تفسير سورة الأعراف

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (هذا) ﴿ كِتَابٌ ﴾ قدره إلى أن كتاب خبر لمحذوف، واسم الإشارة عائد على القرآن بمعنى القدر الذي نزل منه، وجملة: ﴿ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ نعت لكتاب قصد به تشريف النازل والمنزل عليه. قوله: ﴿ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾ لا ناهية، و ﴿ يَكُنْ ﴾ مجزوم بها، و ﴿ فِي صَدْرِكَ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ حَرَجٌ ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿ مِّنْهُ ﴾ صفة لحرج، وهو نهي عن المسبب، وفي الحقيقة النهي عن أسباب الحرج، والمعنى: لا تتعاط أسباباً توجب الحرج. قوله: قوله: (أن تبلغه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي من تبليغه، ويصح أن الضمير عائد على المنزل أو الإنزال أو الإنذار. قوله: ﴿ لِتُنذِرَ ﴾ من الإنذار، وهو التخويف من عذاب الله بسبب مخالفته. قوله: (متعلق بأنزل) أي واللام للتعليل، فهو مفعول لأجله، وإنما جر باللام لفقد بعض الشروط، لأنه اختلف مع عامله في الزمان والفاعل، ولأن زمن الإنزال غير زمن الإنذار، فاعل الإنزال: الله تعالى، وفاعل الإنذار: النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ إما في محل نصب عطف على تنذر، أو في محل رفع خبر لمحذوف تقديره هو ذكرى، أو في محل عطف على المصدر المنسبك من أن المقدرة بعد اللام والفعل، والتقدير أنزل للإنذار والتذكير. ولما كان النبي مكلفاً بالتبليغ للكفار، وإن لم يتعظوا به، أسند الإنذار له، ولما كانت الموعظة والتذكر قائمة بالمؤمنين عند سماعه، أسندت لهم، فالواعظ للكفار من غيرهم، والواعظ للمؤمنين من أنفسهم، وحيث كان القرآن منزلاً لإنذار الكفار واتعاظ المؤمنين، فلا يحل إخراجه عما أنزل له، كأنه يقرأه الشخص في الطرقات لطلب الدنيا، أو ليتغنى به حيث يكون المقصود من القرآن الدنيا أو التلذذ بالصوت الحسن كما يتلذذ بالغناء، فإن ذلك من الضلال المبين الموجب للعقوبة.
قوله: ﴿ ٱتَّبِعُواْ ﴾ أمر لجميع المكلفين أو للكافرين. قوله: ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ إما متعلق بأنزل أو بمحذوف حال من الموصول. قوله: ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ إما متعلق بقوله: ﴿ لاَ تَتَّبِعُواْ ﴾، والمعنى لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين أو الكهان، أو حال من ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾، لأنه نعت نكرة قدم عليها، والمعنى لا تتولوا من دونه أحداً من شياطين افنس والجن، ليحملوكم على الأهواء والبدع. قوله: (بالتاء) أي مع تشديد الذال بعدها، وقوله: (والياء) أي قبل التاء مع تخفيف الذال، وقوله: (وفيه إدغام التاء) راجع إلى القراءة الأولى، وقوله: (وفي قراءة بسكونها) صوابه بتخفيفها وفيه حذف إحدى التاءين فالقراءات ثلاث، وكلها سبعية. قوله: (وما زائدة لتأكيد القلة) أي وقليلاً نعت مصدر محذوف، أي تذكراً قليلاً أو نعت ظرف زمان محذوف، أي زماناً قليلاً، والمصدر أو الظرف منصوب بالفعل بعده. قوله: ﴿ وَكَم ﴾ (خبرية) أي بمعنى كثيراً، ولم ترد في القرآن إلا هكذا، ويجب لها الصدارة لكونها على صورة الاستفهامية. قوله: (مفعول) أي لفعل محذوف يفسره قوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ من باب الاشتغال، والتقدير وكم من قرية أهلكناها، ويصح أن يكون كم مبتدأ، وجملة ﴿ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ خبر و ﴿ مِّن قَرْيَةٍ ﴾ تمييز لكم على كل حال. قوله: (أريد أهلها) أي فأطلق المحل، وأريد الحال فيه، فهو مجاز مرسل. قوله: (أردنا إهلاكها) جواب عما يقال إن الإهلاك مسبب عن البأس الذي هو العذاب، وظاهر الآية يقتضي أن العذاب مسبب عن الإهلاك، فأجاب بأن الكلام فيه حذف. قوله: ﴿ بَيَاتاً ﴾ يحتمل أنه حال، والتقدير جاءنا بأسنا حال كونه بياناً أي في البيات بمعنى الليل، أو ظرف وهو المتبادر من عبارة المفسر. قوله: ﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ أو للتنويع، والجملة حالية معطوفة على ما قبلها، والواو مقدرة وإنما حذفت لدفع الثقل باجتماع حرفي عطف في الصورة، وقائلون من قال يقيل، كباع يبيع، فألفه منقلبة عن ياء، بخلاف قال من القول، فهي منقلبة عن واو. قوله: (والقيلولة استراحة نصف النهار) هذا قول ثان في تفسيرها فتحصل أن القيلولة فيها قولان: النوم وقت الظهر، أو الاستراحة في وسط النهار، وإن لم يكن معها نوم. قوله: (أي مرة جاءها ليلاً) الخ هذا تفسير مراد للآية، وقوله: (جاءها) أي جاء بعضها ليلاً كقوم لوط، وقوله: (ومرة نهاراً) أي كقوم شعيب.
قوله: ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾ أي استغاثتهم وتضرعهم، أو المراد قولهم على سبيل التحسر والتندم. قوله: ﴿ إِذْ جَآءَهُمْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ دَعْوَاهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ ﴾ أي إلا قولهم: ﴿ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ والمعنى أنهم لم يقدروا على دفع العذاب عنهم، وإنما ذلك تحسر وندامة طمعاً في الخلاص. قوله: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، والتقدير والله لنسألن، وهذا إشارة لعذابهم في الآخرة، إثر بيان عذابهم في الدنيا، والمقصود من سؤال الأمم زيادة الأمم الافتضاح لهم، ومن سؤال الرسل: رفع قدرهم، وزيادة شرفهم، وتبكيت الأمم حيث كذبوهم. قوله: ﴿ بِعِلْمٍ ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل نقصن، والتقدير فلنقصن عليهم حال كوننا مصحوبين بعلم، وهذا حيث سكتت الرسل عن الجواب، (وقالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب). قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ توكيد لما قبله. قوله: (فيما عملوا) في بمعنى عن، أي عملوا. قوله: ﴿ وَٱلْوَزْنُ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ خبره، و ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ نعته، وهذا هو إعراب المفسر، ويصح أن يكون ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ خبر المبتدأ، و ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ ظرف منصوب على الظرفية، وهذا الوزن بعد اخذ الصحف والحسابـ ثم بعد الوزن يكون المرور على الصراط، وهو مختلف باختلاف أحوال العباد. قوله: (للأعمال أو لصحائفها) هذا إشارة لقولين: فعلى الأول تصور الأعمال الصالحة بصورة نيرة حسنة وتوضع في كفة الحسنات، وتصور الأعمال السيئة بصورة مظلمة قبيحة وتوضع في كفه السيئات، وبقي قول ثالث: وهو أن الوزن للذوات لما في الحديث: " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ". قوله: (وكفتان) بكسر الكاف وفتحها في المثنى والمفرد والجمع، كفف بالكسر لا غير. قوله: ﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ الخ، اعلم أن الناس في القيامة ثلاث فرق، متقون لا كبائر لهم، ومخلطون، وكفار، فأما المتقون فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم إن كانت لهم في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً، وتكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر، ويؤمر بهم إلى الجنة، وينعم كل على حسب أعماله. وأما الكفار فإنهم يوضع كفرهم في الكفة المظلمة، ولا توجد لهم حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة، فيأمر الله بهم إلى النار، وهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن صراحة في آيات الوزن. وأما الذين خلطوا، فقد ثبت في السنة أن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بأقل قليل أو ساوت أدخلوا الجنة، وإن كانت السيئات أثقل ولو بأقل قليل أدخلوا النار إلا أن يعفو الله، هذا إن كانت كبائرهم فيما بينهم وبين الله. وأما إن كانت عليهم تبعات، وكانت لهم حسنات كثيرة، فإنه يؤخذ من حسناتهم فيرد على المظلوم، وإن لم يكن لهم حسنات أخذ من السيئات المظلوم، فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه، ثم يعذب إلا أن يرضي الله عنه خصماءه. قوله: (بالحسنات) أي بسبب ثقلها في الميزان، ورجحانها على السيئات. قوله: (بالسيئات) أي بسبب رجحانها على الحسنات.
قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ ﴾ متعلق بخسروا، وما مصدرية، و ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ متعلق بيظلمون قدم عليه للفاصلة، وقوله: (يجحدون) أشار بذلك إلى أنه ضمن الظلم معنى الجحد فعداه بالباء. قوله: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ ﴾ الخ لما بين سبحانه وتعالى عاقبة من استمر على الكفر، ومن استمر على الإيمان، ذكر مت أفاض عليهم من النعم الموجبة للشكر. قوله: ﴿ مَعَايِشَ ﴾ (بالياء) أي باتفاق السبعة، إن الياء أصلية إذ هي جمع معيشة، وأصلها معيشة بسكون العين وكسر الياء أو ضمها، نقلت كسرة الياء إلى الساكن قبلها، أو قلبت ضمة الياء كسرة ثم نقلت إلى ما قبلها، وحيث كانت الياء في المفرد أصلية فإنها تبقى في الجمع، وقرئ شذوذاَ بالهمزة تخريجاً على زيادة الياء وأصالة الميم، وأما إن كانت الياء في المفرد زائدة، فإنها تكون في الجمع همزة، كصحائف وصحيفة. قال ابن مالك: والمد زيد ثالثاً في الواحد   همزاً يرى في مثل كالقلائدقوله: (أسباباً تعيشون بها) أي تحيون فيها كالمأكل والمشرب وما به تكون الحياة. قوله: (لتأكيد القلة) أي زائدة لتأكيد القلة، والمعنى أن الشاكر قليل، قال تعالى:﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾[سبأ: ١٣].
قوله: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ الخ تذكير لنعمة عظيمة على آدم، سارية إلى ذريته موجبة لشكرها. قوله: (أي أباكم آدم) أي حين كان طيباً غير مصور. قوله: (أي صورناه) أي حين كان بشراً بتخطيطه وشق حواسه، وإنما جعل المفسر الكلام على حذف مضاف لأجل أن يصح الترتيب بثم، وإنما ينسب الخلق والتصوير للخاطبين إعطاء لمقام الامتنان حقه، وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز، إلى أن لهم حظاً من خلق أبيهم وتصويره، لأنهما من الأمور السارية في الذرية جميعاً. قوله: (أو أنتم في ظهره) هكذا في نسخه بأو، وفي أخرى بالواو، فعلى الأول يكون جواباً ثانياً. والحاصل أن الناس اختلفوا في ﴿ ثُمَّ ﴾ في هذين الموضعين، فمنهم من لم يلتزم فيها ترتيباً، وجعلها بمنزلة الواو، وأبقى الآية على ظاهرها، ومنهم من قال هي للتريث الزماني، وجعل الكلام على حذف مضاف في الخلق والتصوير. قوله: (سجود تحية بالانحناء) أشار بذلك إلى أن المراد السجود اللغوي وهو الانحناء، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، وقد كان تحية للملوك في الأمم السابقة، وعليه فلا إشكال، وقال بعضهم: إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله وآدم قبله كالكعبة، ويحتمل أن السجود على ظاهره لآدم، وقولهم إن السجود لغير الله كفر محله إن كان من هوى النفس لا يأمر الله، ونظير ذلك تعظيمنا مشاعر الحج فتأمل. قوله: ﴿ فَسَجَدُوۤاْ ﴾ أي قبل دخول الجنة، وأول من سجد: جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون، واختلف في مدة السجود، فقيل مائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وقيل غير ذلك. قوله: (أبا الجن) هذا أحد قولين، والثاني هو أبو الشياطين، فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد. قوله: (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، وأنه ليس من الملائكة، قال في الكشاف: لما اتصف بصفات الملائكة جمع معهم في الآية واحتيج إلى استثنائه، ويدل على ذلك قوله تعالى:﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ ﴾[الكهف: ٥٠] وقال بعضهم إنه من الملائكة، فالاستثناء متصل وقوله تعالى كان من الجن أي في الفعل، والمعول عليه الأول. قوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ ﴾ ما استفهامية للتوبيخ في محل رفع بالابتداء، والجملة بعدها خبر، و ﴿ أَنْ ﴾ في محل نصب أو جر، لأنها على حذف حرف الجر و ﴿ إِذْ ﴾ منصوب بتسجد، والتقدير أي شيء منعك من السجود حين أمرتك. قوله: (زائدة) أي لتأكيد معنى النفي في منعك، فهو كما في ص بحذفها وهو الأصل، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً. قوله: ﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ﴾ هذه الجملة لا محل لها من الإعراب، لأنها كالتفسير والبيات لما قبلها من دعوى الخيرية. فائدة: قال هنا: ﴿ مَا مَنَعَكَ ﴾، وفي سورة الحجر قال:﴿ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾[الحجر: ٣٢] وفي سورة ص﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾[ص: ٧٥] الآية، اختلاف العبارات عند الحكاية، دل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاثة معاً: مخالفة الأمر، ومفارقة الجماعة، والاستكبار مع تحقير آدم، وشبهة الخيرية أن النار جسم لطيف نوراني، والطين جسم كثيف ظلماني، وما كان لطيفاً نورانياً، خير مما كان كثيفاً ظلمانياً، ولما كان ما احتج به على ربه باطلاً، لكون الطين فيه منافع كثيرة وفوائد جمة، ويتوقف عليه نظام العالم لاحتياجه إليه، ولما ينشأ عنه من النبات والماء اللذين هما غذاء العالم السفلي، والنار منافعها قليلة، ولا يتوقف عليها نظام العالم، لوجود كثير منه غير محتاج لها، ولا لما يسوى بها، رد عليه المولى بأشنع رد، وأجابه بجواب السائل المتعنت المتكبر بقوله: ﴿ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ الآية. قوله: ﴿ قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا ﴾ الفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من مخالفة اللعين. قوله: (أي من الجنة) أي وعليه فبقي في السماوات خارج الجنة. قوله: (قيل من السماوات) أي فلم يبق له استقرار في العالم العلوي أصلاً. قوله: ﴿ ﴾ أي ولا في غيرها، ففي الكلام اكتفاء، لأن الكبر مذموم مطلقاً. قوله: (الذليلين) تفسير للصاغرين من الصغار، وهو بالفتح الذل والضيم.
قوله: ﴿ قَالَ أَنظِرْنِي ﴾ لما كره اللعين إذاقة الموت، طلب البقاء والخلود إلى يوم البعث، ومن المعلوم أن لا موت بعد، فقصد استمرار الحياة في الدنيا والآخرة، فأجابه الله لا على مراده، بل أمهله إلى النفخة الأولى، ولا نجاة له من الموت ولا من العذاب. قوله: (أي وقت النفخة الأولى) أي لا وقت النفخة الثانية التي طلبها اللعين. قوله: ﴿ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ الخ غرضه بهذا أخذ ثأره منهم، لأنه لما طرد ومقت بسببهم، أحب أن ينتقم منهم أخذاً بالثأر. قوله: (والباء للقسم) أي وما مصدرية، وما بعدها مسبوك بها، يشير له قول المفسر بإغوائك لي، ويصح أن تكون للسببية. قوله: (أي على الطريق الخ) أشار به إلى أن صراط منصوب على نزع الخافض. قوله: ﴿ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أي من الجهات التي يعتاد الهجوم منها، وهي الجهات الأربع، ولذلك لم يذكر الفوق والتحت، وأما الفوق فلكونه لما يمكنه أن يحول بين العبد ورحمة ربه، كما قال ابن عباس، وأما التحت فلكبره لا يرضى أن يأتي من ذلك، ويكثر إتيانه من أمام وخلف، ويضعف في اليمين واليسار لحفظ الملائكة، وذكر بعضهم حكمة أخرى لعدم مجيئه من تحت، لكون الآتي من تحت إنما يريد الازعاج، وهو يريد التأليف للغاوية، والأول أقرب، وإنما عدى الفعل في الأولين بمن الابتدائية، لأن شأن التوجه منهما بخلاف الأخيرين، فالآتي منهما كالمنحرف لليسار. قوله: ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ يحتمل أنه من الوجدان بمعنى اللقاء فيتعدى لواحد، وشاكرين حال، ويحتمل أنه بمعنى العلم فيتعدى لاثنين. قوله: ﴿ قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً ﴾ تأكيد لما تقدم، ومذؤوم بالهمزة من ذأمه يذأمه ذأماً إذا عابه ومقته، أي أخرج ممقوتاً معاباً عليك. قوله: (مبعداً عن الرحمة) أي لأن الدحر الطرد والإبعاد، يقال دحره دحراً ودحوراً، ومنه قوله تعالى:﴿ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ﴾[الصافات: ٨-٩] وهما حالان من فاعل أخرج. قوله: (واللام للابتداء) أي داخلة على المبتدأ، فمن اسم موصوف مبتدأ، و ﴿ تَبِعَكَ ﴾ صلته، و ﴿ مِنْهُمْ ﴾ متعلق بتبعك، وقوله: ﴿ لأَمْلأَنَّ ﴾ جواب قسم محذوف بعد قوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ. قوله: (أو موطئة للقسم) والتقدير والله لمن تبعك، ومن اسم شرط مبتدأ، ولأملأن جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. قوله: (وفيه تغليب الحاضر) أي هو وإبليس، وقوله: (على الغائب) أي وهو الناس. قوله: (وفي الجملة) أي وهي: ﴿ لأَمْلأَنَّ ﴾ وقوله: (معنى جزاء من) أي على كونها شرطية، وتقديره أعذبه.
قوله: ﴿ وَيَآءَادَمُ ﴾ تقدير المفسر قال يفيد أنه معطوف على: ﴿ ٱخْرُجْ ﴾ مسلط عليه عامله، عطف قصة على قصة، ويصح عطفه على قوله: ﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ ﴾ فيكون مسلطاً عليه، قلنا وربما كان هذا أقرب من حيث المناسبة، والأول أقرب من حيث قرب المعطوف من المعطوف عليه، وهذا القول يحتمل أنه واقع من الله مباشرة أو على لسان ملك. قوله: (تأكيد للضمير في اسكن) أي وليس هو الفاعل، لأن فاعل فعل الأمر واجب الاستتار، وقوله: (ليعطف عليه) ﴿ وَزَوْجُكَ ﴾ جواب عما يقال لم أتى بالضمير المنفصل. قوله: (حواء) سميت بذلك لأنها خلقت من حي وهو آدم، وذلك أن آدم لما أسكن الجنة، مشى فيها مستوحشاً، فلما نامت خلقت من ضلعه القصير من شقه الأيسر، ليسكن إليها ويأنس بها، فلما استيقظ ورآها مال إليها، فقالت له الملائكة: يا آدم حتى تؤدي مهرها، فقال: وما مهرها؟ فقالوا: ثلاث صلوات أو عشرون صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. إن قلت: إن شرط المهر أن يكون متمولاً، وهذا ليس بمتمول. أجيب: بأن هذا الشرط في شرع محمد، ولم يكن في شرع آدم، وأيضاً الأمر هو الله وهو يحكم لا معقب لحكمه، وأيضاً من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج بلا مهر أصلاً، فلما كان هو الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لكل أحد، حتى أبيه آدم، وأمر الله آدم بالسكون في الجنة، قيل قبل دخول الجنة، فتوجيه الخطاب لحواء باعتبار تعلق علم بها، فإنها لم تكن خلقت إذ ذاك، وقيل بعد الدخول وهو المعتمد، وعليه فيكون المراد من الأمر بالسكون الاستمرار. قوله: ﴿ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ أي في أي مكان، وفي الكلام حذف بعد من، والأصل فكلا من ثمارها حيث شئتما، وترك رغداً من هذا اكتفاء يذكره في البقرة، وأتى بالفاء هنا، وفي البقرة بالواو وتفننا وإشارة إلى أن كلاً من الحرفين بمعنى الآخر، وقيل إن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو فلا منافاة، وما ذكره شيخ الإسلام من الجواب بعيد، كما تقدم لنا في البقرة فانظره. بقي شيء آخر وهو أنه وجه الخطاب أولاً لآدم، وثانياً لهما، وحكمة ذلك أن حواء في السكنى تابعة لآدم، فوجه الخطاب في السكنى لآدم، وأما في الأكل من حيث شاءا، والنهي عن قربان الشجرة فقد اشتركا فيه، فلذا وجه الخطاب لهما معاً. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا ﴾ يقال قربت الأمر أقربه من باب تعب، وفي لغة من باب قتل، قرباناً بالكسر فعلته أو داينته، وحينئذ يكون النهي عن القربان، أبلغ من النهي عن الأكل بالفعل. قوله: (وهي الحنطة) وقيل الكرم، وقيل التين، وقيل البلح، وقيل الأترج، والمشهور ما قاله المفسر. قوله: ﴿ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي لأنفسهما.
قوله: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ ﴾ الوسوسة: الحديث الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان على سبيل التكرار. إن قلت: إن الأنبياء معصومون من وسوسة الشيطان، وظاهر الآية يقتضي أن الشيطان وسوس لآدم. أجيب: بأنه لم يباشر آدم بالوسوسة، وإنما باشر حواء، وهي باشرت آدم بذلك، قال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني إبليس، قال الله: أما أنت يا حواء فلأدمينك كل شهر كما أدميت الشجرة، وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وليشدخن رأسك كل من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون. إن قلت: كيف وسوس لهما وهو خارج الجنة؟ أجيب: بأن وسوسته وإن كانت خارج الجنة، إلا أنها وصلت لهما بقوة جعلها الله له على ذلك، أو أنه تحيل على دخول الجنة بدخوله في جوف الحية ووسوس لهما، وقوله: ﴿ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ من شاط بمعنى احترق، أو من شطن بمعنى بعد، قوله: (إبليس) أي من أبلس إبلاساً بمعنى يائس، لأنه آيس من رحمة الله، وقد تقدم في البقرة جملة أسمائه فانظرها. قوله: ﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ﴾ هذا من جملة أغراضه في الوسوسة، فتكون اللام للتعليل، ويحتمل أنها للعاقبة، وأن غرضه في الوسوسة خصوص غضب الله عليهما وطردهما من الجنة. قوله: ﴿ مَا وُورِيَ عَنْهُمَا ﴾ أي غطى وستر عنهما، واختلف في ذلك اللباس، فقيل غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الاظفار في اليدين والرجلين، تذكرة وزينة وانتفاعاً، ولذلك قالوا إن النظر للأظفار في حال الضحك يقطعه، وقيل كان نوراً، وقيل كان من ثياب الجنة. قوله: (فوعل) أشار بذلك إلى أن الواو الثانية زائدة، وحينئذ فلا يجب قلب الأولى همزة، وإنما يجب لو كانت الثانية أصلية. قوله: ﴿ مِن سَوْءَاتِهِمَا ﴾ عورتهما سميت بذلك لأن كشفها يسيء صاحبها. قوله: ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا ﴾ معطوف على وسوس بيان له. قوله: ﴿ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ بفتح اللام أي لم ينهكما عن الأكل منها إلا كراهة أن تكونا من الملائكة، أو تكونا من الخالدين في الجنة فالمعنى الذي أدعاه لهما، أن الأكل منها سبب لأن يكونا من الملائكة وسبب للخلود فيها. قوله: (كراهة) أفاد المفسر أن الاستثناء مفرغ وهو مفعول من أجله، قدره البصريون: ﴿ إِلاَّ ﴾ (كراهة) ﴿ أَن تَكُونَا ﴾ الخ، وقدره الكوفيون أن لا تكونا، وتقدير البصريين أولى، لأن إضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف. قوله: (وقرئ بكسر اللام) أي شذوذاً، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ ﴾[طه: ١٢٠] فالملك بالضم يناسب الملك بالكسر. قوله: (أي وذلك) أي أحد الأمرين. وقوله: (لازم) أي ناشئ (عن الأكل منها)، وقضية هذه الآية على قراءة الكسر، عدم اجتماع الأمرين، وقضية الآية الأخرى وهي﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ ﴾[طه: ١٢٠] اجتماعهما، وأجيب بأن أو بمعنى الواو، وحكمة ترغيبهما في الملكية، أن الملائكة خصوا بالقرب من العرش، ولهم المنزلة عند الله. قوله: ﴿ وَقَاسَمَهُمَآ ﴾ معطوف على ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ ﴾ وإنما أقسم لهما لأجل تأكيد إضلاله، فهو أول من حلف كاذباً، بل هو أول من عصى الله مطلقاً. قوله: (أي أقسم لهما بالله) أي وقبلا منه القسم، فالمفاعلة باعتبار ذلك، وإلا فالواقع أنها ليست على بابها، لأن الحالف هو فقط. قوله: (في ذلك) أي ما ذكر من كونهما بالملائكة ويكونان من الخالدين.
قوله: ﴿ فَدَلاَّهُمَا ﴾ التدلي النزول من أعلى لأسفل. قوله: (حطهما عن منزلتهما) أي الحسنة، لأن غروره تسبب عنه نزولهما من الجنة إلى الأرض لا المعنوية، بل رتبتهما عند الله لم تنقص بل ازدادت. قوله: ﴿ بِغُرُورٍ ﴾ الباء سببية، والغرور تصوير الباطل بصورة الحق. قوله: ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ ﴾ من الذواق وهو تناول الشيء ليعرف طعمه، وفيه إشارة إلى أنهما لم يتناولا منها كثيراً، لأن شأن من ذاق الشيء أن يقتصر على ما قل منه. قوله: ﴿ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ أي سقط عنهما لباسهما فبدت الخ. قوله: (ودبره) أي الآخر، وأما دبر نفسه فلا يظهر له، إلا إن التفت له وتعاناه. قوله: (يسوء صاحبه) أي يوقعه في السوء. قوله: ﴿ وَطَفِقَا ﴾ من باب طرب، أي شرعا وأخذا. قوله: ﴿ يَخْصِفَانِ ﴾ من خصف النعل خرزه والمراد يلزقان بعضه على بعض لأجل الستر. قوله: ﴿ عَلَيْهِمَا ﴾ أي القبل والدبر. قوله: ﴿ مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ﴾ قيل ورق التين وقيل ورق الموز. قوله: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ ﴾ يحتمل على لسان ملك أو مباشرة. قوله: ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا ﴾ إما تفسير للنداء فلا محل له من الاعراب، أو مقول لقول محذوف، والتقدير قائلاً: ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا ﴾ الخ، قوله: ﴿ وَأَقُل لَّكُمَآ ﴾ أي كما في آية طه:﴿ فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾[طه: ١١٧] الآية. قوله: (بين العداوة) لكما حيث امتنع من السجود له، ورضي بالطرد والبعد. قوله: (استفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار، والمعنى أقر بذلك على حد:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾[الشرح: ١].
