ﰡ
مكية، تسع وثمانون آية، ثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) أي والكتاب المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة. إِنَّا جَعَلْناهُ أي إنا صيّرنا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) أي لكي تفهموه وتعرفوا حق النعمة في ذلك، وَإِنَّهُ أي الكتاب فِي أُمِّ الْكِتابِ أي مثبت في أصل الكتب السماوية، وهو اللوح المحفوظ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر همزة «أم الكتاب». لَدَيْنا أي محفوظ عندنا من التغيير لَعَلِيٌّ أي رفيع الشأن حَكِيمٌ (٤) أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنترككم فنبعد عنكم المواعظ إبعادا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)، وقرأ حمزة والكسائي ونافع بكسر الهمزة على أنها شرطية لقصد تجهيل المخاطب، والباقون بالفتح على التعليل أي إنا لا نترك هذا الإنذار بسبب كونكم منهمكين في الإسراف، وهذا الكلام يحتمل الرحمة والمبالغة في التغليظ، فالمعنى على الأول: إنا لا نترككم مع سوء اختياركم، بل نذكركم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق، وعلى الثاني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون؟ كلا، بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح.
قال قتادة: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ قبلك يا أكرم الرسل فِي الْأَوَّلِينَ (٦) أي في الأمم الماضية وَما يَأْتِيهِمْ أي والحال أنه ما يأتي الأولين يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) أي أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب لأن المصيبة إذا عمّت خفت، فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنّا أهلكنا أشد قوة من أهل مكة الذين يستهزئون بك، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) أي سبق في القرآن مرارا ذكر صفة الأولين في
وقرأ الكوفيون مهدا والباقون مهادا وهذا الموصول ابتداء الكلام من الله تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته أي هو الذي إلخ.
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها أي الأرض سُبُلًا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، ولتهتدوا بالتفكير فيها إلى التوحيد والدين الحق
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم، لا كما أنزل على قوم نوح حتى أغرقهم فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي فأحيينا بذلك الماء مكانا خاليا من النبات.
كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من قبوركم أحياء فهذا الدليل كما يدل على قدرته تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي أصناف المخلوقات كُلَّها وقيل كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت، واليمين واليسار، والقدّام والخلف، والماضي والمستقبل، والذوات والصفات، والصيف والشتاء، والربيع والخريف، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ أي الإبل ما تَرْكَبُونَ (١٢) أي ما تركبونه لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ أي ركبتم عَلَيْهِ بأن تعرفوا أن الله تعالى خلق البحر، والرياح، والسفن، والإبل، وتعرفوا أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى، وتشتغلوا بالشكر للنعم التي لا نهاية لها، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) أي ليس لنا من القوة أن نضبط هذه الدابة والفلك، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) أي راجعون من الدنيا إلى دار البقاء كما
يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله تعالى: لَمُنْقَلِبُونَ».
وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما رأى رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال له: ما بهذا أمرت. أمرت أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثا، ثم يقول: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» ثم قال: «اللهم إني أسألك في سفري البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر وأطوعنا بعد الأرض اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة على
«١». وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي أثبتوا أي بنو مليح له تعالى ولدا هو عبد من عباده إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أي لمبالغ في الكفر ظاهر الكفر أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) أي بل اتخذ من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما، وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أي وإذا أخبر أحد بني مليح بالبنت التي جعلها للرحمن شبها صار وجهه أسود من أحزان ما أخبر به، والحال أنه مغموم.
أفيرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟
وقرئ «مسود» و «مسواد» واسم «ظل» إما ضمير يعود إلى أحد وجملة وجهه مسود من المبتدأ والخبر، خبرها وإما وجهه فسمود خبر مبتدأ مقدر أي هو مسود فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) أي أو جعلوا من عاداتها أن تربى في الزينة من الذهب والفضة ولدا لله، فالتي تتربى في الزينة تكون ناقصة الذات إذ لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت في تكميل نفسها إلى الزينة، والحال أنها إذا احتاجت إلى المخاصمة عجزت عن إقامة الحجة لضعف لسانها، وقلة عقلها، وبلادة طبعها، وهي النساء، فكيف يليق أن يكن بنات الله تعالى؟ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضم الياء وفتح النون والباقون بفتح الياء وسكون النون.
