تفسير سورة التوبة

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
﴿براءة من الله ورسوله﴾ الآية أخذت المشركون ينقضون عهوداً بينهم وبين رسول الله ﷺ فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم وأنزل هذه الآية والمعنى: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا ثمَّ خاطب المشركين فقال:
﴿فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ سيروا فيها آمنين حيث شئتم يعني: شوالاً إلى صفر وهذا تأجيلٌ من الله سبحانه للمشركين فإذا انقضت هذه المدَّة قُتلوا حيثما أُدركوا ﴿واعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ لا تفوتونه وإنْ أُجِّلتم هذه المدَّة ﴿وأنَّ الله مُخْزي الكافرين﴾ مذلُّهم في الدُّنيا بالقتل والعذاب في الآخرة
﴿وأذان من الله﴾ إعلامٌ منه ﴿ورسوله إلى الناس﴾ يعني: العرب ﴿يوم الحج الأكبر﴾ يوم عرفة وقيل: يوم النَّحر والحجُّ الأكبر الحجُّ بجميع أعماله والأصغر العمرة ﴿أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ﴾ أمر الله رسوله ﷺ أن يُعلم مشركي العرب في يوم الحجِّ الأكبر ببراءته من عهودهم فبعث عليا رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النَّحر ثمَّ خاطب المشركين فقال: ﴿فإن تبتم﴾ رجعتم عن الشِّرك ﴿فهو خيرٌ لكم﴾ من الإِقامة عليه ﴿وإن توليتم﴾ عن الإِيمان ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ معجزي الله﴾ لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب ثمَّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كفروا بعذاب أليم﴾ ثمَّ استثنى قوماً من براءة العهود فقال:
﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ ينقصوكم﴾ من شروط العهد ﴿شيئاً﴾ وهم بني ضمرة وبنو كنانة ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾ لم يعاونوا عليكم عدوَّاً ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم﴾ إلى انقضاء مدَّتهم وكان قد بقي لهم من مدَّتهم تسعة أشهر فأمر النبي ﷺ بإتمامها لهم ﴿إنَّ الله يحب المتقين﴾ مَنِ اتَّقاه بطاعته
﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ يعني: مدَّة التَّأجيل ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ في حلٍّ أو حرمٍ ﴿وخذوهم﴾ بالأسر ﴿واحصروهم﴾ إنْ تحصَّنوا ﴿واقعدوا لهم كلَّ مرصد﴾ على كلِّ طريقٍ تأخذون فيه ﴿فإنْ تابوا﴾ رجعوا عن الشرك ﴿وأقاموا الصلاة﴾ المفروضة ﴿وآتوا الزكاة﴾ من العين والثِّمار والمواشي ﴿فخلوا سبيلهم﴾ فدعوهم وما شاؤوا ﴿إن الله غفور رحيم﴾ لمَنْ تاب وآمن
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أمرتك بقتلهم ﴿استجارك﴾ طلب منك الأمان من القتل ﴿فأجره﴾ فاجعله في أمنٍ ﴿حتى يسمع كلام الله﴾ القرآن فتقيم عليه حجَّةَ الله وتبيِّن له دين الله ﴿ثمَّ أبلغه مأمنه﴾ إذا لم يرجع عن الشِّرك لينظر في أمره ﴿ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون﴾ يفعلونَ كلَّ هذا لأنَّهم قومٌ جهلةٌ لا يعلمون دين الله وتوحيده
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رسوله﴾ مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد ﴿إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام﴾ يعني: الذين استثناهم من البراءة ﴿فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم﴾ ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم
﴿كيف﴾ أَيْ: كيف يكون لهم عهدهم ﴿و﴾ حالُهم أنهم ﴿إن يظهروا عليكم﴾ يظفروا بكم ويقدروا عليكم ﴿لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ﴾ لا يحفظوا فيكم ﴿إلاًّ ولا ذمَّةً﴾ قرابةً ولا عهداً ﴿يرضونكم بأفواههم﴾ يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً ﴿وتأبى قلوبهم﴾ الوفاء به ﴿وأكثرهم فاسقون﴾ غادرون ناقضون للعهد
﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ استبدلوا بالقرآن متاع الدُّنيا ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فأعرضوا عن طاعته ﴿إنهم ساء﴾ بئس ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من اشترائهم الكفر بالإِيمان
﴿لا يرقبون﴾ يعني: هؤلاء النَّاقضين للعهد ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد
﴿فإن تابوا﴾ عن الشِّرك ﴿وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم﴾ أَيْ: فهم إخوانكم ﴿في الدين ونفصِّل الآيات﴾ نبيِّن آيات القرآن ﴿لقوم يعلمون﴾ أنَّها من عند الله
﴿وإن نكثوا أيمانهم﴾ نقضوا عهودهم ﴿وطعنوا في دينكم﴾ اغتابوكم وعابوا دينكم ﴿فقاتلوا أئمة الكفر﴾ رؤساء الضَّلالة يعني: صناديد قريش ﴿إنهم لا أيمان لهم﴾ لا عهود لهم ﴿لعلهم ينتهون﴾ كي ينتهوا عن الشِّرك بالله ثمَّ حرَّض المؤمنين عليهم فقال:
﴿ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم﴾ يعني: كفَّار مكَّة نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة ﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ من مكَّة ﴿وهم بدؤوكم﴾ بالقتال ﴿أول مرة﴾ حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة فبدؤوا بنقض العهد ﴿أتخشونهم﴾ أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم ﴿فالله أحق أن تخشوه﴾ فمكروهُ عذابِ الله أحقُّ أن يُخشى في ترك قتالهم ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ مصدِّقين بعقاب الله وثوابه
﴿قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم﴾ يقتلهم بسيوفكم ورماحكم ﴿ويخزهم﴾ يُذلُّهم بالقهر والأسر ﴿ويشف صدور قوم مؤمنين﴾ يعني: بني خزاعة أعانت قريشٌ بني بكر عليهم حتى نكثوا فيهم فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ والمؤمنين
﴿ويذهب غيظ قلوبهم﴾ كَرْبَها ووَجْدَها بمعونة قريش بكراً عليهم ﴿وَيَتُوبُ الله على من يشاء﴾ من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو هداهم الله للإسلام
﴿أم حسبتم﴾ أيُّها المنافقون ﴿أن تتركوا﴾ على ما أنتم عليه من التَّلبيس وكتمان النفاق ﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ بنيَّةٍ صادقةٍ يعني: العلم الذي يتعلَّق بهم بعد الجهاد وذلك أنَّه لما فُرض القتال تبيَّن المنافق من غيره ومَنْ يوالي المؤمنين ممَّن يوالي أعداءهم ﴿ولم يتخذوا﴾ أَيْ: ولمَّا يعلم الله الذين لم يَتَّخِذُوا ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا المؤمنين وليجة﴾ أولياء ودُخُلاً
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عير بالكفر لمَّا أُسر فقال: إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاجَّ فردَّ الله ذلك عليه بقوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ بدخوله والتعوُّذ فيه لأنَّهم ممنوعون عن ذلك ﴿شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ بسجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهة ﴿أولئك حبطت أعمالهم﴾ لأنَّ كفرهم أذهب ثوابها
﴿إنما يعمر مساجد الله﴾ بزيارتها والقعود فيها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزكاة﴾ والمعنى: إنَّ مَنْ كان بهذه الصفة فهو من أهل عمارة المسجد ﴿ولم يخش﴾ في باب الدِّين ﴿إلاَّ الله فعسى أولئك﴾ أَيْ: فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدِّي إلى الجنَّة
﴿أجعلتم سقاية الحاج﴾ قال المشركون: عمارة بيت الله وقيامٌ على السِّقاية خيرٌ من الإِيمان والجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية وسقاية الحاج: سقيهم الشَّراب في الموسم وقوله: ﴿وعمارة المسجد الحرام﴾ يريد: تجميره وتخليقه ﴿كمَنْ آمن﴾ أَيْ: كإيمان من آمن ﴿بالله﴾ ؟ ﴿لا يستون عند الله﴾ في الفضل ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ يعني: الذين زعموا أنَّهم أهل العمارة سمَّاهم ظالمين بشركهم
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله﴾ من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاجِّ ﴿وأولئك هم الفائزون﴾ الذين ظفروا بأمنيتهم
﴿يبشرهم ربهم برحمة منه﴾ الآية أَيْ: يعلمهم في الدُّنيا ما لهم في الآخرة
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عظيم﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم﴾ الآية لمَّا أُمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من النَّاس مَنْ يتعلَّق به زوجته وولده وأقاربه ويقولون: ننشدك بالله أن تضيِّعنا فيرقُّ لهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى: ﴿لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء﴾ أصدقاء تُؤثرون المقام بين أظهرهم على الشجرة ﴿إن استحبوا﴾ اختاروا ﴿الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هم الظالمون﴾ أَيْ: مشركون مثلهم فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا: يا نبيَّ الله إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدِّين نقطع آباءنا وعشائرنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا فأنزل الله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وعشيرتكم وأموال اقترفتموها﴾ أَيْ: اكتسبتموها ﴿فتربصوا﴾ مقيمين بمكَّة ﴿حتى يأتي الله بأمره﴾ فتح مكَّة فيسقط فرض الهجرة وهذا أمر تهديد ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ تهديدٌ لهؤلاء بحرمان الهداية
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حنين﴾ وهو وادٍ بين مكَّة والطَّائف قاتل عليه نبيُّ الله عليه السَّلام هوازن وثقيفاً ﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ وذلك أنَّهم قالوا: لن نُغلب اليوم من قلَّةٍ وكانوا اثني عشر ألفاً ﴿فلم تغن﴾ لم تدفع عنكم شيئاً ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رحبت﴾ لشدَّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لقراركم ﴿ثم وليتم مدبرين﴾ انهزمتم أعلمهم الله تعالى أنَّهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنَّما يَغلبون بنصر الله
﴿ثم أنزل الله سكينته﴾ وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته ﴿عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تروها﴾ يريد: الملائكة ﴿وعذب الذين كفروا﴾ بأسيافكم ورماحكم ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى من يشاء﴾ فيهديهم إلى الإِسلام من الكفَّار ﴿والله غفور رحيم﴾ بمَنْ آمن
﴿يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس﴾ لا يغتسلون من جنابةٍ ولا يتوضؤون من حدثٍ ﴿فلا يقربوا المسجد الحرام﴾ أَيْ: لا يدخلوا الحرم مُنعوا من دخول الحرم فالحرمُ حرامٌ على المشركين ﴿بعد عامهم هذا﴾ يعني: عام الفتح فلمَّا مُنعوا من دخول الحرم قال المسلمون: إنَّهم كانوا يأتون بالميرة فالآن تنقطع عنا المتاجر فأنزل الله تعالى: ﴿وإن خفتم عيلة﴾ فقراً ﴿فسوف يغنيكم الله من فضله﴾ فأسلم أهل جدَّة وصنعاء وجرش وحملوا الطَّعام إلى مكَّة وكفاهم الله ما كانوا يتخوَّفون ﴿إنَّ الله عليم﴾ بما يصلحكم ﴿حكيم﴾ فيما حكم في المشركين ثمَّ نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى قوله:
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر﴾ يعني: كإيمان الموحِّدين وإيمانُهم غيرُ إيمانٍ إذا لم يؤمنوا بمحمد ﴿ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله﴾ يعني: الخمر والميسر ﴿ولا يدينون دين الحق﴾ لا يتدينون بدين الإِسلام ﴿حتى يعطوا الجزية﴾ وهي ما يعطي المعاهِد على عهده ﴿عن يد﴾ يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركباناً ولا يرسلون بها ﴿وهم صاغرون﴾ ذليلون مقهورون يُجَرُّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدُّوها من يدهم
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم﴾ ليس فيه برهانٌ ولا بيانٌ إنَّما هو قولٌ بالفم فقط ﴿يُضاهئون﴾ يتشبَّهون بقول المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله وقد أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وخرقوا له بنين وبناتٍ﴾ ﴿قاتلهم الله﴾ لعنهم الله ﴿أنى يؤفكون﴾ كيف يُصرفون عن الحقِّ بعد وضوح الدَّليل حتى يجعلوا لله الولد وهذا تعجيب للنبي ﷺ والمؤمنين
﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم﴾ علماءهم وعُبَّادهم ﴿أرباباً﴾ آلهةً ﴿من دون الله﴾ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله ﴿والمسيح ابن مريم﴾ اتخذوه ربَّاً ﴿وما أمروا﴾ في التَّوراة والإِنجيل ﴿إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً﴾ وهو الذي لا إله غيره ﴿سبحانه عمَّا يشركون﴾ تنزيهاً له عن شركهم
﴿يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم﴾ يخمدوا دين الإِسلام بتكذيبهم ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ إلاَّ أَنْ يُظهر دينه
﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ محمداً ﴿بالهدى﴾ بالقرآن ﴿ودين الحق﴾ الحنيفيَّة ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ليعليَه على جميع الأديان
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ﴾ من فقهاء أهل الكتاب وعلمائهم ﴿ليأكلون أموال الناس بالباطل﴾ يعني: ما يأخذونه من الرُّشا في الحكم ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ويصرفون النَّاس عن الإِيمان بمحمد عليه السلام ثم أنزل في مانعي الزَّكاة من أهل القبلة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله﴾ لا يُؤَدُّون زكاتها ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ أخبرهم أنَّ لهم عذاباً أليماً
﴿يوم يحمى عليها﴾ يوم تدخل كنوزهم النَّار حتى تحمى وتشتدَّ حرارتها ﴿فتكوى بها﴾ أي: فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم ويقال لهم: هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم وبخلتم به عن حقِّ الله ﴿فذوقوا﴾ العذاب بـ ﴿ما كنتم تكنزون﴾
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهراً﴾ عدد شهور المسلمين التي تُعبِّدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً على منازل القمر واستهلال الأهلَّة لا كما يعدُّه أهل الرُّوم وفارس ﴿في كتاب الله﴾ في الإِمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السماوات والأرض ﴿منها أربعة حرم﴾ رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم يعظم انتهاك المحارم فيها بأشدَّ ممَّا يعظم في غيرها ﴿ذلك الدين القيم﴾ الحساب المستقيم ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ تحفَّظوا من أنفسكم في الحرم فإنَّ الحسنات فيهن تضعف وكذلك السيئات ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ قاتلوهم كلَّهم ولا تحابوا بترك القتال كما إنَّهم يستحلُّون قتال جميعكم ﴿واعلموا أنَّ الله مع المتقين﴾ مع أوليائه الذين يخافونه
﴿إنما النسيء﴾ تأخير حرمةِ شهرٍ حرَّمه الله إلى شهرٍ آخر لم يحرِّمه وذلك أنَّ العرب في الجاهليَّة ربما كانت تستحلُّ المحرم وتحرِّم بدله صفر فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك كلَّه ﴿زيادة في الكفر﴾ حيث أحلُّوا ما حرَّم الله وحرَّموا ما أحلَّ الله ﴿يضل به﴾ بذلك التَّأخير ﴿الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً﴾ إذا قاتلوا فيه أحلُّوه وحرَّموا مكانه صفر وإذا لم يقاتلوا فيه حرَّموه ﴿ليواطئوا﴾ ليوافقوا ﴿عدَّة ما حرم الله﴾ وهو أنَّهم لم يُحلُّوا شهراً من الحرم إلاَّ حرَّموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرِّموا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرم لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرَّم الله فيكون موافقة للعدد ﴿زين لهم سوء أعمالهم﴾ زيَّن لهم الشَّيطان ذلك
﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم﴾ نزلت في حثِّ المؤمنين على غزوة تبوك وذلك أنَّهم دُعوا إليها في زمان عسرةٍ من النَّاس وجدبٍ من البلاد وشدةٍ من الحرِّ فشقَّ عليهم الخروج فأنزل الله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سبيل الله﴾ أخرجوا في الجهاد لحرب العدوِّ ﴿اثاقلتم إلى الأرض﴾ أَحْبَبْتُمْ المقام ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا﴾ بدلاً ﴿من الآخرة﴾ يعني: الجنَّة ﴿فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة﴾ يريد: الدُّنيا كلَّها ﴿إلاَّ قليل﴾ عند شئ من الجنَّة
﴿إلاَّ تنفروا﴾ تخرجوا مع نبيِّكم إلى الجهاد ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أليماً﴾ بالقحط وحبس المطر ﴿ويستبدل قوماً غيركم﴾ يأت بقومٍ آخرين ينصرُ بهم رسوله ﴿ولا تضرّوه شيئاً﴾ لأنَّ الله عصمه عن النَّاس ولا يخذله أَنْ تثاقلتم كما لم يضرَّه قلَّة ناصريه حين كان بمكَّة وهم به الكفَّار فتولَّى الله نصره وهو قوله:
﴿إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كفروا﴾ أَيْ: اضطروه إلى الخروج لمَّا همُّوا بقتله فكانوا سبباً لخروجه من مكَّة هارباً منهم ﴿ثاني اثنين﴾ أَيْ: واحد اثنين هو ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه والمعنى: مصره الله منفرداً إلاَّ من أبي بكر: ﴿إذْ هما في الغار﴾ هو غارٌ في جبل مكة يقال له: ثور ﴿إذْ يقول لصاحبه﴾ أبي بكر: ﴿لا تحزن﴾ وذلك أنَّه خاف على رسول الله ﷺ الطَّلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لا تحزن إنَّ الله معنا﴾ يمنعهم منَّا وينصرنا ﴿فأنزل الله سكينته﴾ ألقى في قلب أبي بكر ما سكن به ﴿وأيده﴾ أَيْ: رسوله ﴿بجنود لم تروها﴾ قوَّاه وأعانه بالملائكة يوم بدر أخبر أنَّه صرف عنه كيد أعدائه ثمَّ أظهره: نصره بالملائكة يوم بدر ﴿وجعل كلمة الذين كفروا﴾ وهي كلمة الشِّرك ﴿السفلى وكلمة الله هي العليا﴾ يعني: كلمة التَّوحيد لأنَّها علت وظهرت وكان هذا يوم بدر
﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ شباباً وشيوخاً ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خير لكم﴾ من التَّثاقل إلى الأرض ﴿إن كنتم تعلمون﴾ ما لكم من الثَّواب والجزاء ثمَّ نزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن هذه الغزوة:
﴿لو كان عرضاً قريباً﴾ أَيْ: لو كان ما دُعوا إليه غنيمةً قريبةً ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ قريباً هيِّناً ﴿لاتَّبَعُوكَ﴾ طمعاً في الغنيمة ﴿ولكن بعدت عليهم الشقة﴾ المسافة ﴿وسيحلفون بالله﴾ عندك إذا رجعت إليهم ﴿لو استطعنا لخرجنا معكم﴾ لو قدرنا وكان لنا سعةٌ من المال ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ بالكذب والنِّفاق ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنهم لكاذبون﴾ لأنَّهم كانوا يستطيعون الخروج
﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ كان رسول الله ﷺ أذن لطائفةٍ في التَّخلُّف عنه من غير مؤامرةٍ ولم يكن له أن يمضي شيئاً إلاَّ بوحي فعاتبه الله سبحانه وقال: لم أَذنت لهم في التَّخلُّف ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ حتى تعرف مَنْ له العذر منهم ومَنْ لا عذر له فيكون إذنك لمَنْ له العذر
﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ في القعود والتَّخلُّف عن الجهاد كراهة ﴿أن يجاهدوا﴾ في سبيل الله ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ الآية
﴿إنما يستأذنك﴾ في التَّخلُّف ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قلوبهم﴾ شكُّوا في دينهم ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ في شكِّهم يتمادون
﴿ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدَّة﴾ من الزَّاد والركوب لأنَّهم كانوا مياسير ﴿ولكن كره الله انبعاثهم﴾ لم يرد خروجهم معك ﴿فثبطهم﴾ فخذلهم وكسَّلهم ﴿وقيل اقعدوا﴾ وحياً إلى قلوبهم يعني: إنَّ الله ألهمهم أسباب الخذلان ﴿مع القاعدين﴾ الزَّمنى وأولي الضَّرر ثمَّ بّيَّنَ لِمَ كره خروجهم فقال:
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا﴾ يقول: لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ لأسرعوا بالنَّميمة في إفساد ذاتِ بينكم ﴿يبغونكم الفتنة﴾ يُثبِّطونكم ويفرِّقون كلمتكم حتى تنازعوا فتفتتنوا ﴿وفيكم سماعون لهم﴾ مَنْ يسمع كلامهم ويطيعهم ولو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم ﴿والله عليم بالظالمين﴾ المنافقين
﴿لقد ابتغوا الفتنة من قبل﴾ طلبوا لك الشَّرَّ والعنتَ قبل تبوك وهو أنَّ جماعةً منهم أرادوا الفتك به ليلة العقبة ﴿وقلَّبوا لك الأمور﴾ اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك ﴿حتى جاء الحق﴾ الآية أَيْ: حتى أخزاهم الله بإظهار الحقِّ وإعزاز الدِّين على كُرهٍ منهم
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ نزلت في جدِّ بن قيس المنافق قال لرسول الله رسول صلى الله عليه وسلم: هل لك في جلاد بني الأصفر تتحذ منهم سراري وُصفاءَ فقال: ائذن لي يا رسول الله في القعود عنك وأُعينك بمالي ﴿ولا تفتني﴾ ببنات بني الأصفر فإني مُسْتَهترٌ بالنِّساء إني أخشى إن رأيتهنَّ ألا أصبر عنهنَّ فقال الله تعالى: ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ أَيْ: في الشِّرك وقعوا بنفاقهم وخلفهم أمرك ﴿وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين﴾ لمحدقةٌ بمَنْ كفر جامعةٌ لهم
﴿إن تصبك حسنة﴾ نصرٌ وغنيمةٌ ﴿تسؤهم وإن تصبك مصيبة﴾ من قتلٍ وهزيمةٍ ﴿يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل﴾ قد أخذنا حذرنا وعملنا بالحزم حين تخلَّفنا ﴿ويتولوا﴾ وينصرفوا ﴿وهم فرحون﴾ معجبون بذلك وبما نالك من السُّوء
﴿قُلْ لن يصيبنا﴾ خيرٌ ولا شرٌّ ﴿إلاَّ﴾ وهو مقدَّرٌ مكتوبٌ علينا ﴿هو مولانا﴾ ناصرنا ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ وإليه فليفوِّض المؤمنون أمورهم على الرِّضا بتدبيره
﴿قل هل تربصون بنا﴾ هل تنتظرون أن يقع بنا ﴿إِلا إِحْدَى الحسنيين﴾ الغنيمة أو الشَّهادة ﴿ونحن نتربص﴾ ننتظر ﴿بكم أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عنده﴾ بقارعةٍ من السَّماء ﴿أو بأيدينا﴾ يأذن لنا في قتلكم فنقتلكم ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ فانتظروا مواعيد الشَّيطان إنَّا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه وهلاك مَنْ خالفه ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية والثَّالثة أنَّه لا يقبل منهم ما أنفقوا في الجهاد لأنَّ منهم مَنْ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد وأُعينك بمالي فأخبر الله تعالى أنه لا يقبل ذلك فعلوه طائعين أو مكرهين وبيَّن أنَّ المانع لقبول ذلك كفرهم بالله ورسوله وكسلهم في الصَّلاة لأنَّهم لا يرجون لها ثواباً وكراهتهم الإِنفاق في سبيل الله لأنَّهم يعدونه مغرما
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كارهون﴾
﴿فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم﴾ لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال الكثيرة والأولاد ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدنيا﴾ يعني: بالمصائب فيها فهي لهم عذابٌ وللمؤمن أجر ﴿وتزهق أنفسهم﴾ وتخرج أرواحهم ﴿وهم﴾ على الكفر
﴿ويحلفون بالله إنهم لمنكم﴾ أَيْ: إنَّهم مؤمنون وليسوا مؤمنين ﴿ولكنهم قوم يفرقون﴾ يخافون فيحلفون تقيَّةً لكم
﴿لو يجدون ملجأً﴾ مهرباً ﴿أو مغارات﴾ سراديب ﴿أو مدخلاً﴾ وجهاً يدخلونه ﴿لوَلَّوا إليه﴾ لرجعوا إليه ﴿وهم يجمحون﴾ يُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم شيءٌ أَيْ: لو أمكنهم الفرار من بين المسلمين بأيِّ وجهٍ كان لفروا لوم يُقيموا بينهم
﴿ومنهم﴾ ومن المنافقون ﴿من يلمزك﴾ يعيبك وطعن عليك ﴿في﴾ أمر ﴿الصدقات﴾ يقول: إنَّما يعطيها محمَّد مَنْ أحبَّ فإنْ أكثرت لهم من ذلك فرحوا وإنْ أعطيتهم قليلاً سخطوا ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية أنَّهم لو رضوا بذلك وتوكَّلوا على الله لكان خيراً لهم وهو قوله:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ورسوله إنا إلى الله راغبون﴾ ثمَّ بيَّن لمن الصَّدقات فقال:
﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ وهم المُتعفِّفون عن السُّؤال ﴿والمساكين﴾ الذين يسألون ويطوفون على النَّاس ﴿والعاملين عليها﴾ السُّعاة لجباية الصَّدَقة ﴿والمؤلفة قلوبهم﴾ كانوا قوماً من أشراف العرب استألفهم رسول الله ﷺ ليردُّوا عنه قومهم ويُعينوه على عدوِّه ﴿وفي الرقاب﴾ المكاتبين ﴿والغارمين﴾ أهل الدِّيْن ﴿وفي سبيل الله﴾ الغزاة والمرابطون ﴿وابن السبيل﴾ المنقطع في سفره ﴿فريضة من الله﴾ افترضها الله على الأغنياء في أموالهم
﴿ومنهم الذين يؤذون النبيَّ﴾ بنقل حديثه وعيبه ﴿ويقولون هو أذنٌ﴾ أنَّهم قالوا فيما بينهم: نقول ما شئنا ثمَّ نأتيه فَنَحْلِفُ له فيصدِّقنا لأنَّه أُذنٌ والأُذن: الذي يسمع كلَّ ما يُقال له فقال الله تعالى ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ أَيْ: مستمعُ خيرٍ وصلاح لا مستمع شرٍّ وفسادٍ ثمَّ أَكَّد هذا وبيَّنه فقال: ﴿يؤمن بالله﴾ أَيْ: يسمع ما ينزله الله عليه فيصدِّق به ﴿ويؤمن للمؤمنين﴾ ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه لا الكافرين ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ أَيْ: وهو رحمةٌ لأنَّه كان سبب إيمانهم
﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم﴾ يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى الرَّسول والطَّعن عليه أنَّهم ما أتوا ذلك ليرضوكم بيمينهم ﴿والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه﴾ فيؤمنوا بهما ويصدِّقوهما إن كانوا على ما يظهرون
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الخزي العظيم﴾
﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم﴾ على المؤمنين ﴿سورة﴾ تخبرهم ﴿بما في قلوبهم﴾ من الحسد لرسول الله ﷺ والمؤمنين وذلك أنَّهم كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا﴾ أمرُ وعيدٍ ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ﴾ مظهرٌ ﴿ما تحذرون﴾ ظهوره
﴿ولئن سَأَلْتَهُمْ﴾ عمَّا كانوا فيه من الاستهزاء ﴿ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب﴾ وذلك أنَّ رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك: ما رأيتُ مثل هؤلاء أرغبَ بطوناً ولا أكذبَ أَلْسُناً ولا أجبنَ عند اللِّقاء يعني: رسول الله ﷺ والمؤمنين فأُخبر رسولُ الله ﷺ بذلك فجاء هذا القائل ليعتذر فوجد القرآن قد سبقه فقال: يا رسول الله إنما كنَّا نخوض ونلعب ونتحدَّث بحديث الرَّكب نقطع به عنا الطريق وهو معنى قوله: ﴿إنَّما كنا نخوض﴾ أَيْ: في الباطل من الكلام كما يخوض الرَّكب فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾
﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ أَيْ: ظهر كفركم بعد إظهاركم الإِيمان ﴿إِنْ نَعْفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ وذلك أنَّهم كانوا ثلاثة نفر فهزئ اثنان وضحك واحد وهو المعفو عنه فلمَّا نزلت هذه الآية برئ من النِّفاق
﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض﴾ على دين بعض ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾ بالكفر بمحمد ﷺ ﴿وينهون عن المعروف﴾ عن اتِّباعه ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ عن النَّفقة في سبيل الله ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ تركوا أمر الله فتركهم من كلِّ خيرٍ وخذلهم ﴿إنَّ المنافقين هم الفاسقون﴾ الخارجون عمَّا أمر الله
﴿وعد الله المنافقين﴾ الآية ظاهرة ثم خاطبهم فقال:
﴿كالذين من قبلكم﴾ أَيْ: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم ﴿فاستمتعوا بخلاقهم﴾ رضوا بنصيبهم من الدُّنيا ففعلتم أنتم أيضاً مثل ما فعلوا ﴿وخضتم﴾ في الطَّعن على النبي ﷺ كما خاضوا في الطَّعن على أنبيائهم ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدنيا والآخرة﴾ لأنَّها لا تُقبل منهم ولا يُثابون عليها
﴿ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم﴾ ألم يأتهم خبر الذين أُهلكوا في الدُّنيا بذنوبهم فيتَّعظوا ثم ذكرهم ﴿قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم﴾ يعني: نمروذ ﴿وأصحاب مدين﴾ قوم شعيب ﴿والمؤتَفِكاتِ﴾ وأصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط ﴿فما كان الله ليظلمهم﴾ ليعذِّبهم قبل بعث الرَّسول ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بتكذيب الرُّسل
﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ في الرَّحمة والمحبَّة ﴿يأمرون بالمعروف﴾ يدعون إلى الإِسلام ﴿وينهون عن المنكر﴾ الشِّرك بالله الآية
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة﴾ يريد قصور الزَّبرجد والدُّرِّ والياقوت ﴿في جنات عدن﴾ هي قصبة الجنَّة وسقفُها عرش الرَّحمن ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ ممَّا يوصف
﴿يا أيها النبيُّ جاهد الكفار﴾ بالسَّيف ﴿والمنافقين﴾ باللِّسان والحُجَّة ﴿واغلظ عليهم﴾ يريد شدَّة الانتهار والنَّظر بالبغضة والمقت
﴿يحلفون بالله ما قالوا﴾ نزلت حين أساء المنافقون القول في رسول الله ﷺ وطعنوا في الدِّين وقالوا: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله ابن أُبيّ تاجاً يباهي به رسول الله - ﷺ - فَسُعِي بذلك إلى رسول الله ﷺ فدعاهم فحلفوا ما قالوا ﴿ولقد قالوا كلمة الكفر﴾ سبَّهم الرَّسول وطعنهم في الدِّين ﴿وهموا بما لم ينالوا﴾ من عقدهم التَّاج على رأس ابن أُبيّ وقيل: من الاغتيال بالرَّسول ﴿وما نقموا﴾ كرهوا ﴿إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالغنيمة حتى صارت لهم الأموال أَيْ: إنَّهم عملوا بضدِّ الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموه ثمَّ عرض عليهم التَّوبة فقال: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا﴾ يعرضوا عن الإِيمان ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل ﴿و﴾ في ﴿الآخِرَةِ﴾ بالنار ﴿وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ لا يتولاَّهم أحدٌ من المسلمين
﴿ومنهم مَنْ عاهد الله﴾ يعني: ثعلبة بن حاطب عاهد ربَّه لئن وسَّعَ عليه أن يؤتى كلَّ ذي حقٍ حقَّه ففعل الله ذلك فلم يفِ بما عاهد ومنع الزَّكاة فهذا معنى قوله: ﴿لئن آتانا من فضله لنصدقنَّ﴾ لنعطينَّ الصَّدقة ﴿ولنكوننَّ من الصالحين﴾ ولنعملنَّ ما يعمل أهل الصَّلاح في أموالهم
﴿فلما آتاهم من فضله بخلوا به﴾ الآية
﴿فأعقبهم نفاقاً﴾ صيَّر عاقبة أمرهم إلى ذلك بحرمان التَّوبة حتى ماتوا على النِّفاق جزاءً لإخلافهم الوعد وكذبهم في العهد وهو قوله: ﴿إلى يوم يلقونه﴾ الآية
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب﴾
﴿الذين يلمزون﴾ يعيبون ويغتابون ﴿المطوعين﴾ المتطوعين المُتنفلِّين ﴿من المؤمنين في الصدقات﴾ وذلك أن رسول الله ﷺ حثَّ على الصَّدقة فجاء بعض الصحابة بالمال الكثير وبعضهم - وهم الفقراء - بالقليل فاغتابهم المنافقون وقالوا: مَنْ أكثر رياءً ومَنْ أقلَّ أراد أن يذكر نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم﴾ وهو القليل الذي يتعيَّش به ﴿فيسخرون منهم سخر الله منهم﴾ جازاهم سخريتهم حيث صاروا إلى النَّار ثمَّ آيس الله رسول من إيمانهم ومغفرتهم فقال:
﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم﴾ وهذا تخييرٌ لرسول الله ﷺ ثمَّ قال: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ أَيْ: إن اسكتثرت من الدُّعاء بالاستغفار للمنافقين لن يغفر الله لهم
﴿فرح المخلفون﴾ يعني: الذين تخلَّفوا عن رسول الله ﷺ من المنافقين ﴿بمقعدهم﴾ بقعودهم ﴿خلاف رسول الله﴾ مخالفةً له ﴿وقالوا لا تنفروا﴾ مع محمدٍ إلى تبوك ﴿فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لو كانوا يفقهون﴾ يعلمون أنَّ مصيرهم إليها
﴿فليضحكوا قليلاً﴾ في الدُّنيا لأنَّها تنقطع عنهم ﴿وليبكوا كثيراً﴾ في النار بكاءً لا ينقطع ﴿جزاءً بما كانوا يكسبون﴾ في الدُّنيا من النِّفاق
﴿فإن رجعك الله﴾ ردَّك ﴿إلى طائفة منهم﴾ يعني: الذين تخلَّفوا بالمدينة ﴿فاستأذنوك للخروج﴾ إلى الغزو معك ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ إلى غزاةٍ ﴿وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ من أهل الكتاب ﴿إنكم رضيتم بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ حين لم تخرجوا إلى تبوك ﴿فاقعدوا مع الخالفين﴾ يعني: النِّساء والصِّبيان والزَّمنى الذين يخلفون الذَّاهبين إلى السَّفر ثمَّ نُهِيّ رسول اللَّه ﷺ عن الصَّلاة عليهم إذا ماتوا والدُّعاء لهم عند الوقوف على القبر فقال:
﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ولا تقم على قبره﴾ الآية
﴿ولا تعجبك أموالهم﴾ مضى تفسيره
﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم﴾ يعني: أصحاب الغنى والقدرة يستأذنونك في التَّخلُّف
﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف﴾ النِّساء اللاتي يخلفن في البيت ﴿وطبع على قلوبهم﴾ بالنِّفاق ﴿فهم لا يفقهون﴾ لا يفهمون الإِيمان وشرائعه وأمر الله
﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فيها ذلك الفوز العظيم﴾
﴿وجاء المعذِّرون﴾ المعتذرون وهم قوم ﴿من الأعراب﴾ اعتذروا إلى رسول الله ﷺ في التَّخلُّف فعذرهم وهو قوله ﴿ليؤذن لهم﴾ أَيْ: في القعود ﴿وقعد الذين كذبوا الله ورسوله﴾ لم يُصدِّقوا نبيَّه واتَّخذوا إسلامهم جُنَّة ثمًّ ذكر أهل العذر فقال:
﴿ليس على الضعفاء﴾ يعني: الزَّمنى والمشايخ والعجزى ﴿وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ ورسوله﴾ أخلصوا أعمالهم من الغِشِّ لهما ﴿ما على المحسنين من سبيل﴾ من طريق بالعقابِ لأنَّه قد سُدَّ طريقه بإحسانه ﴿والله غفور رحيم﴾ لمن كان على هذه الخصال
﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ نزلت في سبعة نفرٍ سألوا رسول الله ﷺ أن يحملهم على الدَّوابِّ فقال: ﴿لا أجد ما أحملكم عليه﴾ فانصرفوا باكين شوقاً إلى الجهاد وحزناً لضيق ذات اليد
﴿إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون﴾
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾ بالأباطيل ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ من هذه الغزوة ﴿قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لن نصدِّقكم ﴿قد نبأنا الله من أخباركم﴾ قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم ﴿وَسَيَرَى الله عملكم ورسوله﴾ فيما تستأنفون تبتم من النِّفاق أم أقمتم عليه ﴿ثمَّ تردون إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ إلى مَنْ يعلم ما غاب عنّا من ضمائركم ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كنتم تعملون﴾ فيخبركم بما كنتم تكتمون وتسرون
﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم﴾ إذا رجعتم ﴿إليهم﴾ من تبوك أنَّهم ما قدروا على الخروج ﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ إعراض الصَّفح ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ اتركوا كلامهم وسلامهم ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ إنَّ عملهم قبيح من عمل الشيطان ثمَّ نزل في أعاريب أسد وغطفان:
﴿يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾
﴿الأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً﴾ من أهل المدر لأنَّهم أجفى وأقسى ﴿وأجدر﴾ وأولى وأحق ﴿أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله﴾ من الحلال والحرام
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ لأنَّه لا يرجو له ثواباً ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر﴾ وينتظر أن ينقلب الأمر عليكم بموت الرَّسول عليه السَّلام ﴿عليهم دائرة السوء﴾ عليهم يدور البلاء والخزي فلا يرون في محمد ودينه إلاَّ ما يسوءهم ثمَّ نزل في مَنْ أسلم منهم:
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يتقرَّب بذلك إلى الله عز وجل ﴿وصلوات الرسول﴾ يعني: دعاءه بالخير والبركة والمعنى: أنَّه يتقرَّب بصدقته ودعاء الرَّسول إلى الله ﴿ألاَ إنّها قربة لهم﴾ أَيْ: نورٌ ومكرمةٌ عند الله
﴿والسابقون الأولون﴾ يعني: الذين شهدوا بدراً ﴿من المهاجرين والأنصار﴾ يعني: الذين آمنوا منهم قبل قدوم الرَّسول عليهم فهؤلاء السُّبَّاق من الفريقين وقيل: أراد كلَّ مَنْ أدركه من أصحابه فإنَّهم كلَّهم سبقوا هذه الأمة بصحبة النبي ﷺ ورؤيته ﴿والذين اتبعوهم بإحسان﴾ يعني: ومن اتبعهم على مناهجهم إلى يوم القيامة ممَّن يُحسن القول فيهم
﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون﴾ يعني: مزينة وجهينة وغفاراً ﴿ومن أهل المدينة﴾ الأوس والخزرج ﴿مردوا على النفاق﴾ لجُّوا فيه وأبوا غيره ﴿سنعذبهم مرتين﴾ بالأمراض والمصائب في الدُّنيا وعذاب القبر ﴿ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾ وهو الخلود في النَّار
﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ في التخلف عن الغزو ﴿خلطوا عملاً صالحاً﴾ وهو جهادهم مع النبي ﷺ قبل هذا ﴿وآخر سيئاً﴾ تقاعدهم عن هذه الغزوة ﴿عَسَى الله﴾ واجبٌ من الله ﴿أَنْ يَتُوبَ عليهم إن الله غفور رحيم﴾ ثمَّ تاب على هؤلاء وعذرهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفَتْنا عنك فخذها منَّا صدقةً وطهِّرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله سبحانه:
﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ فأخذ رسول الله ﷺ ثلث أموالهم وكانت كفَّارةً للذُّنوب التي أصابوها وهو قوله: ﴿تطهرهم﴾ يعني: هذه الصَّدقة تطهِّرهم من الذُّنوب ﴿وتزكيهم بها﴾ أَيْ: ترفعهم أنت يا محمَّدُ بهذه الصَّدقة من منازل المنافقين ﴿وصل عليهم﴾ ادع لهم ﴿إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ إنَّ دعواتك ممَّا تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم ﴿والله سميع﴾ لقولهم ﴿عليم﴾ بندامتهم فلمَّا نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يُكلَّمون ولا يُجالسون فما لهم؟ وذلك أن النبي ﷺ لمَّا رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم فأنزل الله تعالى سبحانه:
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ يقبلها ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هو التواب الرحيم﴾ يرجع على مَنْ يرجع إليه بالرَّحمة والمغفرة
﴿وقل اعملوا﴾ يا معشر عبادي المحسن والمسيء ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ أَيْ: إنَّ الله يُطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشَّرِّ فيحبون المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم وباقي الآية سبق تفسيره
﴿وآخرون مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ مُؤخَّرون ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع كانوا تخلَّفوا من غير عذر ثمَّ لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أولئك الذين تصدَّقوا بأموالهم فوقف رسولُ الله ﷺ أمرهم وهم مهجورون حتَّى نزل قوله: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ الآيات ﴿إمَّا يعذبهم﴾ بعقابه جزاءً لهم ﴿وإمَّا يتوب عليهم﴾ بفضله ﴿والله عليم﴾ بما يؤول إليه حالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله بهم
﴿والذين اتخذوا﴾ ومنهم الذين اتَّخذوا مسجداً وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارُّون به مسجد قباء وهو قوله: ﴿ضرارا وكفرا﴾ بالنبي ﷺ وما جاء به ﴿وتفريقاً بين المؤمنين﴾ يفرِّقون به جماعتهم لنهم كانوا يصلُّون جميعاً في مسجد قباء فبنوا مسجد الضِّرار ليصلِّي فيه بعضهم فيختلفوا بسبب ذلك ﴿وإرصاداً﴾ وانتظاراً ﴿لمن حارب الله ورسوله من قبل﴾ يعني: أبا عامرٍ الرَّاهب كان قد خرج إلى الشَّام ليأتي بجندٍ يحارب بهم رسول الله ﷺ وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجداً ﴿وليحلفنَّ إن أردنا﴾ ببنائه ﴿إلاَّ﴾ الفعلة ﴿الحسنى﴾ وهي الرِّفق بالمسلمين والتَّوسعة عليهم فلمَّا بنوا ذلك المسجد سألوا النبي ﷺ أن يأتيهم فيصلِّي بهم في ذلك المسجد فنهاه الله عز وجل وقال:
﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى﴾ بُنيت جُدُره ورُفعت قواعده على طاعة الله تعالى ﴿من أول يوم﴾ بُني وحَدث بناؤه وهو مسجد رسول الله ﷺ وقيل: هو مسجد قباء ﴿أحقُّ أن تقوم فيه﴾ للصَّلاة ﴿فيه رجال﴾ يعني: الأنصار ﴿يحبون أن يتطهروا﴾ يعني: غسل الأدبار بالماء وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر ﴿والله يحب المطهرين﴾ من الشِّرك والنِّفاق
﴿أفمن أسس بنيانه﴾ أَيْ: بناءه الذي بناه ﴿على تقوى من الله﴾ مخافة الله ورجاء ثوابه وطلب مرضاته ﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرف هار﴾ على حرف مهواةٍ ﴿فانهار به﴾ أُوقع بنيانه ﴿في نار جهنم﴾ وهذا مَثَل والمعنى: إنَّ بناء هذا المسجد كبناءٍ على حرفِ جهنَّم يتهوَّر بأهله فيها لأنَّه معصيةٌ وفعلٌ لما كرهه الله من الضِّرار
﴿لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قلوبهم﴾ شكَّاً في قلوبهم ﴿إلاَّ أن تقطَّع قلوبهم﴾ بالموت والمعنى: لا يزالون في شكٍّ منه إلى الموت يحسبون أنَّهم كانوا في بنائه محسنين ﴿والله عليم﴾ بخلقه ﴿حكيم﴾ فيما جعل لكلِّ أحدٍ
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ الآية نزلت في بيعة العقبة لمَّا بايعت الأنصار رسول الله ﷺ على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وأن يمنعوه ممَّا يمنعون أنفسهم قالوا: فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله فماذا لنا؟ قال: الجنَّة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية ومعنى: ﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ أنَّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يُقتل وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الجنَّة في الآخرة جزاءً لما فعل وقوله: ﴿وعداً﴾ أَيْ: وعدهم اللَّهُ الجنَّة وعداً ﴿عليه حقاً﴾ لا خلف فيه ﴿في التوراة والإِنجيل والقرآن﴾ أَيْ: إنَّ الله بيَّن في الكتابين أنَّه اشترى من أمة محمَّدٍ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة كما بيَّن في القرآن ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: لا أحدٌ أوفى بما وعد من الله ثمًّ مدحهم فقال:
﴿التائبون﴾ أَيْ: هم التَّائبون من الشِّرك ﴿العابدون﴾ يرون عبادة الله واجبةً عليهم ﴿الْحَامِدُونَ﴾ الله على كلِّ حال ﴿السائحون﴾ الصًّائمون ﴿الراكعون الساجدون﴾ في الفرائض ﴿الآمرون بالمعروف﴾ بالإِيمان بالله وفرائضه وحدوده ﴿والناهون عن المنكر﴾ الشِّرك وترك فرائض الله ﴿والحافظون لحدود الله﴾ العاملون بما افترض الله عليهم
﴿ما كان للنبيِّ﴾ الآية نزلت في استغفار النبيِّ عليه السَّلام لعمِّه أبي طالب وأبيه وأُمِّه واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين نُهوا عن ذلك وكان رسول الله ﷺ قد قال: لأستغفرنَّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فبيَّن الله سبحانه كيف كان ذلك فقال:
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ موعدة وعدها إياه﴾ وذلك أنَّه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه وأن ينقله الله باستغفاره إيَّاه من الكفر إلى الإِسلام وهذا ظاهر في قوله: ﴿سأستغفر لك ربي﴾ وقوله: ﴿لأستغفرنَّ لك﴾ فلمَّا مات أبوه مشركاً تبرَّأ منه وقطع الاستغفار ﴿إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ﴾ دَعَّاءٌ كثير البكاء ﴿حليم﴾ لم يعاقب أحداً إلاََ في الله ولم ينتصر من أحدٍ إلاَّ لله فلمَّا حرَّم الاستغفار للمشركين بين أنهم لم يأخذهم بما فعلوا لأنَّه لم يكن قد بيَّن لهم أنَّه لا يجوز ذلك فقال:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هداهم﴾ ليوقع الضَّلالة في قلوبهم بعد الهدى ﴿حتى يبيِّن لهم ما يتقون﴾ فلا يتَّقوه فعند ذلك يستحقُّون الإضلال
﴿أنَّ الله له ملك السماوات وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير﴾
﴿لقد تاب الله على النبيِّ﴾ مِنْ إذنه للمنافقين في التَّخلُّف عنه وهو ما ذُكر في قوله: ﴿عفا الله عنك﴾ الآية ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ في زمان عسرة الظَّهر وعسرة الماء وعسرة الزَّاد ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منهم﴾ من بعد ما همَّ بعضهم بالتَّخلُّف عنه والعصيان ثمَّ لحقوا به ﴿ثم تاب عليهم﴾ ازداد عنهم رضا
﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ أَي: عن التَّوبة عليهم يعني: مَنْ ذكرناهم في قوله: ﴿وأخرون مرجون لأمر الله﴾ ﴿حتى إذا ضاقت عليهم الأرض﴾ لأَنَّهم كانوا مهجورين لا يُعاملون ولا يُكلَّمون ﴿وضاقت عليهم أنفسهم﴾ بالهمِّ الذي حصل فيها ﴿ظنوا﴾ أيقنوا ﴿أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ﴾ أن لا مُعتَصَم من عذاب الله إلاَّ به ﴿ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا﴾ أَيْ: لطف بهم في التَّوبة ووفَّقهم لها
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ يعني: أهل الكتاب ﴿اتقوا الله﴾ بطاعته ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ محمدٍ وأصحابه يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشدة والرخاء وقوله:
﴿ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾ لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ورسولُ الله ﷺ في الحرِّ والمشقَّة ﴿ذَلِكَ﴾ أَيْ: ذلك النَّهي عن التَّخلُّف ﴿بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ وهو شدَّة العطش ﴿وَلا نصب﴾ إعياء من التَّعب ﴿ولا مخمصة﴾ مجاعةٌ ﴿ولا يطؤون موطئاً﴾ ولا يقفون موقفاً ﴿يغيظ الكفار﴾ يُغضبهم ﴿وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا﴾ أسراً وقتلاً إلاَّ كان ذلك قُربةً لهم عند الله
﴿ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة﴾ تمرةً فما فوقها ﴿ولا يقطعون واديا﴾ يُجاوزونه في سيرهم ﴿إِلا كُتِبَ لَهُمْ﴾ آثارهم وخُطاهم ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحسن﴾ بأحسن ﴿ما كانوا يعملون﴾ فلمَّا عِيبَ مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلف من غزوةٍ بعد هذا ولا عن سرية أبداً فلمَّا أمر رسول الله ﷺ بالسَّرايا إلى العدُّو نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوا رسول الله ﷺ وحده بالمدينة فأنزل الله عز وجل:
﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ ليخرجوا جميعاً إلى الغزو ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ فهلاَّ خرج إلى الغزو من كل قبيلةٍ جماعةٌ ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ ليتعلَّموا القرآن والسُّنن والحدود يعني: الفرقة القاعدين ﴿ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم﴾ وليعلِّموهم ما نزل من القرآن ويخوفوهم يه ﴿لعلهم يحذرون﴾ فلا يعملون بخلاف القرآن
﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم﴾ يقربون منكم أُمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوِّهم من المدينة ﴿وليجدوا فيكم غلظة﴾ شدَّةً وعُنفاً
﴿وإذا ما أنزلت سورة فمنهم﴾ من المنافقين ﴿مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيماناً﴾ يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤاً فقال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ تصديقاً لأنَّهم صدَّقوا بالأولى والثَّانية ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون بنزول السُّورة
﴿وأما الذين في قلوبهم مرض﴾ شكٌّ ونفاقٌ ﴿فزادتهم رجساً إلى رجسهم﴾ كفراً إلى كفرهم لأنَّهم كلَّما كفروا بسورةٍ ازداد كفرهم
﴿أو لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أو مرتين﴾ يُمتحنون بالأمراض والأوجاع وهنَّ روائد الموت ﴿ثمَّ لا يتوبون﴾ من النِّفاق ولا يتَّعظون كما يتَّعظ المؤمن بالمرض
﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ كان إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين وتلا عليهم رسول الله ﷺ شقَّ ذلك عليهم و ﴿نظر بعضهم إلى بعض﴾ يريدون الهرب من عند رسول الله ﷺ وقال بعضهم لبعض: ﴿هل يراكم من أحد﴾ إنْ قمتم فإن لم يرهم أحدٌ خرجوا من المسجد وإنْ علموا أنَّ أحداً يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته ﴿ثم انصرفوا﴾ على عزم الكفر والتَّكذيب ﴿صرف الله قلوبهم﴾ عن كلِّ رشدٍ وهدى ﴿بأنهم قوم لا يفقهون﴾ جزاءً على فعلهم وهو أنَّهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه
﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه ﴿عزيز عليه ما عنتم﴾ شديدٌ عليه مشقَّتكم وكلُّ مضرَّة تُصيبكم ﴿حريص عليكم﴾ أن تؤمنوا وهذا خطابٌ للكفَّار ومَنْ لم يؤمن به ثمَّ ذكر أنَّه ﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾
﴿فإن تولوا﴾ أعرضوا عن الإِيمان يعني: المشركين والمنافقين ﴿فقل حسبي الله﴾ أَيْ: الذي يكفيني اللَّهُ ﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ وبه وثقت ﴿وهو رب العرش العظيم﴾ خصَّ بالذِّكر لأنه أعظم ما خلق الله عز وجل
Icon