ﰡ
مكية، مائة وثمان عشرة آية عند الكوفيين، وتسع عشرة عند البصريين، ألف وثمانمائة وأربعون كلمة أربعة آلاف وثمانمائة حرف
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) أي فازوا بالمراد. وقرأ طلحة بن مصرف «أفلح» على البناء للمفعول، أي أدخلوا في الفلاح الذي هو الوصول إلى الله تعالى. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) أي خاضعون للمعبود بالقلب، غير ملتفتين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا، ويرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي. والحضور عندنا ليس شرطا للإجزاء بل شرط للقبول كما قاله الرازي وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) أي الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) أي مؤدّون وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) أي ممسكون فلا يرسلونها على أحد إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي سراريهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) على عدم حفظها منهن إذا كان إتيانهن على وجه الحلال فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي فمن طلب غير ذلك المستثنى كإتيان بهيمة أو زنا أو لواط، أو استمناء بيد، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) أي الكاملون في مجاوزة الحدود وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) أي قائمون بحفظ وإصلاح فكل ما يكون تركه داخلا في الخيانة فهو أمانة، والعهد هو ما عقده العبد على نفسه فيما يقربه إلى الله تعالى، وما أمر الله تعالى به، وذلك كالوضوء والاغتسال من الجنابة والصلاة، والصوم، والودائع، والأسرار وغير ذلك.
وقرأ نافع وابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما، ولأركانها.
وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد أُولئِكَ أي المؤمنون المتصفون بتلك الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (١٠)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ.
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش»
«١». وسمى استحقاقهم الفردوس إرثا بأعمالهم بحسب وعده تعالى، لأن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديرها هُمْ فِيها أي الفردوس خالِدُونَ (١١) لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي جنس الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) أي من خلاصة كائنة من طين ثُمَّ جَعَلْناهُ أي السلالة نُطْفَةً أي منيا، أربعين يوما فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) أي مكان حريز. فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في صلب الأب فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم فصار الرحم مستقرا حصينا لهذه النطفة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم صيرنا المني الأبيض دما جامدا أربعين يوما، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد الأحمر لحما صغيرا، مقدار ما يمضغ أربعين يوما فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي فصيرنا اللحم الصغير عظاما بلا لحم بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين وما بينهما. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وشددناها بالأعصاب والعروق. فاللحم يستر العظام كالكسوة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر «عظما» و «العظم» بالإفراد في الموضعين. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي حولنا العظام المستورة باللحم عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين فإن الله جعلها حيوانا ناطقا، سميعا بصيرا، عاقلا. وأودع كل جزء من أجزائه عجائب وغرائب لا يحيط بها وصف الواصفين فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) أي فتعالى شأن الله تعالى أتقن المحولين ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي التركيب بالأمور العجيبة لَمَيِّتُونَ (١٥) أي لصائرون إلى الموت.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن محيص «لمائتون». ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ (١٦) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب. وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات طرائق بعضها فوق بعض وإنما قيل للسموات: طرائق لتطارقها، أي لكون بعضها موضوعا فوق بعض طاقا فوق، كمطارقة النعل. فجعل الله في السموات موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها. وكان نزول الوحي ومقرا للملائكة وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) بل كنا حافظين لهم عن أن تسقط عليهم الطباق السبع فتهلكهم، ولسنا تاركين لهم بلا أمر ولا نهي،
قال الرازي: إن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار منافعهم، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم ينزلها على قدر الحاجة إليها اه-. وفي الأحاديث: «إن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء» «١». فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارا فيها بعضه في بطنها وبعضه على ظهرها كالأنهار والغدران والعيون وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بالإفساد أو بالتصعيد أو بالتغوير في الأرض لَقادِرُونَ (١٨) كما كنا قادرين على إنزاله فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ. وإنما ذكرهما الله تعالى لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي البساتين فَواكِهُ كَثِيرَةٌ من ألوان شتى وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) أي ترزقون، وتحصلون معايشكم أي تتنعمون بفوائد البستان وتتعيشون بها وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم زيتونة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل نودي منه موسى عليه السلام بين مصر وأيلة. وقيل: في فلسطين. ومن قرأ بفتح السين منع الصرف لألف التأنيث الممدودة.
