ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المؤمنونقوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
أخبر الله تعالى عن فلاح المؤمنين وأنهم نالوا البغية وأحرزوا البقاء الدائم، وروي عن كعب الأحبار أن الله تعالى لما خلق جنة عدن قال لها تكلمي فقالت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وروي عن مجاهد أن الله تعالى لما خلق الجنة وأتقن حسنها قال قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وقرأ طلحة بن مصرف «قد أفلح المؤمنون» بضم الحاء يريد قد أفلحوا، وهي قراءة مردودة، وروي عنه «قد أفلح» بضم الهمزة وكسر اللام، ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ والخشوع التطامن وسكون الأعضاء والوقار، وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع هذا خشعت جوارحه، وروي أن سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، وروي عن ابن سيرين وغيره أن رسول الله ﷺ كان يلتفت في صلاته إلى السماء فنزلت الآية في ذلك، واللَّغْوِ سقط القول وهذا يعم جميع ما لا خير فيه ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي ﷺ وأصحابه وكأن الآية فيها موادعة، وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ذهب الطبري وغيره إلى أنها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بين، ويحتمل اللفظ أن يريد ب «الزكاة» الفضائل كأنه أراد الأزكى من كل فعل، كما قال تعالى خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف: ٨١] وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ صفة العفة، وقوله إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ الآية، يقتضي تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم وكل ذلك في قوله، وَراءَ ذلِكَ ويريد وراء هذا الحد الذي حد، ومعنى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من النساء ولما كان حافِظُونَ بمعنى محجزون حسن استعمال عَلى، و «العادي» الظالم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨ الى ١١]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
قرأ جمهور الناس «لأماناتهم» بالجمع، وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد، والأمانة العهد تجمع كل ما تحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعم من العهد، إذ كل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد، وقد تعن أمانة فيما لم يعهد فيه تقدم، وهذا إذا أخذناهما بنسبتهما إلى العبد، فإن أخذناهما من حيث هما عهد الله إلى عباده وأمانته التي حملهم كانا في رتبة واحدة وقرأ الجمهور «صلواتهم»، وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد، وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجمع، والمحافظة على الصلاة رقب أوقاتها والمبادرة إلى وقت الفضل فيها، والْوارِثُونَ يريد الجنة، وروي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويحصل الكفار في مساكنهم في النار، ويحتمل أن يسمي تعالى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصلوها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين، والْفِرْدَوْسَ، مدينة الجنة وهي جنة الأعناب، واللفظة، فيما قال مجاهد، رومية عربت، والعرب تقول للكروم فراديس، وقال رسول الله ﷺ لأم حارثة: إنها جنان كثيرة وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني، واختلف المفسرون في قوله الْإِنْسانَ فقال قتادة وغيره: أراد آدم عليه السلام لأنه استل من الطين ع ويجيء الضمير في قوله ثُمَّ جَعَلْناهُ عائدا على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له، نظير ذلك حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] وغيره، وقال ابن عباس وغيره المراد بقوله الْإِنْسانَ ابن آدم، وسُلالَةٍ مِنْ طِينٍ صفوة الماء ع وهذا على أنه اسم الجنس ويترتب فيه أنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم أو عن أبويه المتغذيين بما يكون من الماء والطين وذلك السبع الذي جعل الله رزق ابن آدم فيها، وسيجيء قول ابن عباس فيها إن شاء الله، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس: إن «السلالة» هي صفوة الماء يعني المني، وقال مجاهد سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ: مني آدم ع وهذا نبيل إذ آدم طين
إذا أنتجت منها المهار تشابهت... على العود إلا بالأنوف سلائله
ومن اللفظ قول هند بنت النعمان بن بشير:
سليلة أفراس تجللها بغل ومنه قول الآخر [حسان بن ثابت] :[الطويل]
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا... سلالة فرج كان غير حصين
وهذه الفرقة يترتب مع قولها عود الضمير في «جعلنا وأنشأنا»، والنُّطْفَةَ تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره، وهي هنا لمني ابن آدم، و «القرار المكين» من المرأة هو موضع الولد، و «المكين» المتمكن فكأن القرار هو المتمكن في الرحم، والْعَلَقَةَ الدم الغريض، والْمُضْغَةَ بضعة اللحم قدر ما يمضغ، وقرأ الجمهور عِظاماً في الموضعين، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظما» بالإفراد في الموضعين، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولا وبالجمع في الثاني، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكير بعكس ذلك، وفي قراءة ابن مسعود، «ثم جعلنا المضغة عظاما وعصبا فكسوناه لحما»، واختلف الناس في «الخلق الآخر»، فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه، وقال ابن عباس أيضا: خروجه إلى الدنيا، وقال قتادة عن فرقة:
