فأما تركُ البسملةِ في أوَّل هذه السُّورة، فقد رُوي أنَّ أُبَيَّ بن كعبٍ سُئِلَ عن ذلكَ فقال :(لأنَّهَا نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَأْمُرُ أوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ (بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَمْ يَأْمُرْ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ بذَلِكَ، فَضَمَّتْ إلَى الأَنفَالِ لِشَبَهِهَا بهَا) يعنِي أنَّ أمرَ العُهودِ مذكور في الأنفالِ، وهذه السُّورة نزلَتْ بنقضِ العهُودِ. سُئل عليٌّ رضي الله عنه عن هذا فقالَ :(لأَنَّ هَذِهِ السُورَةَ نَزَلَتْ فِي السَّيْفِ، وَلَيْسَ لِلسَّيْفِ أمَانٌ، وَبسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الأَمَانِ، ولأَنَّ الْبَسْمَلَةَ رَحْمَةٌ، وَالرَّحْمَةُ أمَانٌ، وَهَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بالسَّيْفِ وَلاَ أمَانَ فِيْهِ).
ويقالُ : إن قولَهُ :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ بيانُ أن هذا السَّيْحَ المذكورَ في أوَّل هذه السورةِ إنَّما هو بعدَ أربعةِ أشهرُ، فإنَّ عهدَ الكفَّار باق إلى آخرِ هذه المدَّة. قال الحسنُ :(أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ ﷺ أنْ يَنْظُرَ فِي عُهُودِ الْكُفَّارِ، فَيُقِرَّ مَنْ كاَنَ عَهْدُهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عَلَى عَهْدِهِ أنْ يَمْضِي، وَيَحِطَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أكْثَرَ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وَيَرْفَعَ عَهْدَ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَبْلَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَيَجْعَلَهُ أرْبَعَةَ أشْهُرْ).
واختلَفُوا في هذهِ الأربعة أشهُر، قال بعضُهم : من عشرين ذِي القِعدَةِ إلى عِشرين من رَبيع الأوَّل. ورُوي في الخبرِ : أنَّ مكَّة فُتحت في سنةِ ثَمانٍ من الهجرة، ووَلَّى رسولُ اللهِ ﷺ عتَّابَ بن أُسَيدٍ الوقوفَ بالناسِ في الموسمِ، واجتمعَ في تلك السَّنة في الوقوفِ المسلِمُون والمشركون.
" فلمَّا كانت سنةُ تسعٍ ولَّى رسولُ اللهِ ﷺ أبَا بكرٍ وبعثَ معه عشرَ آياتٍ من أوَّلِ براءةً أو تسعِ آياتٍ، وأمرَهُ أن يقرَأها على أهلِ مكَّة، وينبذَ إلى كلِّ ذِي عهدٍ عهدَهُ كما وصفَ اللهُ تعَالَى، فلمَّا خرجَ أبوُ بكرٍ رضي الله عنه منها إلى مكَّة، نزلَ جبريلُ عليه السلام فَقَالَ : للنبيِّ ﷺ :" لاَ يُبَلِّغُ عَنْكَ إلاَّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ " فدَعَا عَلِيّاً رضي الله عنه وأمَرَهُ بالذهاب إلَى مكَّةَ، وقال :" كُنْ أنْتَ الَّذِي يَقْرَأ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ، وَمُرْ أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاس ". فسارَ حتى لَحِقَ أبا بكرٍ رضي الله عنه في الطريقِ، فأخبرَهُ بذلك فمَضَيَا، وكان أبُو بكرٍ على الموسِمِ ".
فلمَّا كان يومُ النحرِ واجتمعَ المشركونَ، قام عليٌّ رضي الله عنه عند جمرةِ العَقَبَةِ وقالَ :(يَا أيُّهَا النَّاسُ ؛ إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلَيْكُمْ) فَقَالُواْ : بمَ ذَا ؟ فقرأ عليهم (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ...) إلى آخرِ الآياتِ التي نزلَتْ.
وكان الحجُّ في السنَّة التي قرأ عليٌّ رضي الله عنه فيها هذه السُّورةَ في العاشرِ من ذي القعدَةِ، ثم صارَ الحجُ في السَّنة الثانيةِ في ذي الحجَّة، وكان السببُ في تقديمِ الحجِّ في سَنَةِ العهدِ ما كان يفعلهُ بنو كِنَانَةَ في النَّسِيءُ وهو التأخيرُ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الأربعةَ الأشهر المذكورة في هذهِ الآيةِ هي : شوَّال وذُو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ ؛ أي غيرَ فائِتِين عن اللهِ بعدَ الأربعةِ الأشهر، فإنَّكم إنْ أجَّلتُم هذه الأشهرَ فلن تفُوتُوا اللهَ تعالى. وقولهُ تعالى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي معذِّبَ الكافرين في الدُّنيا بالقتل في الآخرةِ بالنار. والإخْزَاءُ : هو الإِذلاَلُ على وجههِ الأدْوَنِ.
ويروى أنَّ عَلِيّاً رضي الله عنه خرجَ يوم النَّحرِ على بلغةٍ بيضاءَ إلى الجبانة، فجاءَهُ رَجُلٌ فأخَذَ بلِجَامِهَا وسَأَلَهُ عن يومِ الحجِّ الأكبرِ، فقال :(هُوَ يَوْمُكَ هَذَا، خَلِّ سَبيلَهُ). وسُئلَ عبدُاللهِ بن أبي أوفَى عن يوم الحجِّ الأكبرِ، فقالَ :(سُبْحَانَ اللهِ! هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ يُهْرَاقُ فِيْهِ الدِّمَاءُ وَنَحْلِقُ فِيْهِ الشَّعْرَ وَيُحَلُّ فِيْهِ الْمُحَرَّمُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَذَانٌ ﴾ عطف على قوله :﴿ بَرَآءَةٌ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ أي أن اللهَ ورسولهُ برِيءٌ من المشركين، تقديرهُ : أنَّ اللهَ برِيءٌ ورسولهُ أيضاً بَرِيءٌ. ومَن قرأ (وَرَسُولَهُ) بالنصب فعلى معنَى وأن رسولَهُ بريءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي تبتُم من الشِّرك فهو خيرٌ لكم من الإقامةِ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ ؛ معناهُ : وإنْ أعرَضتُم، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ﴾ ؛ فَائِتِينَ عن ؛ ﴿ اللَّهِ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ تكرارٌ للوعيدِ، وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال :(كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّّ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بالبَرَاءَةَ إلَى مَكَّةَ) فَقِيلَ لأَبي هُرَيْرَةَ : بمَ إذاً كُنْتُمْ تُنَادُونَ ؟ قََالَ :(كُنَّا نُنَادِي : أنَّهُ لاَ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَحُجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مَشْرِكٌ وَلاَ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى إرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَإذَا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ فَإنَّ الله بَرِيءٌ مِنْ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي يرضَى عملَ الذينَ يتَّقون نقضَ العهدِ. قرأ عطاءُ (يَنْقُضُوكُمْ) بالضَّادِ المعجمة من نقضِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ معناهُ : فإن تابُوا عن الشِّرك، وقَبلُوا إقامَ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة فأطلِقُوهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَا سَلَفَ من شِركهم، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بهم حين قَبلَ توبتَهم.
قال مجاهدُ :(الإِلُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) وَمِنْهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فإنَّ مَعْنَاهُمَا عَبْدُ اللهِ. وَأبُو بَكْرٍ لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ مُسَيلَمَةَ قَالَ :(هَذَا كَلاَمٌ لَيْسَ هُوَ إلٍّ) أي لم يتكلَّمْ به اللهُ. وقرأ عكرمةُ (إيْلاً) بالياءِ يعني اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، مثل جِبرِيل مِيكَائِيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ ؛ أي يتكلَّمون العهدِ بأفواهِهم، ﴿ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ إلاَّ نقضَ العهدِ، ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾. أي مُتمَادُونَ في الكفرِ.
قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ فِي أبي سُفْيَانَ وَالْحَارثِ بْنِ هِشَامِ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهلٍ وَسَائرِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، وَهُمُ الَّذِينَ همُّواْ بإخْرَاجِ الرَّسُولِ). وقال مجاهدُ :(هُمْ فَارسَ وَالرُّومُ).
وقولُه تعالى :﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ أي لا عهودَ لهم ؛ جَمْعُ يَمِينٍ، وقال قطربُ :(لاَ وَفَاءَ لَهُمْ بالْعَهدِ). وقرأ الحسنُ وعطاء وابنُ عامرٍ (لاَ إيْمَانَ) بكسرِ الهمزة ؛ أي لا تصديقَ لهم، قال عطيَّة :(لاَ دِينَ لَهُمْ) أي هم قومٌ كفَّار. وَقِيْلَ : معناهُ : لا أمانَ لهم فلا تُؤَمِّنُوهُمْ واقتلُوهم حيث وجدتُّموهم، فيكون مصدرُ أمَّنْتُهُ إيْمَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ ؛ أي ليُرجَى منهم الانتهاءُ عنِ الكُفرِ ونقضِ العهد.
وفي الآية بيانُ أنَّ أهلَ العهدِ متى خالَفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نُقِضَ العهدُ، وأما إذا طَعَنَ واحدٌ منهم في الإسلام : فإنْ كان شُرِطَ في عُهودِهم أن لا يذكُروا كتابَ اللهِ ولا يذكرون مُحَمَّداً ﷺ بما لا يجوزُ، ولا يَفتِنُوا مُسلِماً عن دينهِ ولا يقطَعُوا عليه طَريقاً ولا يُعِينُوا أهلَ الحرب بدلالةٍ على المسلمين، فإنَّهم إذا فعَلُوا ذلك في عهودِهم وطَعَنوُا في القرآنِ وشَتَموا النبيَّ ﷺ، ففيه خلافٌ بين الفقَهاءِ.
قال أصحابُنا : يُعْذَرُونَ ولا يُقتلون، واستدَلُّوا بما روَى أنسُ بن مالك رضي الله عنه :" أنَّ امْرَأةً يَهُودِيَّةً أتَتِ النَّبيِّ ﷺ بشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ فَقِيلَ : ألاَ تَقْتُلُوهَا ؟ قَالَ :" لاَ ". ولحديث عائشةَ :" أنَّ قَوْماً مِنَ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ! فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ : وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النِّبيُّ ﷺ :" مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ألَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُواْ؟! فَقَالَ :" بَلَى قَدْ قُلْتُ : عَلَيْكُمْ " ولَمْ يقتُلْهم النبيُّ ﷺ بذلك. فذهب مالكُ إلى أنَّ مَن شَتَمَ النبيَّ ﷺ من اليهودِ والنصارى قُتِلَ إلا أن يُسلِمَ ".
وَأحَلَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ الْقِتَالَ لِخُزَاعَةَ ولَمْ يُحِلَّهُ لأَحَدٍ غَيْرَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ أي نقَضُوا عُهودَهم يعنِي قُريشاً، ﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ من مكَّة حين اجتمَعُوا على قتلهِ في دار النَّدوة ﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي هم الذي بَدأُوا بنقضِ العهد حين قاتَلُوا خزاعةَ حلفاءَ رسولِ اللهِ ﷺ، ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ ؛ أي تخَافُونَ أن ينَالَكم مكروهٌ في قتالِهم فتتركوا قتالَهُم، ﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ ؛ تخافوهُ في تركِكم لقتالهم، ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ ؛ مصدِّقين بعقاب الله وثوابه.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ استثناءُ كلام اللهِ ؛ أي يتوبُ الله على مَن يشاء من أهلِ مكَّة فيهديهِ للإِسلامِ، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بجميعِ الأشياء، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في جميعِ الأمُور.
والوَلِيجَةُ : المدخَلُ في القومِ مِن غيرهم ؛ مِنْ وَلَجَ شَيْء يَلِجُ إذا دَخَلَ. والخطابُ في الآيةِ للمؤمنين حين شَقَّ على بعضِهم القتالُ وَكِرَهُوا، فأنزلَ اللهُ هذه الآية ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ فلا تُؤمَروا بالجهادِ وتُمتَحَنُوا به ؛ ليظهَرَ الصادقُ من الكاذب، والمطيعُ من العَاصِي، وقال قتادةُ :(مَعْنَى وَلِيجَةً أيْ خِيَانَةً)، وقال الضَّحاكُ :(خَدِيعَةً)، وقال ابن الأنباريُّ :(الْوَلِيجَةُ : الدَّخِيلَةُ)، وقال عطاءُ :(أولياء)، قال الحسنُ :(كُفْرٌ وَنِفَاقٌ). وَقِيْلَ : الوَلِيجَةُ : الرجلُ من يختص يدخله مودَّةً دون الناسِ، يقالُ : هو وَلِيجَةٌ وهُم وَلِيجَةً، للواحدِ والجمعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بأعمالِكم، وفي هذا تَهديدٌ للمنافقين وعِظَةٌ للمخلصين.
ومَن قرأ (مَسْجِدَ اللهِ) على التوحيدِ أرادَ المسجدَ الحرام خاصَّة وهي قراءةُ ابن كثيرِ وأبي عمرٍو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابنِ عبَّاس، وقرأ الباقون (مَسَاجِدَ) بالجمعِ، وإنما قالَ (مَسَاجِدَ) لأنه قِبْلَةُ المساجدِ كلِّها. وقيل لعكرمة : لِمَ تَقْرَأُ (مَسَاجِدَ) وإنَّمَا هُوَ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ ؟ فقال :(إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾ ؛ نُصبَ (شَاهِدينَ) على الحالِ على معنى : ما كانت لَهم عمارةُ المسجدِ في حال إقرارِهم بالكُفرِ، وهم كانوا لا يقولون حنُ كفَّار، ولكن كن كلامُهم يدلُّ على كُفرِهم، وهذا كما يقالُ للرجلِ : كلامُكَ يشهدُ أنَّك ظالِمٌ، وهو قولُ الحسنِ، وقال السديُّ :(شَهَادَتُهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ بالْكُفْرِ، أنَّ الْيَهُودِيَّ لَوْ قُلْتَ لَهُ : مَا أنْتَ ؟ قَالَ : يَهُودِيٌّ، وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَيَقُولُ الْمَجُوسِيُّ : هُوَ مَجُوسِيٌّ).
وَقِيْلَ : شهادَتُهم على أنفُسِهم بالكفرِ سجُودُهم لأصنامِهم وإقرارُهم أنَّها مخلوقةٌ. قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الكفرَ أذهبَ ثوابَ أعمالِهم وهي التي مِن جنسِ طاعة المسلمين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ المرادِ.
