تفسير سورة المطفّفين

مراح لبيد
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة التطفيف
وتسمى سورة المطففين، نزلت بين مكة والمدينة في مهاجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فاستتمت بالمدينة، هي ست وثلاثون آية، مائة وتسع وتسعون كلمة، سبعمائة وثمانون حرفا
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) أي شدة العذاب للناقصين في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وكان أهلها من أخبث الناس كيلا، فنزلت هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
بواحد ويعطي بآخر فنزلت:
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه، يأخذونه وافيا وافرا حسب ما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال، والاحتيال في ملئه. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)، أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم للبيع ونحوه ينقصون في الكيل والوزن. ويروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ووزنوا، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا، أي إذا كالوا هم لغيرهم، أو وزنوا هم لغيرهم ينقصون، وإثبات الألف قبل هم لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة لمنع من إثباتها في سائر الأعصار، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أي ألا يوقن أولئك المطففون بالكيل والوزن أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) أي شديد هوله، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)، أي لحكمه.
روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه»
. وقرئ «يوم» بالنصب والجر، فالنصب منصوب بقوله تعالى: مَبْعُوثُونَ، أو بإضمار أعني والجر بدل من «يوم عظيم»، أو هو حالة النصب مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين، فهو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر، أو مجرور المحل بدلا من «يوم
عظيم» ويؤيده القراءة بالرفع والجر كَلَّا أي ارتدعوا عن التطفيف والغفلة عن ذكر البعث، وعلى هذا المعنى يوقف على «كلا» أو «كلا» بمعنى حقا فلا يوقف عليه، وكذا جميع ما يأتي من «كلا» في هذه السورة إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)، أي إن كتابة أعمال الكفار لفي سجين، وهو موضع في الأرض السابعة السفلى، وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) وهذا تعظيم لأمر سجين، كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) أي إن كتاب الفجار كتاب معلم فيعلم من رآه أنه لا خير فيه،
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) أي الجزاء، وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي بذلك اليوم إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوز عن المنهج الحق، أَثِيمٍ (١٢) أي مبالغ في ارتكاب الإثم إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)، أي هذه إخبار الأولين فإن محمدا أخذ عنهم لا من الله تعالى فينكر النبوة، كَلَّا أي حقا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) أي ليس الأمر كما يقوله الكافر من أن ذلك أساطير الأولين، بل غطى على قلوبهم أفعالهم الماضية من الكفر والمعاصي
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه»
«١». كَلَّا أي حقا يا محمد إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) أي إن المكذبين بيوم الدين لممنوعون يوم القيامة عن النظر إلى ربهم، والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) أي لداخلو النار العظيمة، ثُمَّ إذا دخلوها يُقالُ لهم من جهة الزبانية هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، والآن قد عاينتموه فذوقوه، كَلَّا أي لا تكذبوا البعث وكتاب الله أو حقا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) أي إن كتابة أعمال الصادقين في إيمانهم لفي عليين، وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) وهذا تنبيه له صلّى الله عليه وسلّم على أنه معلوم له، كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) أي إن كتاب أعمالهم موضوع في عليين مكتوب في لوح من زبرجد أخضر، معلق تحت عرش الرحمن،
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) أي يشهد الملائكة المقربون ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين كرامة للمؤمنين، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) أي في جنة دائم نعيمها عَلَى الْأَرائِكِ أي الأسرة في الحجال، يَنْظُرُونَ (٢٣) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من أنواع النعيم والعذاب للكفار، تَعْرِفُ يا من يتأتى منك المعرفة فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) أي بهجة التنعم ورونقه من النور والضحك.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق، وشيبة، وطلحة، ويعقوب، والزعفراني تعرف مبنيا للمفعول ورفع نضرة وعلي بن زيد كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء التحتية، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي شراب خالص مَخْتُومٍ (٢٥)، أي يختم رأس قارورة ذلك الرحيق أوله ختام أي عاقبة
(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، ومسلم في كتاب الزهد، باب: ١، وأحمد في (م ٢/ ص ١٩٧).
خِتامُهُ مِسْكٌ أي الذي يختم به رأس الإناء هو المسك، أو عاقبته المسك أي يختم له برائحة المسك. وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف. وروي عنه أيضا كسر التاء، والمعنى:
خاتم رائحة ذلك الشراب مسك، وَفِي ذلِكَ أي الرحيق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) أي وما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. سميت هذه العين بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنها تأتيهم من فوق عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)، وهم أفضل أهل الجنة، كما أن التسنيم هو أفضل أنهار الجنة.
قال ابن عباس: أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم، لأنه يشربه المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) أي إن أكابر المشركين كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، كانوا يضحكون من أجل فقراء المؤمنين كعمار، وصهيب، وبلال، وخباب، وَإِذا مَرُّوا
أي فقراء المؤمنين يأتون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِهِمْ
، أي بالمشركين وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ
(٣٠)، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. قيل: جاء علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) أي وإذا رجع الكفار من مجالسهم إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الشرك والتنعم بالدنيا، أو ملتذين بذكر المسلمين بالسوء. وقرأ عاصم في رواية حفص عنه «فكهين» بغير ألف في هذا الموضع وحده والباقون بالألف، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) أي وإذا رأى المجرمون المؤمنين أينما كانوا قالوا: إن هؤلاء المؤمنين على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا؟ والحال أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) أي فيوم القيامة يضحك المؤمنون على الكفار حين يرونهم مغلولين أذلاء عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥)، وهذا حال من فاعل «يضحكون»، أي يضحك المؤمنون على الكفار ناظرين حال كونهم على سرر الحجال إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) ؟ وهذا على سبيل التهكم، والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بشريعتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائدا في سرورهم.
Icon