تفسير سورة سورة المطففين من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير ﴿ سورة ويل للمطففين ﴾، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، والترمذي في جامعه.
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف ﴿ سورة المطففين ﴾ اختصارا.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها ﴿ سورة المطففين ﴾ وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه : أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه : أنها مدنية، قال : وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة : هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله ﴿ إن الذين أجرموا ﴾ إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية : احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله ﴿ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ﴾. والذي نختاره : أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها : إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ﴿ ويل للمطففين ﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي.
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف ﴿ سورة المطففين ﴾ اختصارا.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها ﴿ سورة المطففين ﴾ وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه : أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه : أنها مدنية، قال : وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة : هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله ﴿ إن الذين أجرموا ﴾ إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية : احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله ﴿ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ﴾. والذي نختاره : أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها : إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ﴿ ويل للمطففين ﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي.
ﰡ
وَقُوبِلَ حَالُهُمْ بِضِدِّهِ مِنْ حَالِ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِعْلَانِ كَرَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَذِكْرِ صُوَرٍ مِنْ نَعِيمِهِمْ.
وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الزَّائِلِ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَلْمِزُونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَكَيْفَ انْقَلَبَ الْحَالُ فِي الْعَالم الأبدي.
[١- ٣]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِاسْمِ الْوَيْلِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ على وَعِيد فَلفظ وَيْلٌ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١]. وَقد أَخذ أبوبكر بْنُ الْخَازِنِ مِنْ عَكْسِهِ قَوْلَهُ فِي طَالِعِ قَصِيدَةٍ بِتَهْنِئَتِهِ بِمَوْلُودٍ:
بُشْرَى فَقَدْ أَنْجَزَ الْإِقْبَالُ مَا وَعَدَا وَالتَّطْفِيفُ: النَّقْصُ عَنْ حَقِّ الْمِقْدَارِ فِي الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَفَّفَ إِذْ بَلَغَ الطُّفَافَةَ. وَالطُّفَافُ (بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ) مَا قَصُرَ عَنْ مَلْءِ الْإِنَاءِ مِنْ شَرَابٍ أَوْ طَعَامٍ، وَيُقَالُ: الْطَفُّ بِفَتْحِ الطَّاءِ دُونَ هَاءِ تَأْنِيثٍ، وَتُطْلَقُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى مَا تَجَاوَزَ حَرْفَ الْمِكْيَالِ مِمَّا يُمْلَأُ بِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى مَا مَلَأَ الْإِنَاءَ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ طُفَافَةً، أَيْ قَلِيلُ زِيَادَةٍ.
وَلَا نَعْرِفُ لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا إِذْ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وَفِعْلُهُ: طَفَّفَ، كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا فِي صِيغَةِ التَّفْعِيلِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِأَنَّ الْمُطَفِّفَ يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُصَ الْكَيْلَ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الْمُكْتَالُ، وَيُقَابِلُهُ الْوَفَاءُ.
ووَيْلٌ كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسوء الْحَال، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ وَتَقْرِيعٌ، وَالْوَيْلُ:
اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ لِعَدَمِ وُجُودِ فِعْلٍ لَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَصَدِّينَ لِلتَّجْرِ يَغْتَنِمُونَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الِابْتِيَاعِ مِنْهُمْ وَإِلَى الْبَيْعِ لَهُمْ لِأَنَّ التُّجَّارَ هم أَصْحَاب رُؤُوس الْأَمْوَالِ وَبِيَدِهِمُ الْمَكَايِيلُ وَالْمَوَازِينُ، وَكَانَ
وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الزَّائِلِ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَلْمِزُونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَكَيْفَ انْقَلَبَ الْحَالُ فِي الْعَالم الأبدي.
[١- ٣]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِاسْمِ الْوَيْلِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ على وَعِيد فَلفظ وَيْلٌ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١]. وَقد أَخذ أبوبكر بْنُ الْخَازِنِ مِنْ عَكْسِهِ قَوْلَهُ فِي طَالِعِ قَصِيدَةٍ بِتَهْنِئَتِهِ بِمَوْلُودٍ:
بُشْرَى فَقَدْ أَنْجَزَ الْإِقْبَالُ مَا وَعَدَا وَالتَّطْفِيفُ: النَّقْصُ عَنْ حَقِّ الْمِقْدَارِ فِي الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَفَّفَ إِذْ بَلَغَ الطُّفَافَةَ. وَالطُّفَافُ (بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ) مَا قَصُرَ عَنْ مَلْءِ الْإِنَاءِ مِنْ شَرَابٍ أَوْ طَعَامٍ، وَيُقَالُ: الْطَفُّ بِفَتْحِ الطَّاءِ دُونَ هَاءِ تَأْنِيثٍ، وَتُطْلَقُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى مَا تَجَاوَزَ حَرْفَ الْمِكْيَالِ مِمَّا يُمْلَأُ بِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى مَا مَلَأَ الْإِنَاءَ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ طُفَافَةً، أَيْ قَلِيلُ زِيَادَةٍ.
وَلَا نَعْرِفُ لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا إِذْ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وَفِعْلُهُ: طَفَّفَ، كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا فِي صِيغَةِ التَّفْعِيلِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِأَنَّ الْمُطَفِّفَ يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُصَ الْكَيْلَ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الْمُكْتَالُ، وَيُقَابِلُهُ الْوَفَاءُ.
ووَيْلٌ كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسوء الْحَال، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ وَتَقْرِيعٌ، وَالْوَيْلُ:
اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ لِعَدَمِ وُجُودِ فِعْلٍ لَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَصَدِّينَ لِلتَّجْرِ يَغْتَنِمُونَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الِابْتِيَاعِ مِنْهُمْ وَإِلَى الْبَيْعِ لَهُمْ لِأَنَّ التُّجَّارَ هم أَصْحَاب رُؤُوس الْأَمْوَالِ وَبِيَدِهِمُ الْمَكَايِيلُ وَالْمَوَازِينُ، وَكَانَ
189
أَهْلُ مَكَّةَ تُجَّارًا، وَكَانَ فِي يَثْرِبَ تُجَارٌ أَيْضًا وَفِيهِمُ الْيَهُودُ مِثْلُ أَبِي رَافِعٍ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ تَاجِرَيْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَانَتْ تِجَارَتُهُمْ فِي التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ. وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَعَامَلُونَ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُمْ يَتَّجِرُونَ فِي أَصْنَافِ السِّلَعِ وَيَزِنُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَأَهْلُ يَثْرِبَ يَتَعَامَلُونَ بِالْكَيْلِ.
وَالْآيَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ وَاخْتِلَاطُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُنَافِقِينَ يُسَبِّبُ ذَلِكَ.
وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَانَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ وَاسْمُهُ عَمْرٌو كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا وَيُعْطِي بِالْآخَرِ.
فَجُمْلَةُ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إِدْمَاجٌ، مَسُوقَةٌ لِكَشْفِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ فِيهِمْ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى تَوْفِيرِ مِقْدَارِ مَا يَبْتَاعُونَهُ بِدُونِ حَقٍّ لَهُمْ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ فَهُمْ مَذْمُومُونَ بِمَجْمُوعِ ضِمْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَالِاكْتِيَالُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكَيْلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي تَسَلُّمِ مَا يُكَالُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِ: ابْتَاعَ، وَارْتَهَنَ، وَاشْتَرَى، فِي مَعْنَى أَخْذِ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ وَأَخْذِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَهُوَ مُطَاوِعُ كَالَ، كَمَا أَنَّ ابْتَاعَ مُطَاوِعُ بَاعَ، وَارْتَهَنَ مُطَاوِعُ رَهَنَ، وَاشْتَرَى مُطَاوِعُ شَرَى، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ [يُوسُف: ٦٣] أَيْ نَأْخُذْ طَعَامًا مَكِيلًا، ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ.
وَحَقُّ فِعْلِ اكْتَالَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَكِيلُ، فَيُقَالُ: اكْتَالَ فُلَانٌ طَعَامًا مِثْلُ ابْتَاعَ، وَيُعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِثْلَ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فَيُقَالُ: اكْتَالَ طَعَامًا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ اكْتالُوا مَعْنَى التَّحَامُلِ، أَيْ إِلْقَاءُ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَظُلْمُهُ، ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ التَّاجِرِ وَخُلُقَهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ تَوْفِيرَ الرِّبْحِ وَأَنَّهُ مَظِنَّةُ السَّعَةِ وَوُجُودُ الْمَالِ بِيَدِهِ فَهُوَ
وَالْآيَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ وَاخْتِلَاطُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُنَافِقِينَ يُسَبِّبُ ذَلِكَ.
وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَانَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ وَاسْمُهُ عَمْرٌو كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا وَيُعْطِي بِالْآخَرِ.