نبات شعره، وقال مجاهد: كمال شبابه وقال ابن عباس أيضا: تصرفه في أمور الدنيا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها آخَرَ، وأول رتبة من كونه آخَرَ هي نفخ الروح فيه، والطرف الآخر من كونه آخَرَ تحصيله المعقولات، و «تبارك» مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله آخَرَ قال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول الله ﷺ هكذا أنزلت، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل، ويروى أن قائل ذلك هو عبد الله بن أبي سرح وبهذا السبب ارتد، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: ٩٣]، الآية وقوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه ومنه قول الشاعر: [الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج: إنما قال الْخالِقِينَ لأنه تعالى قد أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم، فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله خلق
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من هذه الأحوال، وقرأ ابن أبي عبلة «لمايتون» بالألف، وتُبْعَثُونَ معناه من قبوركم أحياء، وهذا خبر بالبعث والنشور، و «الطريق» كل ما كان طبقات بعضه فوق بعض، ومنه طارقت نعلي، ويريد ب «السبع الطرائق» السماوات، ويجوز أن تكون «الطرائق» بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء، وقوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ نفي عام في إتقان خلقهم وعن مصالحهم وعن أعمالهم، وقوله تعالى: ماءً بِقَدَرٍ، قال بعض العلماء أراد المطر، وقال بعضهم إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل، والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى، وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ويمكن أن يقيد هذا بالعذب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء، وقوله، بِقَدَرٍ، أي على مقدار مصلح لأنه لو كثر أهلك، فَأَنْشَأْنا، معناه فأوجدنا وخلقنا، وذكر تعالى «النخيل والأعناب» لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما قاله الطبري، ولأنهما أيضا أشرف الثمار فذكرها مثالا تشريفا لها وتنبيها عليها، وقوله لَكُمْ فِيها يحتمل أن يعود الضمير على الجنات فيريد حينئذ جميع أنواع الفاكهة، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة، إذ فيها مراتب وأنواع والأول أعم لسائر الثمرات، وقوله وَشَجَرَةً عطف على قوله جَنَّاتٍ ويريد بها الزيتونة وهي كثيرة في طُورِ سَيْناءَ من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس وغيره، و «الطور» الجبل في كلام العرب وقيل هو مما عرب من كلام العجم واختلف في سَيْناءَ فقال قتادة معناه الحسن ويلزم على هذا التأويل أن ينون «الطور» وقال مجاهد معناه مبارك، وقال معمر عن فرقة معناه ذو شجر ع ويلزمهم أن ينون «الطور»، وقال
نحن بني جعدة أرباب الفلج | نضرب بالبيض ونرجو بالفرج |
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والضأن والمعز و «العبرة» في خلقتها وسائر اخبارها، وقرأ الجمهور «نسقيكم» بضم النون من أسقى، ورويت عن عاصم، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «نسقيكم» بفتح النون من سقى، فمن الناس من قال هما لغتان بمعنى، ومنهم من قال سقيته إذا أعطيته للشفة وأسقيته إذا جعلت له سقيا لأرض أو ثمرة ونحوه، فكأن الله تعالى جعل الأنعام لعبيده سقيا يشربون وينتجعون، وقرأ أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء من فوق أي تسقيكم الأنعام، و «المنافع» الحمل عليها وجلودها وأصوافها وأوبارها وغير ذلك مما يطول عده، وْفُلْكِ
، السفن واحدها فلك الحركات في الواحد كحركات قفل والحركات في الجمع كحركات أسد وكتب.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦)
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
قد تقدم القول في صفة السفينة وقدرها في سورة هود، والْفُلْكَ هنا مفرد لا جمع، وقوله تعالى بِأَعْيُنِنا عبارة عن الإدراك، هذا مذهب الحذاق، ووقفت الشريعة على أعين وعين ولا يجوز أن يقال عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية ووَحْيِنا معناه في كيفية العمل ووجه البيان، وذلك أن جبريل عليه السلام نزل إلى نوح فقال له اصنع كذا وكذا لجميع حكم السفينة وما تحتاج إليه واستجن الكفار نوحا لا دعائه النبوءة بزعمهم أنها دعوى وسخروا منه لعمله السفينة على غير مجرى، ولكونها أول سفينة إن صح ذلك، وقوله، أَمْرُنا، يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى أن نأمر الماء بالفيض ويحتمل أن يريد واحد الأمور أي هلاكنا للكفرة، وقد تقدم القول في معنى قوله وَفارَ التَّنُّورُ والصحيح من الأقوال فيه أنه تنور الخبز وأنها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح عليه السلام وقوله فَاسْلُكْ معناه فادخل ومنه قول الشاعر: [البسيط]
حتى سلكن الشوى منهن في مسلك | من نسل جوابة الآفاق مهداج |
وكنت لزاز خصمك لم أعرد | وقد سلكوك في يوم عصيب |
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤)
قال الطبري رحمه الله: إن هذا «القرن» هم ثمود و «رسولهم» صالح.