قوله: ﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾ هذا إخبار من الله عن آدم وحواء باعترافهما وندمهما على ما وقع منهما، وإنما عاتبهما الله على ذلك، وإن كان ليس بمعصية حقيقة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس ذلك بقادح في عصمة آدم، لأن المستحيل على الأنبياء تعمد المخالفة، وأما الخطأ في الاجتهاد والنسيان الرحماني فهو جائز عليهم، ونظير ذلك ما وقع في قصة ذي اليدين،" حيث سلم رسول الله من ركعتين، فقال له ذي اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: كل ذلك لم يكن، فقال: بل بعض ذلك قد كان الحديث، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أنس ولمن أنسي لأسن "وحكمة الأكل من الشجرة ما ترتب على ذلك من وجود الخلق وعمارة الدنيا، فأنساه الله لأجل حصول تلك الحكمة البالغة، فمن نسب التعمد والتجرؤ لآدم فقد كفر، كما أن من نفى عنه اسم العصيان فقد كفر لمصادمة آية:﴿ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ﴾[طه: ١٢١] فالمخلص من ذلك أن يقال إن معصيته ليست كالمعاصي، وتقدم تحقيق هذا المقام في سورة البقرة فانظره. قوله: ﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا ﴾ شرط حذف جوابه اكتفاء بجواب القسم. قوله: (بما اشتملتما عليه من ذريتكما) أي فهذا هو وجه الجمع في الآية، وقيل إن الجمع باعتبار آدم وحواء والحية وإبليس. ويكون قوله:﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾[الأعراف: ٢٤] باق على ظاهره لأن إبليس والحية عدو لآدم وحواء. قوله: (مكان استقرار) أي وهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، والمكان الذي يدفن فيه.
قوله: ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾ أصله تحيون كترضيون، تحركت الياء الثانية وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. قوله: (بالبناء للفاعل الخ) أي في ﴿ تُخْرَجُونَ ﴾ وأما ﴿ تَحْيَوْنَ ﴾ و ﴿ تَمُوتُونَ ﴾ فللفاعل لا غير. قوله: ﴿ يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ لما قدم قصة آدم وحواء وما أنعم به عليهما، وفتنة الشيطان لهما خاطب أولاد آدم عموماً بتذكير نعمه عليهم وحذرهم من اتباع الشيطان لأنه عدو لأبيهم، والعداوة للآباء متصلة للأبناء. قوله: ﴿ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً ﴾ أي أنزلنا أسبابه من السماء وهو المطر، فينشأ عنه النبات الذي يكون منه اللباس كالقطن والكتان، وتعيش به الحيوانات التي يكون منها الصوف والشعر والوبر والحرير. قوله: ﴿ سَوْءَاتِكُمْ ﴾ أي عوراتكم، أي فهو نعمة. قوله: ﴿ وَرِيشاً ﴾ معطوف على ﴿ لِبَاساً ﴾ وعبر عنه بالريش، لأن الريش زينة الطائر، كما أن اللباس زينة الآدميين، والمعنى أن الله تعالى منَّ على بني آدم بلباسين: لباساً يواري سوآتهم، ولباساً ريشاً أي زينة، ويصح أن يكون معطوفاً على: ﴿ يُوَارِي ﴾ فيكون وصف اللباس بشيئين: كونه يواري سوآتكم، وكونه زينة لكم، ويؤخذ من الآية أن لبس لباس الزينة غير مذموم، والمراد الزينة التي لم تخالف الشرع وهذا إن صح القصد بأن لم يقصد الفخر ولا العجب بها، كما أن التقشف في اللباس غير مذموم إن كان خالياً من الأغراض الفاسدة، بأن لم يقصد به دعوى الولاية أو إظهار الفقر لأجل أن يتصدق عليه، وبالجملة فالمدار على حسن القصد تجمل بالثياب أو تخشن فيها، وفي هذا المعنى قال بعضهم: ليس التصوف لبس الصوف والخلق   بل التصوف حسن الصمت والخلقفالبس من اللبس ما تختار أنت وقم   جنح الظلام وأجر الدمع في الغسققرب لابس الديباج مشغله حب الذي خلق الإنسان من علق   وكم فتى لابس للخيش تحسبه   تاج وذلك عند العارفين شقيفإن ذلك لم يحجبه ملبسه   وذا مع اللبس مأسور فلم يفققوله: ﴿ وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ أي الناشئ عنها أو الناشئة عنه. قوله: (العمل الصالح) أي المنجي من العذاب، لأن الإنسان يكسى من عمله يوم القيامة. قوله: (خبره جملة) ﴿ ذٰلِكَ خَيْرٌ ﴾ أي فاسم الإشارة مبتدأ ثان، وخير خبره، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره الأول، واسم الإشارة عائد على قوله: ﴿ وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ وإنما كان خيراً لأنه يستر من فضائح الآخرة، وفي الحديث:" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "فإذا كان كذلك، فينبغي للإنسان أن يشتغل بتحسين ظاهره بالأعمال الصالحة، وباطنه بالإخلاص، فإنه محل نظر الله منه، ولذلك قال العارف البكري: إلهي زين ظاهري بامتثال ما أمرتني به ونهيتني عنه، وزين سري بالأسرار وعن الأغيار فصنه. قوله: ﴿ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ اسم الإشارة عائد على اللباس المنزل بأقسامه. قوله: (فيه التفات عن الخطاب) أي وكان مقتضى الظاهر لعلكم تذكرون، ونكتته دفع الثقل في الكلام.
قوله: ﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ لما ذكرهم نعمة اللباس، نبههم على أن الشيطان حسود وعدو لهم، كما أنه عدو لأبيهم. قوله: ﴿ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ وهو نهي له صورة، وفي الحقيقة نهي لبني آدم عن الإصغاء لفتنته واتباعه، فليس المراد النهي عن تسلطه، إذ لا قدرة لمخلوق على منع ذلك، لأنه قضاء مبرم، بل المراد النهي عن الميل إليه، وإلى ذلك أشار المفسر بقوله: (أي لا تتبعوه فتفتنوا). قوله: ﴿ كَمَآ أَخْرَجَ ﴾ الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف، وما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر، والتقدير فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم، والجامع بينهما زوال النعم في كل. قوله: ﴿ أَبَوَيْكُمْ ﴾ أي آدم وحواء. قوله: (بفتنته) الباء سببية. قوله: (حال) أي من ﴿ أَبَوَيْكُمْ ﴾ أو من ضمير ﴿ أَخْرَجَ ﴾ وكل صحيح، فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان، وإسناد النزع إليه باعتبار كونه سبباً فيه، والنزع أخذ الشيء بسرعة وقوة، ومنه قوله تعالى: ﴿ ﴾، وفيه إشارة إلى أن من اتبع الشيطان، تزول نعمة بسرعة وقوة. وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضاراً للصورة العجيبة. قوله: ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ ﴾ تعليل للتحرز من الشيطان اللازم للنهي، كأنه قيل: فاحذروه لأنه يراكم الخ. قوله: ﴿ وَقَبِيلُهُ ﴾ معطوف على الضمير المتصل في ﴿ يَرَاكُمْ ﴾ وأتى بالضمير المنفصل، وإن كان قد حصل الفصل بالكاف زيادة في الفصاحة، والقبيل اسم لما اجتمع من شتات الخلق، ولذلك فسره بالجنود، والقبيلة الجماعة من أب واحد. قوله: ﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ ابتدائية، و ﴿ حَيْثُ ﴾ ظرف مكان، التقدير إنه يراكم رؤية مبتدأة من مكان لا ترونهم فيه. قوله: (للطافة أجسادهم) فأجسامهم كالهواء، نعلمه ونتحققه ولا نراه للطافته وعدم تلونه، هذا وجه عدم رؤيتنا لهم. وأما وجه رؤيتهم لنا فكثافة أجسادنا وتلوننا، وأما رؤية بعضهم لبعض فحاصلة لقوة في أبصارهم. وهذا حيث كانوا بصورتهم الأصلية، وأما إذا تصوروا بغيرها فتراهم، لأن الله جعل لهم قدرة على التشكيل بالصورة الجميلة أو الخسيسة، وتحكم عليهم الصورة كما في الأحاديث الصحيحة. فالآية ليست على عمومها والفرق بينهم وبين الملائكة، أن الملائكة لا يتشكلون إلا في الصورة الجميلة ولا تحكم عليهم بخلاف الجن وقد ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وجعلت صدر بني آدم مساكن لهم، إلا من عصمه الله، كما قال تعالى:﴿ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ ﴾[الناس: ٥] فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم. قال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربع نرى ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا شاباً. وقال مالك ابن دينار: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد المجاهدة، إلا من عصمه الله. قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي صيرناهم أعواناً لغير المؤمنين ومكناهم من إغوائهم. فتحرزوا منهم. قوله: ﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ﴾ هذه الآية نزلت في كفار مكة، كانوا يطوفون عراة رجالهم بالنهار، ونساؤهم بالليل، فكان أحدهم إذا قدم حاجاً أ معتمراً يقول: لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه ربي، فيقول من يعيرني إزاراً. فإن وجد وإلا طاف عرياناً، وإذا فرض وطاف في ثيابه نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها على نفسه. قوله: ﴿ قَالُواْ وَجَدْنَا ﴾ الخ أي محتجين بهذين الأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ ﴾ أي رد لمقالتهم الثانية، وترك الأولى لوضوح فسادها. قوله: ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي لأنكم لم تسمعوه مشافهة، ولم تأخذوه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وخلقه. قوله: (استفهام إنكاري) أي وتوبيخ وفيه معنى النهي. قوله: (معطوف على معنى بالقسط) دفع بذلك ما يقال إن قوله: ﴿ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ ﴾ خبر. وقوله: ﴿ وَأَقِيمُواْ ﴾ إنشاء ولا يصح عطف الإنشاء على الخبر. فأجاب بجوابين: الأول أن أقيموا معطوف على المعنى، والتقدير قال أقسطوا وأقيموا. الثاني أن الكلام فيه حذف، والتقدير قل أمر ربي بالقسط فاقبلوا وأقيموا. قوله: (أي أخلصوا له سجودكم) أي صلاتكم، ففيه تسمية الكل باسم أشرف أجزائه، لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قوله: ﴿ وَٱدْعُوهُ ﴾ عطف عام. قوله: ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ كلام مستأنف مسوق للرد على منكري البعث أن يعيدكم أحياء بالأرواح والأجساد بعينها. قوله: ﴿ فَرِيقاً هَدَىٰ ﴾ فريقاً معمول لهدى، وفريقاً الثاني معمول لمقدر من قبيل الاشتغال موافق في المعنى، والتقدير وأضل فريقاً حق عليهم الضلالة، أي ثبت في الأزل ضلالهم. قوله: ﴿ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ﴾ علة لقوله: ﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ ﴾ قوله: ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ أي يظنون أنهم على هدى، والحال أنه ليسوا كذلك.
قوله: ﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ الخ بسبب نزولها كما قال ابن عباس: أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، يقول لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً، ولا يأكلون لحماً ولا دسماً، يعظمون بذلك حجهم، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم. قوله: (ما يستر عورتكم) راعى في هذا المحل سبب النزول، وأصل الواجب وعموم اللفظ يفيد أن المطلوب في الصلاة والطواف ومشاهد الخير جميل الثياب كما هو المندوب شرعاً تأمل. قوله: ﴿ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ المسجد في الأصل موضع السجود، ثم أطلق وأريد منه نفس الصلاة والطواف، من باب تسمية الحال باسم المحل، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالذي ينبغي للأمة التجمل بالثياب عند حضور مشاهد الخير مع القدرة. قوله: ﴿ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ أي من الحلال فإنه رأس التقوى. قوله: ﴿ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ ﴾ أي بأن تحرموا الحلال كما كانوا يفعلون من امتناعهم من اللحم والدسم، أو تحلوا الحرام أو تتجاوزوا الحد في الأكل والشرب، كالتعمق في ذلك أو الإكثار المضر، لما في الحديث: " أصل كل داء البردة وهي إدخال الطعام على الطعام " فالمناسب أن لا يأكل حتى يجوع، وأن يقوم ونفسه تشتهي، فإن ملك النفس عن الإسراف في المباح، أكبر دليل على ملكها عن الحرام. قوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾ أي يعاقبهم على ذلك ولا يرضى فعلهم. قوله: (إنكاراً عليهم) أي وتوبيخاً لهم، وحيث كان إنكارياً فلا جواب له.
قوله: ﴿ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ أي التي خلقها لهم من النبات، كالقطن والكتان. ومن الحيوان كالحرير والصوف. ومن المعادن، كالدروع، وكلها جائزة للرجال والنساء، ما عدا الحرير الخالص للرجال فإنه يحرم عليهم إجماعاً، وأما ما اختلط بالحرير وغيره ففي الخلاف بين العلماء بالكراهة والحرمة والجواز، والمعتمد عدم الحرمة. قوله: ﴿ قُلْ هِي ﴾ أي الزينة من الثياب والطيبات من الرزق. قوله: (بالاستحقاق) أي الأصلي، وأما مشاركة غيرهم لهم فهو بطريق التبع، وهذا جواب عما يقال: إن المشاهد أن الكافر يستمتع بالزينة والمستلذات أكثر من المسلم، فكيف يقال إنها: ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ فأجاب بما ذكر، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾[البقرة: ١٢٦] الآية، ولذا لا يعاقبون عليها، لأن الله خلقها لهم بطريق الأصالة ليستعينوا بها على طاعته، ولذا إذا عدمت المؤمنون في آخر الزمان تقوم القيامة، إذ لم يبق مستحق للنعم. قوله: (خاصة بهم) أي لا يشاركهم فيها غيرهم. قوله: (بالرفع) أي خبر ثان. قوله: (والنصب حال) أي من الضمير في الخبر في المحذوف، والتقدير هي كائنة: ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ حال كونها خالصة لهم يوم القيامة، وإنما كانت خالصة للمؤمنين يوم القيامة، لأن رحمة الله تنفرد بالمؤمنين، وغضبه ينفرد بالكافرين، قال تعالى:﴿ وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾[يس: ٥٩].
قوله: ﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي نبينها ويوضحها في غير هذا الموضع، مثل ذلك التفضيل والتوضيح في هذا الموضع. قوله: ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي إنه مستحق للعبادة. قوله: (فإنهم المنتفعون بها) أي وغيرهم لا يعبأ به ولا يخاطب. قوله: (كالزنا) أي والقتل وسلب الأموال وسائر أنواع الفسق بالجارحة. قوله: (أي جهرها وسرها) المراد بالجهر المعاصي الظاهرية، كالقتل وشرب الخمر، وسر المعاصي الباطنية القلبية، كالعجب والكبر والرياء. قوله: ﴿ وَٱلإِثْمَ ﴾ عطف عام على خاص، وما بعده عطف خاص على عام لمزيد الاعتناء بشأنه. قوله: (هو الظلم) أي للناس، إما بالقتل، أو سلب الأموال، أو التكلم في إعراضهم أو غير ذلك، وقوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ إيضاح لمعنى: ﴿ ٱلْبَغْيَ ﴾ فهو صفة كاشفة. قوله: ﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ ما نكرة بمعنى شيء، أي شيئاً سواه تعالى. قوله: (حجة) أي دليلاً، لأن دليل الوحدانية لله أبطل الشرك لغيره. قوله: (وغيره) أي كتحليل الحرام، ويدخل في ذلك المفتي بالكذب. قوله: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي لكل فرد من أفراد الأمة. قوله: (مدة) أي وقت معين. قوله: ﴿ سَاعَةً ﴾ أي شيئاً قليلاً من الزمن، فالمراد بالساعة الساعة الزمانية، وقوله: ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ جواب إذا، وقوله: ﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ مستأنف أو معطوف على الجملة الشرطية، ولا يصح عطفه على قوله: ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب إذا يشترط أن يكون مستقبلاً، والاستقدام بالنسبة لمجيء الأجل ماض، فلا يصح ترتبه على الشرط.
قوله: ﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ هذا خطاب عام لكل من لآدم عليه ولادة من أول الزمان لآخره، ولكن المقصود من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الآية دليل على عموم رسالته، لأن الله خاطب من أجله عموم بني آدم. قوله: (في ما المزيدة) أي للتأكيد. قوله: ﴿ يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ فعل الشرط مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم، وجملة: ﴿ فَمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ إلى ﴿ خَٰلِدُونَ ﴾ جواب الشرط، والرابط محذوف تقديره فمن اتقى منكم، ومن يحتمل أن تكون شرطية، واتقى فعل الشرط، وجملة: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ جوابه، ويحتمل أنها موصولة، واتقى صلتها، وجملة: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ خبرها، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى العموم. قوله: ﴿ مِّنكُمْ ﴾ أي من جنسكم يا بني آدم، وإنما كان من جنسهم، لأنه أقطع لعذرهم وحجتهم. قوله: ﴿ يَقُصُّونَ ﴾ أي يقرؤون ويتلون. قوله: ﴿ آيَاتِي ﴾ أي القرآنية وغيرها. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ (الشرك) أشار بذلك إلى أن المراد بالتقوى هنا التقوى العامة، وهي اتقاء الشرك بالإيمان لقرينة. قوله: ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ وأعلى منها تقوى الخواص، وهي ترك المعاصي، وأعلى منها ترك الأغيار، وهي كل مشغل عن الله، ولهذه المرتبة أشار العارف بقوله: ولو خطرت لي في سواك إرادة   على خاطري يوماً حكمت بردتيقوله: ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ (عمله) أي بأن ترك المعاصي أو كل مشغل عن الله فهو صادق بتقوى الخواص وخواص الخواص. قوله: (في الآخرة) أي وأما في الدنيا فلا يفارقهم الخوف ولا الحزن، لتذكرهم الموت وأحوال الأخرة، ولو جاءتهم البشرة من الله، فالحزن دأب الصالحين في الدنيا لزيادة درجاتهم. قوله: (فلم يؤمنوا بها) أشار لذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، (أي تكبروا) عن الإيمان بها. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (بنسبة الشريك) الباء سببية، والمعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وبسبب نسبة الشريك لله، ككفار مكة حيث أشركوا مع الله الأصنام، والنصارى واليهود حيث نسبوا له الولد. قوله: ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ وإن لم ينسب الشريك له، لأنه لا يلزم من التكذيب بالآيات نسبة الشريك له، وأما نسبة الشريك فيلزم معها التكذيب بالآيات. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم ﴾ أي في الدنيا. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ من إبتدائية متعلقة بمحذوف حال من نصيبهم، وقوله: (مما كتب لهم) بيان للنصيب. قوله: (من الرزق) أي على حسبه من سعة وضيق، وكونه من حلال أو حرام، وقوله: (والأجل) أي من قصر أو من طول، وقوله: (وغير ذلك) أي كالعمل، وكما أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في صحف الملائكة وهو في بطن أمه، فتحصل أن ما قسم له في الحياة الدنيا لا يغيره كفر ولا إسلام. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ ﴾ حتى ما إبتدائية أو جارة. قوله: (الملائكة) قيل إنهم عزرائيل وأعوانه، لقبض أرواحهم، وقيل أنهم ملائكة العذاب، وتقدم أنهم سبع موكلون بأخذ روح الكافر بعد قبضها للعذاب. قوله: (تبكيتاً) أي توبيخاً وتقريعاً. قوله: ﴿ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا فتمنعكم الآن من العذاب. قوله: (فلم نرهم) أي مع شدة احتياجنا إليهم في هذا الوقت. قوله: ﴿ وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ ﴾ كلام مستأنف إخبار من الله بإقرارهم على أنفسهم بالكفر، ولا تعارض بين هذا وبين قوله:﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣] لأن مواقف القيامة مختلفة.
قوله: ﴿ قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ أي لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب وكذبوا بآياته. قوله: ﴿ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ في بمعنى مع، أي ادخلوا مصاحبين لأمم، وهو حال من فاعل ادخلوا، وتسمى حالاً منتظرة، لأنهم عند الدخول لم يكونوا مصاحبين للأمم، وقوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ صفة أولى لأمم، وقوله: ﴿ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ صفة ثانية، وقوله: ﴿ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ ﴾ صفة ثالثة، وقوله: ﴿ فِي ٱلنَّارِ ﴾ في للظرفية فاندفع ما يقال يلزم عليه تعلق حرفي جر متحدي اللفظ، والمعنى بعامل واحد. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي سبقت ومضت. قوله: ﴿ فِي ٱلنَّارِ ﴾ المراد بها دار العقاب بجميع طباقها. قوله: ﴿ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ أي في الدين. قوله: (التي قبلها) أي في التلبس بذلك الدين، فالنصارى تلعن النصارى، واليهود تلعن اليهود، والمجوس تلعن المجوس، وهكذا كل من اقتدى بغيره في دين باطل. قوله: ﴿ ٱدَّارَكُواْ ﴾ أصله تداركوا، قلبت التاء دالاً وأدغمت في الدال، وأتى بهمزة الوصل توصلاً للنطق بالساكن. قوله: ﴿ أُخْرَاهُمْ ﴾ أي المتأخرون عنهم في الزمن، فأخرى تأنيث آخر مقابل أول، لا تأنيث آخر الذي بمعنى غير. قوله: (وهم الأتباع) أي كانوا في زمنهم أو تأخروا بعدهم. قوله: (أي لأجلهم) أشار بذلك إلى أن اللام في: ﴿ لأُولاَهُمْ ﴾ للتعليل وليست للتبليغ، لأن الخطاب مع الله لا معهم. قوله: (وهم المتبوعون) أي الرؤساء. قوله: ﴿ ضِعْفاً ﴾ ضعف الشيء في الأصل أقل ما يتحقق فيه مثل ذلك الشيء، والمراد هنا الزيادة إلى غير نهاية بدليل قول المفسر مضعفاً. قوله: ﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ أما المتقدمون فلضلالهم وإضلالهم، وأما المتأخرون فلكفرهم وتقليدهم. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى التاء يكون خطاباً للأخرى، أو للأحياء الذين في الدنيا، وعلى الياء يكون إخباراً عن المتقدمين والمتأخرين. قوله: (ما لكل فريق) أشار بذلك إلى أن مفعول: ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ لأُخْرَاهُمْ ﴾ اللام هنا للتبليغ، لأن الخطاب معهم. قوله: (لأنكم لم تكفروا بسببنا) أي بل كفرتم اختياراً، لا أنا حملناكم على الكفر وأكرهناكم عليه، لأنه لا يمكن الجبر على الكفر لتعلقه بالقلب. قوله: (قال تعالى لهم) هذه إحدى طريقتين، والأخرى أنه من كلام الرؤساء للأتباع. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ أي بسبب كسبكم من الكفر والمخالفة.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا ﴾ أي وماتوا على ذلك. قوله: (فلم يؤمنوا بها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير تكبروا عن الإيمان بها. قوله: ﴿ لاَ تُفَتَّحُ ﴾ بالبناء للمفعول إما بالتاء أو الياء مع التخفيف أو التشديد وكلها سبعية. قوله: (إذا عرج بأرواحهم) ومثلها دعاؤهم وأعمالهم. قوله: (إلى سجين) وهو واد في جهنم أسفل الأرض السابعة، تسجن له أرواح الكفار، وقيل: هو كتاب جامع لأعمال الشياطين والكفرة، وأما عليون فقيل: هو كتاب جامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين، وقيل: هو مكان في الجنة في السماء السابعة تحت العرش. قوله: (ويصعد بروحه إلى السماء السابعة) أي وترى مقعدها في الجنة وترجع مسرورة، فعند ذلك يرى البشر والنور على جسمها. قوله: (كما ورد في الحديث) أي وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبض روح الكافر، ويخرج معها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي يسمى بها في الدنيا، فيستفتحون فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا: ﴿ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ ﴾.
قوله: ﴿ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ ﴾ أي بعد الموت. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ ﴾ الولوج الدخول بشدة، والجمل: الذكر من الإبل، وخص بذلك لأنه أعظم جسم عند العرب، فجسم الجمل من أعظم الأجسام، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ، وهو تعليق جائز على مستحيل، والمعلق على المستحيل مستحيل، فاستفيد من ذلك أن دخول الكفار الجنة مستحيل. قوله: ﴿ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ ﴾ السم مثلث السين: لكن القراء السبعة على الفتح، وقرئ شذوذاً بالضم والكسر وجمعه سمام، وأما ما يقتل فهو مثلث أيضاً، إلا أن جمعه سموم، والخياط هو الآلة التي يخاط بها، ويقال لها مخيط أيضاً. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ (الجزاء) أي المتقدم، وهو عدم فتح أبواب السماء لهم، وعدم دخول الجنة. قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي كما جزينا هؤلاء، نجزي كل من اتصف بالإجرام من مبدأ الزمان إلى منتهاه. قوله: ﴿ لَهُمْ ﴾ أي للذين كذبوا واستكبروا. قوله: ﴿ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، وغواش مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل، والمعنى أن النار محيطة بهم من كل جانب، وقد ورد أن سقف النار من نحاس، وأرضها من رصاص، وحيطانها من كبريت، ووقودها الناس والحجارة. قوله: (وتنوينه عوض من الياء المحذوفة) هذا بناء على الصحيح من أن الإعلال مقدم على منع الصرف، فأصله غواش بالتنوين، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الياء والتنوين فحذفت لالتقائهما، ثم لوحظ أن الكلمة ممنوعة من الصرف، فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء، فأتى بالتنوين عوضاً عنها، وأما تصريفها على أن منع الصرف مقدم من الإعلال، فأصلها غواشي بترك التنوين، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم أتى بالتنوين عوضاً عن الحركة التي هي الكلمة فالتقى ساكنان الياء والتنوين حذفت لالتقائهما. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل الجزاء المتقدم. قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ ﴾ عبر عنهم أولاً بالمجرمين، وهنا بالظالمين، إشارة إلى أنهم اتصفوا بالأمرين معاً.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما ذكر وكيد الكافرين، أتبعه بذكر وعد المؤمنين على حكم عادته سبحانه في كتابه، والاسم موصول مبتدأ، و ﴿ آمَنُواْ ﴾ صلته ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ معطوف عليه، وقوله: ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ اعتراض بين المبتدأ والخبر وهو قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ وهذا ما مشى عليه المفسر تبعاً لأكثر من علماء المعاني، وقال بعضهم: ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ خبر، والرابط محذوف، أي لا نكلف منهم. قوله: ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي ما يسعها من الأعمال، وما يسهل عليه ودخل في طوقها وقدرتها، وكل هذت تفضل منه سبحانه وتعالى. قوله: (اعتراض) وحكمته تبكيت الكفار وتنبيههم على أن الجنة مع عظم قدرها، يتوصل إليها بالعمل السهل من غير كلفة ولا مشقة. إن قلت ورد أن الجنة حفت بالمكاره، فكيف تقولون إن الجنة يتوصل إليها بالعمل السهل؟ أجيب بأن المراد بالمكاره مخالفة شهوات النفس، وهي في طاقة العبد، فالمراد بالعمل السهل كما كان في طاقة العبد كان فعلاً أو تركاً.