ومن قرأ بكسرها وهو نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقد منع الصرف للعلمية والعجمة، فإن الهمزة ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس. قيل: إن الزيتونة أول شجرة نبتت بعد الطوفان. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تخرج الدهن.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء، أي تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) معطوف على الدهن أي تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يغمس الخبز فيه للائتدام
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الإبل لَعِبْرَةً تستدلون بأحوالها على تعظيم قدرة الله تعالى وسابغ رحمته وتشكرونه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره. ووجه الاعتبار في اللبن أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ويصير غذاء، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها تجده شرابا طيبا نافعا للبدن، وإذا ذبحتها لم تجد له أثرا، فمن استدل بذلك على قدرة الله تعالى وحكمته كان ذلك معدودا من النعم الدينية ومن انتفع به كان معدودا من النعم الدنيوية وَلَكُمْ فِيها أي الأنعام. مَنافِعُ كَثِيرَةٌ كالانتفاع بثمنها وأجرتها وَمِنْها أي الأنعام بعد ذبحها تَأْكُلُونَ (٢١) فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها عَلَيْها
أي الأنعام عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
(٢٢) فإن الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر
وقرأ الكسائي بجر غيره صفة ل «إله» على الاحتمالين الأولين باعتبار لفظه أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) أي أتعرفون انتفاء «الإله» غيره تعالى فلا تتقون أنفسكم عذابه تعالى بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامهم ما هذا أي نوح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يريد أن يطلب الفضل عليكم، بادعاء الرسالة لتكونوا أتباعا له وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لو شاء الله إرسال الرسول إلينا لأنزل ملكا من الملائكة ما سَمِعْنا بِهذا أي بالأمر بعبادة الله خاصة وترك عبادة ما سواه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) أي الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام وذلك لكون آبائهم في زمان فترة متطاولة، وإما لغلوهم في التكذيب وانهماكهم في الضلال. ويقال: ما سمعنا بنوح أنه نبي في الذين مضوا قبلنا في زمنه عليه السلام إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل فيه جنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) أي انتظروه إلى زمن موته. أو المراد أنه مجنون فاصبروا إلى زمان تظهر عاقبة أمره فيه، فإن أفاق فذاك واضح وإلا فاقتلوه، قالَ نوح لما رآهم قد أصروا على التكذيب حتى يئس من إيمانهم بالكلية: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) بالرسالة أي أبدلني من غير تكذيبهم سلوة النصر عليهم، أو أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عند ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ف «أن» مفسرة لوقوعها بعد فعل فيه معنى القول بِأَعْيُنِنا أي بحفظنا لك عن أن تخطئ في صنعها أو يفسدها عليك غيرك فإن جبريل علمه عمل السفينة، ووصف له كيفية اتخاذها.
وَوَحْيِنا أي وتعليمنا، فأوحى الله إليه جبريل فعلمه صنعة السفينة، وصنعها في عامين، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين وارتفاعها ثلاثين. وجعلها ثلاث طبقات.
السفلى: للسباع والهوام. والوسطى للدواب والأنعام. والعليا: للإنس فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا عقب تمام الفلك وَفارَ التَّنُّورُ لآدم عليه السلام عند طلوع الفجر وكان في موضع مسجد الكوفة عن يمين الداخل من باب كندة اليوم. وقيل: كان في عين وردة من الشام فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فأدخل في الفلك من كل حيوان حضر في هذا الوقت فردين مزدوجين ذكرا وأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان.