قال القاضي أبو محمد: وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة، وفي هذا احتمالات كثيرة والله أعلم، وَأَتْرَفْناهُمْ معناه نعمناهم وبسطنا لهم الآمال والأرزاق، ومقالة هؤلاء أيضا تقتضي استبعاد بعثة البشر وهذه الطائفة وقوم نوح لم يذكر في هذه الآيات أن المعجزة ظهرت لهم وأنهم كذبوا بعد وضوحها ولكن ذلك مقدر معلوم وإن لم تعين لنا المعجزة والعقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، ووجوب الاتباع إنما هو بعد قيام الحجة على المرء أو على من هو المقصد، والجمهور كالعرب في معجزة القرآن والأطباء لعيسى، والسحرة لموسى، فبقيام الحجة على هؤلاء قامت على جميع من وراءهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩)
قوله أَيَعِدُكُمْ استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد وبمعنى الهزء بهذا الوعد.
وأَنَّكُمْ الثانية بدل من الأولى عند سيبويه وفيه معنى تأكيد الأولى وكررت لطول الكلام، وكأن المبرد أبى عبارة البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر «أن» الأولى والخبر عند سيبويه محذوف تقديره أنكم تبعثون إذا متم، وهذا المقدر هو العامل في إِذا وفي قراءة عبد الله بن مسعود «أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون» بحذف أَنَّكُمْ الأولى، ويعنون بالإخراج النشور من القبور، وقوله هَيْهاتَ هَيْهاتَ استبعاد، وهذه كلمة لها معنى الفعل، التقدير بعد كذا، فطورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ذلك، ومنه قول جرير: [الطويل]
فأيهات أيهات العقيق ومن به | وأيهات خل بالعقيق نواصله |
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
المعنى قالَ الله لهذا النبي الداعي عَمَّا قَلِيلٍ يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصَّيْحَةُ ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود، وقوله بِالْحَقِّ معناه بما استحقوا من أفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم، و «الغثاء» ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به فيشبه كل هامد وتالف بذلك و «بعدا» منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره ثم أخبر تعالى عن أنه «أنشأ» بعد هؤلاء أمما كثيرة كل أمة بأجل في كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها وتَتْرا مصدر بمنزلة فعلى مثل الدعوى والعدوى ونحوها، وليس تترى بفعل وإنما هو مصدر من تواتر الشيء، وقرأ الجمهور «تترا» كما تقدم ووقفهم بالألف، وحمزة والكسائي يميلانها، قال أبو حاتم هي ألف تأنيث، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تترا» بالتنوين ووقفهما بالألف وهي ألف إلحاق قال ابن سيده يقال جاءو «تترا وتترا» أي متواترين التاء مبدلة من الواو على غير قياس لأن قياس إبدال الواو تاء إنما هو في افتعل وذلك نحو اتزر واتجه، وقوله أتبعنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي في الإهلاك، وقوله وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يريد أحاديث مثل، وقلّما يستعمل الجعل حديثا إلا في الشر.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
ثُمَّ هنا على بابها لترتيب الأمور واقتضاء المهلة، و «الآيات» التي جاء بها مُوسى وهارُونَ هي اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي وهما «السلطان المبين»، ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. و «الملأ» هنا الجمع يعم الأشراف وغيرهم، و «استكبروا»، معناه عن الإيمان بموسى وأخيه لأنهم أنفوا من ذلك، وعالِينَ، معناه قاصدين للعلو بالظلم والكبرياء، وقوله عابِدُونَ معناه خامدون متذللون، ومن هنا قيل لعرب الحيرة العباد لأنهم دخلوا من بين العرب في طاعة كسرى، هذا أحد القولين في تسميتهم والطريق المعبد المذلل وعلو هؤلاء هو الذي ذكر الله تعالى في قوله تِلْكَ
[القصص: ٨٣] ومِنَ الْمُهْلَكِينَ يريد بالغرق.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
الْكِتابَ التوراة، ولَعَلَّهُمْ يريد بني إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط، والترجي في «لعل» في حيز البشر أي كان من فعلنا معهم ما يرجو معه ابن آدم إيمانهم وهداهم والقضاء قد حتم بما حتم، وابْنَ مَرْيَمَ، عيسى عليه السلام وقصتهما كلها آية عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل وأخذها من كلا الوجهين متمكن، و «آوى» معناه ضم واستعمل اللفظة في الأماكن أي أقررناهما، و «الربوة» المرتفع من الأرض، وقرأ جمهور الناس «ربوة» بضم الراء، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن، وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها، وقرأ محمد بن إسحاق «رباوة» بضم الراء، وقرأ الأشهب العقيلي بفتحها، وقرأت فرقة بكسرها وكلها لغات قرىء بها، و «القرار»، التمكن فمعنى هذا أنها مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس، وقال قتادة «القرار» هنا الحبوب والثمار، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها فهي أهل أن يستقر فيها وقد يمكن أن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار فبين بعد أن ماء هذه الربوة يرى معينا جاريا على وجه الأرض قاله ابن عباس وهذا كمال الكمال، و «المعين»، الظاهر الجري للعين فالميم زائدة وهو الذي يعاين جريه لا كالبئر ونحوه، وكذلك أدخل الخليل وغيره هذه اللفظة في باب. ع، ي، ن، وقد يحتمل أن تكون من قولهم معن الماء إذا كثر، ومنه قولهم المعن المعروف والجود، فالميم فاء الفعل، وأنشد الطبري على هذا قول عبيد بن الأبرص:
