل والخزي» مقترنان بعذاب الآخرة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يتوعدهم ويحملهم ونفسه على التربص وانتظار الفرج. و «التربص» التأني، والصِّراطِ الطريق. وقرأت فرقة «السوي»، وقرأت فرقة «السوء» فكأن هذه القراءة قسمت الفريقين أي ستعلمون هذا من هذا وقرأت فرقة «السّوي» بشد الواو وفتحها، وقرأت فرقة «السّوؤى» بضم السين وهمزة على الواو على وزن فعلى، واهْتَدى معناه رشد.
72
Icon