وقرأ أبو بكر «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. والباقون بضم الميم وفتح الزاي وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) في الدنيا والآخرة. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة نوح وقومه لَآياتٍ جليلة. فإن اظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلّا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين من أعظم أنواع العبر في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم مختبرين به عبادنا فيما بعد للنظر من يتذكر،
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاكهم قَرْناً آخَرِينَ (٣١) هم عاد. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وقلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) عذابه وَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء مِنْ قَوْمِهِ أي الرسول الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، وَأَتْرَفْناهُمْ أي نعمناهم بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يخاطبون أتباعهم مضلين لهم: ما هذا أي الرسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات والأحوال، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) فكيف يكون رسولا وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ أي إن امتثلتم آدميا مثلكم في الخلق والحال بأوامره، إِنَّكُمْ إِذاً أي إن أطعتموه لَخاسِرُونَ (٣٤) أي مغلوبون في عقولكم جاهلون. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً أي وصارت أجسامكم ترابا وَعِظاماً نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) من القبور أحياء كما كنتم هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) أي بعد حصول ما توعدون من خروجكم من القبور فلا يقع هذا. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا حياتنا في الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) بعد الموت إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي ما مدعي الرسالة إلا رجل تعمّد على الله كذبا فيما يدّعيه من إرساله، وفيما يعدنا من أن الله يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) أي بمصدقين فيما يقوله من البعث بعد الموت ومن دعوى الرسالة. قالَ أي هود بعد يأسه من إيمانهم: رَبِّ انْصُرْنِي بِما
(٣٩) أي انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي. قالَ تعالى عدة بالقبول عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) أي بعد زمان قليل ليصيرن نادمين على التكذيب، وذلك عند معاينتهم للعذاب
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي دمرهم الله تعالى بالصيحة العظيمة وبالريح العقيم، بالعدل من الله تعالى وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار بأهله إليها، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي فجعلناهم بعد موتهم مثل ورق يابس يحمله السيل في عدم المبالاة بهم. فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) «فبعدا» مصدر منصوب بفعل لا يستعمل إظهاره لأنه بمعنى الدعاء عليهم، و «للقوم» متعلق بمحذوف واللام للبيان. فالله تعالى ذكر ذلك على وجه الإهانة لهم وهو التبعيد من الخير. وقد نزل بهم العذاب دالا على ذلك مع أن الذي ينزل بهم في الآخرة من العذاب أعظم مما نزل بهم ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم.
والمعنى أهلكوا وخابوا من رحمة الله تعالى دنيا وأخرى. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) هم قوم صالح، ولوط، وشعيب، ويونس، وأيوب. فالله تعالى ما أخلى الأرض من مكلفين بل أوجدهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) فلا نهلك أمة قبل مجيء أجلها، ولا يستأخرون عنه بساعة. فالله تعالى عالم الأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم والمقتول ميت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي أرسلنا إلى كل قرن من القرون رسولا خاصا به تَتْرا أي واحدا بعد واحد بينهما زمان طويل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو هريرة وهي قراءة الشافعي «تترى» بالتنوين، فألفه للإلحاق بجعفر، ف «لما» نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالا أي متواترة أي متتابعة فرادى. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا، فيعتبر منهم أهل السعادة ويتغافل منهم أهل الشقاوة. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) أي بعدوا من رحمة الله تعالى بعدا، إذ لم يؤمنوا ولم يعتبروا منهم. ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) أي حجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه، فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لهما وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) في أمور الدنيا، قاهرين بني إسرائيل بالظلم فَقالُوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ أي أننقاد
لِبَشَرَيْنِ
موسى وهارون مِثْلِنا في البشرية وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) أي والحال أن قومهما بني إسرائيل
وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق وعليه الأكثرون.
وقرأ ابن عامر، وعاصم بفتح الراء. والباقون بالضم ذاتِ قَرارٍ أي مستوية مبسوطة ذات نعيم وَمَعِينٍ (٥٠) أي ماء ظاهر جار على وجه الأرض.
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نودي بهذا المعنى كل رسول في زمانه ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل وأمروا به حقيق أن يعمل به. والمعنى نخبرك يا محمد أنّا أمرنا الرسل المتقدمين وقلنا لهم إلخ، دالا على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات، أي وقلنا لكل رسول: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلالات سواء كانت مستلذة أو لا، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا من فرض ونفل. والأكل إذا كان بأمر الشرع لا بأمر الطبع يكون من نتائجه الأعمال الصالحة، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ (٥١) فأجازيكم عليه. وهذا تحذير لهم من الله تعالى من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان هذا تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذير الغير هم أولى وَإِنَّ هذِهِ أي العقائد أُمَّتُكُمْ أي دينكم أيها المخاطبون أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا، والاختلاف في الشرائع لا يسمى اختلافا في الدين.
وقرأ الكوفيون بكسر همزة «إن» على الاستئناف الداخل فيما خوطب به الرسل والباقون بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن، وقيل: «العطف على «ما»، أي إني عليم بأن هذه أمتكم.
