مكية إلا آية ٥٤ فمدنية وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى
ﰡ
مكية إلا آية ٥٤ فمدنية وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الزخرف) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني القرآن، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن، أو المبيّن لغيره وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أم الكتاب، اللوح المحفوظ، والمعنى: أن القرآن وصف في اللوح بأنه عليّ حكيم، وقيل: المعنى أن القرآن نسخ بجملته في اللوح المحفوظ، ومنه كان جبريل ينقله، فوصفه الله بأنه علي حكيم لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ. والأول أظهر وأشهر أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً الهمزة للإنكار والمعنى:
أنمسك عنكم الذكر، ونضرب من قولك: أضربت عن كذا: إذا تركته، والذكر يراد به:
القرآن، أو التذكير، والوعظ. وصفحا فيه وجهان: أحدهما أنه بمعنى الإعراض، تقول:
صفحت عنه إذا أعرضت عنه فكأنه قال: أنترك تذكيركم إعراضا عنكم؟ وإعراب صفحا على هذا مصدر من المعنى، أو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران، فكأنه يقول: أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم؟ وإعراب صفحا على هذا مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط، والجواب في الكلام الذي قبله، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ، فإن قيل: كيف قال: إن كنتم على الشرط بحرف إن التي معناها الشك، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف، وتجهيلهم في ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا.
خلقهن الله، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم، وأما قوله: الذي جعل لكم فهو من كلام الله لا من كلامهم مِهاداً «١» أي فراشا على وجه التشبيه سُبُلًا أي طرقا تمشون فيها ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار ووزن معلوم وقيل: معناه بقضاء كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تمثيل للخروج من القبور بخروج النبات من الأرض الْأَزْواجَ كُلَّها يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ الضمير يعود على ما تركبون ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان، ويحتمل أن يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الإطلاق، وكان بعض السلف إذا ركب دابة يقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ثم يقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وغالبين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ اعتراف بالحشر فإن قيل: ما مناسبة هذا للركوب؟
فالجواب: أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة، أو سقوطه عن الدابة، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعدا للموت الذي قد يعرض له، وقيل يذكر عند الركوب ركوب الجنازة، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، وفي له لله تعالى، وهذا الكلام متصل بقوله: ولئن سألتهم الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا دون سائر عباده. وقال الزمخشري:
معناه أنهم جعلوا الملائكة جزءا منه وقال بعض اللغويين: الجزء في اللغة الإناث واستشهد على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أم للإنكار والرد على الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله ومعنى أصفاكم: خصكم. أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهن أدنى، وأصفاكم بالبنين وهم أعلى «٢»
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي إذا بشر بالأنثى، وقد ذكر هذا
(٢). هذا حسب معايير الزمان الجاهلي، أما اليوم فالأمر مختلف.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ المراد بمن ينشأ في الحلية النساء، والحلية هي الحلي من الذهب والفضة، وشبه ذلك. ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها. وقرئ «١» ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يربّى فيها، والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله. كأنه قال: أجعلتم لله من ينشأ في الحلية وذلك صفة النقص، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله: وهو في الخصام غير مبين، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجّتها لنقص عقلها، وقلّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره: أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، فحكى عنهم ثلاثة أقوال شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون البنين، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وقرئ «٢» عند الرحمن بالنون، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم كقوله والذين عند ربك، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضا الاختصاص والتشريف أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «٣» هذا ردّ على العرب في قولهم: إن الملائكة إناث، والمعنى لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة، ويسألون عنها يوم القيامة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ الضمير في قالوا للكفار، وفي عبدناهم للملائكة، وقال ابن عطية للأصنام: والأول أظهر وأشهر، والمعنى:
احتجاج احتجّ به الذين عبدوا الملائكة، وذلك أنهم قالوا: لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم، فكونه يمهلنا وينعم علينا: دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم، ثم رد الله عليهم بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني أن قولهم بلا دليل وحجة، وإنا هو تخرّص منهم أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن، وهذا أيضا رد عليهم لكونهم ليس لهم كتاب يحتجون به بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وطريقة، والمعنى أنهم ليس لهم حجة، وإنما هم مقلدو آبائهم
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية المعنى كما اتبع
(٢). قرأ نافع وابن عامر وابن كثير: عند الرحمن وقرأ الباقون: عباد الرحمن.
(٣). قرأ نافع أأشهدوا.
إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة، ولذلك استوى فيها الواحد والجماعة كعدل وشبهه إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي يحتمل أن يكون استثناء منقطعا، وذلك إن كانوا لا يعبدون الله، أو يكون متصلا إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، وإعرابه على هذا بدل مما تعبدون فهو في موضع خفض، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب سَيَهْدِينِ قال هنا: سيهدين، وقال مرة أخرى: فهو يهدين، ليدل على أن الهداية في الحال والاستقبال [من الله] وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه السلام، وقيل على الله تعالى، والأول أظهر، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي: إنني براء مما تعبدون، ومعناه: التوحيد، ولذلك قيل: يعود على الإسلام لقوله: هو سماكم المسلمين من قبل، وقيل: يعود على لا إله إلا الله، والمعنى متقارب:
أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الإشارة بهؤلاء إلى قريش، وهذا الكلام متصل بما قبله، لأن قريشا من عقب إبراهيم عليه السلام، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم، بل متعتهم بالنعم والعافية، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الضمير في قالوا لقريش، والقريتان مكة والطائف، ومن القريتين: معناها من إحدى القريتين، كقولك: يخرج منهما
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية: تحقير أيضا للدنيا، ومعناها لولا أن يكفر الناس كلهم، لجعلنا للكفار سقفا من فضة، وذلك لهوان الدنيا على الله، كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء «١» وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ المعارج: الأدراج والسلالم، ومعنى يظهرون يرتفعون، ومنه «فما استطاعوا أن يظهروه» والسرر جمع سرير، والزخرف الذهب «٢»، وقيل أثاث البيت من الستور والنمارق، وشبه ذلك وقيل: هو التزويق والنقش وشبه ذلك من التزيين كقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: ٢٤] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يعش من قولك: عشي الرجل إذا أظلم بصره، والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة، وقال الزمخشري: يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه، ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين
(٢). قوله: لما متاع قرأ عاصم وحمزة بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الضمير في إنهم للشياطين، وضمير المفعول في يصدونهم لمن يعش عن ذكر الرحمن، وجمع الضميرين لأن المراد به جمع حَتَّى إِذا جاءَنا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر جاءانا بضمير الاثنين وهما من يعش وشيطانه، وقرأ الباقون بغير ألف على أنه ضمير واحد وهو من يعش، والضمير في قال: لمن يعش، وقيل:
للشيطان بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فيه قولان. أحدهما أنه يعني المشرق والمغرب، وغلّب أحدهما في التشبيه، كما قيل: القمران، والآخر: أنه يعني المشرقين والمغربين، وحذف المغربين لدلالة المشرقين عليه وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا كلام يقال للكفار في الآخرة، ومعناه أنهم لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا، إذا رأى غيره قد أصابه مثل الذي أصابه، والفاعل في ينفعكم قوله: «إنكم في العذاب مشتركون»، وإذ ظلمتم: تعليل معناه: بسبب ظلمكم، وقيل: الفاعل مضمر، وهو التبري الذي يقتضيه قوله: «يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين» وأنكم على هذا تعليل، والأول أرجح أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالصم والعمي الكفار إذ كانوا لا يعقلون براهين الإسلام فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، ومقصد الآية وعيد للكفار، والمعنى إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم فإنا سننتقم منهم بعد وفاتك، وإن أخرنا وفاتك إلى حين الانتقام منهم فإنا عليهم مقتدرون، وهذا الانتقام يحتمل أن يريد به قتلهم يوم بدر، وفتح مكة وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا، أو يريد به عذاب الآخرة، وقيل: إن الضمير في منهم منتقمون للمسلمين، وأن معنى ذلك أن الله قضى أن ينتقم منهم بالفتن والشدائد، وإنه أكرم نبيه عليه السلام بأن توفاه قبل أن يرى الانتقام من أمته، والأول أشهر وأظهر.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الضمير في إنه للقرآن أو للإسلام، والذكر هنا بمعنى
