وأحسن ما ينبغي تقديمه في مطلع هذا الحديث هو التعريف بسورة الأعراف قبل الشروع في تفسير آياتها على وجه التفصيل.
لقد كانت ( سورة الأعراف ) هي أطول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وهي ثالث سورة مكية تقع في المصحف الكريم حسب ترتيبه المعهود، بالإضافة إلى سورة الفاتحة وسورة الأنعام المكيتين، وتعتبر أوفى سورة عالج فيها الوحي الإلهي بالشرح والتوضيح مجموع العقائد الأساسية للدعوة الإسلامية التي هي خاتم الرسالات الإلهية. وهي في نفس الوقت أول سورة اعتنت عناية خاصة بعرض قصص الأنبياء السابقين مع أممهم على أنظار الأمة الإسلامية، وجميع الأجناس البشرية، إعانة لها على التبصر والاعتبار، وتجنب الموبقات والأخطار، فتحدثت عن آدم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم الصلاة والسلام، وقد خصصت سورة الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها من بين هذه القصص قصة موسى وبني إسرائيل، بمزيد من الاستيعاب والتفصيل، مما يساعد على تفهم الأطوار الغريبة التي مر بها هذا العنصر المتمرد العليل، كقوله تعالى :﴿ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون ﴾ وقوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾، وقوله تعالى :﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾ وقوله تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
والطابع الغالب على هذه السور هو طابع الإنذار، والوعيد بالهلاك والدمار، لكل من يكذب بآيات الله، ولا يشكر نعمة الله، ويستكبر عن طاعة الله، ويتولى غير الله، كقوله تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾، وكقوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو آمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ وقوله تعالى :﴿ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين ﴾.
وأطلق على هذه السورة اسم " سورة الأعراف " أخذا من قوله تعالى فيها ﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادوا أصحاب الجنة سلام عليكم ﴾، وقوله تعالى أيضا :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾.
وسورة الأعراف هي إحدى السور التسع والعشرين في كتاب الله التي بدأت ببعض حروف التهجي، وكما بدئت بها سورة البقرة :﴿ ألم، ذلك كتاب الله لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾ بدئت سورة الأعراف أيضا ﴿ المص، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ وكأن في ذلك المطلع تنبيها إلى أن كتاب الله وإن كان مؤلفا في ظاهره من جنس حروف التهجي التي هي في متناول كل من ينطق باللسان العربي من مختلف الأجناس، إلا أن البشر لا يستطيعون أن يؤلفوا من تلك الحروف إلا كلاما عاديا وأوزانا، بينما الحق سبحانه وتعالى ينزل بها على رسوله قرآنا معجزا وفرقانا، ويودع فيها من سر علمه وحكمته هدى وتبيانا.
وكما تحدثت سورة الأعراف في بدايتها عن كتاب الله فكان براعة الاستهلال ﴿ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ تحدثت في نهايتها عن كتاب الله أيضا، فكان مسك الختام وفصل المقال ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾.
والآن فلنتجول في هذا البستان الإلهي النضير، تجول المتبصر المستنير، ولنقف ولو وقفة قصيرة عند بعض زهراته، عسى أن نستمتع بعبير نفحاته.
ﰡ
يقول الله تعالى : في خطابه لنبيه خطاب القريب للقريب :﴿ المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ فها هنا يمتن الحق سبحانه وتعالى على نبيه باختياره للنبوة من بين سائر العرب، واصطفائه للرسالة من بين كافة البشر، ومعنى ذلك أنه قد وقع الاختيار عليه بدلا من غيره لحكمة إلهية، وأنه مكلف في هذه الأرض بأداء رسالة سماوية سامية ﴿ كتاب أنزل إليك ﴾ إليك يا محمد، لا إلى غيرك من العرب والعجم، فأنت خاتم الرسل إلى كافة الشعوب والأمم. والبشر بالنسبة إلى هذا الكتاب الإلهي الحكيم نوعان :﴿ مؤمنون ﴾ يتوجه إليهم كتاب الله بالتذكير والوعد والبشارة، و﴿ مكذبون ﴾ يتوجه إليهم بالتحذير والوعيد والنذارة ﴿ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾.
ونظرا لما يفرضه القيام بأداء هذه الرسالة الثقيلة الأعباء، من صبر وجلد وتضحية، وكفاح متواصل الحلقات، مع ما يستتبعه ذلك من مواجهة الصدمات والأزمات، وجه الحق سبحانه وتعالى خطابه الرقيق الرفيق إلى خاتم رسله، قائلا له تثبيتا لفؤاده، وتشجيعا له على بلوغ مراده، ﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ أي فلا تتحرج في إبلاغه والإنذار به، لأن الله تعالى قد تعهد في الأزل بأن يشرح صدرك ويعصمك من الناس ﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ – ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ وإذن فما عليك أيها الرسول إلا أن تقوم بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، ولا يضق صدرك بتكاليف الوحي المنزل، فإنك مؤيد معان، والله المستعان، على غرار قوله تعالى في آية أخرى ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾.
وبهذا التفسير الواضح يصبح وضع الآية في معناها المراد على النحو الآتي :﴿ كتاب أنزل إليك، لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ والتقديم والتأخير أسلوب من أساليب البلاغة المعروفة عند العرب، فقد يقدمون اللفظ على موضعه الطبيعي من الجملة، تنبيها إلى أن معناه هو محور الحديث، وإلى أن السياق مرتبط به أكثر من غيره، حتى يلتفت إليه ذهن المخاطب التفاتا خاصا.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " إن كان " الحرج " هو الشك، فقد أنار الله فؤاده " أي النبي " باليقين، وإن كان هو التبرم، فقد حبب الله إليه الدين وخفف عليه ثقل العبادة، حتى جعلت قرة عينه في الصلاة، وإن كان هو الضيق، فقد وسع الله قلبه بالعلوم وشرح صدره بالمعارف، وذلك مما فتح الله عليه من علوم القرآن ".
وإذا كان الخطاب الإلهي قد توجه إلى رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم مباشرة بوجوب أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، دون تهاون ولا تردد ولا اعتذار، فإن توجيه هذا الخطاب الإلهي عن طريقه إلى كافة ورثته من أمراء المؤمنين وعلماء المسلمين يكون من باب أولى وأحرى، إذ لا يبرر إهمال هذا الواجب أو التهاون فيه أي مبرر شرعي أو عقلي، قال القاضي عبد الجبار : " وإذا بعثه الله تعالى – أي بعث نبيه – على الأداء، وتوعده على تركه، فغيره بذلك أولى ".
وفي التعبير بقوله تعالى :﴿ ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ إشارة إلى أن عناية الله بخلقه، ورعايته لهم، وإلى تمهيد جميع الوسائل لتربيتهم والأخذ بيدهم، وتقويم سلوكهم، حتى يسلكوا طريق السعادة، وينالوا الحسنى وزيادة.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " قال علماؤنا معنى هذه الآية – اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم – أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، واستبيحوا مباحه، وارجوا وعده، وخافوا وعيده، واقتضوا حكمه، وانشروا علمه، وفضوا خاتمه، وألحقوا به ملائمه ".
وبعدما تناولت الآيات الكريمة مصرع الظالمين، وأكدت أن المرسل إليهم سيسألون يوم القيامة بمحضر الأنبياء والمرسلين، ووصفت ما تكون عليه موازين المفلحين وموازين الخاسرين، وبينت ما خص الله به النوع الإنساني من تمكين وتكريم، وكيف خلقه في أحسن تقويم، وبعدما عرض كتاب الله قصة آدم وإبليس التي تناولناها من قبل، بمناسبة عرضها في سورة البقرة، وعند الإشارة إليها في سورة آل عمران، وبعدما لفت كتاب الله النظر إلى ما آثاره أمر الله لملائكته بالسجود لآدم من حوار واستفسار، وجه الحق سبحانه وتعالى أربعة نداءات إلهية إلى الناس كافة، يصفهم فيها بوصفهم المشترك العام، وهو بنوتهم جميعا لآدم عليه السلام، تذكيرا لهم بنعمة الوحدة، الوحدة الإنسانية المتمثلة في تناسلهم وتسلسلهم من أب واحد، واشتراكهم في رحم واحد، هو رحم الآدمية والإنسانية، ذلك الأمر الذي يجب أن يكون باعثا لهم على التعاطف والتراحم، لا على التقاطع والتلاحم، وهذه النداءات الأربعة هي الوحيدة من نوعها الواردة في كتاب الله بهذا الوصف الجامع ﴿ يا بني آدم ﴾، أحدها سيرد في الربع القادم، وهو قوله تعالى :﴿ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آيتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلكم يذكرون ﴾.
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾.
في المصحف الكريم
وهذا الربع، يتحدث أكبر عدد من آياته الكريمة، عن مشاهد يوم القيامة وأهوالها العظيمة، فيصف أحوال أصحاب الجنة وأصحاب النار، ويعرض ما يتبادله الفريقان من النداءات والأحاديث والحوار.
ولفهم الآيات الأولى في هذا الربع وربطها بما سبقها، نرى من المناسب أن نعود إلى بعض آيات الربع الماضي، فقد رأينا فيه كيف امتن الحق سبحانه وتعالى على عباده بما مكنهم في الأرض من حياة واستقرار، إذ جعلها مسخرة لهم، ووضعها تحت تصرفهم، ولائم بين طبيعتها وطبيعتهم، وآتاهم فيها من أسباب الكسب ووسائل العيش ما يطيب معه القرار، وإن كان شكرهم لله يتناسب مع واسع عطائه، وكثرة نعمه وآلائه ﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش، قليلا ما تشكرون ﴾.
كما رأينا فيه كيف امتن سبحانه وتعالى على عباده بما خصهم به دون غيرهم من بقية المخلوقات، من نعمة الستر، وما آتاهم من المواد الصالحة لاستعمال اللباس الذي يواري سوآتهم، ويستر عوراتهم، وما أكرمهم به من الرياش والمتاع والأثاث زيادة في التوسعة عليهم، حتى يستوفوا حظهم، في العيش الكريم، من الضروريات والحاجيات والكماليات، ثم ما أعده لهم من لباس التقوى الذي هو أبهى لباس وأشرف حلة يتزين بها عباده المتقون ﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ﴾ وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة النحل :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ﴾. ودعا الحق سبحانه وتعالى عباده إلى أن يظهروا نعمة الله عليهم فيتجملوا ويتزينوا، ولاسيما في مواطن الخير، كبيوت الله والمناسبات الدينية وما شابهها ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾، كما دعاهم سبحانه إلى أن يقبلوا على مائدته الكريمة، ليتناولوا منها ما لذ وطاب، لكن حذرهم في نفس الوقت من مغبة الإسراف في الأكل والشراب، حفظا لصحتهم الغالية، وإعانة لهم على القيام بواجباتهم الدينية والدنيوية، ﴿ وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾ قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية ﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾.