واهية أو معين ممعن... وهضبة دونها لهوب
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عينا معينا، وهذا يحتمل الوجهين، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم حين استحيت في قصة عيسى عليه السلام وهو الذي قيل لها فيه قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم: ٢٤] هذا قول بعض المفسرين واختلف الناس في موضع الربوة فقال ابن المسيب سعيد: هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأن صفة الغوطة أنها ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ على الكمال، وقال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين وأسنده الطبري عن كريب البهزي عن النبي عليه السلام، ويعارض هذا القول أن الرملة ليس يجري بها ماء البتة وذكره الطبري وضعف القول به، وقال كعب الأحبار «الربوة» بيت المقدس وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلا. ع ويترجح أن «الربوة» بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقال ابن زيد «الربوة» بأرض مصر وذلك أنها ربا يجيء فيض النيل إليها فيملأ الأرض ولا ينال تلك الربا وفيها القرى وبها نجاتها ع ويضعف هذا القول أنه لم يرو أن عيسى عليه السلام ومريم كانا بمصر ولا
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٦]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «وإنّ» بكسر الألف وشد النون، وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الألف وتخفيف «أن»، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «وأنّ هذه» بفتح الألف وتشديد «أنّ»، فالقراءة الأولى بينة على القطع، وأما فتح الألف وتشديد النون فمذهب سيبويه أنها متعلقة بقوله، آخرا فَاتَّقُونِ على تقدير ولأن، أي فاتقون لأن أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وهذا عنده نحو قوله عز وجل: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: ١٨]. و «أن» عنده في موضع خفض وهي عند الخليل في موضع نصب لما زال الخافض، وقد عكس هذا الذي نسبت إليهما بعض الناس، وقال الفراء «أن» متعلقة بفعل مضمر تقديره واعلموا أو واحفظوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «أمة واحدة» بالرفع على البدل، وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو «أمة واحدة» بالنصب على الحال وقيل على البدل من هذِهِ وفي هذا نظر، وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ [المؤمنون: ٥١]، إنما هو مخاطبة لجميعهم وأنه بتقرير حضورهم وتجيء هذه الآية بعد ذلك بتقدير وقلنا للناس، وإذا قدرت أَيُّهَا الرُّسُلُ [المؤمنون: ٥١] مخاطبة لمحمد عليه السلام قلق اتصال هذه واتصال قوله فَتَقَطَّعُوا، أما أن قوله وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون بالمعنى فيحسن بعد ذلك اتصال فَتَقَطَّعُوا، ومعنى «الأمة» هنا الملة والشريعة والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام وهو دين الإسلام، وقوله فَتَقَطَّعُوا يريد الأمم أي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
لما فرغ ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك ذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم، و «الإشفاق» أبلغ التوقع والخوف، ومِنْ، في قوله مِنْ خَشْيَةِ هي لبيان جنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذاب الله، و «من»، في قوله «من عذاب» هي لابتداء غاية و «الآيات» تعم القرآن وتعم العبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر واعتبار وفي كل شيء له آية، ثم ذكرهم تعالى من الطرف الآخر وهو نفي الإشراك لأن لكفار قريش أن يقولوا ونحن نؤمن بآيات ربنا ويريدون نصدق بأنه المخترع الخالق فذكر تعالى نفي الإشراك الذي لا حظ لهم فيه بسبب أصنامهم، وقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا على قراءة الجمهور، يعطون ما أعطوا وقال الطبري: يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب، قال ابن عباس وابن جبير: هو عام في جميع أعمال البر، وهذا أحسن كأنه قال: والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله
قال القاضي أبو محمد: ولا نظر مع الحديث، و «الوجل» نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبدا تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله تعالى أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ تنبيه على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة، وروي عن الحسن أيضا أنه قال: المؤمن يجمع إحسانا وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمنا، وقرأ الجمهور «أنهم» بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن يكون قوله وَجِلَةٌ عاملة في «أن» من حيث إنها بمعنى خائفة.
وقرأ الأعمش «إنهم» بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل الخيرات، وقرأ الجمهور «يسارعون»، وقرأ الحر النحوي «يسرعون وأنهم إليها سابقون»، وهذا قول بعضهم في قوله لها، وقالت فرقة: معناه وهم من أجلها سابقون، فالسابق على هذا التأويل هو إلى رضوان الله تعالى وعلى الأول هو إلى الخيرات، وقال الطبري عن ابن عباس: المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
قوله تعالى: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق على الحقيقة، وتكليف ما لا يطاق أربعة أقسام، ثلاثة حقيقة ورابع مجازي وهو الذي لا يطاق للاشتغال بغيره مثل الإيمان للكافر والطاعة للعاصي وهذا التكليف باق وهو تكليف أكثر الشريعة، وأما الثلاثة فورد الاثنان منها وفيها وقع النسخ المحال عقلا في نازلة أبي لهب والمحال عادة في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: ٢٨٤]، والثالث لم يرد فيه شيء وهو النوع المهلك لأن الله تعالى لم يكلفه عباده، فأما قتل القاتل ورجم الزاني فعقوبته بما فعل وقد مضى القول مستوعبا موجزا في مسألة تكليف ما لا يطاق في سورة البقرة وفي قولنا ناسخ نظر من جهة التواريخ، وما نزل بالمدينة وما نزل بمكة والله المعين، وقوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وفي الآية على هذا التأويل تهديد وتأنيس من الحيف والظلم، وقالت فرقة الإشارة بقوله وَلَدَيْنا كِتابٌ إلى القرآن.
يراوح من صلوات المليك | فطورا سجودا وطورا جؤارا |
المعذبون قتلى بدر والذين يَجْأَرُونَ قتلى مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
المعنى يقال لهم يوم العذاب وعند حلوله لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ وهذا القول يجوز أن يكون حقيقة، أي تقول ذلك لهم الملائكة ويحتمل أن يكون مجازا أي لسان الحال يقول ذلك، وهذا على أن الذين يجأرون هم المعذبون، وأما على قول ابن جريج فلا يحتمل أن تقول ذلك الملائكة، وقوله قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يريد بها القرآن، وتَنْكِصُونَ معناه ترجعون وراءكم وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحق، وقرأ علي بن أبي طالب «على أدباركم تنكصون» بضم الكاف وبذكر الإدبار بدل أعقاب، ومُسْتَكْبِرِينَ حال، والضمير في بِهِ قال الجمهور: هو عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر، والمعنى أنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله فأنتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق، وقالت فرقة:
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول جيد وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بما بعده كأن الكلام ثم في قوله مُسْتَكْبِرِينَ ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم، سامِراً تَهْجُرُونَ، وقوله سامِراً حال وهو مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر فكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب، وقرأ الجمهور «سامرا»، وقرأ أبو رجاء «سمارا»، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن محيصن «سمرا» ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الكامل]
من دونهم إن جئتهم سمرا | عزف القيان ومجلس غمر |
قال القاضي أبو محمد: ولا تكون هذه القراءة تكثير «تهجّرون» بضم التاء، وكسر الجيم لأن أفعل لا يتعدى ولا يكثر بتضعيف إذ التضعيف والهمزة متعاقبان ثم وبخهم على إعراضهم بعد تدبر القول لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد، قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وسائر ذلك، وقوله أَمْ جاءَهُمْ كذلك توبيخ أيضا والمعنى أأبدع لهم أمر لم يكن في الناس قبلهم بل قد جاء الرسل قبل كنوح وإبراهيم وإسماعيل وفي هذا التأويل من التجوز أن جعل سالف الأمم «آباء» إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم، ويحتمل اللفظ معنى آخر على أن يراد ب آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من فرط من سلفهم في العرب فكأنه قال: أفلم يدبروا القول أم جاءهم أمر غريب من عند الله لم يأت آباءَهُمُ فبهر عقولهم ونبت أذهانهم عن أمر من أمور الله غريب في سلفهم والمعنى الأول أبين.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
هذا توبيخ لهم كأنه قال: أم سألتهم مالا فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله، وقرأ حمزة والكسائي «خراجا فخراج» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «خرجا فخراج» وقرأ ابن عامر «خرجا فخرج» وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة، قال الأصمعي: الخرج الجعل مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة بمعنى، وقد قرىء «خراجا» في قصة ذي القرنين وقوله
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
هذا إخبار من الله تعالى عن استكبارهم وطغيانهم بعد ما نالهم من الجوع، هذا قول روي عن ابن عباس وابن جريج أن «العذاب» هو الجوع والجدب المشهور نزوله بهم حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها والباب والمتوعد به يوم بدر، وهذا القول يرده أن الجدب الذي نالهم إنما كان بعد وقعة بدر وروي أنهم لما بلغهم الجهد جاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ فقال ألست تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال بلى قال قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع وقد أكلنا العهن فنزلت الآية، واسْتَكانُوا معناه انخفضوا وتواضعوا، ويحتمل أن يكون من السكون ويلزمه أن يكون «استكنوا» ووجهه أن فتحة الكاف مطلت فتولدت منه الألف ويعطي التصريف أنه من «كان» وأن وزنه استفعل وعلى الأول وزنه افتعل وكونه من «كان» أبين والمعنى فما طلبوا أن يكونوا لربهم أي طاعة وعبيد خير، وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب الناس من قتل السلطان بلاء فإنما هي نقمة فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية ولكن استقبلوها بالاستغفار واستكينوا وتضرعوا إلى الله وقرأ هذه الآية وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ و «العذاب الشديد»، إما يوم بدر بالسيوف كما قال بعضهم وإما توعد بعذاب غير معين وهو الصواب لما ذكرناه من تقدم بدر للمجاعة، وروي عن مجاهد أن العذاب والباب الشديد هو كله مجاعة قريش.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن كأن الأخذ كان في صدر الأمر ثم فتح الباب عند تناهيه حيث أبلسوا وجاء أبو سفيان، والملبس: الذي قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه بخير.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٣]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
قال الفقيه الإمام القاضي: والأول أظهر وذرأ معناه بث وخلق، وقوله وَإِلَيْهِ فيه حذف مضاف أي إلى حكمه وقضائه، وتُحْشَرُونَ يريد البعث، وقوله وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي له القدرة التي عنها ذلك، والاختلاف هنا التعاقب، والكون خلفة، ويحتمل أن يكون الذي هو المغايرة البينة، وقوله بَلْ إضراب والجحد مقدر كأنه قال ليس لهم نظر في هذه الآيات أو نحو هذا، والْأَوَّلُونَ يشير به إلى الأمم الكافرة كعاد وثمود، وقوله لَمَبْعُوثُونَ أي لمعادون أحياء وقولهم وَآباؤُنا أي حكى المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم جعلوهم آباء من حيث النوع واحد وإن حكى ذلك عن الأولين فالأمر مستقيم فيهم، و «الأساطير» قيل هي جمع أسطورة كأعجوبة وأعاجيب وأحدوثة وأحاديث وقيل هي جمع سطر وأسطار وأساطير.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
أمر الله تعالى نبيه بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلا الإقرار بها ويلزم من الإقرار بها أن يؤمنوا بباريها ويذعنوا لشرعه ورسالة رسوله، وقرأ الجميع في الأول لِلَّهِ بلا خلاف وفي الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحده «لله» جوابا على اللفظ، وقرأ باقي السبعة، «لله» جوابا على المعنى كأنه قال في السؤال لمن ملك السَّماواتِ السَّبْعِ إذ قولك لمن هذه الدار؟ وقولك من مالك هذه الدار؟ واحد في المعنى ثم جعل التوبيخ مدرجا بحسب وضوح الحجة شيئا شيئا فوقف على الأرض ومن فيها وجعل بإزاء ذلك التذكر، ثم وقف على السَّماواتِ السَّبْعِ، والْعَرْشِ، وجعل بإزاء ذلك التقية وهي أبلغ من التذكر وهذا بحسب وضوح الحجة، وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ وعيد، ثم وقف على مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وفي الإقرار بهذا التزام كل ما تقع به الغلبة في الاحتجاج، فوقع التوبيخ بعد في غاية البلاغة بقوله فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ومعنى «أنى» كيف ومن أين، وفي هذا تقرير سحرهم وهو سؤال عن الهيئة التي سحروا بها، والسحر هنا مستعار لهم وهو تشبيه لما وقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
المعنى ليس الأمر كما يقولون من نسبتهم إلى الله تعالى ما لا يليق به بَلْ أَتَيْناهُمْ وقرأ ابن أبي إسحاق «بل آتيناك» على الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولَكاذِبُونَ يراد فيما ذكروا الله تعالى به من الصاحبة والولد والشريك، وفي قوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ دليل على التمانع وهذا هو الفساد الذي تضمنه قوله ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] والجزء المخترع محال أن يتعلق به قدرتان فصاعدا أو يختلف الإلهان في إرادة فمحال نفوذهما ومحال عجزهما فإذا نفذت إرادة الواحد فهو العالي والآخر ليس بإله، فإذا قيل نقدرهما لا يختلفان في إرادة قيل ذلك بفرض، فإذا جوزه الكفار قامت الحجة فإن ما التزم جوازه جرى ما التزم وقوعه، وقوله إِذاً جواب لمحذوف تقديره لو كان معه إله إِذاً لَذَهَبَ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «عالم» بكسر الميم اتباعا للمكتوبة في قوله سُبْحانَ اللَّهِ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «عالم» بالرفع والمعنى هو «عالم» قال الأخفش: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد قال أبو علي: ووجهه الرفع إن الكلام قد انقطع.
قال الفقيه الإمام القاضي: والابتداء عندي أبرع والفاء في قوله فَتَعالى عاطفة بالمعنى كأنه قال:
علم الغيب والشهادة فَتَعالى وهذا كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ على إخبار مؤتنف، والْغَيْبِ ما غاب عن الناس والشَّهادَةِ ما شهدوه.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك،
قال الفقيه الإمام القاضي: هذه الطرفان وفي هذه الآية عدة للنبي ﷺ أي اشتغل بهذا وكل تعذيبهم والنقمة منهم إلينا وأمره بالتعوذ من الشيطان في «همزاته» وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة، فلذلك اتصلت بهذه الآية، وقال ابن زيد: «همز الشيطان» الجنون.
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي مصنف أبي داود أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان، همزه ونفخه ونفثه» قال أبو داود همزة الموتة وهي الجنون ونفخه الكبر ونفشه السحر.
قال الفقيه الإمام القاضي: والنزعات وسورات الغضب من الشيطان وهي المتعوذ منها في الآية، والتعوذ من الجنون أيضا وكيد، وفي قراءة أبي بن كعب «رب عائذا بك من همزات الشياطين وعائذا بك رب أن يحضرون»، وقوله أَنْ يَحْضُرُونِ أن يكونوا معي في أموري فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز فإذا لم يكن حضور فلا همز.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأصل الهمز الدفع والوخز بيد وغيرها ومنه همز الخيل وهمز الناس باللسان وقيل لبعض العرب أتهمز الفأرة، سئل بذلك عن اللفظة فظن أن المراد شخص الفأرة فقال الهر يهمزها.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)
حَتَّى في هذا الموضع حرف ابتداء ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ذكره، والضمير في قوله أَحَدَهُمُ للكفار، وقوله ارْجِعُونِ معناه إلى الحياة الدنيا، وجمع الضمير يتخرج على معنيين إما أن يخاطبه مخاطبة الجمع تعظيما على نحو
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل يزيل ما في الآية من ذكر هول الحشر، وقال ابن مسعود وغيره: إنما المعنى أنه عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل وزال انتفاع الأنساب فلذلك نفاها فالمعنى فَلا أَنْسابَ وروي عن قتادة أنه قال: ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن تكون له عنده مظلمة وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على ابنه وأبيه، وقد ورد بهذا حديث، وكذلك ارتفاع التساؤل والتعارف لهذه الوجوه التي ذكرناها ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل حسن وهو مروي المعنى عن ابن عباس و «ثقل الموازين» هو الحسنات، والثقل والخفة إنما يتعلق بأجرام يخترع الله فيها ذلك وهي فيما روي براءات.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٨]
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
جمع «الموازين» من حيث الموزون جمع وهي الأعمال ع ومعنى الوزن إقامة الحجة على الناس
قال الفقيه الإمام القاضي: واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه، وقوله اخْسَؤُا زجر يستعمل في زجر الكلاب، ومنه قول النبي ﷺ لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
قرأ هارون «أنه كان» بفتح الألف وهي قراءة أبي بن كعب، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «أن كان» وهذا كله متعاضد، وفي قراءة ابن مسعود «تكلمون كان فريق» بغير «إنه» وهذه تعضد كسر الألف من «إنه» لأنها استئناف، وهذه الهاء هي مبهمة ضمير للأمر، والكوفيون يسمونها المجهولة وهي عبارة فاسدة، وهذه الآية كلها مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، و «الفريق» المشار إليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار في مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين، وقرأ الباقون «سخريا» بكسرها، فقالت طائفة هما بمعنى واحد وذكر ذلك الطبري، وقال ذلك أبو
إني أتاني حديث لا أسرّ به | من علو لا كذب فيه ولا سخر |
قال القاضي أبو محمد: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف: ٣٢] لما تخلص الأمر للتخديم، قال يونس إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد تخلص الاستهزاء فالضم والكسر، وقرأ أصحاب عبد الله والأعرج وابن أبي إسحاق كل ما في القرآن بضم السين، وقرأ الحسن وأبو عمرو كل ما في القرآن بالكسر إلا التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس لأنها من التخديم، وأضاف «الإنسان» إلى «الفريق» من حيث كان بسببهم والمعنى أن اشتغالهم بالهزء بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «أنهم هم الفائزون» بفتح الألف، ف جَزَيْتُهُمُ عامل في «أن»، ويجوز أن يعمل في مفعول محذوف ويكون التقدير لأنهم، وقرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع «إنهم» بكسر الألف فالمفعول الثاني ل «جزية» مقدر تقديره الجنة أو الرضوان، والْفائِزُونَ المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز النجاة من هلكة إلى نعمة.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قال كم لبثتم» و «قل إن لبثتم»، وقرأ حمزة والكسائي فيهما «قل لكم لبثتم» و «قل إن لبثتم»، وروى البزي عن ابن كثير «قل كم» على الأمر «قال إن» على الخبر، وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي التاء، والباقون لا يدغمون. فمعنى الأول إخبار عن الله بوقفهم بالسؤال عن المدة ثم يعلمهم آخرا بلبثهم قليلا، ومعنى الثانية الأمر لواحد منهم مشار إليه بمعنى يقال لأحدهم قل كذا فإذا قال غير القويم قيل له «قل إن لبثتم»، ومعنى رواية البزي التوقيف ثم الإخبار وفي المصاحف قال فيهما إلا في مصحف الكوفة فإن فيه «قل» بغير الألف، وقوله فِي الْأَرْضِ قال الطبري معناه في الدنيا أحياء وعن هذا وقع السؤال ونسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قال الفقيه الإمام القاضي: والغرض من هذا توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، وقال جمهور المتأولين معناه في جوف التراب أمواتا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث، وكان قوله إنهم لا يقومون من
قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر اللفظ أنهم أرادوا سل من يتصف بهذه الصفة، ولم يعينوا ملائكة ولا غيرها لأن النائم والميت لا يعد الحركة فيقدر له الزمن، وقوله إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مقصده على القول بأن اللبث في الدنيا، أي قليل القدر في جنب ما تعذبون، وعلى القول بأن اللبث في القبور معناه أنه قليل إذ كل آت قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون إذ لم ترغبوا في العلم والهدى، وعَبَثاً معناه باطلا لغير غاية مرادة، وقرأ الجمهور «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ حمزة والكسائي «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم والمعنى فيهما بين.
قوله عز وجل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
المعنى فَتَعالَى اللَّهُ عن مقالتهم في جهته من الصاحبة والولد ومن حسابهم أنهم لا يرجعون، أي تنزه الله عن تلك الأمور وتعالى عنها، وقرأ ابن محيصن «الكريم» برفع صفة للرب، ثم توعد جلت قدرته عبدة الأصنام بقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الآية والوعيد قوله فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ والبرهان الحجة وظاهر الكلام أن مَنْ شرط وجوابه في قوله: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وقوله: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ في موضع الصفة وذهب قوم إلى أن الجواب في قوله لا بُرْهانَ وهذا هروب من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له البرهان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا تحفظ مما لا يلزم ويلحقه حذف الفاء من جواب الشرط وهو غير فصيح قاله سيبويه، وفي حرف عبد الله «عند ربك» وفي حرف أبي عند الله وروي أن فيه «على الله»، ثم حتم وأكد أن الكافر لا يبلغ أمنيته ولا ينجح سعيه، وقرأ الجمهور «إنه» بكسر الألف، وقرأ الحسن وقتادة «أنه» بفتحها، والمعنى أنه إذ لا يذكر ولا يُفْلِحُ يؤخر حسابه وعذابه حتى يلقى ربه. وقرأ الحسن «يفلح» بفتح الياء واللام، ثم أمر رسول الله ﷺ بالدعاء في المغفرة والرحمة والذكر له تعالى بأنه خَيْرُ الرَّاحِمِينَ لأن كل راحم فمتصرف على إرادة الله وتوقيفه وتقديره لمقدار هذه الرحمة، ورحمته تعالى لا مشاركة لأحد فيها، وأيضا فرحمة كل راحم في أشياء وبأشياء حقيرات بالإضافة إلى المعاني التي تقع فيها رحمة الله تعالى من الاستنقاذ من النار، وهيئة نعيم الجنة وعلى ما في الحديث فرحمة كل راحم بمجموعها كلها جزء من مائة رحمة الله جلت قدرته: إذ بث في العالم واحدة وأمسك عنده تسعة وتسعين، وقرأ ابن محيصن «ربّ اغفر» بضم الباء.