تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـالوجيز للواحدي
.
لمؤلفه
الواحدي
.
المتوفي سنة 468 هـ
مكية ثمانون وتسع آيات
ﰡ
﴿والكتاب المبين﴾ الذي أبان الهدى وما تحتاج إليه الأُمَّة ﴿إنا جعلناه﴾ بيَّناه ﴿قرآنا عربيا﴾ بلغة العرب ﴿لعلكم تعقلون﴾ تعرفون أحكامه ومعانيه
﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾
﴿وإنه﴾ أَيْ: القرآن ﴿في أمِّ الكتاب﴾ أَيْ: اللَّوح المحفوظ ﴿لدينا لعليٌّ حكيم﴾ يريد: إنَّه مثبتٌ عند الله تعالى في اللَّوح المحفوظ بهذه الصِّفة
﴿أفنضرب عنكم الذكر صفحاً﴾ أَفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنَّكم لا تؤمنون به وهو قوله: ﴿أن كنتم قوماً مسرفين﴾ أَيْ: لأن كنتم قوماً مُشركين مُجاوزين أمر الله قال قتادة رضي الله عنه: واللَّهِ لو أنَّ هذا القرآنَ رُفع حين ردَّه أوائل هذا الأمة لهلكوا
﴿وكم أرسلنا من نبي في الأولين﴾
﴿وما يأتيهم من نبي إلاَّ كانوا به يستهزئون﴾
﴿فأهلكنا أشد منهم﴾ من قومك ﴿بطشاً﴾ قوَّة ﴿ومضى مثل الأولين﴾ سنَّتهم في العقوبة
﴿ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾
﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون﴾
﴿والذي نزل من السماء ماء بقدر﴾ بمقدار معلوم عند الله ﴿فأنشرنا﴾ فأحيينا ﴿به﴾ بذلك الماء ﴿بلدة ميتاً كذلك تخرجون﴾ من قبوركم أحياء
﴿والذي خلق الأزواج﴾ الأصناف ﴿كلها﴾ وقوله:
﴿وما كنَّا له مقرنين﴾ أي: مطيقين
﴿وجعلوا له من عباده جزءاً﴾ أَيْ: الذين جعلوا الملاكة بنات الله
﴿أم اتخذ ممَّا يخلق بنات وأصفاكم﴾ أخلصكم وخصَّكم ﴿بالبنين﴾ كقوله: ﴿أفأصفاكم ربُّكم بالبنين﴾ الآية
﴿وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاَ﴾ بما وصفه به من اتِّخاذ البنات
﴿أو مَنْ يُنشَّأ في الحلية﴾ أَيْ: أَنسبوا إليه مَنْ يُنشَّأ في الحلية؟ يعني: البنات ﴿وهو في الخصام غير مبين﴾ وذلك أنَّ المرأة لا تكاد تقوم بحجَّةٍ في الخصومة
﴿وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً﴾ أَيْ: حكموا بأنَّهم إناثٌ حين قالوا: إنَّهم بنات الله ﴿أشهدوا﴾ أَحضروا ﴿خلقهم﴾ حين خُلقوا؟ ﴿ستكتب شهادتهم﴾ على الملائكة بأنَّهم بنات الله ﴿ويسألون﴾ عنها
﴿وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ أَيْ: الملائكة وذلك أنَّهم قالوا: لو لم يرض منَّا بعبادتنا إيَّاها لعجَّل عقوبتنا ﴿ما لهم بذلك من علم﴾ ما لهم بقولهم: الملائكة بناتُ الله من علمٍ ﴿إن هم إلاَّ يخرصون﴾ يكذبون
﴿أم آتيناهم كتاباً من قبله﴾ من قبل القرآن فيه عبادة غير الله ﴿فهم به مستمسكون﴾ بذلك الكتاب ثمَّ بيَّن أنَّهم اتَّبعوا ضلالة آبائهم فقال:
﴿بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة﴾ دينٍ
﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾
﴿قال أو لو جئتكم بأهدى﴾ بدينٍ أهدى ﴿ممَّا وجدتم عليه آباءكم﴾ أَتتبعونهم؟ ﴿قالوا﴾ أَيْ: الأمم للرُّسل: ﴿إنا بما أرسلتم به كافرون﴾
﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إنني براء﴾ أي: بريء
﴿إلا الذي فطرني فإنه سيهدين﴾
﴿وجعلها كلمة﴾ أَيْ: كلمة التَّوحيد ﴿باقية في عقبه﴾ عقب إبراهيم عليه والسلام لا يزال من ولده مَنْ يوحِّدُ الله عزَّ وجل ﴿لعلهم يرجعون﴾ كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان
﴿بل متعتُ هؤلاء وآباءهم﴾ في الدُّنيا ولم أهلكهم ﴿حتى جاءهم الحق﴾ القرآن
﴿ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون﴾
﴿وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من﴾ إحدى ﴿القريتين﴾ مكَّة والطَّائف ﴿عظيم﴾ أَيْ: الوليد بن المغيرة من أهل مكَّة وعروة بن مسعود الثقفيِّ من الطَّائف قال الله تعالى:
﴿أهم يقسمون رحمة ربك﴾ نبوَّته وكرامته فيجعلونها لمن يشاؤون؟ ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ فجعلنا بعضهم غنيَّاً وبعضهم فقيراً ﴿ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات﴾ بالمال ﴿ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً﴾ ليُسخِّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ويستخدموهم فيكون بعضهم لبعض سببَ المعاش في الدُّنيا هذا بماله وهذا بأعماله فكما قسمنا هذه القسمة كذلك اصطفينا للرِّسالة مَنْ نشاء ثمَّ بيَّن أنَّ الآخرة أفضل من الدُّنيا فقال: ﴿ورحمة ربك﴾ أَيْ: الجنَّة ﴿خيرٌ ممَّا يجمعون﴾ في الدُّنيا ثمَّ ذكر قلَّة خطر الدُّنيا عنده فقال:
﴿ولولا أن يكون الناس أمة واحدة﴾ مجتمعين على الكفر وقوله: و ﴿معارج﴾ : مراقي ﴿عليها يظهرون﴾ يعلون يصعدون
﴿ولبيوتهم أبواباً وسرراً﴾ من فضَّةٍ ﴿عليها يتكئون﴾
﴿وزخرفاً﴾ أَيْ: ومن زخرفٍ وهو الذَّهب ﴿وإن كلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا﴾ لمتاع الحياة الدُّنيا
﴿ومَنْ يعش﴾ يُعرض ﴿عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً﴾ نسبِّب له شيطاناً ﴿فهو له قرين﴾ لا يُفارقه
﴿وإنهم﴾ أَيْ: الشَّياطين ﴿ليصدونهم﴾ يمنعون الكافرين ﴿ويحسبون﴾ الكفَّار ﴿أنهم مهتدون﴾
﴿حتى إذا جاءنا﴾ يعني: الكافر ﴿قال﴾ لقرينه: ﴿يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين﴾ أَيْ: بُعد ما بين المشرق والمغرب ﴿فبئس القرين﴾ أنت ثم لا يفارقه حتى يصيروا إلى النار وقال الله تعالى:
﴿ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم﴾ أشركتم في الدُّنيا ﴿أنكم في العذاب مشتركون﴾ إشراككم في العذاب لأنَّ لكلِّ واحدٍ نصيبَه الأوفرَ منه
﴿أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين﴾
﴿فإما نذهبن بك﴾ تميتك قبل أن نعذِّبهم ﴿فإنا منهم منتقمون﴾ بعد موتك
﴿أو نرينك﴾ في حياتك ﴿الذي وعدناهم﴾ من العذاب
﴿فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم﴾
﴿وإنه﴾ أَيْ: القرآن ﴿لذكر﴾ لَشرفٌ ﴿لك ولقومك﴾ إذ نزل بلغتهم ونزل عليك وأنت منهم ﴿وسوف تسألون﴾ عن شكر ما جعلنا لكم من الشَّرف
﴿واسأل من أرسلنا﴾ أَيْ: أمم مَنْ أرسلنا ﴿من قبلك﴾ يعني: أهل الكتابين هل في كتاب أحدٍ الأمرُ بعبادة غير الله تعالى؟ ومعنى هذا السُّؤال التَّقرير لعبدة الأوثان أنَّهم على الباطل
﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين﴾
﴿فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون﴾
﴿وما نريهم من آية إلاَّ هي أكبرُ من أختها﴾ قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها ﴿وأخذناهم بالعذاب﴾ بالسِّنين والطُّوفان والجراد ﴿لعلهم يرجعون﴾ عن كفرهم
﴿وقالوا يا أيها الساحر﴾ خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسَّاحر: ﴿ادع لنا ربك بما عهد عندك﴾ فيمن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه ﴿إننا لمهتدون﴾ أَيْ: مؤمنون
﴿فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون﴾ ينقصون عهدهم وقوله:
﴿وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ بأمري: وقيل: من تحت قصوري
﴿أم أنا﴾ بل أنا ﴿خير من هذا الذي هو مهين﴾ حقيرٌ ضعيفٌ يعني: موسى ﴿ولا يكاد يبين﴾ يُفصح بكلامه لِعِيِّه
﴿فلولا﴾ فهلاًّ ﴿ألقي عليه أسورة من ذهب﴾ حليٌّ بأساور الذَّهب إن كان رئيساً مُطاعاً؟ والطَّوق والسِّوار من الذَّهب كان من علامة الرِّئاسة عندهم ﴿أو جاء معه الملائكة مقترنين﴾ مُتتابعين يشهدون له
﴿فاستخف قومه﴾ وجد قومه القبط جُهَّالاً
﴿فلما آسفونا﴾ أغضبونا بكفرهم ﴿انتقمنا منهم﴾
﴿فجعلناهم سلفاً﴾ مُتقدِّمين في الهلاك ليتَّعظ بهم مَنْ بعدهم ﴿ومثلاً للآخرين﴾ عبرةً لن يجيء بعدهم
﴿ولما ضرب ابن مريم مثلاً﴾ نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفَّار لما نزل قوله تعالى: ﴿إنَّكم وما تعبدون من دون الله﴾ الآية فقالوا: رضينا أن يكون آلهتنا بمنزلة عيسى فجعلوا عيسى عليه السَّلام مثلاً لآلهتهم فقال الله تعالى: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يَصِدًّون﴾ أَيْ: يضجُّون وذلك أنَّ المسلمين ضجُّوا من هذا حتى نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مُبعدون﴾ وذكر الله تعالى في هذه السُّورة تلك القصَّة وهو قوله:
﴿وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو﴾ يعني: عيسى عليه السَّلام ﴿ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً﴾ أَيْ: إلاَّ الإرادة للمجادلة لأنَّهم علموا أنَّ المراد بحصب جهنم ما اتَّخذوه من الموات ﴿بل هم قوم خصمون﴾ يجادلون بالباطل ثمَّ بيَّن حال عيسى عليه السَّلام فقال:
﴿إن هو إلاَّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل﴾ آيةً تدلُّ على قدرة الله
﴿ولو نشاء لجعلنا منكم﴾ بدلكم ﴿ملائكة في الأرض يخلفون﴾ بأن نهلككم ونأتي بهم بدلاً منكم يكونون خلفاء منكم
﴿وإنه﴾ أَي: وإنَّ عيسى ﴿لعلم للساعة﴾ بنزوله يُعلم قيام السَّاعة ﴿فلا تمترنَّ بها﴾ لا تشكُّوا فيها
﴿ولا يصدنكم الشيطان إنَّه لكم عدوٌ مبين﴾
﴿ولما جاء عيسى﴾ إلى بني إسرائيل ﴿بالبينات﴾ بالآيات التي يعجز عنها المخلوقون ﴿قال قد جئتكم بالحكمة﴾ أَيْ: الإنجيل ﴿ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه﴾ أي: كله
﴿إن الله هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
﴿فاختلف الأحزاب﴾ الآية مفسَّرةٌ في سورة مريم
﴿هل ينظرون﴾ أَيْ: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك ﴿إلاَّ﴾ أن يَفْجَأَهُمْ قيام ﴿السَّاعة﴾ ثمَّ ذكر أنَّ مخالَّتهم في الدُّنيا تبطل في ذلك اليوم وتنقلب عداوة فقال:
﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ وهم المؤمنون وقوله:
﴿يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون﴾
﴿الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين﴾
﴿تحبرون﴾ تُكرمون وتسرُّون
﴿يطاف عليهم بصحاف﴾ بقصاع وأكوابٍ وهي الأواني التي لا عُرى لها ﴿وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين﴾ أَيْ: تستلذًّ وهذا وصفٌ لجميع ما في الجنَّة من الطيبات وقوله:
﴿وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون﴾
﴿لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون﴾
﴿إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون﴾
﴿لا يفتر عنهم﴾ أَيْ: لا يخفف عنهم العذاب ﴿وهم فيه مبلسون﴾ ساكنون سكوت يأس
﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين﴾
﴿ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك﴾ ليمتنا فنستريح ﴿قال: إنكم ماكثون﴾ مُقيمون في العذاب
﴿لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون﴾
﴿أم أبرموا أمراً﴾ أحكموا الأمر في المكر بمحمَّد عليه السَّلام ﴿فإنا مبرمون﴾ مُحكمون أمراً في مجازاتهم
﴿أم يحسبون أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون﴾
﴿قل: إن كان للرحمن ولد﴾ الآية معناها: إنْ كنتم تزعمون أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّل الموحِّدين لأنَّ مَنْ عبد الله واعترف بأنَّه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد وقيل: ﴿فأنا أول العابدين﴾ الآنفين من هذا القول
﴿سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون﴾
﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون﴾
﴿وهو الذي في السماء إله﴾ يُعبد ﴿وفي الأرض إله﴾ يُعبد أيْ: هو المعبود فيهما ﴿وهو الحكيم﴾ في تدبير خلقه ﴿العليم﴾ بصلاحهم
﴿وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون﴾
﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة﴾ أَيْ: الأوثان لا يشفعون لعابديها ﴿إلاَّ مَنْ شهد بالحق﴾ يعني: عيسى وعزيزا والملائكة فلهم الشَّفاعة في المؤمنين لا في الكفَّار وهم يشهدون بالحقِّ بالوحدانيَّة لله ﴿وهم يعلمون﴾ حقيقة ما شهدوا به
﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون﴾
﴿وقيله﴾ أَيْ: ويسمع قول محمَّد عليه السَّلام شاكياًَ إلى ربِّه وهو راجعٌ إلى قوله ﴿أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم﴾
﴿فاصفح عنهم﴾ أَيْ: أعرض عنهم وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم ﴿وقل سلام﴾ أيْ: سلامةٌ لنا منكم ﴿فسوف تعلمون﴾ تهديدٌ لهم