وقرأ ابن عامر «وإن» بإسكان النون، فاسمها ضمير الشأن و «هذه» مبتدأ، و «أمتكم» خبر و «أمة» حال لازمة وَأَنَا رَبُّكُمْ من غير أن يكون لي شريك في الربوبية فَاتَّقُونِ (٥٢) أي فأطيعوني، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي فجعل أتباع الأنبياء أمر دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة وأديانا مختلفة بينهم ف «زبرا» جمع زبرة بمعنى قطعة كغرفة وغرف، فهو حال من «أمرهم»، أو من واوا «تقطعوا». كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) أي كل فريق منهم معجبون بما اتخذوه دينا فيرى كل منهم أنه المحق الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أي اترك يا أشرف الخلق كفار مكة في جهلهم إلى موتهم على الكفر أو إلى مجيء عذابهم بالقتل وغيره. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي أيظنون أن الذي نعطيهم إياه من المال والبنين نسارع به لهم في إكرامهم ليكونوا فارغي البال من غير اشتغال بالتكاليف. بَلْ
(٥٦) حتى يتفكروا في ذلك الإمداد أهو استدراج أم مسارعة في الخير أي فهم أشباه البهائم لا فطنة لهم. إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) أي إن الذين هم من خوف عذاب ربهم حذرون من أسباب العذاب دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة يُؤْمِنُونَ (٥٨) أي يصدقون بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) بأن يكون العبد مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لطلب رضوان الله تعالى ومن الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول، والفرح بمدحهم، والانكسار بذمهم، وقصور النظر في المسار والمضار على الأسباب عند انقطاع النظر عن المسبب، الذي هو الله تعالى كنظر حصول الشفاء من الدواء والشبع من الطعام، وليس المراد من عدم الإشراك هنا نفي الشريك لله تعالى، لأن ذلك داخل في ما تقدم وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي والذين يعطون ما أعطوه من الصدقات، والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠). وقرأت عائشة وابن عباس، والحسن، والأعمش «يأتون ما أتوا» من الإتيان، أي ويفعلون ما فعلوه من الطاعات، والحال أن قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم فلا يقبل منهم ذلك، ولا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ. وهذا مناط الوجل.
وقرأ الأعمش «إنهم» بكسر الهمزة على الاستئناف
أُولئِكَ أي أهل هذه الصفات الأربعة يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها أي يناولون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) أي هم فاعلون السبق لأجل الخيرات أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها وتفيد معنى الثبوت بعد ما تفيد معنى التجدد وقوله أولئك خبر عن أن الذين إلخ وقرئ يسرعون في الخيرات وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في طاقتها أي فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم وَلَدَيْنا كِتابٌ أي صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يظهر المطابق للواقع، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم فلا يضيع لعامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عقاب بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفرة فِي غَمْرَةٍ أي غفلة مِنْ هذا الذي بيناه في القرآن من أن لدينا ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها، وَلَهُمْ أي الكفار أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال سيئة غير كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون معاصيهم كطعنهم في القرآن وإقامة إمائهم في الزنا هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) هم مستمرون على أعمال سيئة حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي أكابرهم الذين أمدهم الله تعالى بالمال والبنين بِالْعَذابِ أي الأخروي إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) أي يرتفع صوتهم
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أدباركم بدل على أعقابكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً فالجار والمجرور متعلق بقوله: مُسْتَكْبِرِينَ والباء سببية، والضمير يعود إلى الحرم أي متعظمين بالحرم أو متعلق ب «سامرا» والباء بمعنى في، والضمير يعود إلى البيت الحرام أي ساهرين في الليل المظلم يتحدثون حول البيت العتيق والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، ويجوز أن يكون متعلقا ب «تهجرون» والضمير يعود إلى القرآن تَهْجُرُونَ (٦٧).
قرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم، أي تسبون القرآن وتسمونه سحرا وشعرا.