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة أكرم العباد على الله أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا، فالقول بأن الملائكة إناث كفر. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» أي وحكموا بأن الملائكة الذين يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار إناث فكيف عرفوا كونهم إناثا؟
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم، فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم. وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزتين مفتوحة ومضمومة وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفا أي أأحضروا خلقهم. أي حين خلقهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ في ديوان أعمالهم وهي قولهم:
«إن لله جزءا وان له بنات وإنها الملائكة. وَيُسْئَلُونَ (١٩) عنها يوم القيامة، وَقالُوا أي بنو مليح لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي لو شاء الله عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم فما فعلناه من عبادتنا إياهم حق مرضي عنده تعالى، ما لَهُمْ بِذلِكَ أي القول
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) أي هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يتمسكوا به، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) أي لم يأتوا بحجة عقلية، أو نقلية، بل اعترفوا بتقليد آبائهم الجهلة، وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على حالة عظيمة تقصد، وإنا مهتدون على أعمالهم وَكَذلِكَ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد. ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي ما أرسلنا نبيا مخوفا من قبلك إلى أهل قرية إلا قال من يحبون الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق قولا مثل قول قومك: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة تستحق أن تقصد، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ أي أعمالهم مُقْتَدُونَ (٢٣) قل: يا أشرف الرسل لقومك، قال أبو السعود صيغة الأمر أمر ماض متعلق بالنذير السابق، حكاه الله لنبيه على تقدير «فقلنا له قل» لا أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك أنه قرأ ابن عامر وحفص «قال» بصيغة الماضي أي قال كل نذير لأممهم: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أوضح في الدلالة من دين آبائكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) أي قال: إنّا كل أمة لنذيرها ثابتون على دين آبائنا وان جئتنا بما هو أصوب، فإنّا بما أرسلت به منكرون وإن كان ما جئتنا به أوضح مما كنا عليه. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) بالرسل من الأمم الماضية فلا تكترث بتكذيب قومك، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أي أنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني، وبراء مصدر، نعت به مبالغة وقرأ الزعفراني، وابن المنادي بضم الباء، وقرأ الأعمش إني بريء بنون واحدة وبصيغة اسم الفاعل. فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) أي يثبتني على الهداية، والسين للتأكيد، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده، فقوله عليه السلام:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جار مجرى لا إله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جار مجرى إلّا الله، فكان مجموع قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جاريا مجرى قوله: لا إله إلّا الله، وعلى هذا لا يوقف على قوله: مِمَّا تَعْبُدُونَ وقرئ «كلمة» و «في عقبه» بسكون اللام وسكون القاف.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي بل متعت منهم أهل مكة، وَآباءَهُمْ بطول العمر وسعة الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) أي ظاهر الرسالة يوضحها بما معه من الآيات والمعجزات فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولذا قال تعالى: وَلَمَّا
أي القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ أي خيال وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) فكفروا بالقرآن واستحقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين مكة، والطائف عَظِيمٍ (٣١) في المال والجاه فالذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي نبوة ربك لمن شاءوا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الرزق دَرَجاتٍ أي متفاوتة لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة، والضعف، والعلم، والجهل، والحذاقة، والبلاهة، والشهرة، والخمول فلو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا، وحينئذ يفضى ذلك إلى فساد نظام الدنيا، وخراب العالم، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا في أحوال الدنيا مع دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض العباد بمنصب النبوة، فكما فضلنا بعضهم كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ من النبوة وسعادة الدارين خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) من الأموال، فالعظيم من حاز النبوة لا من حاز الأموال الكثيرة وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر- إذا رأوا أهل الكفر في سعة من الرزق لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه- لأعطينا الكافرين أكثر الأسباب المفيدة للتنعم ولجعلنا سقف بيوتهم من فضة، ومصاعد من فضة يرتقون عليها، وأبواب بيوتهم من فضة، وسررا من فضة ينامون عليها وَزُخْرُفاً أي زينة من كل شيء في كل شيء، وهو معطوف على «سقفنا»، ويجوز أن يكون معطوفا على محل فضة، أي جعلنا بعض هذه الأشياء فضة، وبعضها ذهبا.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «سقفنا» بفتح السين وسكون القاف، والباقون بضمهما، وقرئ معاريج وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة «لما» بتشديد الميم، فهو بمعنى إلا و «إن» نافية كما في قراءة أبي وما ذلك أي وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، والباقون بالتخفيف ف «ما» زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة، واللام فارقة أي وأنه كل ذلك متاع الحياة.
وقرئ بكسر اللام وهي تعليل و «ما» موصولة قد حذف عائدها أي للّذي هو متاع الحياة وَالْآخِرَةُ أي ما فيها من فنون النعم عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) أي عن الكفر والمعاصي، فإن العظيم هو العظيم في الآخرة ولا في الدنيا وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بضم الشين أي ومن يعرض عن القرآن وقرئ «يعش» بفتح الشين أي يعم، وبالكسر أي يميل وقرئ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، والمعنى ومن يعرف أن القرآن حق وهو يتجاهل نُقَيِّضْ لَهُ أي نضم إليه شَيْطاناً فَهُوَ أي الشيطان لَهُ قَرِينٌ (٣٦) في الدنيا وفي النار.
