في الربع الماضي أنهينا تفسير سورة الأنفال المدنية، وانتقلنا منها إلى سورة التوبة المدنية أيضا، وأول ما يستلفت النظر في سورة التوبة أن " البسملة " غير مكتوبة في أولها كبقية سور القرآن، وإنما لم يبدأ فيها بكتابة البسملة، جريا على ما اختاره أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه في كتابة المصحف " الإمام "، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتلقى عنه كتاب الوحي ما يعرفهم هل " سورة التوبة " جزء من " سورة الأنفال " فلا يفصل بينهما بالبسملة، أم هي مستقلة عنها، فتفصل عنها بالبسملة. ونظرا لهذا الاعتبار قرن بينهما عند كتابة المصحف من جهة، ولم تكتب بينهما البسملة التي تفرق بين سورة وأخرى فرقا تاما، من جهة أخرى.
وإنما سميت " سورة التوبة " بهذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في شأن الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا في غزوة تبوك :﴿ ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم ﴾.
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه سورة التوبة هو بيان ما يجب أن تكون عليه علاقات المسلمين بغيرهم من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وإبراز ما كانت تنطوي عليه نفوس المثبطين والمتخلفين والمتثاقلين، حين استنفر رسول الله إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بغية فك الحصار الذي كان يضربه الروم إذ ذاك على الدعوة الإسلامية ناحية الشام، وتمهيدا لخروج هذه الدعوة السماوية من جزيرة العرب، وانتشارها في بقية أرجاء العالم.
قال ابن كثير : " وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم ذاك إلى موسم الحج على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره صلى الله عليه وسلم مخاطبتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، ثم أتبعه بعلي ابن أبي طالب ومعه ﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ ليؤذن بها ويبلغها إلى الناس.
ونقل القاضي أبو بكر " ابن العربي " عن أبي المظفر طاهر ابن محمد أنه قال : " إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ﴿ ببراءة ﴾ مع أبي بكر، لأن ﴿ براءة ﴾ تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد وينقضه إلا الذي عقده أو رجل من بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم ". قال القاضي أبو بكر تعقيبا عليه : " وهذا بديع في فنه ".
وهكذا طاف أبو بكر وعلي بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، وخطب أبو بكر الناس يوم عرفة، ولما أتم خطبته التفت إلى علي وقال له : " قم يا علي، فأد رسالة رسول الله " فقام علي وقرأ عليهم أربعين آية من ﴿ براءة ﴾، ثم علم علي بعد ذلك أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فلم يزل يتتبع الفساطيط بمنى فسطاطا فسطاطا ويقرؤها عليهم، حتى بلغت ﴿ براءة الله ورسوله ﴾ إلى الجميع، وأدرك المشركون من العرب حينئذ أن الساعة قد دقت، وأنه لم يبق أمامهم أي احتمال، ما عدا الإسلام أو القتال، وكان المؤذنون يؤذنون يوم النحر : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وبهذا التدبير الحاسم الذي اتخذه الرسول بوحي من ربه وضع حدا نهائيا لجميع مظاهر الشرك وشعائره في عبادة الحج، وانتظر رسول الله حلول العام القابل ليدشن بنفسه موسم الحج الإسلامي بشعائره الإسلامية الكاملة، فجاء الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس الآلاف المؤلفة من المسلمين ليحج " حجة الوداع " في السنة التالية، وهي السنة العاشرة للهجرة، دون أن يشارك في تلك الحجة أحد من المشركين.
والآن فلنلق نظرة سريعة على الآيات السابقة من سورة براءة الواردة في نهاية الربع الماضي، لننتقل منها إلى الآيات الواردة في هذا الربع، إذ إنها يرتبط بعضها ببعض معنى وسياقا، وفهم الآيات اللاحقة متوقف على فهم الآيات السابقة.
وقوله تعالى :﴿ إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ يستفاد منه مبدأ تشريعي مهم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي عاهد المشركين عندما اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، بصفته " إماما " حاكما وآمرا، لكن هذه الآية نسبت العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى جميع المؤمنين، إذ قالت :﴿ الذين عاهدتم ﴾ ولم تقل الآية :﴿ الذين عاهدتهم ﴾ نظرا إلى أن كل ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمر به فهو لازم لأمته، منسوب إليها، ومحسوب عليها، إذ هو رئيسها الأعلى. ومن هنا جاءت القاعدة الشرعية : " أن الإمام إذا عقد أمرا بما يرى فيه المصلحة للأمة لزم حكمه جميع رعاياه، فإذا رضوا به كان أثبت لنسبته إليهم }. كما نسب عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان قد عاهد به المشركين، إلى جميع المسلمين، لكونهم به راضين، وهذا فن بديع من تحقيقات القاضي أبي بكر " ابن العربي " وتدقيقاته.
وقوله تعالى هنا :﴿ من المشركين ﴾ يقتضي أن أولئك المعاهدين لم يكونوا من أهل الكتاب، فقد كان العهد المشار إليه هنا خاصا بالوثنيين من العرب.
و ﴿ يوم الحج الأكبر ﴾ إما أنه يوم عرفة كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر، وروي مثله عن ابن عباس وغيره من مفسري السلف، اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم :( الحج عرفة )، وإما أنه يوم النحر كما روي عن الإمام مالك، نظرا لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، ورجح القاضي أبو بكر " ابن العربي " أن المراد ( بيوم الحج الأكبر ) الوارد في هذه الآية بالخصوص هو يوم النحر، لثبوت الحديث الصحيح بذلك، إذ قال صلى الله عليه وسلم يوم النحر :( أي يوم هذا ؟ أليس يوم الحج الأكبر ؟ ).
وقوله تعالى :﴿ فإن تبتم فهو خير لكم ﴾ يتضمن الإشارة إلى مبدإ أساسي في الإسلام، هو أن الإسلام يجب ما قبله، وذلك لما انبنى عليه من سماحة ورحمة وعفو، فمهما اقتحم المشركون والكفار من المعاصي والجرائم، وارتكبوا من الموبقات والمآثم، ثم أسلموا وجوههم لله، إلا ونالتهم المغفرة، وقبلت منهم التوبة، ولم يواخذوا بما سلف :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ والحكمة في ذلك تأليفهم على الملة، وتسهيل دخولهم في الدين، حتى ينيبوا إلى الله، ويسلموا وجوههم إليه.
ويؤخذ من قوله تعالى في هذه الآية :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ﴾ أن المعاهدين من المشركين كانوا قسمين : قسم منهم ثبت على العهد دون الخيانة ولا ممالأة ضد المسلمين، وهذا القسم هو الذي استثناه كتاب الله من أجل أربعة أشهر، وجعل أجله انتهاء المدة المتعاهد عليها، وقسم منهم خاس بعهده ونقضه، وهذا القسم هو الذي تولى بيان حكم الله فيه قوله تعالى في هذا الربع :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾.
وأوضح كتاب الله كيف يكون العمل مع مشركي العرب المعاهدين الذين ضرب لهم أجل أربعة أشهر، إذا انتهى الأجل المضروب لهم دون أن يهتدوا للإسلام، وأصروا على الشرك والمقاومة دون استسلام، فقال تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾. والمراد بها هنا بالخصوص " أشهر الأمانة الأربعة " التي أباح لهم أن يسيروا أثناءها حيث شاؤوا آمنين على أنفسهم، فمعناها هنا غير معناها في قوله تعالى :﴿ منها أربعة حرم ﴾.
ثم مضى كتاب الله يقول :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾، وذلك لأن جزيرة العرب قضى الله أن تكون خالصة لدين الحق، وأن لا يجتمع فيها إسلام وشرك، ﴿ وخذوهم ﴾ أي خذوهم أسرى ﴿ واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ أي اقصدوهم بالحصار في معاقلهم، وبالرصد في طرقهم ومسالكهم، فإما أن يهتدوا ويسلموا، وإما أن يقاتلوا إلى أن يستسلموا.
ثم بين كتاب الله كيف يكون العمل معهم إذا اختاروا الإسلام دينا، فقال تعالى :﴿ فإن تابوا ﴾ أي تابوا من معصية الشرك والوثنية ومعتقدات الجاهلية، ﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم ﴾.
وقوله تعالى هنا :﴿ فخلوا سبيلهم ﴾ قد تولت السنة النبوية بيان معناه على أكمل وجه، فقال صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ) فانتظم القرآن والسنة واطردا كما قال القاضي أبو بكر( ابن العربي ).
وما يفيد التنبيه إليه في هذا المقام أن هذه الآية دليل قوي للموقف الصارم الذي اتخذه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة، فهذه الآية لم تسمح بتخلية سبيل المشركين المعاهدين وعصمة دمائهم إلا بشرط التوبة من الشرك والدخول في الإسلام، والقيام بواجباته الأساسية، وعلى رأسها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصدق أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال قولته المشهورة : " لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الله قد جمعهما ولم يفرق بينهما }. وأعاد كتاب الله نفس المعنى مرة أخرى في هذا الربع، لتقويته في النفوس وتركيزه في الأذهان، فقال تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ وفي هذه الآية معنى جديد، وهو معنى " الأخوة " بدلا من معنى " العصبية " ووصف جديد هو وصف " الأخوة في الدين " بدلا من " حمية الجاهلية "، والأخوة في الدين رابطة تقوم على أساس التماثل في الاعتقاد والتفكير والعمل والسلوك، تشبيها لها بتماثل الأخوين ولا سيما إذا كانا شقيقين في كثير من الخصال والخلال، وقد بينت السنة النبوية ما تقتضيه الأخوة في الدين من التزامات أدبية وأخلاقية وعلمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ).
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، استنكر كتاب الله ما كانت تفتخر به قريش على غيرها من الناس، ولاسيما على المسلمين، من قيام بسقاية الحجاج، وعمارة للمسجد الحرام، وسكنى بمكة على العموم، وأبطل ما كانت تعتقده في ذلك من الفضل على غيرها، وبين كتاب الله أنه لا محل للمقارنة بين من أصر على الشرك، وإن قام بهذه الأعمال، ومن آمن بالله وهاجر مع رسوله، وجاهد في سبيله بالمال والنفس، وأن مجرد القيام بسقاية الحجاج وعمارة الكعبة لا يجعل القائمين بها – وهم مشركون – في درجة المؤمنين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فضلا على أن يكونوا عند الله أفضل من هؤلاء. بل إن المؤمنين أعظم درجة عند الله وأعلى منهم مقاما، وذلك قوله تعالى :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن – آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ وهل هناك ظلم يرتكبه الخلق أكبر من ظلمهم للخالق عندما يشركون به غيره وهو الواحد الأحد ؟ ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، استنكر كتاب الله ما كانت تفتخر به قريش على غيرها من الناس، ولاسيما على المسلمين، من قيام بسقاية الحجاج، وعمارة للمسجد الحرام، وسكنى بمكة على العموم، وأبطل ما كانت تعتقده في ذلك من الفضل على غيرها، وبين كتاب الله أنه لا محل للمقارنة بين من أصر على الشرك، وإن قام بهذه الأعمال، ومن آمن بالله وهاجر مع رسوله، وجاهد في سبيله بالمال والنفس، وأن مجرد القيام بسقاية الحجاج وعمارة الكعبة لا يجعل القائمين بها – وهم مشركون – في درجة المؤمنين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فضلا على أن يكونوا عند الله أفضل من هؤلاء. بل إن المؤمنين أعظم درجة عند الله وأعلى منهم مقاما، وذلك قوله تعالى :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن – آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ وهل هناك ظلم يرتكبه الخلق أكبر من ظلمهم للخالق عندما يشركون به غيره وهو الواحد الأحد ؟ ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم ﴾.
ذلك أنه بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، وأسلم عامة أهلها، وتمهدت أمورها، بلغه أن هوازن وحلفاءها جمعوا لقتاله جموعهم بقيادة أميرهم مالك بن عوف النضري، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاؤوا بقضهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه لفتح مكة، وكان عدده عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح وهم ﴿ الطلقاء ﴾ في ألفين من الناس، غير أن هوازن بمن معهم ارتكبوا خدعة حربية كبرى، فكمنوا في وادي حنين، وهو واد بين مكة والطائف، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد بادروهم بغتة بالقتال في أول النهار وفي عماية الصبح، وثارت في وجوه المسلمين خيل هوازن، فرشقتهم بالسهام والنبال، وحملت عليهم حملة رجل واحد قبل أن يأخذوا أهبتهم ويستعدوا للنزال، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت أمام العدو، رغما أنه كان لا يركب يومئذ إلا بغلته الشهباء، وانكشف عنه جيشه، ولم يزل يسوق بغلته إلى نحر العدو ويركضها إلى وجهه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بنفسه من لم يعرفه، أيا كان عدوا أو نصيرا، داعيا للمسلمين إلى الرجوع والثبات في وجه العدو، قائلا :( إلي عباد الله، إلي أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ).
وأخذ عمه العباس – وكان جهير الصوت – ينادي من جهته بأعلى صوته قائلا حينا : " يا أصحاب سورة البقرة " وقائلا حينا آخر : " يا أصحاب الشجرة " يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها المهاجرون والأنصار، فجعلوا يرجعون ويقولون : " لبيك لبيك " وانعطف الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها العدو بعدما دعا ربه واستنصر وقال :( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) فما بقي من العدو أحد إلا أصابه من تلك القبضة من التراب في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ونظر رسول الله إلى مجتلد القوم فقال :( الآن حمي الوطيس ) ولم يلبث العدو أن انهزم انهزاما شنيعا، وأخذ يتساقط قتلاه وأسراه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان النصر الأخير لرسول الله وللمؤمنين، والهزيمة الأخيرة لهوازن ومن معها من المشركين، ولم تمض عشرون يوما بعد هزيمة هوازن وحلفائها حتى قدمت البقية الباقية منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين، فعند ذلك قبل إسلامهم وخيرهم بين سبيهم وأموالهم، فاختاروا سبيهم وكان يبلغ ستة آلاف نسمة، فرده عليهم، وقسم أموالهم المأخوذة في الغنيمة بين الغانمين، واستعمل رسول الله نفس مالك بن عوف النضري، الذي كان أمير هوازن يقودها يوم حنين، على قومه كما كان عليهم من قبل، تأليفا لقلوبهم على الإسلام، وانتفاعا بخدماتهم للدين فيما يستقبل من الأيام.