فَجُمْلَةُ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إِدْمَاجٌ، مَسُوقَةٌ لِكَشْفِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ فِيهِمْ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى تَوْفِيرِ مِقْدَارِ مَا يَبْتَاعُونَهُ بِدُونِ حَقٍّ لَهُمْ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ فَهُمْ مَذْمُومُونَ بِمَجْمُوعِ ضِمْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَالِاكْتِيَالُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكَيْلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي تَسَلُّمِ مَا يُكَالُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِ: ابْتَاعَ، وَارْتَهَنَ، وَاشْتَرَى، فِي مَعْنَى أَخْذِ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ وَأَخْذِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَهُوَ مُطَاوِعُ كَالَ، كَمَا أَنَّ ابْتَاعَ مُطَاوِعُ بَاعَ، وَارْتَهَنَ مُطَاوِعُ رَهَنَ، وَاشْتَرَى مُطَاوِعُ شَرَى، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ [يُوسُف: ٦٣] أَيْ نَأْخُذْ طَعَامًا مَكِيلًا، ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ.
وَحَقُّ فِعْلِ اكْتَالَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَكِيلُ، فَيُقَالُ: اكْتَالَ فُلَانٌ طَعَامًا مِثْلُ ابْتَاعَ، وَيُعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِثْلَ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فَيُقَالُ: اكْتَالَ طَعَامًا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ اكْتالُوا مَعْنَى التَّحَامُلِ، أَيْ إِلْقَاءُ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَظُلْمُهُ، ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ التَّاجِرِ وَخُلُقَهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ تَوْفِيرَ الرِّبْحِ وَأَنَّهُ مَظِنَّةُ السَّعَةِ وَوُجُودُ الْمَالِ بِيَدِهِ فَهُوَ
190
يَسْتَعْمِلُ حَاجَةَ مَنْ يَأْتِيهِ بِالسِّلْعَةِ، وَعَنِ الْفراء (من) و (على) يَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ مِنْكَ فَكَقَوْلِهِ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ.
فَمَعْنَى: اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ مَا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي فِعْلِ اكْتالُوا أَيِ اكْتَالُوا مَكِيلًا، وَمَعْنَى كَالُوهُمْ بَاعُوا لِلنَّاسِ مَكِيلًا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ.
فَالْوَاوَانِ مِنْ كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ عَائِدَانِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَالضَّمِيرَانِ الْمُنْفَصِلَانِ عَائِدَانِ إِلَى النَّاسِ.
وتعدية «كالوا»، و «وزنوا» إِلَى الضَّمِيرَيْنِ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَأَصْلُهُ كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَمَا حُذِفَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣] وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أَيْ تَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِكُمْ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «الْحَرِيصُ يَصِيدُكَ لَا الْجَوَادُ» أَيِ الْحَرِيصُ يَصِيدُ لَكَ. وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، أَصْلُهُمَا نَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُ لَكَ، لِأَنَّ فِعْلَ كَالَ وَفِعْلَ وَزَنَ لَا يَتَعَدَّيَانِ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا إِلَى الشَّيْءِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ يُقَالُ: كَالَ لَهُ طَعَامًا وَوَزَنَ لَهُ فِضَّةً، وَلِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ خَفَّفُوهُ فَقَالُوا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ طَعَامًا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ يَقُولُونَ: يَكِيلُنَا، يَعْنِي وَيَقُولُونَ أَيْضًا: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقَيْسٍ لَا يَقُولُونَ: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ، وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ، فَيَكُونُ فِعْلُ كَالَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ بَاعَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذَا اكْتالُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا اتَّزَنُوا كَمَا قَالَ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فِي الثَّانِي تَجَنُّبًا لِفِعْلِ: «اتَّزَنُوا» لِقِلَّةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ. وَلِنُكْتَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ هُمْ أَهْلُ التَّجْرِ وَهُمْ يَأْخُذُونَ السِّلَعَ مِنَ الْجَالِبِينَ فِي الْغَالِبِ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ الْجَالِبِينَ يَجْلِبُونَ التَّمْرَ وَالْحِنْطَةَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُكَالُ وَيَدْفَعُونَ لَهُمُ الْأَثْمَانَ عَيْنًا بِمَا يُوزَنُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مَسْكُوكَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَسْكُوكَيْنِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي ابْتِيَاعِهِمْ مِنَ الْجَالِبِينَ عَلَى
أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ مِنْكَ فَكَقَوْلِهِ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ.
فَمَعْنَى: اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ مَا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي فِعْلِ اكْتالُوا أَيِ اكْتَالُوا مَكِيلًا، وَمَعْنَى كَالُوهُمْ بَاعُوا لِلنَّاسِ مَكِيلًا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ.
فَالْوَاوَانِ مِنْ كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ عَائِدَانِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَالضَّمِيرَانِ الْمُنْفَصِلَانِ عَائِدَانِ إِلَى النَّاسِ.
وتعدية «كالوا»، و «وزنوا» إِلَى الضَّمِيرَيْنِ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَأَصْلُهُ كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَمَا حُذِفَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣] وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أَيْ تَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِكُمْ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «الْحَرِيصُ يَصِيدُكَ لَا الْجَوَادُ» أَيِ الْحَرِيصُ يَصِيدُ لَكَ. وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، أَصْلُهُمَا نَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُ لَكَ، لِأَنَّ فِعْلَ كَالَ وَفِعْلَ وَزَنَ لَا يَتَعَدَّيَانِ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا إِلَى الشَّيْءِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ يُقَالُ: كَالَ لَهُ طَعَامًا وَوَزَنَ لَهُ فِضَّةً، وَلِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ خَفَّفُوهُ فَقَالُوا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ طَعَامًا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ يَقُولُونَ: يَكِيلُنَا، يَعْنِي وَيَقُولُونَ أَيْضًا: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقَيْسٍ لَا يَقُولُونَ: كَالَ لَهُ وَوَزَنَ لَهُ، وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا: كَالَهُ وَوَزَنَهُ، فَيَكُونُ فِعْلُ كَالَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ بَاعَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذَا اكْتالُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا اتَّزَنُوا كَمَا قَالَ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فِي الثَّانِي تَجَنُّبًا لِفِعْلِ: «اتَّزَنُوا» لِقِلَّةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ. وَلِنُكْتَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ هُمْ أَهْلُ التَّجْرِ وَهُمْ يَأْخُذُونَ السِّلَعَ مِنَ الْجَالِبِينَ فِي الْغَالِبِ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ الْجَالِبِينَ يَجْلِبُونَ التَّمْرَ وَالْحِنْطَةَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُكَالُ وَيَدْفَعُونَ لَهُمُ الْأَثْمَانَ عَيْنًا بِمَا يُوزَنُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مَسْكُوكَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَسْكُوكَيْنِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي ابْتِيَاعِهِمْ مِنَ الْجَالِبِينَ عَلَى
191
الِاكْتِيَالِ نَظَرًا إِلَى الْغَالِبِ، وَذَكَرَ فِي بَيْعِهِمْ لِلْمُبْتَاعِينَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لِأَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْأَشْيَاءَ كَيْلًا وَيَقْبِضُونَ الْأَثْمَانَ وَزْنًا.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ عَمَلِ تُجَّارِهِمْ.
ويَسْتَوْفُونَ جَوَابُ إِذَا وَالِاسْتِيفَاءُ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ.
وَمَعْنَى يُخْسِرُونَ يُوقِعُونَ الَّذِينَ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ فِي الْخَسَارَةِ، وَالْخَسَارَةُ النَّقْصُ مِنَ المَال من التَّبَايُعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي التطفيف إِذْ وجوده فَاشِيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ هِجْرَتِهِمْ وَذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ.
وَحَسْبُهُمْ أَنَّ التَّطْفِيفَ يَجْمَعُ ظُلْمًا وَاخْتِلَاسًا وَلُؤْمًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخلال متفرّقة ويتبرؤون مِنْهَا، ثُمَّ يَأْتُونَهَا مُجْتَمِعَةً، وَنَاهِيكَ بذلك أفنا.
[٤- ٦]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٤ إِلَى ٦]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ الْوَعِيدِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى التَّطْفِيفِ وَمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ الْمُبْتَاعِينَ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ بِحَيْثُ يَسْأَلُ السَّائِل عَن عَمَلهم بِالْبَعْثِ، وَهَذَا يرجح أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيرجع الْإِنْكَار والتعجيب مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ مَا سِيقَ هَذَا لِأَجْلِهِ وَهُوَ فِعْلُ التَّطْفِيفِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمُ انْتَهَوْا عَنِ التَّطْفِيفِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالظَّنُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمَشْهُورِ وَهُوَ اعْتِقَاد وُقُوع الشَّيْء اعْتِقَادًا رَاجِحًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢].
وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ لِقَصْدِ
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ عَمَلِ تُجَّارِهِمْ.
ويَسْتَوْفُونَ جَوَابُ إِذَا وَالِاسْتِيفَاءُ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ.
وَمَعْنَى يُخْسِرُونَ يُوقِعُونَ الَّذِينَ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ فِي الْخَسَارَةِ، وَالْخَسَارَةُ النَّقْصُ مِنَ المَال من التَّبَايُعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي التطفيف إِذْ وجوده فَاشِيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ هِجْرَتِهِمْ وَذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ.