وبعدما لفت كتاب الله في الربع الماضي أنظار عباده إلى المنن التي امتن عليهم بها، ودعاهم إلى التنعم بها دون إسراف ولا إفراط، توجه الخطاب الإلهي في هذا الربع إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، داعيا إياه إلى التصدي بالرد على كل من يدعون الناس إلى أن يعيشوا عيشا غير كريم، والرد على كل من يدعونهم إلى أن يظهروا في المجتمع بمظهر دميم، مبينا لرسوله أن ذلك منهم مجرد تقول على الله وادعاء، ومحض افتراء، فقال تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ أي أن الله تعالى أباحها، ودعا عباده إلى استعمالها، وما دام الحق سبحانه هو وحده المختص بالتحليل والتحريم وقد أحلها ولم يحرمها، فليست إذن بحرام.
ومما يستلفت النظر تعبير الآية الكريمة هنا بكلمة " زينة الله " على حد التعبير الوارد في آية أخرى بكلمة ﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴾. ف ﴿ فطرت الله ﴾ وهي الإسلام تنسجم مع ﴿ زينة الله ﴾ تمام الانسجام، والتزمت والرهبانية والحرمان إنما هي بدع ابتدعها المنحرفون عن الفطرة السليمة، من أتباع الملل والمذاهب السقيمة.
وقوله تعالى هنا :﴿ التي أخرج لعباده ﴾ تنبيه إلى أن الحكمة الإلهية فيما خلقه الله من زينة وطيبات إنما هي إكرام الإنسان بسد حاجاته الضرورية، والترفيه عليه بشتى المتع والهبات الكمالية، على حد قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ والطيبات من الرزق ﴾ يقتضي أن الخبائث من الرزق حرام وغير حلال، ومن أجل ذلك وصف الله رسوله في كتابه بقوله :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ ومن الرزق الخبيث ما كان حاصلا عن سرقة أو اختلاس أو غصب أو كسب غير مشروع.
ثم عقب كتاب الله على هذه الحقيقة الدينية بالتلويح إلى حقيقة كونية قائمة، ألا وهي أن زينة الله ورزقه يشترك في تناولهما والانتفاع بهما في هذه الحياة الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بمقتضى حكمته الإلهية، ورحمته الربانية، مصداقا لقوله تعالى :﴿ وسع كل شيء رحمة وعلما ﴾ – ﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾. لكن إذا كانت الشركة في زينة الله ورزقه قائمة في هذه الدنيا، فإن هذه الشركة ترتفع وتزول، ولا يبقى لها أي أثر في الدار الآخرة، إذ هناك ينفرد المؤمنون وحدهم دون الكافرين بزينة الله ورزقه الأعظم انفرادا تاما، تمييزا لهم وإكراما، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا مخاطبا لنبيه :﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " يعني أن الكفار يشاركون المؤمنين في استعمال الطيبات في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة خلصت للمؤمنين في النعيم، وكان للكفار العذاب الأليم ".
ويشهد لوجود هذه الأصناف الثلاثة من الذنوب عدة آيات وردت في كتاب الله منها قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وقوله تعالى في سورة النجم في وصف المؤمنين ﴿ ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ قال ابن كثير : وهذا استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
وقوله تعالى هنا :﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ بعد ذكر الفواحش وإعلان تحريمها بصفة عامة تنبيه إلى أن الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف، مثل ما يؤاخذ بالفواحش الظاهرة، والإسلام حريص على أن يكون الظاهر عنوان الباطن بالنسبة للمسلم، لا أن يكون ظاهره مجرد واجهة براقة تخلب الأبصار، وتخدع الأغرار، وفي نفس هذا المعنى سبق قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ وقوله تعالى في نفس السورة :﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾.
وقوله تعالى هنا :﴿ والإثم والبغي بغير الحق ﴾ نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " إلى أن ذكرهما بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام – الفواحش – إنما هو لتأكيد أمرهما قصد الزجر عنهما، نظير قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾ فذكر النخل والرمان بعد دخولهما في الاسم العام – الفاكهة – للتنويه بهما في نفس المقام، " والإثم " عبارة عن الذم الوارد في الفعل، أو عبارة عن نفس الوعيد الذي يتناول الفعل، و " البغي " تجاوز الحد والتعدي على الغير، فكل فعل ذمه الشرع واستقبحه، أو ورد في شأنه الوعيد بالعقاب على لسان الشارع يعتبر فعلا محرما، وفسر بعضهم " الإثم " بأنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، و " البغي " بأنه الخطايا المتعدية منه إلى بقية الناس، وقوله تعالى هنا :﴿ بغير الحق ﴾ تنبيه إلى أن معيار البغي والظلم الذي يميزه عن غيره هو أن يكون عملا غير مستند إلى أي سند من الحق، لا أن البغي منه ما يكون بحق، ومنه ما يكون بغير حق، فذلك بعيد عن التصور.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) وروى الإمام أحمد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا ) ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد ابن مسلم. وروى الطبراني بسنده إلى سعد ابن جنادة قال :( لما فرغ رسول الله صلى الله عيه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجمعوا، من وجد عودا فليأت به، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به. قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه – أي ذلك القفر من الأرض – ركاما – أي متراكما بعضه فوق بعض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه ).
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري : " والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي : " إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ – ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال : " والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس : " هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ – ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ – ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ – ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".
بينما المؤمنون الصادقون الذين أسلموا وجوههم لله، فآمنوا بدينه، وقاموا بممارسة شعائره، وتطبيق شرائعه، واستعدوا للآخرة بالعمل الصالح، دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا جزاهم الحق سبحانه وتعالى خير الجزاء، وخصهم دون غيرهم في الآخرة بالسعادة والهناء، مصداقا لما سبق في الربع الماضي ﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ﴾، والمراد أن الطيبات من الرزق يتمتع بها المؤمنون في الحال والمآل، أما من نال شهوته عاجلا، وعاقبة النار آجلا، فما ظنه " نعمة " ينقلب عليه " نقمة ".
وها هنا آيتان كريمتان لا بد من لفت النظر إليهما لتعلقهما بأدب الدعاء والذكر، وهما قوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية، إنه لا يحب المعتدين ﴾، وقوله تعالى ﴿ وادعوه خوفا وطمعا، إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾.
ففي الآية الأولى يبين كتاب الله للمؤمنين كيف ينبغي أن يدعوا ربهم ويذكروا اسمه، وفي الآية الثانية يبين كتاب الله للمؤمنين كيف ينبغي أن يجمعوا في الدعاء بين الخوف والرجاء، قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " الأصل في الأعمال الفرضية الجهر، والأصل في الأعمال النفلية السر، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء والتظاهر والتفاخر، وقد جعل الباري سبحانه في العبادات ذكرا جهرا، وذكرا سرا، لحكمة بالغة أنشأها بها، ورتبها عليها، وذلك لما عليه قلوب الخلق من الاختلاف بين الحالين ". ثم زاد قائلا " أما الذكر بالقراءة في الصلاة فانقسم حاله إلى سر وجهر، وأما الدعاء فلم يشرع منه شيء جهرا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع ولا في حالة السجود، لكن اختلف العلماء في قول قارئ الفاتحة ﴿ آمين ﴾ هل يسر بها أم يجهر ". وقال ابن كثير في تفسيره " قوله تعالى :﴿ تضرعا ﴾ معناه تذللا واستكانة، وقوله ﴿ وخفية ﴾ كقوله :﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ الآية ". وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم – أي ارفقوا بها- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذين تدعون سميع قريب ) الحديث.
ثم نقل ابن كثير عن عبد الله ابن مبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور – أي الزوار وما يشعرون به، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾
وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار : " وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾
وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار :" وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".
في المصحف الكريم
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾
ثم يأتي جواب كل من هود ونوح قبله لقومهما على ما رموا به الأول من سفاهة، وما رموا به الثاني من ضلالة، على نمط متشابه ومتقارب، إن لم يكن واحدا، فيرد نوح على قومه :﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ﴾ ويرد هود على قومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾
وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار :" وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".
ونفس الموقف الذي وقفه الملأ – وهم القادة والسادة من نوح وهود، يقفه الملأ من صالح أيضا، كما حكى كتاب الله ذلك عنهم :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه، قالوا ﴾ – أي المؤمنون المستضعفون – ﴿ إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا ﴾ – وهم الملأ – ﴿ إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾.
وجاءت آية ثالثة في سورة الشعراء في سياق قوله تعالى ﴿ إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين- أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون ﴾.
قال أبو بكر ابن عياش عن أبي جعفر : " استغنت رجال قوم لوط بوطء رجالهم، واستغنت نساؤهم بنسائهم " ونقله الإمام النووي في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات ".
وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " إن الله أخبر أن قوم لوط كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه، وإنما أخذ الصغير والكبير، لسكوت الجملة عليه والجماهير، فكان منهم فاعل، وكان منهم راض، فعوقب الجميع، وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرا، وإنما ذكر الله هذه المعصية باسم الفاحشة ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ ففاحشة اللواط مساوية للزنى في الاسم وهو " الفاحشة "، ومشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعا، فجاز أن يتعلق به الحد، وذلك للزجر عن الموضع المشتهى، بل هذا أحرم وأفحش، فكان بالعقوبة أولى وأحرى "، انتهى كلام ابن العربي.
وقد أحرق مرتكبي هذه المعصية خالد ابن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، وأحرقهم عبد الله ابن الزبير في زمانه، ثم أحرقهم هشام ابن عبد الملك، ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق.
ومذهب مالك وجماعة منهم سعيد ابن المسيب والنخعي أن مرتكبها يرجم، أحصن أو لم يحصن، وقد سأل مالك ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط، فقال ابن شهاب " عليه الرجم أحصن أو لم يحصن "، ومذهب الشافعي وجماعة أنه يحد حد الزاني، إن كان محصنا فبجزائه وهو الرجم بالحجارة، وإن كان بكرا فبجزائه وهو الجلد مائة. قال ابن العربي : " والذي صار إليه مالك أحق، وهو أصح سندا، وأقوى معتمدا ".