وهذا الموضوع المثير هو الذي تولت شرحه الآيات الكريمة التالية في أسلوب موجز ومعجز. ﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم ﴾.
ذلك أنه بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، وأسلم عامة أهلها، وتمهدت أمورها، بلغه أن هوازن وحلفاءها جمعوا لقتاله جموعهم بقيادة أميرهم مالك بن عوف النضري، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاؤوا بقضهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه لفتح مكة، وكان عدده عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح وهم ﴿ الطلقاء ﴾ في ألفين من الناس، غير أن هوازن بمن معهم ارتكبوا خدعة حربية كبرى، فكمنوا في وادي حنين، وهو واد بين مكة والطائف، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد بادروهم بغتة بالقتال في أول النهار وفي عماية الصبح، وثارت في وجوه المسلمين خيل هوازن، فرشقتهم بالسهام والنبال، وحملت عليهم حملة رجل واحد قبل أن يأخذوا أهبتهم ويستعدوا للنزال، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت أمام العدو، رغما أنه كان لا يركب يومئذ إلا بغلته الشهباء، وانكشف عنه جيشه، ولم يزل يسوق بغلته إلى نحر العدو ويركضها إلى وجهه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بنفسه من لم يعرفه، أيا كان عدوا أو نصيرا، داعيا للمسلمين إلى الرجوع والثبات في وجه العدو، قائلا :( إلي عباد الله، إلي أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ).
وأخذ عمه العباس – وكان جهير الصوت – ينادي من جهته بأعلى صوته قائلا حينا :" يا أصحاب سورة البقرة " وقائلا حينا آخر :" يا أصحاب الشجرة " يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها المهاجرون والأنصار، فجعلوا يرجعون ويقولون :" لبيك لبيك " وانعطف الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها العدو بعدما دعا ربه واستنصر وقال :( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) فما بقي من العدو أحد إلا أصابه من تلك القبضة من التراب في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ونظر رسول الله إلى مجتلد القوم فقال :( الآن حمي الوطيس ) ولم يلبث العدو أن انهزم انهزاما شنيعا، وأخذ يتساقط قتلاه وأسراه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان النصر الأخير لرسول الله وللمؤمنين، والهزيمة الأخيرة لهوازن ومن معها من المشركين، ولم تمض عشرون يوما بعد هزيمة هوازن وحلفائها حتى قدمت البقية الباقية منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين، فعند ذلك قبل إسلامهم وخيرهم بين سبيهم وأموالهم، فاختاروا سبيهم وكان يبلغ ستة آلاف نسمة، فرده عليهم، وقسم أموالهم المأخوذة في الغنيمة بين الغانمين، واستعمل رسول الله نفس مالك بن عوف النضري، الذي كان أمير هوازن يقودها يوم حنين، على قومه كما كان عليهم من قبل، تأليفا لقلوبهم على الإسلام، وانتفاعا بخدماتهم للدين فيما يستقبل من الأيام.
وهذا الموضوع المثير هو الذي تولت شرحه الآيات الكريمة التالية في أسلوب موجز ومعجز. ﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم ﴾.
ذلك أنه بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، وأسلم عامة أهلها، وتمهدت أمورها، بلغه أن هوازن وحلفاءها جمعوا لقتاله جموعهم بقيادة أميرهم مالك بن عوف النضري، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاؤوا بقضهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه لفتح مكة، وكان عدده عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح وهم ﴿ الطلقاء ﴾ في ألفين من الناس، غير أن هوازن بمن معهم ارتكبوا خدعة حربية كبرى، فكمنوا في وادي حنين، وهو واد بين مكة والطائف، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد بادروهم بغتة بالقتال في أول النهار وفي عماية الصبح، وثارت في وجوه المسلمين خيل هوازن، فرشقتهم بالسهام والنبال، وحملت عليهم حملة رجل واحد قبل أن يأخذوا أهبتهم ويستعدوا للنزال، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت أمام العدو، رغما أنه كان لا يركب يومئذ إلا بغلته الشهباء، وانكشف عنه جيشه، ولم يزل يسوق بغلته إلى نحر العدو ويركضها إلى وجهه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بنفسه من لم يعرفه، أيا كان عدوا أو نصيرا، داعيا للمسلمين إلى الرجوع والثبات في وجه العدو، قائلا :( إلي عباد الله، إلي أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ).
وأخذ عمه العباس – وكان جهير الصوت – ينادي من جهته بأعلى صوته قائلا حينا :" يا أصحاب سورة البقرة " وقائلا حينا آخر :" يا أصحاب الشجرة " يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها المهاجرون والأنصار، فجعلوا يرجعون ويقولون :" لبيك لبيك " وانعطف الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها العدو بعدما دعا ربه واستنصر وقال :( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) فما بقي من العدو أحد إلا أصابه من تلك القبضة من التراب في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ونظر رسول الله إلى مجتلد القوم فقال :( الآن حمي الوطيس ) ولم يلبث العدو أن انهزم انهزاما شنيعا، وأخذ يتساقط قتلاه وأسراه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان النصر الأخير لرسول الله وللمؤمنين، والهزيمة الأخيرة لهوازن ومن معها من المشركين، ولم تمض عشرون يوما بعد هزيمة هوازن وحلفائها حتى قدمت البقية الباقية منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين، فعند ذلك قبل إسلامهم وخيرهم بين سبيهم وأموالهم، فاختاروا سبيهم وكان يبلغ ستة آلاف نسمة، فرده عليهم، وقسم أموالهم المأخوذة في الغنيمة بين الغانمين، واستعمل رسول الله نفس مالك بن عوف النضري، الذي كان أمير هوازن يقودها يوم حنين، على قومه كما كان عليهم من قبل، تأليفا لقلوبهم على الإسلام، وانتفاعا بخدماتهم للدين فيما يستقبل من الأيام.
وهذا الموضوع المثير هو الذي تولت شرحه الآيات الكريمة التالية في أسلوب موجز ومعجز. ﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم ﴾ يمكن تفسيره بمعنى : إن خفتم الفقر، بانقطاع مادة المشركين عنكم، وتوقف الحركة التجارية التي كانوا يقومون بها، فإن الله سيعوضكم عنها، وسيغنيكم عن تجارة المشركين بتجارتكم أنتم استغناء تاما، وكذلك كان الأمر.
ويقتضي حكم الله في شأنهم ثانيا قبول الجزية منهم إن استسلموا لسلطان الإسلام، ورضوا بالدخول تحت ذمته، والعيش تحت طاعة دولته، وذلك معنى قوله تعالى هنا :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ و ﴿ الجزية ﴾ التي يدفعها ﴿ أهل الذمة ﴾ للدولة الإسلامية التي يوجدون تحت حكمها تقابل ﴿ الزكاة ﴾ التي يدفعها المسلمون لدولتهم وبيت مالهم، وبذلك يساهم المسلمون والذميون معا في تكاليف الدولة الإسلامية والتزاماتها. غير أن يد المسلم المعطي في الزكاة يد عليا، لأن المسلم جزء لا يتجزأ من الدولة الإسلامية، فهو منها وإليها، ويد الذمي المعطي في الجزية يد سفلى، لأن وجوده بين أظهر المسلمين إنما هو مدين به لتسامح الدولة الإسلامية وكرمها، يضاف إلى ذلك ما في دفع الذمي الجزية من إشعار بطاعته لسلطان الإسلام، والتزام بعدم التمرد عليه، واعتراف بسماحة الإسلام وتسامحه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في نفس السياق :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾.
وما هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف الذي يقع في صرة العالم اليوم وعند ملتقى القارات والمحيطات، والذي هو مركز الثقل في العالم كله إلى الآن، والذي يعد أبناؤه بمئات ومئات الملايين، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، إلا جزء من هذه البشرى، وستتلوه بحول الله وقوته بشائر أخرى.
جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله زوى لي الأرض –أي جمع لي وقبض- مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ).
وروى الإمام أحمد من حديث المقداد ابن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزا ويذل ذليلا، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها :﴿ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، يتحدث كتاب الله من جديد عن الأحبار والرهبان، فيكشف النقاب عن استغلالهم للناس وتضليلهم إياهم، وقد سبق في الربع الماضي استنكار قوي واستهجان بالغ للاعتقاد الفاسد الذي يعتقده فيهم أتباعهم المغرورون، وذلك قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾ ففي هذه الآية الكريمة نعى الله على اليهود ما ينسبونه إلى أحبارهم، وعلى النصارى ما ينسبونه إلى رهبانهم من نفع وضر، وما يعلقونه عليهم من رجاء باطل في الشفاعة والمغفرة وحسن الثواب، وما يطيعونهم فيه من أحكام، تتصل بجوهر الحلال والحرام، مع أن أحكامهم تلك لا سند لها من الدين، وإنما هي من بنات أفكارهم ومحدثات أهوائهم، فهذا معنى اتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم ﴿ أربابا من دون الله ﴾.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والطبري من عدة طرق عن عدي بن حاتم الطائي الذي كان أبوه مشهورا بالكرم بين العرب، حتى أصبح " الكرم الحاتمي " بينهم مضرب المثل، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وفي عنقه صليب من فضة، إذ كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ فقال عدي مدافعا عن النصارى : " أنهم لم يعبدوهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ). ثم أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وكان من جملة ما قال له :( يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلها غيره ؟ ) ولم يلبث عدي بعد سماعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالسته إياه أن أسلم وشهد شهادة الحق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ).
وأما عقيدة التثليث التي يعتقدها النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام فالشرك فيها بالله واضح كل الوضوح، متجاوز كل الحدود، وسبق في شأنها قوله تعالى :﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم ﴾ الآية، وكذلك ما نسبه اليهود قبلهم من بنوة عزير لله الذي لم يلد ولم يولد :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾.
وتولى كتاب الله في هذا الربع وصف الأحبار والرهبان، بما ليس فوق بيانه بيان، فقال تعالى معرفا للمؤمنين بحقيقتهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ فالأحبار والرهبان أغلبهم عبارة عن مستغلين للشعوب يستنزفون أموال الناس بشتى الوسائل، وقد كان لأحبار اليهود على عهد الجاهلية شفوف واعتبار ومكانة خاصة بين المشركين العرب، وكان لهم عندهم هدايا وضرائب تجبي إليهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم واستغلالهم، وبذلوا كل ما في وسعهم من الدسائس والمؤامرات للقضاء على الإسلام في مهده، ولاغتيال رسوله قبل حلول أجله، طمعا في أن تبقى لهم مراكزهم العالية، ورياساتهم الزائفة، التي تمتعوا بها زمنا طويلا، لكن الله سلبهم كل ذلك، وعوضهم عنه مزيدا من الغضب والتشريد، وأما رهبان النصارى فرغما عن أن الإسلام كشف عنهم النقاب، وألقى عليهم الأضواء، لم يزالوا يستغلون ضعفاء العقول من أتباعهم إلى الآن وحتى الآن، في مختلف البلدان، ولا سيما في فترة " الاعتراف بالذنوب " أمامهم، عندما يخيلون للمذنبين وأتباعهم أنهم سيمنحونهم " صك التوبة والغفران "، ويتقاضون منهم مقابل ذلك أغلى الأثمان. وما الثروة الهائلة المكدسة التي كانت تملكها الكنيسة في العصور الغابرة، والتي لا تزال تملكها حتى اليوم، ممثلة في العقارات والمنقولات والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة إلا شاهد ناطق بصدق هذه الآية منطوقا ومفهوما.
وإلى جانب ما عرف به أغلب الأحبار والرهبان من استغلال بالغ للضعف البشري، واستثمار فاحش للأزمات الروحية والعقد النفسية عند الناس أخذوا على عاتقهم منذ ظهور الإسلام القيام بصد الناس عن سبيل الله، واستعمال جميع الوسائل، للحيلولة بينهم وبين اتباع الحق، وذلك عن طريق إثارة الشبهات الباطلة، وإثارة الغرائز السافلة، وتشويه الحقائق الواضحة، واختلاق الأكاذيب الفاضحة.
وعلى سبيل المثال نذكر ما تطاول عليه الرهبان بإعانة اليهود من ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية ترجمة مختزلة محرفة مشوهة، مذيلة في نفس الوقت بالرد على عقائده بعدما حرفوها، وبالطعن في شرائعه بعدما شوهوها، إذ عرضوا ذلك كله في ترجمتهم وتعاليقهم عرضا ممسوخا فاسدا، وهذه الترجمة اللاتينية التي أشرنا إليها هي أول ترجمة مشوهة للقرآن وضعت بين أيدي قراء اللاتينية من الأوربيين، وذلك على أيدي تراجمة طليطلة من الرهبان واليهود، وكان المشرف على هذه الترجمة المزورة هو الراهب الشهير بطرس المبجل pierre le vénérable من رهبان القرن الثاني عشر الميلادي، وقد صرح هذا الراهب نفسه بأن الغرض الأساسي من تلك الترجمة المشوهة هو الدعاية ضد الإسلام، وأهدى هذه الترجمة إلى سان بيرنار saint Bernard، وبعدها بأربع سنوات فقط أعلنت أوربا المسيحية الحرب الصليبية الثانية ضد المسلمين. ويقرر المستشرق régis blachère في كتابه باللغة الفرنسية " مدخل إلى القرآن " " أن العارف باللغتين العربية واللاتينية عندما يقارن بين النص العربي للقرآن وهذه الترجمة اللاتينية لا يملك نفسه من الدهشة، إذ يجدها قليلة التشابه مع النص الأصلي، ولا يتردد عن القول بأنها ليست بترجمة مطلقا " ثم يعترف هذا المستشرق بعد ذلك صراحة " بأن العالم المسيحي قد استمر ضحية هذه الترجمة المشوهة الوحيدة خلال خمسة قرون كاملة، وأن العالم المسيحي ظل يعتمد عليها ويستعملها مباشرة أو بواسطة طوال هذه القرون الخمسة، في حملاته العنيفة والسخيفة ضد الإسلام "، وذلك على حد تعبير المستشرق المذكور، وقد استمر طبع هذه الترجمة اللاتينية المشوهة ونشرها حتى فيما يسمى بعهد " النهضة والإحياء " مما يدل على أن أقطاب النهضة الأوربية كانوا أيضا مرتاحين ومطمئنين إلى هذه الترجمة اللاتينية المشوهة للقرآن الكريم، وهذه الترجمة بالذات هي التي قام بطبعها في سويسرا سنة١٥٤٣ أستاذ علم اللاهوت بوشمان bushman وعن هذه الترجمة اللاتينية أخذت الترجمة الإيطالية التي نشرت سنة ١٥٤٧، وعن الترجمة الإيطالية المأخوذة عن اللاتينية أخذت الترجمة الألمانية التي نشرت سنة ١٦١٦، وعن الترجمة الألمانية أخذت الترجمة الهولندية التي صدرت سنة ١٦٤١، وهكذا استمرت عملية التشويه والتزوير للقرآن الكريم التي دشنها الرهبان المسيحيون بإعانة إخوانهم التراجمة اليهود قرونا طوالا تعمل عملها وتؤتي أكلها في نفوس المسيحيين في العالم أجمع، فهذا مثال واحد مما قام به الرهبان وأعوانهم من صد الناس عن سبيل الله، والحيلولة بينهم وبين معرفة جوهر الإسلام الصافي وحقيقته الساطعة، وهكذا أثبتت الأيام والوقائع باستمرار تحالف اليهودية والنصرانية ضد الإسلام قديما وحديثا، مصداقا لقوله تعالى في سورة المائدة :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾. كما أثبتت نفس الوقائع والأحداث صدق كتاب الله في كل ما وصف به طائفة الأحبار والرهبان إذ قال :﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " ومعنى صدهم عن سبيل الله صدهم لأهل دينهم عن الدخول في الإسلام، بتبديلهم وتغييرهم، وإغوائهم وتضليلهم ".
وكلمة " أحبار " جمع حبر، ويقال بكسر الحاء وفتحها، ومعناه في الأصل الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه، ومنه ثوب محبر أي جامع للزينة، وغلط بعضهم عندما قال إن الحبر سمي حبرا من حمل الحبر والكتابة به، والحبر هو المداد. و " الأحبار " من اليهود. وكلمة " رهبان " جمع راهب، أخذ من الرهبة، وأطلق في الأصل على من حمله خوف الله على أن يجعل عمله معه، وأنسه به. و " الرهبان " من النصارى. قال سفيان بن عيينة : " من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ".
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن المتمولين الأشحاء الذين لا يؤدون حقوق الله ولا حقوق الخلق فيما رزقهم من الأموال، فقال تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه أن أعرابيا قال له : " أخبرني عن قول الله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ فأجابه ابن عمر : " من كنزها، فلم يؤد زكاتها فويل له ".
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ﴾. وروى الإمام مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أيضا هذا القول نفسه. ومجمل ما حرره القاضي أبو بكر " ابن العربي " في تفسير هذه الآية : " أن الكنز هو مال مجموع، وأنه لا حق في المال سوى الزكاة، فإخراج الزكاة من المال يخرج المال عن وصف " الكنزية "، وكل ذهب أو فضة أديت زكاتهما، أو اتخذا حليا، فليسا بكنز وعندما تؤدى الزكاة عن المال يصبح مطهرا. نعم هناك حقوق عارضة تتعلق بالمال، كفك الأسير وحق الجائع وغيرهما من مصالح المسلمين وحاجاتهم، مما لا تكفي فيه الزكاة أو تقصر دونه، فهذه الحقوق العارضة تعتبر مثل الحقوق الأصلية في المال، وكنز المال دون الوفاء بها يعد ذنبا كبيرا في الإسلام ". روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ) فلما سمع ذلك عمر كبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عمر ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ) رواه أبو داوود في سننه والحاكم في مستدركه، وقال الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا من الناحية اللفظية في قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾ أن الضمير الوارد في هذه الآية يعود على الفضة دون الذهب رغما عن ذكرهما معا، ولو عاد الضمير على الذهب والفضة لقيل ﴿ ولا ينفقونهما ﴾ لكن اكتفت الآية بإعادة الضمير على أحدهما دون الآخر، على حد قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ فها هنا شيئان :﴿ اللهو والتجارة ﴾ لكن أعيد الضمير على التجارة وحدها، اكتفاء بذكر ضميرها عن الآخر. وهذا أسلوب متعارف في لسان العرب.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، يتحدث كتاب الله من جديد عن الأحبار والرهبان، فيكشف النقاب عن استغلالهم للناس وتضليلهم إياهم، وقد سبق في الربع الماضي استنكار قوي واستهجان بالغ للاعتقاد الفاسد الذي يعتقده فيهم أتباعهم المغرورون، وذلك قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾ ففي هذه الآية الكريمة نعى الله على اليهود ما ينسبونه إلى أحبارهم، وعلى النصارى ما ينسبونه إلى رهبانهم من نفع وضر، وما يعلقونه عليهم من رجاء باطل في الشفاعة والمغفرة وحسن الثواب، وما يطيعونهم فيه من أحكام، تتصل بجوهر الحلال والحرام، مع أن أحكامهم تلك لا سند لها من الدين، وإنما هي من بنات أفكارهم ومحدثات أهوائهم، فهذا معنى اتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم ﴿ أربابا من دون الله ﴾.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والطبري من عدة طرق عن عدي بن حاتم الطائي الذي كان أبوه مشهورا بالكرم بين العرب، حتى أصبح " الكرم الحاتمي " بينهم مضرب المثل، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وفي عنقه صليب من فضة، إذ كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ فقال عدي مدافعا عن النصارى :" أنهم لم يعبدوهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ). ثم أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وكان من جملة ما قال له :( يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلها غيره ؟ ) ولم يلبث عدي بعد سماعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالسته إياه أن أسلم وشهد شهادة الحق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ).
وأما عقيدة التثليث التي يعتقدها النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام فالشرك فيها بالله واضح كل الوضوح، متجاوز كل الحدود، وسبق في شأنها قوله تعالى :﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم ﴾ الآية، وكذلك ما نسبه اليهود قبلهم من بنوة عزير لله الذي لم يلد ولم يولد :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾.
وتولى كتاب الله في هذا الربع وصف الأحبار والرهبان، بما ليس فوق بيانه بيان، فقال تعالى معرفا للمؤمنين بحقيقتهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ فالأحبار والرهبان أغلبهم عبارة عن مستغلين للشعوب يستنزفون أموال الناس بشتى الوسائل، وقد كان لأحبار اليهود على عهد الجاهلية شفوف واعتبار ومكانة خاصة بين المشركين العرب، وكان لهم عندهم هدايا وضرائب تجبي إليهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم واستغلالهم، وبذلوا كل ما في وسعهم من الدسائس والمؤامرات للقضاء على الإسلام في مهده، ولاغتيال رسوله قبل حلول أجله، طمعا في أن تبقى لهم مراكزهم العالية، ورياساتهم الزائفة، التي تمتعوا بها زمنا طويلا، لكن الله سلبهم كل ذلك، وعوضهم عنه مزيدا من الغضب والتشريد، وأما رهبان النصارى فرغما عن أن الإسلام كشف عنهم النقاب، وألقى عليهم الأضواء، لم يزالوا يستغلون ضعفاء العقول من أتباعهم إلى الآن وحتى الآن، في مختلف البلدان، ولا سيما في فترة " الاعتراف بالذنوب " أمامهم، عندما يخيلون للمذنبين وأتباعهم أنهم سيمنحونهم " صك التوبة والغفران "، ويتقاضون منهم مقابل ذلك أغلى الأثمان. وما الثروة الهائلة المكدسة التي كانت تملكها الكنيسة في العصور الغابرة، والتي لا تزال تملكها حتى اليوم، ممثلة في العقارات والمنقولات والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة إلا شاهد ناطق بصدق هذه الآية منطوقا ومفهوما.
وإلى جانب ما عرف به أغلب الأحبار والرهبان من استغلال بالغ للضعف البشري، واستثمار فاحش للأزمات الروحية والعقد النفسية عند الناس أخذوا على عاتقهم منذ ظهور الإسلام القيام بصد الناس عن سبيل الله، واستعمال جميع الوسائل، للحيلولة بينهم وبين اتباع الحق، وذلك عن طريق إثارة الشبهات الباطلة، وإثارة الغرائز السافلة، وتشويه الحقائق الواضحة، واختلاق الأكاذيب الفاضحة.
وعلى سبيل المثال نذكر ما تطاول عليه الرهبان بإعانة اليهود من ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية ترجمة مختزلة محرفة مشوهة، مذيلة في نفس الوقت بالرد على عقائده بعدما حرفوها، وبالطعن في شرائعه بعدما شوهوها، إذ عرضوا ذلك كله في ترجمتهم وتعاليقهم عرضا ممسوخا فاسدا، وهذه الترجمة اللاتينية التي أشرنا إليها هي أول ترجمة مشوهة للقرآن وضعت بين أيدي قراء اللاتينية من الأوربيين، وذلك على أيدي تراجمة طليطلة من الرهبان واليهود، وكان المشرف على هذه الترجمة المزورة هو الراهب الشهير بطرس المبجل pierre le vénérable من رهبان القرن الثاني عشر الميلادي، وقد صرح هذا الراهب نفسه بأن الغرض الأساسي من تلك الترجمة المشوهة هو الدعاية ضد الإسلام، وأهدى هذه الترجمة إلى سان بيرنار saint Bernard، وبعدها بأربع سنوات فقط أعلنت أوربا المسيحية الحرب الصليبية الثانية ضد المسلمين. ويقرر المستشرق régis blachère في كتابه باللغة الفرنسية " مدخل إلى القرآن " " أن العارف باللغتين العربية واللاتينية عندما يقارن بين النص العربي للقرآن وهذه الترجمة اللاتينية لا يملك نفسه من الدهشة، إذ يجدها قليلة التشابه مع النص الأصلي، ولا يتردد عن القول بأنها ليست بترجمة مطلقا " ثم يعترف هذا المستشرق بعد ذلك صراحة " بأن العالم المسيحي قد استمر ضحية هذه الترجمة المشوهة الوحيدة خلال خمسة قرون كاملة، وأن العالم المسيحي ظل يعتمد عليها ويستعملها مباشرة أو بواسطة طوال هذه القرون الخمسة، في حملاته العنيفة والسخيفة ضد الإسلام "، وذلك على حد تعبير المستشرق المذكور، وقد استمر طبع هذه الترجمة اللاتينية المشوهة ونشرها حتى فيما يسمى بعهد " النهضة والإحياء " مما يدل على أن أقطاب النهضة الأوربية كانوا أيضا مرتاحين ومطمئنين إلى هذه الترجمة اللاتينية المشوهة للقرآن الكريم، وهذه الترجمة بالذات هي التي قام بطبعها في سويسرا سنة١٥٤٣ أستاذ علم اللاهوت بوشمان bushman وعن هذه الترجمة اللاتينية أخذت الترجمة الإيطالية التي نشرت سنة ١٥٤٧، وعن الترجمة الإيطالية المأخوذة عن اللاتينية أخذت الترجمة الألمانية التي نشرت سنة ١٦١٦، وعن الترجمة الألمانية أخذت الترجمة الهولندية التي صدرت سنة ١٦٤١، وهكذا استمرت عملية التشويه والتزوير للقرآن الكريم التي دشنها الرهبان المسيحيون بإعانة إخوانهم التراجمة اليهود قرونا طوالا تعمل عملها وتؤتي أكلها في نفوس المسيحيين في العالم أجمع، فهذا مثال واحد مما قام به الرهبان وأعوانهم من صد الناس عن سبيل الله، والحيلولة بينهم وبين معرفة جوهر الإسلام الصافي وحقيقته الساطعة، وهكذا أثبتت الأيام والوقائع باستمرار تحالف اليهودية والنصرانية ضد الإسلام قديما وحديثا، مصداقا لقوله تعالى في سورة المائدة :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾. كما أثبتت نفس الوقائع والأحداث صدق كتاب الله في كل ما وصف به طائفة الأحبار والرهبان إذ قال :﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " :" ومعنى صدهم عن سبيل الله صدهم لأهل دينهم عن الدخول في الإسلام، بتبديلهم وتغييرهم، وإغوائهم وتضليلهم ".
وكلمة " أحبار " جمع حبر، ويقال بكسر الحاء وفتحها، ومعناه في الأصل الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه، ومنه ثوب محبر أي جامع للزينة، وغلط بعضهم عندما قال إن الحبر سمي حبرا من حمل الحبر والكتابة به، والحبر هو المداد. و " الأحبار " من اليهود. وكلمة " رهبان " جمع راهب، أخذ من الرهبة، وأطلق في الأصل على من حمله خوف الله على أن يجعل عمله معه، وأنسه به. و " الرهبان " من النصارى. قال سفيان بن عيينة :" من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ".
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن المتمولين الأشحاء الذين لا يؤدون حقوق الله ولا حقوق الخلق فيما رزقهم من الأموال، فقال تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه أن أعرابيا قال له :" أخبرني عن قول الله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ فأجابه ابن عمر :" من كنزها، فلم يؤد زكاتها فويل له ".
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ﴾. وروى الإمام مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أيضا هذا القول نفسه. ومجمل ما حرره القاضي أبو بكر " ابن العربي " في تفسير هذه الآية :" أن الكنز هو مال مجموع، وأنه لا حق في المال سوى الزكاة، فإخراج الزكاة من المال يخرج المال عن وصف " الكنزية "، وكل ذهب أو فضة أديت زكاتهما، أو اتخذا حليا، فليسا بكنز وعندما تؤدى الزكاة عن المال يصبح مطهرا. نعم هناك حقوق عارضة تتعلق بالمال، كفك الأسير وحق الجائع وغيرهما من مصالح المسلمين وحاجاتهم، مما لا تكفي فيه الزكاة أو تقصر دونه، فهذه الحقوق العارضة تعتبر مثل الحقوق الأصلية في المال، وكنز المال دون الوفاء بها يعد ذنبا كبيرا في الإسلام ". روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ) فلما سمع ذلك عمر كبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عمر ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ) رواه أبو داوود في سننه والحاكم في مستدركه، وقال الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا من الناحية اللفظية في قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾ أن الضمير الوارد في هذه الآية يعود على الفضة دون الذهب رغما عن ذكرهما معا، ولو عاد الضمير على الذهب والفضة لقيل ﴿ ولا ينفقونهما ﴾ لكن اكتفت الآية بإعادة الضمير على أحدهما دون الآخر، على حد قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ فها هنا شيئان :﴿ اللهو والتجارة ﴾ لكن أعيد الضمير على التجارة وحدها، اكتفاء بذكر ضميرها عن الآخر. وهذا أسلوب متعارف في لسان العرب.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، أخبر الحق سبحانه وتعالى نبيه بحقيقة ما انطوى عليه المنافقون الذين كانوا منبثين بين المسلمين يقومون بدور " الطابور الخامس " المتعارف عليه في هذا العصر، فبين أنهم لو كانوا راغبين في الخروج مع رسول الله للقاء الروم في الشام لتأهبوا لذلك من أول وهلة، ولما تخاذلوا وترددوا، ثم كشف الحق سبحانه وتعالى عن اللطف الخفي، الذي حصل بعدم خروجهم، ذلك أنهم لو شاركوا المسلمين في الخروج إلى غزوة تبوك لكان وجودهم بين ظهرانيهم مثارا للبلبلة والاضطراب والخبال، ووقودا لإشعال نار الفتنة، وإفساد ذات البين، مما يعكر الجو ويشغل البال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن كره الله انبعاثهم ﴾ أي أبغض خروجهم ﴿ فثبطهم ﴾ أي أخرهم عن الخروج :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ﴾ أي لمشوا بينكم بالنميمة، وحركوا بينكم عوامل البغضاء المؤدية إلى الفتنة :﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أي وفيكم من يستحسن حديثهم الخداع، إذ إنكم لستم جميعا على بينة من أمرهم، فهم منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وبذلك يقع السامع لهم في الشرك، ويحدث بين المؤمنين – بسبب دسيستهم وسعايتهم – فساد كبير، وإلى هذا التفسير ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أنه يوجد منبثا من بينكم عيون لهم، منهم وإليهم، يتتبعون أخباركم وينقلونها إليهم أولا بأول، لإفساد خطة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل سير المؤمنين، وإلى هذا التفسير الثاني ذهب مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير الطبري. قال ابن كثير : " والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ".
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، أخبر الحق سبحانه وتعالى نبيه بحقيقة ما انطوى عليه المنافقون الذين كانوا منبثين بين المسلمين يقومون بدور " الطابور الخامس " المتعارف عليه في هذا العصر، فبين أنهم لو كانوا راغبين في الخروج مع رسول الله للقاء الروم في الشام لتأهبوا لذلك من أول وهلة، ولما تخاذلوا وترددوا، ثم كشف الحق سبحانه وتعالى عن اللطف الخفي، الذي حصل بعدم خروجهم، ذلك أنهم لو شاركوا المسلمين في الخروج إلى غزوة تبوك لكان وجودهم بين ظهرانيهم مثارا للبلبلة والاضطراب والخبال، ووقودا لإشعال نار الفتنة، وإفساد ذات البين، مما يعكر الجو ويشغل البال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن كره الله انبعاثهم ﴾ أي أبغض خروجهم ﴿ فثبطهم ﴾ أي أخرهم عن الخروج :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ﴾ أي لمشوا بينكم بالنميمة، وحركوا بينكم عوامل البغضاء المؤدية إلى الفتنة :﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أي وفيكم من يستحسن حديثهم الخداع، إذ إنكم لستم جميعا على بينة من أمرهم، فهم منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وبذلك يقع السامع لهم في الشرك، ويحدث بين المؤمنين – بسبب دسيستهم وسعايتهم – فساد كبير، وإلى هذا التفسير ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أنه يوجد منبثا من بينكم عيون لهم، منهم وإليهم، يتتبعون أخباركم وينقلونها إليهم أولا بأول، لإفساد خطة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل سير المؤمنين، وإلى هذا التفسير الثاني ذهب مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير الطبري. قال ابن كثير :" والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ".
ثم أخبر الحق سبحانه وتعالى عن تمام علمه وإحاطته بما ظهر وما بطن من نوايا المنافقين ودسائسهم، فقال تعالى :﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ فهو مطلع على سرائرهم، عليم ببواطنهم كعلمه بظواهرهم :
ويمضي كتاب الله في فضيحة المنافقين وهتك أستارهم من أي جيل أو قبيل، فيؤكد ما انطووا عليه في ذات أنفسهم من الخوف والجزع، والرعب والفزع، على العكس من المؤمنين الذين هم أشداء على الأعداء، يوم اللقاء، وأقوياء دائما على التضحية والفداء، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ أي قوم جبناء يصيبهم الفرق وهو الخوف :﴿ لو يجدون ملجأ ﴾ أي حصنا يتحصنون به ﴿ أو مغارات ﴾ أي كهوفا في قمم الجبال ﴿ أو مدخلا ﴾ أي نفقا تحت الأرض :﴿ لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ أي لفروا إليه وهم يسرعون.
ويمضي كتاب الله في فضيحة المنافقين وهتك أستارهم من أي جيل أو قبيل، فيؤكد ما انطووا عليه في ذات أنفسهم من الخوف والجزع، والرعب والفزع، على العكس من المؤمنين الذين هم أشداء على الأعداء، يوم اللقاء، وأقوياء دائما على التضحية والفداء، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ أي قوم جبناء يصيبهم الفرق وهو الخوف :﴿ لو يجدون ملجأ ﴾ أي حصنا يتحصنون به ﴿ أو مغارات ﴾ أي كهوفا في قمم الجبال ﴿ أو مدخلا ﴾ أي نفقا تحت الأرض :﴿ لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ أي لفروا إليه وهم يسرعون.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " ما خلاصته : " هذه الآية من أمهات الآيات فقد خص الله بعض الناس بالأموال دون البعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم من مالهم، يردونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بفضله للمحتاجين من رزق في قوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها ﴾، وقدر الصدقات على حسب أجناس الأموال، فجعل في النقدين ربع العشر، وجعل في النبات العشر، ومع تكاثر المئونة نصف العشر، و﴿ الصدقة ﴾ متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض، ولفظ الصدقة مأخوذ من " الصدق " بمعنى مساواة الفعل للقول والاعتقاد، وبناء " ص د ق " يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه " صداق المرأة " أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح، على وجه مشروع، ومشابهة الصدق ها هنا للصدقة أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، -وأن هذه الدار الدانية قنطرة إلى الأخرى، وباب إلى السوأى أو الحسنى – " مؤنث الأسوأ والأحسن " عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها وآثر عليها بخل بماله، وغفل عن مآله }.
والآن فلنتحدث عن الألفاظ الواردة في هذا السياق لفظا لفظا حتى يتضح المعنى المراد، إذ كل لفظ منها يعبر عن صنف من أصناف المستحقين للزكاة :
فلفظ " الفقراء " جمع فقير، وهو المحتاج المتعفف.
ولفظ " المساكين " جمع مسكين، وهو المحتاج السائل، وهذا التفسير للاثنين منقول عن الإمام مالك في كتاب ابن سحنون.
وجاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المسكين ما هو فقال :( الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا ).
ولفظ " العاملين عليها " يراد به الجباة والسعاة الذين يذهبون لتحصيل الزكاة ويوكلون على جمعها.
قال القاضي أبو بكر بن العربي : " وهذا يدل على مسألة بديعة، وهي أن ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، إلا أن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها ".
ولفظ " المؤلفة قلوبهم " يشمل المسلم الذي يعطي ليحسن إسلامه ويزداد يقينه، والكافر الذي له ميل إلى الإسلام، فيعطي لتقوية ذلك الميل فيه حتى يسلم، تأثرا بعطاء المسلمين وإحسانهم، وفي حكمهما من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه، ومن يعطى ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد. وروي عن مالك أنه قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم ).
ولفظ " الرقاب " المراد به شراء الرقاب وعتقها من الرق، وذلك هو ظاهر القرآن الكريم، فإن الله حيثما ذكر الرقبة في كتابه إنما أراد منها العتق. روى الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله، والمكاتب " أي الرقيق " الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف ).
ولفظ " الغارمين " المراد به من ركبهم الدين ولا قدرة لهم على الوفاء به، اللهم إلا من تداين في سفاهة، فإنه لا يعطى من الزكاة ولا من غيرها، إلا أن يتوب، فإن مات من ركبه الدين في غير سفاهة قضي دينه من الزكاة، لأنه من الغارمين.
ولفظ " في سبيل الله " قال الإمام مالك : " سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ها هنا الغزو " الجهاد "، وقال محمد بن عبد الحكم : " يعطى من الصدقة – أي الزكاة – في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته ".
ولفظ " ابن السبيل " المراد به من غاب عن بلده ومستقر ماله، وانقطعت به الأسباب فلم يجد ما ينفقه في سفره، ولو كان غنيا في بلده. قال مالك في كتاب ابن سحنون : " وليس يلزمه أن يدخل تحت منة أحد، وقد وجد منة الله ونعمته " قال ابن كثير : " وهذا الحكم يماثله حكم من أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه } إن لم يكن سفر معصية.
وقوله تعالى :﴿ فريضة من الله ﴾ أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه. وقوله تعالى :﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي عليم بظواهر الناس وبواطنهم، حكيم فيما يحكم به عليهم، حكيم فيما يشرعه لهم :﴿ والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب ﴾.
في المصحف الكريم
لا يزال كتاب الله يكشف الستار عن فضائح المنافقين فضيحة بعد أخرى، حتى سميت هذه السورة، من كثرة ما فضحت المنافقين، وأظهرت من سوآتهم ومساويهم، سورة " الفاضحة "، وظن الصحابة أنها لا تبقي أحدا.
وفي بداية هذا الربع، أشارت الآيات الكريمة إلى تضايق المنافقين كل التضايق، من إطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معرفته الواسعة بمساعيهم الخفية التي يقومون بها من وراء الستار، ومن علمه التام بما يتناجون به من الإثم والعدوان في خلواتهم الخاصة.
ومما يدل على تضايقهم البالغ ما أخذوا يتحدثون به فيما بينهم، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصغي إلى الأخبار التي تنقل له عنهم، ومن أنه يتأثر بتلك الأخبار وينفعل لها، بينما هي في زعمهم لا أساس لها من الصحة، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبيء ويقولون هو أذن ﴾ – أي أن من قال له شيئا عنهم صدقه – ﴿ قل أذن خير لكم ﴾ – أي أنه عليه الصلاة والسلام يميز الخير من الشر، والصواب من الخطأ، والصدق من الكذب، ولا يلتبس عليه من أمرهما شيء، خلافا لما يزعمه المنافقون – ﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ – أي يصدق المؤمنين ويزكي أخبارهم – ﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾.
وإذا كان المنافقون على درجات متفاوتة في النفاق، فيهم المتبوع والتابع، والرئيس والمرؤوس، وجرائمهم ليست في مستوى واحد، ولا مدفوعة بدافع واحد، فقد ينال عفو الله أقلهم أذى إذا أتاب وأناب، ولكن البعض الآخر لا بد له من شديد العقاب وعسير الحساب، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ إن يعف عن طائفة منكم تعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾.
فأما المنافقون فهذه أوصافهم الخاصة، ومميزاتهم التي يمتازون بها يعرضها علينا كتاب الله إذ يقول :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ – أي أنهم متشابهون متداخلون متشابكون فيما بينهم، لا يحسون بالانسجام والطمأنينة وهدوء البال إلا إذا كانوا يتنفسون في جو النفاق الخاص بهم – ﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ﴾ فهم أعوان على الهدم لا على البناء، وهم رواد الفساد وطلائعه في البلاد، وهم جند الانحراف المجند الذي يشيع الفاحشة بين العباد.
ثم قال تعالى في وصف المنافقين :﴿ ويقبضون أيديهم ﴾ أي من علامات المنافقين أنهم كلما دعوا إلى البذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه الخير شحوا وبخلوا، وكلما دعوا إلى مد يد المساعدة لمشروع من مشاريع النفع العام كان موقفهم منه سلبيا، ولم يمدوا أيديهم إليه – إن مدوها – إلا بعد اللتي واللتيا.
وعقب كتاب الله على أوصاف المنافقين البارزة فقال تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ ومن حكم عليه الحق سبحانه وتعالى بالخزي ووضعه موضع الإهمال، لم يبق مفتوحا في وجهه أي باب للأمل ولا مجال :﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ﴾ أي فيها كفايتهم :﴿ ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم ﴾.
فأما المنافقون فهذه أوصافهم الخاصة، ومميزاتهم التي يمتازون بها يعرضها علينا كتاب الله إذ يقول :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ – أي أنهم متشابهون متداخلون متشابكون فيما بينهم، لا يحسون بالانسجام والطمأنينة وهدوء البال إلا إذا كانوا يتنفسون في جو النفاق الخاص بهم – ﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ﴾ فهم أعوان على الهدم لا على البناء، وهم رواد الفساد وطلائعه في البلاد، وهم جند الانحراف المجند الذي يشيع الفاحشة بين العباد.
ثم قال تعالى في وصف المنافقين :﴿ ويقبضون أيديهم ﴾ أي من علامات المنافقين أنهم كلما دعوا إلى البذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه الخير شحوا وبخلوا، وكلما دعوا إلى مد يد المساعدة لمشروع من مشاريع النفع العام كان موقفهم منه سلبيا، ولم يمدوا أيديهم إليه – إن مدوها – إلا بعد اللتي واللتيا.
وعقب كتاب الله على أوصاف المنافقين البارزة فقال تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ ومن حكم عليه الحق سبحانه وتعالى بالخزي ووضعه موضع الإهمال، لم يبق مفتوحا في وجهه أي باب للأمل ولا مجال :﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ﴾ أي فيها كفايتهم :﴿ ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم ﴾.
فالمؤمنون والمؤمنات يجب أن يكونوا إخوة في الله، متحالفين على الخير، متعاونين على البر، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، إذا اجتمعوا تواصوا بالحق والصبر، وإذا افترقوا قام كل واحد منهم بشد الأزر وجبر الكسر، وذلك معنى قوله تعالى هنا :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات يجب- إذا أمروا – أن يأمروا بالمعروف، وتندرج تحت كلمة " المعروف " كل الطيبات والصالحات وجميع أنواع الخير والبر، ويجب – إذا نهوا – أن ينهوا عن المنكر، وتندرج تحت كلمة المنكر كل الخبائث والسيئات، وجميع أنواع الشر والظلم، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات لا يصح إيمانهم أولا، ولا ينمو ويرسخ ثانيا، إلا إذا مارسوا عقيدة الإيمان في صميم حياتهم اليومية، فأدوا ما عليهم من حقوق الله، بشكره وعبادته، وربط الصلة به على الدوام، عن طريق الصلاة المفروضة، وإلا إذا أدوا ما عليهم من حقوق إخوانهم وهم " عيال الله "، بتمكينهم من وسائل العيش الضروري، وأسباب الكسب الشريف، عن طريق الزكاة المفروضة، و( أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ) كما قال عليه الصلاة والسلام، ففي الصلاة يتجلى إيمان المؤمن تجاه خالقه، وفي الزكاة يتجلى إيمان المؤمن تجاه أخيه، كما يتجلى فيها شكره لرازقه، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات لا يكونون من أهل الإيمان الصادق إلا إذا أسلموا وجوههم لله، وطبقوا في حياتهم اليومية المنهج السماوي الذي رسمه لهم الله، فالله تعالى أعلم منهم بما يصلحهم، والله تعالى أعلم منهم بما يلائمهم، والله تعالى أحكم منهم بما اختاره لهم عن علم شامل ومحيط، من نهج للعمل والسلوك، وطريق للنجاح المحقق في الحياة، دنيا وأخرى، وهذا هو المعنى المقصود من ﴿ طاعة الله ورسوله ﴾ لأنها طاعة أحكم الحاكمين، ورب العالمين، كما قال تعالى هنا في وصف المؤمنين والمؤمنات :﴿ ويطيعون الله ورسوله ﴾. وواضح أن من التزم طاعة الله ورسوله تحرر من طاعة كل من خالفهما، إذ ﴿ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴾.
ومن كان متحليا بهذه الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات، كان حقا على الله أن يشمله برحمته، وأن يرعاه بعين رعايته، فقد تعهد لهم سبحانه ذلك تفضلا منه وكرما، عندما قال مشيرا ومبشرا للمؤمنين والمؤمنات :﴿ أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم ﴾ ﴿ عزيز ﴾ يعز المؤمنين ويذل المنافقين ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾، ﴿ حكيم ﴾ يختار للمؤمنين بواسع علمه، وبالغ حكمته، أهدى طريق، ويمدهم عند سلوكه بمدد الهداية والتوفيق.
وقوله تعالى هنا :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ معناه أن رضا الله على المؤمنين والمؤمنات يوم لقائه وتلقي ندائه، أكبر وأجل وأعظم وأفضل، من كل نعيم أنعم به عليهم دونه. روى الإمام مالك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول الحق سبحانه وتعالى : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب، فقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول الحق تعالى : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) ﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾.
فالمؤمنون والمؤمنات يجب أن يكونوا إخوة في الله، متحالفين على الخير، متعاونين على البر، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، إذا اجتمعوا تواصوا بالحق والصبر، وإذا افترقوا قام كل واحد منهم بشد الأزر وجبر الكسر، وذلك معنى قوله تعالى هنا :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات يجب- إذا أمروا – أن يأمروا بالمعروف، وتندرج تحت كلمة " المعروف " كل الطيبات والصالحات وجميع أنواع الخير والبر، ويجب – إذا نهوا – أن ينهوا عن المنكر، وتندرج تحت كلمة المنكر كل الخبائث والسيئات، وجميع أنواع الشر والظلم، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات لا يصح إيمانهم أولا، ولا ينمو ويرسخ ثانيا، إلا إذا مارسوا عقيدة الإيمان في صميم حياتهم اليومية، فأدوا ما عليهم من حقوق الله، بشكره وعبادته، وربط الصلة به على الدوام، عن طريق الصلاة المفروضة، وإلا إذا أدوا ما عليهم من حقوق إخوانهم وهم " عيال الله "، بتمكينهم من وسائل العيش الضروري، وأسباب الكسب الشريف، عن طريق الزكاة المفروضة، و( أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ) كما قال عليه الصلاة والسلام، ففي الصلاة يتجلى إيمان المؤمن تجاه خالقه، وفي الزكاة يتجلى إيمان المؤمن تجاه أخيه، كما يتجلى فيها شكره لرازقه، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾.
والمؤمنون والمؤمنات لا يكونون من أهل الإيمان الصادق إلا إذا أسلموا وجوههم لله، وطبقوا في حياتهم اليومية المنهج السماوي الذي رسمه لهم الله، فالله تعالى أعلم منهم بما يصلحهم، والله تعالى أعلم منهم بما يلائمهم، والله تعالى أحكم منهم بما اختاره لهم عن علم شامل ومحيط، من نهج للعمل والسلوك، وطريق للنجاح المحقق في الحياة، دنيا وأخرى، وهذا هو المعنى المقصود من ﴿ طاعة الله ورسوله ﴾ لأنها طاعة أحكم الحاكمين، ورب العالمين، كما قال تعالى هنا في وصف المؤمنين والمؤمنات :﴿ ويطيعون الله ورسوله ﴾. وواضح أن من التزم طاعة الله ورسوله تحرر من طاعة كل من خالفهما، إذ ﴿ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴾.
ومن كان متحليا بهذه الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات، كان حقا على الله أن يشمله برحمته، وأن يرعاه بعين رعايته، فقد تعهد لهم سبحانه ذلك تفضلا منه وكرما، عندما قال مشيرا ومبشرا للمؤمنين والمؤمنات :﴿ أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم ﴾ ﴿ عزيز ﴾ يعز المؤمنين ويذل المنافقين ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾، ﴿ حكيم ﴾ يختار للمؤمنين بواسع علمه، وبالغ حكمته، أهدى طريق، ويمدهم عند سلوكه بمدد الهداية والتوفيق.
وقوله تعالى هنا :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ معناه أن رضا الله على المؤمنين والمؤمنات يوم لقائه وتلقي ندائه، أكبر وأجل وأعظم وأفضل، من كل نعيم أنعم به عليهم دونه. روى الإمام مالك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول الحق سبحانه وتعالى : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب، فقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول الحق تعالى : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) ﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، واصل كتاب الله حديثه عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم، فوصفهم بخيانة العهود وإخلاف الوعود، لا مع مطلق الناس، ولكن حتى مع الله تعالى، ومن أمثلة ذلك تعهدهم أمام الله بأنه إن أغناهم تصدقوا وأحسنوا وسلكوا مسلك الصالحين من أهل الإيمان، في عمل البر والإحسان، لكنهم بمجرد ما أدركوا المنى، ونالوا الغنى، طغوا واستكبروا، وكفروا وما شكروا، مصداقا لقوله تعالى في الربع الماضي :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ واستولى عليهم الشح والبخل كل الاستيلاء، كأنما لم يسبق منهم أي عهد أو التزام أمام الله بالإحسان والعطاء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾ وهذه الآية الكريمة تشبه في مغزاها آية أخرى سبقت في سورة الأعراف المكية، وهي قوله تعالى :﴿ فلما أثقلت – أي حملت حملا ثقيلا – دعوا الله ربهما لئن – أتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ الآية.
ولتمام الفائدة في هذا الصدد ينبغي التنبيه إلى أن " البخل " يستعمل في الكتاب والسنة للدلالة على التقصير في أداء ما هو واجب، بينما " الشح " يستعمل للدلالة على الإخلال بأداء ما هو مستحب، كما حرره ابن العربي المعافري.
وبين كتاب الله ما تعرض له المنافقون من سوء العاقبة بمثل هذا التصرف اللعين، فقد زاد نفاقهم بسببه حدة وشدة، إذ السيئة تشجع على أختها، والمعصية الصغيرة تدفع إلى ما هو أكبر منها، " فالمعاصي بريد الكفر " كما ورد في الأثر.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، واصل كتاب الله حديثه عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم، فوصفهم بخيانة العهود وإخلاف الوعود، لا مع مطلق الناس، ولكن حتى مع الله تعالى، ومن أمثلة ذلك تعهدهم أمام الله بأنه إن أغناهم تصدقوا وأحسنوا وسلكوا مسلك الصالحين من أهل الإيمان، في عمل البر والإحسان، لكنهم بمجرد ما أدركوا المنى، ونالوا الغنى، طغوا واستكبروا، وكفروا وما شكروا، مصداقا لقوله تعالى في الربع الماضي :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ واستولى عليهم الشح والبخل كل الاستيلاء، كأنما لم يسبق منهم أي عهد أو التزام أمام الله بالإحسان والعطاء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾ وهذه الآية الكريمة تشبه في مغزاها آية أخرى سبقت في سورة الأعراف المكية، وهي قوله تعالى :﴿ فلما أثقلت – أي حملت حملا ثقيلا – دعوا الله ربهما لئن – أتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ الآية.
ولتمام الفائدة في هذا الصدد ينبغي التنبيه إلى أن " البخل " يستعمل في الكتاب والسنة للدلالة على التقصير في أداء ما هو واجب، بينما " الشح " يستعمل للدلالة على الإخلال بأداء ما هو مستحب، كما حرره ابن العربي المعافري.
وبين كتاب الله ما تعرض له المنافقون من سوء العاقبة بمثل هذا التصرف اللعين، فقد زاد نفاقهم بسببه حدة وشدة، إذ السيئة تشجع على أختها، والمعصية الصغيرة تدفع إلى ما هو أكبر منها، " فالمعاصي بريد الكفر " كما ورد في الأثر.
ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن ما استنكرته هذه الآية الكريمة ووصفت به المنافقين من إخلاف الوعد :﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾ ومن الكذب في الحديث :﴿ وبما كانوا يكذبون ﴾ هو نفس ما أكده الحديث النبوي الشريف المروي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ). وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها : إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ).
ومن الأمثلة التي تندرج تحت هذه الآية قصة ثعلبة بن حاطب، وينسبها بعضهم إلى غيره، فقد جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الدعاء له بالمال قائلا : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) فقال له ثعلبة :( والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ) فلم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اليمين التي حلفها ثعلبة، والتزامه بأداء الحقوق اللازمة عليه في المال، إلى أن دعا له وقال :( اللهم ارزق ثعلبة مالا ) ولم يلبث ثعلبة أن اتخذ غنما، فنمت كما ينمي الدود، وضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت غنمه وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة، ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ماذا فعل ثعلبة ) : فقالوا يا رسول الله :( اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة ) فأخبروه بأمره، فقال رسول الله :( يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة ) ثلاثا. وكما يقال : " نما ينمو " يقال " نمى ينمي " كما جاء في هذه الرواية، فهو من صيغ الأفعال التي جاءت " واوية " و " يائية ".
ولما نزلت فرائض الصدقة - وهي الزكاة – بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين، رجلا من جهينة، ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كتابا في حدود الصدقة وما يأخذان من المسلمين، وقال لهما :( مرا بثعلبة وبفلان – رجل من بني سليم – فخذا صدقاتهما ) فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :( ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا ؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ). فانطلقا، وسمع بهما زميله السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا :( ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك ) فقال :( بلى فخذوها، فإن نفسي بذلك طيبة، وإنما هي له ) فأخذاها منه، ومرا على الناس فأخذوا منهم الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال :( أروني كتابكما ) فأعطياه الكتاب فقرأه، فقال مرة ثانية :( ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا عني حتى أرى رأيي ) فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال لهما قبل أن يكلماه :( يا ويح ثعلبة ) فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فدعا للسلمي بالبركة، فأنزل الله عز وجل :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن – آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾ الآية، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه وأخبره الخبر، ولما بلغ ثعلبة ما نزل من القرآن في شأنه وشأن أمثاله أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يقبل صدقته، فقال له رسول الله :﴿ إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ﴾ فقام ثعلبة وأخذ يحثو التراب على رأسه، ولما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل صدقته رجع ثعلبة إلى منزله حزينا كئيبا، ثم انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو مقاطع لصدقته دون أن يقبل منها شيئا.
ولما استخلف أبو بكر أتى إليه ثعلبة، وسأله أن يقبل صدقته، فقال له أبو بكر : " لم يقبلها منك رسول الله فكيف أقبلها ؟ " وأبى أن يقبلها منه، إلى أن توفي أبو بكر، وهو مقاطع لصدقة ثعلبة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما استخلف عمر جاءه ثعلبة يقول : " يا أمير المؤمنين، إقبل صدقتي " فقال له عمر : " لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك ؟ " وتوفي عمر وهو مقاطع لصدقته أيضا دون أن يقبل منها شيئا، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبخليفته الأول أبي بكر الصديق.
ولما استخلف عثمان جاءه يقول : " أقبل صدقتي " فقال له عثمان : " لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك ؟ " فلم يقبلها منه وقاطعها أيضا، اقتداء برسول الله وخليفتيه أبي بكر وعمر، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وهو محروم كل الحرمان من قبول صدقته، دون بقية الناس، وكان ذلك الموقف الصارم من طرف رسول الله وخلفائه من بعده تعزيرا وتأديبا لثعلبة وأمثاله في جميع العصور، وسنة حسنة يعمل بها من يريد الاقتداء برسول الله وخلفائه، في مقاطعة أولئك الذين يعاهدون ثم لا يوفون بالعهود، ونبذ أولئك الذين يعدون ثم يخلفون الوعود.
وقد نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " عند تفسير هذه الآية :﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ﴾ " إلى أنه لما حيل بينهم وبين التوبة، ووقع التصريح بنفاقهم وكفرهم لم تقبل صدقاتهم "، ولذلك لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمه عليه الصلاة والسلام بسريرة ثعلبة، واطلاعه على بنيات صدره " – يقال " بنيات الطريق " للطرق الصغيرة المتشبعة من الجادة -.
وقد تلقى حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين وعرف أشخاصهم، فكان بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى هو الذي يلفت نظر المسلمين إليهم كلما مات واحد منهم، حتى لا يصلوا عليه ولا يقفوا على قبره، امتثالا لهذه الآية الكريمة، ومن أجل ذلك أطلق على حذيفة بن اليمان لقب " صاحب السر "، والسر إنما هو في هذا المقام بالخصوص. وهكذا أصبحت صلاة الجنازة قاصرة على المؤمنين يستغفر بها أحياؤهم لأمواتهم، ومما جاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :( من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان ؟ قال : أصغرهما مثل أحد ) يشير إلى جبل أحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال :( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ) أخرجه أبو داود في سننه، وانفرد به.
وبعدما فضح كتاب الله في هذه السورة الكريمة الأعذار المنتحلة التي كان يعتذر بها المنافقون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، كقوله تعالى حكاية عنهم أيضا :﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ﴾ جاءت الآيات الكريمة بالقول الفصل في بيان العذر الصحيح والعذر الباطل.
وفي مثل هؤلاء الذين منعتهم أعذار حقيقية لا منتحلة عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ورد حديث أنس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في غزوة تبوك :( إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا، إلا وهم معكم ) قالوا :( وهم بالمدينة ؟ ) قال :( نعم، حبسهم العذر )، ﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ﴾.
في المصحف الكريم
في نهاية الربع الماضي تحدث كتاب الله عن الأعذار التي يسمح الإسلام من أجلها بالتخلف عن الجهاد، لأنه ينظر إليها بعين الاعتبار، وفي بداية هذا الربع الذي هو حصة اليوم تسلط الآيات الكريمة أضواءها على المعتذرين بأعذار واهية، حرصا على السلامة والعافية، ومن بينهم طائفة من أغنياء المنافقين فضلت القعود والركود على الجهاد والجلاد، تأمينا لمتعتها، وضمانا لراحتها، وبخلا بالتنازل ولو مؤقتا عن مألوفاتها.
ولتعتمد هذه الطائفة المنحلة على مبرر لعملها حتى لا يستنكره الناس، حاولت أن تحصل من رسول الله في شأن قعودها المريب على إذن خاص، ورضيت في سبيل إرضاء شهواتها بالتنازل عن خصال الرجال الأقوياء، وبالبقاء قعيدة البيت بجانب العجزة من الأطفال والعواجز من النساء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾ أي إنما الحرج والإثم على الذين لم يبادروا للخروج معك إلى غزوة تبوك، لغزو الروم، كما بادر إلى ذلك المخلصون، أغنياء وغير أغنياء، بل توقفوا وتثاقلوا وجعلوا يطلبون منك الإذن لهم في التخلف، بالرغم من أن عندهم جميع الوسائل التي تمكنهم من المساهمة في الجهاد مساهمة فعالة، لكنهم لم يجاهدوا بأنفسهم، ولم يساعدوا غيرهم من الفقراء على تكاليف الجهاد بأموالهم :﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ أي رضوا بأن يكونوا مع العواجز، بعيدين عن جبهة القتال ومتاعبه، آمنين على أنفسهم من مفاجآت الجهاد. ولا ينبغي أن يفهم من هذا السياق أن النساء المسلمات جميعا كن محرومات من شرف الجهاد والوقوف بجانب المجاهدين، بل إنهن على العكس من ذلك، فقد كان القادرات منهن على التطوع يتطوعن بالجهاد، وان لم يفرض عليهن، ويشاركن فيه مشاركة فعالة إلى جانب الرجال، وكان نصيبهن من الغنائم يقدم لهن في صورة هدايا وعطايا تعطى لهن تشجيعا على التطوع للجهاد، وتقديرا لتضحياتهن في سبيل إعلاء كلمة الله.
ثم بين كتاب الله السر في موقف هذا النوع من الأغنياء : الأغنياء مادة، والفقراء روحا، فقال تعالى :﴿ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾. ففي هذه الآية تنبيه إلى أن قلوبهم قد ماتت، ولم تعد تنبض بأي إحساس كريم أو شعور نبيل، فكيف يهبون لنصرة المثل الأعلى الذي يمثله الإسلام، وقد ﴿ طبع الله على قلوبهم ﴾.
وفي نفس الآية تنبيه إلى أن عقولهم قد أناخ عليها كابوس الجهل، وعشش فيها بوم الوهم، فكيف يقدرون الرسالة السامية التي جاء بها الإسلام، وكيف يقدمون أنفسهم وأموالهم قربانا لها وفداء في سبيلها ﴿ وهم لا يعلمون ﴾.
وقبل أن يعود كتاب الله إلى الحديث عما ينتظر أن يفعله أولئك الأغنياء المتخلفون، عندما يعود رسول الله سالما من غزوة تبوك، ويعود معه المؤمنون أخبر الله رسوله بذلك، فقال تعالى :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾. فقد كانوا يظنون بالله ورسوله الظنون، وكانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أن غزوة تبوك مغامرة كبرى مآلها المحقق في نظرهم القاصر أن ينتصر الروم وينهزم المسلمون، وإذ ذاك يستريحون منهم، ويستأنفون حياة الشرك والنفاق، لكن الله سلم، وألقى الرعب في صفوف العدو، فانسحب إلى حصونه الخلفية، وتفادى كل اشتباك مع القوات الإسلامية، رغما عن مرابطتها في " تبوك " على أهبة الاستعداد حوالي شهر كامل، وبذلك انقلب الوضع رأسا على عقب، وأصبح المتخلفون عن الجهاد الظانون بالله الظنون في مركز حرج، وتيقن الجميع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عائد على رأس جيش الإسلام المظفر إلى قاعدته الرئيسية بالمدينة المنورة، وإلى أنه سيحاسب المقصرين على تقصيرهم.
ومن هنا أخذوا يعدون لانتحال الأعذار، ولتقديم الاعتذار عن تخلفهم وقعودهم، فقد رد الله كيدهم في نحرهم، وعاملهم بنقيض قصدهم :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ لكن الحق سبحانه وتعالى لقن رسوله والمؤمنين أحسن جواب يردون به على الصنف من المتخاذلين المخذولين، فقال تعالى :﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ أي لن نصدق اعتذاركم، فلم يبق مجال للاعتذار، بعد هتك الأستار.
ثم عقب كتاب الله على هذا الجواب المفحم والرد القاطع، فمضى يهدد المنافقين بمزيد الكشف عن نفاقهم، وتوجيه الأنظار إلى فضائحهم، قائلا :﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾ فعن طريق الوحي اطلعنا على سرائركم وأسراركم، ومن كشف الله له السر بنور وحيه كيف يستره عنه الناس، بل كيف يقع ضحية التدليس والالتباس.
وخاطب الله المنافقين خطاب ترهيب فقال :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ فمهما كتمتم وسترتم، ومهما تآمرتم وأخفيتم، ومهما تقلبتم في البلاد، فإن الله ورسوله لكم بالمرصاد. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيطلع على نواياكم وطواياكم بواسطة مشعل الوحي الذي ينير له الطريق، ويعرفه بعناصر التخذيل والتعويق، وبذلك يرى عملكم ويعرف مرماه ومغزاه. وأما الحق سبحانه وتعالى فلا يغيب عن علمه من أمركم شيء، كبيرا كان ذلك الأمر أو صغيرا، جليلا أو حقيرا، بل هو يراكم على حقيقتكم، منافقين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، لا عقيدة عندكم صحيحة، ولا نية لكم صالحة.
وقوله تعالى :﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾. هذا وعيد جديد من الله تعالى للمنافقين بأنهم مهما كادوا ومكروا، ودبروا من السوء ما دبروا، فإن مصيرهم في النهاية إلى الله الذي يعلم سرهم ونجواهم، وإذ ذاك سيتولى حسابهم على النقير والقطمير، وجزاءهم على الصغير والكبير، وينظر إلى معنى هذه الآية الكريمة قوله تعالى في آية ثانية :﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ |الحاقة : ١٨، وقوله تعالى في آية ثالثة :﴿ يوم تبلى السرائر، فما له من قوة ولا ناصر ﴾ |الطارق : ٩، ١٠.
وقوله تعالى :﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ توكيد وتجديد لما سبق أن وصف به كتاب الله من قبل طائفة المنافقين، فهم يكثرون من الحلف باستمرار، ويلجأون إليه دون انقطاع، لتوكيد ادعاءاتهم، وإعطائها صبغة الصدق والحق، كلما أعوزهم الدليل والبرهان، وخانهم المنطق والبيان. ومن الآيات التي سبق فيها وصف المنافقين بالإكثار من الحلف الكاذب أو اليمين الغموس قوله تعالى في سورة النساء :﴿ ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ﴾، وقوله تعالى سابقا في هذه السورة –سورة التوبة- ﴿ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾، ﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ﴾، ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾، ﴿ يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾، وقوله تعالى في سورة المجادلة :﴿ ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ﴾، ﴿ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بهذا الوصف، الملازم للمنافقين، الأولين منهم والآخرين.
وقوله تعالى هنا :﴿ لتعرضوا عنهم ﴾ معناه أن أغنياء المنافقين إنما يرمون من وراء حلفهم هذه المرة إلى التخلص من تأنيب المؤمنين ولومهم، فهم يخافون المعرة والتجريح لا غير، وهم يحاولون أن يخلعوا على عذرهم الباطل صبغة العذر الصحيح.
ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله والمؤمنين :﴿ فأعرضوا عنهم، إنهم رجس، ومأواهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ والأمر بالإعراض عن المنافقين هنا يقتضي مقاطعتهم واحتقارهم واعتبارهم منبوذين خارج الجماعة الإسلامية. ولخبث طويتهم، وفساد عقيدتهم، وصفهم كتاب الله بأنهم " رجس " أي قذر وخبث، كما وصف المشركين من قبل في هذه السورة نفسها بأنهم نجس :﴿ إنما المشركون نجس ﴾.
ثم عاد كتاب الله إلى تحليل دافع آخر من الدوافع التي حملتهم على استعمال سلاح الحلف الباطل، فبين أنهم يحاولون بذلك كسب رضا المؤمنين والحصول على ثقتهم من جديد، إلا أن الحق سبحانه وتعالى حذر المؤمنين من أن يقعوا في هذا الفخ، وذكرهم بأن الله لا يرضى عن المنافقين أبدا، وإذن فلا يسوغ للمؤمنين أن يرضوا عنهم بحال، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾والفاسقون هم الخارجون عن طاعة الله وطاعة رسوله، من " الفسق " وهو لغة الخروج، ومنه سميت الفأرة " فويسقة " لأنها تخرج من جحرها للإفساد، ويقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها.
وتولى كتاب الله الحديث عما كان عليه الأعراب في فجر الإسلام قبل أن يستفحل أمره وتعم دعوته، والمراد " بالأعراب " سكان البادية الملازمون لسكناها، فلمح كتاب الله إلى أن هذا الصنف من الناس بحكم اشتغالهم بمعايشهم، وانهماكهم في تربية إبلهم ومواشيهم، وتغيب كثير منهم عن كثير من المناسبات السعيدة التي كان يشهدها غيرهم من المسلمين المخالطين للرسول، والملازمين لمجلسه، والمترددين عليه لتلقي الوحي وتعلم الدين، ظلوا بعيدين عن التأثير اليومي المباشر للوحي والرسالة، ولم يتيحوا لأنفسهم الفرص الكافية لتتبع الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها، والتشبع بتعاليمها ومبادئها، وبقي من أجل ذلك قسم كبير منهم عرضة لدعاية المشركين، ووساوس المنافقين، وذلك هو المعنى المراد بقوله تعالى في بداية هذا الموضوع :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾أي لأنهم لم يكونوا يخالطونه ويلازمونه كغيرهم من المؤمنين ﴿ والله عليم حكيم ﴾. قال ابن قتيبة : " الأعرابي لزيم البادية، والعربي منسوب إلى العرب ".
وقال القاضي عبد الجبار : " يحتمل أن يراد ﴿ بالأعراب ﴾ من امتنع عن المهاجرة، فقد كان يقال : مهاجر وأعرابي ".
ثم شرع كتاب الله يفصل أحوال أولئك الأعراب من سكان البادية والملازمين لها غالبا، فصنفهم صنفين : الصنف الأول منهم من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فكانوا داخلين في عداد المؤمنين، عقيدة ونية، قولا وعملا، وفي هذا الصنف المؤمن الواعي ورد قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي يبتغون من نفقاتهم التقرب إلى الله تعالى والحصول على رضا رسوله ودعائه الصالح، وعقب كتاب الله على وصفهم ووصف عملهم، مبشرا إياهم بحسن العاقبة وجزيل الثواب، فقال تعالى :﴿ ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم ﴾.
والصنف الثاني من الأعراب من كان داخلا إذ ذاك في عداد المنافقين محسوبا منهم، يقوي سواد المنافقين المندسين بين المسلمين في نفس مدينة الرسول، ويتعاون معهم ضد الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الصنف المنافق الجاهل ورد قوله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾
ثم شرع كتاب الله يفصل أحوال أولئك الأعراب من سكان البادية والملازمين لها غالبا، فصنفهم صنفين : الصنف الأول منهم من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فكانوا داخلين في عداد المؤمنين، عقيدة ونية، قولا وعملا، وفي هذا الصنف المؤمن الواعي ورد قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي يبتغون من نفقاتهم التقرب إلى الله تعالى والحصول على رضا رسوله ودعائه الصالح، وعقب كتاب الله على وصفهم ووصف عملهم، مبشرا إياهم بحسن العاقبة وجزيل الثواب، فقال تعالى :﴿ ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم ﴾.
والصنف الثاني من الأعراب من كان داخلا إذ ذاك في عداد المنافقين محسوبا منهم، يقوي سواد المنافقين المندسين بين المسلمين في نفس مدينة الرسول، ويتعاون معهم ضد الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الصنف المنافق الجاهل ورد قوله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾
ثم شرع كتاب الله يفصل أحوال أولئك الأعراب من سكان البادية والملازمين لها غالبا، فصنفهم صنفين : الصنف الأول منهم من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فكانوا داخلين في عداد المؤمنين، عقيدة ونية، قولا وعملا، وفي هذا الصنف المؤمن الواعي ورد قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي يبتغون من نفقاتهم التقرب إلى الله تعالى والحصول على رضا رسوله ودعائه الصالح، وعقب كتاب الله على وصفهم ووصف عملهم، مبشرا إياهم بحسن العاقبة وجزيل الثواب، فقال تعالى :﴿ ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم ﴾.
والصنف الثاني من الأعراب من كان داخلا إذ ذاك في عداد المنافقين محسوبا منهم، يقوي سواد المنافقين المندسين بين المسلمين في نفس مدينة الرسول، ويتعاون معهم ضد الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الصنف المنافق الجاهل ورد قوله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾
ثم شرع كتاب الله يفصل أحوال أولئك الأعراب من سكان البادية والملازمين لها غالبا، فصنفهم صنفين : الصنف الأول منهم من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فكانوا داخلين في عداد المؤمنين، عقيدة ونية، قولا وعملا، وفي هذا الصنف المؤمن الواعي ورد قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي يبتغون من نفقاتهم التقرب إلى الله تعالى والحصول على رضا رسوله ودعائه الصالح، وعقب كتاب الله على وصفهم ووصف عملهم، مبشرا إياهم بحسن العاقبة وجزيل الثواب، فقال تعالى :﴿ ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم ﴾.
والصنف الثاني من الأعراب من كان داخلا إذ ذاك في عداد المنافقين محسوبا منهم، يقوي سواد المنافقين المندسين بين المسلمين في نفس مدينة الرسول، ويتعاون معهم ضد الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الصنف المنافق الجاهل ورد قوله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾
﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾ أي منهم من صار لهم النفاق طبعا وعادة حتى جاوزوا الحدود ﴿ لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾. كما ورد في وصفهم أيضا قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ﴾ أي يعتبر ما ينفقه في سبيل الله غرامة وخسارة، لا قربة إلى الله وزلفى ﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾ أي ينتظر حلول الآفات بساحتكم ونزول المصائب عليكم ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ هذا دعاء عليهم بالسوء والشر، جزاء وفاقا ﴿ والله سميع عليم ﴾.
قال القاضي أبو بكر ﴿ ابن العربي ﴾ : " ذم الله تعالى المنافقين والمقصرين في " هذه السورة " في آيات جملة، ثم طبقهم طبقات عموما وخصوصا، فقال :﴿ الأعراب أشد كفرا ﴾ الآية : ٩٧. وقال :﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ﴾ |الآية : ٩٨|. وقال :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات ﴾ |الآية : ٩٩، وهذا مدح يتميز به الفاضل من الناقص، والمحق من المبطل ".
وأخيرا عاد كتاب الله إلى الحديث عن المتخلفين الذين تخلفوا عن الجهاد والخروج مع رسول الله إلى غزوة تبوك، فبين أن من بين المتخلفين صنفا لم يتخلف عن نفاق، وإنما تخلف عن ميل إلى الكسل، وإيثار للراحة، وحرص على الظلال والثمار، إذ كانت غزوة تبوك في فصل حر وموسم غلة.
وهذا الصنف ينقسم بدوره إلى قسمين : قسم اعترف بذنبه، وقسم لم يعترف بذنبه. فالقسم الأول من هذا الصنف تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ يتوجه الخطاب فيه إلى هذا الصنف الخاص من المتخلفين غير المنافقين، الذين تخلفوا كسلا لا نفاقا، وهذا أمر يقتضي ترغيبهم في استيناف العمل الصالح والمواظبة عليه، وفيه تذكير لهم بأن الله من ورائهم محيط، وبأن رسوله سيراقب سلوكهم باستمرار، وبأن فراسة المؤمنين ستلاحقهم في كل مكان، فما أطلعهم الله عليه من خير أحبوه، أو شر أبغضوه، إذ الأعمال نفسها ليست إلا علامات تكشف عن حقيقة النيات، وأمارات تدل على صميم المعتقدات " ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر " كما جاء في الأثر.
وروى الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله إلى الناس كائنا ما كان ). وروى ابن القاسم عن الإمام مالك أنه كان يقال : " ابن آدم اعمل، وأغلق عليك سبعين بابا يخرج الله عملك إلى الناس ". ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾.
والقسم الثاني من هذا الصنف تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وآخرون مرجون لأمر الله ﴾ أي مؤخرون ليوم الحساب، متروكون لحكم الله فيهم ﴿ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، والله عليم حكيم ﴾.
ورغما عن كون هاتين الآيتين وردتا في الأصل على هذا السبب الخاص وفي أناس معينين، فإن معناهما يعم كافة المذنبين من غير المنافقين.
في المصحف الشريف
بعدما وجه كتاب الله في هذه السورة –سورة التوبة- الخطاب تلو الخطاب إلى المؤمنين الصادقين يستنفرهم خفافا وثقالا للقيام بواجب الجهاد في سبيل الله، إعلاء لكلمة الله، ونشرا لدينه بين الناس، حتى يدخلوا في دين الله أفواجا، حملت أول آية في هذا الربع أعظم بشرى إلى المؤمنين، بشرى إلى من جاهد في سبيل الله، ثم قضى نحبه فداء للإسلام، وبشرى إلى من جاهد في سبيل الله ولا يزال ينتظر لقاء الله في مستقبل الأيام، وهذه بشرى تقتضي أن الله تعالى –تفضلا منه وكرما- قد عامل المؤمنين معاملة خاصة لا تخطر على قلب بشر، فيها غنم كبير، وربح عظيم، لا يعدلهما غنم ولا ربح.
وتتلخص هذه المعاملة الرابحة في بيع المؤمن نفسه وماله لربه، مقابل عوض يتناسب مع كرم الله وسعة غناه، عوض لا يقدر بثمن، ولا يحد بزمن، يناله المؤمن من ربه، ألا وهو دخول الجنة والخلود في دار النعيم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم ﴾. فهذه الآية الكريمة تتحدث عن اشتراء الله من عباده المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وكأنهم مالكون حقيقيون لتلك الأنفس وتلك الأموال، وكأن أنفسهم وأموالهم ملك خالص لهم، وكأنه لا دخل لله لا في خلقهم ولا في رزقهم، بينما الحقيقة والواقع أن أنفس المؤمنين وأموالهم كغيرها من الأنفس والأموال إنما هي مجرد عطاء من الله، ومحض هبة منه لعباده، إذ لو شاء الله لأبقاهم في حيز العدم ولم يخرجهم إلى حيز الوجود، ولو شاء الله لأوجدهم ثم حرمهم من الرزق، وجعلهم عالة يتكففون الناس، فهو سبحانه المنعم عليهم بنعمة الإيجاد أولا، وبنعمة الإمداد ثانيا، ومع ذلك ها هو الحق سبحانه وتعالى يتكرم عليهم كرما ولا كرم فوقه، فيعاملهم أكرم معاملة، ويعاوضهم على ما أنعم به عليهم في الدنيا بنعمة أجل وأعظم، وأخلد وأبقى في الدار الآخرة، وذلك هو منتهى الكرم وغاية الإحسان، الذي يعجز عن تصوره الإنسان.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لما قرأ هذه الآية قال معجبا بكرم الله : " ثامنهم –والله- وأغلى الثمن " يريد أن الله تعالى أعطاهم أكثر مما يستحقون، وأن الربح لم يأت على مقدار الشراء، بل زاد عليه وأربى.
ومثل هذا القول يروى عن قتادة والحسن البصري، وقال شمر بن عطية : " ما من مسلم إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة، وفى بها أو مات عليها " ثم قرأ هذه الآية :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾ معناه أن الله تعالى تعهد لهم بالجنة، سواء قتلوا وعادوا بالأجر والغنيمة، أو قتلوا وفازوا بالأجر والشهادة، أو اجتمع لهم هذا وهذا فنالوا الحسنيين ما دام ذلك كله في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله.
وفيه أيضا إشارة إلى أن المؤمن الذي يقدم نفسه وماله للجهاد في سبيل الله يكون معنويا وماديا على كامل الاستعداد للتضحية والفداء، بحيث يجود بنفسه دون أدنى تحفظ ولا حساب، كيفما كانت النتيجة المرتقبة، وهذه الروح الفدائية العليا هي التي نوه بها كتاب الله ومدحها هنا إذ قال :﴿ فيقتلون ويقتلون ﴾.
ومن أجل هذا المعنى وصف المؤمن المقتول في الجهاد في سبيل الله بأنه " شهيد "، لأن إقدامه على الجود بنفسه في سبيل الله هو أقوى دليل يدل على قوة إيمانه، وصدق يقينه، وأكبر شهادة تشهد له على اعتزازه بدينه، وحماسه لملته، ووفائه لربه بالبيعة التي في عنقه. أضف إلى ذلك أن الله وملائكته والمؤمنين يشهدون له بالجنة، مصداقا لقوله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ تأكيدا لهذا الوعد الإلهي الناجز، وإشارة إلى أنه وعد قديم كتبه الحق سبحانه وتعالى على نفسه تفضلا وكرما، وكلف النبيئين والمرسلين بتبليغ بشراه إلى كافة المؤمنين. والتنصيص على التوراة والإنجيل والقرآن في هذا السياق إنما هو تخصيص بالذكر لأشهر الكتب المنزلة التي تضمنت هذا الوعد الإلهي الكريم.
وقوله تعالى :﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ خطاب من الله تعالى لمن بذلوا النفس والنفيس في سبيله، واعتبروا إعلاء كلمته في الأرض هو أعلى مثل يكرسون له جهودهم، ويصرفون فيه حياتهم، وفحوى هذا الخطاب تبشيرهم من جانب الحق سبحانه وتعالى بتصديقه التام على معاملتهم معه، ورضاه عنها وعنهم كامل الرضا، وتهنئتهم بما نالوه من الكسب الذي لا كسب فوقه، والربح الذي لا ربح بعده ﴿ وذلك هو الفوز العظيم ﴾.
فوصف ﴿ التائبين ﴾ يقتضي أنهم متمسكون بطاعة الله لا يقربون معصيته، وأنهم إذا فرط منهم ذنب عن غفلة وجهالة ذكروا الله في الحين فاستغفروا لذنوبهم.
ووصف ﴿ العابدين ﴾ يقتضي أنهم قائمون بعبادة الله محافظون عليها قولا وفعلا، وأنهم لا يقصدون من ورائها إلا وجه الله وابتغاء مرضاته.
ووصف ﴿ الحامدين ﴾ يقتضي أنهم يصرفون نعمة الله التي ينعم بها عليهم في طاعته، وأنهم لا يسخطون أبدا ولا يتبرمون بقضائه كيفما كان.
ووصف ﴿ السائحين ﴾ يقتضي أنهم محافظون على فريضة الصيام، لا يهملون القيام بها، وإن تغيرت الفصول والأعوام. روي عن ابن عباس أنه قال : " كلما ذكر الله السياحة في القرآن فالمراد بها الصوم والصائمون ". وقالت عائشة : " سياحة هذه الأمة الصيام ". وقال الحسن البصري : " السائحون هم الصائمون شهر رمضان ". وبهذا المعنى ورد قوله تعالى :﴿ سائحات ﴾ أي صائمات في قوله تعالى في سورة التحريم المدنية أيضا :﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ﴾ |الآية : ٥.
قال الحافظ ابن كثير : " وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا العمل ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال –أي أعاليها وقممها- ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ).
وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " والسائحون هم الصائمون في هذه الملة، حتى فسد الزمان، فصارت السياحة هي الخروج من الأرض عن الخلق، لعموم الفساد، وغلبة الحرام، وظهور المنكر، ولو وسعتني الأرض لخرجت فيها، لكن الفساد قد غلب عليها، ففي كل واد بنو نحس " هكذا يقول ابن العربي بالحرف الواحد.
ووصف ﴿ الراكعين الساجدين ﴾ يقتضي أنهم يقيمون الصلاة ويحافظون عليها دون أي كسل أو تهاون أو إهمال.
ووصف ﴿ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ﴾ يقتضي أنهم هداة مرشدون، يجهرون بالحق ولا يخافون لومة لائم، ويقفون في وجه العصاة والفاسقين، حماية للأمة والملة من انتشار المعاصي والفواحش، وحذرا مما يتبعها من غضب الله على العباد والبلاد.
ووصف ﴿ الحافظين لحدود الله ﴾ يقتضي أنهم كما قاموا بعبادة الحق، ولم يهملوا نصيحة الخلق، امتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي، ولم يتعدوا حدود الله، فأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق الإنسان، ولم يخلوا بشيء منها، وهذا الوصف العام الجامع المانع هو وسام الشرف وخاتمة البيان.
وبعد ما عدد كتاب الله الأوصاف الرئيسية والمميزة للمؤمنين في أجمل صورهم، وأكمل أحوالهم، عقب على ذلك بتجديد البشرى لهم مرة أخرى، هبة من الله وإكراما، فقال تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ ويا سعد من حلت بساحته البشرى من الله، وأحل عليه رضوان الله. قال القاضي أبو بكر ﴿ ابن العربي ﴾ : " وقوله ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي بشرهم بثوابي إذا كانوا على هذه الصفة... فأما نفس لا تكون هكذا ولا تتحلى بهذه الحلى، فلا يبذل فيها فلس، فكيف الجنة ؟ ".
وإلى هذه القصة يشير قوله تعالى :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم ﴾.
وخلاصة هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى غزوة تبوك حين طابت الثمار، وبردت الظلال، وخرج في حر شديد، وهي " العسرة " التي افتضح فيها الناس، وكان ممن تخلف عنه ثلاثة : كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فلما قفل رسول الله من غزوة تبوك دخل إلى المسجد، فجاء من تخلف عنه يعتذرون إليه وهم ثمانون رجلا، فقبل النبي ظاهر حالهم ووكل سرائرهم إلى الله، إلا هؤلاء الثلاثة فإنهم لم يعتذروا، وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة أمرهم، وكان مما قاله له أحدهم، وهو كعب بن مالك : " يا رسول الله لو جلست عند غيرك لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه أني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله يا رسول الله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك ). قال كعب بن مالك وهو يروي تمام القصة كما وردت في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة : " فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني منهم أحد، وآتي رسول الله وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه وأقول في نفسي : أحرك رسول الله شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي ﴿ وهو جالس ﴾ نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي هجر المسلمين.. ومضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله يأتيني يقول : " يأمرك رسول الله أن تعتزل امرأتك " فقلت له : " أطلقها أم ماذا أفعل ؟ " فقال : " بل اعتزلها ولا تقربها ". وأرسل رسول الله إلى صاحبي بمثل ذلك... فلبثنا على هذا الحال عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، ثم صليت صلاة الصبح صباح الخمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى ﴿ في هذه الآية ﴾ قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : " أبشر يا كعب بن مالك، أبشر " فخررت ساجدا لله، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة الله علينا، وأعلم بها المسلمين حين صلى الفجر، فأقبل الناس يبشروننا، ولما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله –أي أقصده- وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله، يقولون : ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس في المسجد والناس حوله، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره – وكان كعب لا ينساها لطلحة- فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". فقلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ فقال : " لا بل من عند الله ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله : " إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ". فقال عليه السلام : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ". فقلت يا رسول الله : " إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي ".
فهذه هي قصة " الثلاثة الذي خلفوا " كما حكاها كعب بن مالك أحد الثلاثة، ورواها البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما من أئمة الحديث، وهي أحسن تفسير لقوله تعالى في هذه السورة ﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ﴾ أي خلفوا عن بقية المعتذرين الذين حلفوا واعتذروا، لأن هؤلاء الثلاثة فضلوا الصدق على الحلف، فلم يحلفوا ولم يعتذروا وصدقوا الله ورسوله، وقضوا خمسين ليلة مهجورين من الرسول والمؤمنين وهم صابرون ينتظرون فرج الله، وعفوه عنهم، وقبول توبتهم، إلى أن نزل بقبول توبتهم الوحي من عند الله ﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾ أي مع سعتها ﴿ وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ﴾ والظن هنا بمعنى اليقين ﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم ﴾. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " وفيه دليل على أن للإمام أن يعاقب المذنب بتحريم كلامه على الناس أدبا له ".
في المصحف الكريم
في هذا الربع تنتهي سورة التوبة المدنية، وتبتدئ سورة يونس المكية، والجزء الأخير من سورة التوبة يخص بالذكر موضوع الجهاد في سبيل الله مرة أخرى، ويتعرض بالتدقيق والتفصيل لوصف الحالة التي يكون عليها المنافقون من الانفعال والقلق والاضطراب، كلما نزلت أمامهم سورة من سور القرآن، ويلقي بالخصوص الأضواء على ﴿ الخلق العظيم ﴾ الذي كان عليه الرسول الكريم، مما أعطاه مكانة خاصة بين الأنبياء والرسل –فضلا عمن دونهم- وجعلهم أهلا لكل إجلال وتكريم.
ولنقف الآن وقفة قصيرة عند بعض الآيات الواردة في هذا الربع، بقدر ما يسمح به الوقت المخصص لهذه الحصة.
يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ وهذه الآية سبقتها آية أخرى في نفس الموضوع، وفي نفس هذه السورة سورة التوبة، وهي قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ﴾.
غير أنه يوجد بين هاتين الآيتين فرق فهم، ذلك أن الآية السابقة أمرت بجهاد الكفار عموما القريب منهم والبعيد، بينما الآية الواردة في هذا الربع ترشد المؤمنين إلى نوع خاص من الكفار الذين يجب البدء بقتالهم بالخصوص، وهؤلاء الكفار الذين تتوجه إليهم الأنظار هم الذين توجد مراكز نفوذهم السياسي وقواعدهم العسكرية قريبة كل القرب من عاصمة الإسلام وقاعدته الأولى " المدينة المنورة "، ممن يتربصون بالإسلام الدوائر، إذ في وجودهم بالقرب من عاصمة الإسلام خطر مباشر لا يمكن تجاهله بحال، وفيه نوع من الحصار المضروب على الإسلام، حتى لا يتسرب إلى خارج الجزيرة العربية، وينتشر فيما وراءها. وبما أن رسالة الإسلام رسالة عامة إلى كافة البشر، كان من أوجب الواجبات عليه أن يهدم السدود، ويخترق الحدود، ليشق طريقه إلى الشعوب والأمم، آمنا من الفتنة والاضطهاد، داعيا إلى إقامة دعائم الصلاح والرشاد، عاملا على دك حصون الظلم والفساد، وذلك ما دشنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة تبوك آخر حياته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة ما خلاصته بإيجاز : " أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام. ولهذا بدأ رسول الله يقاتل المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام، لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع سنة تسع من هجرته عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية بعد حجته بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق... فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم... ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد... وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب... أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقا وغربا.. ثم لما مات شهيدا، وقد عاش حميدا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان.. شهيد الدار، فكسى الإسلام حلة سابغة، وأمد في سائر الأقاليم حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها... وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ ".
وقوله تعالى هنا :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ أمر للمؤمنين الذين يشتبكون مع أعدائهم بأن يواجهوا المعركة بما يلزم لها من قوة القلب، وضبط النفس، وتقدير المصلحة العليا، وأن يقوموا بواجب الجهاد كاملا غير منقوص، حتى يمكنوا بجهادهم للإسلام، ويفرضوا هيبته على الأنام، ويرفعوا عنه الحصار المضروب من حوله، ويشقوا له طريق العيش في سلام. وبنفس المعنى سبق قوله تعالى في هذه السورة وكما سيأتي في سورة التحريم :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ﴾ |التوبة : ٧٣ –التحريم : ٩|.
وكلمة ﴿ الغلظة ﴾ إذن لا تعني القسوة، ومجاوزة الحدود، بقدر ما تعني الشجاعة في القتال، وضبط الأعصاب عند مواجهة العدو، فالجهاد الإسلامي كان ولا يزال هو المثل الأعلى للحرب الإنسانية في أهدافها، والأخلاقية في تصرفاتها، فلا تمثيل بالقتلى، ولا قتل للجرحى، ولا تعذيب لأسرى، ولا تحريق للزرع، ولا تضييع للضرع، ولا اعتداء على الأطفال والنساء والعجزة، ولا إهانة للرهبان في دياراتهم وصوامعهم، ولا حرب مع البعيد عن ميدان المعركة من المدنيين، وإنما الحرب منحصرة كلها في جبهة القتال، ومع حاملي السلاح المقاتلين، وأعوانهم المساعدين، فهذا هو الجهاد الإسلامي الصحيح.
وقوله تعالى في نفس هذا السياق ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ إشارة إلى أن جهاد المسلمين لا يؤتي ثمرته المرجوة إلا إذا كان القائمون به من الجند، والمشرفون عليه من القادة، معتصمين بتقوى الله قولا وعملا، سرا وجهرا. أما العصاة المذنبون فإنهم يفقدون أهم سلاح في المعركة، وهو سلاح التقوى المنبثقة من الإيمان، وما تستتبعه من رضا الله ومدده القوي ولطفه الخفي. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : " فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسب ذلك، وبقدر ما فيه من ولاية لله ".
في الربع الماضي أنهينا تفسير سورة الأنفال المدنية، وانتقلنا منها إلى سورة التوبة المدنية أيضا، وأول ما يستلفت النظر في سورة التوبة أن " البسملة " غير مكتوبة في أولها كبقية سور القرآن، وإنما لم يبدأ فيها بكتابة البسملة، جريا على ما اختاره أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه في كتابة المصحف " الإمام "، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتلقى عنه كتاب الوحي ما يعرفهم هل " سورة التوبة " جزء من " سورة الأنفال " فلا يفصل بينهما بالبسملة، أم هي مستقلة عنها، فتفصل عنها بالبسملة. ونظرا لهذا الاعتبار قرن بينهما عند كتابة المصحف من جهة، ولم تكتب بينهما البسملة التي تفرق بين سورة وأخرى فرقا تاما، من جهة أخرى.
وإنما سميت " سورة التوبة " بهذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في شأن الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا في غزوة تبوك :﴿ ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم ﴾.
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه سورة التوبة هو بيان ما يجب أن تكون عليه علاقات المسلمين بغيرهم من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وإبراز ما كانت تنطوي عليه نفوس المثبطين والمتخلفين والمتثاقلين، حين استنفر رسول الله إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بغية فك الحصار الذي كان يضربه الروم إذ ذاك على الدعوة الإسلامية ناحية الشام، وتمهيدا لخروج هذه الدعوة السماوية من جزيرة العرب، وانتشارها في بقية أرجاء العالم.
قال ابن كثير :" وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم ذاك إلى موسم الحج على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره صلى الله عليه وسلم مخاطبتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، ثم أتبعه بعلي ابن أبي طالب ومعه ﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ ليؤذن بها ويبلغها إلى الناس.
ونقل القاضي أبو بكر " ابن العربي " عن أبي المظفر طاهر ابن محمد أنه قال :" إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ﴿ ببراءة ﴾ مع أبي بكر، لأن ﴿ براءة ﴾ تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد وينقضه إلا الذي عقده أو رجل من بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم ". قال القاضي أبو بكر تعقيبا عليه :" وهذا بديع في فنه ".
وهكذا طاف أبو بكر وعلي بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، وخطب أبو بكر الناس يوم عرفة، ولما أتم خطبته التفت إلى علي وقال له :" قم يا علي، فأد رسالة رسول الله " فقام علي وقرأ عليهم أربعين آية من ﴿ براءة ﴾، ثم علم علي بعد ذلك أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فلم يزل يتتبع الفساطيط بمنى فسطاطا فسطاطا ويقرؤها عليهم، حتى بلغت ﴿ براءة الله ورسوله ﴾ إلى الجميع، وأدرك المشركون من العرب حينئذ أن الساعة قد دقت، وأنه لم يبق أمامهم أي احتمال، ما عدا الإسلام أو القتال، وكان المؤذنون يؤذنون يوم النحر : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وبهذا التدبير الحاسم الذي اتخذه الرسول بوحي من ربه وضع حدا نهائيا لجميع مظاهر الشرك وشعائره في عبادة الحج، وانتظر رسول الله حلول العام القابل ليدشن بنفسه موسم الحج الإسلامي بشعائره الإسلامية الكاملة، فجاء الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس الآلاف المؤلفة من المسلمين ليحج " حجة الوداع " في السنة التالية، وهي السنة العاشرة للهجرة، دون أن يشارك في تلك الحجة أحد من المشركين.
والآن فلنلق نظرة سريعة على الآيات السابقة من سورة براءة الواردة في نهاية الربع الماضي، لننتقل منها إلى الآيات الواردة في هذا الربع، إذ إنها يرتبط بعضها ببعض معنى وسياقا، وفهم الآيات اللاحقة متوقف على فهم الآيات السابقة.
وقوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾ امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، وتذكير لهم بخصائص الدعوة الإسلامية التي أوحى الله بها إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، وما جاءت به هذه الدعوة السماوية من يسر وسماحة وبعد عن الحرج والعنت، وحرص شديد على هداية الخلق، والأخذ بيدهم إلى طريق الفوز والسعادة دنيا وأخرى، نوره كتاب الله بما امتلأ به قلب الرسول الأعظم من العطف على أمته والاهتمام بمصيرها، وبما تحمله من المتاعب في سبيل تبليغ الرسالة إليها وخفض جناحه لها.
في الربع الماضي أنهينا تفسير سورة الأنفال المدنية، وانتقلنا منها إلى سورة التوبة المدنية أيضا، وأول ما يستلفت النظر في سورة التوبة أن " البسملة " غير مكتوبة في أولها كبقية سور القرآن، وإنما لم يبدأ فيها بكتابة البسملة، جريا على ما اختاره أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه في كتابة المصحف " الإمام "، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتلقى عنه كتاب الوحي ما يعرفهم هل " سورة التوبة " جزء من " سورة الأنفال " فلا يفصل بينهما بالبسملة، أم هي مستقلة عنها، فتفصل عنها بالبسملة. ونظرا لهذا الاعتبار قرن بينهما عند كتابة المصحف من جهة، ولم تكتب بينهما البسملة التي تفرق بين سورة وأخرى فرقا تاما، من جهة أخرى.
وإنما سميت " سورة التوبة " بهذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في شأن الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا في غزوة تبوك :﴿ ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم ﴾.
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه سورة التوبة هو بيان ما يجب أن تكون عليه علاقات المسلمين بغيرهم من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وإبراز ما كانت تنطوي عليه نفوس المثبطين والمتخلفين والمتثاقلين، حين استنفر رسول الله إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بغية فك الحصار الذي كان يضربه الروم إذ ذاك على الدعوة الإسلامية ناحية الشام، وتمهيدا لخروج هذه الدعوة السماوية من جزيرة العرب، وانتشارها في بقية أرجاء العالم.
قال ابن كثير :" وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم ذاك إلى موسم الحج على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره صلى الله عليه وسلم مخاطبتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، ثم أتبعه بعلي ابن أبي طالب ومعه ﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ ليؤذن بها ويبلغها إلى الناس.
ونقل القاضي أبو بكر " ابن العربي " عن أبي المظفر طاهر ابن محمد أنه قال :" إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ﴿ ببراءة ﴾ مع أبي بكر، لأن ﴿ براءة ﴾ تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد وينقضه إلا الذي عقده أو رجل من بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم ". قال القاضي أبو بكر تعقيبا عليه :" وهذا بديع في فنه ".
وهكذا طاف أبو بكر وعلي بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، وخطب أبو بكر الناس يوم عرفة، ولما أتم خطبته التفت إلى علي وقال له :" قم يا علي، فأد رسالة رسول الله " فقام علي وقرأ عليهم أربعين آية من ﴿ براءة ﴾، ثم علم علي بعد ذلك أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فلم يزل يتتبع الفساطيط بمنى فسطاطا فسطاطا ويقرؤها عليهم، حتى بلغت ﴿ براءة الله ورسوله ﴾ إلى الجميع، وأدرك المشركون من العرب حينئذ أن الساعة قد دقت، وأنه لم يبق أمامهم أي احتمال، ما عدا الإسلام أو القتال، وكان المؤذنون يؤذنون يوم النحر : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وبهذا التدبير الحاسم الذي اتخذه الرسول بوحي من ربه وضع حدا نهائيا لجميع مظاهر الشرك وشعائره في عبادة الحج، وانتظر رسول الله حلول العام القابل ليدشن بنفسه موسم الحج الإسلامي بشعائره الإسلامية الكاملة، فجاء الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس الآلاف المؤلفة من المسلمين ليحج " حجة الوداع " في السنة التالية، وهي السنة العاشرة للهجرة، دون أن يشارك في تلك الحجة أحد من المشركين.
والآن فلنلق نظرة سريعة على الآيات السابقة من سورة براءة الواردة في نهاية الربع الماضي، لننتقل منها إلى الآيات الواردة في هذا الربع، إذ إنها يرتبط بعضها ببعض معنى وسياقا، وفهم الآيات اللاحقة متوقف على فهم الآيات السابقة.
ثم عقب على ذلك بما يفيد أنه إذا ضل المسلمون طريقهم، وهجروا كتابهم، وأهملوا شريعتهم، وعادوا إلى الجاهلية الأولى، مولين الأدبار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من أعمالهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ولا يغني عنهم من الله شيئا، وذلك قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز ﴿ فإن تولوا ﴾ أي أدبروا ورجعوا عن التمسك بالإسلام وشريعته – ﴿ فقل حسبي الله ﴾ مصداقا لقوله تعالى في آية ثانية ﴿ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ﴾ |الفرقان : ٣٠|، وقوله تعالى في آية ثالثة :﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ |طه : ١٢٤|، وقوله تعالى في آية رابعة :﴿ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، فتوكل على العزيز الرحيم ﴾ |الشعراء : ٢١٥، ٢١٦، ٢١٧|.
وختمت سورة التوبة بتمجيد الله والثناء عليه والالتجاء إليه، تلقينا لرسول الله والمؤمنين :﴿ لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم ﴾.