ثم بَيْنَ اللهُ تَعالى مَن يكون أوْلَى بعمارةِ المسجد الحرامِ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ : معناهُ : إنما يعمرُ مساجدَ اللهِ بطاعةِ الله مَن كان في هذه الصِّفة، قوله :﴿ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ﴾ يعني إقامَ الصلاة المفروضةَ ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ الواجبةَ في مالهِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ أي لم يَخَفْ مِن غيرِ الله، ولم يَرْدُ إلا ثوابَهُ، وكلمةُ عسى مِن الله واجبةٌ، والفائدةُ في ذكرِها في آخرِ هذه الآية ليكونَ الإنسانُ على حذَرٍ من فعلِ ما يُحبطُ ثوابَ عملِهِ.
وقال الحسنُ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّّ وَالْعَبَّاسَ وَطَلْحَةَ بْنِ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار، وَذلِكَ أنَّهُمُ افْتَخَرُواْ، فَقَالَ طَلْحَةُ : إنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ، بيَدَيَّ مِفْتَاحُهُ، قَالَ الْعَبَّاسُ : أنَا صَاحِبُ السَِّقَايَةِ، وَقَالَ عَلِيٌّ : أنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي أجعلتُم صاحبَ سقايةِ الحاجِّ وصاحبَ عمارةِ المسجد الحرام كإيمانِ مَن آمنَ بالله واليومِ الآخر، ﴿ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ وَقِيْلَ : معناهُ : أجَعلتُم ساقيَ الحاجِّ وعامرَ المسجدِ الحرام، جعلَ السقايةَ بمعنى السَّاقِي، والعمارةَ بمعنى العامرِ، كقوله :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾[طه : ١٣٢] أي للمتَّقين.
وقرأ عبدُالله بن الزُّبير وأُبَي :(أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمُرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) على جميعِ السَّاقي والعامرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يرشِدُهم إلى الحجَّة ما دامُوا مُصِرِّينَ على الكُفرِ، ولا يرشِدُهم إلى الجنَّة والثواب.
وقال الكلبيُّ :(لَمَّا أمَرَ اللهُ النَّبيَّ ﷺ بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لأَخِيهِ وَأبيهِ وَامْرَأتِهِ وَأقْرِبَائِهِ : إنَّا قَدْ أُمِرْنَا بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْرُجُواْ مَعَنَا إلَيْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ فَيُنَازِعُ إلَيْهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أنْ يُهَاجِرَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَهُمْ : وَاللهِ لاَ أنْفَعُكُمْ بشَيْءٍ وَلاَ أُعْطِيكُمْ وَلاَ أُنْفِقُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّقُ بهِ زَوْجَتُهُ وَوَلَدَهُ وَعِيَالُهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ : نُنْشِدُكَ اللهَ أنْ لاَ تُضَيِّعْنَا، فَيَرِقُّ وَيَجْلِسُ وَيَتْرُكُ الْهِجْرَةَ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَة ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أصدقاءُ فتُفْشُونَ إليهم سِرَّكُم وتُؤثِرُونَ المقامَ معهم على الهجرةِ والجهاد إن استحَبُّوا الكفرَ على الإيمانِ، ومَن يتوَلَّهم منكم فيُطلِعُهم على عورةِ الإسلام وأهلهِ، ويُؤثِرِ الْمُكْثَ معهم على الهجرةِ، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ أي القَاضُونَ الواضِعُون الولايةَ في غيرِ موضعِها.
وقال مقاتلُ :(كَانُوا أحَدَ عَشَرَ ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ)، وقال قتادةُ :( " خَرَجَ رسُولُ اللهِ ﷺ إلَى حُنَينٍ لِقتَالِ هَوَازنَ وَثَقِيف فِي اثْنَي عَشَرَ ألْفاً مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ، وَألْفَيْنِ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلاَمةَ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ نُغْلَبُ الْيَومَ مِنْ قِلَّةٍ، فَسَاءَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَلِمَتُهُ وَابْتَلَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ بذَلِكَ، فَلَمَّا الْتَقَواْ حَمَلَ الْعَدُوُّ عَلَيهِمْ حَمْلَةَ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَقُومُواْ لَهُمْ حَلْبَ الشَّاةِ أنِ انْكَشَفُواْ وَتَبعَهُمُ الْقَوْمُ فِي أدْبَارِهِمْ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأبُو سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَقُودُ بهِ، وَالْعَبَّاسُ أخَذَ بالثَّغْرِ، وَحوْلَ رَسُولِ اللهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، فَجَعَلَ النَّبيُّ ﷺ يُرَكِّضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ لا يَأْلُ، وَكَانَتْ بَغْلَتَهُ شَهْبَاءَ وَهُوَ يُنَادِي :" يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إلَيَّ، أيْنَ أصْحَابُ الصُّفَّة " أيْ أصْحَابُ سُورَةِ الْبَقَرَةٍ.
وَكَانَ الْعَبَّاسُ يُنَادِي : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، أيْنَ الَّذِينَ بَايَعُواْ تَحْتَ الشَّجْرَةِ، يَا مَعْشرَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصُُرُواْ، هَلُمُّواْ فَإنَّ هَذَا رَسُولُ اللهِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ صَيِّتاً جَهُوريَّ الصَّوْتِ، يُروَي أنَّهُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِهِ أنَّهُ أُغِيرَ يَوْماً عَلَى مَكَّةَ فَنَادَى وَاصُبْحَاهُ، فَأَسْقَطَتْ كُلُّ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ.
فَلَمَّا صَاحَ بالْمُسْلِمِينَ عَطَفُواْ حِينَ سَمِعُواْ صَوْتَهُ عَطْفَةَ الْبَقَرِ علَى أوْلاَدِهَا، وَقَالَ : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَجَاؤُا عُنُقاً وَاحِداَ لِنَصْرِ دِينِ اللهِ، وَأقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَأظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى بَغْلَتِهِ يَتَطَاوَلُ إلَى قِتَالِهمْ، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً مِنَ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ بهِ وَقَالَ :" شَاهَتِ الْوُجُوهُ، انْهَزَمُواْ وَرَب الْكَعْبَةِ " فَوَاللهِ مَا زَالَ أمْرُهُمْ مُدْبراً وَجَدُّهُمْ كَلِيلاً، وَهَرَبَ حِينَئِذٍ آمِرُهُمْ مَالِكُ بْنُ عُوْفٍ) ".
والنجاسةُ على ضَربين، نجاسةُ أعيانٍ، ونجاسةُ الذُّنوب، وكان الحسنُ يقول :(لاَ تُصَافِحِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَن صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)، وقال قتادةُ :(سَمَّاهُمُ اللهُ نَجَساً لأنَّهُمْ يُجْنِبُونَ وَلاَ يَغْتَسِلُونَ، وَيُحْدِثُونَ وَلاَ يَتَوَضَّؤوُنَ، فمُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ ؛ لأَنَّ الْجُنُبَ لاَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا ﴾ أي لا ينبَغِي لهم أن يقربوهُ للحجِّ والطَّواف بعد هذا العامِ، وهو العامُ الذي حجَّ فيه أبو بَكرٍ رضي الله عنه، ونادَى عليٌّ رضي الله عنه فيه ببرَاءَةِ، وهو سنةُ تسعٍ من الهجرة، ثم حجَّ رسولُ اللهِ ﷺ في العام الثاني حجَّة الوداعِ في سنة عاشرِ من الهجرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ﴾ بيانُ أنَّ المرادَ بالآيةِ إبعادُ المشركين عن المسجدِ الحرام، كما رُوي عن عليٍّ رضي لله عنه أنه كان يُنادي فيهم في العامِ :(ألاَّ لاَ يَطُوفَنَّ بهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَعُرْيَانٌ).
قال ابنُ عبَّاس :(فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ تُجَّارِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذِهِ الآيَةَ : سَتَعْلَمُونَ يَا أهْلَ مَكَّةَ إذَا فَعَلْتُمْ هَذَا مَاذَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَمِنْ أيْنَ تَأكُلُونَ، أمَا وَاللهِ لَتُقَطَّعَنَّ سُبُلُكُمْ، وَلاَ نَحْمِلُ إلَيْكُمْ شَيْئاً. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ أهْلِ مَكَّةَ وَشُقَّ عَلَيْهِمْ، وَألْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوب الْمُسْلِمِينَ حُزْناً وَقَالَ لَهُمْ : مِنْ أيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ نَفَى الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ عَنْكُمُ الْمِيرَةَ ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ، فَالآنَ يَنْقَطِعُ عَنَّا الأسْوَاقُ وَالتِّجَارَةُ ويَذْهَبُ الَّذِي كُنَّا نُصِيبُهُمْ فِيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ) معناهُ : وإنْ خِفْتُم فَقراً من إبعادِ المشركين، ﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ بغيرِهم، فأخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجَرَشُ وحَملوا إلى مكَّة الطَّعامَ والإدامَ، وأغنَى اللهُ أهلَ مكَّة من تُجَّارِ بني بكرٍ. ورُوي أن أهلَ نَجْدٍ وصنعاءَ من أهلِ اليمَنِ أسلَمُوا وحملوا إلى مكَّة الطعامَ في البحرِ والبرِّ.
والعَيلَةُ : الفقرِ والصِّفَاقِ، يقالُ : عَالَى الرجلُ يَعِيلُ عليه، قال الشاعرُ : وَلاَ يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاؤُهُ وَلاَ يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُأي يفتقرُ. وفي مُصحف عبدِالله (وَإنْ خِفْتُمْ عَائِلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقولهُ تعالى :﴿ إِن شَآءَ ﴾ ؛ استثناءٌ، فجاء عِلمُ اللهِ أنه سيكون لئَلا تترُكَ العبادُ الاستثناءَ في أمورِهم، ولتنقطعَ الآمالُ إلى اللهِ في طلب الغِنَى منه. قَولُهَ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي عليمٌ بخلقهِ وما يُصلِحُهم، حيكمٌ فيما حكمَ من أمرهِ.
وقولُه تعالى :﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ﴾ ؛ أي لا يعتقدون دينَ الإسلامِ ولا يخضعون لله بالتوحيد، وَقِيْلَ : معنى ﴿ دِينَ الْحَقِّ ﴾ أي دينَ اللهِ ؛ لأن اللهَ هو الحقُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ ؛ يعني اليهودَ والنصارى، ﴿ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ﴾ ؛ أي حتَّى تؤخذَ الجزيةُ من أيديهم وهم قِيَّامٌ إذِلاَّء، والآخِذُ جالسٌ. ويقال : أرادَ بالقهرِ، كأنه قالَ : عن قَهْرٍ من المسلمين عليهم واعترافٍ منهم للمسلمين بأنَّ أيدِي المسلمين فوقَ أيدِيهم، كما يقالُ : اليدُ لفلانٍ في هذا الأمرِ، ويرادُ به نَفَاذُ أمْرِهِ. ويحتملُ أن يكون المعنى باليدِ إنعامُ المسلمين عليهم بقَبولِ الجزيةِ عنهم. ويقال : أراد باليدِ القوَّة على معنى أنه ليس على الفقير غيرِ المتموِّل جزيةٌ.
وأما طعنُ المخالف كيف يجوزُ إقرار الكفَّار على كفرِهم بأداءِ الجزية بدَلاً عن الإسلامِ ؟ فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون أخذُ الجزيةِ عنهم رضًى بكُفرِهم، وإنما الجزيةُ عقوبةً لهم على إقامتِهم على الكفرِ، وإذا جازَ إمهالُهم بغيرِ الجزية للاستدعاءِ إلى الإيمان كان إمهالُهم بالجزيةِ أولى. قال أبو عُبيد :(يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أعْطَى شَيْئاً كَرْهاً مِنْ غَيْرِ طِيب نَفْسٍ مِنْهُ أعْطَاهُ عَنْ يَدٍ). قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنْ يُعطِيهَا بأَيدِيهِمْ يَمْشُونَ بهَا كَارِهِينَ، وَلاَ يَجِيئُونَ رُكْبَاناً وَلاَ يُرْسَلُونَ بهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ ؛ أي ذلِيلُونَ ومَقهُورُونَ، قال عكرمةُ :(مَعْنَى الصَّغَار هُوَ أنْ تَأْخُذََهَا وَأنْتَ جَالِسٌ وَهُوَ قَائِمٌ)، وقال الكلبيُّ :(هُوَ أنَّهُ إذا أعْطَى الْجِزْيَةَ صُفِعَ فِي قَفَاهُ)، وَقِيْلَ : هو أنه لا يُقبَلُ فيها رسالةٌ ولا وِكالَةٌ.
وتؤخذُ الجزية أيضاً من الصَّابئين والسامِرِيِّ ؛ لأن سبيلَهم في أهلِ الكتب سبيلُ لأهلِ البدَعِ فِينَا، وتؤخذُ الجزية أيضاً من الْمَجُوسِيِّ ؛ لأنه قد قيلَ إنَّهم كانوا أهلَ كتابٍ فُرفِعَ كتابُهم، وعن سعيدِ بن المسِّب (أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْهَجَرِ، وَأَخَذَهَا عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ مَجُوسِ أهْلِ السَّوَادِ).
" رُوي أنَّ عمر رضي الله عنه قال : لاَ أدْري كَيْفَ أصْنَعُ بالْمَجُوسِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" سُنُّوا بهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الْكِتَاب غَيْرَ نَاكِحِينَ نِسَاءَهُمْ وَلاَ آكِلِي ذبَائِحِهِمْ ".
وقرأ عاصمُ والكسائي ويعقوب (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) بالتنوينِ، وقرأ الباقون بغيرِ التنوين، فمَن نَوَّنَ قال : لأنه اسمٌ خفيف فوجههُ أن يصرفَ وإنْ كان إعجمّياً مثل نوحٍ وهود ولوطٍ، وقال أبو حاتم والمبرد : اختيار التنوينِ لأنه ليس بصفةٍ والكلامُ ناقصٌ، و(ابْنُ) في موضعِ الخبر وليس بنَعتٍ، وإنما يحذفُ التنوين في النَّعتِ. ومَن تركَ التنوينَ قال لأنه اسمٌ أعجمي. قال الزجَّاج :(يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفاً تَقْدِيرُهُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ مَعْبُودٌ، عَلَى أنْ يَكُونَ (ابْنُ) نَعْتاً للْعُزَيْرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا قولُ نصارى نَجْرَان، وقولُه تعالى :﴿ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّهم لا يتجاوَزون في القولِ عن العبادةِ ؛ أي المعنى إذ لا بُرْهانَ لأنَّهم يعتَرِفون أنَّ اللهَ لا يتخذُ صاحبةً، فكيف تزعُمون أنَّ له ولداً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي يُشَابِهُونَ في قولِ ذلك قولَ أهلِ مكَّة حين قالَ : اللاَّتُ والعُزَّى ومناةُ. وَقِيْلَ : أرادَ يُشَابهُونَ قولَ الكفَّار الذين يقولون الملائكةُ بناتُ اللهِ.