قالَ أي العاشي مخاطبا لشيطانه يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي ليت حصل بيني وبينك في الدنيا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) أنت فكثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا فظهر أن قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ كلام فاسد، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) وفاعل ينفع أما «أنكم» ومدخولها و «إذ ظلمتم» أما بدل من اليوم والمعنى «ولن ينفعكم اليوم» إذ تبين الآن عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالإشراك بالله كونكم مشتركين في العذاب، بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: ٦٨]، وأما مضمر يعود إلى التمني و «إذ ظلمتم» تعليل لنفي النفع وكذلك «أنكم» بفتح الهمزة ويؤيد هذا الاحتمال قراءة ابن عامر في رواية إنكم بكسر الهمزة، والمعنى ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم لمباعدتهم لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي لأن حقكم أن تشركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) أي أفأنت وحدك من غير إرادتنا تسمع الصم الحق وتهدي من تمرنوا في الضلال إلى الهدى أي انهم بلغوا في النفرة عن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمين فإن صممهم وعماهم كانا بسبب كونهم في كفر بيّن
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أي فإن قبضناك قبل نزول النقمة بهم فإنّا منتقمون منهم بعد موتك في الدنيا والآخرة، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) أي أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فلا يعوقنا عائق لأنّا قادرون على عذابهم قبل موتك وبعده، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه، وقرئ أوحي بالبناء للفاعل وهو الله تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) لا يميل عنه إلا ضال في الدين، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي وأن الّذي أوحي إليك لموجب شرفا عظيما لك، ولقريش حيث يقال: إن هذا الكتاب أنزله الله تعالى على رجل متهم، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) هل أديتم شكر أنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ
(٤٥) أي واسأل مؤمني أهل التوراة والإنجيل هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم بأمرنا فإنهم يخبرونك عن كتب الرسل فإذا سألتهم فكأنك سألت الأنبياء فما جاءت الرسل إلّا بالتوحيد فلم يسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان موقنا بذلك، وإذا كان التوحيد متفقا عليه بين الرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا، وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي قومه فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) إليكم فقالوا له: ائت بآية فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي إلّا وهي أعظم من الآية التي كانت قبلها في زعم الناظر وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بأنواع العذاب كالدم، والقمل، والضفادع، والبرد الكبار ملتهبا بالنار، وموت الأبكار لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) أي لكي يرجعوا عن كفرهم إلى الإيمان وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أي العالم الماهر- يوقرونه عليه السلام بذلك القول لاستعظامهم على السحر- ادْعُ لَنا رَبَّكَ ليكشف عنّا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بالّذي عهد لك وكان عهده لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) أي لمؤمنون بك وبما جئت به، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته عليه السلام إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) عهدهم في كل مرة من مرات العذاب أي فكانوا يتوبون في كل واحدة من العذاب فإذا انكشف عنهم نقضوا العهد بالإيمان،
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ أي فيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ أربعين فرسخا في أربعين فرسخا؟ قال: مجاهد هي الاسكندرية، وَهذِهِ الْأَنْهارُ التي فصلت من النيل ومعظمها أربعة أنهر نهر: الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت قصري أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) ذلك، فقد احتج فرعون على فضيلة نفسه بكثرة أمواله وقوة جاهه أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي بل أنا خير من موسى الذي هو فقير ضعيف الحال لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) أي يظهر حجته التي تدل على صدقة فيما يدعي فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي فهل ألقي على موسى من عند مرسله مقاليد الملك إن كان صادقا في دعواه لأن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا رئيسا ألبسوه سوارا من ذهب وطوقا من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة. وقرأ حفص أسورة، والباقون أساورة، وقرئ ألقى عليه اسورة وأساورة على البناء للفاعل، وهو الله تعالى أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) أي أو هلا جاء الملائكة ماشين مع موسى فيدلون على صحة نبوته فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي فطلب فرعون من قومه الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به، فَأَطاعُوهُ فيه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) حيث سارعوا إلى طاعة ذلك الجاهل الفاسق، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما أغضبوا نبيّنا موسى، ومالوا إلى إرادة عقابنا بالإفراط في العصيان عاقبناهم،
روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال عبد الله بن الزبعري: هذا خاصة لنا ولآلهتنا، أو لجميع الأمم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله: خصمتك ورب الكعبة، أليس النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية.
وعبد الله هذا صحابي مشهور، وهذه القصة كانت قبل إسلامه، وقرأ نافع وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة.
فقولهم: أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح، قالوا: إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا: يجب عبادة هذه الأصنام، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أ
عبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام.
ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج، فإن قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام.