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الرسل المتقدّمين وهو لم يدركهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول أنه رآهم ليلة الإسراء. الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك. الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة، وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله، بحيث لو سألوا: هل مع الله آلهة يعبدون لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها الآيات هنا المعجزات كقلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء وقيل: البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر ومعنى أكبر من أختها أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على غيرها من الآيات، إنما المعنى أنها إذا نظرت وجدت كبيرة، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة فهو كقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص أو غيره] :
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم | مثل النجوم التي يسري بها الساري |
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ ظاهر كلامهم هذا التناقض، فإن قولهم: يا أيها الساحر يقتضي تكذيبهم له، وقولهم: ادع لنا ربك يقتضي تصديقه، والجواب من وجهين:
أحدهما أن القائلين لذلك كانوا مكذبين، وقولهم ادْعُ لَنا رَبَّكَ يريدون على قولك وزعمك، وقولهم: إننا لمهتدون وعد نووا خلافه، والآخر: أنهم كانوا مصدّقين، وقولهم:
يا أيها الساحر إما أن يكون عندهم غير مذموم، لأن السحر كان علم أهل زمانهم، وكأنهم قالوا: يا أيها العالم، وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ يحتمل أنه ناداهم بنفسه أو أمر مناديا ينادي فيهم قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ قصد بذلك الافتخار على
أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مذهب سيبويه أن أم هنا متصلة معادلة، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون، ثم وضع قوله: أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فإنهم عنده بصراء، وهذا من وضع السبب موضع المسبب، وكان الأصل أن يقول:
فلا تبصرون أم تبصرون، ثم اقتصر على أم وحذف الفعل الذي بعدها واستأنف قوله: أنا خير على وجه الإخبار. ويوقف على هذا القول على أم وهذا ضعيف وقيل أم بمعنى بل فهي منقطعة مَهِينٌ أي ضعيف وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت قد أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا أن تحل أجيبت دعوته وبقي منها أثر كان معه لكنة، وقيل: يعني العيّ في الكلام، وقوله: ولا يكاد يبين: يقتضي أنه كان يبين، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإثبات فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ «١» يريد لولا ألقاها الله إليه كرامة له ودلالة على نبوّته، والأسورة جمع سوار وأسوار، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي، وكان الرجال حينئذ يجعلونه مُقْتَرِنِينَ أي مقترنين به لا يفارقونه، أو متقارنين بعضهم مع بعض ليشهدوا له ويقيموا الحجة فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي طلب خفتهم بهذه المقالة واستهوى عقولهم آسَفُونا أي أغضبونا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ السلف بفتح السين واللام جمع سالف، وقرأ حمزة والكسائي: سلفا بضمها جمع سليف ومعناه متقدم: أي تقدم قبل الكفار ليكون موعظة لهم، ومثلا يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «٢» روي عن ابن عباس وغيره في تفسيره هذه الآية: أنه لما نزل في القرآن ذكر عيسى ابن مريم والثناء عليه، قالت قريش: ما يريد محمد إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا، حكى ذلك ابن عطية والذي ضرب المثل على هذا هو الله في القرآن، ويصدون بمعنى يعرضون، وقال الزمخشري: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
(٢). يصدون قرأ نافع وابن عامر والكسائي بضم الدال وقرأ الباقون: يصدّون بكسرها. [.....]
فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: ١٠١]، ونزلت هذه الآية، فالمعنى على هذا: لما ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا وجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة النصارى إياه، إذا قريش من هذا المثل يصدون: أي يضحكون ويصيحون من الفرح، وهذا المعنى إنما يجري على قراءة يصدون بكسر الصاد بمعنى الضجيج والصياح.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ «١» يعنون بهو عيسى، والمعنى أنهم قالوا آلهتنا خير أم عيسى، فإن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، لأنه خير من آلهتنا، وهذا الكلام من تمام ما قبله على ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية التي قبله، وأما على ما ذكر ابن عطية فهذا ابتداء معنى آخر، وحكى الزمخشري في معنى هذه الآية قولا آخر: وهو أنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة، وقالوا آلهتنا وهم الملائكة خير أم عيسى فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل: إن قولهم أم هو: يعنون به محمدا صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. قالوا: أآلهتنا خير أم هو يريدون تفضيل آلهتهم على محمد والأظهر أن المراد بهو عيسى وهو قول الجمهور، ويدل على ذلك تقدم ذكره ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإنسان أن يغلب من يناظره سواء غلبه بحق أو بباطل، فإن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى: حصب جهنم، ولكنهم أرادوا المغالطة، فوصفهم الله بأنهم قوم خصمون إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ يعني عيسى والإنعام عليه بالنبوة والمعجزات، وغير ذلك وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ في معناها قولان: أحدهما لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون فيها بني آدم، فقوله منكم يتعلق ببدل المحذوف أو بيخلفون، والآخر لو نشاء لجعلنا منكم، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلق من أولاد الناس ملائكة فلا تنكروا أن خلقنا عيسى من غير والد، حكى ذلك الزمخشري.
أَمْ يَحْسَبُونَ الآية: روي أنها نزلت في
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ في تأويل الآية أربعة أقوال: الأول أنها احتجاج وردّ على الكفار، على تقدير قولهم، ومعناها لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد كما يعظم خدم الملك ولد الملك لتعظيم والده، ولكن ليس للرحمن ولد، فلست بعابد إلا الله وحده، وهذا نوع من الأدلة يسمى دليل التلازم لأنه علق عبادة الولد بوجوده، ووجوده محال فعبادته محال، القول الثاني إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله وحده، وكذبكم في قولكم أن له ولدا، والعابدين على هذين القولين بمعنى العبادة، القول الثالث أن العابدين بمعنى المنكرين: يقال عبد الرجل إذا أنف وتكبر وأنكر الشيء، والمعنى: إن زعمتم أن للرحمن ولدا فأنا أول المنكرين لذلك، وإن على هذه الأقوال الثلاثة شرطية، القول الرابع قال قتادة وابن زيد: إن هنا نافية بمعنى ما كان للرحمن ولد وتم الكلام، ثم ابتدأ قوله فأنا أول العابدين، والأول هو الصحيح لأنه طريقة معروفة في البراهين والأدلة، وهو الذي عوّل عليه الزمخشري، وقال الطبري: هو ملاطفة الخطاب ونحوه قوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
٢٤] وقال ابن عطية منه قوله تعالى في مخاطبة الكفار أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: ٢٧] يعني شركائي على قولكم فَذَرْهُمْ الآية موادعة منسوخة بالسيف.
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي هو الإله لأهل الأرض وأهل السماء، والمجرور يتعلق بإله، لأن فيه معنى الوصفية وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم زمان وقوعها وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أي لا يملك كل من عبد من دون الله أن يشفع عند الله، لأن الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فهو المالك للشفاعة وحده إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع، والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه، ويحتمل على هذا أن يكون من شهد مفعولا بالشفاعة على إسقاط حرف الجر تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ القيل مصدر كالقول، والضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرئ قيله بالنصب والخفض «١» وقرئ في غير السبع بالرفع، فأما النصب فقيل هو معطوف على سرهم ونجواهم، وقيل: هو معطوف على موضع الساعة لأنها مفعول أضيف إلى المصدر وقيل: معطوف على مفعول محذوف تقديره: يكتبون أقوالهم وقيله، وأما الخفض فقيل:
إنه معطوف على لفظ الساعة، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله بالحق، وأما على الرفع فقيل: إنه مبتدأ وخبره ما بعده، وضعّف الزمخشري ذلك كله وقال: إنه من باب القسم فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم كقولك: الله لأضربنّ زيدا والرفع كقولهم:
أيمن الله ولعمرك، وجواب القسم قوله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قال: أقسم بقيله أن هؤلاء قوم لا يؤمنون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف وَقُلْ سَلامٌ تقديره أمري سلام:
أي مسالمة، وقيل سلام عليكم على جهة الموادعة وهو منسوخ على الوجهين فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «٢» تهديد.
(٢). قرأ نافع وابن عامر: تعلمون بالتاء وقرأ الباقون: يعلمون بالياء.