والباقون بفتح التاء وضم الجيم أي تتركون القرآن، وتعرضون عنه وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن والطعن فيه وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا يقولون: لا يعلو علينا أحد لأنا أهل الحرم وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ وقوله: سامِراً وقوله: تَهْجُرُونَ أحوال من الواو في «تنكصون»، أو في كل واحدة حال من ضمير ما قبلها و «سامرا»، اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب فالكل يطلق على الجمع أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار، والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم والإخبار بالغيب أنه الحق من ربهم، بل أجاءهم من الكتاب وبعثة الرسل ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه السلام وأعقابه من عدنان وقحطان، ومضر، وربيعة، وقس، والحرث بن كعب، وأسد بن خزيمة، وتميم بن مرة، وتبع وضبة بن أد فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله.
فإن مجيء الكتب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى، وإن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه! بل ألم يعرفوا رسولهم محمد صلّى الله عليه وسلّم
بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أي فهم جاحدون برسالة رسولهم، أي أنهم عرفوا منه صلّى الله عليه وسلّم قبل ادعاء الرسالة كونه في غاية الفرار من الكذب، فكيف كذبوه بعد اتفاق كلمتهم على تسميته صلّى الله عليه وسلّم بالأمين أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل أيقولون في رسولهم جنون ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، مع أنه أرجح الناس عقلا وأوفرهم رزانة بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي جاءهم رسولهم
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي ولو كان الحق الذي كرهوه موافقا لأهوائهم الباطلة لخرجت السموات والأرض ومن فيهن عن الصلاح والانتظام بالكلية، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه شرفهم.
وقرأ أبو عمرو في رواية «آتيناهم» بمد الهمزة، أي أعطيناهم فخرهم، فالباء مزيدة في «بذكرهم»، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده وقرأ الجحدري وأبو رجاء آتيتهم بالتاء على خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقرأ عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث أي بوعظهم. وقرأ أبو قتادة «نذكرهم» بنون المتكلم مضارع «ذكر» مشدد الكاف، وهي جملة حالية. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم مُعْرِضُونَ (٧١)، وكان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبالألف والباقون بسكونها فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء. والباقون بفتحها وبالألف. أي أم تسألهم على هدايتهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء ربك خير فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله صلّى الله عليه وسلّم لأجل هذه التهمة البعيدة، وهم غير معذورين ألبتة، وهم محجوجون من جميع الوجوه، فهذا توبيخ بوجه آخر كأنه قيل: أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ولا تسألهم ذلك، فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) أي أفضل المعطين في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) تشهد العقول السليمة باستقامته وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ أي عن جنس الصراط لَناكِبُونَ (٧٤) أي منحرفون فلا يطلق على ما ذهبوا إليه اسم الصراط لغاية ضلالهم وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) أي ولو كشفنا ما أصابهم من جمع وسائر مضار الدنيا لتمادوا في ضلالهم وهم متحيّرون عن الهدى لا يبصرون الحق، وقد كان الأمر كذلك.
روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة، منع الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله تعالى بالسنين سبع سنين حتى أكلوا الجلود والجيف والعلهز «١»، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا، فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية وذلك بسبب
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وهو ما ينالهم يوم بدر من القتل والأسر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي فما خضعوا لربهم بالتوحيد وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) أي فما يؤمنون، أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع الذي هو أشد منهما، فما رؤي منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه، فجاء كما قيل: إذا جاء ضغا وإذا شبع طغى، وأكثرهم مستمرون على ذلك حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُبْلِسُونَ (٧٧) أي آيسون من كل خير وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ وخصّ الله هذه الثلاثة بالذكر، لأن الاستدلال موقوف عليها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (٧٨) أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة يا أهل مكة. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) أي تجمعون يوم القيامة إلى موضع لا حاكم فيه سواه وجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وينقل من نعمة الحياة إلى دار الثواب والعقاب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو المؤثر في تعاقبهما واختلافهما ازديادا وانتقاصا أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) أي أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر أن الكل مناف أن قدرتنا تعم الممكنات التي من جملتها البعث بعد الموت