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) أي ولو
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي وأن عيسى لشرط من أشراط الساعة، والمعنى: وأن نزول عيسى من السماء علامة على قرب الساعة.
وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح العين واللام أي علامة، وقرئ «للعلم»، وقرأ أبي «لذكر» وفي الحديث: أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس صلاة الصبح، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلّي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع، والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي فلا تشكن في وقوع الساعة وَاتَّبِعُونِ أي واتبعوا هداي أو رسولي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) أي الّذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) أي موصل إلى الحق وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) أي أنه قد بانت عداوته لكم لأجل أنه هو الّذي أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور، وَلَمَّا جاءَ عِيسى إلى بني إسرائيل بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات وبالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي بأصول الدين لأعلمكم إياها وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وهي فرع الدين، فإن قوم موسى قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكليف، واتفقوا على أشياء، فجاء عيسى ليبين لهم الحق في المسائل الخلافية. أما اختلافهم في الأشياء التي لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها فَاتَّقُوا اللَّهَ في الإعراض عن دينه وَأَطِيعُونِ (٦٣) فيما أبلغه إليكم من التكاليف. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بالشرائع واعتقدوا وحدانيته تعالى أي التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) لا يضل سالكه، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي فاختلف الطوائف في عيسى بعد رفعه إلى السماء اختلافا ناشئا منهم، فقال اليعقوبية:
هو الله. وقال النسطورية: هو ابن الله. وقال الملكانية: هو شريك الله. وقال المرقوسية: هو ثالث ثلاثة. وقال اليهود: هو ابن زنا. فَوَيْلٌ أي شدة عذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء المختلفين الذين وضعوا القول في غير موضعه مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) ف «إن تأتيهم» بدل من الساعة أي ما ينتظر الناس إلا إتيان الساعة فجأة غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧) أي المتحابون في الدنيا بعضهم عدو لبعض يوم إذ تأتيهم الساعة إلّا الموحّدين الذين يتحاب بعضهم بعضا على التقوى فإن مودتهم لا تصير عداوة، فإن الذين حصلت بينهم محبة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا ولذاتها فهذه المطالب لا
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في قصاع من ذهب وكيزان من ذهب، وَفِيها أي الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من الأشياء المعقولة، والمسموعة، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ من الأشياء المبصرة جزاء ما لا تحملوه من منع أعينهم من نظر ما لا يجوز شرعا.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات العائد على الموصول، والباقون بحذفه وقرئ و «تلذه» بالهاء.
وَأَنْتُمْ فِيها أي الجنة خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) أي أعطيتموها جزاء على عملكم الصالح في الدنيا لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) فلا تنفد أبدا. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) خبر «إن» و «في عذاب» متعلقة به لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا ينقص العذاب عنهم وَهُمْ فِيهِ أي العذاب مُبْلِسُونَ (٧٥) أي آيسون من النجاة. وقرأ عبد الله «وهم فيها» أي في جهنم وهذه جملة حالية، وَما ظَلَمْناهُمْ بعذابهم، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) لا، قبال أنفسهم للعذاب الخالد بقصدهم عدم الانفكاك عن الكفر ما بقوا في الدنيا، ف «الظالمين» خبر كان، وقرأ عبد الله وأبو زيد «الظالمون» على أنه خبر ل «هم» والجملة خبر كان، وَنادَوْا خازن النار يا مالِكُ. قرأ ابن مسعود «يا مال» بحذف الكاف، وهذا دليل على أنهم بلغوا في الضعف إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، والمعنى: سل ربك أن يميتنا لنستريح من العذاب، وهذا تمن للموت لشدة عذابهم. قالَ أي مالك بعد أربعين سنة كما قاله عبد الله بن عمر، وقيل: الضمير يعود
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) لذلك الولد، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته، بل الدليل القاطع قائم على عدمه، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم: إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام، والباقون بفتحهما سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) من أن له ولدا فَذَرْهُمْ أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي فَذَرْهُمْ أي يفعلوا في أباطيلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب، وهو يوم القيامة، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي وهو الّذي هو معبود في السماء، ومعبود في الأرض، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء، فامتنع كونه ولدا له تعالى، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥). وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد، وقرئ «تحشرون» بالتاء.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.
حيث قالوا: إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وَقِيلِهِ قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله، أو عطف على «سرهم»، أو على محل الساعة، وقرأ عاصم، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم، وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة»، أو مبتدأ وخبره ما بعده يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) بك وبرسولك قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي فأعرض عنهم بغير التبليغ، وبالدعاء عليهم بالعذاب، وَقُلْ سَلامٌ أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني، وسلامتي منكم، فهذا تباعد منهم، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩) ما يفعل بهم.
وقرأ نافع، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد، والتقريع، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.