قوله: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ أي خلقناكم في الجنة مطهرين منه، لا أنهم دخلوا الجنة به ثم نزع، وحكمه نزع الغل من صدور أهل الجنة، أن كل أحد منهم أعطي فوق أمانيه أضعافاً مضاعفة. قوله: (حقد كان بينهم في الدنيا) الحقد هو ضيق الصدر من الغير، وهو رأس الحسد، وهو معصية قلبية تجب التوبة منه، ومجاهدة النفس لتخلص منه، ومن هنا افترق كبار الصالحين من صغارهم. واعلم أن الناس ثلاثة أقسام: قسم خلصت قلوبهم من الأمراض الباطنية، فهم في الدنيا كأهل الجنة في الجنة، يحبون للناس ما يحبونه لأنفسهم، وهم الأنبياء ومن كان على قدمهم، وقسم لم تخلص قلوبهم، غير أنهم لم يرضوا لأنفسهم بذلك، ويلومون أنفسهم على ما في قلوبهم، وهؤلاء المجاهدون لأنفسهم، ولا يؤاخذون بذلك حينئذ، وقسم لم تخلص قلوبهم، وهم راضون لأنفسهم بذلك، وهؤلاء فساق يجب عليهم مجاهدة نفوسهم في تخليصهم من تلك الآفات. قوله: (تحت قصورهم) أي بجانب جدارها، وليس المراد أنها تجري من تحت الجدار. قوله: ﴿ ٱلَّذِي هَدَانَا ﴾ أي أرشدنا ووفقنا. قوله: (العمل الذي هذا جزاؤه) كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى لعمل هذا جزاؤه، وفي أخرى لهذا العمل هذا جزاؤه. قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ ﴾ بالواو ودنها قراءتان سبعيتان، والجملة إما مستأنفة أو حالية على كل. قوله: (لدلالة ما قبله عليه) أي وهو قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ ﴾ والتقدير ولولا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا. قوله: ﴿ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ هذا إقسام من أهل الجنة شكراً لنعم الله وتحدثنا بها، والمعنى أن ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب حق وصدق لمشاهدتنا له عياناً. قوله: ﴿ وَنُودُوۤاْ ﴾ يحتمل أن المنادي هو الله ويحتمل أنه الملائكة. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن، وخبرها الجملة بعدها. قوله: (أو مفسرة) أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهو قوله: ﴿ وَنُودُوۤاْ ﴾.
قوله: (في المواضع الخمسة) أي من هنا إلى قوله: ﴿ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ ﴾.
قوله: ﴿ تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، والجنة خبر، وقوله: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ حال من الجنة، أو الجنة نعت لاسم الإشارة وأورثتموها خبره، وأتى باسم الإشارة البعيدة إشارة لعظم رتبتها ومكانتها على حد ذلك الكتاب. قوله: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ أي من الكفار، لأن الله خلق في الجنة منازل للكفار بتقدير إيمانهم، فمن لم يؤمن منهم جعل منزلة لأهل الجنة فكل واحد من أهل الجنة يأخذ منازل تسعمائة وتسعة وتسعين من أهل النار تضم لمنزله، فيجتمع له ألف منزل، فلما كان الغالب منها ميراثاً أطلق على جميعها اسم الميراث، وحكمة إطلاق اسم الارث عليها، أن الكفار سماهم الله أمواتاً بقوله:﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾[النحل: ٢١] المؤمنين أحياء، ومن المعلوم أن الحي يرث الميت. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، أي بسبب عملكم. إن قلت ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لن يدخل الجنة أحد بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته "أجيب بأن الآية محمولة على العمل المصحوب بالفضل، والحديث محمول على العمل المجرد عنه. قوله: ﴿ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ ﴾ إن قلت: إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض، فكيف يسمعون النداء؟ أجيب: بأن القيامة خارقة للعادة، فلا مانع من وصول النداء لهم، وهذا النداء من كل فرد من أفرد أهل الجنة، لكل فرد من أفراد أهل النار، لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة على الآحاد. قوله: ﴿ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً ﴾ تسميته وعداً مشاكلة، وإلا فالاخبار بالشر إيعاد ولا وعد، وقدر المفسر الكاف إشارة إلى أن مفعول وعد محذوف، وقوله: (من العقاب) بيان لما. قوله: (نادى مناد) قيل هو إسرافيل، وقيل غيره من الملائكة. قوله: (أسمعهم) تفسير لقوله: ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ ﴾ نعت للظالمين. قوله: (معوجة) أي مائلة عن الحق، والمعنى أنهم يغيرون دين الله وطريقته التي شرع لعباده. قوله: (حاجز) أي يمنع وصول كل منهما للآخر. قوله: (استوت حسناتهم وسيئاتهم) هذا قول من ثلاثة عشر قولاً، وقيل: أولاد المشركين الذين ماتوا صغاراً، وقيل: أناس خرجوا للغزو في سبيل الله من غير إذن آبائهم ثم قتلوا، وقيل: ناس بروا آباءهم دون أمهاتهم وبالعكس، وقيل إنهم عدول القيامة يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة. قوله: (كما في الحديث) أي وهو أن الله يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم:﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾[الأعراف: ٤٦] سلام عليكم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا:﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾[الأعراف: ٤٧] فهناك يقول الله تعالى:﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾[الأعراف: ٤٦] فكأن الطمع دخولاً.
قوله: ﴿ وَنَادَوْاْ ﴾ أي أصحاب الأعراف. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن الوقف على قوله: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ وقوله: ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا ﴾ كلام مستأنف جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلاً قال: وما صنع بأهل الأعراف؟ فأجيب بأنهم لم يدخلوها. قوله: (إذ طلع عليهم ربك) أي أزال عنهم الحجب حتى رأوه وسمعوا كلامه. قوله: (فقال قوموا ادخلوا الجنة) أي فينطلق بهم إلى نهر الحياة، حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك فيلفوا فيه، فتصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمعون مساكين أهل الجنة. قوله: ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ﴾ عبر بالصرف دون النظر، إشارة إلى أن نظرهم ألى أهل النار غير مقصود، لأن رؤية العذاب وأهله تسيء للناظرين، بخلاف النظر للنعيم وأهله، ففيه مسرة للناظرين، فلذا لم يعبر في جانبه بالصرف بل قيل: ﴿ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾.
قوله: ﴿ تِلْقَآءَ ﴾ بالمد والقصر قراءتان سبعيتان، وهي ظرف مكان بمعنى جهة، ويستعمل مصدراً كالتبيان، ولم يجيء من المصادر على التفعال بالكسر غير التلقاء والتبيان والزلزال، وبعضهم ألحق التكرار بذلك. قوله: (في النار) أي لا ابتداء مع العصاة، ولا دواماً مع الكفار. قوله: ﴿ رِجَالاً ﴾ أي كانوا عظماء في الدنيا، كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، وأضرابهم. قوله: ﴿ بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي علامتهم، وتقدم أنها سواد الوجه للكفار. قوله: ﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ ﴾ يحتمل أن ما استفهامية، أي: أي شيء أغنى عنكم جمعكم، ويحتمل أنها نافية، أي لم يغن عنكم جمعكم ولا استكباركم شيئاً من عذاب الله. قوله: (المال) أشار بذلك إلى أن جمع مصدر مضاف لفاعله، ومفعوله محذوف قدره بقوله المال، وقوله: (أو كثرتم) إشارة لتفسير ثان لجمعكم، فيكون معناه جماعتكم. قوله: (أي واستكباركم) سبك المصدر بما بعد كان جرياً على قول من يقول إن كان تجردت عن معنى الحديث وصارت لمجرد الربط، ولو مشى على مقابلة المشهور لقال وكونكم مستكبرين، وإنما حمل المفسر على ذلك الاختصار. قوله: (مشيرين) أي أهل الأعراف. قوله: (إلى ضعفاء المسلمين) أي الذين كانوا يعذبون في الدنيا، وكان المشركون يسخرون بهم، كصبيب وبلال وسلمان وخباب ونحوهم.
قوله: ﴿ أَهَـۤؤُلاۤءِ ﴾ استفهام تقرير وتوبيخ. قوله: ﴿ أَقْسَمْتُمْ ﴾ أي باللات والعزى. وقوله: ﴿ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ هذا هو المقسم عليه، ويؤخذ من الآية أن أهل الأعراف ناظرون لأهل الجنة وأهل النار، وأن أهل النار ناظرون لأهل الأعراف وأهل الجنة، وهذا لمزيد الحسرة لهم، فهم يعذبون بالنار والتبكيت من أهل الأعراف. قوله: (وقد قيل لهم) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ ﴾ مقول لذلك القول المحذوف ليصح جعلها خبراً ثانياً، لأن الجملة الطلبية لا يصح وقوعها خبراً إلا إذا أولت بخبر. قوله: (وقرئ ادخلوا الخ) هاتان شاذتان على عادته، حيث يعبر عن الشاذ بقرئ، وعن السبعي بوفي قراءة، وعلى هاتين القراءتين فلا يحتاج لتقدير القول، لأن الجملة خبرية. قوله: (جملة النفي) أي جنسها الصادق بالجملتين وهما: ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
قوله: (حال) أي معمول لحال محذوفة، ففي كلامه تسمح، وهذا على القراءتين الشاذتين، وأما على القراءة السبعية فلا يحتاج لذلك. قوله: ﴿ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ قاله ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار في الفرج عنهم فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فيأذن لهم، فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول: قد احترقت أفض علي من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين. قوله: (من الطعام) أي الشامل للمشروب والمأكول، وحينئذ فيضمن: ﴿ أَفِيضُواْ ﴾ معنى ألقوا، نظير علفتها تبناً وماء بارداً، و ﴿ أَوْ ﴾ بمعنى الواو بدليل قوله: ﴿ حَرَّمَهُمَا ﴾ وإلا لو بقيت على بابها من التخيير لأعيد الضمير مفرداً. قوله: (منعهما) أي فالتعبير بالتحريم مجاز لانقطاع التكليف بالموت، ويعلم من هذا أنه لا يتأثر أهل الجنة بعذاب أهل النار لتقطع الأسباب بينهم، ونزع الرحمة من قلوب أهل الجنة لأهل النار لاستحقاقهم ما هم فيه من العذاب.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ﴾ هذا وصف للكافرين. قوله: ﴿ لَهْواً وَلَعِباً ﴾ اللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب ربه. قوله: ﴿ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش. قوله: ﴿ فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ ﴾ ليس من كلام أهل الجنة، وإنما هو قول الرب جل جلاله، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: فإذا كان حال الكافرين فاليوم ننساهم. قوله: (نتركهم في النار) أشار بذلك إلى أن النسيان مستعمل في لازمه وهو الترك، لأن حقيقته مستحيلة على الله، فالمعنى نعاملهم معاملة الناسي من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار. قوله: ﴿ كَمَا نَسُواْ ﴾ الكاف تعليلية، وما مصدرية، أي لأجل نسيانهم. قوله: (بتركهم العمل له) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا. قوله: (أي وكما جحدوا) أشار بذلك إلى أن ما معطوف على الأولى مسلط عليه كاف التعليل، والمعنى نتركهم في النار لتركهم العمل ولجحدهم آياتنا. قوله: ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ القراءة السبعية بالصاد، وقرئ شذوذاً بالضاد المعجمة، أي فضلناه على غيره من الكتب السماوية: (قوله بالأخبار والوعد) أي وكذا بقية الأنواع التسعة التي جمعها بعضهم في قوله: حلال حرام محكم متشابه   بشير نذير قصة عظة مثلقوله: (حال) أي من الفاعل، ويصح كونه حالاً من المفعول، والمعنى فصلناه حال كونه مشتملاً على علم. قوله: (حال من الهاء) أي أو من كتاب، وجاز ذلك لتخصيصه بالوصف. قوله: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ أي أهل مكة. قوله: (عاقبة ما فيه) أي فهذا هو المراد بتأويله بمعنى ما يؤول إليه وعيد القرآن لهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ ﴾ أي التأويل. قوله: ﴿ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ أي تبين صدقهم فيما جاؤوا به واعترفوا بذلك لمعاينة العذاب. قوله: ﴿ فَيَشْفَعُواْ ﴾ منصوب بأن مضمرة في جواب الاستفهام، فهو عطف اسم مؤول على اسم صريح. قوله: ﴿ أَوْ ﴾ (هل) ﴿ نُرَدُّ ﴾ أشار بذلك أن جملة ﴿ نُرَدُّ ﴾ معطوفة على التي قبلها، والاستفهام مسلط عليها. قوله: ﴿ فَنَعْمَلَ ﴾ منصوب بأن مضمرة، جواب الاستفهام الثاني، والمعنى نطلب أحد أمرين: إما الشفاعة لنا فيما سبق منا، أو نرجع إلى الدنيا ونحسن العمل فيها. قوله: (من دعوى الشريك) أي من دعوى نفع الشريك، لأنهم كانوا يدعون أن الأصنام تنفعهم.
قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي لا غيره. قوله: ﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أي وأولها الأحد، وآخرها الجمعة، كما ورد أنه ابتدأ الخلق في يوم الأحد، وأنه خلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين، والسماوات في يومين: الخميس والجمعة، وأنه خلق الجبال والوحوش والأشجار والزرع في: الثلاثاء والأربعاء، وروى مسلم والحاكم عن ابن عباس إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الصخر والماء والطين والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق الله في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية ألقى الله الألفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وخلق في الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة، واستشكل ذلك بأنه لم يكن ثم شمس، والجواب بأن المراد في قدرها لا يجدي نفعاً إلا أن يقال: إن ذلك التقدير في علم الله، بحيث لو كانت الأيام موجودة لكانت كذلك، ثم اعلم أن ما هنا من الأحاديث موافق لما يأتي في سورة فصلت، من أن خلق الأرض مقدم على السماء، ولا تنافي بينه وبين ما يأتي في سورة النازعات في قوله تعالى:﴿ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات: ٣٠] المقتضى تقديم السماء على الأرض، لأن الدحي غير الخلق، فإن الأرض خلقت أولاً كرة، ثم بعد خلق السماء بطست الأرض. قوله: (أي في قدرها) جواب عن سؤال مقدر أفاده المفسر بقوله: (لأنه لم يكن ثم شمس). قوله: (التثبت) أي التمهل في الأمور وعدم العجلة. قوله: (هو في اللغة سرير الملك) أي وتسميته عرشاً، إنما هو بالنسبة لما عدا الراكب عليه لعلوه عليهم، وأما المراد به هنا فهو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيط بكلها. قوله: (استواء يليق به) هذه طريقة السلف الذين يفوضون علم المتشابه لله تعالى، وهذا نظير ما وقع لمالك بن أنس أنه سأله رجل عن قوله تعالى:﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ ﴾[طه: ٥] فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أخرجوا عني هذا المبتدع، وأما طريقة الخلف فيؤولون الاستواء بالاستيلاء والتصرف وهو المراد، قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق   من غير سيف ودم مهراقوقد أشار صاحب الجوهرة للطريقتين بقوله: وكل نص أوهم التشبيها   أوله أو فوض ورم تنزيهاقوله: (مخففاً ومشدداً) أي فهما قراءتان سبعيتان، وعليهما فالليل فاعل والنهار مفعول لفظاً ومعنى، ووجب تقديم ما هو فاعل معنى لئلا يلتبس، نحو أعطيت زيداً عمراً. قوله: (أي يغطى كلاً منهما بالآخر) يشير إلى أن في الآية حذفاً تقديره ويغشى النهار الليل، ويؤيده آية:﴿ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ ﴾[الزمر: ٥].
قوله: ﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ أي ليس بينهما فاصل، والحث والحض بمعنى واحد، وهو الطلب بسرعة، وحثيثاً نعت مصدر محذوف، أي طلباً حثيثاً. قوله: (بالنصب عطفاً على السماوات) أي ونصب: ﴿ مُسَخَّرَاتٍ ﴾ على الحال من: ﴿ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ﴾ أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (مذللات) أي مسيرات، فحيث سيرها سارت، وفي هذا رد على الفلاسفة القائلين بتأثير الكواكب في العالم السفلي، فهي أسباب عادية توجد الأشياء عندها لا بها. قوله: ﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ ﴾ ألا للاستفتاح يؤتى بها مبدأ الكلام البليغ الذي يقصد به الرد على المنكر، والمراد بالخلق الإيجاد، وبالأمر التصرف، فهو منفرد بالإيجاد والتصرف فلا شريك له فيهما، وتصرف الحادث إنما هو بتصريف الله له، وليس لمخلوق استقلال بتصريف أبداً، وإنما العبيد مظاهر التصريف، فمن أكرمه أجرى جلب الخير ودفع الضر على يديه، كمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومن أهانه أجرى الشرور على يده. قوله: ﴿ تَبَارَكَ ﴾ فعل ماض جامد لا يتصرف، ومعناه تمجد وتنزه عن صفات الحدوث. قوله: ﴿ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ ﴾ أمر لجميع العباد بالتوجه في الدعاء لله سبحانه وتعالى، أي فحيث علمتم أن الله هو المتصرف في خلقه إيجاداً وإعداماً وإعطاءاً ومنعاً، فوجهوا إليه قلوبكم واسألوه بألسنتهم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى للدعاء أربعة شروط: التضرع والخفية والخوف والطمع. قوله: (حال) أي من الفاعل في: ﴿ ٱدْعُواْ ﴾ أي ادعوا حال كونكم متضرعين متذللين، لأن الدعاء إذا كان مع التذلل كان للإجابة أقرب. قوله: (سراً) أي باسماع نفسه، لأن الله تعبدنا بالدعاء كما تعبدنا بالقراءة، فلا يكفي مرور الدعاء على قلبه. واعلم أن باسماع نفسه، لأن الله تعبدنا بالدعاء كما تعبدنا بالقراءة، فلا يكفي مرور الدعاء على قلبه. واعلم أن الإنسان إذا كان وحده، فالسر أفضل له إن كان ينشط في ذلك إلا فالجهر أفضل له كالجماعة. قوله: (بالتشدق) هو كثرة الكلام من غير حضور في القلب فهو راجع لقوله: ﴿ تَضَرُّعاً ﴾ وقوله: (ورفع الصوت) هو راجع لقوله: ﴿ وَخُفْيَةً ﴾.
قوله: ﴿ خَوْفاً ﴾ الخوف غم يحصل من أمر مكروه يقع في المستقبل. قوله: ﴿ وَطَمَعاً ﴾ الطمع توقع أمر محبوب يحصل في المستقبل، ومنه رجاء الإجابة، ففي الحديث: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " وفي الحديث أيضاً:" ما من عبد يرفع يديه ويقول يا رب إلا ويستحي الله أن يردهما صفرين "فاستفيد من هذا أنه ينبغي للداعي الخوف والرجاء، فيجعلهما كجناحي الطائر، إن مال أحدهما سقط. قوله: (المطيعين) أي ولو بالتوبة، فالمطلوب تقديم التوبة على الدعاء ليقع الدعاء من قلب طاهر، فيكون أقرب للإجابة. قوله: (وتذكير قريب) جواب عما يقال إن: ﴿ قَرِيبٌ ﴾ في الأصل وصف في المعنى لرحمة وهي مؤنثة، فكان حقه التأنيث. فأجاب بأنه اكتسب التذكير من المضاف إليه، وهو لفظ الجلالة، أو يقال: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ ﴾ مجازي التأنيث فيوصف بالمذكر، أو يقال إن معنى الرحمة الثواب وهو مذكر فوصفه بالمذكر من حيث المعنى.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية، والرياح جمع ريح، وهي أربعة: الصبا والدبور والجنوب والشمال، فالصبا تثير السحاب وهي من مطلع الشمس، والشمال تجمعه وهي من تحت القطب، والجنوب تدره وهي من جهة القبلة، والدبور تفرقه وهي من مغرب الشمس، وفي رواية الرياح ثمانية، أربعة عذاب: العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وأربعة رحمة: الناشرات والمرسلات والنازعات والمبشرات. قوله: (متفرقة) هذا التفسير لم يوافقه عليه أحد، بل بعض المفسرين قال: إن معنى نشراً منتشرة متسعة أو ناشرة للسحاب. قوله: (قدام المطر) في الكلام استعارة مكنية، حيث شبهت الرحمة بمعنى المطر بسلطان يقدم وله مبشرات، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه، وهو قوله: ﴿ بَيْنَ يَدَيْ ﴾ فإثباته تخييل. قوله: (تخفيفاً) أي بحذف ضمة الشين، وهي سبعية أيضاً كاللتين بعدها. قوله: (بسكونها وفتح النون) أي وإفراد الريح. قوله: (نشراً) أي إما بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول، أي ناشرة للسحاب أو منشورة. قوله: (ومفرده الأولى) أي ضم الشين ومثلها سكونها، فمفرد الاثنين واحد. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ ﴾ غاية لإرسال الرياح. قوله: ﴿ سَحَاباً ﴾ هو ثمر شجرة في الجنة. قوله: (بالمطر) متعلق بثقالاً والباء للسببية. قوله: (عن الغيبة) أي إلى التكلم، إذ كان مقتضى الظاهر فساقه. قوله: (لا نبات فيه) أي فموت الأرض كناية عن عدم النبات بها. قوله: (بالبلد) أشار بذلك إلى أن الضمير في: (به) عائد على البلد، والباء بمعنى في، وقوله: (بالماء) يشير إلى أن الضمير عائد على الماء، والباء سببية، ويصح عوده على البلد، وتكون الباء بمعنى في. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ (الإخراج) أي فالتشبيه مطلق الإخراج من العدم، فمن كان قادراً على إخراج الثمار من الأرض، سيما أرض الجبال التي شأنها عدم إنبات شيء من الثمار، قادر على إحياء الموتى من قبورهم فهو رد على منكري البعث.
قوله: ﴿ وَٱلْبَلَدُ ﴾ أي الأرض. قوله: (حسناً) أخذه من قوله: ﴿ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾.
قوله: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ أي بإرادته ولم يذكر ذلك في المقابل وإن كان بإذنه أيضاً تعليماً لعباده الأدب، حيث أسند لنفسه الخير دون الشر وإن كان منه أيضاً لما ورد: إن الله جميل يحب الجمال، ولقوله تعالى:﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ﴾[آل عمران: ٢٦] ولم يقل وبيدك الشر، فلا يجوز أن يقال سبحان من خلق القرد، ولا سبحان من دبب الشوك. قوله: (هذا مثل للمؤمنين) أي ولعمله، فمثل المؤمن كمثل الأرض الطيبة، ومثل المواعظ والقرآن كمثل الماء، فكما أن الماء إذا نزل على الأرض الطيبة أنبتت طيباً، كذلك المواعظ والقرآن إذا نزلت على قلب المؤمن أنبتت الطاعات والصفات الحميدة. قوله: ﴿ إِلاَّ نَكِداً ﴾ أي إلا نباتاً نكد عديم النفع، ونصب نكداً على الحال، أو نعت مصدر محذوف، أي إلا خروجاً نكداً وهو من باب تعب. قوله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ المقصود من ذكر تلك القصص تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتركت الواو هنا، وذكرت في سورة هود والمؤمنون، لعدم تقدم ما يعطف عليه هنا بخلاف ما يأتي، ونوح اسمه عبد الغفار ابن ملك بفتح الميم وسكونها ابن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس، بعث على رأس أربعين سنة على الصحيح، وقيل على رأس خمسين، وقيل مائتين وخمسين، وقيل مائة سنة، ومكث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين، فجملة عمره ألف ومائتان وأربعون، بناء على الصحيح من أنه بعث على رأس الأربعين، وكان بحاراً، وصنع السفينة في عامين، ولقب بنوح لكثرة نوحه على نفسه، حيث دعا على قومه فهلكوا، وقيل لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، وقيل لأنه مر على كلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقدم قصة نوح لأن قومه أول من كفر واستحق العذاب. قوله: (جواب قسم محذوف) إنما أتى بالقسم هنا للرد على المنكرين ومما يجب التأكيد فيه. قوله: ﴿ إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ القوم في الأصل: قبيلة الرجل وأقاربه الذين اجتمعوا معه في جد واحد، ويطلق القوم مجازاً على من عاشرهم الرجل وسكن عندهم، وإن لم يكونوا أقارب له. قوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي وحدوه. قوله: ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ استئناف مسوق لبيان وجه إفراده بالعبادة. قوله: (صفة لإله) أي مراعاة للفظه. قوله: (بدل من محله) أي لأن محله رفع بالابتداء ومن زائدة. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ ﴾ على ثانية للأمر بالعبادة، والمعنى اعبدوا الله لأنه ليس لكم إله غره، ولأني أتحقق نزول عذاب الآخرة بكم إن خالفتم ذلك، إما عاجلاً في الدنيا أو آجلاً في الآخرة. قوله: ﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ﴾ بالهمز والقصر، سموا بذلك لأنهم يملأون المجالس بأجسامهم، والقلوب بهيبتهم، والعيون بأبهتهم. قوله: ﴿ مِن قَوْمِهِ ﴾ لم يقل الذين كفروا مثل ما قيل في قوم هود، لأن ذلك كان في مبدأ رسالته ولم يكن ثم مؤمن، هكذا قيل، والأحسن أن يقال حذفه منه لعلمه مما يأتي في الآية الأخرى. قوله: ﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي حيث عدل من عبادة آلهتهم المجمعين عليها المذكورين في سورة نوح في قوله تعالى:﴿ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ﴾[نوح: ٢٣] الآية. قوله: (هي أعم من الضلال) أي لأن الضلال هو الخروج عن الحق من كل وجه، والضلالة هي الخروج عن الحق ولو بوجه. قوله: (فنفيها أبلغ) أي لأنها نكرة في سياق النفي فتعم. قوله: ﴿ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ ﴾ قد وقع الاستدراك أحسن موقع، لكونه بين ضدين: نفي الضلالة المتوهم ثبتها، وثبوت الرسالة المتوهم نفيها. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ رِسَالاَتِ رَبِّي ﴾ الجمع باعتبار تعدد الأزمنة، والمراد بالرسالات المرسل بها التي هي الأحكام. قوله: ﴿ وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾ النصح يتعدى بنفسه باللام، وهو إرادة الخير للغير كما يريده لنفسه. قوله: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من الأحكام التي تأتيه عن الله أو من العذاب الذي يحل بهم إن لم يؤمنوا. قوله: (كذبتم) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف. قوله: (موعظة) أي تخوفكم من عذاب الله إن لم تؤمنوا. قوله: ﴿ لِيُنذِرَكُمْ ﴾ علة للمجيء، وقوله: ﴿ وَلِتَتَّقُواْ ﴾ مرتب على الإنذار، وقوله: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ مرتب على التقوى، فهذا الترتيب في أحسن البلاغة، وعبر في جانبب الرحمة بالترجي، إشارة إلى أن الرحمة أمرها عزيز لا تنال بالعمل، بل بفضل الله. قوله: (العذاب) قدره إشارة إلى أن المفعول ينذر محذوف. قوله: ﴿ وَلِتَتَّقُواْ ﴾ (الله) قدره إشارة إلى أن المفعول تتقوا محذوف أيضاً. قوله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ أي استمروا على تكذيبه: قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل تسعة: أولاده الثلاثة: سام هو أبو العرب، وحام وهو أبو السودان، ويافث وهو أبو الترك، وستة من غيرهم. قوله: ﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ﴾ يطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. ووزن المفرد قفل والجمع أسد. قوله: (السفينة) وكان طولها ثلثمائة ذراع، وسمكها ثلاثين ذراعاً وعرضها خمسين، وطبقاتها ثلاث: السفلى للوحوش والدواب، والوسطى للإنس، والعليا للطيور. وركبعا في عاشر رجب، واسترت على الجودي في عاشر المحرم. قوله: ﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ أي الدالة على التوحيد، وهي معزات نوح. قوله: أصله عميين حذفت الياء الأولى تخفيفاً، هو جمع عم يقال لأعمى البصيرة، وأما عميان فجمع أعمى يقال لأعمى البصر.
قوله: ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ ﴾ جرت عادة الله في كتابه، أنه إذا كان للمرسل إليهم اسم ذكرهم به، وإلا عبر بقوله قومه، وقدر المفسر: (أرسلنا) إشارة إلى أن: ﴿ أَخَاهُمْ ﴾ معطوف على نوحاً، والعال فيه: (أرسلنا) المتقدم، والجار والمجرور معطوف على قوله إلى قومه، فتكون الواو عاطفة عطف قصة على قصة، وهكذا يقال في باقي القصص. قوله: (الأولى) يحترز به عن عاد الثانية فإنها قوم صالح. قوله: ﴿ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾ سمى أخاهم لأنه من جنسهم واجتمع معهم في جد، لأن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فسميت القبيلة باسم جدهم، وهو بن عبد الله بن رباج بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، وقيل ابن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فعلى الأول قد اجتمع معهم في عاد، وعلى الثاني لا، وإنما اجتمع معهم في سام، وكان بين هود ونوح ثمانمائة سنة، وبين القبيلتين مائة سنة، وعاش أربعمائة وأربع وستين سنة، وعاد يجوز صرفه باعتبار كونه اسماً للحي، ومنعه باعتبار كونه اسماً للقبيلة، وهذا من حيث العربية، وأما في القرآن فلم يقرأ بمنع الصرف. قوله: ﴿ قَالَ يَاقَوْمِ ﴾ أتى في قصة نوح بالفاء لأنه كان مسارعاً في دعوتهم إلى الله غير متوازن كما حكى في سورة نوح، قال تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾[نوح: ٥] بخلاف هود. قوله: ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ أي لأنه الخالق للعالم المتصرف فيه. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ الهمزة داخل على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتركتم التفكر في مصنوعات الله أفلا تتقون. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ صفة للملأ كاشفة، لأن هذه المقالة لا تقع من مؤمن، ولذا تركت من قصة نوح لعملها مما هنا. قوله: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ ﴾ رأى هنا علمية، فمفعولها الأول الكاف، والثاني متعلق بالجار والمجرور. قوله: ﴿ فِي سَفَاهَةٍ ﴾ الحكمة في تعبير قوم هود بالسفاهة، وقوم نوح بالضلال، أن نوحاً لما خوف قومه بالطوفان، وجعل يصنع الفلك، نسبوه للضلال، حيث أتعب نفسه في عمل سفينة في أرض لا ماء بها ولا طين، وهو لما نهاهم عن عبادة الأصنام صموداً وصمداً وهبا ونسب من يعبدها للسفه، خاطبوه بمثل ما خاطبهم به. قوله: ﴿ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ ﴾ تقدم أن مثل هذا الاستدراك وقع أحسن موقع، لكنه وقع بين ضدين. قوله: ﴿ أُبَلِّغُكُمْ ﴾ بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ ﴾ الحكمة في تعبير هود بالجملة الاسمية، ونوح كان مكرراً للنصح، وذلك يدل عليه بالجملة الفعلية، لأن الفعل للتجدد. قوله: (مأمون على الرسالة) أي فلا أزيد ولا أنقص. قوله: ﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف تقديره أكذبتموني وعجبتم. قوله: ﴿ ذِكْرٌ ﴾ أي موعظة تخوفكم من عذاب الله. قوله: ﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ ﴾ إذ ظرف مفعول لاذكروا، أي اذكروا وقت جعلكم، والمقصود ذكر النعمة لا ذكر وقتها. قوله: ﴿ بَصْطَةً ﴾ بالسين والصاد قراءتان سبعيتان ومعناهما واحد. قوله: (قوة وطولاً) أي ومالاً. قوله: (مائة ذراع الخ) الذي قاله المحلي في سورة الفجر، إن طويلهم كان أربعمائة ذراع بذراع نفسه، وفي رواية خمسمائة ذراع، وقصيرهم ثلاثمائة ذراع، وكان رأس الواحد منهم قدر القبة العظيمة، وكانت عينه بعد موته تفرخ فيها الضباع. قوله: ﴿ ءَالآءَ ٱللَّهِ ﴾ جمع إلى بكسر الهمزة وضمها، كحمل وقفل، أو بكسر ففتح كضلع، أو بفتحتين كقفا. قوله: (تفوزون) أي برضا الله وزيادة النعم، لأن شكر النعم مما يديمها ويزيدها.
قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا ﴾ أي جواباً بالنصحة لهم. قوله: (وجب) أي حق وثبت، والتعبير بالماضي إشارة إلى أنه واقع لا محالة. قوله: ﴿ وَغَضَبٌ ﴾ عطف سبب على مسبب. قوله: ﴿ فِيۤ أَسْمَآءٍ ﴾ أي مسميات. قوله: (أصناماً) قدره إشارة إلى مفعول سميتموها الثاني. قوله: (فأرسلت عليهم الريح العقيم) وكانت باردة ذات صوت شيد لا مطر فيها، وكانت وقت مجيئها في عجز الشتاء وابتدأتهم صبيحة الأربعاء لثمان يقين من شوال، وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكت رجالهم ونساءهم وأولادهم وأموالهم، بأن رفعت ذلك في الجو فمزقته، وفي رواية بعث الله عز وجل الريح العقيم، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها بادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكتهم أرسل الله عليهم طيراً أسود فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، وقيل إن الله تعالى أمر الريح فمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل. ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ أي وكانوا شرذمة قليلة يكتمون إيمانهم، وسبب نجاتم أنهم دخلوا في حظيرة فصار يدخل عليهم من الريح ما يتلذون به، ثم بعد ذلك أتوا مكة مع عود، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. قوله: (أي استأصلناهم) أي لم نبق منهم أحداً. قوله: (عطف على كذبوا) أي وفائدته وإن علم منه الإشارة إلى أن الله علم عدم إيمانهم، وأنهم لو بقوا ما آمنوا، أي فلا تحزن عليهم أيها السامع.
قوله: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ ﴾ تقدم أنه معطوف على قوله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ عطف قصة على قصة، وثمود قبيلة سوا باسم جدهم ثمود بن عابر بن سام بن نوح. قوله: (بترك الصرف) أي للعلمية والتأنيث. ولو أريد به الحي لصرف. قوله: ﴿ أَخَاهُمْ ﴾ أي في النسب لأنه ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود المتقدم، وكان بين صالح وهود مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة. قوله: ﴿ صَالِحاً ﴾ بدل من أخاهم أو عطف بيان عليه. ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ علة لقوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾.
وقوله: ﴿ قَدْ جَآءَتْكُمْ ﴾ علة لمحذوف، والتقدير امتثلوا ما أمرتكم به، لأنه قد جاءتكم بينة على صدقي. قوله: ﴿ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾ كلام مستأنف بيان للمعجزة، والإضافة للتشريف واسم الإشارة مبتدأ و ﴿ نَاقَةُ ٱللَّهِ ﴾ خبر ومضاف إليه ﴿ لَكُمْ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من: ﴿ آيَةً ﴾ لأنه نعت كرة تقدم عليها أو خبر ثان و ﴿ آيَةً ﴾ حال والعامل فيها محذوف تقدير أشير، وقد أشار له المفسر بقوله: (حال عاملها معنى الإشارة) وهذا القول وقع من صالح بعد نصحهم، كما قال تعالى في سورة هود:﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾[هود: ٦١] الآيات. قوله: (من صخرة عينوها) وكان يقال لها الكاتبة، وكانت منفردة في ناحية الجبل، فقالوا أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تكون على شكل البخت، وتكون عشراء جوفاء وبراء، أي ناقة عشراء جوفاء كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى، فعند خروجها ولدت ولداً مثلها في العظم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى وتشرب إلى أن عقروها. قوله: ﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ ﴾ مرتب على كونها آية من آيات الله. قوله: ﴿ تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ ﴾ أي وتشرب. قوله: ﴿ فَيَأْخُذَكُمْ ﴾ بالنصب في جواب النهي، والتعقيب ظاهر، لأنهم لم يلبثوا إلا ثلاثة أيام، رأوا فيها أمارات العذاب، كما يأتي في سورة هود. قوله:﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[هود: ٤٨] أي مؤلم. قوله: ﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ ﴾ تذكير لهم بنعم الله التي أنعمها عليهم. قوله: (في الأرض) قدره المفسر إشارة إلى أن في الآية الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. قوله: ﴿ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي أرض الحجر بكسر الحاء، مكان بين الحجاز والشام. قوله: ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ أي تعملون وتصنعون، واتخذ يصح أن يكون متعدياً لواحد، فمن سهولها متعلق باتخذ، أو لاثنين فمن سهولها متعلق بمحذوف مفعول ثان. قوله: ﴿ مِن سُهُولِهَا ﴾ جمع سهل وهو المكان المتسع الذي لا جبل به، من بمعنى في، أي تصنعون في الأرض السهلة القصور، ويصح أن تكون من للابتداء، أي تتخذون من السهول، أي الأراضي اللينة القصور، أي طوبها وطينها، والأقرب الأول، وسميت القصور بذلك لقصر أيدي الفقراء عن تحصيلها. قوله: ﴿ وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً ﴾ يصح أن يكون المعنى على إسقاط الخالص أي من: ﴿ ٱلْجِبَالَ ﴾ و ﴿ بُيُوتاً ﴾ مفعول ﴿ تَنْحِتُونَ ﴾، ويصح أن يكون ﴿ ٱلْجِبَالَ ﴾ مفعولاً به، و ﴿ بُيُوتاً ﴾ حال مقدرة كما قال المفسر، لأن الجبال لا تصير بيوتاً إلا بعد نحتها، وهو إن كان جامداً، إلا أنه مؤول بالمشتق أي مساكن. قوله: ﴿ مُفْسِدِينَ ﴾ حال مؤكدة لعاملها، لأن العثو هو الفساد. قوله: (تكبروا) أشار بذلك إلى أن السين زائدة. قوله: (عن الإيمان به) أي بصالح. قوله: (بدل مما قبله بإعادة الجار) أي بدل كل من كل، إن كان الضمير في: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ عائداً على القوم، ويكون جميع المستضعفين آمنوا وبدل بعض من كل، إن كان الضمير عائداً على المستضعفين، ويكون بعض المستضعفين آمنوا، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله: ﴿ أَتَعْلَمُونَ ﴾ مفعول قول المستكبرين. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ (نعم) قدر المفسر إشارة إلى أن هذا حق الجواب، وإنما عدلوا عنه مسارعة إلى تحقيق الحق وإظهار إيمانهم، وتنبيهاً على أن رسالته واضحة لا تخفى، فلا ينبغي السؤال عنها فهذا الجواب تبكيت لهم.
قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ ﴾ إظهار في محل الإضمار تبكيتاً لهم. قوله: ﴿ إِنَّا بِٱلَّذِيۤ آمَنتُمْ ﴾ لم يقولوا إنما بما أرسل به، إظهاراً لمخالفتهم إياهم تعنتاً وعناداً. قوله: (وكانت الناقة لها يوم في الماء) أي فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتى تشرب جميع ما فيها ثم تنبجبج، فيحلبون ما شاؤوا حتى يملأوا أوانيهم فيشربون ويدخرون. قوله: ﴿ فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ ﴾ أي في يوم الأربعاء، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرة ثم تصبحون في يوم الجمعة وجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم السبت وجوهكم مسودة. فأصبحوا يوم الخميس قد اصفرت وجوههم، فأيقنوا العذاب، ثم احمرت في يوم الجمعة فازداد خوفهم، ثم اسودت يوم السبت فتجهزوا للهلاك، فأصبحوا يوم الأحد وقت الضحى، فكفنوا أنفسهم تحنطوا كما يفعل بالميت وألقوا بأنفسهم إلى الأرض، فلما اشتدت الضحى، أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت في ذلك الوقت كل شيء له صوت مما في الأرض، ثم نزلت بهم الأرض حتى هلكوا جميعاً، وأما ولد الناقة فقيل له إنه فر هارباً، فانفتحت له الصخرة التي خرجت منها أمة فدخلها وانطبقت عليه، قال بعض المفسرين: إنه الدابة التي تخرج قرب القيامة، وقيل أنهم أدركوه وذبحوه. قوله: (عقرها قدار) أي ابن سالف، وكان رجلاً أحمر أزرق العينين قصيراً، وكان ابن زانية، ولم يكن لسالف، وهو أشقى الأولين كما ورد في الحديث. قوله: (بأن قتلها بالسيف) أي فالمراد بالعقر النحر، ففيه إطلاق السبب على المسبب، لأن العقر ضرب قوائم البعير أو الناقة لتقع فتنحر. قوله: ﴿ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ﴾ أي على سبيل التهكم والاستهزاء. قوله: ﴿ بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ (به) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف، وكان الأولى أن يقدر ضمير نصب، بأن يقول تعدناه لئلا يلزم حذف العائد المجرور بالحرف من غير اتحاد متعلقهما.
قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ أي بعد مضي ثلاثة أيام، والتعقيب ظاهر، لأن الثلاثة أيام مقدمات من الهلاك. قوله: (والصيحة من السماء) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء، لأن عذابهم كان بهما معاً. قوله: ﴿ فِي دَارِهِمْ ﴾ أي أرضهم، فالمراد بهم الجنس. قوله: ﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ أي بعد أن هلكوا وماتوا توبيخاً،" كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب، فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أقواماً قد جيفوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون، وقيل: خاطبهم قبل موتهم وقت ظهور العلامات فيهم "، عليه: يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقدره ولم يقدر أرسلنا مع أنه يكون موافقاً لما قبله وما بعده، لأنه يوهم أن وقت الإرسال قال لقمه ما ذكر، مع أنه ليس كذلك، بل أمرهم أولاً بالتوحيد، ثم بين لهم فروع شريعته، ولوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكان إبراهيم ولوط ببابل بالعراق، فهاجر إلى الشام فنزل إبراهيم بأر فلسطين، ونزل لوط بالأردن في قرية بالشام، فأرسله الله إلى أهل سذوم، بالذال المعجمة على وزن رسول، وهي بلد بحمص. قوله: ﴿ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع لأنها من أعظم الفواحش، ولذا كان حدها عند أبي حنيفة الرمي من شاهق جبل، وعند مالك الرجم مطلقاً فاعلاً أو مفعولاً أحصنا أو لم يحصنا. قوله: ﴿ مَا سَبَقَكُمْ ﴾ الخ تأكيد للإنكار عليهم، لأن مباشرة القبح قبيحة، واختراعه أقبح. قوله: (الإنس والجن) أي وجميع البهائم، بل هذه الفعلة لم توجد في أمة إلا في قوم لوط وفساق هذه الأمة المحمدية. وكان قوم لوط يتباهوان بالضراط في المجالس أيضاً، كما قال تعالى:﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ ﴾[العنكبوت: ٢٩] وهو فاحشة عظيمة أيضاً. قوله: (بتحقيق الهمزتين) حاصل ما أفاده المفسر، أن القراءات أربع: تحقيق الهمزتين، وتسهيل الثانية من غير إدخال ألف بين الهمزتين إو بإدخالها، ولكن الحق أن إدخال الألف بين الهمزتين المحققتين غير سبعية، وإنما هي لهشام، وبقي قراءة سبعية أيضاً وهي بهمزة واحدة على الخبر المستأنف بيان لتلك الفاحشة، وهي لنافع وحفص عن عاصم، فتحصل أن القراءات خمس، أربع سبعية وواحدة غير سبعية. قوله: ﴿ شَهْوَةً ﴾ أي لأجل الشهوة. قوله: ﴿ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ إما حال من: ﴿ ٱلرِّجَالَ ﴾ أو من الواو في تأتون، وحكمه التوبيخ على هذا الفعل القبيح، أن الله تعالى خلق الإنسان، وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا، وجعل النساء محلاً للشهوة والنسل، فإذا تركهن الإنسان، فقد عدل ما أحل له وتجاوز الحد، لوضعه الشيء في غير محله، لأن الأدبار ليست محلاً للولادة التي هي المقصودة بالذات.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ القراءة على نصب جواب خبراً لكان، واسمها أن وما دخلت عليه، وقرأ الحسن بالرفع اسم كان، وأن ما دخلت عليه خبرها، وما مشى عليه الجماعة أفصح عربية، لأن الأعراف وقع اسماً، والواو هنا للتعقيب لحلولها محل الفاء في النمل والعنكبوت، لأن جوابهم لم يتأخر عن نصيحته والحصر نسبي، والمراد أنه لم يقع منهم جواب عن نصح وموعظة، فلا ينافي أنهم زادوا في الجواب من الكلام القبيح. قوله: ﴿ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ أي سذوم. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ قالوا ذلك استهزاء. قوله: ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي ابنته، لأنه لم ينج من العذاب إلا وهو وابنتاه لإيمانهما به، فخرج لوط من أرضه، وطوى الله له الأرض في وقته قد نجا ووصل إلى إبراهيم، وسيأتي تمام القصة في سورة هود، وإنما ذكرت هنا اختصاراً. قوله: (الباقين في العذاب) أي لأن الغبر من باب قعد، يستعمل بمعنى البقاء في الزمان المستقبل، وبمعنى المكث في الزمان الماضي، والمراد الأول. قوله: ﴿ وَأَمْطَرْنَا ﴾ يقال غالباً في الرحمة مطر، وفي العذاب أمطر، وعلى كل هو متعد بنصب المفعول. قوله: (هو حجارة السجيل) أي وكانت معجونة بالكبريت والنار، وهلكوا أيضاً بالخسف، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾[هود: ٨٢]، ورد أن جبريل رفع مدائنهم إلى السماء، وكانت خمسة، وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، وأمطر عليهم الحجارة متتابعة في النزول عليها اسم كل من يرمي بها، وقيل إن الحجارة لمن كان مسافراً منهم، والخسف لمن كان في المدائن. قوله: ﴿ فَٱنْظُرْ ﴾ لكل سامع يتأتى منه النظر والتأمل، ليحصل الاعتبار بما وقع لهؤلاء القوم.
قوله: ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ عطف قصة على قصة، ولذا قدر المفسر أرسلنا ومدين اسم قبيلة شعيب، واسم لقريته أيضاً، بينها وبين مصر ثمانية مراحل، سميت باسم أبيهم مدين ابن ابراهيم الخليل، فشعيب أخوهم في النسب، وليس من أنبياء بني إسرائيل، وقوله: ﴿ شُعَيْباً ﴾ بدل من أخاهم، أو عطف بيان عليه، وأرسل شعيب أيضاً إلى أصحاب الأيكة، وهي شجر ملتف بعضه بالقرب من مدين، قال تعالى:﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾[الشعراء: ١٧٦].
قوله: (معجزة) لم تذكر تلك المعجزة في القرآن، وقيل المراد بها نفسه، بمعنى أن أوصافه لا يمكن معارضتها، وقيل المراد بها. قوله: ﴿ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ الخ، بمعنى ما يترتب عليها من العز للمطيع، والذل والعقاب للمخالف. قوله: ﴿ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ أي وكانت عادتهم نقص الكيل والميزان. قوله: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ هذا لازم لقوله: ﴿ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ لأن الشخص إذا لم يوف الكيل والميزان لغيره فقد نقصه من الثمن، وكذلك إذا استوفى الكيل والميزان لنفسه، فقد نقص الغير من الثمن. قوله: ﴿ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ ورد أنه قبل بعث شعيب لهم، كانوا يفعلون المعاصي، ويستحلون المحارم، ويسفكون الدماءـ فلما بعث شعيب أصلح الله به الأرض، وهكذا كل نبي بعث إلى قومه. قوله: (مريدي الإيمان) جواب عما يقال إنهم لم يكونوا مؤمنين إذ ذاك. قوله: (فبادروا إليه) جواب الشرط، وما قبله دليل الجواب. قوله: ﴿ بِكُلِّ صِرَاطٍ ﴾ أي محسوس بدليل ما بعده. قوله: (تخوفون الناس) قدره إشارة إلى أن مفعول: ﴿ تُوعِدُونَ ﴾ محذوف. قوله: (بأخذ ثيابهم) ورد أنهم كانوا يجلسون على الطريق، ويقولون لمن يريد شعيباً: إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك، فإن آمنت به قتلناك. قوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ هذا مفعول: ﴿ تَصُدُّونَ ﴾.
قوله: (تطلبون الطريق) أي المعبر عنه بالسبيل، وهو الطريق المعنوي الذي هو الذين، والمعنى تعدلوا عن الصراط المستقيم إلى الاعوجاج. قوله: ﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ ﴾ ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لقوله: ﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ ﴾ أي اذكروا وقت كونكم وقت كونكم قليلاً إلخ، والمراد اذكروا تلك النعمة العظيمة. قوله: ﴿ قَلِيلاً ﴾ أي في العدة والعدد والضعف، وقوله: ﴿ فَكَثَّرَكُمْ ﴾ أي فزاد عددكم وقوتكم، فكانوا أغنياء أقوياء ذوي عدد كثير بوجوب شعيب بينهم، ولذا لما فر موسى هارباً من فرعون، نزل عند شعيب فطمأنه وأمن روعه، قال تعالى حكاية عن شعيب:﴿ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾[القصص: ٢٥].
قوله: ﴿ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ أي وأقربهم إليكم قوم لوط، فانظروا ما نزل بهم. قوله: ﴿ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ ﴾ في الكلام الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، والتقدير وطائفة منكم لم يؤمنوا بالذي أرسلت به. قوله: ﴿ فَٱصْبِرُواْ ﴾ يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه، وأن يكون للكافرين منهم، وأن يكون للفريقين وهذا هو الظاهر، فأمر المؤمنين بالصبر ليحصل لهم الظفر والغلبة، والكافرين بالصبر لسوء عاقبة أمرهم، وهو نظير قوله تعالى:﴿ فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ﴾[التوبة: ٥٢].
قوله: (وبينكم) لا حاجة له، لأن الضمير عائد على شعيب وعليهم، والمعنى حتى يقضي الله بين الفريقين المؤمنين والكفار. قوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ ﴾ التعبير باسم التفضيل، باعتبار أنه الحاكم حقيقة، وغيره حاكم مجازاً، ومن كان له الحكم بالأصالة والحقيقة، خير ممن كان له الحكم مجازاً.
قوله: ﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ﴾ أي جواباً لما قاله لهم. قوله: ﴿ يٰشُعَيْبُ ﴾ إنما وسطوا اسمع بين المعطوف والمعطوف عليه، زيادة في القباحة والشناعة منهم. قوله: (وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد الخ) جواب عما يقال: إن شعيباً لم يسبق له الدخول في ملتهم، وإنما حمل المفسر على هذا الجواب تفسيره العود بالرجوع، وقال بعضهم إن عاد تأتي بمعنى صار، وعلى هذا فلا إشكال ولا جواب. قوله: (وعلى نحوه) أي التغليب. قوله: ﴿ أَ ﴾ (نعود فيها) أشار بذلك إلى أن الهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف. قوله: ﴿ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ الهمزة لإنكار الوقوع، وكلمة: ﴿ لَوْ ﴾ في مثل هذا المقام، ليست لبيان انتفاء شيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه، بل هي لمجرد الربط والمبالغة في انتفاء العود، والمعنى لا تطمعوا في عودنا مختارين ولا مكرهين فتأمل. قوله: ﴿ إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة قوله قد افترينا عليه. قوله: ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَآ ﴾ أي لا يصح ولا يليق لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، إلا في حال مشيئة الله لنا. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا ﴾ يصح أن يكون متصلاً، والمستثنى منه عموم الأحوال أو منقطعاً، وهذا الاستثناء محض رجوع إلى الله وتفويض الأمر إليه، وقد جازاهم الله بأن كفاهم شر أعدائهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. قوله: (أي وسع علمه) أشار بذلك إلى أن: ﴿ عِلْماً ﴾ تمييز محول عن الفاعل. قوله: ﴿ وَبَيْنَ قَوْمِنَا ﴾ أي الكفار، وإنما أعرض عن مكالمتهم ورجع لله متضرعاً لما ظهره له من شدة عنادهم وتعنتهم في كفرهم. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ إنما قال بعضهم لبعض هذه المقالة، خوفاً على بعضهم من الميل لشعيب، حيث توعدوه بما تقدم، فلم يبال بهم. قوله: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ أي في الدنيا بفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف، وجملة: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ جواب القسم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه. قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ ذكر هنا وفي العنكبوت الرجفة، وذكر في سورة هود:﴿ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ ﴾[هود: ٦٧] أي صيحة جبريل عليهم من السماء، وجمع بينهما بأن الرجفة في المبدأ، والصيحة في الأثناء فتأمل، وأما أهل الأيكة فأهلكوا بالظلة، كما سيأتي في سورة الشعراء.
قوله: ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾ أي كأنهم لم يلبثوا في ديارهم أصلاً لأنهم استؤصلوا بالمرة. قوله: (وغيره) أي وهو ضمير الفصل. قوله: ﴿ وَقَالَ يٰقَوْمِ ﴾ ما تقدم من كون القول بعد هلاكهم أو قبله في قصة صالح يجري هنا. قوله: ﴿ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ ﴾ أصله أأسى بهمزتين، قلبت الثانية ألفاً. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ ﴾ جملة مستأنفة قصد بها التعميم بعد ذكر الأمم بالخصوص، وإنما خص ما تقدم بالذكر لمزيد تعنتهم وكفرهم. قوله: (فكذبوه) قدره إشارة إلى أن الكلام فيه حذف لأن قوله: ﴿ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا ﴾ لا يترتب على الإرسال وإنما يترتب على التكذيب. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾ أصله يتضرعون قلبت التاء ضاداً أدغمت في الضاد، وإنما قرئ بالفك في الأنعام لأجل مناسبة الماضي في قوله تضرعوا بخلاف ما هنا، فجيء به على الأصل. قوله: ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا ﴾ أي استدراجاً لهم. قوله: (العذاب) أي الفقر والمرض. قوله: (الغنى والصحة) لف ونشر مرتب. قوله: (كفراً للنعمة) أي تكذيباً لأنبيائهم. قوله: (وهذه عادة الدهر) هذا من جملة مقولهم. قوله: (فكونوا على ما أنتم عليه) هذا من جملة قول بعضهم لبعض. قوله: ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ مرتب على قوله: ﴿ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ﴾ الخ. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي لعدم تقدم أسبابه لهم، وهذه الآية بمعنى آية الأنعام، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأنعام: ٤٤] الآية.
قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ جمع قرية، والمراد جميع القرى المتقدم ذكرهم وغيرهم. قوله: (ورسلهم) أي أهل القرى، وفي نسخة ورسله أي الله. قوله: ﴿ وَٱتَّقَواْ ﴾ عطف على: ﴿ ءَامَنُواْ ﴾ عطف عام على خاص، لأن التقوى امتثال المأمورات، ومن جملتها الإيمان. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بَرَكَٰتٍ ﴾ جمع بركة، وهي زيادة الخير في الشيء. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ ﴾ أي لم يؤمنوا ولم يتقوا. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ أي بسبب كسبهم من الكفر والمعاصي. قوله: ﴿ أَفَأَمِنَ ﴾ الهمزة مقدمة من تأخير والفاء عاطفة على قوله: ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ ما بينهما اعتراض، وهذه طريقة الجمهور، وعند الزمخشري أن الهمزة داخلة على محذوف، ما بعدها معطوف على ذلك المحذوف، ولكنه في الموضع وافق الجمهور في كشافه. قوله: ﴿ بَيَٰتاً ﴾ حال من ﴿ بَأْسُنَا ﴾ وجملة ﴿ وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾ حال من ضمير ﴿ يَأْتِيَهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ أي يشتغلون بما لا يعنيهم. قوله: ﴿ مَكْرَ ٱللَّهِ ﴾ المكر في الأصل الخديعة والحيلة، وذلك مستحيل على الله، وحينئذ فالمراد بالمكر أن يفعل بهم فعل الماكر، بأن يستدرجهم بالنعم أولاً ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ﴾ أي وهم كل قوم جاؤوا بعد هلاك من قبلهم، كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين والأمة المحمدية، فإن كل فرقة من هؤلاء تبين لها الإصابة بذنوبهم، حيث شاء الله ذلك. قوله: (فاعل) أي المصدر المأخوذ منها ومن جواب لو هو الفاعل، والتقدير أو لم يتبين بالعذاب لو شئنا الإصابة. قوله: ﴿ لَّوْ نَشَآءُ ﴾ أي إصابتهم، فمفعول نشاء محذوف. قوله: (في المواضع الأربعة) أي وأولها ﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ ﴾ وآخرها ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ ﴾ فإنان بالفاء واثنان بالواو. قوله: (الداخلة) أي الهمزة، وقوله: (عليهما) أي الفاء والواو. قوله: (في الموضع الأول) أي من موضعي الواو، وقوله: ﴿ وَنَطْبَعُ ﴾ قدر المفسر: (نحن) إشارة إلى أنه مستأنف منقطع عما قبله. قوله: ﴿ تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، و ﴿ ٱلْقُرَىٰ ﴾ بدل أو عطف بيان و ﴿ مِنْ أَنبَآئِهَا ﴾ خبره. قوله: (التي مر ذكرها) أي وهي قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب. قوله: ﴿ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أي بعض أخبارها وما وقع لها. قوله: (اللازم زائدة لتوكيد النفي. قوله: (عند مجيئهم) أي الرسل. قوله: (قبل مجيئهم) أي بالمعجزات بعد إرسالهم للخلق. قوله: (أي للناس) أشار بذلك إلى أن هذه الجملة غير مرتبطة بما قبلها، ويصح الضمير عائد على الأمم، فيكون بينهما ارتباط.
قوله: ﴿ وَإِن وَجَدْنَآ ﴾ أي علمنا، فأكثر مفعول أول، وفاسقين مفعول ثان، واللام فارقة، والمراد: ليظهر متعلقي علمنا للخلق على حد لنعلم أي الحزبين أحصى. قوله: ﴿ لَفَاسِقِينَ ﴾ أي خارجين عن طاعتنا بترك الوفاء بالعهد. قوله: (أي الرسل المذكورين) أي وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. قوله: ﴿ مُّوسَىٰ ﴾ وعاش مائة وعشرين سنة، وبينه وبين يوسف أربعمائة سنة، وبين موسى وإبراهيم سبعمائة سنة. قوله: (التسع) أي وهي: والعصا واليد البيضاء والسنون المجدبة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، وكلها مذكورة في هذه السورة إلا الطمس ففي سورة يونس، قال تعالى:﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ﴾[يونس: ٨٨].
قوله: ﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾ هذا لقبه، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان، ففرعون في الأصل علم شخص، ثم صار لقباً لكل من ملك مصر في الجاهلية، وعاش من العمر ستمائة وعشرين سنة، ومدة ملكه أربعمائة سنة، لم ير مكروهاً قط، وكنيته أبو مرة، وقيل أبو العباس، وهو فرعون الثاني، وفرعون الأول أخوه، واسمع قابوس بن مصعب ملك العمالقة، وفرعون إبراهيم النمرود، وفرعون هذه الأمة أبو جهل. قوله: ﴿ فَظَلَمُواْ ﴾ ضمن ظلموا معنى كفروا فعداه بالباء ويصح أن تكون الباء سببية، والمفعول محذوف تقديره ظلموا أنفسهم بسببها، أي بسبب تكذيبهم بها. قوله: ﴿ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ كيف اسم استفهام خبر كان مقدم عليها وعاقبة اسمها وإنما قدم لأن الاستفهام له الصدارة. قوله: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ ﴾ تفصيل لما أجمل أولاً، لأن التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس، وهذا القول وما بعده، إنما وقع بعد كلام طويل، حكاه الله في سورة الشعراء بقوله تعالى:﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ١٦] الآيات، وقوله تعالى:﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ٢٣] الآيات، وفي طه أيضا. قوله: (فكذبه) قدره إشارة إلى أن جملة: ﴿ حَقِيقٌ ﴾ مرتبة على محذوف.
قوله: ﴿ حَقِيقٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (أنا). قوله: (أي بأن) أشار بذلك إلى أن: ﴿ عَلَىٰ ﴾ بمعنى الباء. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ مقول القول، وهو مفرد في معنى الجملة، ويصح أن يكون صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق تقديره إلا القول الحق. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (مبتدأ) أي وسوغ الابتداء به العمل في الجار والمجرور، فإن على متعلق بحقيق. قوله: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ ﴾ (إلى الشام) أي وسبب سكناهم بمصر مع أن أصلهم من الشام، أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر لأخيهم يوسف، فمكثوا وتناسلوا في مصر، فلما ظهر فرعون استعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة، فأحب موسى أن يخلصهم من ذلك الأسر. قوله: (استعبدهم) أي جعلهم عبيداً بسبب استخدامه إياهم. قوله: ﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله: ﴿ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ الثعبان ذكر الحيات، وصفت هنا بكونها ثعباناً، وفي آية أخرى:﴿ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾[النمل: ١٠، القصص: ٣١]، والجان الحية الصغيرة، ووجه الجمع أنها كانت في العظم كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة. ورد أنه لما ألقى العصا، صارت حية عظيمة صفراء شقراء، فاتحة فمها، بين لحييها ثمانون ذراعاً، وارتفعت من الأرض، قدر ميل، وقامت على ذبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب هارباً وأحدث، أي تغوط في ثيابه بحضرة قومه في ذلك اليوم أربعمائة مرة، واستمر معه هذا المرض، وهو الإسهال إلى أن غرق، مع كونه لا يتغوط إلا في كل أربعين يوماً مرة، وقيل إنها أدخلت قبة الصخرة بين أنيابها، وحملت على الناس فانهزموا، ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها، وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل، فأمسكها بيده فعادت كما كانت. قوله: ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾ أي اليمنى. قوله: (ذات شعاع) أي نور يغلب على ضوء الشمس. قوله: (من الأدمة) أي السمرة. قوله: (وفي الشعراء أنه) أي هذا القول. قوله: (فكأنهم قالوه معه) هذا بيان لوجه الجمع بين ما هنا وبين ما يأتي في الشعراء. قوله: ﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ يصح أن يكون من كلام فرعون ويكون معناه تشيرون، ويصح أن يكن من كلام الملأ له، والجمع للتعظيم على عادة خطاب الملوك، والأول أقرب. قوله: ﴿ أَرْجِهْ ﴾ فيه ست قراءات سبعية، ثلاثة مع الهمز، وهي كسر الهاء من غير إشباع وضمها مع الإشباع وعدمه، وثلاث من غير همز، وهي إسكان الهاء وكسرها بإشباع وبدونه. قوله: ﴿ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ ﴾ أي مدائن صعيد مصر، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر. قوله: (وفي قراءة سحار) أي بالأمالة وتركها فتكون القراءات ثلاثا وكلها سبعية. قوله: (فجمعوا) أي وكانوا اثنين وسبعين، وقيل اثني عشر ألفاً، وقيل خمسة عشر ألفاً، وقيل سبعين ألفاً، وقيل ثمانين ألفاً، وقيل بضعاً وثمانين ألفاً. قوله: (بتحقيق الهمزتين الخ) كلامه يفيد أن هنا قراءتين فقط أنها أربع، فكان عليه أن يقول: وإدخال ألف بينهما وتركه، وبقيت خامسة: وهي إن بهمزة واحدة.
قوله: ﴿ قَالَ نَعَمْ ﴾ أي لكم الأجر. قوله: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ أي في المنزلة عندي، بحيث تكونون أول من يدخل عندي وآخر من يخرج. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ﴾ الخ، إما أن يكون تأدباً من السحرة مع موسى، وقد جوزوا عليه بالإيمان والنجاة من النار، وإما أن يكون ذلك على عادة أهل الصنائع أو عدم مبالاة بموسى، لاعتمادهم على غلبتهم. قوله: ﴿ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ ﴾ الخ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر لمحذوف تقديره اختر إما لقاءك. قوله: (أمر للإذن) جواب عما يقال كيف أمرهم بالسحر وأقرهم عليه؟ فأجاب بأن ذلك للتوصل إلى إظهار الحق. قوله: (عن حقيقة إدراكها) أي عن إدراك حقيقتها. قوله: ﴿ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ أي عند السحر، وفي باب السحر، وإن كان حقيراً في نفسه، وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وأخشاباً طوالاً، وطلوا تلك الجبال بالزئبي، وجعلوا تلك الأخشاب الزئبق أيضاً. فلما أثر فيها حر الشمس تحركت والتوى بعضها على بعض، حتى تخيل للناس أنها حيات، وكانت سعة الأرض ميلاً في ميل، وكانت الواقعة في اسكندرية، فلما ألقى موسى عصاه، بلغ ذنبها وراء البحر، ثم فتحت فاهاً ثمانين ذراعاً، فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً، حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجتمع، ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصاً كما كانتـ فلما رأى السحرة ذلك، عرفوا أنه أمر من السماء وليس بسحر، فخروا لله ساجدين، وقالوا: لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا، وكانت حمل ثلاثمائة بعير، فعدمت بقدرة الله تعالى. قوله: ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ أي بعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، أوحى الله إلى موسى على لسان جبريل حيث قال له كما في سورة طه:﴿ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ ﴾[طه: ٦٨] الآية. قوله: ﴿ تَلْقَفُ ﴾ أي تأخذ وتبتلع بسرعة. قوله: (في الأصل) أي وأصلها تتلقف، حذفت إحدى التائين تخفيفاً، وهذه قراءة الجمهور، وفي قراءة بإدغام التاء في التاء، وفي قراءة تتلقف من لقف كعلم، فتكون القراءات ثلاثاً وكلها سبعية. قوله: ﴿ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ أي يكذبون، فالإفك الكذب. قوله: (بتمويههم) أي تزيينهم الباطل بصورة الحق. قوله: ﴿ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي ظهر بطلانه.
قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ أي في ذلك المكان وهو اسكندرية. قوله: ﴿ ٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ﴾ أي فرعون وقومه غير السحرة، فإنه لم يصبهم صغار، بل أصابهم العز الأبدي بإيمانهم بالله وحده. قوله: ﴿ سَاجِدِينَ ﴾ حال من السحرة، وقوله: ﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ في موضع الحال من الضمير في ساجدين، والتقدير قائلين في حال سجودهم: ﴿ آمَنَّا ﴾ الخ. قوله: ﴿ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ بدل من رب العالمين، أو عطف بيان، أو نعت جيء به، لدفع إيهام فرعون الناس أنه رب العالمين، حيث قال للسحرة: إياي تعنون، فدفعوا ذلك بقولهم: ﴿ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾.
قوله: (بتحقيق الهمزتين) أي همزة الاستفهام والهمزة الزائدة في الفعل، وقوله: (وإبدال الثانية) أي في الفعل وإن كانت ثالثة فهي فاء الكلمة، وفي قراءة سبعية أيضاً بحذف همزة الاستفهام، وفي قراءة بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وإبدال الثالثة ألفاً، وفي قراءة بقلب الأولى واواً في الوصل، وتسهيل الثانية، وقلب الثالثة ألفاً، فالقراءات أربعة وكلها سبعية. قوله: ﴿ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ﴾ أصله أأذن، أبدلت الثانية ألفاً على القاعدة المشهورة، والمعنى أحصل منكم الإيمان قبل حصول الإذن مني؟ لا يليق منكم ذلك، والفعل مضارع منصوب بأن. قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ ﴾ أي حيلة وخديعة. قوله: ﴿ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا ﴾ أي تواطأتم عليه قبل مجيكم إلينا، وقصد بذلك اللعين، تثبيت القبط بهاتين الشبهتين اللتين ألقاهما عليهم وهما قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ ﴾، وقوله: ﴿ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا ﴾.
قوله: (ما ينالكم مني) قدرة إشارة إلى أن مفعول: ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ ﴾ هذا بيان لوعيده الذي توعدهم به، وهل فعل ما توعدهم له أو لا؟ خلاف، بل قال بعضهم إنه لم يفعل بدليل قوله تعالى:﴿ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ ﴾[القصص: ٣٥]، قوله: ﴿ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ الجار والمجرور في محل نصب على الحال أي مختلفة. قوله: (بأي وجه كان) أي سواء كان بقتلك أو لا، وفي آية طه:﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ ﴾[طه: ٧٢].
قوله: ﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ ﴾ أي تكره منا فقوله: ﴿ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا ﴾ أن ما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به لتنقم، والمعنى وما تكره منا إلا إيماننا، ويصح أن يكون المعنى: وما تعذبنا بشيء من الأشياء إلا لأجل إيماننا، فيكون مفعولاً لأجله. قوله: ﴿ لَمَّا جَآءَتْنَا ﴾ أي حين أتتنا من عنده. قوله: (عند فعل ما توعده بنا) أي ما توعدنا به وهو القطع من خلاف والتصليب، ففي العبارة قلب. قوله: (نرجع كفاراً) على لقوله: ﴿ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾.
قوله: ﴿ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ أي ثابتين على الدين الحق غير مغيرين ولا مبدلين.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلأُ ﴾ أي المصرون على الكفر، فإنه حين آمنت به السحرة، آمن من بني إسرائيل ستمائة ألف. قوله: ﴿ وَيَذَرَكَ ﴾ معطوف على: ﴿ لِيُفْسِدُواْ ﴾ والمعنى أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليتركك وآلهتك، والاستفهام إنكاري، والمعنى لا يليق ذلك. قوله: ﴿ وَآلِهَتَكَ ﴾ بالجمع في قراءة الجمهور، لأنه جعل آلهة يعبدها قومه، وجعل نفسه هو الإله الأعلى، قال تعالى:﴿ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾[النازعات: ٢٣-٢٤] وقرئ شذوذاً وآلهتهم بتاء التأنيث، لأنه كان يعبد الشمس. قوله: (أصناماً صغاراً) أي على صورة الكواكب. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (المولدين) أي الصغار. قوله: ﴿ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ ﴾ أي للخدمة. قوله: (من قبل) أي قبل مولد موسى. قوله: ﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ أي تسلية لهم. قوله: ﴿ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ ﴾ أي اطلبوا الإعانة منه سبحانه. قوله: ﴿ يُورِثُهَا ﴾ الجملة حالية من لفظ الجلالة، وقوله: ﴿ مَن يَشَآءُ ﴾ مفعول ثان، والمفعول الأول الهاء. قوله: ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (الله) قدره إشارة إلى أن مفعول المتقين محذوف. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أُوذِينَا ﴾ أي بالقتل للأولاد واستبقاء النساء للخدمة. قوله: ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا ﴾ أي بالرسالة، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة نصف النهار، فلما بعث موسى وجرى بينهم ما جرى، استعملهم جميع النهار، وأعاد القتل فيهم. قوله: ﴿ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ (فيها) أي من الإصلاح والإفساد. قوله: ﴿ وَلَقَدْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تقديره والله لقد أخذنا أي ابتلينا، وهذا شروع في تفصيل مبادئ هلاك فرعون وقومه لتكذيبهم بالآيات البينات. قوله: ﴿ بِٱلسِّنِينَ ﴾ جمع سنة، من المعلوم أنه يجري مثل جمع المذكر السالم في إعرابه بالواو رفعاً، وبالياء نصباً وجراً، وتحذف نونه للإضافة، ففي الحديث:" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "ويقل إعرابه كحين. قوله: (بالقحط) أي احتباس المطر. قوله: ﴿ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ أي إتلافها بالآفات.
قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ ﴾ أشار بذلك إلى أنهم باقون في غيهم وضلالهم، لم يتعظوا ولم ينزجروا هما هم عليه. قوله: (أي نستحقها) أي بحولنا وقوتنا. قوله: ﴿ يَطَّيَّرُواْ ﴾ أصله يتطيروا، أدغمت التاء في الطاء، والتطير في الأصل: أن يفرق الشيء بين القوم ويطير لكل واحد ما يخصه، فيشمل النصيب الحسن السيء، ثم غلب على الحظ، والنصيب السيء والحكمة في التعبير في جانب الحسنة بإذا المفيدة للتحقيق، وتعريفها في جانب السيئة بأن المفيدة للشك، وتنكيرها الإشارة إلى أن رحمة الله تغلب غضبه، وأنها صادرة منه سبحانه وتعالى، وإن لم يتأهل لها العبد، بخلاف السيئة فصدورها منه نادر ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ ﴾ ألا أداة استفتاح يؤتى بها اعتناء بما بعدها للرد عليهم. قوله: (شؤمهم) أي عذابهم الذي تشاءموا به. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي لا عند موسى، فليس له مدخل في إيجاد ذلك. قوله: (يأتيهم به) أي جزاء لأعمالهم السيئة. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يفيد أن الأقل يعلم أن فرعون كاذب وموسى صادق، وإنما كفرهم محض عناد. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي فرعون وقومه. قوله: ﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ ﴾ الخ. مهما اسم شرط جازم، وتأت فعل الشرط مجزوم بحذف الياء والكسرة دليل عليها، ونا مفعول و ﴿ مِن آيَةٍ ﴾ بيان لمهما، وبه متعلق بتأت، وضميرها راجع لمهما، و ﴿ لِّتَسْحَرَنَا ﴾ متعلق بتأتنا و ﴿ بِهَا ﴾ متعلق (بِتَسْحَرَنَا)، وقوله: ﴿ فَمَا ﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط، وما نافية و ﴿ نَحْنُ ﴾ مبتدأ و ﴿ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ خبر مرفوع بواو مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفاء التي جلبها حرف الجر الزائد، والجملة في محل جزم جواب الشرط. قوله: (فدعا عليهم) قال سعيد بن جبير: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر، فتابع الله عليهم الآيات، فأخذهم الله أولاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات، وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا، فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتى، وإن قومه قد نقضوا العهد، فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم قمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، ففعل الله بهم ما سيذكر.
قوله: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ ﴾ أي ماء من السماء، والحال أن بيوت القبط مشتبكة ببيوت بني إسرائيل، فامتلأت بيوت القبط، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ومن جلس منهم غرق، ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء، وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا على الحرث، ودام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، فاستغاثوا بموسى، فأزال الله عنهم المطر، وأرسل الريح فجفف الأرض، وخرج من النبات ما لم ير مثله قط، فقالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر، فلا والله لا نؤمن بم ولا نرسل معك بني إسرائيل، فأقاموا شهراً في عافية. قوله: (وإلى حلوق الجالسين) في كلام غيره إلى حلوق القائمين، ومن جلس غرق كما علمت. قوله: ﴿ وَٱلْجَرَادَ ﴾ أي واستمر من السبت إلى السبت، يأكل زروعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم، وابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم تصب بني إسرائيل، فعظم الأمر عليهم، فضجوا من ذلك وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فأشار موسى بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت الجراد من حيث جاءت، فأقاموا شهراً في عافية، ثم رجعوا إلى أعمالهم الخبيثة. قوله: ﴿ وَٱلْقُمَّلَ ﴾ مشى المفسر على أنه السوس أو نوع من القراد، وقيل إنه القمل المعروف بدليل قراءة الحسن، والقمل بفتح القاف وسكون الميم، وقيل هو البراغيث، فأكل ما أبقاه الجراد، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملاً، فاستمر ذلك سبعة أيام من السبت إلى السبت، فضجوا واستغاثوا فرفع عنهم، ثم أقاموا شهراً في عافية، ثم رجعوا لأخبث ما كانوا عليه. قوله: ﴿ وَٱلضَّفَادِعَ ﴾ جمع ضفدع كدرهم وزبرج. قوله: (فملأت بيوتهم وطعامهم) أي وكان الواحد منهم يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وكان يملأ قدورهم ويطفئ نيرانهم، وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاماً حتى لا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر، ورد أن الضفادع كانت برية، فلما أرسلها الله سمعت وأطاعت، فجعلت تلقي نفسها في القدر وهي تغلي، في التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء، فصارت من حينها تسكن الماء، ثم ضجوا وشكوا لموسى وقالوا ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب ولا نعود بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فدعا الله موسى فكشف الله عنهم ذلك، واستمروا شهراً في عافية ثم عادوا. قوله: ﴿ وَٱلدَّمَ ﴾ أي وكان أحمر خالصاً، فصارت مياههم كلها دماً، فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً، فأجهدهم العطش جداً، حتى أن القبطية تأتي للمرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني من مائك، فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دماً، حتى كانت القبطية تقول للإسرائيلية اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ، فتأخذه في فيها ماء، وإذا مجته فيها صار دماً، واعترى فرعون العطش، حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأحجار الرطبة، فإذا مضعها صار دماً، فمكثوا على ذلك سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا لموسى فكشف عنهم. قوله: ﴿ آيَاتٍ ﴾ حال من الخمسة المذكورة. قوله: ﴿ مُّفَصَّلاَتٍ ﴾ أي مفرقات. فكانت كل واحدة تمكث سبعة أيام، وبين كل واحدة وأخرى شهراً. قوله: ﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ ﴾ هذا موزع على الخمسة، فكانوا كلما ضجوا قالوا هذه المقالة. قوله: (من كشف العذاب) بيان لما.
قوله: ﴿ فَلَماَّ كَشَفْنَا ﴾ أي في كل واحدة من الخمس. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ ﴾ أي وهو وقت إغراقهم. قوله: ﴿ فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ أي أردنا الانتقام منهم، لأن الانتقام هو الإغراق، فلا يحسن دخول الفاء بينهما. قوله: ﴿ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ أي نواحيها وجميع جهاتها. قوله: (صفة للأرض) فيه أنه يلزم عليه الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف وهو أجنبي، والأولى أن يكون صفة للمشارق والمغارب. قوله: (وهو الشام) الحاصل له على هذا التفسير قوله تعالى: ﴿ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ وهذا الوصف لا يعين هذا المعنى، بل يمكن تفسير الأرض بأرض مصر كما هو السياق، وقد بارك الله فيها بالنيل وغيره، ويؤيده قوله تعالى:﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾[الدخان: ٢٥] إلى أن قال:﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾[الدخان: ٢٨] وكذلك آية الشعراء، وقد اختار ما قلناه جملة من المفسرين، وقال بعضهم: المراد بمشارق الأرض الشام، ومغاربها مصر، فإنهم ورثوا العمالقة في الشام، وورثوا الفراعنة في مصر. قوله: ﴿ كَلِمَةُ ﴾ ترسم هذه بالتاء المجرورة لا غير وما عداها في القرآن بالهاء على الأصل. قوله: ﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي بسبب صبرهم. قوله: ﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ أي أهلكنا وخربنا الذي كان يصنعه فرعون وقومه. قوله: ﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾ هذا آخر قصة فرعون وقومه. قوله: (بكسر الراء وضمها) قراءتان سبعيتان. قوله: (من البنيان) أي كصرح هامان وغيره من جميع ما أسسوه بأرض مصر.
قوله: ﴿ وَجَاوَزْنَا ﴾ شروع في قصة بني إسرائيل، وما وقع من كفر النعمة والقبائح، والمقصود من ذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتخويف أمته من أن يفعلوا مثل فعلهم. قوله: (عبرنا) العبر هو الانتقال من جانب لآخر، لانتقالهم من الجانب الشرقي للغربي. قوله: (بضم الكاف وكسرها) أي من بابي نصر وضرب، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ﴾ قيل هي حجارة على صور البقر، وقيل بقر حقيقة، وكان هؤلاء القوم العاكفون من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم بعد ذلك. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ﴾ القائل بعضهم لا جميعهم. قوله: ﴿ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً ﴾ قيل إنهم مرتدون بهذه المقالة لقصدهم بذلك عبادة الصنم حقيقة، وقيل ليسوا مرتدين، بل هم جاهلون جهلاً مركباً، لاعتقادهم أن عبادة الصنم بقصد التقرب إلى الله تعالى لا تضرهم في الدين، وعلى كل فهذه المقالة في شرعنا ردة، والجار والمجرور مفعول ثان، والهاء مفعول أول، وقوله: ﴿ كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ صفة لإلهاً، وما اسم موصول، ولهم صلتها، وآلهة بدل الضمير المستتر في لهم، والتقدير أجعل إلهاً لنا كالذي استقر لهم الذي هو آلهة. قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ جملة مستأنفة قصد بها توبيخهم وزجرهم. قوله: ﴿ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ أي من الدين الباطل، وهو عبادة الأصنام. قوله: ﴿ قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. قوله: ﴿ أَبْغِيكُمْ ﴾ أي أطلب واقصد لكم. قوله: (وأصله أبغي لكم) أي فحذف الجار فاتصل الضمير. قوله: ﴿ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ ﴾ الجملة حالية من لفظ الجلالة. قوله: (في زمانكم) أي بإنجائكم وإغراق عدوكم، وإنزال المن والسلوى عليكم، وليس تفضيلهم على جميع العالمين، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأمم. قوله: ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ ﴾ هذا من كلام موسى، فإسناد الإتجاه إليه مجاز، لكونه على يده وسبباً فيه حيث ضرب بعصاه البحر فانفلق. قوله: (وفي قراءة أنجاكم) أي وهي ظاهرة، فإن الفاعل ضمير عائد على الله، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ من السوم وهو الآذاقة. قوله: ﴿ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ قدر المفسر (هم) إشارة إلى أن يقتلون بيان ليسومونكم. قوله: ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾ أي لخدمتهم. قوله: (الانجاء أو العذاب) أشار بذلك إلى اسم الإشارة يصح عوده على الإنجاء ومعنى كونه بلاء أنه يختبرهم هل يشكرون فيؤجروا، أو يكفرون فيعاقبوا، وعوده على العذاب ظاهر، فالابتلاء كما يكون في الشر، يكون في الخير، قال تعالى:﴿ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾[الأنبياء: ٣٥] فالشكر على النعمة موجب لزيادتها كما أن الصبر على البلايا، موجب لرضا الله، قال تعالى:﴿ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾[البقرة: ١٥٥-١٥٦].
قوله: (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الألف من المواعدة، وهي مفاعلة من الجانبين، فمن الله الأمر، ومن العبد القبول، وعلى حذف الألف، فالوعد من الله لا غير وهو ظاهر.
قوله: ﴿ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً ﴾ إنما عبر بالليالي دون الأيام، مع أن الصيام في الأيام، لأن موسى كان صائماً تلك المدة ليلاً ونهاراً مواصلاً وحرمة الوصال على غير الأنبياء، فعبر بالليالي لدفع توهم اقتصاره على صوم النهار فقط، قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون، أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله فرعون، سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل، فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصامها، فلما تمت أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب، وقيل أكل من ورق الشجر، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة، فكان فتنة بني إسرائيل في تلك العشر قوله: (أنكر خلوف فمه) أي كره رائحة فمه من أثر الصوم، وهو بضم الخاء واللام معنا والرائحة. قوله: ﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا ﴾ أي المواعدة المأخوذة من قوله: ﴿ وَوَاعَدْنَا ﴾.
قوله: ﴿ أَرْبَعِينَ ﴾ (حال) أي من ميقات. قوله: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ ﴾ الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، لأن تلك الوصية كانت قبل ذهابه وصيامه. قوله: ﴿ وَأَصْلِحْ ﴾ (أمرهم) أي أمر بني إسرائيل ولا تغفل عنهم.
قوله: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ﴾ قال أهل التفسير: لما جاء موسى لميقات ربه، تطهر طهر ثيابه وصام، ثم أتى طور سيناء، فأنزل الله ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية، وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض، ونحى عنه المكلفين، وكشط له السماء، فرأى الملائكة قياماً في الهواء، ورأى العرش بارزاً، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه وكان جبريل معه، فلم يسمع ذلك الكلام، فاستحلى موسى كلام ربه، فاشتاق إلى رؤيته، فقال: ﴿ رَبِّ أَرِنِيۤ ﴾ الخ. قوله: (أي للوقت) أي وكان يوم الخميس يوم عرفة، فكلمه الله فيه وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. قوله: ﴿ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ أي أزال الحجاب عنه، حتى سمع كلامه بجميع أجزائه من جميع جهاته، لا أن الله أنشأ له الكلام، لأن الله سبحانه تعالى دائماً متكلم يستحيل عليه السكوت والآفة، ولم يصل لنا معنى ما فهمه موسى من تلك المكالمة. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ ﴾ لما سمع الكلام هام واشتاق إلى رؤية الذات، فسأل الله أن يزيل عنه حجاب البصر، كما أزال الله عنه حجاب السمع، إذ لا فرق بين الحاستين، فقد سأل جائزاً لأن كل من جاز سماع كلامه جازت رؤية ذاته. قوله: (نفسك) قدره إشارة إلى أن مفعول أرني محذوف. قوله: ﴿ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ جواب الشرط، ولا يقال إن الشرط قد اتحد مع الجواب، لأن المعنى هيئني لرؤيتك زمكني منها، فإن تفعل بي ذلك أنظر إليك. قوله: ﴿ لَن تَرَانِي ﴾ أي لا طاقة لك على رؤيتي في الدنيا، وهذا لا يقتضي أنها مستحيلة عقلاً، وإلا لما علقت على جائز وهو استقرار الجبل. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ هذا من تنزلات الحق لموسى، وتسلية له على ما فاته من الرؤية، وهذا الجبل كان أعظم الجبال واسمه زبير. قوله: (الذي هو أقوى منك) أي فحجبه عن الرؤية رحمة به، لعدم طاقة الجبل على ذلك فضلاً عن موسى. قوله: (أي ظهر من نوره) أي نور جلال عرشه، وفي رواية أمر الله الملائكة السماوات السبع بحمل عرشه، فلما بدا نور عرشه، انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى. قوله: (نصف أنملة الخنصر) في رواية منخر الثور، وفي رواية قدر سم الخياط، وفي رواية قدر الدرهم. قوله: (بالقصر والمد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (مستويا بالأرض) أي بعد أن كان علياً مرتفعاً، وقيل تفرق ستة أجبل، فوقع ثلاثة بالمدينة وهي أحد وورقان ورضوى، وثلاث بمكة: ثبير وثور وحراء. قوله: ﴿ وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً ﴾ أي سقط مغشياً عليه ذاهباً عن حواسه، ولذا لا يصعق عند النفحة. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَفَاقَ ﴾ أي برد حواسه. قوله: (من سؤال ما لم أؤمر به) أي وليس المراد طلب الرؤية معصية، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: (في زماني) دفع بذلك ما يقال: إن قبله من المؤمنين كثيراً من الأنبياء والأمم، وفي القصة أن موسى عليه السلام، كان بعدما رجع من المكالمة، لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له زوجته أنا لم أرك منذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرجت ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها، ورد أيضاً أنه مكث زمناً طويلاً كلما سمع كلام الناس تقايأ. قوله: ﴿ قَالَ يٰمُوسَىٰ ﴾ هذا تسلية على ما قاله من الرؤية. قوله: (أهل زمانك) دفع بذلك ما يقال: إن من جملة الناس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل، فيقتضي أنه مختار عليهما، فأجاب: بأن المراد بالناس أهل زمانه أنبياء أو غيرهم، ولذلك كانت أنبياء بني إسرائيل يتعبدون بالتوراة. قوله: (بالجمع) أي باعتبار تعدد الأحكام الموحى بها. قوله: (والأفراد) أي مراداً بها المعنى المصدري أي إرسالي، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَبِكَلاَمِي ﴾ اسم مصدر بمعنى التكليم، أي تكليمي إياك مباشرة بلا واسطة، ويصح أن يراد بالكلام التوراة، كما يقال للقرآن كلام الله، يقال للتوراة أيضاً كلام الله، لأنها أفضل كتاب أنزل من السماء بعد القرآن. قوله: (لأنعمي) جمع نعمة ويجمع أيضاً على نعم.
قوله: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ ﴾ أي وكان طول اللوح منها اثني عشر ذراعاً، وقيل عشرة على طول موسى، والكاتب لها هو الله بلا واسطة. قوله: (من سدر الجنة) أي خشبها المسمى بالسدر، والشاقق لها هو الله بلا واسطة. قوله: (أو زمرد) وقيل من ياقوتة حمراء. قوله: (سبعة او عشرة) وقيل تسعة، وقيل اثنان، ويكون المراد بالجمع ما فوق الواحدة، فال الربيع بن انس: نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً، يقرأ الجزء منها في سنة، ولم يحفظها الا أربعة: موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام، وقال الحسن: هذه الآية في التوراة بألف آية. قوله: (بدل) أي قوله: ﴿ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً ﴾ بدل من محل قوله: ﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ وهو النصب، وقوله: ﴿ لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ متعلق بتفصيلاً. قوله (قبله فلنا مقدرا) أشار بذلك إلى أن هذا المحذوف معطوف على ﴿ كَتَبْنَا ﴾.
قوله (بجد واجتهاد) أي لا بتراخ وكسل، فإن العلم لا يأتي إلا للمجد المشتاق، كان كسبياً أو وهيباً فلا بد لمتعاطي العلم من الكد والتعب ومخالفة النفس، قال بعضهم: بقدر الكد تكسب المعالي   ومن طلب العلا سهر اللياليتروم العز ثم تنام ليلا   يغوصى البحر من طلب اللآليوقال بعض العارفين: فجد بالروح والدنيا خليلي   كذا الاوطان كي تدرك سناهوهذا الخطاب لموسى، والمراد غيره، لأنه هو آخذ بقوة واجتهاد، قوله: ﴿ بِأَحْسَنِهَا ﴾ أي بالأحوط منها، لأن فيها عزائم ورخصاً، وفاضلاً ومفضولاً، وجائزاً ومندوباً، فأمر قومك يأخذوا بأحواطها، بأن يتبعوا العزائم، ويتركوا الرخص، وذلك كالقود والعفو والانتصار والصبر، فالأخذ بالعفو أحسن من القود، والصبر أحسن من الانتصار، أو يقال إن اسم التفضيل ليس على بابه أي بحسنها، والإضافة بيانية، والمعنى يعملون يجميع ما فيها. قول: ﴿ سَأُوْرِيكُمْ ﴾ الخطاب لموسى ومن تبعه، فالكاف مفعول أول، و ﴿ دَارَ ﴾ مفعول ثان، والمعنى أملككم إياها، بديل قراءة من قرأ سأورثكم بالثاء المثلثة. قوله: (وهي مصر) هذا هو الأقربن وقيل المراد بدار الفاسقين، ديار عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم نوح. قوله: (ليعتبروا بهم) أي ففي الآية إشارة إلى أنهم إن خالفوا فعل بهم كما فعل بفرعون وقومه، وهكذا كل ظالم فاجر، ولو من المسلمين، إذ بغى واعتدى وتكبر وتجبر، يمهل مدة ثم تصير دياره بلاقع، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده قوله تعالى:﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾[الأحقاف: ٢٥].
قوله: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ﴾ أي أقسي قلوبهم وأطمسها عن فهم آياتي، فلا يتفكرون ولا يتدبرون. قوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ حال من ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ﴾ أي حال كونهم متلبسين بالدين الغير الحق. قوله: ﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ أي لوجود الطبع على قلوبهم، وفي الآية إشارة إلى أن المتكبر المعترض، لا يستفيد نوراً ولا خيراً من الذي اعترض وتكبر عليه. قوله: ﴿ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ ﴾ أي بسبب تكذيبهم. قوله (تقدم مثله) أي في قوله:﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ ﴾[الأعراف: ١٣٦].
﴿ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ مبتدأ، وجملة: ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ خبره. وقوله (لعدم شرطه) أي الثواب وهو الإيمان، فالإيمان شرط في الثواب لأنه مقدار من الجزاء، يعطى للمؤمنين في مقابلة أعمالهم السحنة، فأعمال الكفار الحسنة، لا تتوقف عن نية يجازون عليها في الدنيا، او يخفف عنهم من العذاب غير الكفر، لكنه لا يقال له ثواب، كذا قرر الأشياخ. قوله: ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذا أشار له المفسر بقوله: (ما).
قوله: ﴿ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ ﴾ عطف قصة على قصة، والواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، لأن عبادتهم العجل كانت زمن المالكة في مدة العشرة الأيام الزائدة فوق الثلاثين. قوله: ﴿ مِنْ حُلِيِّهِمْ ﴾ جمع حلي بفتح فسكون، وأصله حلوى اجتمعت الواو والياء وسبقت أحدهما بالسكون، قلبت الواو ياء وآدغمت في الياء، وقلبت ضمة اللام كسرة لتصبح الياء. قوله (الذي استعاروه من قوم فرعون) أي قبل غرقهم. قوله: (فبقي عندهم) أي ملكاً لبني إسرائيل، كما ملكوا غيرهم من اموالهم وديارهم، ولا أضافه الله لهم، وأما قول المفسر: (استعاروه) فهو باعتبار ما كان. قوله: ﴿ عِجْلاً ﴾ وهذا العجل قد حرقه موسى عليه موسى عليه السلام ونسفه في البحر، كما قصه الله تعالى في سورة طه. قوله: (صاغه لهم منه السامري) واسمه موسى، كان ابن زنا، وضعته أمه في جبل، فأرسل الله إليه جبريل فصار يرضعه من أصبعه، فكان يعرفه إذا نزل إلى الأرض، فلما نزل جبريل يوم غرق فرعون، وكان راكباً فرساً، فكان كل شيء وطئته بحافرها يخضر ويثمر، ففطن موسى السامري لذلك، وعلم أن هذا التراب في فيه فصار له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، فنسي كما في سورة طه، وكان موسى السامري منافقاً، وأنظر إلى من رباه جبريل حيث كان منافقاً، وإلى من رباه فرعون حيث كان مرسلاً، فإن هذا دليل على أن السعادة والشقاوة بيد الله، فقد قال بعضهم: إذا المرء لم يخلق سعيداً من الأزل   فقد خاب من ربي وخاب المؤملفموسى الذي رباه جبريل كافر   وموسى الذي رباه فرعون مرسلقوله: (بدل) أي من ﴿ عِجْلاً ﴾ أو عطف بيان. (لحماً ودماً) تفسيراً لجسداً. قوله: ﴿ لَّهُ خُوَارٌ ﴾ هذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً له جؤار بجيم فهمزة، وهو الصوت الشديد. قوله: (فإن أثره الحياة) أي بتأثير الله له. قوله: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ استفهام توبيخ وتفريع. قوله: ﴿ ٱتَّخَذُوهُ ﴾ كرره لمزيد التشنيع عليهم. قوله: ﴿ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ أي أنفسهم أشد الظلم، حيث عبدوا غير الله. قوله: ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ ﴾ فعل مبني للمجهول، والجار والمجرور نائب فاعل، وقرئ شذوذاً بالبناء للفاعل، فالفاعل ضمير يعود على الندم، وقرئ شذوذاً أيضاً، أسقط بضم الهمزة، والضمير عائد على الندم، والأصل على القراءة السبعية، سقطت أفواههم على أيديهم، ففي بمعنى على، وذلك من شدة الندم، فإن العادة أن الانسان إذا ندم على شيء عض بفمه على يده، فسقوط الفم على اليد لازم للندم، فأطلق اللازم، وأريد الملزوم على سبيل الكناية، ولم تعرف هذه الكناية في لغة العرب إلا في القرآن. قوله: ﴿ وَرَأَوْاْ ﴾ الجملة حالية. (وذلك) أي الندم. قوله: (بعد رجوع موسى) أي وإنما قدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه. ﴿ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ﴾ الخ فيها قراءتان سبعيتان بالياء والتاء، فعلى قراءة الياء يكون ربنا مرفوعاً على الفاعلية، وعلى قراءة التاء يكون منصوباً على النداء.
قوله: ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ ﴾ أي من المناجاة. قوله: ﴿ غَضْبَٰنَ ﴾ أي لما فعلوه من عبادة العجل، وقد اخبره بذلك المولى حيث قال له كما في طه:﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ﴾[طه: ٨٥] الآية. قوله: ﴿ أَسِفاً ﴾ حال وكذا ﴿ غَضْبَٰنَ ﴾ فتكون حالاً متداخلة. قوله: ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي ﴾ بفعل ماض لإنشاء الذم، وما تمييز وقيل فاعل، وجملة ﴿ خَلَفْتُمُونِي ﴾ صفة لما، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله خلافتكم هذه، والمعنى: بئس خلافة خلفتمونيها خلافتكم هذه. قوله: ﴿ مِن بَعْدِيۤ ﴾ متعلق بخلقتموني. قوله: ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ أي تركتموه غير تام على تضمين عجل معنى سبق، أو المعنى: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين، وقدرتم موتي وغيرتم بعدي، كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. قوله: ﴿ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ ﴾ أي وكان حاملاً لها. قوله: (فتكسرت) هذا أحد الأقوال، وقيل إنه تكسر البعض وبقي البعض، وقيل المراد بإلقائها وضعها ليتفرغ لمكالمة أخيه، فلما فرغ أخذها بعينها ولم يذهب منها بشيء، كما حققه زاده على البيضاوي. قوله: (أي بشعره بيمينه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ حال من فاعل ﴿ أَخَذَ ﴾.
قوله: (بكسر الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فأما قراءة الفتح، فعند البصريين مبني على الفتح لتركبه تركيب خمسة عشر، وعند الكوفيين ﴿ ٱبْنَ ﴾ منادى منصوب بفتحة ظاهرة، وهو مضاف لأم، مجرور بكسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفاً المحذوفة للتخفيف، وبقيت الفتحة لتدل عليها، وأما على قراءة الكسر، فعند البصريين هو منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً فهو كسر بناء، وعند الكوفيين كسرة إعراب، وحذفت الياء اكتفاء بالكسرة. قوله: (وذكرها أعطف) جواب عما يقال إن هارون شقيق موسى، فلم اقتصر في خطابه على الأم، وكان هارون كثير الحلم محبباً في بني إسرائيل، وهو أكبر من موسى بثلاث سنين. قوله: ﴿ وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ﴾ أي بذلت وسعي في نصيحتهم، حتى قهروني وقاربوا قتلي. قوله: ﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ ﴾ الشماتة فرح العدو بما ينال الشخص من المكروه. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي ﴾ أي لما تبين له عذر أخيه، جمعه في الدعاء استعطافاً وإرضاء له. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ ﴾ أي وكانوا ستمائة ألف وثمانية آلاف، وبقي اثنا عشر ألفاً لم يعبدوه، لأن جملة من عبر البحر مع موسى ستمائة ألف وعشرون ألفاً. (قوله إلهاً) قدره إشارة إلى أن مفعول اتخذوا محذوف. قوله: ﴿ سَيَنَالُهُمْ ﴾ الاستقبال بالنسبة لخطاب موسى به، وأما بالنسبة لنزوله على نبينا فهو ماض. قوله: (رجعوا عنها) أي عن السيئات التي منها عبادة العجل.
قوله: ﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ ﴾ أي بمراجعة هارون له، حيث ألان له الكلام واعتذر له، وفي الكلام استعارة بالكناية، حيث شب الغضب بأمير قام على موسى، فأمره بالقاء الألواح والأخذ برأس أخيه، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السكوت، فإثباته تخييل، وفي السكوت استعارة تبعية، حيث شبه السكون بالسكوت، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من السكوت سكت بمعنى سكن، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، وما وقع من موسى عليه السلام من الغضب ليس ناشئاً عن سوء خلق وعدم حلم، وإنما هو غضب لانتهاك حرمات الله ولا ينافي الحلم، قال بعضهم: إذا قيل حلم قل فللحلم موضع   وحلم الفتى في غير موضعه جهلوما قيل إن موسى لما كان قيل الحلم، أمره الله بإلانة الكلام لفرعون حيث قال له:﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾[طه: ٤٤]، ومحمد عليه السلام لما كان كامل الحلم، أمره الله بالاغلاظ على الكفار حيث قال:﴿ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾[التوبة: ٧٣، التحريم: ٩] فهو باطل لا أصل له، وإنما الذي يقال إن كلاً كامل في الحلم، وكلاً إما مأمور بإلانة أو لا، فإذا تقرر الدين وثبت وأمروا بالجهاد، أمروا بالاغلاظ، هذا هو الحق، ومن نفى عن أحد منهم الحلم فقد كفر. قوله: ﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾ أي كتابتها وتسميتها نسخة، باعتبار كتابتها من اللوح المحفوظ، وهذا على ما قاله، زاده من أن الألواح لم تنكسر، وأما على ما قاله ابن عباس من أنها تكسرت، فصام موسى أربعين يوماً فردت عليه في لوحين، فمعنى قوله: ﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾ أي ما نسخ من الألواح التي كسرت في ألواح أخر، فتسميتها نسخة ظاهرة لأن نسخ الشيء نقله. قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ أي وأما لغيرهم فليس فيه هدى ورحمة، وإنما هو وبال وخسران، فهي نظير القرآن مع المؤمن والمنافق، قال تعالى:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾[التوبة: ١٢٤-١٢٥].
قوله: (وأدخل اللازم على المفعول لتقدمه) أي فضعف عن العمل فقوي باللام، والمعنى الذين يخافون ربهم، أي يخافون عقابه. قوله: (أي من قومه) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِن قَوْمِهِ ﴾ مفعول ثان مقدم منصوب بنزع الخافض، والمفعول الأول قوله: ﴿ سَبْعِينَ ﴾.
قوله: ﴿ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾ أي من شيوخهم، روي أنه لم يجد إلا ستين شيخاً، فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى الميقات هو طور سينا، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عامود من الغمام حتى أحاط بالجبل ودخل موسى فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً، وسمعوا الله وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا:﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ ﴾[البقرة: ٥٥]، وهي المرادة بالرجفة هنا وماتوا يوماً وليلة، وسبب أخذ الصاعقة لهم سؤالهم الرؤية، وهذا قول غير ابن عباس، وقال ابن عباس: إن السبعين الذين سألوا الرؤية، غير السبعين الذين ذهبوا للشفاعة، فالأولى: أخذتهم الصاعقة بسبب سؤالهم الرؤية، والثانية: أخذتهم الرجفة بسبب معاشرتهم لمن عبدوا العجل وسكوتهم عليه، وإلى هذا القول يشير المفسر بقوله: (قال وهم غير الذين سألوا الرؤية) الخ. قوله: (ولم يزايلوا) أي لم يفارقوا قومهم. قوله: (وهم غير الذين سألوا الرؤية) أي لأنهم لم يكونوا في ذلك الميعاد، بل كانوا مع موسى حين أخذ التوراة، فلما سمعوا كلام الله لموسى أقبلوا عليه وقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. قوله: ﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ﴾ مفعول المشيئة محذوف تقديره إهلاكهم. قوله: (استفهام استعطاف) أي طلب العفو والرحمة من الله. قوله: (ابتلاؤك) أي اختبارك ليتبين المطيع من العاصي. قوله: ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه أو على بابه باعتبار أن الغفر ينسب لغيره تعالى لكونه سبباً، وهو الغافر الحقيقي. قوله: ﴿ وَٱكْتُبْ ﴾ أي حقق وأثبت، وهذا من جملة دعاء موسى، فأوله: ﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا ﴾ وآخره: ﴿ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾، وحينئذ فلا ينبغي جعل قوله: ﴿ وَٱكْتُبْ لَنَا ﴾ أول الربع. قوله: ﴿ هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ أي ما تحمد عاقبته، كالعافية والإيمان والمعرفة، وقوله: ﴿ وَفِي ٱلآخِرَةِ ﴾ (حسنة) أي وهي الجنة، وما احتوت عليه من اللقاء والمشاهدة. قوله: ﴿ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾ استئناف مسوق لتعليل الدعاء، أي لأننا ﴿ هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾ أي رجعنا، من هاد يهود، إذا رجع، ولذلك سميت اليهود بذلك، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم، وبعد ذلك صار ذماً. قوله: ﴿ قَالَ عَذَابِيۤ ﴾ جواب من الله لموسى. قوله: ﴿ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ ﴾ أي في الدنياـ كقتل الذين عبدوا العجل أنفسهم، وفي الآخرة بالنار لمن كفر. قوله: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ورد أنه لما نزلت هذه الآية، فرح إبليس وقال: قد دخلت في رحمة الله، فلما نزل ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ الخ أيس من ذلك، وفرحت اليهود وقالوا: نحن من المتقين الذين يؤتون الزكاة المؤمنين، فأخرجهم الله منها وأثبتها لهذه الأمة بقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ﴾ الخ. قوله: (وفي الدنيا) أي فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الرحمة. قوله: ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ أي أثبتها. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ أي يمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي. قوله: ﴿ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ ﴾ خصها بالذكر لمشتقها على النفوس، من حيث إن المال محبوب. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ﴾ أي بالإيمان به بعد بعثته، والعمل بشريعته، وورد أن الله قال لموسى: أجعل لك الأرض مسجداً وطهوراً تصلون حيث أدركتكم الصلاة، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلب، يحفظها الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فقال موسى ذلك لقومه فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلب، ولا نقرؤها إلا نظراً، قال: ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ إلى قوله: ﴿ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ فجعل هذه الأمور لهذه الأمة. قوله: ﴿ ٱلأُمِّيَّ ﴾ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسب إما للأم لأنه باق على حالته التي ولد عليها، أو لأم القرى وهي مكة لكونه ولد بها. قوله: (باسمه وصفته) أي من كونه محمداً ولد بمكة، وهاجر إلى المدينة، يقبل الهدية، ويرد الصدقة، وهكذا من أوصافه وأخلاقه العظيمة، قال الخميس في تاريخه: إن محمداً مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ المنحمنا، بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء وكسر الميم الثانية وبعدها نون مشددة بعدها ألف، ومعناه محمد، وذكر الحسن عن كعب الأحبار، أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الجبار، وعند أهل العرش عبد المجيد، وعند سائر الملائكة عبد الحميد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القاهر، وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق، وفي البر عبد القادر، وفي البحر عب المهيمن، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وفي التوراة موذموذ، وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف عاقب، وفي الزبر فاروق، وعند الله طه ومحمد صلى الله عليه وسلم ا هـ بحروفه قوله: ﴿ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ الخ هذا وما بعده إلى ﴿ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ من جملة أوصافه المكتوبة في التوراة والإنجيل. قوله: (مما حرم في شرعهم) أي وهي لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر. قوله: (من الميتة ونحوها) أي كالدم ولحم الخنزير. قوله: (كقتل النفس) أي وتعيين القصاص في القتل، وتحريم أخذ الدية، وترك العمل يوم السبت، وكون صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس، ونحو ذلك من الأمور الشاقة التي كلفوا بها، وتسميتها أغلالاً، لأن التحريم يمنع من الفعل، كما أن الأغلال تمنع منه. قوله: (وقروه) أي عظموه. قوله: ﴿ وَنَصَرُوهُ ﴾ أي أيدوه. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ أي مقارناً لزمانه ومصحوباً به. قوله: (أي القرآن) تفسير للنور، سمي القرآن بذلك، لأنه ظاهر في نفسه مظهر لغيره، يهدي من الضلال المعنوي، كما أن النور يهدي من الضلال الحسي. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ أي الموصوفون بهذه الصفات، فائزون ظافرون بالنجاة من الأهوال، دنياً وأخرى.
قوله: ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ أتى بهذه الآية دفعاً لما يتوهم أن الفوز مخصوص بمن تبعه من أهل الكتابين، فأفاد هنا أن الفوز ليس قاصراً عليهم، بل كل من تبعه حصل له الفوز، كان من أهل الكتابين أو لا، و ﴿ ٱلنَّاسُ ﴾ اسم جنس واحد إنسان. قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال من ضمير ﴿ إِلَيْكُمْ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ يصح رفع ﴿ ٱلَّذِي ﴾ ونصبه على أنه نعت مقطوع، وجره على أنه نعت متصل، وقوله: ﴿ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وقوله: ﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ بيان للصلة. وقوله: ﴿ يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾ بيان لقوله: ﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾، فكل واحدة من هذه الجمل، كالدليل لما قبلها، ولا محل لكل من الإعراب، لأن الصلة لا محل لها فكذا مبنيها. قوله: ﴿ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ تفريع على ما تقدم، أي فحيث علمتم أن محمداً مرسل لجميع الناس، وأن الله له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، وجب عليكم الإيمان بالله ورسوله، وفيه التفات من التكلم للغيبة، ونكتته التوطئة للاتصاف بقوله: ﴿ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ﴾ الخ. قوله: ﴿ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لأنه مرسل لنفسه. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي تفلحون، والترجي في القرآن بمنزلة التحقيق، فهو بمعنى قوله فيما سبق. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾.
قوله: (ترشدون) من باب تعب ونصر. قوله: ﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ ﴾ استئناف مسوق لدفع توهم أن قوم موسى لم يحصل لهم هدى، بل استمروا على ضلالهم، فدفع ذلك بأن بعضهم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم شرذمة قليلة، كعبد الله بن سلام وأضرابه.
قوله: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ ﴾ الهاء مفعوله، و ﴿ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ ﴾ حال، و ﴿ أَسْبَاطاً ﴾ بدل كما قال المفسر، وتمييز العدد محذوف تقديره فرقة، ويصح أن قطع بمعنى صير، فالهاء مفعول أول، و ﴿ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ ﴾ مفعول ثان، و ﴿ أَسْبَاطاً ﴾ بدل، وسبب تفرقهم كذلك، أن أولاد يعقوب كانوا كذلك. فكل سبط ينتمي لواحد منهم، والأسباط جمع سبط، وهو ولد الوالد، مرادف للحفيد، هكذا في كتب اللغة، وتفرقة بعض العلماء بين السبط والحفيد، بأن السبط ولد البنت، والحفيد وله الولد اصطلاح. قوله: (أي قبائل) أي كالقبائل في التفرق والتعدد. قوله: (بدل مما قبله) أي فهو بدل من البدل. قوله: ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ أي حيث أمر بقتال الجبارين هو ومن معه من بني إسرائيل، ونقب عليهم اثني عشر نقيباً، وأرسلهم يأتون له بأخبار الجبارين، فاطلعوا على أوصاف مهمولة لهم، فرجعوا وأخبروا موسى عليه السلام، فأمرهم بالكتم عن قومهم، فخانوا إلا اثنين منهم، يوشع وكالب فجنبوا، فحرم الله عليهم دخول القرية أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلما طالت عليهم المدة في التيه عطشوا، فطلبوا منه السقيا، فدعا الله موسى، فأمر بضرب الحجر بعصاه، وهذا الحجر هو الذي فر بثوبه حين أتوه بالإدرة خفيف مربع كرأس الرجل. قوله: (فانبجست) أي انفجرت. قوله: ﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ أي عينهم الخاصة بهم. قوله: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ ﴾ أي السحاب، يسير بسيرهم، ويضيء لهم بالليل يسيرون بضوئه. قوله: (الترنجبين) هو شيء حلو، كان ينزل عليهم من الثلج، من الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ كل إنسان صاعاً. قوله: (والطير السماني) أي فكانت ريح الجنوب تسوقه إليهم، فيأخذ كل منهم ما يكفيه. قوله: ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ وهو المن والسلوى. قوله: ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ أي لم يصل لنا منهم ظلم بفعلهم ذلك، فإن ذلك مستحيل. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ﴾ أي بعد خروجهم من التيه قوله: (بيت المقدس) وقيل أريحاء، وقد ذكر القولين في البقرة، فعلى الأول يكون القائل الله على لسان موسى وهم في التيه، وعلى الثاني يكون على لسان يوشع، وهو المعتمد كما تقدم في البقرة. قوله: ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ قدر المفسر (أمرنا) إشارة إلى أن حطة خبر لمحذوف، ومعنى: أمرنا حطة أي طلبنا حطة الذنوب وغفرتها. قوله: (سجود انحناء) أي فالمراد السجود اللغوي، بأن يكونوا على هيئة الراكعين. قوله: (بالنون والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، ولكن على النون يقرأ: خطايا وخطيئات، وعلى التاء يقرأ: خطيئاتكم وخطيئتكم بالجمع والإفراد، فالقراءات أربع. قوله: ﴿ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ أي ما أمروا به. قوله: (فقالوا حبة الخ) يحتمل أنه مجرد هذيان قصدوا به إغاظة موسى، ويحتمل أن يكون له معنى صحيح، كأنهم قالوا مطلوبنا حبة، يعني قمح في زكائب من شعر، وقد تقدم بسطه في البقرة. قوله: (على أستاهم) جمع ستة وهو الدبر. قوله: (عذاباً) أي وهو الطاعون، ومات منهم في وقت واحد سبعون ألفاً. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ أي بسبب ظلمهم، وقد غايرت هذه القصة ما في البقرة من عشرة أوجه قد تقدمت مفصلة، فراجعه إن شئت.
قوله: ﴿ وَسْئَلْهُمْ ﴾ أي اليهود الذين في المدينة، وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوبخ اليهود على كفرهم، ويقول لهم أنتم قد تبعتم أصولكم في الكفر بأنبيائهم، فكانوا يقولون إن أصولنا لم تقع منهم مخالفة لربهم، ولا كفر بأنبيائهم، وكانوا يعرفون ما وقع لهذه القرية ويخفونه، ويعتقدون أنه لا علم لأحد غيرهم به، فنزلت الآية، فقصها رسول الله عليهم فبهتوا. إن قلت: إن السورة مكية، وهذا خطاب لأهل المدينة، فالجواب أنها مكية ما عدا تلك الآيات الثمانية التي أولها: ﴿ وَسْئَلْهُمْ ﴾ الخ فإنها مدنية كما تقدم. قوله: (توبيخاً) أي تقريعاً وتبكيتاً. قوله: ﴿ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ﴾ أي أهلها. وقوله: (مجاورة لبحر القلزم) أي عند العقبة بجانب القلعة. قوله: ﴿ إِذْ يَعْدُونَ ﴾ أي يتعدون الحدود، وكانوا في زمن داود عليه السلام، وسبب نهيهم عن الصوم يوم السبت، أن الله أمرهم على لسان داود، أن يتخذوا يوم الجمعة عيداً ينقطعون فيه لعبادة الله، فكرهوا ذلك واختاروا السبت، ومعناه في اللغة القطع، فهو إشارة إلى أنهم منقطعون عن كل خير، فلما شددوا امتحنهم الله بأن حرم عليهم صيد السمك يوم السبت، وأحله لهم باقي الأسبوع، فكانوا يوم السبت يجدون السمك متراكماً، وباقي الجمعة لم يجدوا منه شيئاً، ثم إن إبليس علمهم أن يصنعوا جداول البحر يوم السبت، فإذا جاء العصر وملئت الجداول بالسمك سدوا عليه وأخذوه يوم الأحد فافترقت القرية ثلاث فرق، وكانوا سبعين ألفاً، ففرقة اصطادوا، وفرقة نهتهم وضربوا بينهم وبينهم سوراً، وفرقة لم تصد ولم تنه، فبعد أيام قلائل، مسخ من اصطاد قردة وخنازير، مكثوا ثلاثة أيام وماتوا، وأنجى الله الفرقة الناهية، والفرقة الثالثة وقع فيها خلاف بالإنجاء والإهلاك؛ والصحيح نجاتهم. قوله: ﴿ حِيتَانُهُمْ ﴾ جمع حوت، وأصل حيتان حوتان، وقعة الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء. قوله: ﴿ شُرَّعاً ﴾ حال من فاعل ﴿ تَأْتِيهِمْ ﴾، أي قريبة من الساحل. قوله: ﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ﴾ أي لا يكون يوم سبت، والمعنى تأتيهم حيتانهم يوم السبت ظاهرة وغير يوم السبت لا تأتيهم، ولما كانت العبارة موهمة، قال المفسر أي سائر الأيام، أي باقيها. قوله: (ابتلاء من الله) علة لقوله: ﴿ تَأْتِيهِمْ ﴾ وقوله: ﴿ لاَ تَأْتِيهِمْ ﴾.
قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي الابتلاء المتقدم. قوله: ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ أي يتجاوزون الحد. قوله: (ثلث صادوا معهم) المناسب حذف قوله معهم. قوله: (عطف على إذ قبله) أي وهو: ﴿ إِذْ يَعْدُونَ ﴾.
قوله: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ﴾ إنما قصدوا بذلك اللوم على الناهين، حيث وعظوهم فلم يقبلوا منهم. قوله: ﴿ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ أو مانعة خلو تجوز الجمع، والمعنى مهلكهم في الدنيا، ومعذبهم في الآخرة. قوله: ﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً ﴾ قدر المفسر موعظتنا، إشارة إلى أن ﴿ مَعْذِرَةً ﴾ خبر لمحذوف، وفي قراءة النصب على المفعول من أجله، أي وعظناهم لأجل المعذرة. قوله: (لئلا ننسب إلى تقصير) أشار بذلك إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهم، ولذا ورد أنه مجمع عليه في جميع الشرائع. قوله: ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ إشارة إلى أنهم ظانون إفادة الموعظة، وهو عطف على المعنى، إذ التقدير موعظتنا للاعتذار: ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
قوله: ﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ في الكلام حذف دل عليه قوله: ﴿ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ ﴾ الخ، والتقدير فلما ذكر من تذكر ونسي من نسي أنجينا الخ. قوله: ﴿ بَئِيسٍ ﴾ فعيل من بؤس إذا اشتد، وقرئ بيئس على وزن ضيغم، وبئس بكسر الباء وسكون الهمزة أو قلبها ياء، وبيس بفتح الباء وتشديد الياء مكسورة، وبيس بفتح الباء وسكون الياء، وبائس على وزن فاعل، هكذا في البيضاوي، وليست كلها سبعية. قوله: ﴿ كُونُواْ ﴾ أمر تكوين لا قول، فهو كناية عن سرعة التصبير، إذ لا يكلف الشخص إلا بما يقدر عليه، وكونهم قردة ليس في طاقتهم. قوله: (فكانوها) أي: ﴿ قِرَدَةً ﴾ وقيل: إن شبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم خنازير، وقيل: إن الذين مسخوا خنازير، هم أصحاب المائدة. قوله: (وهذا) أي قوله: ﴿ فَلَماَّ عَتَوْاْ ﴾ تفصيل لما قبله، وهو قوله: ﴿ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ الخ. قوله: (لأنها كرهت ما فعلوه) أي فهي داخلة تحت قوله: ﴿ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ ﴾ فهي وإن لم تنته صريحاً لكنها نهت ضمناً. قوله: (إنه رجع إليه) أي إلى قول عكرمة.﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ ﴾ إذ ظرف لمحذوف تقديره ذكر وقت إذ تأذن. قوله: (أعلم) مفعوله محذوف، والتقدير أعلم ربك أسلافهم. قوله: ﴿ لَيَبْعَثَنَّ ﴾ أي ليسلطن عليهم. قوله: ﴿ مَن يَسُومُهُمْ ﴾ أي يذيقهم، قوله: (بختنصر) على مركب تركيباً مزجياً كبعلبك، فإعرابه على الجزء الثاني، والأول ملازم للفتح، وهو غير منصرف للعملية، والتركيب المزجي. وبخت معناه في الأصل ابن، ونصر اسم صنم، سمي بذلك لأنه وجد وهو صغير مطروحاً عند ذلك الصنم. قوله: (وسباهم) أي سبى نساءهم وصغارهم. قوله: (وضرب عليهم الجزية) أي عن من لم يقاتل منهم. قوله: (فضربها عليهم) أي لا تزال كذلك إلى نزول عيسى، فلا يقبل منهم إلا الإسلام. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي إذا تعلقت إرادته به، وإلا فهو واسع الحلم.
قوله: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ ﴾ أي بني إسرائيل الكائنين قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ ﴾ قدر المفسر (ناس) إشارة إلى أن ﴿ دُونَ ﴾ نعت لمنعوت محذوف، وهو كثير إذا كان التفصيل بمن، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن، ومنا فريق أقام. قوله: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ أي اختبرناهم بالعطايا: كالنعم والعافية، والبلايا: كالنقم والأسقام والشدائد.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عما هم عليه من الكفر والمعاصي إلى طاعة ربهم، فلم يرجعوا. قوله: ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ بسكون اللام للشر، وبفتحها للخير، يقال خلف سوء، وخلف صالح، وهذه صفة من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إثر بيان صفات أسلافهم. قوله: (التوراة) أشار بذلك إلى أن أل في الكتاب للعهد. قوله: (عن آبائهم) أي أسلافهم سواء كانوا صلحاء أو لا. قوله: ﴿ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ ﴾ سمي عرضاً لتعرضه للزوال، ففي الكلام استعارة تصريحية، حيث شبه متاع الدنيا بالعرض الذي لا يقوم بنفسه بجامع الزوال في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه. قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي زيادة على طعمهم في الدنيا. قوله: ﴿ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ أي لأنا أبناء الله وأحباؤه، وشأن الحبيب أن لا يعذب حبيبه. قوله: (مصرون عليه) أي لم يقلعوا عنه، فقد طمعوا في المغفرة مع فقد شروطها، إذ من أكبر شروطها الندم والإقلاع. قوله: ﴿ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ أي التوراة، والمعنى أخذ عليهم الميثاق في التوراة، أنهم لا يكذبون على الله، ولا يقولون إلا الحق. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ صفة لموصوف محذوف مفعول مطلق لقوله: ﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ ﴾، والتقدير أن لا يقولوا على الله إلا القول الحق. قوله: (فلم كذبوا عليه) أي الله. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتركوا التدبر والتفكر فلا يعقلون. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الياء يكون إخباراً عنهم، وعلى التاء يكون خطاباً لهم. قوله: (بالتشديد) أي يمسكون غيرهم بالكتاب، ويدلونه طريق الهدى. قوله: (والتخفيف) أي يمسكون: ﴿ بِٱلْكِتَابِ ﴾، بمعنى يهتدون في أنفسهم. قوله: (منهم) أي من بني إسرائيل. قوله: ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ خصها بالذكر لأنها أعظم أركان الدين بعد التوحيد. قوله: (وفيه وضع الظاهرة موضع المضمر) أشار بذلك إلى أن الرابط هو لفظ ﴿ ٱلْمُصْلِحِينَ ﴾، لقيامه مقام الضمير على حد قول الشاعر: سعاد التي أضناك حب سعاداً، ونكتة ذلك الإشارة إلى شرفهم والاعتناء بهم.
قوله: ﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ﴾ إذ ظرف معمول لمحذوف، قدره المفسر بقوله اذكر، والمقصود من ذلك الرد على اليهود والتقبيح عليهم، حيث قالوا: إن بني إسرائيل لم تصدر عنهم مخالفة الله. قوله: ﴿ ٱلْجَبَلَ ﴾ قيل هو الطور، وقيل هو جبل من جبال فلسطين، وقيل من جبال بيت المقدس، وفي آية النساء التصريح بالطور، وسبب رفع الجبل فوقهم، أن موسى لما جاء بالتوراة وقرأها عليهم، فلما سمعوا ما فيها من التغليظ، أبوا أن يقبلوا ذلك، فأمر الله الجبل فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ وكان ارتفاعه على قدر قامتهم محاذياً لرؤوسهم كالسقيفة، فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خروا سجداً، فسجد كل واحد على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوف أن يسقط عليه، ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر. قوله: ﴿ فَوْقَهُمْ ﴾ الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، إما حال منتظرة أو ظرف لنتقنا. قوله: ﴿ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ حال من الجبل. قوله ﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ الجملة حالية من الجبل، والتقدير رفعناه فوقهم، والحال أنه مظنون وقوعه عليهم، ومعنى الظن اليقين كما قال المفسر. قوله: (وقلنا) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ خُذُواْ ﴾ معمول لمحذوف، وهو معطوف على ﴿ نَتَقْنَا ﴾.
قوله: أي تتصفون بالتقوى، وهي امتثال المأمورات، واحتناب المنهيات، أو تجعلون بينكم وبين النار وقاية تحفظكم منها.
قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ﴾ عطف على قوله: ﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ﴾ عطف قصة على قصة، وقدر المفسر اذكر إشارة إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف، والحكمة في تخصيص بني إسرائيل بهذه القصة، الزيادة في إقامة الحجة عليهم، حيث أعلمهم الله بأن أعلم نبيه بمبدأ العالم، فضلاً عن وقائعهم. قوله: (بدل اشتمال) أي من قوله: ﴿ بَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ والأوضح أنه بدل بعض من كل، لأن الظهور بعض بني آدم كضبت زيداً يده. قوله: (بأن أخرج بعضهم من صلب بعض) أي فأخرج أولاده آدم لصلبه من ظهره، ثم أخرج من ظهر أولاده لصلبه أولادهم، وهكذا على حسب الظهور الجسماني إلى يوم القيامة، وميز المسلم من الكافر، بأن جعل ذر المسلم أبيض، وذر الكافر أسود. روي أنهم لما اجتمعوا قال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، وأنا ربكم لا رب لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن، وإني مرسل إليكم رسللاً يذكرونكم عهدي وميثاقي، ومنزل عليكم كتاباً، فتكلموا جميعاً وقالوا: شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم، ثم كتب الله آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم، فنظر إليهم آدم عليه السلام، فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب هلا سويت بينهم؟ فقال: أني أحب أن أشكر، فلما قررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض، أعادهم إلى صلبه، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق. قوله: (كالذر) قيل هو صغار النمار، وقيل هو الهباء الذي يطير في الشمس، وقيل غير ذلك. قوله: (بنعمان) مكان يجنب عرفة. قوله: (وركب فيهم عقلاً) أي وسمعاً وروحاً. قوله: ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي قررهم، فإن الشهادة على النفس معناها الإقرار. قوله: ﴿ بَلَىٰ ﴾ هي جواب للنفي، ولكنها تفيد إثباته، كان مجرداً أو مقروناً بالاستفهام التقريري كما هنا، ولذا قال عباس: لو قالوا نعم لكفروا، لأن نعم لتقرير ما قبلها مثبتاً أو منفياً، فكأنهم أقروا بأنه ليس بربهم، وإلى ذلك أشار العارف الأجهوري رضي الله عنه بقوله: بل جواب النفي لكنه   يصير إثباتاً كذا قرروانعم لتقرير الذي قبلها   إثباتاً أو نفياً كذا حررواقوله: ﴿ شَهِدْنَآ ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الملائكة الذين استشهدهم الله على ذلك، فيكون الوقف على قول: ﴿ بَلَىٰ ﴾، ويحتمل أن يكون من كلام الذرية، ويكون المعنى أقررنا بذلك، وحينئذ فلا يصح الوقف على ﴿ بَلَىٰ ﴾.
قوله: (في الموضعين) أي قوله: ﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾.
﴿ أَوْ تَقُولُوۤاْ ﴾ والمناسب تأخير قوله: (في الموضعين) فعلى الياء يكون إخباراً عنهم، وعلى التاء يكون خطاباً لهم. قوله: (فاقتدينا بهم) أي فهم مؤاخذون بذلك ونحن معذورون. قوله: (المعنى لا يمكنهم) أي معنى الجملتين. قوله: (مع إشهادهم على أنفسهم) أي إقرارهم عليها. قوله: (على لسان صاحب المعجزة) أي وهم المرسلون وهو جواب عما يقال إن هذا العهد لا يذكره أحد اليوم. قوله: ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عطف على قدره المفسر.-فائدة حسنة- ذكر القطب الشعراني في رسالة سماها القواعد الكشفية في الصفات الإلهية: قد ذكر العلماء في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ الآية: اثني عشر سؤالاً، ونحن نوردها عليك مع الجواب عنها بما فتح الله به، الأول: أين موضع أخذ الله تعالى هذا العهد؟ والجواب: أن الله أخذ ذلك عليهم ببطن نعمان، وهو واد بجنب عرفة، قال ابن عباس وغيره، وقال بعضهم: أخذه بسرنديب من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة، وقال الكلبي: كان أخذ العهد بين مكة والطائف، وقال الإمام علي بن أبي طالب: كان أخذ العهد في الجنة، وكل هذه الأمور محتملة، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد. الثاني: كيف استخرجتم من ظهره؟ والجواب: ورد في الصحيح أنه تعالى مسح ظهر آدم، وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر، ثم اختلف الناس، هل شق ظهره واستخرجهم منه؟ أو استخرجهم من بعض ثقوب رأسه، وكلا الوجهين بعيد، والأقرب كما قيل، انه استخرجهم من مسام شعر ظهره، إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها سم، مثل سم الخياط في النفوذ لا في السعة، فتخرج الذرة الضعيفة منها، كما يخرج الصئبان من العرق السائل، وهذا غير بعيد في العقل، فيجب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله، ولا يجوز اعتقاد أنه تعالى مسح ظهر آدم على وجه المماسة، إذ لا اتصال بين الحادث والقديم. الثالث: كيف أجابوه تعالى: بلى، هل كانوا أحياء عقلاء، أم أجابوه بلسان الحال؟ والجواب أنهم أجابوه بالنطق وهم أحياء عقلاء، إذ لا يستحيل في العقل، أن الله يعطيهم الحياة والعقل والنطق مع مع صغرهم، فإن بحار قدرته تعالى واسعة، وغاية وسعنا في كل مسألة أن تثبت الجواز، ونكل علم كيفيتها إلى الله تعالى. الرابع: فإذا قال الجميع بلى، فلم قبل قوماً ورد آخرين؟ والجواب كما قال الحكيم الترمذي: أن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة فقالوا: بل: مخافة، فلم يكن ينفعهم إيمانهم، فكان إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى، مخافة، فلم يكن ينفعهم إيمانهم، فكان إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى، مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم. الخامس: إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا، فلأي شيء لا نذكره اليوم؟ والجواب: أنا لم نتذكر هذا العهد، لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها، بمرور الزمان عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ثم استحال تصويرها في الأطوار الواردة عليها، من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله ما يوجب النسيان، وكان علي كرم الله وجهه يقول: إني لأذكر العهد الذي عهد إلي ربي. وكان سهل التستري يقول: إني لأعرف تلامذتي من ذلك اليوم، ولم أزل أربيهم في الأصلاب حتى وصلوا إلي، السادس: هل كانت تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان أم لا؟ والجواب: لم يبلغا في ذلك دليل، إلا أن الأقرب للعقول، عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان، إذ السمع والنطق لا يفترقان إلى الصورة، بل يقتضيان محلاً حياً لا غير. السابع: متى تعلقت الأرواح بالذوات التي هي الذرية، هل قبل خروجها من ظهره، أم بعد خروجها منه؟ والجواب: قال بعضهم إن الظاهر أنه تعالى استخرجهم أحياء، لأن سماهم ذرية، والذرية هو الأحياء لقوله تعالى:﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾[يس: ٤١].
فيحتمل أن الله تعالى أدخل فيهم الأرواح وهم في ظلمات بطون الأرض، هكذا جرت سنة الله فسمى ذلك خلقاً. الثامن: ما الحكمة في أخذ الميثاق منهم؟ والجواب: أن الحكمة في ذلك، إقامة الحجة على من لم يوف بذلك. التاسع: هل أعادهم إلى ظهر آدم أحياء، أم استرد أرواحهم ثم أعاده إليه أمواتاً؟ والجواب أن الظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره، قبض أرواحهم، قياساً على ما يفعله بهم إذا ردهم إلى الأرض بعد الموت، فإنه يقبض أرواحهم ويعيدهم فيها. العاشر: أين رجعتم الأرواح بعد رد الذرات إلى ظهره؟ والجواب: أن هذه مسألة غامضة، لا يتطرق إليها النظر العقلي عندي بأكثر من أن يقال: رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذوات، فمن رأى في ذلك شيئاً فليلحقه بهذا الموضع. الحادي عشر: قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾، والناس يقولون: إن الذرية أخذت من ظهر آدم؟ والجواب: أنه تعالى أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه، فاستغنى عن ذكر إخراج بني آدم من آدم بقوله من بني آدم، إذ من المعلوم أن بني بنيه لا يخرجون إلا من بنيه، ومثال ذلك: من أودع جوهرة في صدفة، ثم أودع الصدفة في خرقة، ثم أودع الخرقة مع الجوهرة في حقه، ثم أودع الحقة في درج، ثم أودع الدرج في صندوق، فأخرج منه تلك الأشياء بعضها من بعض، ثم أخرج الجميع من الصندوق، فهذا لا تناقض فيه. الثاني عشر: في أي مكان أودع كتاب العهد والميثاق؟ والجواب: قد جاء في الحديث، أنه مودع في باطن الحجر الأسود، وأن للحجر الأسود عينين وفماً ولساناً، فإن قال قائل: هذا غير متصور في العقل، فالجواب: أن كل ما عسر على العقل تصوره يكفينا فيه الإيمان به، ورد معناه إلى الله تعالى ا هـ ملخصاً.
قوله: ﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ عطف على (واسألهم) عطف قصة على قصة. قوله: ﴿ ءَايَاتِنَا ﴾ أي وهي علوم الكتب القديمة، ومعرفة الاسم الأعظم، فكان يدعو به حيث شاء فيحصل بعينه، وكان يرى العرش وهو جالس مكانه، وكان في مجلس اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، وحاصل قصته على ما ذكره ابن عباس وغيره، أن موسى عليه السلام، لما قصد قتال الجبارين، ونزل أرض الكنعانيين من أرض الشام، أتى بلعم إليه وكان عند الاسم الأعظم، فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويخليها لبني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا، فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون، فكيف أدعو عليهم أنا أعلم من الله ما لا تعلمون، وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أؤامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فآمر ربه في الدعاء عليهم، بأهدوا إليه هديه فقبلها، وراجعوه فقال: حتى أؤامر ربي، فآمر فلم يؤمر بشيء، فقال: قد آمرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا له: ولو كره ربك أن تدعو لنهاك كما نهاك في المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، فركب أتانا له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها، فقامت فركبها، فلم تسر بها كثيراً حتى ربضت فضربها، وهكذا مراراً، فأذن الله تعالى لها في الكلام فأنطقها له، فكلمته حجة عليه فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملاكة أمامي تردني عن وجهي، ويحك تذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعوا عليهم، فلم ينزجر، فخلى الله سبيل الأتان، فانطلقت حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم، فلم يدع بشر إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه، هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: الآن قد ذهب مني الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والخديعة، فسأمكر لكم واحتال، احملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل راودها، فإنه إن زنى رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل، وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب، فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال: إني أظنك أن تقول هذا حرام عليك، قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها، قال: فوالله لا نعطيك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله عليهم الطاعون في الوقت، فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار. قوله: (وأهدي إليه شيء) أي في نظير الدعاء عليهم، وتسمى تلك الهدية رشوة، وهي محرمة في شرعنا، والذي ألجأه المنصب. قوله: (واندلع لسانه) أي تدلى. قوله: ﴿ فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ هذا مبالغة في ذمه، حيث كان عالماً عظيماً، ثم صار الشيطان من أتباعه. قوله ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ ﴾ مفعول المشيئة محذوف تقديره رفعته. قوله: ﴿ بِهَا ﴾ أي بسبب تلك الآيات. قوله: (ولكنه أخلد) أي مال واطمأن. قوله: ﴿ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ ﴾ أي الذي هو أخس الحيوانات. قوله: ﴿ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ ﴾ أي تشدد عليه وتجهده يلهث أي يخرج لسانه. قوله: ﴿ أَوْ تَتْرُكْهُ ﴾ أي من غير تشدد عليه. قوله: (وليس غيره من الحيوانات كذلك) أي بل غيره يلهث في حال التعب فقط. قوله: (ما بعدها) أي وهو الانسلاخ، وقوله: (من الميل الخ) بيان لما قبلها. قوله: ﴿ ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ﴾ أي اليهود الذين أوتوا التوراة، وفيها صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، فغيروا وبدلوا. قوله: ﴿ فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ ﴾ أي الذي أوحي إليك، ليعلموا أنك علمته من الوحي فيؤمنون. قوله: (على اليهود) لا مفهوم له، بل المراد اقصص القصص على أمتك ليتعظوا بذلك. قوله: ﴿ سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ﴾ ساء فعل ماض لإنشاء الذم، و ﴿ مَثَلاً ﴾ تمييز ﴿ ٱلْقَوْمُ ﴾ فاعل على حذف مضاف تقديره مثل القوم، والخصوص بالذم محذوف تقديره مثلهم.
قوله: ﴿ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ ﴾ هذا رجوع للحقيقة وتسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي ﴾ بإثبات الياء وصلاً ووقفاً باتفاق القراء هنا. قوله: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً ﴾ أي بحكم القبضة الإلهية حين قبض قبضة، وقالك هذه للجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هذه للنار ولا أبالي، وقوله: ﴿ كَثِيراً ﴾ يؤخذ منه أن أهل النار أكثر من أهل الجنة، وهو كذلك، لما تقدم من أن من كل ألف واحداً للجنة، والباقي للنار. قوله: (الحق) قدره هو، ونظيره في: ﴿ يُبْصِرُونَ ﴾ و ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ إشارة إلى أن مفعول كل محذوف. قوله: ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ إضراب انتقالي، ونكتة الاضراب أن الأنعام لا تدري العواقب، والعقلاء تعرفها، فقدومهم على المضار مع علمهم بعواقبها، أضل من قدوم الأنعام على مضارها. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ﴾ أي قلباً وسمعاً وبصراً، وهذه علامة أهل النار المخلدين فيها.
قوله: ﴿ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ ذكرت في أربعة مواضع من القرآن: هنا، وفي آخر الإسراء، وفي أول طه، وفي آخر الحشر. قوله: (الوارد بها الحديث) أي وقد ورد بطرق مختلفة منها قوله صلى الله عليه وسلم:" إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحد، إنه وتر يحب الوتر وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة "، ومنها:" إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة "، ومنها:" إن لله مائة اسم غير اسم، من دعا بها استجاب الله له "وكلها مذكورة في الجامع الصغير عن علي وعن أبي هريرة. والأسماء جمع اسم، وهو اللفظ الدال على المسمى، إما على الذات فقط، أو على الذات والصفات، والأخبار بأنها تسع وتسعون ليس حصراً، وإنما ذلك إخبار عن دخول الجنة بإحصائها أو استجابة الدعاء بها، وإلا فأسماء الله كثيرة، قال بعضهم: إن لله ألف اسم، وقال بعضهم: إن أسماءه على عدد أنبيائه، فكل نبي يستمد من اسم، ونبينا يستمد من الجميع. قوله: (والحسنى مؤنث الأحسن) أي ككبرى وصغرى، مؤنث الأكبر والأصغر، وإنما كانت حسنى، لأن الدال يشرف بشرف مدلوله. قوله: (سموه) ﴿ بِهَا ﴾ أي وقت دعائكم وندائكم وأذكاركم. قوله: ﴿ وَذَرُواْ ﴾ أمر للمكلفين. قوله: (من ألحد ولحد) أي رباعياً وثلاثياً، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (يميلون عن الحق) تفسير لكل من القراءتين، ومنه لحد الميت لأنه يمال بحفره إلى جنب القبر، بخلاف الضريح، فإنه الحفر في الوسط. قوله: (حيث اشتقوا) أي اقتطعوا، وهذا الإلحاد كفر، وطلق الإلحاد على التسمية بما لم يرد، وهو بهذا المعنى حرام، لأن أسماءه توقيفية، فيجوز أن يقال يا جواد، ولا يجوز أن يقال يا سخي، ويقال يا عالم دون عاقل، وحكيم دون طبيب، وهكذا. قوله: (جزاء) ﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، وقدر ليصح الكلام، إذ لا معنى لكونهم يجزون الذي كانوا يعملونه من الإلحاد، بل المراد جزاؤه. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) اسم الإشارة راجع لقوله: ﴿ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ ﴾ فهذه الآية منسوخة بآية القتال. قوله: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ أُمَّةٌ ﴾ مبتدأ مؤخر. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ الباء للملابسة أي يهدون الناس ويرشدونهم ملتبسين بالحق. قوله: ﴿ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ أي بالحق يجعلون الأمور متعادلة مستوية، لا إفراط فيها ولا تفريط. قوله: (كما في الحديث) أي وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله "وعن معاوية وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك "، وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، بل هم في كل مكان وفي كل زمان، فالإسلام دائماً يعلون ولا يعلة عليه، وإن كثر الفساق وأهل الشر، فلا عبرة بهم، ولا صولة لهم، وفي هذا بشارة لهذه الأمة المحمدية، بأن الإسلام في علو وشرف، وأهله كذلك إلى قرب يوم القيامة، حتى تموت حملة القرآن والعلماء، وينزع القرآن من المصاحف، وتأتي الريح اللينة فيموت كل من كان فيه مثقال ذرة من الإيمان، ولا يكون هذا الأمر، إلا بعد وفاة عيسى عليه السلام. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا ﴾ مبتدأ خبره الجملة الاستقبالية بعده. قوله: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ الاستدراج هو الاستصعاد درجة فدرجة، أو الاستنزال درجة بعد درجة. قوله: (نأخذهم قليلاً قليلاً) أي نمدهم بالعطايا شيئاً فشيئاً، وهم مقيمون على المعاصي، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الهلاك، فهم يظنون أنهم في نعم، وهم في نقم، ولذا قيل: إذا رأيت الله أنعم على عبده وهو مقيم على معصيته، فاعلم أنه مستدرج له. قوله: ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ الكيد في الأصل المكر والخديعة، وذلك مستحيل على الله، بل المراد الاستدراج وكان شديداً، لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعموا ولم يتفكروا. قوله: ﴿ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ سبب نزولها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله، فقال بعضهم: إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح، ومعنى يهوت يصوت، وإنما نسبوه إلى الجنون لمخالفته لهم في الأقوال والأفعال، فإنه كان موحداً مقبلاً على الله بكليته، معرضاً عن الدنيا وشهواتها، وهم ليسوا كذلك.
قوله: (ملك) ﴿ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إنما فسر الملكوت بذلك، لأن الملكوت ما غاب عنا، كالملائكة والعرش والكرسي، والمأمور بالنظر فيه عالم الملك وهو ما ظهر لنا. قوله: ﴿ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ ﴾ قدر المفسر في إشارة إلى أنه معطوف على: ﴿ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾.
قوله: ﴿ وَأَنْ عَسَىۤ ﴾ قدر المفسر في إشارة إلى أن الجملة في محل جر عطفاً على ما قبلها، و ﴿ أَنْ ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة: ﴿ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ﴾ خبرها. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ ﴾ الخ متعلق بيؤمنون، وهو استفهام تعجبي، والمعنى إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن الذي هو أعظم المعجزات، فبأي آية ومعجزة يؤمنون بها. قول: ﴿ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ ﴾ تذييل لما قبله، خارج مخرج المثل. قوله: (بالياء والنون) أي مع الرفع وبالياء لا غير مع الجزم، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، فعلى النون يكون التفاتاً من الغيبة للتكلم، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله: (على محل ما بعد الفاء) أي وهو الجزم، لأن جملة: ﴿ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ جواب الشرط في محل جزم.
قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ الضمير عائد على أهل مكة كما قال المفسر، لأن السورة مكية إلا ما تقدم من الثمان آيات، وهذا استئناف مسوق لبيان تعنتهم في كفرهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم من الساعة وأهوالها. قوله: (القيامة) سميت ساعة إما لسرعة مجيئها، قال تعالى:﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾[النحل: ٧٧] أو لسرعة حسابها، لأن الخلق جميعاً يحاسبون في قدر نصف يوم من نهار، أو لأنها ساعة عند الله لخفتها، وإن كانت في نفسها طويلة، لأن الأزمان عنده مستوية، ولها أسماء كثيرة، منها القيامة القيام الناس لرب العالمين فيها، والقارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها، والحاقة لأنها ثابتة، والخافضة والرافعة لأنها تخفض أقواماً وترفع آخرين، والطامة لأنه لا يمكن ردها، والصامة لأنها تصم الآذان، والزلزلة لتزلزل الأرض والقلوب، ويوم الفرقة لتفرقهم في الجنة والنار، واليوم الموعود لأن الله وعد فيه أقواماً بالجنة، وأوعد أقواماً بالنار، ويوم العرض لعرض الناس على ربهم، ويوم المفر لقول الإنسان يومئذ أين المفر، واليوم العسير لشدة الحساب فيه، وزحمة الناس بعضهم على بعض، حتى يكون على القدم ألف قدم، وفي رواية سبعون ألف قدم على قدم، وتدنو الشمس من الرؤوس حتى يكون بينها وبين الرؤوس قدر المرود، إلى غير ذلك من أسمائها. قوله: ﴿ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا ﴾ في الكلام استعارة بالكناية، حيث شبه الساعة بسفينة في البحر، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإرساء فذكره تخييل، وهذه الجملة من المبتدأ والخبر، بدل من الجار والمجرور قبله، والمعنى يسألونك عن وقت مجيء الساعة وهو في محل نصب، لأن الجار والمجرور في محل نصب معمول ليسألونك. قوله: (متى تكون) أشار بذلك إلى أن الكلام فيه حذف مضاف، والتقدير إنما علم وقتها عند الله. قوله: (على أهلهما) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، و ﴿ فِي ﴾ بمعنى على، ويصح أن تبقى الآية على ظاهرها لأنه لا يطيقها شيء من السماوات لطيها، ولا الأرض لتبدلها، فهي شاقة مفزعة لكل ما سوى الله. قوله: ﴿ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ أي على حين غفلة، والحكمة في إخفائها ليتأهب لها كل أحد، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة ليعتنى باليوم كله، وليلة القدر في سائر الليالي، ليعتنى بجميع الليالي، والرجل الصالح في جميع الخلق ليعتقد الجميع، والصلاة الوسطى في جميع الصلوات للمحافظة على الجميع. قوله: ﴿ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ عن بمعنى الباء، والمعنى كأنك عالم بها ومتيقن لها. قوله: (تأكيد) أي لما قبله لبيان أنها من الأمر المكتوم الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه من الرسل، والذي يجب الإيمان به، أن رسول الله لم ينتقل من الدنيا حتى أعلمه الله بجميع المغيبات التي تحصل في الدنيا والآخرة، فهو يعلمها كما هي عين يقين، لما ورد:" رفعت لي الدنيا فأنا أنظر فيها كما أنظر إلى كفي هذه "، ورد أنه اطلع على الجنة وما فيها، والنار وما فيها، وغير ذلك مما تواترت به الأخبار، ولكن أمر بكتمان البعض.
قوله: ﴿ لِنَفْسِي ﴾ معمول لا أملك. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ أي تمليكه لي فأنا أملكه. قوله: ﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ ﴾ الخ إن قلت: إن هذا يشكل مع ما تقدم لنا، أنه اطلع على جميع مغيبات الدنيا والآخرة، والجواب: أنه قال تعالى تواضعاً أو أن علمه بالمغيب كلاً، علم من حيث إنه لا قدرة له على تغيير ما قدر الله وقوعه، فيكون المعنى حينئذ، لو كان لي علم حقيقي بأن أقدر على ما أريد وقوعه لاستكثرت الخ، إن قلت: إن دعاءه مستجاب لا يرد. أجيب: بأنه لا يشاء إلا ما يشاؤه الله، فلو اطلع على أن هذا الشيء مثلاً لا يكون كذا لا يوفق للدعاء له، إذ لا يشفع ولا يدعو إلا بما فيه إذن من الله، واطلاع منه على أنه يحصل ما دعا به، وهو سر قوله تعالى:﴿ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾[البقرة: ٢٥٥]، وفي ذلك المعنى قال العارف: وخصك بالهدى في كل أمر   فلست تشاء إلا ما يشاءوللخواص من أمته حظ من هذا المقام، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي: إذا أراد الله أمراً، أمسك ألسنة أوليائه عن الدعاء ستراً عليهم، لئلا يدعوا فلا يستجاب لهم فيفتضحوا. قوله: (للكافرين) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصوا بذلك لأنهم المنتفعون بذلك. قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ الخطاب لأهل مكة المعارضين المعاندين. قوله: ﴿ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ أي لأنه المالك المتصرف، وهذا أعظم دليل على انفراده بالوحدانية. قوله: (أي آدم) أي وهو مخلوق من الماء والطين، والماء والطين موجودان من عدم، فآل الأمر إلى أن آدم وأولاده موجودان من عدم. قوله: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ أي من الضلع الأيسر، فنبتت منه كما تنبت النخلة من النواة. قوله: (حواء) تقدم أنها سميت حواء لأنها خلقت من حي وهي آدم. قوله: ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ هذا هو حكمه كون حواء من آدم، فالحكمة في كونها منه، كونه يسكن إليها ويألفها لأنها جزء منه. قوله: (ويألفها) عطف تفسير. قوله: ﴿ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا ﴾ التغشي كناية عن الجماع، وعبر به تعليماً لعباده الأدب. قوله: (هو النطفة) إن قلت: إن الجنة لا حمل فيها ولا ولادة. أجيب: بأن ذلك بعد هبوطهما إلى الأرض، وأما جماعه لها في الجنة فبغير نظفة ولا حمل منها ولا ولادة. قوله: ﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ أي ترددت بذلك الحمل لعدم المشقة الحاصلة منه. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ ﴾ أي صارت ذات ثقل أو دخلت في الثقل، كأصبح إذ دخل في الصباح. قوله: (وأشفقا) أي خافا، ورد أنه لما جاءها إبليس وقال لها: ما هذا الذي في بطنك؟ فقالت: لا أدري، فقال لها: يحتمل أن يكون كلباً أو حماراً أو غير ذلك، ويحتمل أن يخرج من عينك أو فمك أو تشق بطنك لإخراجه فخوفها بهذا كله، فعرضت الأمر على آدم، فدعوا ربهما إلى آخر الدعاء المذكور. قوله: ﴿ لَئِنْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تقديره والله. قوله: (ولذا قدره) إشارة إلى أن صالحاً صفة لموصوف محذوف مفعول ثان: لآتينا، لأنه بمعنى أعطيتنا. قوله: ﴿ لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ أي نزيد في الشكر لأن الشكر يزيد ويعظم بزيادة النعم.
قوله: ﴿ شُرَكَآءَ ﴾ جمع شريك، والمراد بالجمع المفرد، بدليل القراءة الثانية. قوله: (أي شريكاً) تفسير لكل من القراءتين. قوله: (بتسميته عبد الحرث) أي والحرث كان اسماً لإبليس، فقصد اللعين بذلك انتسابه له وأنه عبده. قوله: (وليس بإشراك في العبودية) المناسب أو يقول في العبادة أو في المعبودية، وإنما هو إشراك في التسمية، وهو ليس بكفر بل تعمده حرام، لعدم تعظيمه شرعاً، وأما النسبة للمعظم شرعاً، كعبد النبي، وعبد الرسول، فقيل بالكراهة. والحاصل أن النسبة للمعظم شرعاً لا حرمة فيها، ولغيره حرام إن لم يعتقد المعبودية، وإلا كان كفراً في الجميع قوله: (وروى سمرة) الحكمة في ذكر هذه الرواية، أن هذا المقام زلت فيه أقدام العلماء، فمنهم من أصاب، ومنهم من أخطأ، فذكر هذه الرواية ليتضح المقام ويظهر الغث من السمين. قوله: (كان لا يعيش لها ولد) وذلك أنها ولدت قبل ذلك، عبد الله وعبيد الله وعبيد الرحمن فأصابهم الموت، وكان يلح عليها كل مرة، فألح عليها في الأخير، فسمته عبد الحرث كما أفادته رواية المفسر. قوله: (والجملة) أي قوله: ﴿ فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
قوله: (مسببة) عطف على قوله: (خلقكم) أي وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلاً، ويؤيد ذلك الجمع بعد التثنية، ولو كان راجعاً لها لثنى الضمير وقال يشركان. وفي قوله: ﴿ يُشْرِكُونَ ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة. قوله: ﴿ أَيُشْرِكُونَ ﴾ شروع في توبيخ أهل مكة على الاشراك. قوله: ﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ ﴾ هذا بيان لعجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنها، والخطاب للمشركين بطريق الالتفات اعتناء بمزيد التوبيخ، وقوله: ﴿ إِلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي لكم، أي إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم، ولا يجيبوكم، كما يجيبكم الله. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ﴾ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، أي سواء علكيم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم عنه، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين، كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية. قوله: (مملوكة) دفع بذلك ما يقال إن الأصنام جمادات لا تعقل، فكيف توصف بأنها مثلكم؟ وأجيب: بأن المراد بكونهم أمثالكم، أنهم مملوكون مقهورون، لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فالتشبيه من هذه الحقيقة لا بد من كل وجه. قوله: (وفضل عابديهم) إما بالتشديد الضاد عطف على (بين) وبسكون الضاد عطف على (غاية) ومعنى فضلهم زيادتهم عليهم بهذه المنافع المذكورة.
قوله: ﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾ أشار المفسر إلى أن ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل، والهمزة الإضراب انتقالي من توبيخ لتوبيخ آخر. قوله: ﴿ يَبْطِشُونَ ﴾ من باب ضرب، وبها قرأ السبعة، وقرئ شذوذاً من باب قتل، والبطش هو الأخذ بعنف. قوله: (استفهام إنكاري) أي في المواضع الأربعة، أي ليس لهم شيء من المنافع المذكورة. قوله: ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ﴾ أي واستعينوا بهم في عداوتي. قوله: ﴿ كِيدُونِ ﴾ قرئ بإثبات الياء وصلاً، وحذفها وقفاً، وبإثباتها في الحالين، وكلها سبعية، وفي القرآن: ﴿ كِيدُونِ ﴾ في صلاثة مواضع، هنا وفي هود بإثبات الياء عند السبع في الحالين، وفي المرسلات بحذفها عند السبع في الحالين. قوله: ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ ﴾ العامة على تشديد الولي مضافاً لياء المتكلم المفتوحة، وفي بعض الطرق بياء واحدة مشددة مفتوحة. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم. قوله: ﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ ﴾ أي أيها المشركون، أي تدعوا أصنامكم إلى أن يهدوكم لا يسمعوا دعاءكم، فضلاً عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع، وقوله ﴿ وَتَرَٰهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ الخ، بيان لعجزهم عن الأبصار بعد بيان عجزهم عن السمع، وبه يتم التعليل ورأى بصرية. قوله: ﴿ خُذِ ٱلْعَفْوَ ﴾ هذا امر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جبريل عن معناها، فقال حتى أسأل ربي، فذهب ثم رجع فقال: يا محمد، ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. قوله: (أي اليسر من أخلاق الناس) أي ما سهل منها. قوله: (ولا تبحث عنها) أي لا تفتش عن الأخلاق، بل اقبل ما ظهر، ودع ما بطن لله. قوله: ﴿ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ ﴾ أي ما عرف جنسه في الشرع. قوله: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ إن كان المراد بالجاهلين الكفار، وبالإعراض عدم مقالتهم، فالآية منسوخة بآية القتال، وإن كان المراد بالجاهلين، ضعفاء الإسلام وأجلاف العرب، وبالإعراض عدم تعنيفهم والاغلاظ عليهم، فالآية محكمة، وكلام المفسر يشهد للثاني، ومن معنى ذلك قوله تعالى:﴿ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ ﴾[الحجر: ٨٥] وهو الذي لا عتاب بعده، وفي هذه الآية تعليم مكارم الأخلاق للعباد، فليس هذا الأمر من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
قوله: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ ﴾ سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بأخذ العفو، والأمر بالعرف، والإعراض عن الجاهلين، قال: وكيف بالغضب؟ فنزلت هذه الآية. والنزع هو النخس، وهو في الأصل حث السائق للدابة على السير، والمراد منه الوسوسة، فشبهت الوسوسة بالنزغ بمعنى الحث على اسلير، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من النزغ ينزغنك بمعنى يوسوس لك، والخطاب للنبي والمراد غيره، لأن الشيطان لا تسلط له عليه. قوله: ﴿ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ﴾ أي أطلب الاستعاذة بالله بأن تقول؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قوله: (جواب الشرط) أي وقرن بالفاء لأن جملة طلبية. قوله: ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي فيجيبك لما طلبت. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ أي الذين اتصفوا بامتثال الأوامر النواهي. قوله: (أي شيء ألم بهم) تفسير للقراءتين، أي خاطر قليل من الشيطان، فإذا وسوس الشيطان لهم بفعل المعاصي، أو ترك الطاعات، تذكروا عقاب الله وثوابه، فرجعوا لما أمر الله به ونهى عنه. قوله: (عقاب الله) أي في متابعة الشيطان، وقوله: (وثوابه) أي في مخالفته. قوله: ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ ﴾ مبتدأ، وجملة: ﴿ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ خبر. قوله: (أي إخوان الشياطين من الكفار) أي والفساق، أشار بذلك إلى أن المراد بالإخوان الكفار والفساق، والضمير عائد على الشياطين. قوله: ﴿ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ الواو عائدة على الشياطين، والهاء عائدة على الكفار والفساق، فقد عاد ضمير الخبر على غير المبتدأ في المعنى. قوله: ﴿ ثُمَّ ﴾ (هم) أي الإخوان. قوله: ﴿ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ أي لا يبعدون عن الغي. قوله: (بالتبصر) أي التأمل والتفكر، والمعنى أن الشياطين يمدون الكفار والفساق في الغي، حتى لا يكفون عنه ولا يتركونه، فجعل الله في هذه الآية للمتقين علامة، ولغيرهم علامة. قوله: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ ﴾ رجوع لخطاب كفار مكة. قوله: (مما اقترحوا) أي طلبوا. قوله: ﴿ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا ﴾ أشار المفسر إلى أن لولا تحضيضية حيث قال هلا. قوله: (أنشأتها) أي اخترعتها واختلقها. قوله: (وليس لي أن آتي من عند نفسي بشيء) أي لا يمكنني ذلك. قوله: ﴿ بَصَآئِرُ ﴾ أي سبب فيها، فسمى السبب وهو القرآن باسم المسبب وهو الحجج. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصوا بذلك لأنهم المنتفعون به. قوله: ﴿ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ ﴾ أي للقرآن. قوله: (نزلت في ترك الكلام في الخطبة) أي وهو واجب عند مالك والشافعي في القديم، ومذهب الشافعي في الجديد، الانصال سنة، والكلام مكلاوه. قوله: (وقيل في قراءة القرآن مطلقاً) أي فيحرم الكلام في مجلس القرآن للتخليط على القارئ، بل يجب الإنصات والاستماع، فإن أمن التخليط فلا حرمة، وما ذكره المفسر قولان من أربع، وثالثها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة، رابعها أنها أنزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.
قوله: ﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ أي بأي نوع من أنواع الذكر، كالتسبيح والتهليل والدعاء والقرآن وغير ذلك. وقوله: (سراً) أي إن لم يلزم عليه الكسل وإلا جهراً. قوله: ﴿ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ﴾ مفعولان لأجله أو حالان، أي متضرعين خائفين. قوله: ﴿ وَدُونَ ٱلْجَهْرِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فِي نَفْسِكَ ﴾.
قوله: ﴿ بِٱلْغُدُوِّ ﴾ جمع غدوة، وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، قوله: ﴿ وَٱلآصَالِ ﴾ جمع أصيل، وهو من العصر إلى الغروب، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر، لأن الإنسان يقوم من النوم عند الغداة، فطلب أن يكون أول صحيفته ذكر الله، وأما وقت الآصال فلأن الإنسان يستقبل النوم وهو أخو الموت، فينبغي له أن يشغله بالذكر، خيفة أن يموت في نومه فيبعث على ما مات عليه، وقيل إن الأعمال تصعد في هذين الوقتين، وقيل لكراهة النفل في هذين الوقتين، فطلب بالذكر فيهما لئلا يضيع على الإنسان وقته. قوله: ﴿ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ ﴾ خطاب للنبي والمراد غيره. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّكَ ﴾ العندية مكانة لا مكان، أو المراد عند عرش ربك، وهذا كالدليل لما قبله، أي فإذا كان دوام الذكر دأب من لم يجعل لهم على أعمالهم جنة ولا نار، فلتكونوا كذلك بالأولى. قوله: (ينزهونه) أي يعتقدون تنزيهه. قوله: (أي يخصونه) أخذ هذا الحصر من تقديم المعمول. قوله: (بالخضوع) تفسير للسجود، أي فالمراد بالسجود مطلق العبادة، لا خصوص السجود المعروف، وإنما خص السجود، لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهذه أول سجدات القرآن المأمور بها عند التلاوة. والله أعلم.
Icon