وَحَسْبُهُمْ أَنَّ التَّطْفِيفَ يَجْمَعُ ظُلْمًا وَاخْتِلَاسًا وَلُؤْمًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخلال متفرّقة ويتبرؤون مِنْهَا، ثُمَّ يَأْتُونَهَا مُجْتَمِعَةً، وَنَاهِيكَ بذلك أفنا.
[٤- ٦]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٤ إِلَى ٦]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ الْوَعِيدِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى التَّطْفِيفِ وَمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ الْمُبْتَاعِينَ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ بِحَيْثُ يَسْأَلُ السَّائِل عَن عَمَلهم بِالْبَعْثِ، وَهَذَا يرجح أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيرجع الْإِنْكَار والتعجيب مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ مَا سِيقَ هَذَا لِأَجْلِهِ وَهُوَ فِعْلُ التَّطْفِيفِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمُ انْتَهَوْا عَنِ التَّطْفِيفِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالظَّنُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمَشْهُورِ وَهُوَ اعْتِقَاد وُقُوع الشَّيْء اعْتِقَادًا رَاجِحًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢].
وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ لِقَصْدِ
192
تَمْيِيزِهِمْ وَتَشْهِيرِ ذِكْرِهِمْ فِي مَقَامِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِ «الْمُطَفِّفِينَ» تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْوَصْفَ مَلْحُوظٌ فِي الْإِشَارَةِ فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِتَعْلِيلِ الْإِنْكَارِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لَامُ التَّوْقِيتِ مِثْلُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَفَائِدَةُ لَامِ التَّوْقِيتِ إِدْمَاجُ الرَّدِّ عَلَى شُبْهَتِهِمُ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْثٌ لَبُعِثَتْ أَمْوَاتُ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَأَوْمَأَ قَوْلُهُ لِيَوْمٍ أَنَّ لِلْبَعْثِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَقَعُ عِنْدَهُ لَا قَبْلَهُ.
وَوَصْفُ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ بِاعْتِبَارِ عَظَمَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَهُوَ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ.
ويَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَدَلٌ مِنْ «يَوْمٍ عَظِيمٍ» بَدَلًا مُطَابِقًا وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٩] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ.
وَمَعْنَى يَقُومُ النَّاسُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قِيَامًا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
وَاللَّامُ فِي لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِلْأَجْلِ، أَي لأجل ربوبيته وَتَلَقِّي حُكْمِهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبِ، وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاس فِيهِ الله خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعَظِيمِ الذَّنْبِ وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ وَفِيمَا كَانَ مِثْلُ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَمَلِ عَلَى السَّوِيَّةِ» اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَامِل لَهُم عَلَى التَّطْفِيفِ احْتِقَارُهُمْ أَهْلَ الْجَلْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لَامُ التَّوْقِيتِ مِثْلُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَفَائِدَةُ لَامِ التَّوْقِيتِ إِدْمَاجُ الرَّدِّ عَلَى شُبْهَتِهِمُ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْثٌ لَبُعِثَتْ أَمْوَاتُ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَأَوْمَأَ قَوْلُهُ لِيَوْمٍ أَنَّ لِلْبَعْثِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَقَعُ عِنْدَهُ لَا قَبْلَهُ.
وَوَصْفُ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ بِاعْتِبَارِ عَظَمَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَهُوَ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ.
ويَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَدَلٌ مِنْ «يَوْمٍ عَظِيمٍ» بَدَلًا مُطَابِقًا وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٩] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ.
وَمَعْنَى يَقُومُ النَّاسُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قِيَامًا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
وَاللَّامُ فِي لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِلْأَجْلِ، أَي لأجل ربوبيته وَتَلَقِّي حُكْمِهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبِ، وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاس فِيهِ الله خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعَظِيمِ الذَّنْبِ وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ وَفِيمَا كَانَ مِثْلُ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَمَلِ عَلَى السَّوِيَّةِ» اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَامِل لَهُم عَلَى التَّطْفِيفِ احْتِقَارُهُمْ أَهْلَ الْجَلْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا
193
يُقِيمُونَ لَهُمْ مَا هُوَ شِعَارُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، كَانَ التَّطْفِيفُ لِذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ إِثْمِ احْتِقَارِ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ قَدْ صَارَ خُلُقًا لَهُمْ حَتَّى تَخَلَّقُوا بِمُكَابَرَةِ دُعَاةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّنْوِيهِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَن: ٧- ٩] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨٢، ١٨٣] [٧- ٩]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
كَلَّا.
إِبْطَالٌ وَرَدْعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: ٤] مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمُ التَّطْفِيفَ، وَالْمَعْنَى: كَلَّا بَلْ هُمْ مَبْعُوثُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَلِتَلَقِّي قَضَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهِيَ جَوَابٌ عَمَّا تَقَدَّمَ.
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُطَفِّفِينَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوجِبًا كَتْبَهُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ.
والفُجَّارِ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالتَّطْفِيفِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الفُجَّارِ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَيَعُمُّ الْمُطَفِّفِينَ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ، فَوَصْفُ الْفُجَّارِ هَنَا نَظِيرُ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢].
وَشُمُولُ عُمُومِ الْفُجَّارِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ يُعْنَى بِهِ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ الْمَقْصُود الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ عَقِبَ كَلِمَةِ الرَّدْعِ عَنْ أَعْمَالِ الْمُطَفِّفِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ.
وَ «الْكِتَابُ» الْمَكْتُوبُ، أَيِ الصَّحِيفَةُ وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا تُحْصَى فِيهِ
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
كَلَّا.
إِبْطَالٌ وَرَدْعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: ٤] مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمُ التَّطْفِيفَ، وَالْمَعْنَى: كَلَّا بَلْ هُمْ مَبْعُوثُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَلِتَلَقِّي قَضَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهِيَ جَوَابٌ عَمَّا تَقَدَّمَ.
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُطَفِّفِينَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوجِبًا كَتْبَهُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ.
والفُجَّارِ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالتَّطْفِيفِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الفُجَّارِ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَيَعُمُّ الْمُطَفِّفِينَ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ، فَوَصْفُ الْفُجَّارِ هَنَا نَظِيرُ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢].
وَشُمُولُ عُمُومِ الْفُجَّارِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ يُعْنَى بِهِ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ الْمَقْصُود الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ عَقِبَ كَلِمَةِ الرَّدْعِ عَنْ أَعْمَالِ الْمُطَفِّفِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ.
وَ «الْكِتَابُ» الْمَكْتُوبُ، أَيِ الصَّحِيفَةُ وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا تُحْصَى فِيهِ
194
الْأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وسِجِّينٌ حُرُوفُ مَادَّتِهِ مِنْ حُرُوفِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ مِنَ الصِّيَغِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقَدْ أَغْرَبَ. رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوا سِجِّينَ عِوَضًا عَنْ سِلْتِينَ، وَسِلْتِينَ كَلِمَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ.
وَنُونُ سِجِّينٌ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً عَنِ اللَّامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا وَأُولَاهَا أَنَّهُ عَلَمٌ لِوَادٍ فِي جَهَنَّمَ، صِيَغَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ مِنْ مَادَّةِ السَّجْنِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ:
الْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، وَرَجُلٌ سِكِّيرٌ، وَطَعَامٌ حَرِّيفٌ (شَدِيدُ الْحَرَافَةِ وَهِيَ لَذْعُ اللِّسَانِ) سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ سِجِّينًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحَبْسِ لِمَنْ فِيهِ فَلَا يُفَارِقُهُ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنَّ مَادَّتَهُ وَصِيغَتَهُ مَوْضُوعَتَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَضْعًا نَوْعِيًّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ وَلَمْ يَطْعَنُوا فِي عَرَبِيَّتِهِ.
وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُودَعَةٌ فِي مَكَانٍ اسْمُهُ سِجِّينٌ أَوْ وَصْفُهُ سِجِّينٌ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِتَحْقِيرِهِ، أَيْ تَحْقِيرُ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَكْتُوبَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لِاشْتِمَالِ سَنَدِهِ عَلَى مَجَاهِيلَ.
وَإِنْ حُمِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، فَجُعِلَ كِتَابُ الْفُجَّارِ مَظْرُوفًا فِي سِجِّينٍ مَجَازٌ عَنْ جَعْلِ الْأَعْمَالِ الْمُحْصَاةِ فِيهِ فِي سِجِّينٍ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ كَوْنِ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ.
وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَين جملَة: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرضَة بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَجُمْلَةِ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَهُوَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السَّجِينِ تَهْوِيلَ تَفْظِيعٍ لِحَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ وَتَقَدَّمَ مَا أَدْراكَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٧].
وَقَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ إِلَى كِتابَ الفُجَّارِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَيْ كِتَابُ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي
وسِجِّينٌ حُرُوفُ مَادَّتِهِ مِنْ حُرُوفِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ مِنَ الصِّيَغِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقَدْ أَغْرَبَ. رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوا سِجِّينَ عِوَضًا عَنْ سِلْتِينَ، وَسِلْتِينَ كَلِمَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ.