قرأ عاصم (يُضَاهِئُونَ) بالهمزِ، وقرأ العامَّة بغيرِ همزٍ، يقال : ضَاهَيْتُهُ وَضَاهَأْتُهُ بمعنى واحدٍ، وقال قتادةُ السدي :(ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ مِنْ قَبْلُ، فَقَالَتِ النَّصَارَى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُضَاهِئُونَ ﴾ أي يُشَابهُونَ، يقالُ : امرأةٌ أُضْهِيَأ إذا شابَهت الرجُلَ في أنَّها لا ثديَ لها ولا تحيضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي لَعَنَهُمُ اللهُ، كذا ابنُ عبَّاس، وقال ابنُ جُرَيجٍ :(مَعْنَاهُ قَتَلَهُمُ اللهُ)، ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي أنَّى يَكْذِبُونَ ويَصْدِفونَ عن الحقِّ بعد قيام الدلالةِ عليه.
وقوله تعالى :﴿ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ ؛ أي اتُّخِذَ المسيحُ إلَهاً. وقولهُ تعالى :﴿ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـاهاً وَاحِداً ﴾ ؛ أي لَم يُؤمَروا في جميعِ الكتُب ولا على ألْسِنَةِ الرُّسلِ إلاَّ بعبادةِ إلَهٍ واحدٍ، وقولهُ تعالى :﴿ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنْزِيهاً للهِ عن الشِّرك وما لا يليقُ بهِ.
وأما تخصيصُ الأكلِ في الآية، فلأنَّ مُعظَمَ المقصودِ من التَّمليكِ الأكلُ، فوُضِعَ الأكلُ موضعَ الْمِلْكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي يَصرِفُونَ الناسَ عن دينِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ أي يجمَعونَها ويضَعون بعضها فوقَ بعضٍ ؛ ولا يُنفِقُونَ الكُنُوزَ في طاعةِ الله. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يُنفِقُونَ الفضَّة، وحذفَ الذهبَ ؛ لأن فِي بيانِ أحدِهما حكمُ الآخر، كما قالَ تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾[الجمعة : ١١]، والدليلُ على أنَّ هذه الكنايةَ راجعةٌ إلى الذهب والفضَّة جميعاً أنَّها لو رَجعت إلى أحِدهما لبَقِِيَ الآخرُ عَارِياً عن الجواب، فيصيرُ كلاماً مُنقطعاً لا معنى له، وتقديرُ الآيةِ : لا يُنفقون منها ؛ أي لا يُؤَدَّونَ زَكاتَهما ولا يُخرِجُونَ حقَّ الله منهما، إلاَّ أنه حذفَ (مِنْ) وأرادَ إثباتَها، بدليلِ أنه تعالى قال في آيةٍ أخرى﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾[التوبة : ١٠٣] قال النبيُّ ﷺ :" فِي مِائَتَي دِرْهَمٍ خَمْسُ دَرَاهِمَ، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَب نِصْفُ مِثْقَالٍ " ولو كان الواجبُ إنفاق جميعِ المال لم يكن لِهذا التقديرِ وجهٌ.
وسُمِّي الذهبُ ذَهباً ؛ لأنه يذهبُ ولا يبقَى، وسميت فضةُ لأنَّها تَنْفَضُّ ؛ أي تُفرَّقُ ولا تبقَى، وحسبُكَ باسمِهنَّ دلالةً على فَنَائِهما وأنه لا بقاءَ لهما.
وقولهُ تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي ضَعِ الوعيدَ لهم بالعذاب موضعَ بشارةِ بالنِّعم لغيرِهم ؛ وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ :(كُلُّ مَالٍ أدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بكَنْزٍ وَإنْ كَانَتْ تَحْتَ سَبْعِ أرْضِينَ، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإنْ كَانَ ظَاهِراً).
قَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم : هذا ما جَمعتُم في دارِ الدُّنيا، ﴿ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾، فذُوقوا عقوبةَ ما كنت تجمعونَ. وسُئل أبو بكر الورَّاق : لِمَ خُصَّتِ الجِبَاهُ الْجُنوبُ والظُّهورُ بالكَيِّ ؟ فقال :(لأَنَّ الْغَنِيَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ إذا رَأى الْفَقِيرَ انْعصَرَ وَإذا ضَمَّهُ وَإيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرَّ عَلَيْهِ وَوَلاَّهُ ظَهْرَهُ).
عن ثوبَان مولَى النبيِّ ﷺ أنه قال :" لَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ قَالَتِ الصَّحَابَةُ : فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : أنَا أسْأَلُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ عليه السلام :" لِسَاناً ذاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَبَدَناً صَابراً وَزَوْجَةً تُعِينُكَ عَلَى إيْمانِكَ ".
وعن أبي هُريرة قالَ : قال رسولُ اللهِ ﷺ :" مَا مِنْ صَاحِب كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلاَّ أُحْمِيَ عَلَيٍْهِ فِي نَار جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَتُكْوَى بهَا جَبينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقَدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار.
وَمَا مِنْ صَاحِب إبلٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار. وَمَا مِنْ صَاحِب بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسيرُ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى آخِرِهُا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَ يُرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار.
وَمَا مِنْ صَاحِبَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بأظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بقُرُونِهَا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءَ وَلاَ جَلْحَاءَ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ أوَّلُهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلى النَّار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ ؛ واحدٌ فَرْدٌ وهو رجَبْ وثلاثةُ سُرْدٌ متتابعةٌ، وهي ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّّم، سماها حُرُماً لعِظَمِ انتهاكِ حُرْمَتها، كما خُصَّ الْحَرَمُ بمثلِ ذلك، كنت العربُ تُعظِّمُها وتحرِّمُ القتالَ فيها حتى أن الرجلَ لو لَقِيَ قاتل أبيهِ أو أخيه فيها لم يُهجِْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي في أشهرِ الْحُرُمِ بالعملِ بالمعصية وتركِ الطاعة. وَقِيْلَ : باستحلال القتلِ والغَارَةِ. وَقِِيْلَ : معناهُ : ولا تجعلوا حَلاَلها حَرامً، ولا حرَامها حَلاَلاً، والذنبُ والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهنَّ. ويقالُ : معناه : فلا تظلِمُوا في الاثني عشرِ الشهر أنُفسَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي ذلك الحسابُ المستقيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ ويجوزُ أن يكون الكافَّة راجعةً إلى المسلمينَ ؛ أي قاتِلُوا جميعاً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ أي كما يُقاتِلونَكم أي جمعياً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي معهم بالنُّصرة.
واختلفَ العلماءُ في حُرمةِ القتالِ في الأشهُرِ الْحُرُمِ، فقالَ بعضُهم : لا يجوزُ القتال فيها والغارةُ لأن اللهَ سَمَّاها حُرُماً فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ دَليلاً على جواز القتال فيها على وجهِ الدَّفع.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أن القتالَ فيها جائزٌ، والمرادُ بقوله :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ تعظيمُ انتهاكِ حُرمَتِها بالظلمِ والفساد فيها، وتعظيمُ ثواب الطاعة التي يفعلُ فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يدلُّ على أنَّ اللهَ أخرجَ هذه الأشهرَ الحرم من أن تكون حُرماً.
وفي باب الجهادِ دليلاً تقديراً آخر أن أحدَ الجهاد داخلٌ تحت قوله :﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وكان اللهُ تعالى مَيَّزَ الجهادَ من الظلمِ الذي هو إقدامٌ على النُّفوس والأموالِ، وقوله تعالى :﴿ كَآفَّةً ﴾ منصوبٌ على الحالِ.
قال قتادةُ وعطاء :(كَانَ الْقِتَالُ كَثِ]راً فِي الأشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ نُسِخَ وَأحِلَّ فِيْهِ بقَوْلِهِ :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يَِعْنِي فِيْهنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ). وقال الزهريُّ :(كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، مِمَّا أنْزَلَ اللهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ بَرَاءَةُ، وَأحِلَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ).
وقال سفيانُ الثوريُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، قَالَ :(لاَ بَأْسَ بالْقِتالِ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ ؛ لأََّ النّبيِّ ﷺ غَزَا هَوَازنَ وَحُنَيْياً وَثقِيفاً بالطَّائِفِ وَحَاصَرَهُمْ فِي الشَّوَّالِ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِيْهَا مَنْسُوخٌ).
قرأ قتادةُ ومجاهد وأبو عمرٍو ونافع غير وَرْشٍ وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر (النَّسِيءُ) بالمدِّ والهمزة وهو مصدرٌ كالسَّعِيرِ والحريقِ ونحوهما، ويجوزُ أن يكون مفعُولاً مَصرُوفاً أي فعيلٌ مثل الجريحِ والقتيل والصريعِ، تقديرهُ : إنما الشهرُ المؤخَّر. وقرأ أبو جعفرٍ ووَرْشٌ (إنَّما النَّسِيُّ) بالتشديدِ من غير همزةٍ، وروَى ذلك ابنُ كثير على معنى الْمَنْسِيِّ أي المتروكِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾[التوبة : ٦٧].
وقوله :﴿ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، قرأ أهلُ المدينةِ وابنُ كثير وابن عامرٍ وأبو عمرٍو وأبو بكرٍ بفتح الياء وكسر الضَّاد لأنَّهم هم الضالُّون لقوله :﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ﴾، وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد ويعقوب بضمِّ الياء وكسرِ الضاد ؛ أي يُضِلُّ به الذين كفَرُوا الناسَ المقتدِين بهم، وقرأ اهلُ الكوفةِ إلاَّ أبا بكر بضمِّ الياء وفتحِ الضادِ، وهي قراءةُ ابنِ مسعود لقوله :﴿ زُيِّنَ لَهُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً ﴾ أي يُحِلُّونَ النسيءَ.
وقولهُ تعالى :﴿ لِّيُوَاطِئُواْ ﴾ ؛ أي ليُوافِقُوا، وقيل : ليُشَبهوا، ﴿ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي يُحِلُّوا ما حَرَّمَهُ اللهُ من الغارةِ والقتلِ في الشَّهرِ الحرامِ، وإنما كان يفعلُ هكذا بنو كِنَانَةَ وربَّما كانوا يؤَخِّرون رَجَباً ويبدِّلونَهُ صَفَراً لتكون الشهورُ متواليةً، وقولهُ تعالى :﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ﴾ ؛ أي حُسِّنَ في قُلوبهم قُبْحُ أعمالِهم من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ، وتحليل ما حرَّم الله، قال الحسنُ :(زَيَّنَتْهَا لَهُمْ أنْفُسُهُمْ وَالشَّيَاطِينُ) ﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ أي لا يُوَفِّقُهم مجازاةً لكُفرِهم. وَقِيْلَ : لا يَهدِيهم إلى الجنَّة والثواب.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ النّاسِئُ رَجُلاً مِنْ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيم بْنُ ثعلبة وجنادةَ بنُ عَوْفٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى النِّاسِ فيَقُولُ : ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عََلَيْكُمْ صَفَرَ الْعَامَ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ والأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ فِي الْمُحَرَّمِ، فَإذَا كَانَ مِنْ قَابلٍ نَادَى : ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحَرَّمَ الْعَامَ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ وَالأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ صَفَرَ لِيُفِيدُواْ مِنْهُ).
وفي بعضِ الرِّوايات : أنه كان يقولُ قبلَ هذا النداءِ : يا أيُّها الناس أنا الذي أعابَ ولا خابَ ولا مرَدَّ لِمَا قضيتُ، فيقولُ له المشركون : لبَّيكَ ربَّنا، ثم يسألونَهُ أن يُنسِئَهم شَهراً فيقولُ : ألا إن صَفَرَ العامَ حلالٌ يريدُ به المحرَّم، وربَّما يقولُ : حرامٌ، فيحرِّمون المحرَّم صَفراً، وكان إذا قالَ الناسيءُ في المحرَّم : حلالٌ، عقَدُوا الأوتارَ وشَدُّوا الأزجةَ واعلَموا السيوفَ وأغَارُوا على الناسِ، وإذا قالَ : حُرِّمَ، حلُّوا الأوتارَ ونزَعُوا الأزجة وأغمَدُوا السيوف.
ومعنَاها : ما لكُم إذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى جهادِ المشركين تَثَاقَلْتُمْ إلى الأرضِ وتَكَاسَلْتُمْ واطمأنَنْتُم إلى أوطانِكم، ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ﴾ ؛ استفهامٌ يعني الإنكارَ ؛ أي آثرْتُمْ عملَ الدُّنيا على عملِ الآخرة، وآثرتُم الحياةَ في الدُّنيا على الحياةِ في الآخرة، ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ أي ما منفعةُ الدُّنيا في الآخرةِ وفي ما يتمتَّعُ به أولياءُ الله في الجنَّة إلا يسيرٌ لأن الدُّنيا تضمحلُّ ويفنَى أهلْها، والآخرةُ دار القَرَار.
فدخلَ الكفِّارُ على عِليٍّ رضي الله عنه فقالوا لَهُ : يا عليُّ أين مُحَمَّدٌ ؟ فقالَ : لاَ أدْري أيْنَ ذهَبَ، فطلبوهُ من الغدِ واستأجَرُوا رجُلاً يقال له كَرْزُ بن علقمةَ الجرَّاح، فَقَفَا لهما الأثرَ حتى انتهَى بهم إلى جبلِ ثَورٍ، فقالَ : انتهينا إلى هنا وهذا أثرهُ فما أدري أينَ أخذَ يَميناً أو شمالاً أو صعدَ الجبلَ، فصَعَدُوا الجبلَ يطلبونَهُ، وأعمَى اللهُ عليهم مكانَهُ فلم يهتَدُوا إليه.
فقامَ رجلٌ منهم يبولُ مستقبلاً رسولَ اللهِ ﷺ وأبَا بكرٍ بعورتهِ، فقال أبُو بكرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أرَاهُ إلاَّ قَدْ أبْصَرَنا، فَقَالَ ﷺ " لَوْ أبْصرَنَا مَا يَسْتَقْبلُنَا بعَوْرَتِهِ ". وأقبلَ شبابُ قريشٍ من كلِّ بطنٍ، معهم عِصِيُّهم وقِسيُّهم حتى رَأوا بابَ الغار، وكان ﷺ مرَّ على ثُمامَةٍ وهي شجرةٌ صغيرة ضعيفة فأمرَ أبا بكرٍ أن يأخُذَها معه، فلما سارَ إلى باب الغار أمرَهُ أن يجعلَها على باب الغار، وألْهَمَ اللهُ العنكبوتَ فنسجَتْ حتى ستَرت وجهَ النبيِّ ﷺ وصاحبَهُ، وبعثَ اللهُ حمامَتين وحشِيَّتين فأقبَلتا حتى وقعتَا على باب الغار بين العنكبوتِ وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامةَ، ونسجَ العنكبوتِ علِمُوا أنْ ليس في الغار أحدٌ، وكان أبو بكرٍ يقولُ : يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أتِيْنَا وَمَا أنا إلاَّ رجُلٌ وَاحدٌ، فَإنْ قُتِلْتَ أنْتَ تَهْلَكُ هَذِهِ الأُمَّةُ فَلاَ يُعْبَدُ اللهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، فقال :" لاَ تَحْزَنْ يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ اللهَ مَعَنَا ".
ثم نزلَ المشركون من الجبلِ، ولم يقدِرُوا على رسولِ اللهِ ﷺ، فمكثَ رسولُ اللهِ ﷺ بالغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ، وكان عبدُاللهِ بن أبي بكرٍ يأتِيهما بأخبارِ أهل مكَّة، فلما أمِنَا طلبَ " القوم " وكان رسولُ اللهِ ﷺ أُمِرَ بالهجرة إلى المدينةِ، فستأجرَ رجُلاً يقالُ له عبدُالله بن أُرَيقِطْ يَهدِيهم الطريقَ إلى المدينةِ فخرجَ بهما إلى المدينةِ، فسَمِعَ سُراقَةُ بن مالك بن مقسم الكِنَانِي بخرُوجهِ إلى المدينةِ، فلَبسَ لاَمَتَهُ وركِبَ فرسَهُ يتَّبعُ آثارَهم حتى أدركَ رسولَ اللهِ ﷺ، فدعَا عليه رسولُ الله ﷺ فَسَاخَتْ قوائمُ فرسهِ، فقالَ : يَا مُحَمَّدُ أُدْعُ اللهَ أنْ يُطْلِقَ عَلَيَّ فَرَسِي فَأَرْدُّ عَنْكَ مَنْ أرَى مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ ﷺ :" اللَّهُمَّ إنْ كَانَ صَادِقاً فَأطْلِقْ فَرَسَهُ " فرجعَ سُراقة وقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه مع النبيِّ ﷺ حتى أتيَا المدينة ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾، أي لكن بعُدَت عليهم المسافةُ إلى الشَّام، ﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا ﴾ ؛ في اعتذارِهم إليكم لو كان لنا سَعَةً في الزادِ والمال، ﴿ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ ؛ في غَزاتِكم، ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ ؛ بالأيمان الكاذبةِ والقعود عن الجهادِ، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ أنَّ لهم سَعةً في المالِ والزادِ وإنَّهم لكَاذِبون في هذا الاعتذارِ، وَقِيْلَ : معنى قوله :﴿ وَسَفَراً قَاصِداً ﴾ أي مَوضِعاً قريباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ ؛ أي حَبَسَهم، يقالُ : ثَبَّطَهُ عن الأمرِ إذا حَبَسَهُ عنه، ﴿ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ ؛ أي اقعدُوا مع النِّساء والصبيان. ويجوز أن يكون القائلُ لَهم النبيُّ ﷺ بأمر الله، ويجوزُ أن يكون قد قالَ بعضُهم لبعضٍ. وَقِيْلَ : قال لَهم الشيطانُ وَوَسْوَسَ لَهم.
ثم بيَّن اللهُ أن لا منفعةَ للمسلمين في خروجِهم، بل عليهم مضرَّة لهم، فقال تعالى :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ ؛ أي لو خرَجُوا فيكم ما زادوكم الا شَرّاً وفَسَاداً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾ ؛ أي لأسرَعوا فيما بينِكم، ﴿ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ﴾ ؛ أي يطلُبون فسادَ الرأي وعيوبَ المسلمين، ويقالُ : سارُوا فيكم بالنميمة، والإِيْضاعُ : الإسراعُ في السَّيرِ، يقالُ : أوْضَعَ البعيرَ إيْضَاعاً.
وكان الأصفرُ رجُلاً من الحبشةِ مَلَكَ الرُّوم، وغلبَ على ناحيةٍ منها، فتزوجتِ الحبشةُ من الرُّوم، فولَدَت لهم بنات أخَذْنَ من بياضِ الرُّوم وسوادِ الحبشة، فكُنَّ صُفْراً لُعْساً لم يُرَ مثلُهنَّ، فقال له جدُّ بن قيسٍ : ائْذَنْ لِي يا رسولَ اللهِ أنْ أُقِيمَ، ولا تَفْتِنِّي ببناتِ الأصفر، فقد عرفَ قَومِي عُجْبي بالنساء، وإنِّي أرَى المرأةَ تُعْجِبُني فما أملكُ نفسي حتى أضعَ يدِي على الْمُحَرَّمِ، فلما سمعَ النبيُّ ﷺ قولَهُ عرضَ عنه وقالَ :" إذِنْتُ لَكَ ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾ أي ائْذَنْ لي في التخلُّف ولا تَفتِنِّي ببناتِ الأصفرِ، قال قتادةُ :(مَعْنَاهُ وَلاَ تُؤَثِّمْنِي)، وقولهُ تعالى :﴿ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾ أي ألاَ في الإثْمِ والشِّركِ وقَعُوا بنفاقِهم ومخالفتهم أمرَكَ في تركِ الجهاد، ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي إنَّهم يدخلون جهنَّم لا محالةَ ؛ لأن الشيءَ إذا كان مُحِيطاً بالإنسانِ فإنه لا يفوتهُ.
روي " أنَّ النبيَّ ﷺ قال :" مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ " قَالُوا : جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، غَيْرَ أنَّهُ بَخِيلٌ. قَالَ :ﷺ :" وَأيُّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟! بَلْ سَيِّدُكُمْ الْفَتَى أبْيَضُ الْجَعْدِ بشْرُ ابْنُ الْبَرَاءِ بْنُ مَعْرُورٍ " فَقَالَ فِيْهِ حسَّانُ الشِّعرَ : وقَالَ رَسُولُ اللهِ وَالْحَقُّ قَوْلُهُ لِمَنْ قالَ مِنَّا : مَنْ تَعُدُّونَ سَيِّدَا؟فَقُلْتُ لَهُ : جَدُّ بْنُ قَيْس عَلَى الَّذِي ببُخْلِهِ فِينَا وَإنْ كَانَ أنْكَدَافَقَالَ : وَأيُّ الدَّاءِ أدْوَى مِنَ الَّذِي رَمَيْتُمْ بهِ لَوْ عَلَى بهِ يَدَا؟!وَسُوِّدَ بشْرُ بْنَ الْبَرَاءِ لِجُودِهِ وَحَقُّ لِبشْرِ بْنِ الْبَرَا أنْ يُسَوَّدَاإذَا مَا أتَاهُ الْوَفْدُ أذْهَبَ مَالَهُ وَقَالَ : خُذُوهُ ؛ إنَّنِي عَائِدٌ غَدَا
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ ؛ تعليلُ نفي قََبول صَدَقتِهم ؛ لأن النفاقَ يحبطُ الطاعةَ، ويمنعُ من استحقاقِ الثواب.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ﴾ ؛ أي مُتثَاقِلُون لأنَّهم لا يرجون بأدائِها ثواباً ولا يخافونَ بتركِها عقاباً، والمعنى أنَّهم يُصََلُّون مُرَاءَاةً الناسِ، ﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ ؛ وذلك يُنفقون في الزكاةِ وغيرِها لأجلِ التَّسَتُّرِ بالإِسلام، لا لابتغاءِ ثواب الله. وكُسَالَى جمعُ كَسْلاَنٍ كما يقالُ سُكَارَى وسَكرَانٍ.
قرأ عبدُالرحمن بنُ عوفٍ (أوْ مُغَارَاتٍ) بضمِّ الميمِ، وقولهُ تعالى :﴿ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾ قال الكلبيُّ :(نَفَقاً فِي الأَرْض كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ) وَقِيْلَ : معناهُ : موضعُ دخولٍ يدخُلون فيه. وقرأ الحسنُ (مَدْخَلاً) بفتح الميمِ وتخفيف الدال، وقرأ أُبَيُّ (مُنْدَخَلاً) بإثبات النُّون. وقولهُ تعالى :﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ ﴾ قرأ الأشهبُ العُقَيلِيُّ (لَوَالَوْا إلَيْهِ) بالألف من الْمُوَالاَتِ ؛ أي تَابَعُوا وسارَعُوا.
نزلَتْ هذه الآيةُ في أبي الجوَّاظ وغيرهُ من اللمَّازِينَ من المنافقين، كما رُوي " أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقِسمُ الصدقاتِ فقال أبو الجوَّاظ : ما ترَون صاحِبَكم يقسمُ صدقاتِكم في رُعاة العنمِ، فقال ﷺ :" لاَ أبَا لَكَ، أمَا كَانَ مُوسَى عليه السلام رَاعِياً! أمَا كَانَ دَاوُدُ عليه السلام رَاعِياً! " فذهبَ أبو الجوَّاظ، فقالَ ﷺ :" احْذَرُوا هَذَا وَأصْحَابَهُ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال :" كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْسِمُ قَسْماً إذ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ :" وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أعْدِلْ؟! " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ ﷺ :" دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أصْحَاباً يَحْتَقِرُ أحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ وَصَوْمَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرَقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ ".
قرأ الحسنُ ويعقوب (يَلْمُزُكَ) بضمِّ الميم، وقرأ الأعمش (يُلَمِّزُكَ) بضم الياء وتشديدِ الميم، يقالُ لَمَزَهُ وَهَمَزَهُ إذا أعابَهُ، ورجلٌ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ، وقال عطاءُ :(مَعْنَى يَلْمِزُكَ أيْ يَغْتَابُكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ ؛ قرأ إيادُ بنُ لَقيط (إذَا هُمْ سَاخِطُونَ).
قال ابنُ عبَّاس :(الْفُقَرَاءُ هُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ، صُفَّةُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانُوا نَحْوَ أرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَازِلُ فِي الْمَدِينَةِ وَلاَ عَشَائِرُ، فَأَوَوْا إلَى صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ، يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَيْهِ باللَّيْلِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أتَاهُمْ بهِ إذا أمْسَواْ). قالَ :(وَالْمَسَاكِينُ هُمُ الطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ).
فعلى هذا المسكين أفقرُ من الفقيرِ، ومن الدليلِ على ذلك أنَّ الله قالَ :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[البقرة : ٢٧٣] ثم قال :﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ ﴾[البقرة : ٢٧٣]، ومعلومٌ أن الجاهلَ بحالِ الفقير لا يحسبهُ غَنيّاً إلاَّ وله ظاهرٌ جميل ويدهُ حَسَنةٌ، وقال تعالى :﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾[البلد : ١٦]. قيل في التفسير : الذي قد لَصَقَ بالتُّراب وهو جائعٌ عارٍ ليس بينه وبين التراب شيءٌ يَقيه. وقال أبو العبَّاس ثعلب :(حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ قَالَ : قُلْتُ لأَعْرَابيٍّ : أفَقيرٌ أنْتَ ؟ قَالَ : لاَ ؛ بَلْ مِسْكِينٌ. وأنشدَ الأعرابيُّ : أمَّا الْفَقِيرُ الَّتِي كَانَتْ حُلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُفَسَمَّاهُ فَقِيراً مَعَ وُجُودِ الْحُلُوبَةِ). وقال محمَّد بن مَسلمة :(الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ) قال :(وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٍ إلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ)، واحتجَّ مَن قال : إن الفقيرَ أفقرُ من المسكينِ بقوله تعالى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾[الكهف : ٧٩] فأضافَ السفينةَ إليهم، وهذا لا دلالةَ فيه لأنه رُوي أنَّهم كانوا فيها أُجَراءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾، يعني السُّعَاةَ الذين يجلِبون الصَّدقَةَ، ويتوَلَّون قبضَها من أهِلها، يُعطون منها سواءٌ كانوا أغنياءَ أم فقراء، واختلَفُوا في قَدْر ما يُعطَون، قال الضحَّاك :(يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقَةِ)، وقال مجاهدُ :(يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ)، وقال عبدُالله بن عمرِو بن العاص :(يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَالَتِهِمْ)، وقال الأعمشُ :(يُعْطَونَ بقَدْرِ أُجُور أمْثَالِهِمْ وَإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنَ الثُّمُنِ)، وقال مالكُ وأهلُ العراقِ :(إنَّمَا ذلِكَ لِلإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ يُعْطِيهِمُ الإمَامُ قَدْرَ مَا رَأى)، وعن ابنِ عمر :(يُعْطَوْنَ بقَدْرِ عَمَلِهِمْ)، وعند الشافعيِّ :(يُعْطَوْنَ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ هم قومٌ كان يُعطيهم النبيُّ ﷺ يتأَلَِّفُهم على الإسلامِ، كانوا رُؤساءَ في كلِّ قبيلةٍ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ من بني أُمَيَّة، والأقرعُ بن حَابسٍ، وعقبةُ بن حصن الفزَّاري وغيرُهما من بني عامرِ بن لُؤي، والحارثُ بن هشامِ المخزوميُّ، وسهيلُ بن عمرو الجمحيُّ من بني أسَدٍ، والعباسُ بن المرداسِ من بني سُليم، فلما توُفِّيَ رسولُ اللهِ ﷺ جاءَ المؤلَّفة قلوبُهم إلى أبي بكرٍ وطلَبُوا منه سَهمَهم، فأمَرَهم أن يكتبُوا كِتَاباً، فجَاؤُا بالكتاب إلى عُمر رضي الله عنه ليشهدَ، فقال عمر : إيْشُ هَذَا ؟ قَالُوا : سَهْمُنَا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :
قَْولُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي قِيْلَ : هو مستمعٌ بخيرٍ لا مستمعٌ بشَرٍّ، وَقِيْلَ : معناهُ : هو يستمع إلى ما هو خيرٌ لكم وهو الوحيُ. وقرأ الحسنُ :(هُوَ أذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) كلاهُما بالتنوينِ والضمِّ، معناهُ : إنْ كان كما قُلتم فهو خيرٌ لكم يقبَلُ عُذرَكُم. وقرأ نافع :(قُلْ أُذْنٌ) بجزمِ الذال وهو لغةٌ في الأذن. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي يُصدِّقُ بما أُنزِلَ عليه، والإيمانُ باللهِ لا يعملُ إلا بالحقِّ، ويؤمِنُ للمؤمنين أي يُصدِّقُ المؤمنين في ما يُخبرونَهُ.
واختلَفُوا في الـ (لام) التي للمؤمنين، فقال بعضُهم هي زائدةٌ كما في قولهِ تعالى :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾[النمل : ٧٢] معناهُ : ردِفكُمْ. قال بعضُهم : إنما ذُكر اللام للفَرقِ بين التصَّديقِ والإيمان، فإنه إذا قِيْلَ : ويُؤمِنُ للمؤمنين لَم يُقبل غيرُ التصديقِ، كما في قوله :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾[يوسف : ١٧] أي بمُصَدِّقٍ، وقوله تعالى :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾[التوبة : ٩٤] أي لن نصدِّقَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ ؛ قرأ الحسنُ والأعمش وحمزة بالخفضِ على معنى : أُذُنُ خَيْرٍ وأذُن رحمةٍ، وقرأ الباقون :(وَرَحْمَةٌ) بالرفعِ يعني : هو رحمةٌ، جعلَ الله النبيَّ ﷺ رحمةً لهم ؛ لأنَّهم إنما نالُوا الإيمانَ بدُعائهِ وهدايته. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ وعيدٌ مِن الله لهؤلاء المنافقين على مقَالتِهم. وقال ابنُ عبَّاس :(فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَاؤُا إلَى النَّبيِّ ﷺ يَحْلِفُونَ أنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فَاَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ :
وقولهُ تعالى :﴿ قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ ؛ تَهديدٌ وإنْ كان لفظُ الأمرِ، كما في قوله :﴿ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت : ٤٠]، وذهبَ الزجَّاجُ إلى أنَّ قولَهُ :﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ ﴾ لفظةُ إخبارٍ ومعناهُ : الأمرُ كلُّه، كأنه قالَ : لِيحْذَرِ، وهذا كما قال :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ﴾[البقرة : ٢٢٨].
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام علَى النَّبيِّ ﷺ وَأخْبَرَهُ بمَا يَقُولُونَ، فَدَعَا عليه السلام عَمَّاراً وَقَالَ :" إنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بكَذا وَكَذا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ : إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، إنْطَلِقْ إلَيْهِمْ وَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَتَحَدَّثونَ، وَقُلْ لَهُمْ : أحْرَقْتُمْ أحْرَقَكُمُ اللهُ " فَفَعَلَ ذلِكَ عَمَّارُ، فَجَاؤُا إلَى النَّبيِّ ﷺ يَعْتَذِرُونَ وَيَقُولُونَ : كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فِيْمَا يَخُوضُ فِيْهِ الرَّكْبُ إذا سَارَ. " فَأَنْزَلَ اللهُ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ.
وعن الحسنِ وقتادةَ :" أنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَقَالُوا : أيَطْمَعُ هَذا الرَّجُلُ أنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ؟ هَيْهَاتَ مَا أبْعَدَهُ عَنْ ذلِكَ! فَأَطْلَعَ نَبيَّهُ عَلَى ذلِكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ؛ منه ألِفُ استفهامٍ، معناهُ : النِّيَّةُ لهم عالى ما كانوا يفعلونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً ﴾ ؛ وفيه قراءَتان، هذه بالضَّمِّ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، والثانية :(إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبُ طَائِفَةً) بالنصب، قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إنْ يَعْفُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ يَضْحَكُ وَهُوَ مَخْشِيُّ بنُ حُمَيِّرٍ، يُعَذِّب الرَّجُلاَنِ اللَّذانِ كَانَا يَتَكَلَّمَان بالْهَمْزِ) ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي كافرِين في السِّرِّ، وكلًّ معصيةٍ جُرْمٌ إلاَ أنَّه أرادَ بالْجُرْمِ ههنا الكفرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ ؛ أي ترَكُوا أمْرَ اللهِ وأعرَضُوا عنه حتى صارَ كالمنسيِّ عندَهم بإعراضِهم عنه، فترَكَهم اللهُ من رحمتهِ حتى صارُوا كَالْمَنْسِيِّينَ عندَهُ، وإنْ كان النِّسانُ مما لا يجوزُ على اللهِ إلاَّ أنه قال (فَنَسِيَهُمْ) لمزاوجةِ الكلام، كما في قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾[البقرة : ١٩٤]، قال تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى : ٤٠]، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي هم المتمرِّدون في الكفرِ والفسقِ وفي كلِّ شيء، والْمُتَمَرِّدُ فيه وإنْ كان النفاقُ أعظمَ من الفسقِ.
وجهنَّم من أسماءِ النار يقول العربُ للبئرِ البعيدة القعرِ : جِهْنَامٌ، فيجوزُ أن تكون جَهَنَّمُ مأخوذةٌ من هذه اللَّفظةِ لبُعدِ قَعرِها. وقولهُ تعالى :﴿ هِيَ حَسْبُهُمْ ﴾ ؛ أي كفايَتُهم على ذنوبهم ؛ لأن فيها جزاءَ أعمالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي أبعَدَهم من الثواب والمدح في الدُّنيا، وعن الثواب والرحمة في الآخرةِ، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ ؛ أي عذابٌ دائم.
وقولهُ تعالى :﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾ ؛ أي فاستمتَعتُم أنتم بنصيبكم من الدُّنيا وخُضتم فيها، ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ﴾ ؛ أي خُضتم في الكفرِ والاستهزاء بالمؤمنين كما خاضَ الأوَّلون.
وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة حَبطَتْ أعمالُهم التي عَمِلوها على جهةِ البرِّ مثلُ الإنفاقِ في وجُوهِ الخيرِ ومثلُ صِلَةِ الرَّحمِ حَبطَتْ، ﴿ فِي الدنْيَا ﴾ ؛ حتى لا يستحقُّوا بها الإكرامَ والتعظيمَ في الدُّنيا، وَحَبطَتْ في، ﴿ وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ؛ الذين خَسِروا أنفُسَهم وأهلِيهم يومَ القيامةِ، والْخُسْرَانُ هو ذهابُ رأسِ المال من دون أصلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ ﴾ ؛ أي الْمُنْقَلِبَاتُ وهي قرياتُ قومِ لُوطٍ أهلَكَهم اللهُ بالخسفِ، وقَلَبَ مَدَائِنَهُمْ عليهم. ويقالُ : أرادَ بالْمُؤْتَفِكَاتِ كلَّ مَنِ انقلبَ أمرُهم عليهم من الخيرِ إلى الشرِّ. يقالُ : الهالكُ انقلبَت عليه الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـاتِ ﴾ ؛ أي بالْحُجَجِ والبراهينِ، ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ؛ أي لَمَّا كذبوا الرُّسلَ وكَفَرُوا بالآيات أهلكَهم، ولم يكن ذلك ظُلماً ؛ لأنَّهم أستحَقُّوا ذلك بعمَلِهم فكانوا همُ الظالمين لأنفُسِهم.
وعن بعضِ أهلِ الإشارة : سيرحَمُهم في خمسةِ مواضع : عند الموتِ وسكَرَاتهِ، وفي القبرِ وظُلُماتِهِ، وعند قراءةِ الكتاب وحسَرَاتِهِ، وعند الميزان وندَامَتهِ، وعند الوُقوفِ بين يَدَي اللهِ ومسؤُولاَتهِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي غالبٌ في مُلكِه وسُلطانِه، تجرِي أفعالهُ على ما توجبهُ الحكمة.
وقوله :﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي في بساتين إقامَة، قال ابنُ عبَّاس :(جَنَّاتُ عَدْنٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّاتُ حولَها مُحْدِقَةٌ بهَا وَهِيَ مُعْطَاةٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللهُ حَتَّى يَنْزِلَهَا أهْلُهَا النَّّبيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ). وعن مجاهدٍ قال :(قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ ؟ قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذهَبٍ، لِكُلِّ قَصْرٍ خَمْسُمِائَةِ ألْفِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ألْفاً مِنَ الْحُورِ الْعِين، لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ نَبيٌّ، وَهَنِيئاً لِصَاحِب هَذا الْقَبْرِ، وَأشَارَ إلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَصَدَّقَ، وَهَنِيئاً لأَبي بَكْرٍ أوْ شَهِيدٍ، وَإنِّي لَعَمْرُ الشَّهَادَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ ؛ أي رضَى الرب عنهم أكبرُ وأعظم من هذا النعيمِ كلِّه لأنَّهم إنَّما نَالُوا ذلك كله برضوانِ الله عَزَّ وَجَلَّ، والرِّضْوَانُ : إرادَةُ الخيرِ والثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ أي ذلك الذي ذكرتُ هو الحياةُ الوافرة، نَجَوا من النار وظَفَرُوا بالجنَّة.
وعن الحسنِ في قولهِ تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي سرورٌ في الآخرةِ برضوان اللهِ عنهم يكون أكثرُ من سُرورِهم بهذا النَّعيم كُلِّه. وعن رسولِ اللهِ ﷺ :" إذا أنْزَلَ اللهُ أهْلَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، قَالَ : ألاَ أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أكْبَرُ مِنْ هَذا كُلِّهِ ؟ فيَقُولُونَ : بَلَى يَا رَب وَمَا أكْبَرُ مِنْ ذلِكَ ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ أبَداً ".
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ أخْبَرَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ بِمَا قَالَ الْجَلاَّسُ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ : يَكْذِبُ عَلَيٌّ يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ أنْ يَحْلِفَانِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَلَفَا جَمِيعاً، فَرَفَعَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أنْزِلْ عَلَى نَبيِّكَ وَبَيِّنِ الصَّادِقَ، فَقَالَ ﷺ :" آمِينَ " فََأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ). ومعناها : يحلِفان المنافقون باللهِ ما تكلَّموا بكَلِمَةِ الكُفرِ ولقد تكلَّموا بها وأظهَرُوا الكفرَ بعدَ إظهارِهم الإسلامَ. وَقِيْلَ : كفَرُوا بقولِهم ذلك بعدَ ما كانوا أسلَمُوا على زَعمِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ ؛ أي قصَدُوا إلى ما لم يَصِلوا إلى ذلك، والْهَمُّ بالشَّيءِ في اللُّغَة : مقاربته دون الوقُوعِ فيه، قِيْلَ : إنَّهم كانوا هَمُّوا بقتلِ الذي أنكرَ عليهم قولَهم. وَقِيْلَ : معنى الآية : أنّ رسولَ الله ﷺ خرجَ إلى غزوةِ بَني الْمُصْطَلِقِ، وقد جَمَعُوا له ليُقاتِلوا، فالتَقَوا على مائِهم فهزَمَهم اللهُ وسَبَى رسولُ الله ﷺ أبناءَهم ونساءَهم ورجعَ، فلما نَزَلَ مَنْزِلاً في الطريقِ اختصمَ رجلٌ من أصحاب عبدِالله بن أبَيٍّ ورجلٌ من المخلصِينَ غَفَّاري يقالُ له جَهْجَاهُ، فلطمَ الغفاريُّ صاحبَ عبدِاللهِ بن أُبَي، فغضبَ عبدُالله وقالَ : مَا صَحِبْنَا مُحَمَّداً إلاَّ لِتُلْطَمَ، ثم نظرَ إلى أصحابهِ قال : لقد أمرتُكم أن تكفُّوا طعامَكم عن هذا الرجلِ ومَن معه حتى يتفرَّقوا فلم يفعلوا، واللهِ لئن رجَعنا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال الغفاريُّ : أتَقُولُ مِثْلَ هَذا؟! وَاللهِ لَئِنْ شِئْتُ لأَلْطُمَنَّكَ، قال عبدُاللهِ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! فقال زيدُ بن أرقم وكان غُلاماً حديثَ السنِّ : يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ رَسُولِهِ، أتَقُولُ هَذا؟! وَاللهِ لأُبَلِّغَنَّ رسُولَ اللهِ مَا قُلْتَ.
ثم انطلقَ إلى النبيِّ ﷺ وأعلمَهُ وعنده عمرُ رضي الله عنه، فقال عمرُ : يَا رَسُولَ اللهِ مُرْ عَبَّادَ بْنَ قَشٍّ فَيَقْتُلَهُ، فَقَالَ :" يَا عُمَرُ إذاً يُحَدُِّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ " فبلغَ عبدَالله بن أُبَي ما قالَ زيدُ بن أرقم، فمشَى إلى النبيِّ ﷺ ومعه أشرافُ الأنصار يصَدِّقونه ويكذِّبون زيداً ويقولون : يُخْشَى أنْ يَكُونَ زيْدٌ قَدْ وَهِمَ، وكان أبنُ أُبَيٍّ يحلفُ باللهِ ما قالَ ذلك، فقالَ أُسَيْدُ : يَا رَسُولَ اللهِ ارْفِقْ بعَبْدِاللهِ، فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بكَ وَإنَّ قَوْمَهُ لَيُتَوِّجُونَهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكاً عَظِيماً.
وعن أبي أمامة الباهلي :" أنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً، فَقَلَ لَهُ :" وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تُطِيقُهُ " ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَالَ : أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً : فَقَالَ :" وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! أمَا تَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ نَبيَّ اللهِ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه لَوْ سَأَلْتَ اللهَ أنْ يُسَيِّلَ عَلَى الْجِبَالِ ذهَباً وَفِضَّةَ لَسَالَتْ، يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً : فَوَاللهِ لَئِنْ آتَانِي اللهُ مَالاً لأُوتِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ ﷺ :" اللُّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
فَاتَّخَذَ غَنَماً فنَمَتْ حَتَّى ضَاقَتْ بهَا أزِقَّةُ الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا، وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ مَعَ رسُولِ اللهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا، ثُمَّ نَمَتْ حَتَّى تعَذرَتْ بهَا مَرَامِي الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا، وَكَانَ يَشْهَدُ الْجُمَعَ مَعَ رَسُولِ اللهِ، ثمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا، ثُمَّ نَمَتْ فَتَرَكَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ ﷺ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، رَجُلاً مِنَ الأنْصَار وَرَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا الصَّدَقَةَ وأَسْنَانَهَا وَأمَرَهُما أنْ يَأْخُذا مِنَ النَّاسِ، فَأَتَيَا ثَعْلَبَةَ، قَالَ لَهُمَا : خُذا مِنَ النَّاسِ فَإذا فَرَغْتُمَا فَمُرَّا عَلَيَّ، فَفَعلاَ فَقَالَ : مَا هَذهِ إلاَّ أخْذُ الْجِزْيَةِ! فَانْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ.
فَرَكِبَ عُمَرُ رَاحِلَتَهُ، وَمَضَى إلَى ثَعْلَبَةَ، وَقَالَ : وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! هَلَكْتَ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذا وَكَذا، فَأَقْبَلَ ثَعْلَبَةُ يَبْكِي وَيَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَأسِهِ وَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ صَدَقَتِي، فَلَمْ يَقْبَلِ النَّبيُّ ﷺ صَدَقَتَهُ حَتّى قُبضَ، ثُمَّ أتَى إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ، ثُمَّ أتَى عُمَرَ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ، فَمَاتَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقْبَلَ مِنْهُ عُثْمَانُ صَدَقَتَهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ معناهُ على قول الحسنِ وقتادة :(إلَى يَوْمِ يَلْقَونَ اللهَ) أي يلقَون اليومَ الذي لا يملكُ فيه الحكمَ والضرَّ والنفعَ إلا اللهَ، وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أن مَن نَذرَ نذراً فيه قربةٌ يجوز أن يقولَ : إنْ رزقَني اللهُ ألفَ درهمٍ فعليَّ أنْ أتصدَّقَ بخمسمائةٍ لَزِمَهُ الوفاءُ به، وفيها دلالةُ جواز تعليق النذر بالشَّرط نحوَ أن يقولَ : إنْ قَدِمَ فلانٌ فلِلَّهِ علَيَّ صيامٌ وصدقة، وإن ملَكتُ عَبْداً، أو هذا العبدَ فعلَيَّ أنْ أعتِقَهُ، وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قالَ :" ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإنْ صَلَّى وَصَامَ : مَنْ إذا حَدَّثَ كَذبَ، وَإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذا عَاهَدَ غَدَرَ ".
وَبَعْدَهُ جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه بنَحْوٍ مِنْ ذلِكَ، وَجَاءَ عُثْمَانُ رضي لله عنه وَصَدَقَتُهُ، وَجَاء عَاصِمُ ابْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ بسَبْعَينَ وسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أبُو عَقِيلٍ بصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَيْلَتِي كُلُّهَا أجُرُّ بالْحَرِيرِ حَتَّى أصَبْتَ ثُلُثَ صَاعَيْنِ، أمَّا أحَدُهُمَا فأَمْسَكْتُهُ لِعِيَالِي، وَأمَّا الآخَرُ فَأُقْرِضُهُ رَبي، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَشُدَّهُ فِي الصَّدَقَةِ. فَطَعَنَ فِيهِمْ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُواْ : وَاللهِ مَا جَاءَ هَؤُلاءِ بصَدَقَاِتِهمْ إلاَّ ريَاءً وَسُمْعَةً، وقَالُوا فِي أبي عَقِيلٍ : إنَّهُ جَاءَ لِيُذكِّرَ بنَفْسِهِ وَيُعطِي مِنَ الصَّدَقَةِ أكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بهِ، وَإنَّ اللهَ أغْنَى عنْ صَاعِ أبي عَقِيلٍ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة). ومعنَاها : الذين يُعِيبُونَ الْمُطَّوِّعِينَ من المؤمنين في الصَّدقاتِ وهم المنافقون عَابُوا عمرَ وعثمانَ وعبدَالرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ أي ويُعيبون على الذين لا يَجِدون إلاَّ جُهدَهم ؛ أي طاقَتَهم من الصَّدقاتِ، عابُوا الْمُكْثِرَ بالرِّياءِ، والْمُقِلَّ بالإِقْلالِ. والْجُهْدُ بالضمِّ والنصب لُغتان بمعنى واحد، ويقالُ : الْجَهْدُ بالنصب المشقَّة، والْجَهْدُ بالضمِّ الطاقةُ، وَقِيْلَ : الْجَهدُ بالعملِ والْجُهد في القوَّةِ، قرأ عطاءُ والأعرج (جَهْدَهُمْ) وهما لُغتان مثل الوُجْدِ والوَجدِ، فالضمُّ لغةُ أهلِ الحجاز، والفتح لغة أهلُ نَجْدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ﴾ ؛ أي يستهزؤن بهم، ﴿ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ﴾ ؛ أي يُجازيهم جزاءَ سخرتِهم ؛ ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، أي وجيعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ في بيان العلَّة التي لأجلِها لا ينفعُهم استغفار الرسولِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يرشدهم إلى جنَّتهِ وثوابهِ وكرامته، وأما تخصيصُ (سَبْعِينَ مَرَّةً) بالذكرِ فهو لتأكيدِ نفي المغفرةِ بهذا ؛ لأن الشيءَ إذا بُولِغَ في وصفهِ أكِّدَ بالسَّبع والسبعين، وهذه كما يقولُ القائل : لو سألتَني حاجَتَكَ سبعين مرَّةً لم أقضِها، لا يريدُ أنه إذا أزادَ على السَّبعين قضَى حاجَتَهُ، ورُوي عن النبيِّ ﷺ أنه قال :" لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زدْتُ عَلَى السَّبْعِين لَغُفِرَ لَهُمْ لَزِدْتُ عَلَيْهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ﴾ ؛ أي قالَ بعضُهم : لا تخرجُوا فإن الحرَّ شديدٌ والسفرَ بعيدٌ، وكانوا يُدعَون إلى غزوةِ تبوك في وقتِ نُضْحِ الرُّطَب وهو أشدُّ ما يكون من الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ﴾ ؛ أي قُلْ لَهم نارُ جهنَّم التي استحقُّوها بتركِ الخروج الى الجهاد أشدُّ حَرّاً من هذا الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي لو كانوا يفقَهُون أوامرَ اللهِ ووعدَهُ ووعيدَه.
قال ابنُ عبَّاس :(إنَّ أهْلَ النِّفَاقِ لَيَبْكُونَ فِي النَّار عُمْرَ الدُّنْيَا، فَلاَ يَرِقُّ لَهُمْ دَمْعٌ وَلاَ يَكْتَحِلُونَ بنَوْمٍ)، قال ﷺ :" يُرْسِلُ اللهُ الْبُكَاءَ عَلَى أهْلِ النَّار فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَـتَّى يُرَى وُجُوهَهُمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ " وقال النبيُّ ﷺ :" لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ".
والْخَالِفُ الذي يبقَى بعد الشَّاخِصِ، وَقِيْلَ : هو الذي يبقَى لنقصٍ يكون فيه. وعن ابن عبَّاس أن معنى الْخَالِفين :(الْمُتَخَلِّفِينَ بغَيْرِ عُذْرٍ)، وَقِيْلَ : إنَّ هذا مأخوذٌ من قولِهم خَلَفَ اللَّبَنُ إذا فَسَدَ، والخالِفُ الفاسدُ، وقيل الخالِفون خُسَّاسُ الناس وأدنياؤهم، ويقال فلان خَالَفَهُ أهلهُ إذا كان دونَهم، وَقِيْلَ : مع الخالِفين أي أهلِ الفسادِ من قولِهم يَنْبذُ خَالِفٌ أي فاسدٌ، وخلَفَ اللبنُ خُلُوفاً إذا حَمِضَ مِن طُولِ وضعهِ في السقاءِ، وخَلَفَ فمُ الصَّائم إذا تغيَّرت رائحتهُ. وقرأ مالكُ بن دينار (مَعَ الْخَلِفِينَ) بغيرِ ألف، وقال الفرَّاء : يقالُ عبدٌ خَالِفٌ وصاحبٌ خَالِفٌ إذا كان مُخَالفاً.
ثُمَّ انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ ﷺ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ أتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذا وَكَذا؟! فَقَالَ :" دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ عُمَرُ لِمَقَالَتِهِ، فَقَالَ ﷺ :" دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ :" قَدْ خُيِّرْتُ فِي ذلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أنِّي إذا اسْتَغْفَرْتُ لَهُ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً غُفِرَ لَهُ لَفَعَلْتُ " وَقَالَ :" تَأَخَّرَ عَنِّي يَا عُمَرُ " قَالَ عُمَرُ : فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ " يعني بعدَ ما صلَّيتَ على عبدِاللهِ بن أُبَي.
" ورُوي أنَّ عَبْدِاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ إلَى النَّبيِّ ﷺ يَسْأَلُهُ أحَدَ ثَوْبَيْهِ يُكَفَّنُ فِيْهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ بأَحَدِهِمَا، فَقَالَ : مَا أُريدُ إلاَّ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ مِنْ ثِيَابِكَ، فَوَجَّهَ إلَيْهِ بذلِكَ، فَقيلَ لَهُ في ذلِكَ، فَقَالَ ﷺ :" إنَّ قَمِيصِي لَنْ يُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَعَسَى أنْ يُسْلِمَ بسَبَب هَذا الْقَمِيصِ خَلْقٌ كَثيرٌ " " فَأْسْلَمَ ألفٌ من الخوارجِ! لَمَّا رأوُهُ يطلبُ الاستشفاعَ بثوب رسولِ اللهِ صلى الله عليه سلم.
قال ابنُ عبَّاس :(اللهُ أعْلَمُ أيُّ صَلاَةٍ كَانَتْ تِلْكَ وَمَا خَادَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إنْسَاناً قَطُّ)، وقال مقاتلُ :(إنَّ النَّبيَّ ﷺ أرَادَ أنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ، جَاءَ إلَيْهِ ابْنُهُ فَقَالَ : أنْشُدُكَ باللهِ أنْ لاَ تُشَمِّتْ بيَ الأَعْدَاءَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُؤْمِناً حَقّاً فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَانْصَرَفَ النَّبيُّ ﷺ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ).
فإنْ قِيْلَ : لِمَ أعادَ قولَهُ ﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ ﴾ ؟ قِيْلَ : فيه قولان : أحدُهما بشدَّة التحذيرِ عن الاغترارِ بالأموال والأولاد، والثاني : أنه أرادَ بالأول قَوْماً من المنافقين، وأرادَ بالثاني قوماً آخَرين منهم، كما يقالُ : لا تعجِبْك أموالُ زيدٍ وأولادهُ، ولا تعجبك أموالُ عمرٍو وأولادهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوْلَـائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون معناه : أولئكَ لهم الحسَناتُ المقبولات، فإن الخيرات منافعُ تسكنُ النفس إليها، ويجوز أن يكون معناهُ : الزَّوجاتُ الحسنات في الجنَّة، كما قال اللهُ فيهن﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾[الرحمن : ٧٠] واحدةُ الخيرات خَيْرَةٌ، وهي الفاضلةُ في كلِّ شيء، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ؛ أي الظَّافرون بالْمُرادِ.
وأما القراءةُ المشهورة (الْمُعَذِرُونَ) بالتشديد فمعناها ما تقدَّم يعني الْمُقَصِّرِينَ، قال الفرَّاءُ :(أصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذالِ وَثُقِّلَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ إلىَ الْعَيْنِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ قرأ العامَّة (كَذبُوا) مخففاً يعني المنافقين قعدَت طائفةٌ منهم من دون أنْ يعتذروا، وقرأ أُبَي والحسن :(كَذبُوا) بالتشديد، وقوله تعالى :﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ يجوز أن تكون الفائدةُ في دخولِ (مِنْ) بيانُ أنَّ منهم مَن يسلَمُ، ومنهم من يموتُ على كُفرهِ ونفاقهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي يتخذُ نفقتَهُ في الجهادِ تقرُّباً إلى اللهِ تعالى في طلب المنْزلةِ عنده والثواب، وقوله تعالى :﴿ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ أي يطلبُ بذلك دعاءَ الرسولِ ﷺ بالمغفرةِ وصلاحِ الدُّنيا والآخرة، كما يطلبُ المنْزلةَ عندَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ﴾ ؛ هذه كلمةُ تنبيهٍ ؛ أي سيقرِّبُهم الله بهذا الإنفاقِ إذا فعلوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ ؛ أي في حَسَنَتِهِ وثوابهِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لذُنوب العبادِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ لِمَن تابَ وأطاعَ.
وإنَّما مَدَحَ السابقين لأن السابقَ إمامٌ للتالي، وقولهُ تعالى :﴿ وَالأَنْصَارِ ﴾ عطفٌ على المهاجرين، وقرأ بعضُهم (وَالأنْصَارُ) بالرفعِ عطفاً على السَّابقين، وعن عمر رضي الله عنه :(وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) بغيرِ الواو، وسمِعَ رجُلاً قرأ (وَالَّذِينَ) بالواوِ فقالَ :(مَنْ أقْرَأكَ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قَالَ : أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ : لاَ تُفَارقْنِي حَتَّى أذهَبَ بكَ إلَيْهِ، فَلَمَّا أتَاهُ قَالَ لَهُ : يَا أُبَيُّ أقْرَأتَهُ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ رضي لله عنه : كُنْتُ أظُنُّ أنَّا ارْتَفَعْنَا رفْعَةً لاَ يَبْلُغُهَا أحَدٌ بَعْدَهَا، فَقَالَ أُبَيُّ : تَصْدِيقُ هَذِهِ الآيَةِ أوَّلُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾[الجمعة : ٣] وَأوْسَطُ سُورَةِ الْحَشْرِ﴿ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾[الحشر : ١٠].
وقوله تعالى :﴿ بِإحْسَانٍ ﴾ والإحسانُ هو فعلُ الحسَنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ؛ أي رَضِيَ اللهُ عنهم بإحسانِهم، ورَضُوا عنه بالثَّواب والكرامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ؛ في هذا الموضعِ بغير (مِنْ) إلا ابنَ كثير فانه يقرأ (مِنْ تَحْتِهَا).
رُوي أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَامَ خَطِيباً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ :" " يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ، يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ " فَأخْرَجَهُمْ بأسْمَائِهِمْ ". وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَلَقِيَهُمْ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاخَْتَبَأَ عَنْهُمْ اسْتِحْيَاءً ؛ لأنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَظَنَّ النَّاسُ قَدِ انْصَرَفُواْ، وَاخْتَبَؤُا هُمْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَظَنُّوا أنْ قَدْ عَلِمَ بأَمْرِهِمْ. فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ وإذَا هُوَ بالنَّاسِ لَمْ يُصَلُّوا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا عُمَرُ قَدْ فَضَحَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ.
وقال الحسنُ :(أرَادَ بالْعَذاب الأَوَّلِ السَّبْيَ وَالْقَتْلَ، وَبالثَّانِي عَذابَ الْقَبْرِ)، وقولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ ؛ أرادَ به عذابَ جهنَّم.
وقولهُ تعالى :﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي يتجاوزَ عنهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَا سلفَ من ذُنوبهم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بهم إذ قََبلَ توبتَهم. وإنما ذكرَ لفظ (عَسَى) ؛ ليكون الإنسانُ بين الطمعِ والإشفاق، فيكون أبعدَ من الاتِّكالِ والإهمالِ.
قال ابنُ عبَّاس :" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِر وأوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَوَدِيعَةَ ابْنِ حُذامٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا عَشْرَةَ أنْفُسٍ، تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أنْزَلَ الله عِنِ الْمُتَخَلّفِينَ نَدِمُوا عَلَى صَنِيعِهِمْ، فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أنْفُسَهُمْ عَلَى سَوَاري الْمَسْجِدِ، وَأقْسَمُواْ أنْ لاَ يَحُلُّوا أنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ الرَّسُولُ ﷺ الَّذي يَحُلُّهُمْ، وَكَانُوا لاَ يَخْرُجُونَ إلاَّ لِحَاجَةٍ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا.
وَكَانُواْ عَلَى ذلِكَ حَتَّى قَدِمَ ﷺ الْمَدِينَةَ فَأُخْبرَ بأَمْرِهِم، فَقَالَ :ﷺ :" وَأنَا لاَ أحُلُّهُمْ حَتَّى أؤْمَرَ بهِمْ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَعَرَفَ النَّبيُّ ﷺ أنَّ (عَسَى) مِنَ اللهِ وَاجِبةٌ، وَأمَرَ بحَلِّهِمْ وَانْطَلَقُواْ إلَيْهِ، وَقَالُواْ : هَذِهِ أمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ، فَخُذْهَا فَتَصَدَّقْ بهَا عَنَّا، فَقَالَ ﷺ :" مَا أُمِرْتُ فِيْهَا بشَيْءٍ " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ ؛ ظاهرُ الآية يقتضي رجوعَ الكنايةِ في قولهِ :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي المذكُورين، وقيلَ : وهمُ الذين اعترَفُوا بذنوبهم، إلاَّ أنَّ كُلَّ حُكمٍ حَكَمَ اللهُ ورسولهُ في شخصٍ مِن عبادهِ، فذلك الحكمُ لازمٌ في سائرِ الأشخاصِ، إلاَّ ما قامَ دليلٌ التخصيصِ به.
وَقِيْلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ ابتداءٌ ذُكِرَ لجميعِ المسلمين لدلالةِ الحال على ذلك وإنْ لم يتقدَّم ذكرُ المسلمين كقوله تعَالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾[القدر : ١] يعني القُرْآنَ. ومعنى الآية : تُطهِّرُهم عن الذنوب وتُزَكِّيهم بها ؛ أي تُصلِحُ أعمالَهم. وَقِيْلَ : معناهُ : تُطهِّرُهم أنتَ بها من دَنَسِ الذُّنوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي استغفِرْ لهم وَادْعُ لَهم، ﴿ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ ﴾ ؛ أي إنَّ دعاءَكَ واستغفارَكَ طمأنينةٌ، ﴿ لَّهُمْ ﴾ ؛ في أنَّ الله يقبَّلُ توبتَهم، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ ؛ بمقالتِهم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بنِيَّاتِهِمْ وثوابهم.
قال ابنُ عبَّاس :" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الثَّلاَثِة الَّذِينَ خُلِّفُوا وَهُمْ : كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمَرِّيُ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ تَخَلَّفُواْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : أنا أفْرَهُ أهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَلاً فَمَتَى مَا شِئْتَ لَحِقْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأقَامَ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ثُمَّ آيَسَ أنْ يَلْحَقَهُمْ وَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ، وَأقَامَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ، وَنَدِمَا لَكِنْ لَمْ يَفْعَلاَ مَا فَعَلَهُ أبُو لُبَابَةَ وَأوْسُ وَوَدِيعَةُ.
فَفَقَدَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وَنَهَى النَّاسَ عَنْ أنْ يُجَالِسُوهُمْ أوْ يُوَاكِلُوهُمْ أوْ يُشَارِبُوهُمْ، وَأرْسَلَ إلَيْهِمْ أنِ اعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ، وَأرْسَلَ إلَى أهْلِيهِنَّ، فَجَاءَتِ امْرَأةُ هِلاَلٍ فَقَالَتْ : إنَّ هلاَلاً شَيْخٌ كَبيرٌ وَإنْ لَمْ آتِهِ بطَعَامٍ هَلَكَ، فَقَالَ ﷺ :" وَإيَّاكِ أنْ يَقْرَبَكِ " قَالَ كَعْبٌ : فَمَرَرْتُ عَلَى أبي قَتَادَةَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ، وَكَلَّمْتُهُ فَأَبَى أنْ يُكَلِّمَنِي، فَاسْتَعْبَرْتُ وَقُلْتُ : أمَا وَاللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنِّي أحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. فَمَضَى عَلَى هَذا خَمْسُونَ يَوْماً، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بَما رَحُبَتْ أنْزَلَ اللهُ ﴿ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ أي وانتِصاراً لِمَن حاربَ اللهَ ورسولَهُ، وهو أبو عامرِ الراهب كان حارَبَ النبيُّ ﷺ قبلَ بناءِ هذا المسجدِ، ومضَى إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يستعينُ به على النبيِّ ﷺ وأصحابهِ، فسماهُ رسولُ اللهِ ﷺ فَاسِقاً، قال :" لاَ تُسَمُّوهُ الرَّاهِبَ "، وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَمَاتَ كَافِراً بقِنِسْرِينَ مَوْضِعٌ بالشَّامِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ﴾ ؛ معناهُ : ليحلفَ المنافقون أنَّا لم نُرِدْ ببناءِ هذا المسجدِ إلا الخيرَ، وهم كَذبَةٌ في حلفِهم لقولهِ تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ ما بَنَوْهُ للخيرِ.
" روي أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِراً أقْبَلَ إلَيْهِ أبُو عَامِرٍ هَذا الْمَذْكُورُ فَقَالَ لَهُ : مَا هَذا الَّذِي جِئْتَ بهِ ؟ قَالَ :" الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ " قَالَ أبُو عَامِرٍ : وَأنَا عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" فَإنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا " قَالَ : بَلَى ؛ وَلَكِنَّكَ أدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَا فَعَلْتُ ذلِكَ، وَلَكِنْ جِئْتُ بهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً " فَقَالَ أبُو عَامِرٍ : أمَاتَ اللهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيداً وَحيداً غَرِيباً، فقال ﷺ :" آمِينَ " فَسَمَّاهُ أبُو عَامرِ الفَاسِقِ. فَلَمْ يَزَلْ أبُو عَامِرٍ كَذِلَك إلَى أنْ هُزِمَتْ هَوَازِنُ، فَخَرَجَ هَارِباً إلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إلَى الْمُنَافِقِينَ أنِ اسْتَعِدُّوا بمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ وَابْنُوا لِي مَسْجِداً، فَإنِّي ذاهِبٌ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَآتٍ بجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأخْرِجُ مُحَمَّداً ﷺ وَأصْحَابَهُ. فَبَنَوا مَسْجِداً إلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً.
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُتَجَهِّزٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ إنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِداً لِذوِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَأْتِيَهُ فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيْهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بالْبَرَكَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ :" إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا لأتَيْنَاكُمْ إنْ شَاءَ اللهُ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيْهِ ".
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ تَبُوكٍ أتَوْهُ فَسَأَلُوهُ إتْيَانَ مَسْجِدِهِمْ، فَدَعَا بقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ وَيَأتِيَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَأعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بخَبَرِهِمْ وَمَا هَمُّوا بهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَالِكَ بْنَ الدَّهْشَمِ وَمَعَنَ بْنَ عَدِيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وَالْوَحْشِيَّ قَاتِلَ حَمْزَةَ، وَقَالَ لَهُمْ :" انْطَلِقُوا إلَى هَذا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أهْلُهُ فاهْدُمُوهُ وَحَرِّقُوهُ " فَخَرَجُواْ سِرَاعاً، فَأَخَذُوا سَعْفاً مِنَ النَّخْلِ، وَأشْعَلُواْ فِيْهِ النَّار وَهَدَمُوهُ، وَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يُتَّخَذ كِنَاسَةً يُلْقَى فِيْهِ الْقِمَامَةُ وَالْجِيَفُ، وَمَاتَ أبُو عَامِرٍ بالشَّامِ وَحِيداً غَرِيباً. "
والمشهورُ أن المرادَ بالتطهيرِ في هذه الآيةِ الاستنجاءُ بالماء كما رُوي :" أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ببَاب قِبَاءٍ وَقَالَ :" يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ قَدْ أحسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكُمْ فِي طُهُورِكُمْ، فَبمَ تَطَّهَّرُونَ ؟ " قَالُوا : إنَّا نُتْبعُ الأَحْجَارَ بالْمَاءِ ؛ أي نستجمرُ بالحجرِ ثم نستنجي بالماءِ، فقرأ عليهم النبيُّ ﷺ هذه الآيةَ، وسَنَّ النبيَّ ﷺ الاستنجاءَ بالماءِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ ؛ أي أثنَى على المطَّهَّرين من الذُّنوب، والمتطهِّرين بالماءِ من الأدناسِ.
والْجُرُفِ : ما تَمُرُّ به السيولُ من الأوديةِ فتسيرُ جانبَهُ وتنثرهُ، ولو وقفَ الإنسانُ عليه لسقطَ وانْهَارَ، وشَفَا الشَّيءِ حَرْفُهُ وهو مقصورٌ يكتبُ بالألفِ وتَثْنِيَتُهُ شِفْوَان.
قرأ نافعُ وأهل الشام بضمِّ الهمزةِ والنون على غير تسمية الفاعلِ، وقرأ الباقون بفتحِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ﴾، قرأ ابنُ عمر (تَقْوًى) منوَّن، وقوله تعالى ﴿ جُرُفٍ ﴾ قرأ ابنُ عامر وحمزةُ وأبو بكر وخلَف بالتخفيفِ، وقرأ الباقون بالتَّثقيلِ وهما لُغتان، وهي البَرُّ التي لم تُمطَرْ، وقال أبو عُبيد :(بَنَى الْهُوَّةَ وَالرَّمْلَ) والشيءُ الرَّخْوُ وما يجرفهُ السيَّلُ في الأودِيَةِ، والهايرُ الساقطُ الذي يتداعَى بعضه على إثْرِ بعضٍ كما يتهاوَى الرملُ، والشيء الرَّخْوُ، وفي مُصحف أُبَيّ (فَانْهَارَتْ بهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَار جَهَنَّمَ). قال قتادةُ :(ذكِرَ لَنَا أنَّهُ حُفِرَتْ بُقْعَةٌ مِنْهَا فَرُؤيَ الدُّخَّانُ يَخْرُجُ مِنْهَا)، وقال جابرُ بن عبدِالله :(رَأيْتُ الدُّخَّانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَار).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي انْهَارَ الْجُرُفُ بالبناءِ ؛ أي هارَ به ؛ أي كما أنَّ مَن بنَى على جانب نَهْرٍ صفة ما ذكرنا انْهَارَ بناؤهُ في النَّهْرِ، فكذلك بناءُ أهلِ النِّفاق مسجد الشِّقاق كبناءٍ على جُرُفِ جهنَّم يتهوَّرُ بأهلهِ فيها. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يَهدِيهم الى جنَّتهِ وثوابهِ.
ويقالُ : معناهُ : لا يزالون شاكِّين حين يموتُوا، فإذا ماتُوا صاروا إلى اليقينِ حيث لا ينفعُهم اليقين قال السديُّ :(مَعْنَاهُ : لاَ يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمْ الَّذِي بَنَوْهُ ريبَةً فِي قُلُوبهِمْ ؛ أيْ حَزَازَةً وَغَيْظاً فِي قُلُوبهِمْ ؛ أيْ أنْ تَصَدَّعَ قُلُوبُهُمْ فَيَمُوتُوا).
وقرأ الحسنُ ويعقوب أي (إنْ) مخفَّفاً على الغايةِ، يدلُّ عليه تفسيرِ الضحَّاك وقتادة، ولا يزالون في شَكٍّ منه إلى أن يَموتُوا فيستيقِنوا ويتبيَّنوا، قرأ شيبةُ وابن عامر وحمزة وحفص (تَقَطَّعَ) بفتح التاءِ وتشديد الطاءِ المعنى تتقطعُ، ثم حُذفت إحدَى التائَين، وقرأ ابنُ كثير ومجاهد ونافعٌ وعاصم وأبو عمر والكسائي (تُقَطَّعَ) بضم التاء وتشديد الطاء على غيرِ تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب (تُقْطَعَ) بضم التاء خفيفة الطاء من القطعِ. وروي عن ابنِ كثير بفتحِ التاء خفيفة، (قُلُوبَهُمْ) نصباً أي بفعلِ ذلك أنتَ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي عليمٌ بأعمالِكم، حيكمٌ ما حَكَمَ من هدمِ مسجدهم وأظهرَ نفاقَهم.
فإن قِيْلَ : كيف يصحُّ شراءُ الجنَّة على ذلكَ وهي مملوكةٌ لله تعالى ؟ وكيف يشترِي أحدٌ ملكه يملكهُ ؟ قِيْلَ : إنما ذكر هذا على وجهِ التلطُّف للمؤمنين في تأكيدِ الجزاء كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[البقرة : ٢٤٥] فذكرَ الصدقةَ بلفظِ القَرْضِ للتحريضِِ على ذلك والترغيب فيه، إذِ القرضُ يوجب ردَّ المفلسِ لا محالةَ، وكأن اللهُ عَامَلَ عبادَهُ معاملةَ مَنْ هو غيرُ مالكٍ، وعن جعفر الصَّادق أنه كان يقولُ :(يَا ابْنَ آدَمَ اعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِكَ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرَّفَكَ قَدْرَكَ وَلَمْ يَرْضَ أنْ يَكُونَ لَكَ ثَمَنٌ غَيْرُ الْجَنَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ ؛ فيه بيانُ عرضِ الذي لأجلهِ اشترَاهُم، وهو أن يُقاتِلوا العدوِّ في طاعةِ الله، ومعناهُ : فيَقْتُلُونَ المشركين، ويقتلهم المشركون، وعلى هذا أكثرُ القرَّاء، حمزةُ والكسائي (فَيُقْتُلُونَ) بالرفعِ، (وَيَقْتُلُونَ) بالنصب، واختارَ الحسنُ هذه القراءةَ لأنه إذا قُرئ هكذا كان تسليمُ النفسِ إلى الشِّراء أقربُ، وإنما يستحقُّ البائعُ تسليمَ الثمن إليه تسليمَ المبيع.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي أوجبَ اللهُ لهم الجنَّةَ ووعدَهم وعدَ حقٍّ منه لَهم، وإنَّما قال (حَقّاً) للفصلِ بين الوعدِ الذي حجرهُ على وجهِ الجزاء لهم على العملِ، وبين الوعدِ ينجزهُ للتصديقِ على وجه التفضِيل لا الجزاءِ لهم على العملِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ﴾ ؛ أي أوجبَ اللهُ الجنةَ للمؤمنين في جميعِ كتُبهِ التي أنزَلَها اللهُ على أنبيائهِ عليهمُ السلام، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ليس أحدٌ أوْفَى من اللهِ في وعدهِ وشَرطِه، وعَدَكم وعداً ولا يخلفُ لوعدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي ببيعكُم أنفسَكم من اللهِ، فإنه لا يشرِي أرفعُ من اللهِ سبحانَهُ، ولا ثمنَ أعلى من الجنَّة. وَقِيْلَ : إنَّ هذا أُنزل في الذين بايَعُوا رسولَ اللهِ ﷺ بيعةَ الرضوانِ تحتَ الشجرةِ، ثم صارَ عامّاً في كلِّ مَنْ يعملُ مثلَ عَملِهم.
قال محمَّد بن كعب :" لَمَّا بَايَعَتِ الأنْصَارُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ نَقِيباً، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ اشْتَرِطْ لِرَبكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتُ، فَقَالَ :" اشْتَرِطُ لِرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أنْفُسَكُمْ وَأمَوالَكُمْ " قَالُوا : وَإذا فَعَلْنَا ذلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ :" الْجَنَّةُ "، قَالَ : رَبحَ الْبَيْعُ لاَ نُقِيلُ وَلاَ نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ ﴾ ثُمَّ هَدَاهُمْ اللهُ بقَوْلِهِ ﴿ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾ ".
والقولُ الثاني : أنّ قولَهُ ﴿ التَّائِبُونَ ﴾ يدلُّ على المقاتِلين، كأنه قال : المقاتِلُون التائبون العابدون، ويجوزُ أنْ يكون قولُه :﴿ التَّائِبُونَ ﴾ رفعاً على المدحِ، أي هم التائبون من الشِّرك والذُّنوب، المطيعون للهِ ﴿ الْحَامِدُونَ ﴾ الذين يحمَدون اللهَ تعالى على كلِّ حالٍ، ﴿ السَّائِحُونَ ﴾ الصَّائِمُونَ.
كما رُوي عن رسولِ الله ﷺ أ نه قال :" سِيَِاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ " وإنما سُمي الصَّائم سَائحاً تشبيهاً بالسائحِ في الأرض ؛ لأن السائحَ ممنوعٌ من الشَّهوات، فكذلك الصائمُ.
قال الحسنُ :(أرَادَ السَّائِحينَ صَوَّامِي شَهْرِ رَمَضَانَ)، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ صلى عليه وسلم :" السَّائِحُونَ الصَّائِمُونَ ". وسُئل سعيدُ بن جبير عن السائحين فقالَ :(هُمُ الصَّائِمُونَ)، وقال الشاعرُ : بَرّاً يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ للهِ سَائِحاًأي صائماً.
وقال الحسنُ أيضاً :(السَّائِحُونَ الَّذِينَ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ وأَمْسَكُواْ عَنِ الْحَرَامِ، وَهَهُنَا وَاللهِ أقْوَامٌ رَأيْنَاهُمْ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ، وَلاَ يُمْسِكُونَ عَنِ الْحَرَامِ، وَاللهُ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ)، وقال عطاءُ :(السَّائِحُونَ هُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُجَاهِدُونَ). وسئل عكرمةُ عن قولِه تعالى :﴿ السَّائِحُونَ ﴾ فقال :(طَلَبَة الْعِلْمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ ﴾ أي الذين يؤَدُّون ما فرضَ اللهُ عليهم من الرُّكوع والسجودِ المفروضة، وقولهُ تعالى :﴿ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي الآمِرون بالإيمانِ والنَّاهون عن الشِّرك. وَقِيْلَ : معناهُ : الآمِرُون بكلِّ معروفٍ، والناهون عن كلِّ منكرٍ.
وإنما ذُكر الناهو بالواو وبخلاف ما سبقَ ؛ لأن النهيَّ عن المنكرِ لا يكادُ يُذْكَرُ إلا وهو مقرونٌ بالأمرِ بالمعروف، فدخلَ الواوُ ليدُلَّ على المقارنةِ. والمعروفُ : هو السُّنة، والمنكرُ : هو البدْعَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ﴾ ؛ عُطِفَ على ما تقدَّم. وَقِِيْلَ : المرادُ بهم جميعُ المذكورين من أوَّل الآيةِ إلى هذا الموضع، وهذه الصِّفة من أتَمَّ ما يكون من المبالغةِ في وصفِ العباد بطاعتهِ لله، والقيام بأوامره والانتهاءِ عن زواجرهِ ؛ لأن اللهَ تعالى بيَّن حدودَهُ في الأمرِ والنهي وفي ما نَدَبَ إليه فرغَّب فيه أو خيَّر فيه، وبيَّن ما هو الأَولى في مجرَى طاعةِ الله تعالى، فإذا قامَ العبدُ بفرائضِ الله وانتهَى إلى ما أرادَ الله منه كان من الحافظِين لحدودِ الله، كما رُوي عن خلفِ بن أيُّوب : أنَّهُ أمَرَ امْرَأَتَهُ أنْ تُمْسِكَ إرْضَاعَ وَلَدِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ وَقَالَ : قَدْ تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ، قِيْلَ لَهُ : لَوْ تَرَكْتَهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، قَالَ : فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي بشِّرهُم بالجنةِ.
قال أبُو هريرةَ رضي الله عنه : قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" اسْتَأْذنْتُ رَبي أنْ أسْتَغْفِرَ لِوَالدَيَّ فَلَمْ يَأْذنْ لِي، وَاسْتَأْذنْتُ أنْ أزُورَ قَبْرَهُمَا فَأَذِنَ لِي ". ومعنى الآيةِ : ما ينبغِي وما يجوزُ للنبيِّ والذين آمَنُوا أن يطلبُوا المغفرةَ للمشركين، ولو دعَتهُم رِقَّةُ القرابةِ إلى الاستغفار لَهم :﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي من بعدِ ما ظهرَ أنَّهم أصحابُ النار بأنَّهم ماتُوا على الكفرِ.
ويقالُ : إنما هذه الموعدةُ إنما كانت مِن إبراهيمَ لأبيهِ، فإنه كان قالَ لأستغفِرَنَّ لكَ ما دمتَ حيًا، ولم يكن اللهُ تعالى أعلمَ إبراهيم أنه لا يغفرُ للمشركين، يدلُّ عليه قراءةُ الحسنِ (إلاَّ مِنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ ؛ الأوَّاهُ : التَّوَّابُ. قال ابنُ مسعود (هُوَ الدَّعَّاءُ)، وقال الحسنُ وقتادة :(هُوَ الرَّحيمُ الرَّفِيقُ)، ويقالُ : هو المؤمنُ بلُغَة الحبشةِ، إلا مَن قال إنه لا يجوزُ أن يكون في القرآنِ شيءٌ غير عربيٍّ، قال : هذا موافقٌ من العربيةِ بلُغة الحبشة. وَقِيْلَ : الأوَّاهُ الفقيهُ، وقال كعبُ :(هُوَ الَّذِي إذا ذكرِتْ عِنْدَهُ النَّارُ قَالَ : آهٍ)، وَقِيْلَ : هو المتأوِّهُ شَفَقاً وفَرَقاً، المتضَرِّعُ نَفْساً ولُزوماً للطاعةِ، وأما الحليمُ فهو الذي لا يعجِّلُ بعقوبةِ الجاهل.
ومعناها : وما كان اللهُ ليُضِلَّ عملَ قومٍ ويُنْزِلَ قوماً مَنْزِلَةَ الضَّلالِ بعدَ إذ هدَاهُم للإيمانِ حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتَّقون من المعاصِي، ويقال : حتى يُبَيِّنَ الناسخَ من المنسوخ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ من النَّاسخِ والمنسوخ، وبكل ما فيه مصلحةُ الخلقِ، ﴿ عَلِيمٌ ﴾.
وَقِيْلَ : أراد بذلك قوماً منهم تخلَّفُوا عن رسولِ الله ﷺ ثم خرَجُوا فأدركوهُ في الطريقِ. وقولهُ تعالى :﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ صفةُ مدحٍ لأصحاب النبيِّ ﷺ باتِّباعِهم إياهُ في وقت الشِّدةِ في غزوة تبوك، وكانت بهم العُسْرَةُ في النفقةِ والرُّكوب والحرِّ والخوف، وكانت الدابةُ الواحدة بين جماعةٍ يتعقَّبون عليها، وكانت التمرةُ تُشَقُّ بالنِّصف فيأكلُها الرجُلان كل واحدٍ نصفها، وربما كانت جماعةٌ يَمُصُّونَ تمرةً واحدة، ويشربون عليها، وربما كانوا يَنْحَرُونَ الإبلَ فيشربون من ماءِ كرُوشِها في الحرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي مِن بعد ما كادَ تَمِيلُ قلوبُ طائفةٍ منهم عن الخروجِ والجهاد، ويقال من بعدِ ما كادوا يرجِعون عن غزوتِهم من الشدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ أي ثم خفَّفَ عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادُوا يعقلون عن أنفُسِهم، وهذا كقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ ﴾. إلى أن قالَ :﴿ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[المزمل : ٢٠] أي خفَّفَ عنكم، وكقوله :﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة : ١٨٧] أي خفَّف عنكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾ ؛ أي عَلِموا وأيقَنُوا ألاَّ مَفَرَّ من عذاب الله إلا إليه بالتوبةِ، وقولُه تعالى :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي قَبلَ توبتَهم، ﴿ لِيَتُوبُواْ ﴾ ؛ أي ليرجِعُوا عن مثلِ صنيعهم. ويقالُ : ليتوبَ الناسُ من بعدِهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ ؛ أي المتجاوزُ عن ذنوب المؤمنين، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ بعبادهِ التَّائبين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ذلك الزجرُ بأنَّهم في التخلُّف عن الجهاد، لا يصيبُهم عطشٌ ولا تعب في أبدانِهم، ولا شدَّةُ مجاعةٍ في طاعة اللهِ، ولا يجاوِزُون مكاناً فيظهرون فيه من سهلِ أو جبل مجاوزتَهم ذلك المكان، فإنَّ الإنسان يُغِيظُهُ أن يطأَ أرضَهُ غيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالى :﴿ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي لا يُبْطِلُ ثوابَ مَن أحسنَ عملاً من جهادٍ وغيره.
ومعناها : أنه ليس للمؤمنينَ أن ينفِرُوا كافَّة ويَخْلِفُوا رسولَ الله وحدَهُ ليس عنده أحدٌ من المسلمين يتعلَّمُ منه الحلالَ والحرامَ والشرائعَ والأحكام، ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ ﴾ ؛ أي فهَلاَّ خَرَجَ مِن كلِّ جماعةٍ طائفةٌ إلى الجهادِ، وتبقى طائفةٌ مع رسولِ الله ﷺ ؛ ليسمعَ الذين تخلَّفُوا عند النبيِّ ﷺ الوحيُ، إذا رجعت السَّرايا علَّمُوهم ما عَلِموا فستَوُونُ جميعاً في العلمِ في معرفة الناسخِ والمنسوخ.
قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ ؛ أي لُينذِرَ الذين تخلَّفوا مع رسولِ الله ﷺ قومَهم الذين نَفَروا إذا رجَعُوا إليهم من غُزاتِهم، ويخبرُوهم بما نزلَ بعدَهم من القرآنِ، لكي يحذرُوا كلُّهم فلا يعملون شيئاً بخلافِ ما أنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وإنما سَمَّى اللهُ النفاقَ مرَضاً ؛ لأن الحيرةَ في القلب مرضُ في القلب، كما أن الوجعَ في البدنِ مرضُ في البدنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ ﴾ ؛ أي انصرَفُوا عن الإيمانِ والعملِ بترك ما يستمعون، ويقال : انصرَفُوا عن المكان الذي سَمِعُوا فيه، ﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾ ؛ باللطف الذي يُحْدِثُهُ للمؤمنين. قَوْلُهُ تَعَاَلَى :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي ذلك الصرفُ بأنَّهم قومٌ لا يفقَهون ما يريدُ الله بخطابهِ.
وقرأ ابنُ عبَّاس والزهري (مِنْ أنْفَسِكُمْ) بفتحِ الفاء ؛ أي من أشرَفِكم وأفضَلِكم، مِن قولِكَ : شيءٌ ذو نَفَسٍ، وقال : كان مِن أعلاكُم نسَباً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ أي شديدٌ عليه عَنْتُكُمْ وإثْمُكم، العَنَتُ : الضيِّقُ والمشقَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي حريصٌ على إيمانكِم وهُداكم أنْ تُؤمِنُوا فتَنجُوا من العذاب وتفوزُوا بالجنَّة والثواب، والحِرْصُ : شدَّةُ الطَّلَب للشيء مع الاجتهادِ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ كلامٌ مستأنفٌ : أي وهو شديدٌ الرحمةِ لجميع المؤمنين، رفيقٌ لِمَن اتَّبعَهُ على دينهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ أي خالِقُ السَّريرِ العظيمِ الذي هو أعظمُ مِن السَّمواتِ والأرض، وإنَّما خُصَّ العرشُ بذلك ؛ لأنه إذا كان ربُّ العرشِ العظيمِ مع عَظَمَتِهِ، كان ربُّ ما دونَهُ في العِظَمِ. وَقِيْلَ : إنما خصَّ العرش ؛ تشريفاً للعرشِ وتعظيماً لشأنهِ. وقرئ في الشواذ (الْعَظِيمُ) بالرفعِ على نَعْتِ الرب.