بَلْ قالُوا أي فلم يعقل كفار مكة بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) من قوم نوح، وهود، وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل. قالُوا مقلدين للأولين: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) بعد ذلك لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا أي البعث مِنْ قَبْلُ أي من قبل مجيء محمد أي لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا، أي فلما لم يوجد البعث طول الزمان ظنوا أنه يكون في دار الدنيا ثم قالوا: إِنْ هذا أي ما هذا الذي تقول يا محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) أي إلا أكاذيبهم التي كتبوها قُلْ يا أشرف الرسل لكفار مكة: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) فأخبروني بخالقهم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ لهم بعد أن تجيبوا بما ذكر توبيخا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) أي أتعلمون ذلك فلا تتذكرون أن من قدر على خلق الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادته ثانيا؟ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ: إفهاما لهم أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه حيث تكفرون به، وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي من تحت قدرته ملك كل شيء من إنس وجن وغيرهما. وَهُوَ يُجِيرُ أي يغيث غيره إذا شاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يغاث أحد منه إذا أراد هلاكه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) ذلك فأجيبوني سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لا من الملائكة ولا من غيرهم كما قال الكفار. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الألوهية كما يقوله الثنوية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ف «إذا» بمعنى لو الامتناعية أي لو كان معه آلهة كما يقولون لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ولغلب بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده تعالى حينئذ ملكوت كل شيء، وهو باطل لا يقول به عاقل قط سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) من إثبات الولد والشريك عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
وقرأ نافع وشعبة وحمزة والكسائي بالرفع خبر مبتدأ محذوف. والباقون بالجر بدل من الجلالة وهذا دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرّده تعالى بذلك كأنه قيل: الله عالم الغيب والشهادة وغيره لا يعلمهما، فغيره ليس بإله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتنزهه عن أن يكون له شريك وشبيه قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب الدنيوي المستأصل فلا تجعلني قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وأعيد لفظ الرب مبالغة في التضرع، و «في» بمعنى مع. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب المستأصل لَقادِرُونَ (٩٥) ولكنا نؤخره للحكمة الداعية إلى التأخير وهذا يدل على صحة قدرته تعالى لا على خلاف علمه فإنه تعالى أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم، ثم لم يفعل ذلك لحكمة فصحة القدرة غير المعلوم والكافرون ينكرون التهديد بالعذاب ويضحكون به ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أي قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل وبيان الأدلة على أحسن الوجوه.
قيل: هذه الآية محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين أو نقصان في المروءة، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) أي بما يصفونك به على خلاف ما أنت عليه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) أي من أن يحوموا حولي في حال من الأحوال، لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ وحتى متعلقة بيصفون
وقوله: رَبِّ منادى. وقيل: الخطاب للملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة، ورب للقسم، فكأنه عند معاينة مقعده من النار وملك الموت وأعوانه قال: بحق الرب ارجعون إلى الدنيا لكي أصلح ما أفسدت، وأطيع في كل ما عصيت، ومكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيما خلفت من المال كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعند ذلك يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت»
«١». أي لكي أصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى فيما تركت التركة. كَلَّا أي لا يرد إلى الدنيا. وهذا كالجواب لهم في المنع مما طلبوا.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله عنها: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا. فيقول: إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوما على الله تعالى. وأما الكافر فيقال له:
نرجعك فيقول: ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب، إلى جمع المال، أو غرس الغراس، أو بناء البنيان، أو شق الأنهار؟ فيقول: لعلي أعمل صالحا فيما تركت. فيقول الجبار كلا»
«٢».
إِنَّها أي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ إلى آخره كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه، ولكنها لا تفيده. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم بَرْزَخٌ أي حائل مانع لهم عن الرجوع إلى الدنيا، وهو مدة بين الموت والبعث وذلك قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) من قبورهم
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي فلا يتفاخرون بأنسابهم، ويتراحمون بها في ذلك اليوم وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) عنها لاشتغال كل منهم بنفسه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد إلا أن هذا فلان، فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها، أو أبيها، أو أخيها، أو ابنها، أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون.
وعن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يراه من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء.
(٢) رواه أحمد في (م ١/ ص ٣٤).
وقرأ قتادة بالكسر وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) عن الحق رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) أي يا ربنا أخرجنا من النار ومن هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون على أنفسنا. قالَ الله لهم بلسان مالك: اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا في النار وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) بطلب الإخراج من النار وهذا آخر كلامهم في النار فلا يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير، والشهيق، والنباح كنباح الكلاب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا، فيجابون: حق القول مني. فينادون ألف سنة ثانية: ربنا أمتنا اثنتين، وأحييتنا اثنتين فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم. فينادون ألف ثالثة: يا مالك ليقض علينا ربك. فيجابون: إنكم ماكثون. فينادون ألفا رابعة: ربنا أخرجنا منها. فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟ فينادون ألفا خامسة: أخرجنا نعمل صالحا. فيجابون:
أولم نعمركم؟ فينادون ألفا سادسة: رب ارجعون. فيجابون اخسئوا فيها إِنَّهُ أي الشأن.
وقرأ أبيّ بفتح الهمزة أي «لأنه»، كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ في الدنيا رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) أي أنت أرحم علينا من الوالدين فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا. وقرأ نافع وأهل المدنية، وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي ص.
وقال الخليل وسيبويه. هما لغتان. وقال الكسائي والفراء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية والعبودية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي طاعتي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ
(١١٠) وذلك غاية الاستهزاء. والمعنى: اسكتوا عن الدعاء بقولكم:
رَبَّنا أَخْرِجْنا ألخ لأنكم كنتم تستهزءون بالداعين بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا ألخ وتتشاغلون باستهزائهم حتى أنساكم الاستهزاء بهم عن توحيدي وطاعتي.
قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلق كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضحكون بالفقراء منهم مثل: بلال،
وخباب، وعمار، وصهيب. إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١).
وقرأ حمزة والكسائي «إنهم» بكسر الهمزة تعليل للجزاء. والباقون بالفتح ثاني مفعولي «جزيت» فمعنى الأول: فإنهم قد فازوا بسبب صبرهم على أذيتكم إياهم فجوزوا أحسن الجزاء.
ومعنى الثاني: إنهم انتفعوا بأذيتكم إياهم بسبب صبرهم على أذيتكم فإني جزيتهم اليوم بفوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. قالَ أي الله لهم بلسان مالك توبيخا كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) تمييز لكم. والغرض من هذا السؤال: التبكيت، لأنهم كانوا لا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم مخلدون فيها سألهم الله كم لبثتم في الأرض فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل تذكيرا لهم بأن الذي ظنوه طويلا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يشكون في ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) أي الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات، أو الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتهم، فإنا قد نسيناه. وقرئ «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة، رؤساءنا الذين أضلونا. وقرئ «العاديين» أي القدماء المعمرين. قالَ الله لهم بلسان مالك: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أي ما لبثتم في الدنيا إلا زمانا قليلا لو علمتم البعث فإن الدنيا قليل أيامها في مقابلة أيام الآخرة، ولكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدون الدنيا طويلا، ولو علمتم أن لبثكم في الآخرة لا نهاية له لأصلحتم أعمالكم في الدنيا، ولتقربتم بها إلى الله تعالى.
وقرأ الأخوان «قل كم لبثتم؟» «قل: إن لبثتم» بالأمر في الموضعين خطاب للملك وابن كثير كالأخوين في الموضع الأول فقط. والباقون قال بالماضي في الموضعين: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا يا أهل مكة شيئا فحسبتم إنما خلقناكم لأجل العبث، بل لحكمة بالغة فخلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم، فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحة حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فلولا القيامة لما تميّز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق. فخلقكم بغير بعث من نوع العبث، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم.
وقرئ «الكريم» بالرفع صفة ل «رب» أي الجامع لصفات الكمال. وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وقوله: لا بُرْهانَ صفة لازمة ل «ألها». وقوله:
فَإِنَّما جواب الشرط. أي ومن يعبد إلها آخر لا حجة له بعبادته، فهو تعالى مجاز له في الآخرة بقدر ما يستحقه ويبلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) والجمهور على كسر همزة أنه على الاستئناف المفيد للعلة.
وقرأ الحسن وقتادة بفتح الهمزة فيكون خبر حسابه، المعنى: حسابه في الآخرة عدم الفلاح. وَقُلْ يا أكرم الرسل: رَبِّ اغْفِرْ أي تجاوز عني وعن أمتي، وَارْحَمْ أمتي فلا تعذبهم وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) أي أرحم الراحمين.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١] حتى ختم العشر»
«١».
وروي: «أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها:
من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح»