ﰡ
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وثمانون آية.
وهي تدور حول الكلام على القرآن ونقاش المشركين، والاستدلال على وجود الله وصفاته بآثاره ونعمه على الناس. وتمتاز هذه السورة بتعداد أباطيلهم ومعتقداتهم الفاسدة والرد عليهم بما يفحمهم ثم الاستشهاد ببعض الرسل السابقين كموسى وعيسى.
مع التعرض لأحوال يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين والكافرين إلى غير ذلك من الآيات والحكم القرآنية.
القرآن الحكيم وقريش [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
أُمِّ الْكِتابِ المراد: اللوح المحفوظ فإنه أم الكتب السماوية، أى: أصلها أَفَنَضْرِبُ: أفننحي عنكم القرآن ونمسكه مُسْرِفِينَ: منهمكين في الإسراف وتجاوز الحد بَطْشاً: قوة وشدة وَمَضى: سبق مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: صفتهم العجيبة التي تشبه المثل في الغرابة صَفْحاً أى: إعراضا، يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، والأصل فيه أن يقال: أعرضت عنه إذا أوليته صفحة عنقي.
المعنى:
حم. أقسم ربك بالكتاب المبين إنا جعلنا ما أنزل عليك وصيرناه قرآنا عربيا غير ذي عوج في لفظه أو معناه كي تعقلوا وتفكروا فيه تفكيرا سديدا لتعلموا أنه من عند الله لا من عند محمد.
أقسم الله بالكتاب لفتا لنظر الناس إليه وبيانا لعظمته المقتضية لأن يقسم الله به، ووصفه بالإبانة لأنه أبان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وكان المقسم عليه كونه قرآنا عربيا لإثبات أنه وارد على أساليب العرب فلا يعسر عليهم فهمه وإدراك أسراره وإعجازه ولذا ختم الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ويقول الآلوسي في تفسيره: والقسم بالقرآن على ذلك من الأيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به: ولا أهم من وصفه فيقسم عليه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [سورة الواقعة آية ٧٦].
إن هذا القرآن في أم الكتاب لدى الحق- تبارك وتعالى- لعلى ورفيع الشأن وكبير المقام بالنسبة لغيره وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة آية ٤٨]، وإنه لعلىّ حكيم ذو حكمة بالغة.
هذا كلام مع مشركي مكة أولا ومع الناس جميعا بعدهم، فالخطاب لهم وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، هؤلاء المشركون كانوا مسرفين في الإنكار والتكذيب، وكلما زادهم الرسول دعاء ازدادوا نفورا واستكبارا، فقال الحق لهم:
أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ على معنى أنهملكم فننحى «٢»
عنكم الذكر، أى: القرآن ونبعده؟! لا. لن يترككم الله أبدا بل سيظل ينزل عليكم القرآن ويهديكم إلى سبيل الرشاد فربما جاء منكم قوم يؤمنون بالله ورسوله، وقد كان فهدى الله بعضهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأتم الله النعمة وأكمل الدين ورضيه للناس دينا أساسيا هو دين الحق.
ولا تعجب يا محمد من حالهم فتلك سنة الله في الخلق جميعا من يوم أن خلق الله الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكثيرا من الرسل أرسلناهم في الأمم السابقة، وما أتاهم من رسول أو نبي إلا كانت أمته تكذبه وتستهزئ به، فنملى لهم نوعا ما حتى إذا استيأس الرسل أهلكناهم، ف أهلكنا من الأمم أقواما أشد من أمتك بطشا وقوة فلم يغن عنهم شيئا، وسبق في القرآن كثيرا ذكر أخبارهم التي أضحت كالمثل في الغرابة، فانظروا يا آل مكة كيف يكون موقفكم؟ واحذروا بطش العزيز الجبار إن بطش ربك لشديد!!
من نعم الله علينا [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
(٢) - يقول علماء البلاغة: في هذه الآية استعارة تمثيلية. شبه حال الذكر وقد نحى عنهم بحال غرائب الإبل. وقد نحيت عن الحوض إذا دخلت مع غيرها للشرب ثم استعمل اللفظ الدال على المشبه به في المشبه، وقيل: إنها استعارة تبعية في نضرب بمعنى ننحى.
مَهْداً: ممهدة كالبسط المفروشة سُبُلًا: طرقا بِقَدَرٍ: بتقدير فَأَنْشَرْنا: فأحيينا الْأَزْواجَ: الأصناف والأنواع مُقْرِنِينَ: مطيقين أو مماثلين في القوة، من قولهم: فلان قرن فلانا: إذا ماثله لَمُنْقَلِبُونَ انقلب:
انصرف.
المعنى:
أفنضرب عن المشركين الذكر صفحا لأنهم قوم مسرفون؟ ولئن سألنهم من خلق السموات والأرض؟ ومن خلق هذا الكون البديع: سماءه وأرضه؟ ليقولن مجيبين على ذلك: خلقه العزيز العليم، والظاهر أن هذه هي الإجابة المتعينة لا غيرها وليس معقولا أن يقولوا ذلك ويصفون الله بالعزة والعلم، وكأن القرآن يتعجب من حالهم: يؤمنون بأنه خالق ثم يشركون معه في العبادة غيره.
الله- جل جلاله- الذي خلق السموات والأرض هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة معدة للإقامة عليها مع تكورها وسرعة دورانها، وسلك لكم فيها سبلا وطرقا مائية وزراعية لعلكم بهذا تهتدون إلى وجود الصانع الحكيم، أو تهتدون إلى مقاصدكم ومصالحكم.
مثل ذلك الإخراج- أى: إخراج النبات الأخضر من الأرض الجدبة القاحلة- تبعثون من قبوركم أحياء للحساب.
وهو الذي خلق الأزواج كلها وأصناف المخلوقات جميعا، ما نعلمه ومالا نعلمه، وجعل لكم من الفلك والأنعام- أى: الخيل والبغال والحمير- ما تركبون، ولعل السفن نوع من أنواع ما يركب، ورمز للباقي كالطائرة والسيارة وغيرهما مما اخترعه الإنسان لكي تستووا على ظهور ما تركبون، وتستقروا عليه ثم تذكرون نعمة ربكم الذي أنعم عليكم بهذا تذكرون بلسانكم معترفين مستعظمين بقلوبكم تلك النعم.
وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا لذلك مطيقين، بمعنى أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك، وإنما الله هو الذي سخر لنا هذا كله، وإنا إلى ربنا راجعون وصائرون.
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه أنه كان إذا وضع رجله في ركاب الدابة قال: «باسم الله- فإذا استوى قال- الحمد لله على كلّ حال سبحان الّذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. وإذا نزل قال: اللهمّ أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين».
ألوان من مفترياتهم وأباطيلهم والرد عليهم [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
جُزْءاً المراد: ولدا لأنه جزء من أبيه أَصْفاكُمْ: اختاركم وخصكم بالبنين مَثَلًا المراد: شبها. ظَلَّ وَجْهُهُ: صار كَظِيمٌ: مملوء غيظا يُنَشَّؤُا: يربى وينشأ ومنه النشء. والنشوء: التربية، وعليه قولهم: نشأت في بنى فلان الْحِلْيَةِ أى: الزينة فِي الْخِصامِ: في الجدال والنقاش يَخْرُصُونَ: يحدسون ويكذبون أُمَّةٍ الأمة لها معان والمراد منها هنا: الطريقة والمذهب.
ألم تر إلى أولئك المشركين حين يسألون: من الذي خلق السموات والأرض؟
يقولون: خلقهن العزيز العليم، يقولون هذا والحال أنهم جعلوا له جزءا من عباده! عجبا وأى عجب؟
جعلوا لله من عباده جزءا- أى: ولدا- ولعل تسمية الولد بالجزء لأنه قطعة من أبيه كما
قال العربي «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض»
. وإثبات الولد لله محال فإنه يستحيل على خالق السموات والأرض أن يكون له ولد إذ ليس له حاجة به فهو الغنى المتعالي عن الصاحبة والولد، على أن الولد جزء من الوالد، وما كان له جزء كان مركبا، فالله إذن مركب، والمركب بلا شك حادث إذ هو يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، وتلك كلها أمارة الحوادث فكيف يكون الإله القديم الأزلى الواحد في كل شيء له ولد؟! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ إن الإنسان الذي يقول بهذا السخف الخالي من الحجة لكفور بين الكفر.
والفخر الرازي- رحمه الله- يرى أن الأولى في الآية أن يكون معناها: وجعلوا له من عباده جزءا والباقي للشركاء وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سورة الأنعام آية ١٣٦].
فهم قد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله وبعضها للشركاء، والذي ساعده على هذا أن الآية التي بعدها لإنكار الولد وهذه لإنكار الشريك فتكون الآيات جامعة.
عجبا لهؤلاء يثبتون لله ولدا ثم بعد ذلك يقولون: إنه أنثى، فلو فرض أن له ولدا فإنه يمتنع أن يكون أنثى لأن الابن أفضل من البنت فكيف يتخذ البنات ويعطى لعباده البنين أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أى: جائرة، كيف يجعلون لله البنات وهم إذا بشر أحدهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الحزن والغم، وهو كظيم، ويتوارى من القوم من سوء ما بشر به، ولا يدرى ماذا يفعل في بنته أيمسكها على هون وذل أم يدسها في التراب ألا ساء ما يحكمون.. عجبا لهم إذا كان
هذا أيضا مما يستدعى العجب لأنه إثبات بلا دليل، وقول بلا برهان، إذ لا دليل عقلي ولا نقلي على ذلك فلم يبق إلا المشاهدة، وهم لم يشاهدوا خلقهم أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ستكتب تلك الشهادة عليهم، ويسألون عنها يوم القيامة.
وانظر إليهم، وهم يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، وهي حجة أملاها عليهم شيطانهم إذ قالوا: لو شاء الرحمن ما عبدنا الملائكة، وهم يقصدون أن الله شاء عبادتنا لهم بدليل وقوعها إذ لو لم يشأ منا ذلك لما وقع منا شرك، وإذا كانت مشيئته حاصلة فكيف يأمرنا بترك العبادة؟ وهو استدلال باطل بلا شك لأن المشيئة لا تستلزم الأمر إذ هي عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض وفقا لعلمه سواء كانت تلك الممكنات حسنة أم قبيحة، والله- سبحانه- يأمر بالخير ويحث عليه، وقد يشاء لنا غير ما أمرنا به: ونحن لا نعلم حقيقة مشيئته وإرادته حتى يتخلصوا من ذنوبهم وآثامهم! لا. ليس عندهم علم قبل وقوع الفعل أبدا إن هم إلا يظنون ويخرصون.
بل آتيناهم كتابا يدرسون فيه ما شئناه فهم به مستمسكون! لا. لا، فهؤلاء ليست لهم حجة عقلية ولا حجة نقلية تبرر لهم أفعالهم، وإنما السبب الحقيقي أنهم يقلدون آباءهم تقليد الأعمى مع التعصب الشديد ولو كانوا على باطل، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ طريقة ومذهب وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ.
ولا تذهب نفسك عليهم حسرات فتلك عادة قديمة في الأمم قبلهم، ومثل ذلك الذي تراه من تشبث المشركين بالتقليد الأعمى وترك الحجة والبرهان تراه كذلك مع الأمم السابقة إذ ما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي في قرية من القرى إلا قال مترفوها وأغنياؤها المنغمسون في المادة المتشبثون بالدنيا المغرورون بها فحقّا
«حب الدنيا رأس كل خطيئة»
إلا قالوا للرسول: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [سورة فصلت آية ٤٣].
وماذا كان جزاؤهم؟ كان الانتقام الشديد والعذاب الأليم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين، وانظروا يا أهل مكة كيف أنتم من هؤلاء؟
إنكارهم النبوة والرد عليهم مع بيان حقارة الدنيا [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
بَراءٌ: برىء فَطَرَنِي: خلقني عَقِبِهِ: ذريته الْقَرْيَتَيْنِ: هما الطائف ومكة، والرجلان هما الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف سُخْرِيًّا أى: مسخرا لقضاء المصالح سُقُفاً: جمع سقف وَمَعارِجَ: جمع معرج وهو درج السلم يَظْهَرُونَ: يرتقون ويعلون على السطح وَزُخْرُفاً: المراد به الزينة حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ قيل: هو الذهب خاصة يَعْشُ يقال عشا يعشو: إذا تعامى وتغافل، وفي القاموس:
العشا سوء البصر نُقَيِّضْ: نسبب له شيطانا الْمَشْرِقَيْنِ المراد: مشرق الشمس شرقا ومشرق القمر غربا الْقَرِينُ: الصاحب، والصديق.
المعنى:
لقد تقرر في الآيات السابقة أن حب التقليد داء عضال مرض به كثير من الأمم السابقة، وينشأ من تغلغل المادة في نفوس الناس، وجاء الإسلام ينعى على مشركي مكة تقليدهم لآبائهم تقليد الأعمى، وانغماسهم في المادة حتى جعلوها كل شيء، وهنا يحكى القرآن الكريم مقالة لإبراهيم الخليل أبى العرب الأول، حين تبرأ من دين آبائه
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى برىء منكم، وبرىء مما تعبدون من دون الله حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر، لكن الله خلقني فسوانى، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا، ويهديني حالا، إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ تقوم مقام قولك: (لا إله) وقوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي تقوم مقام (إلا الله) فكأنه قال: لا إله إلا الله، ومعلوم أن هذه- لا إله إلا الله- كلمة التوحيد، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «١»
جعلها كلمة باقية في عقبه، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد الله حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ على معنى: بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها، فالله- سبحانه وتعالى- لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى، وأرسل لهم رسلا حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أى: جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق، فانظر إلى هؤلاء المشركين: زادهم الله من نعمه وأمدهم بفضله، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا، فلما جاءهم الحق من عند الله قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون.
هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل، واعتقادهم أنها كل شيء، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند الله. قالوا: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا: النبوة والرسالة درجة رفيعة
يقسمون رحمة ربك؟! أنكر عليهم أنهم يقسمون رحمة الله وفضله على الناس، وأنى لهم ذلك؟ وهم أجهل الناس بأنفسهم فكيف يعرفون غيرهم ويعطونه حقه من الفضل؟! نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. وأعطينا هذا مالا وذاك أولادا، وهذا مالا ورجالا، وذلك فقير من المال والرجال. وكذلك في الصحة والنعم الأخرى، وكان العطاء والمنع لحكم الله يعلمها، لا لشيء آخر.
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات في الفضل والجاه وغيره فكانت النتيجة أنهم اتخذ بعضهم بعضا سخرياّ! كل يخدم نفسه، وإن كان في الظاهر يخدم غيره، ورحمة ربك الشاملة للنبوة وغيرها خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني.
هذه الدنيا وما فيها من أموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن لما أعطى الكافر منها جرعة ماء، وهي سجن المؤمن ومتاع غيره، والآخرة خير وأبقى، ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على ديدن الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم «٢»
سقفا من فضة، ومعارج من فضة كذلك عليها يعرجون ويصعدون، ويجعلون لبيوتهم أبوابا ولهم سرر عليها يتكئون وتكون من فضة خالصة، ويجعل لهم زينة في أثاثهم ومتاعهم وقصورهم ومراكبهم تتناسب مع كل زمان ومكان.
لولا أن يكون الناس كفارا لميلهم إلى الدنيا وزخارفها بطبعهم لجعل الله لهم ذلك هوانا للدنيا، وتحقيرا لشأنها، وأنها متاع فان لا قيمة له، ولذا قال ما معناه: وإن كل ذلك «٣»
إلا متاع الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، والجنة ونعيمها الدائم قد أعدت عند ربك للمتقين.
ولا عجب في ذلك فإن من يعش عن ذكر الرحمن، ويتعام عن النظر في القرآن ويصم أذنيه عن سماع الحق يقيض الله له شيطانا، ويهيئ له ذلك لأنه آثر العمى على
(٢) - لبيوتهم بدل من لمن يكفر بالرحمن.
(٣) - هذا الحل المعنوي يشير إلى أن لما بمعنى إلا، وإن بمعنى ما النافية، وفي قراءة: لما بالتخفيف، وعليه فما زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف، وأن هي المخففة من الثقيلة.
حتى إذا جاءنا الذي عشى عن الحق ورأى أنه كان على ضلال في كل عمله قال مخاطبا الشيطان الذي كان يعتقد أنه على حق في كل ما أمر به: يا ليت بيني وبينك بعدا لاحد له بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت.
ولن ينفعكم اليوم إذ تبين لكم أنكم ظلمتم، لن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون.
تقوية العزيمة [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
المفردات:
الصُّمَّ: جمع أصم، وهو من بأذنه صمم نَذْهَبَنَّ بِكَ المراد: قبضناك إلينا فَاسْتَمْسِكْ: تمسك لَذِكْرٌ لَكَ: شرف عظيم به تذكر.
لقد وصف الله الكفار بأن في أعينهم ضعفا في البصر، والمراد أنهم يتعامون عن الحق، وهنا وصفهم بالصمم والعمى فكان ترتيبا طبيعيا، وتصويرا رائعا لما عليه الإنسان عند أول اشتغاله بالدنيا وتعلقه بها، يكون كمن في عينه رمد بسيط ثم إذا أوغل فيها وتمكنت منه كان كالأعمى والأصم.
والمراد إنكار وتعجيب من أن يسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم مهما كان من في أذنه صمم وفي عينه عمى كان مستقرّا في الضلال المبين لا يفارقه ولو إلى حين، على أن المقصود بالعمى والصمم هو عمى القلب وصممه فهو عمى معنوي لا حسى، ومن كان كذلك فقد ختم الله على قلبه، وجعل على عينه حجابا كثيفا فلن يبصر شيئا ولن يسمع خيرا أبدا، وهؤلاء لا تقدر أنت يا محمد على هدايتهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتظن أنك قصرت في دعوتهم أبدا، فإما نذهبن بك ونتوفينك إلينا قبل أن ترى عقابهم في الدنيا، فثق أنا منهم منتقمون أشد انتقام لموقفهم هذا، وإما نرينك في حياتك الذي وعدناهم من الذل والهوان ونصرة الحق، ودخول الناس في دين الله أفواجا فإنّا عليهم مقتدرون، والله بكل شيء محيط. وعلى كل شيء قدير. فكن قرير العين مطمئن القلب إلى نصر الله، والله ينصر من يشاء.
وإذا كان الأمر كذلك فاستمسك بالذي أوحى إليك من القرآن، وتمسك بأهدابه واحرص عليه، واعمل به، وادع الناس إليه مهما كلفك هذا.
لماذا؟ لأنك ما دمت متمسكا به فأنت على الصراط المستقيم.
وعلى أنه ذكر لك ولقومك، وشرف عظيم وأى شرف يدانيه لك ولقومك؟
فالعرب- كما يقص علينا التاريخ- كانوا قبل البعثة المحمدية محصورين في شبه الجزيرة العربية لا يحس بهم أحد من جيرانهم، وكانوا في شظف من العيش، وتحلل في الخلق، وتقاتل وتنازع لأتفه الأسباب، وكانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش ٣، ٤].
فلما أراد الله أن يبرز من هؤلاء الرعاة الجفاة الغلاظ الأكباد المتقاطعين المتباذلين أمة ذات حضارة ومدنية وعلوم ومعارف، ونهضة وحكومة، وجيش وقيادة، أمة لها
فحقا إنه لذكر لك ولقومك! وسوف تسألون عن هذا كله يوم القيامة.
وكان من أهم أسباب نفرة المشركين عن الإسلام أنه دين يدعو إلى التوحيد وذم الأصنام وترك عبادة الأوثان، فجاء القرآن بشتى الصور يبين أن أمر التوحيد ليس بدعا عند الإسلام بل هو أساس كل دين. وقال: واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا..
الآية.
واسأل من أرسلنا من الرسل قبلك، أجعلنا «١»
من دون الرحمن آلهة يعبدون فالمسئولون هم الرسل ولذلك فالآية مكية، وقيل: المسئول أمم الرسل، وعلى ذلك فالآية مدنية، ونص القرآن يحتمل هذا وذاك، وليس المقصود على الرأيين نفس السؤال بل المراد انظر في أديانهم وابحث عن مللهم وادرس كتبهم التي لم تحرف لترى جواب هذا السؤال، وأن الأديان كلها متفقة على التوحيد الخالص البريء، وعلى نفى عبادة غير الله.
فأقروا بذلك يا أهل مكة واعملوا على هذا الأساس، وآمنوا بالله ورسوله حقا يؤتكم كفلين- جزأين- من رحمته ويدخلكم الجنة عرفها لكم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
يَنْكُثُونَ: ينقضون العهد الذي جعلوه على أنفسهم مَهِينٌ: ضعيف فقير فهو يمهن نفسه في قضاء حاجاته يُبِينُ يقال: أبان عن رأيه بمعنى يفصح عنه أَسْوِرَةٌ: جمع سوار، وهو حلية تلبس في اليد آسَفُونا: أسخطونا وأغضبونا سَلَفاً: قدوة لغيرهم من الكفار وَمَثَلًا: عظة وعبرة لمن يأتى بعدهم.
ولقد طعن الكفار في نبوة سيدنا محمد بن عبد الله، وقالوا: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، ولقد رد الله عليهم مقالتهم وألقمهم حجرا، ثم بعد هذا ساق قصة موسى مع فرعون هنا عبرة وعظة وسلوى، وليعلم الناس أن ذلك سلاح قديم، وتلك مقالة- لولا نزل هذا القرآن.. الآية- سبقهم إليها فرعون وقومه فكانت عاقبة أمرهم خسرا، ونجى الله المؤمنين بفضله.
المعنى:
وتالله لقد أرسلنا موسى، ومعه الآيات التسع- التي تقدم ذكرها في سورة الإسراء وغيرها- أرسلناه إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من كيد المصريين وظلمهم حتى إذا خرجوا من مصر ونزلت عليهم التوراة وفيها هدى ونور وكانت لهم شريعة، وكان منهم المؤمنون، وكثير منهم فاسقون- كما عرفت ذلك فيما مضى- فلما أرسل موسى لفرعون وملئه قال لهم: إنى رسول رب العالمين إليكم، فطلبوا منه الآيات فلما جاءهم بها- كالعصا واليد- إذا هم منها يضحكون بسرعة وخفة، وبدون نظر ولا بحث، أى: لما جاءتهم الآيات فاجأوا المجيء بها بالضحك عليها سخرية من غير توقف ولا تأمل، وهذا المعنى الذي هو السرعة والمفاجأة بالضحك استفيد من قوله تعالى:
إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [سورة الزخرف آية ٤٧].
ما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، بمعنى أن كل آية تعد كأنها أكبر من أختها وزميلتها، إذ كل واحدة لكمالها في نفسها ووفائها بالغرض المقصود منها كأنها أكبر من زميلتها، كما قالت أعرابية وقد سئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: «هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» وكما قال الشاعر:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم | مثل النجوم التي يسرى بها السارى |
وقالوا لما رأوا الآيات تترى عليهم، وسخط ربك حالا بهم: يا أيها الساحر، قيل:
هو خطاب تعظيم عندهم- ادع لنا ربك بما عهد عندك من النبوة لئن كشفت عنا العذاب الذي نزل بنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل، وإننا لمهتدون إلى الصواب وإلى الحق الذي تدعو إليه، فلما كشفنا عنهم العذاب فاجأوا الكشف عنهم بأنهم ينكثون العهود وينقضون المواثيق.
هذا ما كان من أمر القوم وخاصة الملأ منهم، أما فرعون ملك مصر فها هي ذي أعماله: ونادى فرعون في قومه بأن جمعهم في مكان واحد كالسوق مثلا، أو جمع أشرافهم وهم بلغوا عنه فكأنه نادى فيهم جميعا، فماذا قال؟ قال: يا قومي أليس لي ملك مصر «١»
؟ وهذه الأنهار- فروع نهر النيل- تجرى من تحتي، وتسير بأمرى، وأنا صاحب التصرف في كل ما ينتج عن جريها من مزروعات وغيرها. وعلى أنها كانت تجرى من تحت قصره، أفلا تبصرون تلك الحقائق؟ بل تبصرون أنى أنا خير من هذا الذي هو فقير وضعيف مهين يمتهن نفسه في قضاء مصالحه بنفسه ولا يكاد يبين ويفصح عن حجته بقوة وذلاقة لسان، وحسن تصرف يا سبحان الله!! هذه حجة فرعون الطاغية، وهي مشابهة تماما لحجة مشركي مكة، والعاقبة والنهاية واحدة.
فهلا ألقى عليه أسورة من ذهب تجيء له من قبل ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض!! أو تجيء مع موسى الملائكة كما يدعى متعاونين مجتمعين ليؤيدوه ويدفعوا عنه!! هكذا لا يؤمن بعقله بل يؤمن إذا رأى ببصره!! فاستخف قومه فأطاعوه بمعنى أنه طالبهم بالخفة والسرعة في الإجابة لما يطلب فأطاعوه لخفة عقولهم وسوء تفكيرهم، ولا غرابة في ذلك إنهم كانوا قوما فاسقين.
فلما آسفونا وأغضبونا وأسخطونا بأعمالهم السيئة التي لم يرتدعوا عنها رغم كثرة التنبيه وتوالى النذر، فلما آسفونا انتقمنا منهم بعذاب بئيس فأغرقناهم أجمعين، ونجى
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء! وكيف عاقبة الكفار الظالمين؟ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [يونس ٩٢] وأما أنتم أيها المؤمنون فثقوا بنصر الله لكم، فالله ينصر من ينصره، ويدافع عن الذين آمنوا، ألم تروا إلى فرعون وملئه مع قوة بطشه ونفاذ حكمه في جنده، وهذا موسى الضعيف المسكين مع بنى إسرائيل وقد نصرهم الله على عدوهم؟!
بعض مفترياتهم والرد عليها [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٦]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)
يَصِدُّونَ: صدّ يصدّ بمعنى: يضج ويضحك جَدَلًا أى: لأجل الجدل والمراء خَصِمُونَ: شديد والخصومة لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى نزوله علامة للساعة.
فَلا تَمْتَرُنَّ بِها: لا تشكّنّ فيها. بِالْحِكْمَةِ أى: أصول الدين عامة.
بَغْتَةً أى: تبغتهم بغتة وتأتيهم فجأة.
لقد عدد القرآن الكريم في هذه السورة مفترياتهم ورد عليهم ردودا أفحمتهم، وتتخلص هذه الأباطيل في: (١) أنهم جعلوا لله من عباده جزءا (٢) جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا (٣) قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (٤) قولهم: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (٥) هذه الآية التي نحن الآن معها تفيد أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويصوتون فرحا واستبشارا، تلك هي المفتريات الخمس التي ذكرت في هذه السورة ودار الكلام فيها حول هذه الموضوعات.
روى أن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت قلت: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، قال النبي: نعم، قال ابن الزبعرى: أليست اليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل هم يعبدون الشّيطان» ونزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء آية ١٠١] ونزل قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
المعنى:
ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وحاجك بعبادة النصارى له حيث قال: أليست النصارى تعبد المسيح وأنت يا محمد تقول: إنه كان نبيا وعبدا من عباد
وقالوا تمويها بالباطل الذي يغتر به ضعاف العقول: أآلهتنا خير أم عيسى؟ أى أآلهتنا عندك خير أم عيسى الذي هو خير كما تزعم في النار فلا بأس أن تكون آلهتنا معه.
ما ضربوا لك هذا المثل إلا مجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، وأنى لهم ذلك؟ بل هم قوم خصمون شديد والخصومة والجدال، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وكيف يدخل عيسى في عداد ما هو حصب جهنم كما تدعون وتضربون به الأمثال؟
ما عيسى إلا عبد من عباد الله أنعمنا عليه بالنبوة فهو مرفوع القدر والمكانة، ولكنه لا يستحق العبادة والتقديس لأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقد جعلناه مثلا، أى: أمرا غريبا حقيقا بأن يسير مسيرة الأمثال لأنه خلق من غير أب إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جعلناه مثلا وأرسلناه لبنى إسرائيل، وكانت معجزاته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ومع هذا كله فهو لا يستحق العبادة. وإنما يستحق العبادة القادر الموجد المحيي المميت الذي خلق عيسى وغيره، ولو يشاء لجعل بدلكم ملائكة في الأرض يخلفونكم في عمارتها فهو على كل شيء قدير، ولو يشاء لجعل منكم يا رجال مكة ملائكة مع أنها ليست من جنسكم كما خلق عيسى بلا أب، ملائكة تخلفكم في عمارة الأرض كما تخلفكم أولادكم لتعلموا أن الله هو القادر، ولتعلموا أن الملائكة خلق من خلق الله فكيف يعبدون؟ وبأى شكل تقولون إنهن بنات الله؟ وإن عيسى سينزل آخر الزمان كما نطق بذلك صريح الأحاديث في الكتب الصحاح، وإن نزوله لعلم للساعة إذ هو من أشراطها أى علاماتها، أو أن خلقه بلا أب أو إحياءه الموتى في معجزاته دليل على إمكان الساعة وصحة البعث. فلا تشكن فيها واتبعونى يا أمة محمد، وقيل: إنها من كلام عيسى لأمته، هذا صراط مستقيم، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو ظاهر العداوة.
ولما جاء عيسى بالآيات التي تدل على صدقه، وأنه رسول الله إلى بنى إسرائيل قال لهم: قد جئتكم بالحكمة وأصول الدين العامة كتوحيد الله، وإثبات اليوم الآخر
فويل للذين كفروا منهم، وظلموا أنفسهم وغيرهم، من عذاب يوم القيامة! هل ينظر كفار مكة وينظرون إلى الساعة أن تأتيهم فجأة، وتبغتهم بغتة، وهم في الدنيا ونعيمها الزائل ساهون ولا هون فلا يشعرون: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس ٤٩، ٥٠].
بعض أحوال يوم القيامة [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٧ الى ٨٠]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
الْأَخِلَّاءُ: جمع خليل، وهو الصاحب والصديق تُحْبَرُونَ في الأساس يقال: حبره الله: سره، والكلمة تدل على ظهور أثر السرور على الوجه بِصِحافٍ أى: بقصاع، والصحفة: إناء يوضع فيه الأكل يكفى خمسة، وفي الأساس الصحفة: القصعة المسطحة وَأَكْوابٍ: جمع كوب وهو إناء أشبه ما يكون بالكوبة التي نستعملها الآن وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لذ الشيء يلذ لذاذة ولذذت بالشيء ألذ به لذاذة: وجدته لذيذا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ: لا يخفف عنهم بجعل العذاب على فترات مُبْلِسُونَ: ساكتون سكوت يأس ماكِثُونَ: مقيمون أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً: بل هم أحكموا أمرا ضد النبي والإبرام: الفتل الثاني، والأول يسمى سحيلا وهذا بيان لبعض أحوال يوم القيامة التي تصادف المؤمن والكافر، وهذا بلا شك نظام محكم دقيق إذ بعد بيان ما اجترحه الكفار وأنهم في انتظار الساعة التي تأتيهم بغتة يبين لهم بعض أهوالها وأحوالها التي ستصادف مؤمنهم وكافرهم.
يبين الله- سبحانه وتعالى- أن في طبع الإنسان وغريزته استشارة غيره وخاصة في مهمات الأمور، وقد كان الناس يتشاورون في شأن الدعوة الإسلامية فمنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الخير ويحثه على سلوك الطريق المستقيم، ومنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الشر ويحثه عليه، فإذا رأى يوم القيامة أن عمله كان خطأ، وأن مشورة خليله كانت وبالا عليه أنحى باللائمة على صديقه، بل يصير عدوا من ألد أعدائه، وينسب إليه كل أفعاله طالبا من الله عقابه أشد العقاب، وقد قص القرآن علينا صورا كثيرة مما سيحصل بين التابعين والمتبوعين والقادة والعامة.
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فإنهم يظلون على صداقتهم التي أنتجت لهم الخير، وهدتهم إلى الحق، فهم على سرر متقابلون، وعلى الأرائك ينظرون. وقد نزع الله ما في صدورهم من غل، ويقال لهم تطمينا وتثبيتا: يا عبادي لا خوف عليكم فيما مضى ولا أنتم تحزنون في المستقبل، ويقال لهم تكريما: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم حالة كونهم مسرورين، ويطاف عليهم بصحاف من ذهب، وأكواب من فضة، فيها من الشراب والطعام ما لا عين رأته.
روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم هل في الجنة من إبل؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن يدخلك الله الجنّة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك»
نعم في الجنة ما تشتهيه الأنفس، وتلذه الأعين من كل شيء لا يقع تحت الوصف، ولا يدركه العقل، فإن ذكر طرف منه فتقريب للخيال، وتصوير لبعض ما هنالك
«فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
وأنتم أيها المؤمنون مع هذا فيها خالدون، ويقال لكم: تلك الجنة التي استحققتم متاعها كما يستحق الوارث ميراثه بسبب ما كنتم تعملون، لكم فيها فاكهة، ولكم فيها ما تدعون.
هذا هو الوعد الذي وعده الله للمتقين، وأما وعيد الكافرين فها هو ذا: إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون إلى ما شاء الله، عذاب دائم مقيم، لا يخفف عنهم فيها بل هم فيها ماكثون، وهم من رحمة الله آيسون وساكتون، وما ظلمهم ربك، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
وقد
روى أن أهل النار استغاثوا بالخزنة وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب فردت الخزنة عليهم أسوأ رد وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ «١»
فلما يئس الكفار مما عند الخزنة نادوا مالكا ليسأل لهم ربهم الموت فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة ثم بعدها قال لهم: إنكم ماكثون.
وذلك لأنا جئناكم في الدنيا بالحق الذي لا شك فيه، وفيه الخير لكم فلم تقبلوه وكان أكثركم- أى: رؤساؤكم- للحق كارهين.
بل أبرم مشركو مكة أمرا، وكادوا كيدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فإنا مبرمون كيدنا حقيقة أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «٢»
فالآية تشير إلى ما كان منهم من تدبير قتله- عليه الصلاة والسلام- في دار الندوة بمكة، وإلى ما كان من إحباط تلك المؤامرة ورد كيدهم في نحورهم وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٣».
بل أهم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ وكيف لا يسمع سرهم ونجواهم علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى وهو العليم بذات الصدور، بل يسمعها ويطلع عليها رسله التي جعلها معقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال سرا أو جهرا ليلا أو نهارا.
فيا خير من تكتب له الحسنات، ويا ويل من تكتب له السيئات.
(٢) - سورة الطور آية ٤٢.
(٣) - سورة المائدة آية ٦٧.
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
المفردات:
فَذَرْهُمْ: اتركهم يَخُوضُوا يقال: خاض الماء يخوضه: اقتحمه، وخاض في الحديث ويخوض مع الخائضين، أى: يبطل مع المبطلين تَبارَكَ: تعالى وتعاظم وزادت بركاته وخيراته يُؤْفَكُونَ أفك يأفك بمعنى الكذب، أى: فكيف يكذبون فَاصْفَحْ: أعرض عنهم قِيلِهِ: القيل والقال والمقالة واحد.
من أهم الأغراض مناقشتهم في قولهم: إن لله ولدا، وإشراكهم به غيره، ولذا ختم الله السورة بالكلام عليه مع ذكر الأدلة الدامغة التي تهدم قولهم هذا.
قل يا محمد لهؤلاء المشركين- أيا كانوا- للذين يثبتون لله ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!! قل لهم: إن كان للرحمن ولد، وصح هذا في شرعة الإنصاف وثبت بالدليل القاطع أن له ولدا، إن صح هذا فأنا أول العابدين لذلك الولد المقدسين له لأنه ابن الإله، وابنه جزء منه وله منزلته، سبحانه وتعالى عما يصفونه به من كونه له ولد، سبحان رب السموات والأرض رب العرش والكرسي، سبحان الله واجب الوجود الحي الذي لا يموت، صاحب هذا الملك والملكوت ورب السماء والأرض وما فيها، سبحانه أنى يكون له ولد؟ فإن ربوبيته لهذا الكون سمائه وأرضه تدل على أنه ليس شيء فيهما جزءا منه سبحانه، وإلا لما كان واجب الوجود لذاته، وكان مركبا من أجزاء انفصل منها جزء كوّن ولدا، وكان له حتما صاحبة، والله- جل جلاله- منزه من كل ذلك، وإلا لكان حادثا غير مخالف للحوادث.
وإذا كان الأمر كذلك فذرهم يا محمد واتركهم يخوضون في أباطيلهم التي هي كالبحر أو أشد، ويلعبون في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الموعود بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «١»
والمقصود بذلك تهديدهم، يعنى قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد من يقول بالولد لله، وهم لم يلتفتوا إليها لأنهم غارقون في دنياهم طالبون للمال والجاه والسلطان، فاتركهم لهذا في باطلهم يعمهون.
والله- سبحانه- ليس له ولد كما ثبت، وليس له مكان بل هو في كل مكان، ويستحيل عليه المكان لأنه يكون محدودا محصورا له أبعاد ونهاية وتلك كلها من صفات الحوادث والله منزه عنها، وهو معبود في السماء ومعبود في الأرض، وهو الواحد في كل شيء لا يحده زمان ولا مكان، وهو الحكيم في كل أعماله العليم بكل أحوال خلقه، ولا تنس أن هاتين الصفتين تتنافيان مع إثبات الولد، فالنصارى يقولون: عيسى ابن الله مع أنهم يثبتون له الجهل وعدم الحكمة في بعض التصرفات، ألا ترى أنه كان يبكى عند ما سمع بقتل برىء ويطلب من أتباعه أن يدلوه على قبره كما ورد في الإنجيل. فهل
وكيف يثبتون له شركاء؟ ولا يملك الذين يدعونه من الأصنام وغيرها الشفاعة لأحد أبدا إلا الذين شهدوا بالحق وهم يعلمون كعيسى وعزير والملائكة فإنهم يشفعون بإذنه لمن يشاء ويرضى.
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض؟ ليقولن: إنه خلقهم فكيف يصرفون عن عبادته وحده إلى الإشراك به؟! واذكر وقت قيله: يا رب، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وإذا كان الأمر كذلك فاصفح عنهم وأعرض، وقل أمرى معكم سلام ومتاركة إلى حين. وأما هم فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر، وتلك المفتريات التي تقدم ذكرها، سيعلمون غدا نتيجة ذلك كله في الدنيا والآخرة.