وَنُونُ سِجِّينٌ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً عَنِ اللَّامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا وَأُولَاهَا أَنَّهُ عَلَمٌ لِوَادٍ فِي جَهَنَّمَ، صِيَغَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ مِنْ مَادَّةِ السَّجْنِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ:
الْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، وَرَجُلٌ سِكِّيرٌ، وَطَعَامٌ حَرِّيفٌ (شَدِيدُ الْحَرَافَةِ وَهِيَ لَذْعُ اللِّسَانِ) سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ سِجِّينًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحَبْسِ لِمَنْ فِيهِ فَلَا يُفَارِقُهُ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنَّ مَادَّتَهُ وَصِيغَتَهُ مَوْضُوعَتَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَضْعًا نَوْعِيًّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ وَلَمْ يَطْعَنُوا فِي عَرَبِيَّتِهِ.
وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُودَعَةٌ فِي مَكَانٍ اسْمُهُ سِجِّينٌ أَوْ وَصْفُهُ سِجِّينٌ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِتَحْقِيرِهِ، أَيْ تَحْقِيرُ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَكْتُوبَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لِاشْتِمَالِ سَنَدِهِ عَلَى مَجَاهِيلَ.
وَإِنْ حُمِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، فَجُعِلَ كِتَابُ الْفُجَّارِ مَظْرُوفًا فِي سِجِّينٍ مَجَازٌ عَنْ جَعْلِ الْأَعْمَالِ الْمُحْصَاةِ فِيهِ فِي سِجِّينٍ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ كَوْنِ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ.
وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَين جملَة: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرضَة بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَجُمْلَةِ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَهُوَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السَّجِينِ تَهْوِيلَ تَفْظِيعٍ لِحَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ وَتَقَدَّمَ مَا أَدْراكَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٧].
وَقَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ إِلَى كِتابَ الفُجَّارِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَيْ كِتَابُ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي
195
اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَرَادُوا الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِخَبَرٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَرْقُومُ: الْمَكْتُوبُ كِتَابَةً بَيِّنَةً تُشْبِهُ الرَّقْمَ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ كِتابٌ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً أَو مجَازًا.
[١٠- ١٣]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٣]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
جُمْلَةُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مبينَة لمضموم جُمْلَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: ٤، ٥] فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ يُفِيدُ تَنْوِينُهُ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً جُعِلَ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا تَقْدِيرُهَا: يَوْمَ إِذْ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيْلٌ فِيهِ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْمُطَفِّفِينَ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ مَنْ هُمْ مُطَفِّفُونَ وَمِنَ الْمُطَفِّفِينَ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِدْمَاجًا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ الْمُكَذِّبُونَ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ أُعِيدَ مُفَصَّلًا بِبَيَانِ مُتَعَلِّقِ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ بِيَوْمِ الدِّينِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ تَكْذِيبِهِمْ أَذْهَانَ السَّامِعِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَالصِّفَةُ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ وَتَحْذِيرِ الْمُطَفِّفِينَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالتَّطْفِيفِ فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِ «يَوْمِ الدِّينِ» التَّكْذِيبُ بِوُقُوعِهِ.
فَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ هُوَ مَنْشَأُ الْإِقْدَامِ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْجَرَائِمِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
وَالْمَرْقُومُ: الْمَكْتُوبُ كِتَابَةً بَيِّنَةً تُشْبِهُ الرَّقْمَ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ كِتابٌ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً أَو مجَازًا.
[١٠- ١٣]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٣]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
جُمْلَةُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مبينَة لمضموم جُمْلَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: ٤، ٥] فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ يُفِيدُ تَنْوِينُهُ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً جُعِلَ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا تَقْدِيرُهَا: يَوْمَ إِذْ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيْلٌ فِيهِ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْمُطَفِّفِينَ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ مَنْ هُمْ مُطَفِّفُونَ وَمِنَ الْمُطَفِّفِينَ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِدْمَاجًا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ الْمُكَذِّبُونَ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ أُعِيدَ مُفَصَّلًا بِبَيَانِ مُتَعَلِّقِ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ بِيَوْمِ الدِّينِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ تَكْذِيبِهِمْ أَذْهَانَ السَّامِعِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَالصِّفَةُ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ وَتَحْذِيرِ الْمُطَفِّفِينَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالتَّطْفِيفِ فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِ «يَوْمِ الدِّينِ» التَّكْذِيبُ بِوُقُوعِهِ.
فَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ هُوَ مَنْشَأُ الْإِقْدَامِ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْجَرَائِمِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
196
أَيْ أَنَّ
تَكْذِيبَهُمْ بِهِ جَهْلٌ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خلق النَّاس وَتَكْلِيفِهِمْ إِذِ الْحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ تَقْتَضِي تَحْسِينَ أَعْمَالِهِمْ وَحِفْظَ نِظَامِهِمْ. فَلِذَلِكَ جَاءَتْهُمُ الشَّرَائِعُ آمِرَةً بِالصَّلَاحِ وَنَاهِيَةً عَنِ الْفَسَادِ. وَرَتَّبَ لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بِالْعَذَابِ وَالْإِهَانَةِ. كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ: فَلَوْ أَهْمَلَ الْخَالِقُ تَقْوِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَهْمَلَ جَزَاءَ الصَّالِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥، ١١٦].
وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ وَهِيَ: مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، يَقُولُ إِنَّ الْآيَاتِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالِاعْتِدَاءُ: الظُّلْمُ، وَالْمُعْتَدِي: الْمُشْرِكُ وَالْكَافِرُ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَعَلَى رُسُلِهِ بِالتَّكْذِيبِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى دَلَائِلِ الْحَقِّ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا أَوْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا.
وَالْأَثِيمُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْآثِمِ، أَيْ كَثِيرُ الْإِثْمِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ الْآثِمِينَ الزَّاعِمِينَ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
فَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا غَيْرُ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُشْرِكُونَ وَالْوَثَنِيُّونَ وَأَضْرَابُهُمْ مِمَّنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ، وَأَعْظَمُهَا التَّكْذِيبُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةَ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ مِثْلَ أَصْحَابِ دِيَانَةِ الْقِبْطِ.
فَالَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِثْلُ الدَّهْرِيِّينَ فَإِنَّهُمْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ وَالْإِثْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا زَعْمُ الْقُرْآنِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ مَقَالَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فَهُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِأَنْ يَقُولُوهُ، أَوْ يَقُولُوا مَا يُسَاوِيه أَو يؤول إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لم يعرض عَلَيْهِم الْقُرْآنُ مِنْهُمْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَكَذَّبَ بِهِ
تَكْذِيبَهُمْ بِهِ جَهْلٌ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خلق النَّاس وَتَكْلِيفِهِمْ إِذِ الْحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ تَقْتَضِي تَحْسِينَ أَعْمَالِهِمْ وَحِفْظَ نِظَامِهِمْ. فَلِذَلِكَ جَاءَتْهُمُ الشَّرَائِعُ آمِرَةً بِالصَّلَاحِ وَنَاهِيَةً عَنِ الْفَسَادِ. وَرَتَّبَ لَهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بِالْعَذَابِ وَالْإِهَانَةِ. كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ: فَلَوْ أَهْمَلَ الْخَالِقُ تَقْوِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَهْمَلَ جَزَاءَ الصَّالِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥، ١١٦].
وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ وَهِيَ: مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، يَقُولُ إِنَّ الْآيَاتِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالِاعْتِدَاءُ: الظُّلْمُ، وَالْمُعْتَدِي: الْمُشْرِكُ وَالْكَافِرُ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَعَلَى رُسُلِهِ بِالتَّكْذِيبِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى دَلَائِلِ الْحَقِّ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا أَوْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا.
وَالْأَثِيمُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْآثِمِ، أَيْ كَثِيرُ الْإِثْمِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ الْآثِمِينَ الزَّاعِمِينَ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
فَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا غَيْرُ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُشْرِكُونَ وَالْوَثَنِيُّونَ وَأَضْرَابُهُمْ مِمَّنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ، وَأَعْظَمُهَا التَّكْذِيبُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةَ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ مِثْلَ أَصْحَابِ دِيَانَةِ الْقِبْطِ.
فَالَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِثْلُ الدَّهْرِيِّينَ فَإِنَّهُمْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ وَالْإِثْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا زَعْمُ الْقُرْآنِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ مَقَالَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فَهُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِأَنْ يَقُولُوهُ، أَوْ يَقُولُوا مَا يُسَاوِيه أَو يؤول إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لم يعرض عَلَيْهِم الْقُرْآنُ مِنْهُمْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَكَذَّبَ بِهِ
197
تَكْذِيبًا يُسَاوِي اعْتِقَادَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا الْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فَظَنُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ يُسَاوِي ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَقُولُهُ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى تَنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْ جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الدِّينِ كَلَا تَكْذِيبٍ مُبَالَغَةً فِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَجُمْلَةُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِمُعْتَدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ.
وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ وَأَجْزَاؤُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُتْلَى وَتُقْرَأُ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ الْقِصَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنَظِّرُونَ قِصَصَ الْقُرْآنِ بِقِصَّةِ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، عِنْدَ الْفُرْسِ، وَلَعَلَّ الْكَلِمَةَ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَتُقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُطْلَقُ عَلَى السَّابِقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَانٍ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَبَقَتْهُ أَجْيَالٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَصِفُونَ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ لِمَا سَمِعُوا فِيهِ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَحَسِبُوهَا مِنْ قِصَصِ الْأَسْمَارِ. وَاقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ دُونَ مَا فِي أَكْثَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكْمَةِ، بُهْتَانًا مِنْهُمْ.
وَمِمَّنْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ قِصَّةَ رُسْتُمَ وَقِصَّةَ إِسْفِنْدِيَارَ وَجَدَهَا فِي الْحِيرَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يُحَدِّثُكُمْ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ خُصُوصَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ مُعْتَدٍ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ.
[١٤- ١٧]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٤ الى ١٧]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا اعْتِرَاضٌ بِالرَّدْعِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّ كَلَّا رَدْعٌ لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ قَوْلَهُمْ
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى تَنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْ جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الدِّينِ كَلَا تَكْذِيبٍ مُبَالَغَةً فِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَجُمْلَةُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِمُعْتَدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ.
وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ وَأَجْزَاؤُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُتْلَى وَتُقْرَأُ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ الْقِصَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنَظِّرُونَ قِصَصَ الْقُرْآنِ بِقِصَّةِ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، عِنْدَ الْفُرْسِ، وَلَعَلَّ الْكَلِمَةَ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَتُقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُطْلَقُ عَلَى السَّابِقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَانٍ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَبَقَتْهُ أَجْيَالٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَصِفُونَ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ لِمَا سَمِعُوا فِيهِ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَحَسِبُوهَا مِنْ قِصَصِ الْأَسْمَارِ. وَاقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ دُونَ مَا فِي أَكْثَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكْمَةِ، بُهْتَانًا مِنْهُمْ.
وَمِمَّنْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ قِصَّةَ رُسْتُمَ وَقِصَّةَ إِسْفِنْدِيَارَ وَجَدَهَا فِي الْحِيرَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يُحَدِّثُكُمْ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ خُصُوصَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ مُعْتَدٍ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ.
[١٤- ١٧]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٤ الى ١٧]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا اعْتِرَاضٌ بِالرَّدْعِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّ كَلَّا رَدْعٌ لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ قَوْلَهُمْ
198
بَاطِلٌ. وَحَرْفُ بَلْ لِلْإِبْطَالِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونٍ كَلَّا وَبَيَانًا وَكَشْفًا لِمَا حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا فِي الْقُرْآنِ مَا قَالُوا وَأَنَّهُ مَا أَعْمَى بَصَائِرَهُمْ مِنَ الرَّيْنِ.
وَالرَّيْنُ: الصَّدَأُ الَّذِي يَعْلُو حَدِيدَ السَّيْفِ وَالْمِرْآةِ، وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِ الرَّيْنِ الرَّانُ مِثْلَ الْعَيْبِ وَالْعَابِ، وَالذَّيْمِ وَالذَّامِ.
وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَصَابَهُ الرَّيْنُ، فَيُقَالُ: رَانَ السَّيْفُ وَرَانَ الثَّوْبُ، إِذَا أَصَابَهُ الرَّيْنُ، أَيْ صَارَ ذَا رَيْنٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّغْطِئَةِ أُطْلِقَ عَلَى التَّغْطِيَةِ فَجَاءَ مِنْهُ فِعْلُ رَانَ بِمَعْنَى غَشِيَ، فَقَالُوا: رَانَ النُّعَاسُ عَلَى فُلَانٍ، وَرَانَتِ الْخَمْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ بَابِ رَانَ الرَّيْنُ على السَّيْف، وَلَيْسَ من بَاب ران السَّيْفِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ هَذَا الْفِعْلَ صَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ: رِينَ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ مَرِينٌ عَلَى قَلْبِهِ.
وَالْمَعْنَى: غَطَّتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَعْمَالُهُمْ أَنْ يَدْخُلَهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْبَوْنُ الشَّاسِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا رَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهَا.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْوَقْفِ عَلَى لَامِ (بَلْ) وَالِابْتِدَاءِ بِكَلِمَةِ رَانَ تَجَنُّبًا لِلْإِدْغَامِ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى لَامِ بَلْ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا لَامٌ. قَالَ فِي «اللِّسَانِ» : إِظْهَارُ اللَّامِ لُغَةً لِأَهْلِ الْحِجَازِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُمَا حَسَنَانِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِدْغَامُ أَرْجَحُ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَمَحَالُّ الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَمِنْ كَلَامِ رُعَاةِ الْأَعْرَابِ يُخَاطِبُونَ إِبِلَهُمْ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا أَوْرَدُوهَا الْمَاءَ فَاشْمَأَزَّتْ مِنْهُ لِبَرْدِهِ «بَرِّدِيهِ تَجِدِيهِ سَخِينًا» أَيْ بَلْ رُدِّيهِ وَذَلِكَ مِنَ الْمُلَحِ الشَّبِيهَةِ بِالْمُعَايَاةِ إِذْ فِي ظَاهِرِهِ طَلَبُ تَبْرِيدِهِ وَأَنَّهُ بِالتَّبْرِيدِ يُوجَدُ سَخِينًا.
وَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا عَمِلُوهُ سَالِفًا مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَجِمَاحِهِمْ عَنْ
وَالرَّيْنُ: الصَّدَأُ الَّذِي يَعْلُو حَدِيدَ السَّيْفِ وَالْمِرْآةِ، وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِ الرَّيْنِ الرَّانُ مِثْلَ الْعَيْبِ وَالْعَابِ، وَالذَّيْمِ وَالذَّامِ.
وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَصَابَهُ الرَّيْنُ، فَيُقَالُ: رَانَ السَّيْفُ وَرَانَ الثَّوْبُ، إِذَا أَصَابَهُ الرَّيْنُ، أَيْ صَارَ ذَا رَيْنٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّغْطِئَةِ أُطْلِقَ عَلَى التَّغْطِيَةِ فَجَاءَ مِنْهُ فِعْلُ رَانَ بِمَعْنَى غَشِيَ، فَقَالُوا: رَانَ النُّعَاسُ عَلَى فُلَانٍ، وَرَانَتِ الْخَمْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ بَابِ رَانَ الرَّيْنُ على السَّيْف، وَلَيْسَ من بَاب ران السَّيْفِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ هَذَا الْفِعْلَ صَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ: رِينَ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ مَرِينٌ عَلَى قَلْبِهِ.
وَالْمَعْنَى: غَطَّتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَعْمَالُهُمْ أَنْ يَدْخُلَهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْبَوْنُ الشَّاسِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا رَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهَا.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْوَقْفِ عَلَى لَامِ (بَلْ) وَالِابْتِدَاءِ بِكَلِمَةِ رَانَ تَجَنُّبًا لِلْإِدْغَامِ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى لَامِ بَلْ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا لَامٌ. قَالَ فِي «اللِّسَانِ» : إِظْهَارُ اللَّامِ لُغَةً لِأَهْلِ الْحِجَازِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُمَا حَسَنَانِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِدْغَامُ أَرْجَحُ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَمَحَالُّ الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَمِنْ كَلَامِ رُعَاةِ الْأَعْرَابِ يُخَاطِبُونَ إِبِلَهُمْ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا أَوْرَدُوهَا الْمَاءَ فَاشْمَأَزَّتْ مِنْهُ لِبَرْدِهِ «بَرِّدِيهِ تَجِدِيهِ سَخِينًا» أَيْ بَلْ رُدِّيهِ وَذَلِكَ مِنَ الْمُلَحِ الشَّبِيهَةِ بِالْمُعَايَاةِ إِذْ فِي ظَاهِرِهِ طَلَبُ تَبْرِيدِهِ وَأَنَّهُ بِالتَّبْرِيدِ يُوجَدُ سَخِينًا.
وَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا عَمِلُوهُ سَالِفًا مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَجِمَاحِهِمْ عَنْ
199
التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ الْإِعْرَاضُ وَالْعِنَادُ خُلُقًا مُتَأَصِّلًا فِيهِمْ فَلَا تَفْهَمُ عُقُولُهُمْ دَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنَّ عَادَ زِيِدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمَجِيءُ يَكْسِبُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْكَسْبِ وَتَعَدُّدِهِ فِي الْمَاضِي.
وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ كانُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَكْسِبُونَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا كَسَبُوهُ فِي أَعْمَارِهِمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَنَاطَ تَكْلِيفٍ أَيَّامَئِذٍ.
فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ وَتَوَاتَرَ وَشَاعَ فِي الْأُمَمِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِذَنْبِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مُخَالِفُونَ لِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَحِقَ بِذَلِكَ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ وَقْتِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَهِيَ مُدَّةٌ لَيْسَتْ بِالْقَصِيرَةِ.
وكَلَّا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِ كَلَّا الْأُولَى زِيَادَةً فِي الرَّدْعِ لِيَصِيرَ تَوْبِيخًا.
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧).
جُمْلَةُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ وَمَعْطُوفَاهَا عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَيْلِ وَهِيَ الْإِهَانَةُ، وَالْعَذَابُ، وَالتَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَأَمَّا الْإِهَانَةُ فَحَجْبُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَالْحَجْبُ هُوَ السَّتْرُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْعِ مِنَ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنَّ عَادَ زِيِدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمَجِيءُ يَكْسِبُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْكَسْبِ وَتَعَدُّدِهِ فِي الْمَاضِي.
وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ كانُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَكْسِبُونَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا كَسَبُوهُ فِي أَعْمَارِهِمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَنَاطَ تَكْلِيفٍ أَيَّامَئِذٍ.
فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ وَتَوَاتَرَ وَشَاعَ فِي الْأُمَمِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِذَنْبِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مُخَالِفُونَ لِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَحِقَ بِذَلِكَ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ وَقْتِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَهِيَ مُدَّةٌ لَيْسَتْ بِالْقَصِيرَةِ.
وكَلَّا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِ كَلَّا الْأُولَى زِيَادَةً فِي الرَّدْعِ لِيَصِيرَ تَوْبِيخًا.
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧).
جُمْلَةُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ وَمَعْطُوفَاهَا عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَيْلِ وَهِيَ الْإِهَانَةُ، وَالْعَذَابُ، وَالتَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَأَمَّا الْإِهَانَةُ فَحَجْبُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَالْحَجْبُ هُوَ السَّتْرُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْعِ مِنَ
200
الْحُضُورِ لَدَى الْمَلِكِ وَلَدَى سَيِّدِ الْقَوْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «الْكَشَّافِ» :
وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ هُنَا لِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَاهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ.
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: ٢٣] وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُونَ حَضْرَةَ الْقُدُسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَلِيَكُونَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ: «عَنْ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ» دُونَ أَنْ يُقَالَ: عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، أَوْ عَنْ وَجْهِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٧] : وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ وَقَدْ عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالَّةِ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ
ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ خزي الإهانة.
و «صالوا» جَمْعُ صَالٍ وَهُوَ الَّذِي مَسَّهُ حَرُّ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سيصلون عَذَاب جَهَنَّم.
وَأَمَّا التَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ التَّخْفِيفِ فَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ اقْتَضَى تَرَاخِيَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ بُعْدُ دَرَجَتِهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ.
وَاقْتَضَى اسْمُ الْإِشَارَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ بِهِ وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ وَهُوَ دَرَجَةٌ أَشَدُّ فِي الْوَعِيدِ، وَبِذَلِكَ كَانَ مَضْمُون الْجُمْلَة أرقى رُتْبَة فِي الْغَرَض من مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا.
أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَالِكٍ
إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عُبِّيَّةٍ رُجِبُوا | وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبِ |
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: ٢٣] وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُونَ حَضْرَةَ الْقُدُسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَلِيَكُونَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ: «عَنْ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ» دُونَ أَنْ يُقَالَ: عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، أَوْ عَنْ وَجْهِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٧] : وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ وَقَدْ عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالَّةِ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ
ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ خزي الإهانة.
و «صالوا» جَمْعُ صَالٍ وَهُوَ الَّذِي مَسَّهُ حَرُّ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سيصلون عَذَاب جَهَنَّم.
وَأَمَّا التَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ التَّخْفِيفِ فَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ اقْتَضَى تَرَاخِيَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ بُعْدُ دَرَجَتِهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ.
وَاقْتَضَى اسْمُ الْإِشَارَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ بِهِ وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ وَهُوَ دَرَجَةٌ أَشَدُّ فِي الْوَعِيدِ، وَبِذَلِكَ كَانَ مَضْمُون الْجُمْلَة أرقى رُتْبَة فِي الْغَرَض من مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا.
أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَالِكٍ
201
خَازِنِ جَهَنَّمَ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف: ٧٧، ٧٨] فَطُوِيَ سُؤَالُهُمْ وَاقْتُصِرَ عَلَى جَوَابِ مَالِكٍ خَازِنِ جَهَنَّمَ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ عَطْفِ جُمْلَةِ هَذَا الْمَقَالِ بِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي.
وَبُنِيَ فِعْلُ يُقالُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ الْقَائِلِ وَالْمَقْصِدِ هُوَ القَوْل.
وَجِيء باسم الْمَوْصُول ليذكّروا تكذيبهم بِهِ فِي الدُّنْيَا تنديما لَهُم وتحزينا.
وَتَقْدِيمُ بِهِ عَلَى تُكَذِّبُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعَادِ الضَّمِيرِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَالْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُكَذِّبُونَ إِلَى تَفْرِقَةٍ بَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الشَّخْصِ الْكَاذِبِ فَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْخَبَرِ الْمُكَذَّبِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهَا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَذَّبَ بِسَبَبِهِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رُسُلَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.
[١٨- ٢١]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٨ إِلَى ٢١]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
كَلَّا.
رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضْمَنُهُ مَا يُقَالُ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ كَلَّا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مَعَ جُمْلَةِ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رَدْعًا لَهُمْ فَهِيَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمُ الْمَذْكُورِ.
إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١).
يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْتَهِيَةَ بِقَوْلِهِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْحِكَايَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُقالُ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِحَذَافِرِهَا تُشْبِهُ جُمْلَةَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ١٧] إِلَخْ أُسْلُوبًا وَمُقَابَلَةً. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ
وَبُنِيَ فِعْلُ يُقالُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ الْقَائِلِ وَالْمَقْصِدِ هُوَ القَوْل.
وَجِيء باسم الْمَوْصُول ليذكّروا تكذيبهم بِهِ فِي الدُّنْيَا تنديما لَهُم وتحزينا.
وَتَقْدِيمُ بِهِ عَلَى تُكَذِّبُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعَادِ الضَّمِيرِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَالْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُكَذِّبُونَ إِلَى تَفْرِقَةٍ بَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الشَّخْصِ الْكَاذِبِ فَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْخَبَرِ الْمُكَذَّبِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهَا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَذَّبَ بِسَبَبِهِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رُسُلَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.
[١٨- ٢١]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٨ إِلَى ٢١]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
كَلَّا.
رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضْمَنُهُ مَا يُقَالُ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ كَلَّا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مَعَ جُمْلَةِ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رَدْعًا لَهُمْ فَهِيَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمُ الْمَذْكُورِ.
إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١).
يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْتَهِيَةَ بِقَوْلِهِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْحِكَايَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُقالُ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِحَذَافِرِهَا تُشْبِهُ جُمْلَةَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ١٧] إِلَخْ أُسْلُوبًا وَمُقَابَلَةً. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ
202
مَضْمُونُهَا قَسِيمًا لِمَضْمُونِ شَبِيهِهَا فَتَحْصُلُ مُقَابَلَةُ وَعِيدِ الْفُجَّارِ بِوَعْدِ الْأَبْرَارِ وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ الْإِنْذَارِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْعَكْسُ لِأَنَّ النَّاسَ رَاهِبٌ وَرَاغِبٌ فَالتَّعَرُّضُ لِنَعِيمِ الْأَبْرَارِ إِدْمَاجٌ اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَقَامَ إِنْذَارٍ.
وَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاحِدًا وَجَّهَ كَلَامَهُ لِلْفُجَّارِ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْجِيهِ كَلَامٍ لِلْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُعْتَرِضَةً مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ الرَّدْعِ عَلَى أَوْضَحِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَتَكُونُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلَةً بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبِحَرْفِ الْإِبْطَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، أَعْقَبُوا تَوْبِيخَهُمْ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ تَنْدِيمًا لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَفَاتُوهُ مِنَ الْخَيْرِ.
والْأَبْرارِ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْبِرَّ، وَتَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَمَظْرُوفِيَّتِهِ فِي عِلِّيِّينَ، كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ٧].
وَعِلِّيُّونَ: جَمْعُ عِلِّيٍّ، وَعِلِّيٌّ عَلَى وَزْنِ فِعِّيلٍ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ زِنَةُ مُبَالِغَةٍ فِي الْوَصْفِ جَاءَ عَلَى صُورَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ عِلِّيِّينَ لَا وَاحِدَ لَهُ. يُرِيدُ: أَنَّ عِلِّيِّينَ لَيْسَ جَمْعَ (عِلِّيٍّ) وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مَكَانِ الْأَبْرَارِ فِي الْجَنَّةِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ عَنِ الْعَرَبِ (عِلِّيٌّ) وَإِنَّمَا قَالُوا: عِلِّيَّةٌ لِلْغُرْفَةِ، وَعِلِّيُّونَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِمَحَلَّةِ الْأَبْرَارِ.
وَاشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ رِفْعَةٌ فِي مَرَاتِبِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَصِيغَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الصِّيغَةِ أَنْ تُجْمَعَ بِهَا أَسْمَاءُ الْعُقَلَاءِ وَصِفَاتُهُمْ، فَاسْتُكْمِلَ لَهُ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ الذُّكُورِ إِتْمَامًا لِشَرَفِ الْمَعْنَى بِاسْتِعَارَةِ الْعُلُوِّ وَشَرَفِ النَّوْعِ بِإِعْطَائِهِ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ.
وَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاحِدًا وَجَّهَ كَلَامَهُ لِلْفُجَّارِ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْجِيهِ كَلَامٍ لِلْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُعْتَرِضَةً مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ الرَّدْعِ عَلَى أَوْضَحِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَتَكُونُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلَةً بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبِحَرْفِ الْإِبْطَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، أَعْقَبُوا تَوْبِيخَهُمْ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ تَنْدِيمًا لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَفَاتُوهُ مِنَ الْخَيْرِ.
والْأَبْرارِ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْبِرَّ، وَتَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَمَظْرُوفِيَّتِهِ فِي عِلِّيِّينَ، كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ٧].
وَعِلِّيُّونَ: جَمْعُ عِلِّيٍّ، وَعِلِّيٌّ عَلَى وَزْنِ فِعِّيلٍ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ زِنَةُ مُبَالِغَةٍ فِي الْوَصْفِ جَاءَ عَلَى صُورَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ عِلِّيِّينَ لَا وَاحِدَ لَهُ. يُرِيدُ: أَنَّ عِلِّيِّينَ لَيْسَ جَمْعَ (عِلِّيٍّ) وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مَكَانِ الْأَبْرَارِ فِي الْجَنَّةِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ عَنِ الْعَرَبِ (عِلِّيٌّ) وَإِنَّمَا قَالُوا: عِلِّيَّةٌ لِلْغُرْفَةِ، وَعِلِّيُّونَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِمَحَلَّةِ الْأَبْرَارِ.
وَاشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ رِفْعَةٌ فِي مَرَاتِبِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَصِيغَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الصِّيغَةِ أَنْ تُجْمَعَ بِهَا أَسْمَاءُ الْعُقَلَاءِ وَصِفَاتُهُمْ، فَاسْتُكْمِلَ لَهُ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ الذُّكُورِ إِتْمَامًا لِشَرَفِ الْمَعْنَى بِاسْتِعَارَةِ الْعُلُوِّ وَشَرَفِ النَّوْعِ بِإِعْطَائِهِ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ.
203
وَالْقَوْلُ فِي وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ [المطففين: ٨، ٩] الْمُتَقَدِّمِ.
ويَشْهَدُهُ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْلَنُ بِهِ عِنْدَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ إِعْلَانُ تَنْوِيهٍ بِصَاحِبِهِ كَمَا يُعْلَنُ بِأَسْمَاءِ النَّابِغِينَ فِي التَّعْلِيمِ، وَأَسْمَاءِ الْأَبْطَالِ فِي الْكَتَائِب.
[٢٢- ٢٨]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٨]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] إِلَى آخِرِهَا. وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى نَسِيجِ نَظْمِ قَسِيمَتِهَا افْتِتَاحًا وَتَوْصِيفًا وَفَصْلًا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْبَيَانِ أَوْ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَال لَهُم، وَهُوَ المحكي بقوله: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَيَكُونُ قَوْلُ ذَلِكَ لَهُمْ، تَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْإِيمَانِ.
وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يُنَاكِدُ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِيمَا قُرِّرَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ.
وَذُكِرَ الْأَبْرَارُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِمْ. خِلَافًا لِمَا جَاءَ فِي جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] تَنْوِيهًا بِوَصْفِ الْأَبْرَارِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْأَبْرَارِ، أَيْ هُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، أَيْ مُتَّكِئُونَ عَلَيْهَا.
وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وَوِسَادَتِهِ وَحَجَلَةٍ مَنْصُوبَةٍ عَلَيْهِمَا، فَلَا يُقَالُ: أَرِيكَةٌ إِلَّا لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَبَشِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ
ويَشْهَدُهُ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْلَنُ بِهِ عِنْدَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ إِعْلَانُ تَنْوِيهٍ بِصَاحِبِهِ كَمَا يُعْلَنُ بِأَسْمَاءِ النَّابِغِينَ فِي التَّعْلِيمِ، وَأَسْمَاءِ الْأَبْطَالِ فِي الْكَتَائِب.
[٢٢- ٢٨]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٨]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] إِلَى آخِرِهَا. وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى نَسِيجِ نَظْمِ قَسِيمَتِهَا افْتِتَاحًا وَتَوْصِيفًا وَفَصْلًا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْبَيَانِ أَوْ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَال لَهُم، وَهُوَ المحكي بقوله: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَيَكُونُ قَوْلُ ذَلِكَ لَهُمْ، تَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْإِيمَانِ.
وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يُنَاكِدُ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِيمَا قُرِّرَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ.
وَذُكِرَ الْأَبْرَارُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِمْ. خِلَافًا لِمَا جَاءَ فِي جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] تَنْوِيهًا بِوَصْفِ الْأَبْرَارِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْأَبْرَارِ، أَيْ هُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، أَيْ مُتَّكِئُونَ عَلَيْهَا.
وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وَوِسَادَتِهِ وَحَجَلَةٍ مَنْصُوبَةٍ عَلَيْهِمَا، فَلَا يُقَالُ: أَرِيكَةٌ إِلَّا لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَبَشِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ
204
ويَنْظُرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَبْرَارِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَنْظُرُونَ إِمَّا لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِمْ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] وَالتَّقْدِيرُ:
يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَنْظُرُونَ كُلَّ مَا يُبْهِجُ نُفُوسَهُمْ ويسرهم بِقَرِينَة مقَام الْوَعْدِ وَالتَّكْرِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ وَنَصْبِ نَضْرَةَ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
أَيْ تَعْرِفُ يَا مَنْ يَرَاهُمْ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «تُعْرَفُ» بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ «نَضْرَةُ».
وَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ جَرَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ فِي اسْتِعْمَالِهِ.
وَجَرَتْ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِهِ.
وَالْخِطَابُ بِمِثْلِهِ فِي مَقَامِ وَصْفِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْأَبْرارَ أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ لَهُ.
وَالنَّضْرَةُ: الْبَهْجَةُ وَالْحُسْنُ، وَإِضَافَةُ نَضْرَةَ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَبَّبِ إِلَى السَّبَبِ، أَيِ النَّضْرَةُ وَالْبَهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ لِوَجْهِ الْمَسْرُورِ الرَّاضِي إِذْ تَبْدُو عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحُ السُّرُورِ.
وَجُمْلَةُ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنِ الْأَبْرَارِ أَوْ حَالٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُ. وَعَبَّرَ بِ يُسْقَوْنَ دُونَ: يَشْرَبُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْدُومُونَ يَخْدِمُهُمْ مَخْلُوقَاتٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّرَفُّهِ وَلَذَّةِ الرَّاحَةِ.
وَالرَّحِيقُ: اسْمٌ لِلْخَمْرِ الصَّافِيَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَالْمَخْتُومُ: الْمَسْدُودُ إِنَاؤُهُ، أَيْ بَاطِيَتُهُ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ خَتَمَهُ إِذَا شَدَّ بِصِنْفٍ مِنَ الطِّينِ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَابَةِ إِذَا يَبِسَ فَيَعْسُرُ قَلْعُهُ وَإِذَا قُلِعَ ظَهَرَ أَنَّهُ مَقْلُوعٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلْخَتْمِ عَلَى الرَّسَائِلِ لِئَلَّا يَقْرَأَ حَامِلُهَا مَا فِيهَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ مِنْ كَرَمِ الْكِتَابِ خَتْمُهُ وَيَجْعَلُونَ عَلَامَةً عَلَيْهِ، تُطْبَعُ فِيهِ وَهُوَ رَطْبٌ فَإِذَا يَبِسَ تَعَذَّرَ فَسْخُهَا، وَيُسَمَّى مَا تُطْبَعُ بِهِ خَاتَمًا بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَانَ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ خَوَاتِيمَ يَضَعُونَهَا فِي أَحَدِ
الْخِنْصَرَيْنِ لِيَجِدُوهَا عِنْدَ إِصْدَارِ الرَّسَائِلِ عَنْهُمْ، قَالَ جَرِيرٌ:
يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَنْظُرُونَ كُلَّ مَا يُبْهِجُ نُفُوسَهُمْ ويسرهم بِقَرِينَة مقَام الْوَعْدِ وَالتَّكْرِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ وَنَصْبِ نَضْرَةَ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
أَيْ تَعْرِفُ يَا مَنْ يَرَاهُمْ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «تُعْرَفُ» بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ «نَضْرَةُ».
وَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ جَرَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ فِي اسْتِعْمَالِهِ.
وَجَرَتْ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِهِ.
وَالْخِطَابُ بِمِثْلِهِ فِي مَقَامِ وَصْفِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْأَبْرارَ أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ لَهُ.
وَالنَّضْرَةُ: الْبَهْجَةُ وَالْحُسْنُ، وَإِضَافَةُ نَضْرَةَ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَبَّبِ إِلَى السَّبَبِ، أَيِ النَّضْرَةُ وَالْبَهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ لِوَجْهِ الْمَسْرُورِ الرَّاضِي إِذْ تَبْدُو عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحُ السُّرُورِ.
وَجُمْلَةُ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنِ الْأَبْرَارِ أَوْ حَالٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُ. وَعَبَّرَ بِ يُسْقَوْنَ دُونَ: يَشْرَبُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْدُومُونَ يَخْدِمُهُمْ مَخْلُوقَاتٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّرَفُّهِ وَلَذَّةِ الرَّاحَةِ.
وَالرَّحِيقُ: اسْمٌ لِلْخَمْرِ الصَّافِيَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَالْمَخْتُومُ: الْمَسْدُودُ إِنَاؤُهُ، أَيْ بَاطِيَتُهُ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ خَتَمَهُ إِذَا شَدَّ بِصِنْفٍ مِنَ الطِّينِ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَابَةِ إِذَا يَبِسَ فَيَعْسُرُ قَلْعُهُ وَإِذَا قُلِعَ ظَهَرَ أَنَّهُ مَقْلُوعٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلْخَتْمِ عَلَى الرَّسَائِلِ لِئَلَّا يَقْرَأَ حَامِلُهَا مَا فِيهَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ مِنْ كَرَمِ الْكِتَابِ خَتْمُهُ وَيَجْعَلُونَ عَلَامَةً عَلَيْهِ، تُطْبَعُ فِيهِ وَهُوَ رَطْبٌ فَإِذَا يَبِسَ تَعَذَّرَ فَسْخُهَا، وَيُسَمَّى مَا تُطْبَعُ بِهِ خَاتَمًا بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَانَ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ خَوَاتِيمَ يَضَعُونَهَا فِي أَحَدِ
الْخِنْصَرَيْنِ لِيَجِدُوهَا عِنْدَ إِصْدَارِ الرَّسَائِلِ عَنْهُمْ، قَالَ جَرِيرٌ:
205
يَكْفِي الْخَلِيفَةَ أَنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ | سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ |
وَالْمِسْكُ مَادَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ ذَاتُ عَرْفٍ طَيِّبٍ مَشْهُورٍ طِيبُهُ وَقُوَّةُ رَائِحَتِهِ مُنْذُ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَتَكَوَّنُ فِي غُدَّةٍ مَمْلُوءَةٍ دَمًا تَخْرُجُ فِي عُنُقِ صِنْفٍ مِنَ الْغَزَالِ فِي بِلَادِ التِّيبِيتِ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ فَتَبْقَى مُتَّصِلَةً بِعُنُقِهِ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ فَتَسْقُطُ فَيَلْتَقِطُهَا طُلَّابُهَا وَيَتَّجِرُونَ فِيهَا. وَهِيَ جِلْدَةٌ فِي شَكْلِ فَأْرٍ صَغِيرٍ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ.
وَفُسِّرَ خِتامُهُ مِسْكٌ بِأَنَّ الْمَعْنَى خِتَامُ شُرْبِهِ، أَيْ آخِرُ شُرْبِهِ مِسْكٌ، أَيْ طَعْمُ الْمِسْكِ بِمَعْنَى نَكْهَتِهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ ابْنِ مُقْبِلٍ:
مِمَّا يُعَتِّقُ فِي الْحَانُوتِ قَاطِفُهَا | بِالْفُلْفُلِ الْجَوْنِ وَالرُّمَّانِ مَخْتُومُ |
وَجُمْلَةُ: خِتامُهُ مِسْكٌ نَعْتٌ لِ رَحِيقٍ أَوْ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، أَوِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ وَصْفِ الرَّحِيقِ بِأَنَّهُ مَخْتُومٍ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ خِتَامِهَا أَيُّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ أَصْنَافِ الْخِتَامِ لِأَنَّ غَالِبَ الْخِتَامِ أَنْ يَكُونَ بِطِينٍ أَوْ سِدَادٍ.
وَجُمْلَةُ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خِتامُهُ مِسْكٌ وَجُمْلَةِ وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ التَّرْكِيبِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَقِيقٌ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَذَلِكَ أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً فَقَوْلُهُ: وَفِي ذلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْجُمْلَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ أَيْ وَفِي ذَلِكَ الرَّحِيقِ فَلْيَتَنَافَسِ النَّاسُ لَا فِي رَحِيقِ الدُّنْيَا الَّذِي يَتَنَافَسُ فِيهِ أَهْلُ
206
الْبَذَخِ وَيَجْلِبُونَهُ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَيُنْفِقُونَ فِيهِ الْأَمْوَالَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً لم يكن البذخ ويجلبونه من أقاضي الْبِلَاد وينفقون فِيهِ الْأَمْوَال. وَلما كَانَت الْوَاو اعتراضية لَمْ يَكُنْ إِشْكَالٌ فِي وُقُوعِ فَاءِ الْجَوَابِ بَعْدَهَا. وَالْفَاءُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَصِيحَةً، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمْتُمُ الْأَوْصَافَ لِهَذَا الرَّحِيقِ فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَفِي ذَلِكَ فَلْتَتَنَافَسُوا فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ تَنَافُسُ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ تَنَافُسُ جَمِيعِ
الْمُتَنَافِسِينَ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَاءَ جَوَابٍ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، كَمَا
رُوِيَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»
بِجَزْمِ «تَكُونُوا» وَ «يُولَّ»، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَنَافَسُوا صِيغَةَ أَمْرٍ فِي ذَلِكَ، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُؤَذِنًا بِتَوْكِيدِ فِعْلِ التَّنَافُسِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّخَصُّصِ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ.
وَجُمْلَةُ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ إِلَخْ وَجُمْلَةِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَالتَّنَافُسُ: تَفَاعُلٌ مِنْ نَفِسَ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا شَحَّ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ أَهْلًا لَهُ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَهُوَ الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ الْمَرْغُوبُ فِي تَحْصِيلِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ النَّفْسُ. فَالتَّنَافُسُ حُصُولُ النفاسة بَين مُتَعَدد.
وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَتَنافَسِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ.
ومِزاجُهُ: مَا يُمْزَجُ بِهِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ مَازَجَ بِمَعْنَى مَزَجَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَمْزُوجِ بِهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَكَانُوا يَمْزُجُونَ الْخَمْرَ لِئَلَّا تَغْلِبَهُمْ سَوْرَتُهَا فَيُسْرِعُ إِلَيْهِمْ مَغِيبُ الْعُقُولِ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ تَطْوِيلَ حِصَّةِ النَّشْوَةِ لِلِالْتِذَاذِ بِدَبِيبِ السُّكْرِ فِي الْعَقْلِ دُونَ أَنْ يَغُتَّهُ غَتًّا فَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا تُشْرَبُ الْخَمْرُ الْمُعَتَّقَةُ الْخَالِصَةُ تُشْرَبُ مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
الْمُتَنَافِسِينَ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَاءَ جَوَابٍ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، كَمَا
رُوِيَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»
بِجَزْمِ «تَكُونُوا» وَ «يُولَّ»، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَنَافَسُوا صِيغَةَ أَمْرٍ فِي ذَلِكَ، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُؤَذِنًا بِتَوْكِيدِ فِعْلِ التَّنَافُسِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّخَصُّصِ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ.
وَجُمْلَةُ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ إِلَخْ وَجُمْلَةِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَالتَّنَافُسُ: تَفَاعُلٌ مِنْ نَفِسَ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا شَحَّ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ أَهْلًا لَهُ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَهُوَ الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ الْمَرْغُوبُ فِي تَحْصِيلِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ النَّفْسُ. فَالتَّنَافُسُ حُصُولُ النفاسة بَين مُتَعَدد.
وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَتَنافَسِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ.
ومِزاجُهُ: مَا يُمْزَجُ بِهِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ مَازَجَ بِمَعْنَى مَزَجَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَمْزُوجِ بِهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَكَانُوا يَمْزُجُونَ الْخَمْرَ لِئَلَّا تَغْلِبَهُمْ سَوْرَتُهَا فَيُسْرِعُ إِلَيْهِمْ مَغِيبُ الْعُقُولِ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ تَطْوِيلَ حِصَّةِ النَّشْوَةِ لِلِالْتِذَاذِ بِدَبِيبِ السُّكْرِ فِي الْعَقْلِ دُونَ أَنْ يَغُتَّهُ غَتًّا فَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا تُشْرَبُ الْخَمْرُ الْمُعَتَّقَةُ الْخَالِصَةُ تُشْرَبُ مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: