تفسير سورة المؤمنون

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، هذه السورة مكية بلا خلاف وفي الصحيح للحاكم عنه صلى الله عليه والسلم أنه قال: لقد أنزلت علي عشر آيات * ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ ﴾[الحج: ٧٧] الآية، وفيها لعلكم تفلحون، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: قد أفلح المؤمنون اخبار بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح وقوله: أو ما ملكت أريد بما النوع كقوله:﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٣] وهو مختص بالإِناث بإِجماع وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها وخالتها خلاف ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد من الأزواج ومملوكات النساء وانتصابه على أنه مفعول بأبتغى أي خلاف ذلك ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والجمهور على تحريم الاستمناء وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة وقد ذكر عن بعض العرب فعل ذلك وأنشد لهم فيه أبيات ذكر بعض ذلك في النوادر لأبي علي * والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإِنسان والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولاً بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية وثني بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيآتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الجامعون لهذه الأوصاف.﴿ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾ الاحقاء أن يسموا وراثاً دون من عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله:﴿ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ ﴾ فجاء بفخامة وجزالة لإِرثهم لا تخفى على الناظر وتقدّم الكلام في الفردوس في آخر الكهف.﴿ هُمْ فِيهَا ﴾ يدل على تأنيث الفردوس.﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة.﴿ مِّن طِينٍ ﴾ قال ابن عباس: هو آدم لأنه أنسل من الطين.﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ﴾ عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر.﴿ نُطْفَةً ﴾ هو المني.﴿ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ هي الرحم وتقدم تفسير العلقة والمضغة.﴿ عِظَاماً ﴾ دليل على أن المضغة تصير بنفسها عظاماً وقرىء: عظماً.﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ قال ابن عباس وجماعة: هو نفخ الروح فيه وقيل خروجه إلى الدنيا وتبارك فعل ماض لا يتصرف ومعناه تعالى وتقدّس. و ﴿ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾ أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل أضافتها محضة أم غير محضة أعربه بدلاً والإِشارة بقوله: بعد ذلك إلى هذا التطوير والإِنشاء خلقاً أي وانقضاء مدة حياتكم.﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولاً ثم بالاعدام ثم بالإِيجاد.﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾ لما ذكر ابتداء خلق الإِنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه وسبع طرائق قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض يقال طارق النعل جعله على نعل وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر.﴿ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي جعلنا مقره في الأرض وعن ابن عباس أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل وفي قوله: فأسكناه دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على ذهابه والباء في به للتعدية أي على إذهابه كان الفعل لازماً فصار بالباء متعدياً كما قال تعالى:﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾[البقرة: ٢٠] أي لأذهب سمعهم ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال:﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ﴾ وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون كأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ووصف النخل والعنب بقوله: لكم فيها إلى آخره لأن ثمرها جامع بين أمرين أحدهما أنه فاكهة يتفكه بها والآخر أنه طعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وتمراً وعنباً وزبيباً والزيتون فإِن دهنه صالح للاصطباح والاصطباغ جميعاً والضمير في ولكم عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات وعطف وشجرة على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كبيرة بالشام * تخرج من طور سيناء الطور الجبل أضيف إلى سيناء والظاهر أنه علم اسم بقعة امتنع من الصرف للعلمية والتأنيث وقرىء: بفتح السين وكسرها وقرىء:﴿ تَنبُتُ ﴾ بفتح التاء وضم الباء ويكون بالدهن حالاً أي ملتبسة بالدهن وقرىء: تنبت فالباء في بالدهن زائدة أي تنبت الدهن فيكون مفعولاً به.﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ ﴾ تقدّم الكلام عليه في النحل.﴿ وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ ﴾ من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ونبه على أغزر فوائدها وألزمها وهو الشرب والأكل وأدرج باقي المنافع في قوله: ولكم فيها منافع كثيرة ثم ذكر ما يكاد يختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر قال ذو الرمة: سفينة بر تحت خدي زمامها   يريد صيدح ناقته الفلكمعطوف على قوله: وعليها أعيد معه حرف الجر.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ الآية لما ذكر أولاً بدأ الإِنسان وتطوره في تل الأطوار وما امتن به عليه مما جعله سبباً لحياتهم وإدراك مقاصدهم ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السالفة المنكرة لإِرسال الله تعالى رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله وابتدأ بقصة نوح صلى الله عليه وسلم لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله من سلالة من طين ولقصته أيضاً مناسبة بما قبلها إذ قبلها وعلى الفلك تحملون فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه فالفلك من نعمة الله كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله تعالى ويذكرهم نعمه.﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله:﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يونس: ٧٨] والإِشارة في بهذا إلى إفراد الله بألوهية وترك الأصنام.﴿ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ معلوم عندهم أنه ليس بمجنون.﴿ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ ﴾ أي انتظروا حاله حين يتجلى أمره وعاقبة خبره فدعا ربه بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه وتقدّم تفسير أكثر الألفاظ التي في هود ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإِغراق وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم فكان الأمر له وحده وان كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك ثم أمره أن يدعوه بأن ينزله منزلاً مباركاً قيل: قال ذلك عند الركوب في السفينة وقيل: عند الخروج منها.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن في ما جرى على هذه أمة نوح لدلائل وعبرا.﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾[القمر: ١٥].
﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ الآية، ذكر هذه القصة عقيب قصة قوم نوح فظهر أن هؤلاء هم قوم هود وهو قول الأكثرين.﴿ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ ﴾ أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها.﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ ﴾ أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين وكان العطف مشعراً بعلية التكذيب والكفر أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا انعمنا بالإِيمان وتصديق من أرسلته إليهم وأن يكون جملة حالية أي وقد أترفناهم أي كذبوا في هذه الحال ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي كذبوا في حال الإِحسان إليهم وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإِيمان بي والتصديق لرسلي.﴿ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ﴾ تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم وأن لا مزية له عليهم والظاهر أن ما موصولة في قوله مما تشربون وأن العائد محذوف تقديره مما تشربون منه فحذف منه لوجود من الداخلة على الموصول قال الزمخشري: إذن واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم " انتهى " ليس إذن واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين انكم والخبر وانكم والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة ولو كانت إنكم والخبر جواباً للشرط لزمت الفاء في انكم بل لو كانت بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ واختلف المعربون في تخريج إنكم الثانية فالمنقول عن سيبويه أن انكم بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد وخبر انكم الأولى محذوفة لدلالة خبر الثانية عليه تقديره انكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا.
ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﰿ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ
﴿ هَيْهَاتَ ﴾ اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً مثال رفع الظاهر قول الشاعر: فهيهات العقيق وأهله   وهيهات خل بالعقيق نواصلهومثال المضمر قوله في هذه لآية هيهات هو أي إخراجكم وفي هيهات لغات قال الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر إلى آخره " انتهى " ليس هذا بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ولا نقول انها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر * قال ابن عطية طوراً تلى الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود لما توعدون " انتهى " هذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معمولة ولا يجيز البصريون شيئاً من هذا وقالوا ان هي إن نافية وهي مبتدأ معناه أن الحياة إلا حياتنا الخبر ففسر الضمير بسياق المعنى * افترى نسبوه إلى افتراء الكذب على الله تعالى في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث.﴿ وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ أي بمصدقين والضمير في قائل عائد على الرب.﴿ عَمَّا قَلِيلٍ ﴾ ما زائدة للتوكيد وقليل نعت لمنعوت محذوف تقديره عن زمان قليل وعن تحتمل وجهين أحدهما أن تتعلق بفعل محذوف تقديره عما قليل أنصرك والثاني أن يكون متعلقاً بيصبحن وفيه دليل على أن ما بعد اللام المتلقى به القسم يجوز أن يتقدّم على اللام تقول والله لأضربن زيداً فيجوز تقديم المفعول على اللام فيقول: والله زيداً لأضربن ونادمين خبر ليصبحن والصيحة تقدّم الكلام عليها وشبههم في هلاكهم بالغثاء وهو حميل السيل ما بلي واسود من الورق والعيدان * وانتصب بعد الفعل متروك إظهاره أي بعد وأبعدا أي هلكوا هلاكاً والقوم الظالمون بيان لمن دعا عليه بالبعد.﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ﴾ قال ابن عباس: هم بنو إسرائيل.﴿ مَا تَسْبِقُ ﴾ إلى آخر الآية تقدّم الكلام عليه في الحجر.﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾ أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك والتاء الأولى في تترى بدل من الواو وأصله وقرىء: كما أبدلوا التاء من الواو في تخمة أصله وخمة ووزن الكلمة فعلى قرىء: منوناً فتكون الألف فيه للإِلحاق كهي في أرطا منوناً وقرىء: بغير تنوين فتكون الألف للتأنيث اللازمة كهي في أرطى في لغة من لم ينون. وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإِضافة تكون بالملابسة والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه فالأول كانت الإِضافة لتشريف الرسل والثاني كانت الإِضافة إلى الأمة حيث كذبته فلم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإِضافة إليهم.﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ﴾ في الهلاك الناشىء عن التكذيب.﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ الظاهر أنه جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به الناس على جهة الغرابة والتعجب، قال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير لا اسم جمع وهو لم يلفظ له بواحد وهو حديث فالصحيح أنه جمع تكسير لما ذكرنا.﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ قال ابن عباس: هي التسع * والسلطان المبين قيل هي العصا واليد وهما اللتان اقترن بهما التحدي.﴿ قَوْماً عَالِينَ ﴾ أي رفيعي الحال في الدنيا.﴿ وَقَوْمُهُمَا ﴾ أي بنو إسرائيل.﴿ لَنَا عَابِدُونَ ﴾ أي خاضعون متذللون.﴿ مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي قوم موسى والكتاب التوراة ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قولهم لعلهم ولا يصح عود هذا الضمير في لعلهم على فرعون وقومه لأن الكتاب لم يؤته موسى إلا بعد هلاك بشرائعها ومواعظها.﴿ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ﴾ أي قصتهما وهي آية عظمى بمجموعهما وهي آيات مع التفصيل * والربوة هنا قال ابن عباس: الغوطة بدمشق وصفتها أنها ذات قرار ومعين على الكمال.﴿ وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ ﴾ تقدم تفسيرها في الأنبياء ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه بقوله: وإن هذه أمتكم وقوله: فتقطعوا، وجاء هنا فاتقون، وهي أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: فاعبدون، لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وان تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإِنه جاء بعدها ما يدل على الإِحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا فتقطعوا بالفاء إيذاناً أن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى وذلك مبالغة في عدم قبولهم ونفارهم عن توحيد الله وعبادته وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة وفرح كل حزب بما لديه دليل على تعمقه في ضلاله وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريب عنده في أنه الحق.﴿ غَمْرَتِهِمْ ﴾ هذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقائل هو شاعر وقائل ساحر وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم الأمم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فضرب مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم.﴿ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ ينزل بهم الموت وما في قوله: إنما موصولة بمعنى الذي وهي اسم ان وصلتها نمدهم والضمير في به عائد على ما الموصولة. و ﴿ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾ تبيين وتوضيح لما أنبهم في ما الموصولة وخبر أن قوله:﴿ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ ﴾ والمعنى نسارع لهم به وحذف لطول الكلام ودلالة به الأول عليه.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ ﴾ لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والاشفاق أبلغ التوقع والخوف.﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ ﴾ مبتدأ وخبر والجملة خبر ان. و ﴿ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً ﴾ تقدّم الكلام عليه في البقرة.﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ ﴾ أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق مشيراً إلى الصحف التي يقرؤون فيها ما ثبت لهم.﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء.﴿ مِّنْ هَـٰذَا ﴾ أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون.﴿ مِّن دُونِ ذٰلِكَ ﴾ أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم والمعنى: أنهم ضالون معرضون عن الحق وهم مع ذلك لهم سعايات فساد فوصفهم الله تعالى بحالتي شر والضمير في اذاهم عائد على مترفيهم وإذا الفجائية جواب لإِذا الشرطية يجأرون يجزعون عبر عن الصراخ بالجزع إذ الجزع بسببه.﴿ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي ﴾ هي آيات القرآن.﴿ تَنكِصُونَ ﴾ ترجعون استعارة للإِعراض عن الحق والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه تنكصون أي بالنكوص والتباعد عن سماع الآيات لأنها في معنى الكتاب وضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي بالباء أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو.﴿ سَامِراً ﴾ السامر مفرد بمعنى الجمع يقال: قوم سامر وسمر ومعناه سمر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر والسمير الرفيق بالليل في السمر ويقال له السمار أيضاً ويقال لا أفعله ما سمر ابنا سمير والسمير الدهر وابناه الليل والنهار وكانوا يسمرون حول البيت بذكر القرآن وغيره وقرىء: تهجرون بفتح التاء وضم الجيم قال ابن عباس: تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر وقرىء: تهجرون بضم التاء وكسر الجيم مضارع أهجر وهو الفحش وفي قراءة التاء التفات من غيبة إلى خطاب وقرىء: بالياء فلا التفات.﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ ﴾ ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق، والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم قرعهم أولاً بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ثم ثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وأمانته وصدقه ثم رابعاً نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً.﴿ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أوقع التناقص باختلاف أهوائهم واضطرابها واختل نظام العالم بذكرهم أي بوعظهم والبيان لهم.﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ﴾ هذا استفهام توبيخ أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فقلقوا لذلك واستثقلوك من أجله وتقدم الكلام على قوله: خرجا في آخر الكهف ولما زيف طريقة الكفار اتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول فقال: وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وهو دين الإِسلام ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلا من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه * من ضر وقيل هو الأسر بالعذاب قيل هو الأسر والقتل.﴿ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ روي" أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع "فنزلت الآية:﴿ مُبْلِسُونَ ﴾ أي آيسون من الشر الذي نالهم.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ﴾ الآية، تقدم الكلام على نظيرها.﴿ مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ ما زائدة للتأكيد.﴿ بَلْ قَالُواْ ﴾ بل إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات بل قالوا والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار.﴿ قُل لِّمَنِ ٱلأَرْضُ ﴾ لما اتخذوا من دونه آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم مقرين بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك له وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شىء وهم مع ذلك ينسبون إليه الولد ويتخذون له شركاء * قوله لله جواب مطابق لقوله: لمن الأرض كما تقول: لمن الدار فتقول لزيد:﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعاً وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وقرىء: لله فيهما بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظاً ومعنى والثانية جاءت على المعنى لأن قولك من رب هذا ولمن هذا في معنى واحد ولم يختلف في الأول أنه باللام وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها بالتذكر أي أفلا تذكرون فتعلمون أن من له ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركون به وختم ما بعد هذه بقوله:﴿ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴾ مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به الاحتجاج وأنى بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك.﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ فيما ينسبون إليه من اتخاذ الولد والشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله: وما كان معه من إله، أي: وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق فه من الصفات العلى فنفي الولد تنبيه على من قال الملائكة بنات الله ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال: الأصنام آلهة. و ﴿ مِنْ إِلَـهٍ ﴾ نفي عام يفيد استغراق الجنس ولهذا جاء.﴿ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ ﴾ ولم يأتي التركيب إذ الذهب الإِله * ومعنى لذهب أي لا نفرد كل إله بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز كل ملك واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضاً كحال ملوك الدنيا وإذا لم يقع الإِنفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد واذن لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالوا: فالشرط محذوف تقديره ولو كان معه إله وإنما حذفت لدلالة قوله: وما كان معه من إله عليه وهذا قول الفراء زعم انه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجه لها على غير هذا في وإذا لاتخذونك خليلاً في سورة سبحان والظاهر أن ما في خلق بمعنى الذي * وقال الإِمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي في تقرير استحالة وجود إلهين ما نصه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بعينه وما به الاشتراك غير ما به الممايزة فيكون كل واحد مشاركاً للآخر وكل مركب يفتقر إلى آخر ممكن لذاته فاذن واجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف فاذن ليس واجب الوجود إلا واحداً وكل ما عداه محدث " انتهى ".﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ تنزيه عن الولد والشريك.
﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ﴾ الآية لما ذكر تعالى ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك لله وكان تعالى قد أعلم نبيه أنه ينتقم منهم ولم يبين أذلك في حياته أم بعد موته أمره بأن يدعو بهذا الدعاء أي ان تريني ما تعدهم واقعاً بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم معصوم مما يكون سبباً لجعله معهم ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهاراً للعبودية وتواضعاً لله * على أن نريك متعلق بقادرون ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك * ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نخسات الشيطان والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والاغراء ثم أمره أن يستعيذ من حضورهم عنده لأنهم إذا حضروا توقع الهمز وفسر همز الشيطان بسورة الغضب التي لا يملك الإِنسان فيها نفسه.﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾ قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير فلا أكون كالكفار الذين يهمزهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جاء أحدهم الموت ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر: فيا عجباً حتى كليب تسبني   كان أباها نهشل أو مجاشعأي يسبني الناس حتى كليب فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها * حتى إذا جاء أحدهم الموت أي حضر وعاينه الإِنسان فحينئذٍ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث" إذا عاين الموت قالت له الملائكة: نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدما إلى الله وأما الكافر فيقول: ارجعون لعلي أعمل صالحاً "ومعنى: فيما تركت في الإِيمان الذي تركته.﴿ كَلاَّ ﴾ كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد فقيل هي من قول الله لهم وقيل من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ومعنى هو قائلها لا يسكت ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ولا يجدي لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث.﴿ وَمِن وَرَآئِهِمْ ﴾ أي الكفار.﴿ بَرْزَخٌ ﴾ حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث وفي هذه الجملة إقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإِنسان وبعثه.﴿ فَلاَ أَنسَابَ ﴾ أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعد لهم من ثواب وعقاب وإنما التواصل بالأعمال ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله:﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾[الصافات: ٢٧، الطور: ٢٥] لأن يوم القيامة مواطن ومواقف وتقدّم الكلام في الموازين في الأعراف * قال الزمخشري: في جهنم خالدون بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف " انتهى " جعل في جهنم بدلاً من خسروا وهذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به في جهنم أي استقروا في جهنم وكأنه من بدل الشىء من الشىء وهما المسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين نعتاً لأولئك وخبر أولئك في جهنم والظاهر أن تكون خبراً لأولئك لا نعتاً وخالدون خبراً ثانياً وفي جهنم متعلقاً به * اللقح أشد من النفخ تأثيراً والكلوح تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح الكلب والأسد وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإِنسان والإِنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء فإِذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي" تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته "قال: هذا حديث حسن صحيح.﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي ﴾ الآية يقول الله تعالى لهم على لسان من يشاء من ملائكته: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي ﴾ وهي القرآن ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم: غلبت علينا شقوتنا من قولهم: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه والشقاوة سوء العاقبة.﴿ وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾ أي عن الهدى ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والاقرار بالذنب اعتذار فقالوا:﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا ﴾ أي من جهنم.﴿ فَإِنْ عُدْنَا ﴾ إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك.﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ أي متجاوزون الحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولاً ثم سومحنا فظلمناها ثانية.﴿ قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا ﴾ أي ذلوا فيها وانزجروا كما تزجر الكلاب إذا زجرت يقال خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعدياً ولازماً.﴿ وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ أي في رفع العذاب أو تخفيفه قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون.﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي ﴾ الفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر.﴿ سِخْرِيّاً ﴾ أي تسخرون منهم ومن اتباعهم للحق * قال الزمخشري: في قراءة من قرأ انهم بالفتح هو المفعول الثاني أي جزيتهم فوزهم " انتهى " الظاهر أنه تعليل أي جزيتهم لأنهم والكسر على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الاعراب لاضطرار المفتوحة إلى عامل. و ﴿ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾ الناجون من هلكة إلى نعمة.﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ﴾ سألهم سؤال توقيف وهو تعالى يعلم عدد ما لبثوا ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض أجابوا بقولهم: لبثنا يوماً أو بعض يوم ترددوا فيما لبثوا فنسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا يوماً أو بعض يوم * العبث اللعب الخالي عن الفائدة وانتصب على أنه مصدر في موضع الحال تقديره عابثين وعلى أنه مفعول من أجله والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة.﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا ﴾ معطوف على إنما فهو داخل في الحسبان والكريم صفة للعرش لتنزيل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ومن شرطية وجوابه فإِنما حسابه ولا برهان له به صفة لازمة للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله يطير بجناحه ويجوز أن يكون جملة اعتراض بين الشرط وجزائه فلا موضع لها من الإِعراب وافتتح السورة بقوله: قد أفلح المؤمنون وأورد في خاتمتها أنه لا يفلح الكافرون فنظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام ثم أمر رسوله بأن يدعو بالغفران والرحمة.
Icon