أما أخف الأقوال في مرتكب هذه المعصية فهو أن " يعزر " بدلا من أن يحد، كما ذهب إليه أبو حنيفة، باعتبار أن هذه المعصية لم يرد فيها حد مخصوص، ولا كفارة معينة، و " التعزير " عقوبة تأديبية، بدنية أو مالية، موكولة لاجتهاد الحاكم. لكن هذا القول الخفيف، خفيف الوزن أمام ما ورد في الحديث الشريف، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والسر في محاربة الدين والأخلاق لهذه الفاحشة النكراء، أنها تحدث انحرافا في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتشويها لها بإخراجها عن طريقها، وتؤدي في النهاية إلى تهديد النوع الإنساني بالانقراض تدريجيا، وتعطيل النسل من أصله، حيث أن هذه الفاحشة تعطل طاقة الإخصاب عند صاحبها عن نشاطها الأصلي، وتضييع طاقته في غير جدوى ودون ثمرة، لا للفرد ولا للمجتمع، وذلك مؤد بطبيعته إلى القضاء على أصل من الأصول الأساسية للملة، وهو حفظ النسل الذي يصونه الشرع بكل الوسائل.
قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الإحياء : " لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات لانقطع النسل، ورفع الوجود قريب من قطع الوجود "، وبين الغزالي في نفس السياق " أن فاحشة اللواط أخطر من فاحشة الزنى بهذا الاعتبار، لأن الزنى لا يفوت أصل الوجود كما يفوته اللواط، وإذا كانت الشهوة داعية إلى الزنى من الجانبين الذكر والأنثى، وإن كان الزنى يشوش الأنساب ويخلطها، ويفوت على الناس تمييزها ".
وهكذا منذ ظهر الدين وعرفت الأخلاق، ظلت الدعوة قائمة مستمرة لحماية المؤمنين من مظاهر الخزي والعار، وتطهير المجتمع من مثل هذه الأوساخ والأقذار، حتى يكون مجتمعا فاضلا، متمسكا بالفطرة، نقيا من الموبقات والأوزار.
وجاءت آية ثالثة في سورة الشعراء في سياق قوله تعالى ﴿ إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين- أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون ﴾.
قال أبو بكر ابن عياش عن أبي جعفر :" استغنت رجال قوم لوط بوطء رجالهم، واستغنت نساؤهم بنسائهم " ونقله الإمام النووي في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات ".
وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " :" إن الله أخبر أن قوم لوط كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه، وإنما أخذ الصغير والكبير، لسكوت الجملة عليه والجماهير، فكان منهم فاعل، وكان منهم راض، فعوقب الجميع، وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرا، وإنما ذكر الله هذه المعصية باسم الفاحشة ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ ففاحشة اللواط مساوية للزنى في الاسم وهو " الفاحشة "، ومشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعا، فجاز أن يتعلق به الحد، وذلك للزجر عن الموضع المشتهى، بل هذا أحرم وأفحش، فكان بالعقوبة أولى وأحرى "، انتهى كلام ابن العربي.
وقد أحرق مرتكبي هذه المعصية خالد ابن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، وأحرقهم عبد الله ابن الزبير في زمانه، ثم أحرقهم هشام ابن عبد الملك، ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق.
ومذهب مالك وجماعة منهم سعيد ابن المسيب والنخعي أن مرتكبها يرجم، أحصن أو لم يحصن، وقد سأل مالك ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط، فقال ابن شهاب " عليه الرجم أحصن أو لم يحصن "، ومذهب الشافعي وجماعة أنه يحد حد الزاني، إن كان محصنا فبجزائه وهو الرجم بالحجارة، وإن كان بكرا فبجزائه وهو الجلد مائة. قال ابن العربي :" والذي صار إليه مالك أحق، وهو أصح سندا، وأقوى معتمدا ".
أما أخف الأقوال في مرتكب هذه المعصية فهو أن " يعزر " بدلا من أن يحد، كما ذهب إليه أبو حنيفة، باعتبار أن هذه المعصية لم يرد فيها حد مخصوص، ولا كفارة معينة، و " التعزير " عقوبة تأديبية، بدنية أو مالية، موكولة لاجتهاد الحاكم. لكن هذا القول الخفيف، خفيف الوزن أمام ما ورد في الحديث الشريف، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والسر في محاربة الدين والأخلاق لهذه الفاحشة النكراء، أنها تحدث انحرافا في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتشويها لها بإخراجها عن طريقها، وتؤدي في النهاية إلى تهديد النوع الإنساني بالانقراض تدريجيا، وتعطيل النسل من أصله، حيث أن هذه الفاحشة تعطل طاقة الإخصاب عند صاحبها عن نشاطها الأصلي، وتضييع طاقته في غير جدوى ودون ثمرة، لا للفرد ولا للمجتمع، وذلك مؤد بطبيعته إلى القضاء على أصل من الأصول الأساسية للملة، وهو حفظ النسل الذي يصونه الشرع بكل الوسائل.
قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الإحياء :" لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات لانقطع النسل، ورفع الوجود قريب من قطع الوجود "، وبين الغزالي في نفس السياق " أن فاحشة اللواط أخطر من فاحشة الزنى بهذا الاعتبار، لأن الزنى لا يفوت أصل الوجود كما يفوته اللواط، وإذا كانت الشهوة داعية إلى الزنى من الجانبين الذكر والأنثى، وإن كان الزنى يشوش الأنساب ويخلطها، ويفوت على الناس تمييزها ".
وهكذا منذ ظهر الدين وعرفت الأخلاق، ظلت الدعوة قائمة مستمرة لحماية المؤمنين من مظاهر الخزي والعار، وتطهير المجتمع من مثل هذه الأوساخ والأقذار، حتى يكون مجتمعا فاضلا، متمسكا بالفطرة، نقيا من الموبقات والأوزار.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ – ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، تشير الآية الكريمة إلى الملأ من قوم شعيب وهم كبار قومه وسادتهم، وتلفت النظر إلى أن العامل الأساسي في إصرارهم على الباطل كغيرهم من المبطلين، وفي مقاومة ما جاء به نبيهم شعيب عليه السلام هو ما كانوا عليه من الأنفة والكبر والصلف، وما يتوقعونه من أن يصبحوا مجرد تابعين للنبي شعيب بعدما كانوا سادة متبوعين. والشأن في المتكبرين وذوي الرياسات الزائفة دائما أن يركبوا رؤوسهم، وأن لا يفتحوا آذانهم لسماع كلمة الحق، ولا قلوبهم لتقبلها والرضى بها، ولو كانت لصالحهم ونفعهم عاجلا وآجلا ﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب ﴾ ونلاحظ في نفس الآية نوع التهديد الذي هددوا به شعيبا وصحبه، فهو التهديد بالنفي والإبعاد عن الوطن، كما هدد قوم لوط لوطا وأهله من قبل، ﴿ إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾ فها هم قوم شعيب يقلدونهم ويهددونه بنفس الأمر
﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ﴾ مما يدل على أن البشر قد عرفوا هذا النوع من العقوبات منذ عهد قديم، وذلك حرصا منهم على أن تبقى دار لقمان على حالها، فتستمر رياستهم الزائفة قائمة، ويبقى استغلالهم الفاحش مستمرا، إذ من أهم ما أخذهم به نبيهم شعيب عليه السلام تطفيفهم في الكيل والميزان، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وإفسادهم في الأرض بعد إصلاحها، ألم يقل لهم، كما سبق في الربع الماضي منذرا ومحذرا ﴿ فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
وكتاب الله عندما عرض هذه القصة كشأنه في غيرها من القصص، إنما عرضها للاعتبار وضرب المثل بالنسبة لكافة المؤمنين، فليس الأمر بتوفية الكيل والميزان، وليس النهي عن بخس الناس أشياءهم واستغلالهم استغلالا فاحشا، وليس التحذير من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، مجرد تعليمات عامة وتوجيهات إلهية، قاصرة على قوم شعيب دون من دونهم، بحيث يعتبر غيرهم في حل منها، بل هي تعليمات عامة وتوجيهات أبدية إلى كافة المؤمنين في جميع العصور والأجيال. ووصف " الإيمان " المشترك بين كافة المؤمنين يقتضيها ويتضمنها، ولا يسمح بما يضادها أو يناقضها، ﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
والعقاب الذي عاقب الله به قوم شعيب على هذه المخالفات قائم إلى يوم الدين بالنسبة لغيرهم كما كان بالنسبة إليهم، وإنه لواقع، ما له من دافع. وإذا كان نوع العقاب الإلهي لمن سلك مسلكهم في هذا الجيل من نوع آخر، فأنواع العقاب الإلهي لا تحصى عدا. قال القاضي أبو بكر ابن العربي : " إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق، والتعامل بالصدق، وطلب التجارة بذلك، فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كل واحد منهما ما يرضي الله ويرتضيه " والعكس بالعكس.
وبعدما هدد كبار قوم شعيب نبيهم وصحبه بعقوبة النفي والإبعاد من الوطن التي تمس أدق الأحاسيس في قلب المواطن، وتحرمه من أول أرض تنفس فيها ومس جلده ترابها، عادوا إليه وإلى المؤمنين من صحبه، ليساوموهم على التنازل عن عقيدتهم، ويدعوهم إلى مهادنتهم ومداهنتهم في عقائدهم الباطلة، وإلى غض الطرف عن تصرفاتهم الطائشة، وذلك ما يشير إليه قولهم فيما حكاه كتاب الله عنهم :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾.
وهذا الخطاب منهم موجه بالأصالة إلى أصحاب شعيب الذين كانوا فارقوا دين قومهم، وخرجوا عن ملتهم، وآمنوا بشعيب. أما شعيب عليه السلام نفسه فلم يكن على ملتهم حتى يعود إليها، إذ عصمه الله منها، وغاية ما يطلبون منه أن يكف عن دعوة الناس إلى الرسالة الجديدة التي جاء بها من عند الله، غير أن شعيبا رد عليهم بأن رجوع الذين آمنوا عن عقيدتهم الصحيحة إلى الملة الضالة التي فارقوها أمر متعذر، مقررا لهم حقيقة ذلك المبدأ الاعتقادي الأصيل الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات، ألا وهو مبدأ ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ المعبر عنه في لسان هذا العصر بحرية الاعتقاد. وهكذا أجابهم شعيب قائلا :﴿ قال أو لو كنا كارهين ﴾، أي أتعيدون المؤمنين برسالتي إلى ملتكم الباطلة بعدما كرهوها ومقتوها وآمنوا بالله ؟ إنه لا حق لأحد في أن يفرض معتقده على الغير بالقهر والإكراه.
أتساومونني على أن أدع رسالة ربي لأقر ملتكم الباطلة، ؟ إنه لا سبيل إلى ذلك، ولا سلطة تستطيع أن تفرض علينا التصديق بما هو كذب وافتراء، واتباع ما هو ضلال وباطل، ﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾، وأخيرا قطع شعيب لكبراء قومه الضالين كل أمل في المساومات والتهديدات قائلا :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها ﴾.
وقوله هنا ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ليس المراد به تجويز عودة أصحاب شعيب إلى الملة الضالة التي فارقوها، ولا احتمال تنازل شعيب عن الرسالة المأمور بتبليغها عن الله، وإنما المراد أحد أمرين، إما استبعاد ذلك بالمرة عن طريق تعليقه بالمشيئة الإلهية، وشعيب يعلم علم اليقين أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يعصم رسله من الناس، وذلك على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ إذ ليس معنى هذه الآية أن الجمل سيدخل في عين الإبرة وهي سم الخياط، وأن الذين كذبوا واستكبروا سيدخلون فعلا الجنة عندما يدخل الجمل عين الإبرة، وإنما معناه قطع كل أمل لهم في دخول الجنة، بذلك الأسلوب المدهش، الذي يفتح باب الطمع أولا، ليقفله في وجوه الطامعين أخيرا، فتكون حسرتهم أعظم، وخشيتهم أشد.
وإما أنه من باب الأدب مع الله تعالى في تعليق كل شيء بمشيئة الله، على غرار قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله ﴾ جريا مع العقيدة الإيمانية العامة والأصيلة في دين الله :﴿ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴾.
ومضى شعيب والمؤمنون معه في طريقهم السوي معتمدين على الله، دون أن يعبئوا بما تعرضوا له من المساومة والتهديد والإكراه، متحملين في سبيل نشر الهداية، كل أذى من أهل الغواية، ﴿ وسع ربنا كل شيء علما، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، تشير الآية الكريمة إلى الملأ من قوم شعيب وهم كبار قومه وسادتهم، وتلفت النظر إلى أن العامل الأساسي في إصرارهم على الباطل كغيرهم من المبطلين، وفي مقاومة ما جاء به نبيهم شعيب عليه السلام هو ما كانوا عليه من الأنفة والكبر والصلف، وما يتوقعونه من أن يصبحوا مجرد تابعين للنبي شعيب بعدما كانوا سادة متبوعين. والشأن في المتكبرين وذوي الرياسات الزائفة دائما أن يركبوا رؤوسهم، وأن لا يفتحوا آذانهم لسماع كلمة الحق، ولا قلوبهم لتقبلها والرضى بها، ولو كانت لصالحهم ونفعهم عاجلا وآجلا ﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب ﴾ ونلاحظ في نفس الآية نوع التهديد الذي هددوا به شعيبا وصحبه، فهو التهديد بالنفي والإبعاد عن الوطن، كما هدد قوم لوط لوطا وأهله من قبل، ﴿ إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾ فها هم قوم شعيب يقلدونهم ويهددونه بنفس الأمر
﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ﴾ مما يدل على أن البشر قد عرفوا هذا النوع من العقوبات منذ عهد قديم، وذلك حرصا منهم على أن تبقى دار لقمان على حالها، فتستمر رياستهم الزائفة قائمة، ويبقى استغلالهم الفاحش مستمرا، إذ من أهم ما أخذهم به نبيهم شعيب عليه السلام تطفيفهم في الكيل والميزان، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وإفسادهم في الأرض بعد إصلاحها، ألم يقل لهم، كما سبق في الربع الماضي منذرا ومحذرا ﴿ فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
وكتاب الله عندما عرض هذه القصة كشأنه في غيرها من القصص، إنما عرضها للاعتبار وضرب المثل بالنسبة لكافة المؤمنين، فليس الأمر بتوفية الكيل والميزان، وليس النهي عن بخس الناس أشياءهم واستغلالهم استغلالا فاحشا، وليس التحذير من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، مجرد تعليمات عامة وتوجيهات إلهية، قاصرة على قوم شعيب دون من دونهم، بحيث يعتبر غيرهم في حل منها، بل هي تعليمات عامة وتوجيهات أبدية إلى كافة المؤمنين في جميع العصور والأجيال. ووصف " الإيمان " المشترك بين كافة المؤمنين يقتضيها ويتضمنها، ولا يسمح بما يضادها أو يناقضها، ﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
والعقاب الذي عاقب الله به قوم شعيب على هذه المخالفات قائم إلى يوم الدين بالنسبة لغيرهم كما كان بالنسبة إليهم، وإنه لواقع، ما له من دافع. وإذا كان نوع العقاب الإلهي لمن سلك مسلكهم في هذا الجيل من نوع آخر، فأنواع العقاب الإلهي لا تحصى عدا. قال القاضي أبو بكر ابن العربي :" إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق، والتعامل بالصدق، وطلب التجارة بذلك، فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كل واحد منهما ما يرضي الله ويرتضيه " والعكس بالعكس.
وبعدما هدد كبار قوم شعيب نبيهم وصحبه بعقوبة النفي والإبعاد من الوطن التي تمس أدق الأحاسيس في قلب المواطن، وتحرمه من أول أرض تنفس فيها ومس جلده ترابها، عادوا إليه وإلى المؤمنين من صحبه، ليساوموهم على التنازل عن عقيدتهم، ويدعوهم إلى مهادنتهم ومداهنتهم في عقائدهم الباطلة، وإلى غض الطرف عن تصرفاتهم الطائشة، وذلك ما يشير إليه قولهم فيما حكاه كتاب الله عنهم :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾.
وهذا الخطاب منهم موجه بالأصالة إلى أصحاب شعيب الذين كانوا فارقوا دين قومهم، وخرجوا عن ملتهم، وآمنوا بشعيب. أما شعيب عليه السلام نفسه فلم يكن على ملتهم حتى يعود إليها، إذ عصمه الله منها، وغاية ما يطلبون منه أن يكف عن دعوة الناس إلى الرسالة الجديدة التي جاء بها من عند الله، غير أن شعيبا رد عليهم بأن رجوع الذين آمنوا عن عقيدتهم الصحيحة إلى الملة الضالة التي فارقوها أمر متعذر، مقررا لهم حقيقة ذلك المبدأ الاعتقادي الأصيل الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات، ألا وهو مبدأ ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ المعبر عنه في لسان هذا العصر بحرية الاعتقاد. وهكذا أجابهم شعيب قائلا :﴿ قال أو لو كنا كارهين ﴾، أي أتعيدون المؤمنين برسالتي إلى ملتكم الباطلة بعدما كرهوها ومقتوها وآمنوا بالله ؟ إنه لا حق لأحد في أن يفرض معتقده على الغير بالقهر والإكراه.
أتساومونني على أن أدع رسالة ربي لأقر ملتكم الباطلة، ؟ إنه لا سبيل إلى ذلك، ولا سلطة تستطيع أن تفرض علينا التصديق بما هو كذب وافتراء، واتباع ما هو ضلال وباطل، ﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾، وأخيرا قطع شعيب لكبراء قومه الضالين كل أمل في المساومات والتهديدات قائلا :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها ﴾.
وقوله هنا ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ليس المراد به تجويز عودة أصحاب شعيب إلى الملة الضالة التي فارقوها، ولا احتمال تنازل شعيب عن الرسالة المأمور بتبليغها عن الله، وإنما المراد أحد أمرين، إما استبعاد ذلك بالمرة عن طريق تعليقه بالمشيئة الإلهية، وشعيب يعلم علم اليقين أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يعصم رسله من الناس، وذلك على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ إذ ليس معنى هذه الآية أن الجمل سيدخل في عين الإبرة وهي سم الخياط، وأن الذين كذبوا واستكبروا سيدخلون فعلا الجنة عندما يدخل الجمل عين الإبرة، وإنما معناه قطع كل أمل لهم في دخول الجنة، بذلك الأسلوب المدهش، الذي يفتح باب الطمع أولا، ليقفله في وجوه الطامعين أخيرا، فتكون حسرتهم أعظم، وخشيتهم أشد.
وإما أنه من باب الأدب مع الله تعالى في تعليق كل شيء بمشيئة الله، على غرار قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله ﴾ جريا مع العقيدة الإيمانية العامة والأصيلة في دين الله :﴿ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴾.
ومضى شعيب والمؤمنون معه في طريقهم السوي معتمدين على الله، دون أن يعبئوا بما تعرضوا له من المساومة والتهديد والإكراه، متحملين في سبيل نشر الهداية، كل أذى من أهل الغواية، ﴿ وسع ربنا كل شيء علما، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ – ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ – ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ – ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ – ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:ومما يلاحظ في هذا السياق أمران اثنان : أولهما ما قدح به كبار قوم شعيب في الذين آمنوا به من قومه، إذ واجهوهم، مؤكدين لهم بجميع وجوه التأكيد أنهم بسبب اتباع شعيب خاسرون ﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾. وثانيهما ما رد به الحق سبحانه وتعالى عليهم رد صدق وحق، مثبتا لهم ولمن بعدهم أن صفة " الخسران " التي وصفوا بها شعيبا وصحبه إنما كانت في الواقع من نصيب الملأ الكافرين لا من نصيب المؤمنين، وذلك قوله تعالى :﴿ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرون ﴾. إذ كرر كتاب الله نفس الوصف فأطلقه عليهم وألصقه بهم، وفي مثل هذا المقام يصدق المثل العربي الذائع :" وافق شن طبقة " ؛ فما أوفق الكفران بالخسران.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ – ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز : " لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا : " ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة : " ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال : " من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا : " فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ – ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ – ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾ – ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.
في المصحف الكريم
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وفي بداية هذا الربع يشير كتاب الله إلى باطل فرعون وسحرته، وما جاؤوا به من سحر عظيم، طمعا في مال فرعون وزلفى إليه، وإلى أن باطلهم قد زهق أمام الحق الذي أبرزه الله على يد موسى وعصاه ﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين ﴾.
ويحكي كتاب الله هول المفاجأة الكبرى التي فوجئ بها فرعون وملأه عندما سجد السحرة لله، أمام معجزة موسى، وآمنوا برسالته، فاستنكر عليهم فرعون أن يؤمنوا بموسى دون إذن منه، كأن الإيمان عملية مادية يستطيع الضمير لها دفعا، وكأن مفاتيح القلوب في أيدي الطغاة والجبابرة يفتحونها متى شاؤوا ويقفلونها متى شاؤوا ﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾.
واتهم فرعون سحرته بعد إيمانهم بأنهم دبروا مع موسى مؤامرة لقلب نظام الدولة، وإخراج السلطة من يده ويد أعوانه، كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وفي بداية هذا الربع يشير كتاب الله إلى باطل فرعون وسحرته، وما جاؤوا به من سحر عظيم، طمعا في مال فرعون وزلفى إليه، وإلى أن باطلهم قد زهق أمام الحق الذي أبرزه الله على يد موسى وعصاه ﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين ﴾.
ويحكي كتاب الله هول المفاجأة الكبرى التي فوجئ بها فرعون وملأه عندما سجد السحرة لله، أمام معجزة موسى، وآمنوا برسالته، فاستنكر عليهم فرعون أن يؤمنوا بموسى دون إذن منه، كأن الإيمان عملية مادية يستطيع الضمير لها دفعا، وكأن مفاتيح القلوب في أيدي الطغاة والجبابرة يفتحونها متى شاؤوا ويقفلونها متى شاؤوا ﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾.
واتهم فرعون سحرته بعد إيمانهم بأنهم دبروا مع موسى مؤامرة لقلب نظام الدولة، وإخراج السلطة من يده ويد أعوانه، كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾.
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية ﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن – آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها.
ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين ﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾ وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية ﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن – آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها.
ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين ﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾ وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وقول كتاب الله هنا على لسان موسى عليه السلام :﴿ استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ﴾ الآية، يمثل حقيقة دينية، وحقيقة كونية، وسنة إلهية، فالتضحية والصبر، كانا دائما ولا يزالان مفتاح الغلبة والنصر، والاستعانة بالله والاعتماد عليه بعد اتخاذ الأسباب، هما الوسيلة الفعالة للنجاح والتغلب على الصعاب، والأرض ملك لله إنما يعيرها لخلقه للارتفاع والانتفاع، وإنما يستخلف فيها – أعزاء كرماء – أولئك الذين يتقون ولا يفسقون، فإن فسقوا وظلموا وأفسدوا استبدل بهم قوما آخرين ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ثم يعرض علينا كتاب الله صورة من صور التذبذب والتململ والتردد والقلق، التي عرف بها بنو إسرائيل عبر القرون والأجيال، فرغما عن أن موسى عليه السلام نصره الله نصرا مؤزرا على فرعون وسحرته، ورغما عن أنه طالب فرعون بأن يرسل معه بني إسرائيل كما حكى الله عنه، إذ خاطب فرعون قائلا :﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ نجد بني إسرائيل يستثقلون ظل موسى ويتضايقون منه، ولا يخجلون أن يخاطبوه دون أدب ولا لياقة، كما حكى كتاب الله عنهم قائلين :﴿ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ﴾، لكن موسى يكظم غيظه ويرد عليهم ردا هادئا، منبها إلى أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمتحنهم ويختبرهم، ويظهرهم للناس على حقيقتهم، وذلك بمقتضى سننه الثابتة في هذا الكون، فإن أصلحوا كانوا أهلا للاستخلاف بين الناس، وإن أفسدوا أصدر الحق سبحانه وتعالى في شأنهم حكمه العادل بالحجر والإفلاس ﴿ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ويصف لنا كتاب الله نماذج مثيرة من عذابه الأليم الذي ينزله بالأمم، متى أصرت على الضلال والعدوان هي وقادتها في مختلف العصور، من أية سلالة كانت، وإلى أية ملة انتسبت، فيحدثنا عما أنزله الله بفرعون وقومه من أنواع المصائب والمتاعب، التي توالت عليهم دون انقطاع، بحيث لا يكادون يفرغون من واحدة منها حتى يستقبلوا أخرى تكون أدهى وأمر ﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ﴾
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾ وتعني كلمة " السنين " في هذه الآية سنين الجدب والقحط والجوع، وهذا أمر يستغربه كل من يعرف " نيل مصر " حتى قيل فيها إنها " هبة النيل "، وإنها ليست بلد الماء المحدود والزرع القليل.
ومعنى كلمة الطوفان في هذه الآية فيضان النيل وكثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، " والجراد " معروف بأضراره الفادحة وأخطاره البالغة على الزرع والضرع، ومن اللطائف أن شريحا القاضي الشهير سئل عن الجراد فقال : " قبح الله الجرادة، فيها خلقة سبعة جبابرة، رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلها رجل جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب ". وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال :( اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء ).
وتعني كلمة " القمل " الواردة في الآية السوس الذي يخرج من الحنطة وينخرها، وفي عدة تفاسير أنه بسبب ذلك السوس كانت عشرة أجربة لا يبقى منها بعد طحنها إلا ثلاثة أقفزة، إذ لا يبقى فيها من الحنطة إلا أقل القليل، و " الضفادع " معروفة ومشهورة بقفزها ووثبها. وورد في عدة تفاسير أن تلك الضفادع كانت قد ملأت البيوت والأواني والأطعمة. وتعني كلمة " الدم " الدم الرعاف كما قال زيد ابن أسلم، ورواه ابن أبي حاتم.
فهذه جملة المصائب التي نزلت بفرعون وقومه على التتابع والتوالي دون أن يتوبوا من شركهم وكفرهم، ولا أن يتراجعوا عن عتوهم وكبرهم، ثم جاءت القاصمة – قاصمة ظهر فرعون وقومه – فأغرق الله فرعون وجنده، ونصر عبده، وهذه المصائب لا تزال تنزل بمختلف الأمم حتى الآن، ولا يحمي منها إلا التقوى والاستقامة والإيمان.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
لكن بني إسرائيل ما كادوا يفلتون من قبضة فرعون، ببركة موسى الذي جدد عقيدة التوحيد على ملة إبراهيم الخليل عليهما السلام، حتى نفخ فيهم الشيطان من روحه، وأخذوا يلحون على موسى أن يعوضهم عن دين التوحيد الذي دعاهم إليه وأنقذهم باسمه، بدين وثني خاص من نوع الأديان القائمة إذ ذاك في عموم المنطقة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾ فما كان من موسى إلا أن رد عليهم مستنكرا ومحذرا، قال :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ وكلمة " تجهلون " في هذا السياق إما من الجهل ضد العلم، وإما من الجهال بمعنى السفه، على حد قوله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ثم أخذ يؤكد لهم ما ينتظر المشركين من هلاك وما هم عليه من باطل قائلا :﴿ إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعلمون ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وأخيرا ذكرهم موسى بالرسالة التي حملها إليهم إذ جاءهم برسالة التوحيد، وذكرهم بتفضيلهم إن عملوا بها على فرعون وآله، لما كان عليه هو وقومه من الشرك والوثنية، وعدم الاتعاظ بنذر الله المتوالية، وذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله إذ خاطبهم من جديد :﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ﴾. الآية. لكن مواعظ موسى عليه السلام لم تترك في نفوس بني إسرائيل أثرها المرغوب، لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى فقدوا الرشد والصواب، وتوعدهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وأخيرا ذكرهم موسى بالرسالة التي حملها إليهم إذ جاءهم برسالة التوحيد، وذكرهم بتفضيلهم إن عملوا بها على فرعون وآله، لما كان عليه هو وقومه من الشرك والوثنية، وعدم الاتعاظ بنذر الله المتوالية، وذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله إذ خاطبهم من جديد :﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ﴾. الآية. لكن مواعظ موسى عليه السلام لم تترك في نفوس بني إسرائيل أثرها المرغوب، لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى فقدوا الرشد والصواب، وتوعدهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
في المصحف الكريم
تتحدث الآيات الكريمة في بداية هذا الربع، عن الأجل المحدود واليوم الموعود الذي ضربه الله لحضور موسى إلى جبل الطور، وهذا الأجل الذي يمتد أربعين ليلة سيتلقى موسى بعده عن الله كلامه ورسالته، ليصبح بعده " كليم الله ".
ولعل السر في ضرب هذا الأجل، واستغراقه لهذه المدة التي ليست بقصيرة، هو تمكين موسى من التفرغ عن جميع الشواغل، التي تستغرق نشاطه ليل نهار، ولا سيما الشواغل الجديدة التي طرأت عليه منذ جواز بني إسرائيل معه، وإفلاتهم من قبضة فرعون وملإه، وذلك على عهد الأسرة التاسعة عشرة، التي هي آخر أسرة مصرية صميمة كانت على عرش مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي منها انتقل الحكم إلى دول أجنبية صرفة تعاقبت على الحكم فيها، الواحدة بعد الأخرى، إلى أن قامت دولة الإسلام الكبرى. فهذا الأجل ضربه الله لموسى، حتى إذا حل " ميقات ربه " كان موسى مقبلا على الله بكليته، منقطعا إليه وإلى عبادته، واقفا على عتبة بابه، منتظرا لاستمطار سحابه.
وسحاب الخيرلها مطر *** فإذا جاء الإبان تجي
وفي طليعة ما جرى في فترة انتظار موسى لميقات ربه ما قام به من تنظيم مؤقت لشؤونهم مدة غيبته عنهم، كما حكاه عنه كتاب الله قائلا :﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾.
ومن لطائف التفسير المتعلقة بهذا السياق ما علق به القاضي أبو بكر " ابن العربي " على هذه الآية إذ قال : " ضرب الأجل للمواعيد سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال، وإن أول أجل ضربه الله الأيام الستة التي مدها لجميع الخليقة فيها، وقد كان قادرا على أن يجعل ذلك لهم في لحظة واحدة، لأن قوله لشيء إذا أراده أن يقول له : كن فيكون، بيد أنه أراد تعليم الخلق التأني وتقسيم الأوقات، ليكون لكل عمل وقت ".
ونضيف إلى ما قاله التنبيه إلى سنة الاستخلاف الواردة في نفس السياق، فقد سنها موسى عندما استخلف أخاه هارون عنه أثناء غيبته، فبقيت سنة متبعة من بعده، وبرزت أثناء عهد الرسالة المحمدية، في عدة مناسبات، منها مناسبة غزوة تبوك، حيث فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس جيش قوامه ثلاثون ألف مسلم معهم عشرة آلاف من الخيل، وترك على المدينة خليفة من قبله محمد ابن مسلمة الأنصاري، كما حققه الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه " زاد المعاد ".
وما كاد موسى يرى ما أصاب الجبل الشامخ من تصدع وانهيار حتى أغمي عليه في الحين، من شدة فزع المنظر وهول الموقف، وذلك قوله تعالى :﴿ وخر موسى صعقا، فلما أفاق ﴾ – أي من الإغماء الذي أصابه – ﴿ قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾.
غير أن هذه الحادثة الكبرى لم يمر عليها وقت طويل حتى أصبحت لها ذيول في حياة بني إسرائيل، ذلك أن بني إسرائيل لم يزل الشك يراودهم فيما تلقاه موسى من كلام الله ورسالته، فأخذوا يلحون عليه أن يسأل لهم من الله ميقاتا خاصا يحضرونه بأنفسهم، ويشاهدونه إلى جانبه عيانا، فاضطر موسى إلى النزول على رغبتهم، وطلب من الله توقيت ميقات لهم، واختار من بينهم، بوحي من الله، وفدا مؤلفا من سبعين عضوا يعتبرون من خيار خيارهم، لكن لما حل الميقات المعين الذي كانوا ينتظرون فيه بكل إلحاح وعناد أن يروا الله جهرة – حسب تعبيرهم الخاص- أخذهم الحق سبحانه وتعالى أخذا وبيلا، فأخذتهم الرجفة وصعقوا في الحين، وكان ذلك عبرة للناس أجمعين، ولم ينج إلا موسى وحده، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في نهاية هذا الربع - :﴿ واختار موسى قومه، سبعين رجلا لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ الآية. وفي نفس هذا المعنى ورد في سورة البقرة المدنية :﴿ وإذا قلتم يا موسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾.
وها هنا فائدة لا بد من التنبيه إليها. وهي أن التعبير هنا في كتاب الله بهذا النوع من العدد ﴿ ثلاثين ليلة ﴾ و ﴿ أربعين ليلة ﴾ في سياق قوله تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ موافق لطريقة التاريخ المتعارف عند العرب قبل الإسلام وبعده. قال القاضي أبو بكر “ابن العربي” :“التاريخ إنما يكون بالليالي دون الأيام، لأن الليالي أوائل الشهور، وبها كانت الصحابة تخبر عن الأيام، حتى روي عنها أنها كانت تقول : " صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "، والعجم تخالفنا في ذلك فتحسب بالأيام، لأن معولها على الشمس، وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك ".
وقوله تعالى هنا آمرا لنبيه موسى :﴿ فخذها بقوة ﴾ هو من نوع الأوامر الإلهية العامة، الموجهة لجميع المؤمنين، إلى يوم الدين، و " الأخذ بالقوة " معناه امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه بعزم وحزم وحماس وحمية، أي بدون تردد ولا تهاون، وبكل اندفاع واعتزاز، شأن أهل الإيمان الصحيح، والعقيدة الصادقة.
وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ وارد مورد الأمر الأول، لموسى ومن معه، ولكل من جاء بعده، وكلمة الأحسن في قوله ﴿ بأحسنها ﴾ يحملها البعض على كل ما كان أرفق وأيسر، بناء على أن كل ما كان أرفق في الدين فهو أحسن، ويحملها البعض على كل ما كان أحوط وأحذر، بناء على أن كل ما كان أحوط للعبادة فهو أحسن، و " لكل وجهة هو موليها " و " لكل مقام مقال ".
وقوله تعالى :﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾ تهديد ووعيد لكل من تحدى أوامر الله من العباد، أو وقف في وجهها وتصدى لها بالمعارضة والعناد.
ونظرا لما تعودوا عليه في مصر الفرعونية التي كانوا فارقوها منذ عهد قريب من مشاهدة وعبادة المعبودات الوثنية، وفي طليعتها " العجل أبيس " الذي كان عند قدماء المصريين أهم معبوداتهم الحيوانية، باعتباره ممثلا لإلههم " فتاح " على سطح الأرض، فقد فكر بنو إسرائيل في تقليدهم، واتخذوا لهم صنما من الذهب على صورة العجل الذي طالما رأوه يعبد من دون الله. وليعطوه مظهر العجل الحقيقي حتى يتم التشابه بين عجلهم وعجل قدماء المصريين، صنعوه على هيئة خاصة تجعل له خوارا كخوار العجول الطبيعية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ظلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ ويتصل بهذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ وقوله تعالى أيضا :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ الآية.
وتذكر كتب التاريخ القديم أن قدماء المصريين كانوا يختارون لعبادتهم عجلا أسود الجلد، بشرط أن تكون على جبهته غرة مثلثة الشكل، وأن اليوم الذي كانوا يجدون فيه عجلا بهذه الأوصاف يعتبر يوم عيد عام، وكما أن يوم موته يكون يوم حداد عام، ثم يستمر حدادهم إلى أن يجدوا عجلا آخر على هيئته، وكانوا يحتفلون بدفنه احتفالا عظيما، ولهذه العجول مقبرة ضخمة بسقارة تعرف باسم السرابيوم.
ونظرا لما تعودوا عليه في مصر الفرعونية التي كانوا فارقوها منذ عهد قريب من مشاهدة وعبادة المعبودات الوثنية، وفي طليعتها " العجل أبيس " الذي كان عند قدماء المصريين أهم معبوداتهم الحيوانية، باعتباره ممثلا لإلههم " فتاح " على سطح الأرض، فقد فكر بنو إسرائيل في تقليدهم، واتخذوا لهم صنما من الذهب على صورة العجل الذي طالما رأوه يعبد من دون الله. وليعطوه مظهر العجل الحقيقي حتى يتم التشابه بين عجلهم وعجل قدماء المصريين، صنعوه على هيئة خاصة تجعل له خوارا كخوار العجول الطبيعية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ظلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ ويتصل بهذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ وقوله تعالى أيضا :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ الآية.
وتذكر كتب التاريخ القديم أن قدماء المصريين كانوا يختارون لعبادتهم عجلا أسود الجلد، بشرط أن تكون على جبهته غرة مثلثة الشكل، وأن اليوم الذي كانوا يجدون فيه عجلا بهذه الأوصاف يعتبر يوم عيد عام، وكما أن يوم موته يكون يوم حداد عام، ثم يستمر حدادهم إلى أن يجدوا عجلا آخر على هيئته، وكانوا يحتفلون بدفنه احتفالا عظيما، ولهذه العجول مقبرة ضخمة بسقارة تعرف باسم السرابيوم.
وفي هذا الخطاب المؤثر وصف هارون بني إسرائيل بوصفين اثنين كل واحد منهما أخطر من الآخر، وصف " الأعداء " ووصف " الظالمين " ومن كان عدوا لله ظالما لربه، إذ أشرك به ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ وعدوا لرسوله ظالما له، إذ خان رسوله وحاول قتل خليفته عند تغيبه، ماذا يرجى منه من استقامة وصلاح، وماذا يرجى له من فوز وفلاح. على أن موسى نفسه وصفهم أيضا بوصف " السفهاء " إذ خاطب ربه قائلا في معرض توبيخهم، والتبرؤ من مخالفتهم :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ ومن كان ذا سفاهة بشهادة نبيه على سفهه كيف يتأتى منه الرشد، ويزول عنه الطيش، ويتصرف تصرف العقلاء ؟ ﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾.
وفي هذا الخطاب المؤثر وصف هارون بني إسرائيل بوصفين اثنين كل واحد منهما أخطر من الآخر، وصف " الأعداء " ووصف " الظالمين " ومن كان عدوا لله ظالما لربه، إذ أشرك به ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ وعدوا لرسوله ظالما له، إذ خان رسوله وحاول قتل خليفته عند تغيبه، ماذا يرجى منه من استقامة وصلاح، وماذا يرجى له من فوز وفلاح. على أن موسى نفسه وصفهم أيضا بوصف " السفهاء " إذ خاطب ربه قائلا في معرض توبيخهم، والتبرؤ من مخالفتهم :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ ومن كان ذا سفاهة بشهادة نبيه على سفهه كيف يتأتى منه الرشد، ويزول عنه الطيش، ويتصرف تصرف العقلاء ؟ ﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾.
في المصحف الكريم
قوله تعالى في بداية هذا الربع :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ﴾ جزء من دعاء موسى عليه السلام، وهو تتمة لدعائه الوارد في نهاية الربع الماضي :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ وهذا الدعاء من حق كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله وكتبه أن يدعو به لنفسه ولكافة المؤمنين.
وبعد الانتهاء من هذا الدعاء الشامل لخير الدنيا وخير الآخرة، يبدأ خطاب إلهي عام في موضوع العذاب والثواب، والنعمة والنقمة، ومضمون هذا الخطاب أن رحمة الله العامة تسع كل شيء مما يشاء، وأن عذابه يصيب به من يشاء، وإذا كانت الرحمة شاملة للنبات والحيوان والإنسان وكافة المخلوقات، فإن العذاب إنما يكون بالمرصاد لأعداء الله المتمردين على أوامره، من خصوم النبوات والرسالات، وذلك قوله تعالى :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ ولا يفهمن أحدا من هذه الآية أن الله يعذب من يشاء من عباده دون مبرر للعذاب، فإرادة الله المطلقة إرادة حكيمة، ومشيئته الحرة من كل قيد مشيئة عادلة، بمقتضى قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾، وقوله تعالى في آية أخرى ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة }.
ثم نبه كتاب الله إلى أن هناك رحمة خاصة زائدة على الرحمة العامة التي تشمل البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والنبات والحيوان، وجميع المخلوقات المنتشرة في الأكوان، وهذه الرحمة الخاصة اقتضت حكمته واستوجب عدله أن تكون قاصرة على خير أمة أخرجت للناس، متى حافظت على خيريتها ولم تتنازل عن هويتها، وذلك ما وعدها به الحق سبحانه وتعالى وعد حق وصدق إذ قال تعالى :﴿ فسأكتبها ﴾ أي الرحمة الخاصة، وتندرج تحتها عدة نعم جليلة ودقيقة، في الدنيا والآخرة :﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
وهذه الآيات الكريمة تتناول صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي يشترك فيها مع غيره من الأنبياء والرسل السابقين :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ كما تبرز أهم الصفات، التي ميزته أولا ﴿ النبي الأمي ﴾ والتي ميزت رسالته عن بقية الرسالات ثانيا :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال ﴾ التي كانت شائعة قبل الإسلام، بمعنى أنه جاء بدين طبعه الله بطابع السماحة واليسر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ) وقال صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ).
وتتناول نفس الآيات صفات أتباع الرسول عليه السلام من صالحي المؤمنين، فهم أهل إيمان وإحسان، وتقوى وإتباع، وهم أهل وفاء وثبات على العهد الذي عاهدوا الله عليه، من نصرة رسوله، وبذل الأرواح في سبيله في كافة الظروف وجميع البقاع :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول ﴾ – ﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
ومما تنبغي ملاحظته هنا ما كررته الآية الكريمة هنا من صفة الإتباع التي هي شارة التكريم والتشريف، وموضع الأفضلية والخيرية للأتباع، فقد كررتها الآية مرتين، بصيغة المضارع الدالة على تجدد العمل حينا بعد حين :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ﴾ وبصيغة الماضي الدالة على وقوع الإتباع فعلا، لا قولا، وعملا لا ادعاء، ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ وكان مسك الختام في هذا المقام، تلك الإشارة الكريمة ذات المغزى البعيد، والطالع السعيد، ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي هم الفائزون لا غيرهم، وغيرهم خاسرون حتما، دنيا وأخرى.
وفي قوله تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾ نقطة مهمة يجب الوقوف عندها، ذلك أن سورة الأعراف سورة ( مكية ) و ( الزكاة ) بالمعنى الذي تعرف به بين المسلمين الآن فريضة ( مدنية )، فما معنى ( الزكاة ) إذن في سورة الأعراف وما ماثلها من السور المكية، مثل سورة فصلت التي ورد فيها في سياق ذم المشركين قوله تعالى :﴿ وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ ؟.
والجواب الذي أجاب به المحققون عن مثل هذا السؤال هو أن اسم ( الزكاة ) أطلق أولا بصفة إجمالية لم يكن فيها تقرير لمقادير خاصة، ولا تعيين لأنصبة معينة، ولما كثر عدد المسلمين بمكة نوعا ما فرض الله على أهل الأموال أن يعطوا للمحتاجين صدقة من زرعهم ونخلهم وثمارهم، بقوله تعالى في سورة الأنعام المكية، وهي من آخر ما نزل بمكة :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعندما تألفت جماعة المسلمين بالمدينة من المهاجرين والأنصار قام الأنصار بمواساة المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا يعتبرون تلك العطايا واجبة عليهم، لأن القرآن كرر الأمر بها، وسماها ( زكاة ) وقرنها بالصلاة، وهكذا كانت الزكاة في أول الإسلام مفروضة على المسلمين بوجه إجمالي غير مفصل، وكانت مقاديرها ومواقيتها موكولة إلى أريحية المؤمنين أنفسهم وتقديرهم للظروف دون أي تحديد، اعتمادا على الوازع الديني المجرد، الذي يحث على التقرب إلى الله بكل ما فيه رضاه. وإنما فرضت الزكاة المعينة المحددة الأنواع والأنصبة والمواقيت في سنة اثنتين أو ثلاث بعد الهجرة إلى المدينة، فكان منها زكاة الأنعام، وزكاة الثمار، وزكاة النقدين، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوبها والحكمة في فرضها في غير ما حديث، ومن ذلك قوله لمعاذ وهو يودعه حين بعثه إلى اليمن :( فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). وهكذا مرت الزكاة بعدة مراحل، ممن فصل القول فيها الشيخ محمد الطاهر " ابن عاشور " في كتابه " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام "، وهو في ذلك متفق معنى وروحا مع ما قرره الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه " الموافقات " حول التشريع المكي والتشريع المدني وما بينهما من علاقة وتدرج. ثم خاطب الحق سبحانه وتعالى خاتم أنبيائه ورسله مكلفا إياه أن يبلغ الرسالة التي تلقاها من عند الله إلى جميع الناس، فهو رسول الله إلى كافة السلالات والأجناس، وهو رسول الله إلى من عاصره وإلى كل من يأتي بعده إلى يوم الدين :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾. كما كلفه بأن يدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله ورسوله، وأن يأمرهم بإتباعه إن أرادوا الهدى والبعد عن الضلال :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ فالسر كله في الإتباع " إتباع الهدى المحمدي " والشر كله في الابتداع " ابتداع الضلالات والبدع ".
في المصحف الكريم
قوله تعالى في بداية هذا الربع :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ﴾ جزء من دعاء موسى عليه السلام، وهو تتمة لدعائه الوارد في نهاية الربع الماضي :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ وهذا الدعاء من حق كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله وكتبه أن يدعو به لنفسه ولكافة المؤمنين.
وبعد الانتهاء من هذا الدعاء الشامل لخير الدنيا وخير الآخرة، يبدأ خطاب إلهي عام في موضوع العذاب والثواب، والنعمة والنقمة، ومضمون هذا الخطاب أن رحمة الله العامة تسع كل شيء مما يشاء، وأن عذابه يصيب به من يشاء، وإذا كانت الرحمة شاملة للنبات والحيوان والإنسان وكافة المخلوقات، فإن العذاب إنما يكون بالمرصاد لأعداء الله المتمردين على أوامره، من خصوم النبوات والرسالات، وذلك قوله تعالى :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ ولا يفهمن أحدا من هذه الآية أن الله يعذب من يشاء من عباده دون مبرر للعذاب، فإرادة الله المطلقة إرادة حكيمة، ومشيئته الحرة من كل قيد مشيئة عادلة، بمقتضى قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾، وقوله تعالى في آية أخرى ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة }.
ثم نبه كتاب الله إلى أن هناك رحمة خاصة زائدة على الرحمة العامة التي تشمل البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والنبات والحيوان، وجميع المخلوقات المنتشرة في الأكوان، وهذه الرحمة الخاصة اقتضت حكمته واستوجب عدله أن تكون قاصرة على خير أمة أخرجت للناس، متى حافظت على خيريتها ولم تتنازل عن هويتها، وذلك ما وعدها به الحق سبحانه وتعالى وعد حق وصدق إذ قال تعالى :﴿ فسأكتبها ﴾ أي الرحمة الخاصة، وتندرج تحتها عدة نعم جليلة ودقيقة، في الدنيا والآخرة :﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
وهذه الآيات الكريمة تتناول صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي يشترك فيها مع غيره من الأنبياء والرسل السابقين :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ كما تبرز أهم الصفات، التي ميزته أولا ﴿ النبي الأمي ﴾ والتي ميزت رسالته عن بقية الرسالات ثانيا :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال ﴾ التي كانت شائعة قبل الإسلام، بمعنى أنه جاء بدين طبعه الله بطابع السماحة واليسر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ) وقال صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ).
وتتناول نفس الآيات صفات أتباع الرسول عليه السلام من صالحي المؤمنين، فهم أهل إيمان وإحسان، وتقوى وإتباع، وهم أهل وفاء وثبات على العهد الذي عاهدوا الله عليه، من نصرة رسوله، وبذل الأرواح في سبيله في كافة الظروف وجميع البقاع :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول ﴾ – ﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
ومما تنبغي ملاحظته هنا ما كررته الآية الكريمة هنا من صفة الإتباع التي هي شارة التكريم والتشريف، وموضع الأفضلية والخيرية للأتباع، فقد كررتها الآية مرتين، بصيغة المضارع الدالة على تجدد العمل حينا بعد حين :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ﴾ وبصيغة الماضي الدالة على وقوع الإتباع فعلا، لا قولا، وعملا لا ادعاء، ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ وكان مسك الختام في هذا المقام، تلك الإشارة الكريمة ذات المغزى البعيد، والطالع السعيد، ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي هم الفائزون لا غيرهم، وغيرهم خاسرون حتما، دنيا وأخرى.
وفي قوله تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾ نقطة مهمة يجب الوقوف عندها، ذلك أن سورة الأعراف سورة ( مكية ) و ( الزكاة ) بالمعنى الذي تعرف به بين المسلمين الآن فريضة ( مدنية )، فما معنى ( الزكاة ) إذن في سورة الأعراف وما ماثلها من السور المكية، مثل سورة فصلت التي ورد فيها في سياق ذم المشركين قوله تعالى :﴿ وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ ؟.
والجواب الذي أجاب به المحققون عن مثل هذا السؤال هو أن اسم ( الزكاة ) أطلق أولا بصفة إجمالية لم يكن فيها تقرير لمقادير خاصة، ولا تعيين لأنصبة معينة، ولما كثر عدد المسلمين بمكة نوعا ما فرض الله على أهل الأموال أن يعطوا للمحتاجين صدقة من زرعهم ونخلهم وثمارهم، بقوله تعالى في سورة الأنعام المكية، وهي من آخر ما نزل بمكة :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعندما تألفت جماعة المسلمين بالمدينة من المهاجرين والأنصار قام الأنصار بمواساة المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا يعتبرون تلك العطايا واجبة عليهم، لأن القرآن كرر الأمر بها، وسماها ( زكاة ) وقرنها بالصلاة، وهكذا كانت الزكاة في أول الإسلام مفروضة على المسلمين بوجه إجمالي غير مفصل، وكانت مقاديرها ومواقيتها موكولة إلى أريحية المؤمنين أنفسهم وتقديرهم للظروف دون أي تحديد، اعتمادا على الوازع الديني المجرد، الذي يحث على التقرب إلى الله بكل ما فيه رضاه. وإنما فرضت الزكاة المعينة المحددة الأنواع والأنصبة والمواقيت في سنة اثنتين أو ثلاث بعد الهجرة إلى المدينة، فكان منها زكاة الأنعام، وزكاة الثمار، وزكاة النقدين، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوبها والحكمة في فرضها في غير ما حديث، ومن ذلك قوله لمعاذ وهو يودعه حين بعثه إلى اليمن :( فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). وهكذا مرت الزكاة بعدة مراحل، ممن فصل القول فيها الشيخ محمد الطاهر " ابن عاشور " في كتابه " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام "، وهو في ذلك متفق معنى وروحا مع ما قرره الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه " الموافقات " حول التشريع المكي والتشريع المدني وما بينهما من علاقة وتدرج. ثم خاطب الحق سبحانه وتعالى خاتم أنبيائه ورسله مكلفا إياه أن يبلغ الرسالة التي تلقاها من عند الله إلى جميع الناس، فهو رسول الله إلى كافة السلالات والأجناس، وهو رسول الله إلى من عاصره وإلى كل من يأتي بعده إلى يوم الدين :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾. كما كلفه بأن يدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله ورسوله، وأن يأمرهم بإتباعه إن أرادوا الهدى والبعد عن الضلال :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ فالسر كله في الإتباع " إتباع الهدى المحمدي " والشر كله في الابتداع " ابتداع الضلالات والبدع ".
في المصحف الكريم
أول آية في هذا الربع، هي آخر آية من قصة بني إسرائيل وردت في سورة الأعراف، وسبق في نهاية الربع الماضي الحديث عن " ميثاق الكتاب " الذي أخذه الله عليهم كما أخذه من بعد على غيرهم :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ﴾.
وفي بداية هذا الربع أشار كتاب الله على سبيل التذكير إلى الظرف الذي أخذ عليهم فيه ذلك الميثاق، وهو ظرف لا ينسى، إذ تمت فيه إحدى معجزات موسى عليه السلام، ذلك أن الله أوحى إلى الجبل، فانقلع وارتفع في السماء، حتى كأنه مظلة تظلهم فوق رؤوسهم، فلما رأوا الجبل على تلك الحالة قال لهم موسى عليه السلام ألا ترون ما يقول ربي عز وجل :﴿ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل ﴾، وذلك ليقروا بميثاق الكتاب، ويحسبوا له كل حساب، فلم يسعهم حينئذ إلا القبول بعد التردد، والإقرار بعد التقاعس، نزولا على حكم هذه المعجزة الخارقة للعادة، وإلى المعنى الرئيسي الذي هو محور هذه القصة تشير الآية الكريمة بإيجاز :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ أي رفعناه فوق رؤوسهم ﴿ كأنه ظلة ﴾ من الظل، وجمعها ظلل ﴿ وظنوا أنه واقع بهم ﴾ أي ساقط عليهم ﴿ خذوا ما آتاكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾.
وقوله تعالى هنا :﴿ خذوا ما آتاكم بقوة ﴾الآية، أمر إلهي موجه رأسا لبني إسرائيل، على غرار الأمر الإلهي الموجه إلى موسى نفسه، ﴿ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾، وقد سبق في الربع الثالث من الحزب الماضي، والمراد به أن يأخذوا ميثاق الكتاب بجد وحزم وعزم وامتثال كامل، وقد تناول كتاب الله نفس القصة أيضا في سورة البقرة المدنية، حيث قال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون، ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ الآية. كما تناولها في سورة النساء المدنية أيضا، حيث قال :﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾. ولفظ الطور الوارد في سورة البقرة و النساء المدنيتين المراد به " الجبل " كما ورد هنا في سورة الأعراف :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ إذ القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد نص على هذا التفسير ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع ابن أنس وغيرهم من مفسري السلف كما نقله ابن كثير.
وقد أشار كتاب الله في هذا السياق، إلى أن الحكمة الإلهية في المبادرة في أخذ هذا الميثاق هي قطع كل عذر لمن نكث بعد ذلك بالعهد، وإسقاط كل حجة لمن لم يبر بالوعد، مصداقا لقوله تعالى :﴿ ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ وكشف كتاب الله عما قد ينتحلونه من الأعذار لشركهم وكفرهم :﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.
وقد أشار كتاب الله في هذا السياق، إلى أن الحكمة الإلهية في المبادرة في أخذ هذا الميثاق هي قطع كل عذر لمن نكث بعد ذلك بالعهد، وإسقاط كل حجة لمن لم يبر بالوعد، مصداقا لقوله تعالى :﴿ ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ وكشف كتاب الله عما قد ينتحلونه من الأعذار لشركهم وكفرهم :﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.
روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم – أي صرفتهم عنه- وحرمت عليهم ما أحللت لهم ). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) الحديث.
ثم عقب كتاب الله على ما وصف به المذبذبين الذين تعرضوا للسلب بعد العطاء من وصف مثير فقال تعالى :﴿ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾.
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، يتلقى خاتم الأنبياء والمرسلين من رب العالمين، أمرا إلهيا بقصد التعليم والتلقين لجميع المؤمنين، وهذا الأمر يرمي إلى إزالة كل شك أو ريب، في أن الله وحده هو النافع الضار، والمنفرد بالتصرف المطلق في خلقه دون غيره، ولو كان هذا الغير نبيا أو رسولا، ولو كان هذا الغير خاتم الأنبياء والمرسلين، ويتضمن هذا الأمر تعريف الناس أجمعين بأن الرسول لا يملك حتى لنفسه نفعا ولا ضرا، رغما عن كونه يحمل شارة الرسالة، المؤذنة باصطفائه واختياره على جميع الخلق، ورغما عن كونه في أعلى درجات القرب من الله والحصول على رضاه، وإذا كان الرسول الكريم في منطق القرآن السليم، يعلن عن نفسه، بأمر من ربه، أنه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا، فمن باب أولى وأحرى أن يكون إعلانه عن هذه الحقيقة شاملا لغيره من بقية الناس. وهذه تربية من الله لعباده، وإرشاد لهم بهذا الأسلوب المباشر، حتى لا تختلط في أذهانهم ولا في عقائدهم خصائص الألوهية بخصائص النبوة.
وتأكيدا لنفس المعنى مضى الخطاب الإلهي يلقن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ماذا ينبغي أن يعلم لأمته حتى لا تضل سواء السبيل، فأثبت بأسلوبه الخاص أن علم الغيب بالأصالة إنما هو من اختصاص علام الغيوب وحده :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾، لكن يحدث أحيانا أن يتكرم الحق سبحانه وتعالى، ويظهر على شيء من غيبه بعضا من خواص خلقه، وذلك لحكمة إلهية، وهذا لا يعدو أن يكون " منحة ربانية " لهم في بعض الظروف، مصداقا لقوله تعالى في سورة الجن المكية :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول ﴾.
وأوضح كتاب الله هنا فيما لقنه لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الرسول لو كان يعلم الغيب فعلا لانتفع بعلم الغيب فيما يتناوله من شؤون، ولتفادى بفضله كثيرا من الأحداث والمفاجآت، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء ).
ومن التفاسير التي أوردها ابن جرير الطبري لهذه الآية :( لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة، ولوقت الغلاء من وقت الرخص، ولاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون ). وقال القاضي عبد الجبار : " المراد لو كنت أعلم الغيب وقت خروجي من الدنيا لاستكثرت من الخير والطاعة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف قدر أجله، ولو عرفه لزاد في الطاعات أضعافا، وليس المراد لاستكثرت من الخير فيما يتصل بلذات الدنيا، وقد يحتمل : لاستكثرت من الخير في دفع المضار عن نفسي والمؤمنين ".
ثم أكد كتاب الله على لسان رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم أن اختصاص الرسالة على وجه الأصالة لا يتجاوز البشارة والنذارة، فهو " بشير ونذير " للناس أجمعين، ولاسيما للمؤمنين الذين هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وذلك قوله تعالى بصيغة الحصر :﴿ إن أنا إلا نذير، وبشير لقوم يؤمنون ﴾.
وإلى وصف هذه الحالة وما ماثلها يشير قوله تعالى هنا :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ﴾ والتغشي هنا كناية عن المباشرة، وهو تعبير منسجم مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي صارت ذات ثقل بحملها :﴿ دعوا الله ربهما ﴾ أي الزوج والزوجة ﴿ لئن- أتيتنا صالحا ﴾ أي لئن أعطيتنا بشرا سويا ووليدا غير مشوه ﴿ لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا ﴾ أي أعطاهما الله مولودا سليما كما طلبا ﴿ جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ أي نسيا الله تعالى، ونسبا نجاح الحمل ونجاح الولادة إلى غير الله من الأصنام والأوثان، أو إلى غير الله من أهل الصلاح المشهورين بين أهل الملل والأديان :﴿ فتعالى الله عما يشركون، أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾. ويتصل بهذا الموضوع قوله تعالى في هذه السورة :﴿ ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين ﴾، وقوله تعالى في سورة لقمان :﴿ هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين ﴾.
وإلى وصف هذه الحالة وما ماثلها يشير قوله تعالى هنا :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ﴾ والتغشي هنا كناية عن المباشرة، وهو تعبير منسجم مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي صارت ذات ثقل بحملها :﴿ دعوا الله ربهما ﴾ أي الزوج والزوجة ﴿ لئن- أتيتنا صالحا ﴾ أي لئن أعطيتنا بشرا سويا ووليدا غير مشوه ﴿ لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا ﴾ أي أعطاهما الله مولودا سليما كما طلبا ﴿ جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ أي نسيا الله تعالى، ونسبا نجاح الحمل ونجاح الولادة إلى غير الله من الأصنام والأوثان، أو إلى غير الله من أهل الصلاح المشهورين بين أهل الملل والأديان :﴿ فتعالى الله عما يشركون، أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾. ويتصل بهذا الموضوع قوله تعالى في هذه السورة :﴿ ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين ﴾، وقوله تعالى في سورة لقمان :﴿ هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين ﴾.
قال قتادة : " هذه أخلاق أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها " وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " قال علماؤنا هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوضحتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة. فقوله تعالى :﴿ خذ العفو ﴾ تولى بالبيان جانب اللين ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف، وقوله تعالى، ﴿ وامر بالعرف ﴾ تناول جانب المأمورات والمنهيات ؛ وأنهما ما عرف حكمه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه. وقوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ تناول جانب الصفح بالصبر، الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره. ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا ".
وعلى عكس ما فهم بعض المتأخرين من كلمة " العرف " الواردة هنا، فحملها على الأعراف والعادات، نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " وغيره من المفسرين والفقهاء إلى أن المراد بالعرف في هذا السياق هو " المعروف من الدين، المعلوم من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، المتفق عليه في كل شريعة ". وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامر ربه حق الامتثال، وطبقها في حياته وسلوكه على التمام والكمال، ثم بسط القاضي أبو بكر " ابن العربي " القول في تفسير هذه الآية وتحليلها فقال : " أما العفو فإنه عام في متناولاته، ويصح أن يراد به : خذ ما خف وسهل مما تعطى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من الصدقة التمرة والقبضة والحبة والدرهم والسمل " الثوب البالي " ولا يلمز شيئا من ذلك ولا يعيبه، ولقد كان يسقط من الحقوق ما يقبل الإسقاط، حتى قالت عائشة في الحديث الصحيح ( ما انتقم رسول الله لنفسه قط ).
" وأما الاحتمال، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يصبر على الأذى ويحتمل الجفاء، حتى قال صلى الله عليه وسلم :( يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
" وأما مخالقة الناس وملاطفتهم فقد كان أقدر الخلق عليها وأولاهم بها : فإنه كان صلى الله عليه وسلم يلقى كل أحد بما يليق به، من شيخ وعجوز، صغير وكبير، وبدوي وحضري، وعالم وجاهل، ولقد كانت المرأة توقفه في السكة من سكك المدينة فيقف لها، ولقد كان يقول لأخ صغير لأنس : يا أبا عمير ما فعل النغير، متلطفا ومؤنسا " والنغير تصغيرالنغر " وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار. ولقد كان يكلم الناس بلغاتهم " أي بلهجتهم " تأنيسا لهم وتطييبا لخواطرهم " كلام ابن العربي ".
وأصل " النزغ " الفساد، إما بالغضب أو بغيره، و " العياذ بالله " هو الاستجارة به من الشر، والالتجاء والاستناد إلى حمايته سبحانه، قال ابن جرير في تفسير هذه الآية :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ أي وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل، أو يحملك على مجازاته ﴿ فاستعذ بالله ﴾ أي فاستجر بالله من نزغه :﴿ إنه سميع عليم ﴾ أي ﴿ سميع ﴾ لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه، وسميع لغير ذلك من كلام خلقه، إذ لا يخفى عليه شيء، و﴿ عليم ﴾ بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وعليم بغير ذلك من أمور خلقه.
وقال القاضي عبد الجبار : " معنى قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ التحرز من وسوسة الشيطان، لأن الشيطان لا يتمكن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان الخطاب هنا بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره "، أي أن يكون الخطاب الموجه ظاهرا في هذه الآية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، موجها في الحقيقة عن طريقه إلى أمته، فهي المقصودة به بالذات، حتى تتغلب على ما للشيطان من وساوس وهمزات.