تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
هذا هو الاسم الذي عرفت به هذه السورة، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج النسائي، من حديث أبي مليكة، عن عروة بن زيد ابن ثابت : أنه قال لمروان به الحكم : ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السور وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين. قال مروان قلت : يا أبا عبد الله ما أطول الطوليين، قال : الأعراف. وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بطولا الطوليين. والمراد بالطوليين سورة الأعراف وسورة الأنعام فإن سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام، باعتبار عدد الآيات. ويفسر ذلك حديث عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين.
ووجه تسميتها أنها ذكر في لفظ الأعراف بقوله تعالى ﴿ وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال ﴾ الآية. ولم يذكر في غيرها من سور القرآن، ولأنها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة، ولم يذكر في غيرها من السور بهذا اللفظ، ولكنه ذكر بلفظ ﴿ سور ﴾ في قوله :﴿ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ في سورة الحديد.
وربما تدعى بأسماء الحروف المقطعة التي في أولها وهي :﴿ ألف_لام_ميم_صاد ﴾ أخرج النسائي من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت : أنه قال لمروان : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بأطول الطوليين :﴿ ألف، لام، ميم، صاد ﴾. وهو يجيء على القول بأن الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور هي أسماء للسور الواقعة فيها، وهو ضعيف، فلا يكون ﴿ ألمص ﴾ اسما للسورة، وإطلاقه عليها إنما هو على تقدير التعريف بالإضافة إلى السورة ذات ألمص، وكذلك سماها الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة في باب سجود القرآن ولم يعدوا هذه السورة في السور ذات في الأسماء المتعددة. وأما ما في حديث زيد من أنها طولا الطوليين فعلى إرادة الوصف دون التلقيب. وذكر فيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز أن هذه السورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾. وأنها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله :﴿ الست بربك قالوا بلى ﴾١.
وهي مكية بلا خلاف. ثم قيل جميعها مكي، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عباس، وكذلك نقل عن ابن الزبير، وقيل نزل بعضها في المدينة، قال قتادة آية :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ نزلت بالمدينة، وقال مقاتل من قوله :﴿ واسألهم عن القرية ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ﴾ نزلت بالمدينة، فإذا صح هذا احتمل أن تكون السورة بمكة ثم ألحق بها الآيتان المذكورتان، واحتمل أنها نزلت بمكة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان.
ولم أقف على ما يضبط به تاريخ نزولها، وعن جابر بن زيد أنها نزلت بعد سورة ( ص ) و قبل سورة ﴿ قل أوحي ﴾، وظاهر حديث ابن عباس في صحيح البخاري أن سورة ﴿ قل أوحي ﴾ أنزلت في أول الإسلام حين ظهور دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في أيام الحج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه بأصحابه إلى سوق عكاظ، فلعل ذلك في السنة الثانية من البعثة، ولا أحسب أن سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدة لأن السور الطوال يظهر أنها لم تنزل في أول البعثة.
ولم أقف على هاتين التسميتين في كلام غيره وهي من السبع الطوال التي جعلت في أول القرآن لطولها وهي سور : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة وقدم المدني منها وهي سور : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة ؛ ثم ذكر المكي وهو : الأنعام، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتبارا بأن سورة الأنعام أنزلت بمكة بعد سورة الأعراف فهي أقرب إلى المدني من السور الطوال.
وهي معدودة التاسعة والثلاثين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد عن ابن عباس، نزلت بعد سورة ص وقبل سورة الجن، كما تقدم، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعد ها سورة النساء، ثم آل عمران، ووقع في مصحف أبي بعد آل عمران الأنعامُ ثم الأعراف. وسورة النساء هي التي تلي سورة البقرة في الطول وسورة الأعراف تلي سورة النساء في الطول.
وعد آي سورة الأعراف مائتان وست آيات في عد أهل المدينة والكوفة، ومائتان وخمس في عد أهل الشام والبصرة، قال في الإتقان قيل مائتان وسبع.
أغراضها
افتتحت هذه السورة بالتنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاما جامعا وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن.
وتدور مقاصد هذه السورة على محور مقاصد ؛ منها : النهي عن اتخاذ الشركاء من دون الله.
وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة.
ووصف ما حل بالمشركين والذين كذبوا الرسل : من سوء العذاب في الدنيا، وما سيحل بهم في الآخرة.
تذكير الناس بنعمة خلق الأرض، وتمكين النوع الإنساني من خيرات الأرض، وبنعمة الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله.
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.
وتحذير الناس من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيبات، ومن الوقوع فيما يزج بهم في العذاب في الآخرة.
ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتقين.
والتذكير بالبعث وتقريب دليله.
والنهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان.
والتذكير ببديع ما أوجده الله صلاحها وإحيائها.
والتذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التقوى والإصلاح.
وأفاض في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين، ومما لاقوه من عنادهم وأذاهم، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله الناس قبل أن ينزل بهم العذاب، وإعذارا لهم ان يقلعوا عن كفرهم وعنادهم، فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.
وأطال القول في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى عليه السلام.
وتخلل قصته بشارة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته وفضل دينه.
ثم تخلص إلى موعظة المشركين كيف بدلوا الحنيفية وتقلدوا الشرك، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشيطان فانسلخ عن الهدى.
ووصف حال أهل الضلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهية وأن لله الصفات الحسنى صفات الكمال.
ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصدر والمداومة على الدعوة وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سرا وجهرا والإقبال على عبادته.
ووجه تسميتها أنها ذكر في لفظ الأعراف بقوله تعالى ﴿ وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال ﴾ الآية. ولم يذكر في غيرها من سور القرآن، ولأنها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة، ولم يذكر في غيرها من السور بهذا اللفظ، ولكنه ذكر بلفظ ﴿ سور ﴾ في قوله :﴿ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ في سورة الحديد.
وربما تدعى بأسماء الحروف المقطعة التي في أولها وهي :﴿ ألف_لام_ميم_صاد ﴾ أخرج النسائي من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت : أنه قال لمروان : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بأطول الطوليين :﴿ ألف، لام، ميم، صاد ﴾. وهو يجيء على القول بأن الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور هي أسماء للسور الواقعة فيها، وهو ضعيف، فلا يكون ﴿ ألمص ﴾ اسما للسورة، وإطلاقه عليها إنما هو على تقدير التعريف بالإضافة إلى السورة ذات ألمص، وكذلك سماها الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة في باب سجود القرآن ولم يعدوا هذه السورة في السور ذات في الأسماء المتعددة. وأما ما في حديث زيد من أنها طولا الطوليين فعلى إرادة الوصف دون التلقيب. وذكر فيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز أن هذه السورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾. وأنها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله :﴿ الست بربك قالوا بلى ﴾١.
وهي مكية بلا خلاف. ثم قيل جميعها مكي، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عباس، وكذلك نقل عن ابن الزبير، وقيل نزل بعضها في المدينة، قال قتادة آية :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ نزلت بالمدينة، وقال مقاتل من قوله :﴿ واسألهم عن القرية ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ﴾ نزلت بالمدينة، فإذا صح هذا احتمل أن تكون السورة بمكة ثم ألحق بها الآيتان المذكورتان، واحتمل أنها نزلت بمكة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان.
ولم أقف على ما يضبط به تاريخ نزولها، وعن جابر بن زيد أنها نزلت بعد سورة ( ص ) و قبل سورة ﴿ قل أوحي ﴾، وظاهر حديث ابن عباس في صحيح البخاري أن سورة ﴿ قل أوحي ﴾ أنزلت في أول الإسلام حين ظهور دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في أيام الحج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه بأصحابه إلى سوق عكاظ، فلعل ذلك في السنة الثانية من البعثة، ولا أحسب أن سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدة لأن السور الطوال يظهر أنها لم تنزل في أول البعثة.
ولم أقف على هاتين التسميتين في كلام غيره وهي من السبع الطوال التي جعلت في أول القرآن لطولها وهي سور : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة وقدم المدني منها وهي سور : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة ؛ ثم ذكر المكي وهو : الأنعام، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتبارا بأن سورة الأنعام أنزلت بمكة بعد سورة الأعراف فهي أقرب إلى المدني من السور الطوال.
وهي معدودة التاسعة والثلاثين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد عن ابن عباس، نزلت بعد سورة ص وقبل سورة الجن، كما تقدم، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعد ها سورة النساء، ثم آل عمران، ووقع في مصحف أبي بعد آل عمران الأنعامُ ثم الأعراف. وسورة النساء هي التي تلي سورة البقرة في الطول وسورة الأعراف تلي سورة النساء في الطول.
وعد آي سورة الأعراف مائتان وست آيات في عد أهل المدينة والكوفة، ومائتان وخمس في عد أهل الشام والبصرة، قال في الإتقان قيل مائتان وسبع.
أغراضها
افتتحت هذه السورة بالتنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاما جامعا وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن.
وتدور مقاصد هذه السورة على محور مقاصد ؛ منها : النهي عن اتخاذ الشركاء من دون الله.
وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة.
ووصف ما حل بالمشركين والذين كذبوا الرسل : من سوء العذاب في الدنيا، وما سيحل بهم في الآخرة.
تذكير الناس بنعمة خلق الأرض، وتمكين النوع الإنساني من خيرات الأرض، وبنعمة الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله.
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.
وتحذير الناس من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيبات، ومن الوقوع فيما يزج بهم في العذاب في الآخرة.
ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتقين.
والتذكير بالبعث وتقريب دليله.
والنهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان.
والتذكير ببديع ما أوجده الله صلاحها وإحيائها.
والتذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التقوى والإصلاح.
وأفاض في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين، ومما لاقوه من عنادهم وأذاهم، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله الناس قبل أن ينزل بهم العذاب، وإعذارا لهم ان يقلعوا عن كفرهم وعنادهم، فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.
وأطال القول في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى عليه السلام.
وتخلل قصته بشارة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته وفضل دينه.
ثم تخلص إلى موعظة المشركين كيف بدلوا الحنيفية وتقلدوا الشرك، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشيطان فانسلخ عن الهدى.
ووصف حال أهل الضلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهية وأن لله الصفات الحسنى صفات الكمال.
ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصدر والمداومة على الدعوة وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سرا وجهرا والإقبال على عبادته.
١ طبع مطابع شركة الإعلانات الشرقية بالقاهرة سنة ١٣٨٤ صفحة ٢٠٣ الجزء الأول.- .
ﰡ
ﭑ
ﰀ
وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَصَرُّفَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَتَخَلَّلَ قِصَّتَهُ بِشَارَةُ اللَّهِ ببعثة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَفَضْلِ دِينِهِ.
ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ بَدَّلُوا الْحَنِيفِيَّةَ وَتَقَلَّدُوا الشِّرْكَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْآيَاتِ فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَانْسَلَخَ عَنِ الْهُدَى.
وَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَوَصَفَ تَكْذِيبَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَوَصَفَ آلِهَتَهُمْ بِمَا يُنَافِي الإلاهيّة وَأَنَّ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى صِفَاتِ الْكَمَالِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْإِقْبَالِ على عِبَادَته.
[١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١]
هَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا هَاتِهِ السُّورَةُ، يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا (أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ) كَمَا يَنْطِقُ بِالْحُرُوفِ مُلَقِّنُ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْهِجَاءِ فِي الْمَكْتَبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ لَا مُسَمَّيَاتُهَا وَأَشْكَالُهَا، كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ أَحَدٍ بِخَبَرٍ تَذْكُرُ اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ دُونَ أَنْ تَعْرِضَ صُورَتَهُ أَوْ ذَاتَهُ، فَتَقُولُ مَثَلًا: لَقِيتُ زَيْدًا، وَلَا تَقُولُ: لَقِيتُ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا لَقِيتُ هَذِهِ الذَّاتَ.
فَالنُّطْقُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا، لقصد التّعريض بتعجيز الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَعْجِيزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ
مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَتَخَلَّلَ قِصَّتَهُ بِشَارَةُ اللَّهِ ببعثة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَفَضْلِ دِينِهِ.
ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ بَدَّلُوا الْحَنِيفِيَّةَ وَتَقَلَّدُوا الشِّرْكَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْآيَاتِ فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَانْسَلَخَ عَنِ الْهُدَى.
وَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَوَصَفَ تَكْذِيبَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَوَصَفَ آلِهَتَهُمْ بِمَا يُنَافِي الإلاهيّة وَأَنَّ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى صِفَاتِ الْكَمَالِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْإِقْبَالِ على عِبَادَته.
[١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (١)هَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا هَاتِهِ السُّورَةُ، يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا (أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ) كَمَا يَنْطِقُ بِالْحُرُوفِ مُلَقِّنُ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْهِجَاءِ فِي الْمَكْتَبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ لَا مُسَمَّيَاتُهَا وَأَشْكَالُهَا، كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ أَحَدٍ بِخَبَرٍ تَذْكُرُ اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ دُونَ أَنْ تَعْرِضَ صُورَتَهُ أَوْ ذَاتَهُ، فَتَقُولُ مَثَلًا: لَقِيتُ زَيْدًا، وَلَا تَقُولُ: لَقِيتُ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا لَقِيتُ هَذِهِ الذَّاتَ.
فَالنُّطْقُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا، لقصد التّعريض بتعجيز الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَعْجِيزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ
مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَإِنَّمَا رَسَمُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُوَرِ الْحُرُوفِ دُونَ أَسْمَائِهَا، أَيْ بِمُسَمَّيَاتِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا وَلَمْ يَرْسُمُوهَا بِمَا تُقْرَأُ بِهِ أَسْمَاؤُهَا، مُرَاعَاةً لِحَالَةِ التَّهَجِّي (فِيمَا أَحْسَبُ)، أَنَّهُمْ لَوْ رَسَمُوهَا بِالْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ أَسْمَائِهَا خَشُوا أَنْ يَلْتَبِسَ مَجْمُوعُ حُرُوفِ الْأَسْمَاءِ بِكَلِمَاتٍ مِثْلَ (ياسين)، لَوْ رُسِمَتْ بِأَسْمَاءِ حُرُوفِهَا أَنْ تَلْتَبِسَ بِنِدَاءِ مَنِ اسْمُهُ سِينٌ.
فَعَدَلُوا إِلَى رَسْمِ الْحُرُوفِ عِلْمًا بِأَنَّ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدَ صُورَةَ الْحَرْفِ نَطَقَ بِاسْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ. عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي التَّهَجِّي طَرْدًا لِلرَّسْمِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
عَلَى أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ سَنَّهَا كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ فَأُقِرَّتْ. وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ عَلَى الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي، وَمَا جُعِلَتْ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ إِلَّا تَذْكِرَةً وَعَوْنًا لِلْمُتَلَقِّي.
وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيمَا هُنَا زِيَادَة عَلَيْهِ.
[٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُعْقِبَتْ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْوَحْي أَو مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ التَّهَجِّي، إِبْلَاغًا فِي التَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفًا لِلْعِبْءِ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَهِيَ هُنَا مَعْدُودَةٌ آيَةً وَلَمْ تُعَدَّ فِي بَعْضِ السُّوَرِ.
فَقَوْلُهُ: كِتابٌ مُبْتَدَأٌ وَوَقَعَ الِابْتِدَاءُ، بِالنَّكِرَةِ أَمَّا لِأَنَّهَا أُرِيدَ
فَعَدَلُوا إِلَى رَسْمِ الْحُرُوفِ عِلْمًا بِأَنَّ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدَ صُورَةَ الْحَرْفِ نَطَقَ بِاسْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ. عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي التَّهَجِّي طَرْدًا لِلرَّسْمِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
عَلَى أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ سَنَّهَا كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ فَأُقِرَّتْ. وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ عَلَى الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي، وَمَا جُعِلَتْ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ إِلَّا تَذْكِرَةً وَعَوْنًا لِلْمُتَلَقِّي.
وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيمَا هُنَا زِيَادَة عَلَيْهِ.
[٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُعْقِبَتْ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْوَحْي أَو مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ التَّهَجِّي، إِبْلَاغًا فِي التَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفًا لِلْعِبْءِ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَهِيَ هُنَا مَعْدُودَةٌ آيَةً وَلَمْ تُعَدَّ فِي بَعْضِ السُّوَرِ.
فَقَوْلُهُ: كِتابٌ مُبْتَدَأٌ وَوَقَعَ الِابْتِدَاءُ، بِالنَّكِرَةِ أَمَّا لِأَنَّهَا أُرِيدَ
10
بِهَا النَّوْعُ لَا الْفَرْدُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِبْهَامٌ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ جَاءَنِي، أَيْ لَا امْرَأَةَ، وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَفَائِدَةُ إِرَادَةِ النَّوْعِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاسْتِبْعَادَهُمْ ذَلِكَ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ نَوْعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَمَا نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَكِتَابُ مُوسَى كَذَلِكَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ لِدَفْعِ الِاسْتِبْعَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص: ٢٢] فَالتَّنْكِيرُ لِلنَّوْعِيَّةِ.
وَأَمَّا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِمْ: «شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ» أَيْ شَرٌّ عَظِيمٌ. وَقَوْلُ
عُوَيْفِ الْقَوَافِي:
أَيْ هُوَ كِتَابٌ عَظِيمٌ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ فَصَارَ التَّنْكِيرُ فِي مَعْنَى التَّوْصِيفِ.
وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالتَّنْكِيرِ التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ مَا حُفَّ بِهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَالْإِرْشَادِ، وَكَوْنُهُ نَازِلًا عَلَى رَجُلٍ أُمِّيٍّ.
وَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كِتابٌ فَيَكُونَ مُسَوِّغًا ثَانِيًا لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْبَارِ تَذْكِيرُ الْمُنْكِرِينَ والمكابرين، لأنّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِتَغْلِيطِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَابِرِينَ وَالْقَاصِدِينَ إِغَاظَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الِامْتِنَانُ وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنَ
وَأَمَّا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِمْ: «شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ» أَيْ شَرٌّ عَظِيمٌ. وَقَوْلُ
عُوَيْفِ الْقَوَافِي:
| خَبَرٌ أَتَانِي عَنْ عُيَيْنَةَ مُوجِعٌ | كَادَتْ عَلَيْهِ تَصَدَّعُ الْأَكْبَادُ |
وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالتَّنْكِيرِ التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ مَا حُفَّ بِهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَالْإِرْشَادِ، وَكَوْنُهُ نَازِلًا عَلَى رَجُلٍ أُمِّيٍّ.
وَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كِتابٌ فَيَكُونَ مُسَوِّغًا ثَانِيًا لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْبَارِ تَذْكِيرُ الْمُنْكِرِينَ والمكابرين، لأنّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِتَغْلِيطِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَابِرِينَ وَالْقَاصِدِينَ إِغَاظَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الِامْتِنَانُ وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنَ
11
التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَكُنْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِهِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَتُذَكِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ: تسكين نفس النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِغَاظَةُ الْكَافِرِينَ، وَتَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ فَلَا يكن فِي صرك حَرَجٌ إِنْ كَذَّبُوا. وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَبِعَدَمِ مُنَافَاةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهَا وَذَلِكَ مِنْ مَطَالِعِ السُّوَرِ الْعَجِيبَةِ الْبَيَانِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرُوا مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، وَجَعَلُوا كِتابٌ خَبْرًا عَنْهُ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ، أَيْ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ، أَوِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ السُّورَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كِتابٌ خَبْرًا عَنْ كلمة المص [الْأَعْرَاف: ١] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَتَانَةِ الْمَعْنَى.
وَصِيغَ فِعْلُ: أُنْزِلَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ اخْتِصَارًا، لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الَّذِي يُنْزِلُ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِمَا فِي مَادَّةِ الْإِنْزَالِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ لِمَلَائِكَةِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ اعتراضية إِذا الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أُنْزِلَ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتُنْذِرَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ كَمَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا
بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: ٥٧] وَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [النِّسَاء: ١٣٥]. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاهِدِ:
وَقَوْلِ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ:
وَلَيْسَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً لِلِاعْتِرَاضِ وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَإِنَّمَا
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرُوا مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، وَجَعَلُوا كِتابٌ خَبْرًا عَنْهُ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ، أَيْ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ، أَوِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ السُّورَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كِتابٌ خَبْرًا عَنْ كلمة المص [الْأَعْرَاف: ١] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَتَانَةِ الْمَعْنَى.
وَصِيغَ فِعْلُ: أُنْزِلَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ اخْتِصَارًا، لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الَّذِي يُنْزِلُ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِمَا فِي مَادَّةِ الْإِنْزَالِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ لِمَلَائِكَةِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ اعتراضية إِذا الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أُنْزِلَ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتُنْذِرَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ كَمَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا
بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: ٥٧] وَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [النِّسَاء: ١٣٥]. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاهِدِ:
| اعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ | أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا |
| كَقَائِلَةٍ إِنَّ الْحِمَارَ فَنَحِّهِ | عَنِ الْقَتِّ أَهْلُ السِّمْسِمِ الْمُتَهَذِّبِ |
12
الِاعْتِرَاضُ حَصَلَ بِتَقْدِيمِ جُمْلَتِهَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مُبَادَرَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِإِفَادَتِهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَأَصْلُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ هُنَا: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَعَانِي الْفَاءِ فَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنَّ الْفَاءَ لَا تَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ لَا لِيَكُونَ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ، بَلْ لِيَنْشَرِحَ صَدْرُكَ بِهِ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ بِصِيغَةِ نَهْيِ الْحَرَجِ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي صدر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ النَّهْيُ نَهْيَ تَكْوِينٍ، بِمَعْنَى تَكْوِينِ النَّفْيِ، عَكْسَ أَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَكْوِينِ الْإِثْبَاتِ. مُثِّلَ تَكْوِينُ نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ صَدْرِهِ بِحَالَةِ نَهْيِ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ لِلْخِطَابِ، عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النَّهْيَ مُتَوَجِّهًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ نَهْيَهُ عَنِ الْمُبَالَاةِ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْغَمِّ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَجَعَلَ النَّهْيَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَرَجِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْلِيفِ، بِاقْتِلَاعِهِ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» أَيْ لَا تَحَضُرْ فَأَرَاكَ، وَقَوْلِهِمْ: «لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا» أَيْ لَا تَفْعَلْهُ فَأَعْرِفْكَ بِهِ، نَهْيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالتَّفْرِيعُ مُنَاسِبٌ لِمَعَانِي التَّنْكِيرِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْلِهِ:
كِتابٌ، أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا جَرَّهُ نُزُولُهُ إِلَيْكَ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ وَإِنْكَارِهِمْ نُزُولَهُ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِهِ وَجَلَالَتِهِ، وَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ سَبَبُ شَرْحِ صَدْرِكَ بِمَعَانِيهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَرَجٌ يَنْشَأُ وَيَسْرِي مِنْ جَرَّاءِ الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّكْذِيبُ بِهِ من جملَة شؤونه، وَهُوَ سَبَبُ الْحَرَجِ، صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ الْحَرَجُ مُسَبَّبًا عَنِ الْكِتَابِ بِوَاسِطَةٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ حَرَجٍ مِنْ إِنْكَارِهِ أَيْ إِنْكَارِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّهِ.
وَالْحَرَجُ حَقِيقَتُهُ الْمَكَانُ الضَّيِّقُ مِنَ الْغَابَاتِ الْكَثِيرَةِ الْأَشْجَارِ، بِحَيْثُ
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ لَا لِيَكُونَ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ، بَلْ لِيَنْشَرِحَ صَدْرُكَ بِهِ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ بِصِيغَةِ نَهْيِ الْحَرَجِ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي صدر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ النَّهْيُ نَهْيَ تَكْوِينٍ، بِمَعْنَى تَكْوِينِ النَّفْيِ، عَكْسَ أَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَكْوِينِ الْإِثْبَاتِ. مُثِّلَ تَكْوِينُ نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ صَدْرِهِ بِحَالَةِ نَهْيِ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ لِلْخِطَابِ، عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النَّهْيَ مُتَوَجِّهًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ نَهْيَهُ عَنِ الْمُبَالَاةِ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْغَمِّ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَجَعَلَ النَّهْيَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَرَجِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْلِيفِ، بِاقْتِلَاعِهِ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» أَيْ لَا تَحَضُرْ فَأَرَاكَ، وَقَوْلِهِمْ: «لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا» أَيْ لَا تَفْعَلْهُ فَأَعْرِفْكَ بِهِ، نَهْيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالتَّفْرِيعُ مُنَاسِبٌ لِمَعَانِي التَّنْكِيرِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْلِهِ:
كِتابٌ، أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا جَرَّهُ نُزُولُهُ إِلَيْكَ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ وَإِنْكَارِهِمْ نُزُولَهُ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِهِ وَجَلَالَتِهِ، وَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ سَبَبُ شَرْحِ صَدْرِكَ بِمَعَانِيهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَرَجٌ يَنْشَأُ وَيَسْرِي مِنْ جَرَّاءِ الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّكْذِيبُ بِهِ من جملَة شؤونه، وَهُوَ سَبَبُ الْحَرَجِ، صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ الْحَرَجُ مُسَبَّبًا عَنِ الْكِتَابِ بِوَاسِطَةٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ حَرَجٍ مِنْ إِنْكَارِهِ أَيْ إِنْكَارِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّهِ.
وَالْحَرَجُ حَقِيقَتُهُ الْمَكَانُ الضَّيِّقُ مِنَ الْغَابَاتِ الْكَثِيرَةِ الْأَشْجَارِ، بِحَيْثُ
13
يَعْسُرُ السُّلُوكُ فِيهِ، وَيُسْتَعَارُ لِحَالَةِ النَّفْسِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ وَالْأَسَفِ، لِأَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا لِلْغَاضِبِ وَالْآسِفِ ضِيقًا فِي صَدْرِهِ لَمَّا وَجَدُوهُ يَعْسُرُ مِنْهُ التَّنَفُّسُ مِنَ انْقِبَاضِ أَعْصَابِ مَجَارِي النَّفَسِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: ١٢].
ولِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقٌ بِ أُنْزِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَاقْتِرَانُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِمَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ لِاخْتِلَافِ فَاعِلِ الْعَامِلِ وَفَاعِلِ الْإِنْذَارِ. وَجُعِلَ الْإِنْذَارُ بِهِ مُقَدَّمًا فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْبَاطِلِ وَمَا يُخَلِّفُونَهُ فِي النَّاسِ مِنَ الْعَوَائِدِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُعَانَى إِزَالَتُهَا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ.
ذِكْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لِتُنْذِرَ بِهِ، بِاعْتِبَارِ انْسِبَاكِهِ بِمَصْدَرٍ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَطْفَ جُمْلَةٍ، وَيَكُونَ ذِكْرى مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وذكّر ذكرى للْمُؤْمِنين، فَيَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فَيَكُونَ اعْتِرَاضًا.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ لِتُنْذِرَ، وَصرح بمتعلّق ذِكْرى لظُهُور تَقْدِير الْمَحْذُوف من ذكر مُقَابِله الْمَذْكُور، والتّقدير: لتنذر بِهِ الْكَافِرِينَ، وَصَرَّحَ بِمُتَعَلِّقِ الذِّكْرَى دون متعلّق لِتُنْذِرَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِتَحْقِيرِ الْكَافِرِينَ تُجَاهَ ذكر الْمُؤمنِينَ.
[٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٣]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لِتُنْذِرَ بِهِ [الْأَعْرَاف: ٢] بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْأَوْلَى، فَبَعْدَ
ولِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقٌ بِ أُنْزِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَاقْتِرَانُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِمَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ لِاخْتِلَافِ فَاعِلِ الْعَامِلِ وَفَاعِلِ الْإِنْذَارِ. وَجُعِلَ الْإِنْذَارُ بِهِ مُقَدَّمًا فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْبَاطِلِ وَمَا يُخَلِّفُونَهُ فِي النَّاسِ مِنَ الْعَوَائِدِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُعَانَى إِزَالَتُهَا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ.
ذِكْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لِتُنْذِرَ بِهِ، بِاعْتِبَارِ انْسِبَاكِهِ بِمَصْدَرٍ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَطْفَ جُمْلَةٍ، وَيَكُونَ ذِكْرى مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وذكّر ذكرى للْمُؤْمِنين، فَيَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فَيَكُونَ اعْتِرَاضًا.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ لِتُنْذِرَ، وَصرح بمتعلّق ذِكْرى لظُهُور تَقْدِير الْمَحْذُوف من ذكر مُقَابِله الْمَذْكُور، والتّقدير: لتنذر بِهِ الْكَافِرِينَ، وَصَرَّحَ بِمُتَعَلِّقِ الذِّكْرَى دون متعلّق لِتُنْذِرَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِتَحْقِيرِ الْكَافِرِينَ تُجَاهَ ذكر الْمُؤمنِينَ.
[٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٣]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لِتُنْذِرَ بِهِ [الْأَعْرَاف: ٢] بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْأَوْلَى، فَبَعْدَ
14
أَنْ نَوَّهَ اللَّهُ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ إِنْزَالِهِ لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ، كُلٌّ يَتَّبِعُ مَا هُوَ بِهِ أَعْلَقُ، وَالْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الزَّجْرَ عَنِ الشِّرْكِ وَالِاحْتِجَاجَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالتَّكْلِيفَ، فَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَجْدَرُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، فَوَصْفُ (الرَّبِّ) هُنَا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ: لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ لِأَوَامِرِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً دُونَهُ، وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ النَّهْيُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
وَالِاتِّبَاعُ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيُ وَرَاءَ مَاشٍ، فَمَعْنَاهُ يَقْتَضِي ذاتين: تَابعا ومتوبعا، يُقَالُ: اتَّبَعَ وَتَبِعَ، وَيُسْتَعَارُ لِلْعَمَلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: ٩٢، ٩٣] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حَالَتَيْنِ، وَيُسْتَعَارُ لِلِاقْتِدَاءِ بِسِيرَةٍ أَوْ قَوْلٍ نَحْوَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: ١٦٨] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ تَنْبَنِي عَلَى تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ٢].
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُجَازِيهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَانِبِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَطْعًا لَمَعَاذِيرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا نَرَى أَوْلِيَاءَنَا إِلَّا شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ
وَالِاتِّبَاعُ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيُ وَرَاءَ مَاشٍ، فَمَعْنَاهُ يَقْتَضِي ذاتين: تَابعا ومتوبعا، يُقَالُ: اتَّبَعَ وَتَبِعَ، وَيُسْتَعَارُ لِلْعَمَلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: ٩٢، ٩٣] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حَالَتَيْنِ، وَيُسْتَعَارُ لِلِاقْتِدَاءِ بِسِيرَةٍ أَوْ قَوْلٍ نَحْوَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: ١٦٨] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ تَنْبَنِي عَلَى تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ٢].
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُجَازِيهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَانِبِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَطْعًا لَمَعَاذِيرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا نَرَى أَوْلِيَاءَنَا إِلَّا شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ
15
بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْجَامِعِ مِنَ الْحَدِّ، وَمَوْقِعُ وَلا تَتَّبِعُوا مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْمَانِعِ فِي الْحَدِّ.
وَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُوَالِي، أَيِ الْمُلَازِمُ وَالْمُعَاوِنُ، فَيُطْلَقُ عَلَى النَّاصِرِ، وَالْحَلِيفِ، وَالصَّاحِبِ الصَّادِقِ الْمَوَدَّةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَعْبُودِ وَلِلْإِلَهِ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَقْوَى أَحْوَالِ الْمُوَالَاةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشورى: ٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤]، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ:
لَا تَتَّبِعُوا مَا يَأْتِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ دُونَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ الضَّالَّةِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ إِلَى سَدَنَةِ الْآلِهَةِ وَكُهَّانِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَقالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا
كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦]، وَعَلَى تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ يَجْرِي التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ أَيْ لَا تَمْتَثِلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ أَمْرِهِمْ أَوْ لِدُعَاةِ الْأَوْلِيَاءِ وَسَدَنَتِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَبِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيْ وَلَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ غَيْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ يَتَّبِعُ زَلَّةَ فُلَانٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ»
أَيْ يَتَطَلَّبُهَا.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (دُونَ) ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ جُرَّ بِمِنِ الْجَارَّةِ لِلظُّرُوفِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ.
وَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُوَالِي، أَيِ الْمُلَازِمُ وَالْمُعَاوِنُ، فَيُطْلَقُ عَلَى النَّاصِرِ، وَالْحَلِيفِ، وَالصَّاحِبِ الصَّادِقِ الْمَوَدَّةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَعْبُودِ وَلِلْإِلَهِ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَقْوَى أَحْوَالِ الْمُوَالَاةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشورى: ٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤]، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ:
لَا تَتَّبِعُوا مَا يَأْتِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ دُونَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ الضَّالَّةِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ إِلَى سَدَنَةِ الْآلِهَةِ وَكُهَّانِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَقالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا
كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦]، وَعَلَى تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ يَجْرِي التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ أَيْ لَا تَمْتَثِلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ أَمْرِهِمْ أَوْ لِدُعَاةِ الْأَوْلِيَاءِ وَسَدَنَتِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَبِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيْ وَلَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ غَيْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ يَتَّبِعُ زَلَّةَ فُلَانٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ»
أَيْ يَتَطَلَّبُهَا.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (دُونَ) ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ جُرَّ بِمِنِ الْجَارَّةِ لِلظُّرُوفِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ.
16
وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعل تَتَّبِعُوا، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا أَوْلِيَاءَ مُتَّخِذِينَهَا دُونَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ بِزَعْمِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ: كَالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، وَالْحَلِفِ بِاسْمِهِ، فَهُمْ أَيْضًا اتَّبَعُوا الْأَصْنَامَ بِعِبَادَتِهَا أَوْ نِسْبَةِ الدِّينِ إِلَيْهَا، فَكُلُّ عَمَلٍ تَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَكُلُّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ امْتِثَالًا لِأَمْرٍ يُنْسَبُ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَهُمْ عِنْدَ عَمَلِهِ يَكُونُونَ مُتَّبِعِينَ اتِّبَاعًا فِيهِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللَّهِ وَتَرْكٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَبِهَذَا النَّهْيِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الشِّرْكِ وَتَأْوِيلَاتُهُ كَقَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] فَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَاسْتِيعَابِ الْمَقْصُودِ.
وَأَفَادَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَفَادُ صِيغَةِ قَصْرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ رَبُّكُمْ، أَيْ دُونَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ أَوْلِيَاؤُكُمْ، فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُسْتَقِلَّةً صَرِيحَةَ الدَّلَالَةِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا عَلَى نَحْو قَول السّموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ:
وَجُمْلَةُ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ لَا تَتَّبِعُوا، وَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ وكاشفة لِصَاحِبِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسُوا إِلَّا قَلِيلِي التَّذَكُّرِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضًا تَذْيِيلِيًّا. وَلَفْظُ (قَلِيلًا) يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَذَكَّرُونَ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ فَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قَلِيلًا) مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّلْمِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨] (فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوصَفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ).
وَالتَّذَكُّرُ مَصْدَرُ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ حُضُورُ الصُّورَةِ فِي الذِّهْنِ.
وَأَفَادَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَفَادُ صِيغَةِ قَصْرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ رَبُّكُمْ، أَيْ دُونَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ أَوْلِيَاؤُكُمْ، فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُسْتَقِلَّةً صَرِيحَةَ الدَّلَالَةِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا عَلَى نَحْو قَول السّموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ:
| تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا | وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ |
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨] (فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوصَفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ).
وَالتَّذَكُّرُ مَصْدَرُ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ حُضُورُ الصُّورَةِ فِي الذِّهْنِ.
17
وَقَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَدَمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِالْمُضَيِّعِ لِلْأَمْرِ النَّافِعِ يُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَلِيلُ الْإِتْيَانِ بِالْأَمْرِ النَّافِعِ، تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَفْرِيطٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ التَّقْلِيلِ دُونَ التَّضْيِيعِ لَهُ كُلِّهِ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا تَذَكُّرُكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ تَذَكَّرُونَ وَ (مَا) مَزِيدَةً لِتَوْكِيدِ الْقِلَّةِ، أَيْ نَوْعِ قِلَّةٍ ضَعِيفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: ٢٦]. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٨]. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَذَكَّرْتُمْ لَمَا اتَّبَعْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَلَمَا احْتَجْتُمْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى إِضَاعَتِهِمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَفِي نَقَائِصِ أَوْلِيَائِهِمُ الْمَزْعُومِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تَذَكَّرُونَ- بِفَوْقِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَذَكَّرُونَ بتاءين فوقيتين فقلبت ثَانِيَتُهُمَا ذَالًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى تَخْفِيفُهُ بِالْإِدْغَامِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: يَتَذَكَّرُونَ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ-، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَوَجَّهَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ السَّامِعِينَ: إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمين.
[٤، ٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا تَذَكُّرُكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ تَذَكَّرُونَ وَ (مَا) مَزِيدَةً لِتَوْكِيدِ الْقِلَّةِ، أَيْ نَوْعِ قِلَّةٍ ضَعِيفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: ٢٦]. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٨]. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَذَكَّرْتُمْ لَمَا اتَّبَعْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَلَمَا احْتَجْتُمْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى إِضَاعَتِهِمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَفِي نَقَائِصِ أَوْلِيَائِهِمُ الْمَزْعُومِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تَذَكَّرُونَ- بِفَوْقِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ- عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَذَكَّرُونَ بتاءين فوقيتين فقلبت ثَانِيَتُهُمَا ذَالًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى تَخْفِيفُهُ بِالْإِدْغَامِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: يَتَذَكَّرُونَ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ-، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَوَجَّهَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ السَّامِعِينَ: إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمين.
[٤، ٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ
18
(٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا [الْأَعْرَاف: ٣] وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَالَّذِينَ قَصَدُوا مِنَ الْعُمُومِ. وَقَدْ ثُلِّثَ هُنَا بِتَمْحِيضِ التَّوْجِيهِ إِلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ إِهْلَاكُ الْقُرَى، دُونَ ذِكْرِ الْأُمَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: ٥، ٦]، لِأَنَّ الْمُوَاجِهِينَ بِالتَّعْرِيضِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدُ أَهْلِهَا بِمَا أَصَابَ الْقُرَى وَأَهْلَهَا وَلِأَنَّ تَعْلِيق فعل أَهْلَكْناها بِالْقَرْيَةِ دُونَ أَهْلِهَا لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ أَدَوَاتِ
الشُّمُولِ، فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ وَالْمَوْعِظَةَ إِنَّمَا هِيَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: ٨٢] وَنَظِيرُهُمَا مَعًا قَوْلُهُ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦]، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى.
وَأُجْرِيَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّأْنِيثِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ قَرْيَةٍ، لِيَحْصُلَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَعَادِ وَلَفْظِ ضَمِيرِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلِ الْقُرْبِ، ثُمَّ أُجْرِيَتْ ضَمَائِرُ الْقَرْيَةِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَنِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ إِلَخْ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَلَفْظِ مَعَادِهِ بِجُمْلَةٍ فِيهَا ضَمِيرُ مَعَادِهِ غَيْرَ لَفْظِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ بَأْسُنا بَياتاً لِأَنَّ (بَيَاتًا) مُتَحَمِّلٌ لِضَمِيرِ الْبَأْسِ، أَيْ مُبَيِّتًا لَهُمْ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَرْيَةِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا فَقَالَ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ. وَ (كَمْ) اسْمُ حَالٍ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ وَهُوَ هُنَا خَبَرٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ وَالِاسْتِئْصَالُ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ بِحُصُولِ مَدْلُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا [الْأَعْرَاف: ٣] وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَالَّذِينَ قَصَدُوا مِنَ الْعُمُومِ. وَقَدْ ثُلِّثَ هُنَا بِتَمْحِيضِ التَّوْجِيهِ إِلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ إِهْلَاكُ الْقُرَى، دُونَ ذِكْرِ الْأُمَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: ٥، ٦]، لِأَنَّ الْمُوَاجِهِينَ بِالتَّعْرِيضِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدُ أَهْلِهَا بِمَا أَصَابَ الْقُرَى وَأَهْلَهَا وَلِأَنَّ تَعْلِيق فعل أَهْلَكْناها بِالْقَرْيَةِ دُونَ أَهْلِهَا لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ أَدَوَاتِ
الشُّمُولِ، فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ وَالْمَوْعِظَةَ إِنَّمَا هِيَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: ٨٢] وَنَظِيرُهُمَا مَعًا قَوْلُهُ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦]، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى.
وَأُجْرِيَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّأْنِيثِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ قَرْيَةٍ، لِيَحْصُلَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَعَادِ وَلَفْظِ ضَمِيرِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلِ الْقُرْبِ، ثُمَّ أُجْرِيَتْ ضَمَائِرُ الْقَرْيَةِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَنِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ إِلَخْ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَلَفْظِ مَعَادِهِ بِجُمْلَةٍ فِيهَا ضَمِيرُ مَعَادِهِ غَيْرَ لَفْظِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ بَأْسُنا بَياتاً لِأَنَّ (بَيَاتًا) مُتَحَمِّلٌ لِضَمِيرِ الْبَأْسِ، أَيْ مُبَيِّتًا لَهُمْ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَرْيَةِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا فَقَالَ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ. وَ (كَمْ) اسْمُ حَالٍ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ وَهُوَ هُنَا خَبَرٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ وَالِاسْتِئْصَالُ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ بِحُصُولِ مَدْلُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ.
19
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ: فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى جُمْلَةِ:
أَهْلَكْناها، وَأَصْلُ الْعَاطِفَةِ أَنْ تُفِيدَ تَرْتِيبَ حُصُولِ مَعْطُوفِهَا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ حَاصِلًا مَعَ حُصُولِ الْإِهْلَاكِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذْ هُوَ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ، عُسِرَ عَلَى جمع من المسفّرين مَعْنَى مَوْقِعِ الْفَاءِ هُنَا، حَتَّى قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ الْفَاءَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ مِثْلَ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ: جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَهُوَ قَلْبٌ خَلِيٌّ عَنِ النُّكْتَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ فِعْلَ (أَهْلَكْنَاهَا) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨] وَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ أَيْ فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِ مَعْنَاهُ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْل: ٩٨] اسْتَعْمَلَ قَرَأْتَ مَكَانَ أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ مُسَبَّبَةً عَنْ إِرَادَتِهَا اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا بِقَرِينَةِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها
فِي مَوْضِعِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا بِقَرِينَةٍ فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ الْإِهْلَاكُ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِإِفَادَةِ عَزْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، عَزْمًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْعَمَلُ، بِحَيْثُ يُسْتَعَارُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، لِلْإِرَادَةِ لِتَشَابُهِهِمَا، وَإِمَّا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ التَّرَيُّثِ، فَدَلَّ الْكَلَامُ كُلُّهُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ فَيَخْلُقُ أَسْبَابَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ فَيَحْصُلُ الْفِعْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِنَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا التّقارن بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْإِرَادَةِ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ حُصُولِ السَّبَبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُ السَّامِعِينَ الْمُعَانِدِينَ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ غَضَبُ
أَهْلَكْناها، وَأَصْلُ الْعَاطِفَةِ أَنْ تُفِيدَ تَرْتِيبَ حُصُولِ مَعْطُوفِهَا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ حَاصِلًا مَعَ حُصُولِ الْإِهْلَاكِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذْ هُوَ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ، عُسِرَ عَلَى جمع من المسفّرين مَعْنَى مَوْقِعِ الْفَاءِ هُنَا، حَتَّى قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ الْفَاءَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ مِثْلَ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ: جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَهُوَ قَلْبٌ خَلِيٌّ عَنِ النُّكْتَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ فِعْلَ (أَهْلَكْنَاهَا) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨] وَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ أَيْ فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِ مَعْنَاهُ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْل: ٩٨] اسْتَعْمَلَ قَرَأْتَ مَكَانَ أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ مُسَبَّبَةً عَنْ إِرَادَتِهَا اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا بِقَرِينَةِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها
فِي مَوْضِعِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا بِقَرِينَةٍ فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ الْإِهْلَاكُ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِإِفَادَةِ عَزْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، عَزْمًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْعَمَلُ، بِحَيْثُ يُسْتَعَارُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، لِلْإِرَادَةِ لِتَشَابُهِهِمَا، وَإِمَّا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ التَّرَيُّثِ، فَدَلَّ الْكَلَامُ كُلُّهُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ فَيَخْلُقُ أَسْبَابَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ فَيَحْصُلُ الْفِعْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِنَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا التّقارن بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْإِرَادَةِ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ حُصُولِ السَّبَبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُ السَّامِعِينَ الْمُعَانِدِينَ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ غَضَبُ
20
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيُرِيدُ إِهْلَاكَهُمْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ المهلّة لِئَلَّا يتباطأوا فِي تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ وَالتَّعْجِيلِ بِالتَّوْبَةِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي فَاءِ الْعَطْفِ قَدْ يَكُونُ التَّرْتِيبَ الذِّكْرِيَّ، أَيْ تَرْتِيبَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَفِي الْآيَةِ أَخْبَرَ عَنْ كَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ الْخَبَرِ بِالْإِهْلَاكِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ فِي الْغَالِبِ تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ»، وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً [الْوَاقِعَة: ٣٥، ٣٧] الْآيَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٧٢]- أَوْ قَوْلُهُ- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٣٦] لِأَنَّ الْإِزْلَالَ عَنِ الْجَنَّةِ فُصِّلَ بِأَنَّهُ الْإِخْرَاجُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: ٥٤] وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْإِطْنَابِ وَقَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ.
وَالْبَأْسُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ على شدّة الْحساب وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ الْبَأْسَاءَ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَاسْتُعِيرَ الْمَجِيءُ لِحُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُلُولِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِتَنَقُّلِ خُطُوَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٣].
وَالْبَيَاتُ مَصْدَرُ بَاتَ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَأْسِ، أَيْ جَاءَهُمُ الْبَأْسُ مُبَيِّتًا لَهُمْ، أَيْ جَاءَهُمْ لَيْلًا، وَيُطْلَقُ الْبَيَاتُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْغَارَةِ تَقَعُ لَيْلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَأْسِ الِاسْتِعَارَةَ لشدّة الْحَرْب كَمَا الْمُرَادُ مِنَ الْبَيَاتِ حَالَةً مِنْ حَالِ الْحَرْبِ، هِيَ أَشَدُّ عَلَى الْمَغْزُوِّ، فَكَانَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَياتاً مَنْصُوبًا عَلَى
النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ أَيْ فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ.
وَالْبَأْسُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ على شدّة الْحساب وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ الْبَأْسَاءَ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَاسْتُعِيرَ الْمَجِيءُ لِحُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُلُولِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِتَنَقُّلِ خُطُوَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٣].
وَالْبَيَاتُ مَصْدَرُ بَاتَ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَأْسِ، أَيْ جَاءَهُمُ الْبَأْسُ مُبَيِّتًا لَهُمْ، أَيْ جَاءَهُمْ لَيْلًا، وَيُطْلَقُ الْبَيَاتُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْغَارَةِ تَقَعُ لَيْلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَأْسِ الِاسْتِعَارَةَ لشدّة الْحَرْب كَمَا الْمُرَادُ مِنَ الْبَيَاتِ حَالَةً مِنْ حَالِ الْحَرْبِ، هِيَ أَشَدُّ عَلَى الْمَغْزُوِّ، فَكَانَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَياتاً مَنْصُوبًا عَلَى
النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ أَيْ فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ.
21
وَجُمْلَةُ هُمْ قائِلُونَ حَالٌ أَيْضًا لِعَطْفِهَا عَلَى بَياتاً بَأَوْ، وَقَدْ كَفَى هَذَا الْحَرْفُ الْعَاطِفُ عَنْ رَبْطِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِوَاوِ الْحَالِ، وَلَوْلَا الْعَطْفُ لَكَانَ تَجَرُّدُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْوَاوِ غَيْرَ حَسَنٍ، كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ مُتَابِعٌ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، إِذَا كَانَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْحَلَّةً إِلَى مُفْرَدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَصْفُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَهَذِهِ تَجَرُّدُهَا عَنِ الْوَاوِ قَبِيحٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ القاهر وحقّقه التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ»، لِأَنَّ فَصِيحَ الْكَلَامِ أَنْ يُجَاءَ بِالْحَالِ مُفْرَدَةً إِذْ لَا دَاعِيَ لِلْجُمْلَةِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، إِذْ يُغْنِي أَنْ تَقُولَ: فَارِسًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى وَصْفِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَفِيهَا ضَمِيرُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَخُلُوُّهَا عَنِ الْوَاوِ حَسَنٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
[طه: ١٢٣] فَإِنَّ هَذِهِ حَالَةٌ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: ١٢٣] وَقَوْلِهِمْ، فِي الْمِثَالِ: جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَجَابَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَمَا سَاقَهُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمِفْتَاحِ» وَعِبَارَةِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَتَأَمَّلْهُ. وَعُلِّلَ حَذْفُ وَاوِ الْحَالِ بِدَفْعِ اسْتِثْقَالِ تَوَالِي حَرْفَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ.
وَ (أَوْ) لِتَقْسِيمِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ: إِلَى مُهْلَكَةٍ فِي اللَّيْلِ، وَمُهْلَكَةٍ فِي النَّهَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ تَهْدِيدُ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يَحُلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ، بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُونَ فِي وَقْتٍ مَا.
وَمَعْنَى: قائِلُونَ كَائِنُونَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَهِيَ اسْم للْوَقْت الْمُبْتَدِئ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ الْمُنْتَهِي بِالْعَصْرِ، وَفِعْلُهُ: قَالَ يَقِيلُ فَهُوَ قَائِلٌ، وَالْمَقِيلُ الرَّاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُطْلَقُ الْمَقِيلُ عَلَى الْقَائِلَةِ أَيْضًا.
وَخُصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ مِنْ بَيْنِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ
وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، إِذَا كَانَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْحَلَّةً إِلَى مُفْرَدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَصْفُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَهَذِهِ تَجَرُّدُهَا عَنِ الْوَاوِ قَبِيحٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ القاهر وحقّقه التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ»، لِأَنَّ فَصِيحَ الْكَلَامِ أَنْ يُجَاءَ بِالْحَالِ مُفْرَدَةً إِذْ لَا دَاعِيَ لِلْجُمْلَةِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، إِذْ يُغْنِي أَنْ تَقُولَ: فَارِسًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى وَصْفِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَفِيهَا ضَمِيرُ صَاحِبِ الْحَالِ، فَخُلُوُّهَا عَنِ الْوَاوِ حَسَنٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
[طه: ١٢٣] فَإِنَّ هَذِهِ حَالَةٌ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: ١٢٣] وَقَوْلِهِمْ، فِي الْمِثَالِ: جَاءَنِي زَيْدٌ هُوَ فَارِسٌ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَجَابَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَمَا سَاقَهُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمِفْتَاحِ» وَعِبَارَةِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَتَأَمَّلْهُ. وَعُلِّلَ حَذْفُ وَاوِ الْحَالِ بِدَفْعِ اسْتِثْقَالِ تَوَالِي حَرْفَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ.
وَ (أَوْ) لِتَقْسِيمِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ: إِلَى مُهْلَكَةٍ فِي اللَّيْلِ، وَمُهْلَكَةٍ فِي النَّهَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ تَهْدِيدُ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يَحُلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ، بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُونَ فِي وَقْتٍ مَا.
وَمَعْنَى: قائِلُونَ كَائِنُونَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَهِيَ اسْم للْوَقْت الْمُبْتَدِئ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ الْمُنْتَهِي بِالْعَصْرِ، وَفِعْلُهُ: قَالَ يَقِيلُ فَهُوَ قَائِلٌ، وَالْمَقِيلُ الرَّاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُطْلَقُ الْمَقِيلُ عَلَى الْقَائِلَةِ أَيْضًا.
وَخُصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ مِنْ بَيْنِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ
22
يَطْلُبُ فِيهِمَا النَّاسُ الرَّاحَةَ وَالدَّعَةَ، فَوُقُوعُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْعَذَابِ فِيهِمَا يُنَغِّصُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ تَخَيُّلَ نَعِيمِ الْوَقْتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مُشْرِكِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى شِرْكِهِمْ، فَكُونُوا يَا مَعْشَرَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ أَنْ نُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّكُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُ: فَما كانَ دَعْواهُمْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ تَبَعًا لِلِفَاءٍ فِي
قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا لِأَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذْكُورِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى مَجِيءِ الْبَأْسِ.
وَالدَّعْوَى اسْمٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [يُونُس: ١٠] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ هُنَا لِرَفْعِ الْعَذَابِ أَيِ الِاسْتِغَاثَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْبَأْسِ وَظُهُورِ أَسْبَابِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ النَّاسِ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغِيثُوا اللَّهَ وَلَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الِاسْتِغَاثَةِ فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَيِ: انْقَطَعَتْ كُلُّ الدَّعَاوَى الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَهَا مِنْ تَحْقِيقِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ دِينَهُمْ حَقٌّ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ دَعْوَى، بَلِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ لَيْسَ بِدَعْوَى.
وَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُقَدِّمَةُ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ يَتَقَدَّمُهَا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، فَهُمُ اعْتَرَفُوا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الِاعْتِرَافِ إِلَى طَلَبِ الْعَفْوِ، فَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَكَانَ اعْتِرَافُهُمْ- آخِرُ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا- مُقَدِّمَةً لِشَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي
وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مُشْرِكِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى شِرْكِهِمْ، فَكُونُوا يَا مَعْشَرَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ أَنْ نُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّكُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُ: فَما كانَ دَعْواهُمْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ تَبَعًا لِلِفَاءٍ فِي
قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا لِأَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذْكُورِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى مَجِيءِ الْبَأْسِ.
وَالدَّعْوَى اسْمٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [يُونُس: ١٠] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ هُنَا لِرَفْعِ الْعَذَابِ أَيِ الِاسْتِغَاثَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْبَأْسِ وَظُهُورِ أَسْبَابِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ النَّاسِ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغِيثُوا اللَّهَ وَلَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الِاسْتِغَاثَةِ فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَيِ: انْقَطَعَتْ كُلُّ الدَّعَاوَى الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَهَا مِنْ تَحْقِيقِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ دِينَهُمْ حَقٌّ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ دَعْوَى، بَلِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ لَيْسَ بِدَعْوَى.
وَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُقَدِّمَةُ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ يَتَقَدَّمُهَا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، فَهُمُ اعْتَرَفُوا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الِاعْتِرَافِ إِلَى طَلَبِ الْعَفْوِ، فَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَكَانَ اعْتِرَافُهُمْ- آخِرُ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا- مُقَدِّمَةً لِشَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي
23
الْحَشْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لِيَحْرِمَهُمْ مُوجِبَاتِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ جَرَيَانَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَانَ نَتِيجَةَ تَفَكُّرِهِمْ فِي ظُلْمِهِمْ فِي مُدَّةِ سَلَامَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِنَادَ وَالْكِبْرِيَاءَ يَصُدَّانِهِمْ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ مَنْ تُصِيبُهُ شِدَّةٌ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامٌ، فَمَنِ اعْتَادَ قَوْلَ الْخَيْرِ نَطَقَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ ضِدَّهُ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ التَّسَخُّطِ وَمُنْكَرُ الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ مَا كَثُرَ جَوَلَانُهُ فِي أَفْكَارِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: كُنَّا ظالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُهُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: ٣] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَإِلْهَامِهِمْ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالظَّالِمِينَ، أَوْ بِوِجْدَانِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِقْرَارًا مَحْضًا أَقَرُّوا بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِقْرَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَكَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ وَمُكَابِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ نَدِمُوا
وَأَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ، إِقْرَارًا مَشُوبًا بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ وَمَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَجَازًا صَرِيحًا.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ لِغَيْرِ مُخَاطَبٍ مُعَيِّنٍ، كَشَأْنِ الْكَلَامِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، مِثْلَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بَيْنَهُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ،
وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ جَرَيَانَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَانَ نَتِيجَةَ تَفَكُّرِهِمْ فِي ظُلْمِهِمْ فِي مُدَّةِ سَلَامَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِنَادَ وَالْكِبْرِيَاءَ يَصُدَّانِهِمْ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ مَنْ تُصِيبُهُ شِدَّةٌ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامٌ، فَمَنِ اعْتَادَ قَوْلَ الْخَيْرِ نَطَقَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ ضِدَّهُ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ التَّسَخُّطِ وَمُنْكَرُ الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ مَا كَثُرَ جَوَلَانُهُ فِي أَفْكَارِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: كُنَّا ظالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُهُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: ٣] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَإِلْهَامِهِمْ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالظَّالِمِينَ، أَوْ بِوِجْدَانِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِقْرَارًا مَحْضًا أَقَرُّوا بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِقْرَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَكَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ وَمُكَابِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ نَدِمُوا
وَأَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ، إِقْرَارًا مَشُوبًا بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ وَمَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَجَازًا صَرِيحًا.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ لِغَيْرِ مُخَاطَبٍ مُعَيِّنٍ، كَشَأْنِ الْكَلَامِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، مِثْلَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بَيْنَهُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ،
24
وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنْشَاءِ النَّدَامَةِ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الصَّرِيحِ، وَالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ آنِفًا.
وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِتَحْقِيقِ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، جَارِيًا مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِنُزُولِ الْبَأْسِ بِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِهِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَى الشِّرْكِ حِينَئِذٍ الِاسْمَ الْمُشْعِرَ بِمَذَمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ قَبْلُ.
وَاسْمُ كَانَ هُوَ: أَنْ قالُوا الْمُفَرِّغُ لَهُ عَمَلُ كَانَ، ودَعْواهُمْ خَبَرُ (كَانَ) مُقَدَّمٌ، لِقَرِينَةِ عَدَمِ اتِّصَالِ كَانَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ: (دَعْوَى) هُوَ اسْمُهَا لَكَانَ اتِّصَالُهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَحْسَنَ، وَلِلْجَرْيِ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِيهِ الْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ مَحْصُورًا بَعْدَ كَانَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [آل عمرَان: ١٤٧] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مُلْتَزَمٌ، غَرِيبٌ، مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ فِيهِ جُزْءُ الْإِسْنَادِ ذَاتَيْنِ أُرِيدَ حَصْرُ تَحَقُّقِ أَحَدِهِمَا فِي تَحَقُّقِ الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّحَدَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَاسْتَوَيَا فِي التَّعْرِيفِ كَانَ الْمَحْصُورُ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ التَّقَدُّمِ الرُّتْبِيِّ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَحْصُورَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي آخِرِ الْجُزْأَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى لُزُومِ تَأْخِيرِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْصُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ مَحْصُورًا دُونَ الْآخَرِ فِي مِثْلِ هَذَا، ممّا الجزءان فِيهِ مُتَّحِدَا الْمَاصَدَقَ، إِنَّمَا هُوَ مَنُوطٌ بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ أَحَدَهُمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرَ الْفَرْعُ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ اعْتُبِرَ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ مِنَ السَّامِعِ لِلْقِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَاعْتُبِرَ الدُّعَاءُ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ ثَانِيًا، كَأَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ: مَاذَا قَالُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْبَأْسُ، فَقِيلَ لَهُ: كَانَ قَوْلُهُمْ:
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دُعَاءَهُمْ، فَأُفِيدَ الْقَوْلُ وَزِيدَ بِأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الدُّعَاءِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ تَنْفَعُكَ
وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ لِتَحْقِيقِ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، جَارِيًا مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِنُزُولِ الْبَأْسِ بِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِهِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَى الشِّرْكِ حِينَئِذٍ الِاسْمَ الْمُشْعِرَ بِمَذَمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ قَبْلُ.
وَاسْمُ كَانَ هُوَ: أَنْ قالُوا الْمُفَرِّغُ لَهُ عَمَلُ كَانَ، ودَعْواهُمْ خَبَرُ (كَانَ) مُقَدَّمٌ، لِقَرِينَةِ عَدَمِ اتِّصَالِ كَانَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ: (دَعْوَى) هُوَ اسْمُهَا لَكَانَ اتِّصَالُهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَحْسَنَ، وَلِلْجَرْيِ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِيهِ الْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ مَحْصُورًا بَعْدَ كَانَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [آل عمرَان: ١٤٧] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مُلْتَزَمٌ، غَرِيبٌ، مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ فِيهِ جُزْءُ الْإِسْنَادِ ذَاتَيْنِ أُرِيدَ حَصْرُ تَحَقُّقِ أَحَدِهِمَا فِي تَحَقُّقِ الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّحَدَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَاسْتَوَيَا فِي التَّعْرِيفِ كَانَ الْمَحْصُورُ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ التَّقَدُّمِ الرُّتْبِيِّ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَحْصُورَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي آخِرِ الْجُزْأَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى لُزُومِ تَأْخِيرِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْصُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ مَحْصُورًا دُونَ الْآخَرِ فِي مِثْلِ هَذَا، ممّا الجزءان فِيهِ مُتَّحِدَا الْمَاصَدَقَ، إِنَّمَا هُوَ مَنُوطٌ بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ أَحَدَهُمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرَ الْفَرْعُ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ اعْتُبِرَ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ مِنَ السَّامِعِ لِلْقِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَاعْتُبِرَ الدُّعَاءُ هُوَ الْمُتَرَقَّبُ ثَانِيًا، كَأَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ: مَاذَا قَالُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْبَأْسُ، فَقِيلَ لَهُ: كَانَ قَوْلُهُمْ:
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دُعَاءَهُمْ، فَأُفِيدَ الْقَوْلُ وَزِيدَ بِأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الدُّعَاءِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ تَنْفَعُكَ
25
فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مثل قَوْله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢]، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِاطِّرَادِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَعَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ مِنْ (أَنْ)
وَالْفِعْلِ عِلَّةً لَفْظِيَّةً: وَهِيَ كَوْنُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ يُشْبِهُ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ لَا يُوصَفُ، فَكَانَ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الِاسْمُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَعْرَفَ مِنَ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسْندًا إِلَيْهِ.
[٦، ٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
الْفَاءُ فِي قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ عَاطِفَةٌ، لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّ وُجُودَ لَامِ الْقَسَمِ عَلَّامَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ أُنُفٌ انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَمِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ حَالَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ.
وَسُؤَالُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ سُؤَالٌ عَنْ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. وَهُوَ سُؤَالُ تَقْرِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَحْشَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥].
وَسُؤَالُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ سُؤَالُ إِرْهَابٍ لِأُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا شَهَادَةَ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمْ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مَسُوقُونَ إِلَى الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاء: ٤١]- وَقَوْلِهِ- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [الْمَائِدَة:
١٠٩].
والَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، هُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِرْسَالِ هِيَ إِجَابَةُ الرُّسُلِ، فَلَا
وَالْفِعْلِ عِلَّةً لَفْظِيَّةً: وَهِيَ كَوْنُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ يُشْبِهُ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ لَا يُوصَفُ، فَكَانَ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الِاسْمُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَعْرَفَ مِنَ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسْندًا إِلَيْهِ.
[٦، ٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
الْفَاءُ فِي قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ عَاطِفَةٌ، لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّ وُجُودَ لَامِ الْقَسَمِ عَلَّامَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ أُنُفٌ انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَمِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ حَالَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ.
وَسُؤَالُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ سُؤَالٌ عَنْ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. وَهُوَ سُؤَالُ تَقْرِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَحْشَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥].
وَسُؤَالُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ سُؤَالُ إِرْهَابٍ لِأُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا شَهَادَةَ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمْ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مَسُوقُونَ إِلَى الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاء: ٤١]- وَقَوْلِهِ- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [الْمَائِدَة:
١٠٩].
والَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، هُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِرْسَالِ هِيَ إِجَابَةُ الرُّسُلِ، فَلَا
26
جَرَمَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنَ السُّؤَالِ هُوَ الْأُمَمِ، لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، قُدِّمَ ذِكْرُهُمْ عَلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَلِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِلَةُ (الَّذِي) وَصِلَةُ (الْ) مِنْ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ سُؤَالُ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ وُقُوعِ التَّبْلِيغِ.
وَلَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ: بِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّعْبِيرُ: بِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جَوَابِ الْمَسْئُولِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ إِثْبَاتُ التَّبْلِيغِ وَالْبَلَاغِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّرْتِيبِ على قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ، أَيْ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ثُمَّ نُخْبِرُهُمْ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ جَوَابُهُمْ، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ فَعِلْمُنَا غَنِيٌّ عَنْ جَوَابِهِمْ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ لِغَرَضٍ آخَرَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى إِرَادَةِ التَّفْصِيلِ تَنْكِيرُ عِلْمٍ فِي قَوْلِهِ: بِعِلْمٍ أَيْ عِلْمٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ تَنْوِينَ (عِلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَكَمَالُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ، وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ:
وَما كُنَّا غائِبِينَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْزُبُ عَنْ علمنَا شَيْء يغيب عَنَّا وَنَغِيبُ عَنْهُ.
وَالْقَصُّ: الْإِخْبَارُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَخْبَرَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُصُّ الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧].
وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا غائِبِينَ مَعْطُوف عَلَى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ.
وَالْغَائِبُ ضِدُّ الْحَاضِرِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الْجَهَالَةَ عُرْفًا، أَيِ الْجَهَالَةَ بِأَحْوَالِ الْمَغِيبِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا وَلَوْ بَلَغَتْهُ
وَلَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ: بِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّعْبِيرُ: بِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جَوَابِ الْمَسْئُولِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ إِثْبَاتُ التَّبْلِيغِ وَالْبَلَاغِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّرْتِيبِ على قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ، أَيْ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ثُمَّ نُخْبِرُهُمْ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ جَوَابُهُمْ، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ فَعِلْمُنَا غَنِيٌّ عَنْ جَوَابِهِمْ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ لِغَرَضٍ آخَرَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى إِرَادَةِ التَّفْصِيلِ تَنْكِيرُ عِلْمٍ فِي قَوْلِهِ: بِعِلْمٍ أَيْ عِلْمٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ تَنْوِينَ (عِلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَكَمَالُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ، وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ:
وَما كُنَّا غائِبِينَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْزُبُ عَنْ علمنَا شَيْء يغيب عَنَّا وَنَغِيبُ عَنْهُ.
وَالْقَصُّ: الْإِخْبَارُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَخْبَرَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُصُّ الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧].
وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا غائِبِينَ مَعْطُوف عَلَى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ.
وَالْغَائِبُ ضِدُّ الْحَاضِرِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الْجَهَالَةَ عُرْفًا، أَيِ الْجَهَالَةَ بِأَحْوَالِ الْمَغِيبِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا وَلَوْ بَلَغَتْهُ
27
بِالْأَخْبَارِ لَا تَكُونُ تَامَّةً عِنْدَهُ مِثْلَ الْمُشَاهِدِ، أَيْ: وَمَا كُنَّا جَاهِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّنَا مُطَّلِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّفْيُ لِلْغَيْبَةِ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْمَعِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤].
وَإِثْبَاتُ سُؤَالِ الْأُمَمِ هُنَا لَا يُنَافِي نَفْيَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَص: ٧٨]- وَقَوْلِهِ- فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَن: ٣٩] لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُنَا هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا غائِبِينَ.
[٨، ٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
عطف جُمْلَةُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ عَلَى جملَة فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧]، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَنَاتِ النَّاسِ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ مَظْهَرَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَأَثَرَهُ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَدَرَكَاتِهِمْ تَفَاوُتًا لَا يُظْلَمُ الْعَامِلُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَفُوتُ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ بِرَفْعِ دَرَجَةٍ أَوْ مَغْفِرَةِ زَلَّةٍ لِأَجْلِ سَلَامَةِ قَلْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جملَة: فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧] بِجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَلَنُجَازِيَنَّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً لَا غَبْنَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ.
وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَيْهِ:
وَإِثْبَاتُ سُؤَالِ الْأُمَمِ هُنَا لَا يُنَافِي نَفْيَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَص: ٧٨]- وَقَوْلِهِ- فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَن: ٣٩] لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُنَا هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا غائِبِينَ.
[٨، ٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
عطف جُمْلَةُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ عَلَى جملَة فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧]، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَنَاتِ النَّاسِ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ مَظْهَرَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَأَثَرَهُ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَدَرَكَاتِهِمْ تَفَاوُتًا لَا يُظْلَمُ الْعَامِلُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَفُوتُ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ بِرَفْعِ دَرَجَةٍ أَوْ مَغْفِرَةِ زَلَّةٍ لِأَجْلِ سَلَامَةِ قَلْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جملَة: فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧] بِجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَلَنُجَازِيَنَّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً لَا غَبْنَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ.
وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَيْهِ:
28
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ
[الْأَعْرَاف: ٦] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذٍ نَسْأَلُهُمْ وَنَسْأَلُ رُسُلَهُمْ وَنَقُصُّ ذُنُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَزْنُ حَقِيقَتُهُ مُعَادَلَةُ جِسْمٍ بِآخَرَ لِمَعْرِفَةِ ثِقَلِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا فِي تَعَادُلِهِمَا أَوْ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ تَسَاوِي الْجِسْمَيْنِ الْمَوْزُونَيْنِ نَادِرَ الْحُصُولِ تَعَيَّنَ جُعِلَتْ أَجْسَامٌ أُخْرَى يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ التَّفَاوُتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ آلَةٍ تُوضَعُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، وَتُسَمَّى الْمِيزَانُ وَلَهَا أَشْكَالٌ مُخْتَلِفَةٌ شَكْلًا وَاتِّسَاعًا.
وَالْأَجْسَامُ الَّتِي تُجْعَلُ لِتَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ تُسَمَّى مَوَازِينُ، وَاحِدُهَا مِيزَانُ أَيْضًا وَتُسَمَّى أَوْزَانًا وَاحِدُهَا وَزْنٌ، وَيُطْلَقُ الْوَزْنُ عَلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ حَالٍ فِي فَضْلٍ وَنَحْوِهِ قَالَ تَعَالَى:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: ١٠٥] وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي «الصَّحِيحَيْنِ» :
«إِنَّهُ لَيُؤْتَى بِالْعَظِيمِ السَّمِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ». وَيُسْتَعَارُ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِلتَّدْبِيرِ فِي أَحْوَالٍ، كَقَوْلِ الرَّاعِي:
فَالْوَزْنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ تَعْيِينُ مَقَادِيرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَعْمَالُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَعْيِينًا لَا إِجْحَافَ فِيهِ، كَتَعْيِينِ الْمِيزَانِ عَلَى حَسَبِ مَا عَيَّنَ اللَّهُ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَكَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلَّهِ وَكَوْنِهِ رِيَاءً، وَكَكَوْنِ الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِهِ لِمُجَرَّدِ الطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ، فَالْوَزْنُ اسْتِعَارَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَقَدْ قِيلَ تُوضَعُ الصَّحَائِفُ الَّتِي كَتَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ لِلْأَعْمَالِ فِي شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَنْطِقُ أَوْ يَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ فَيَدُلُّ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ لِأَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي صِفَةِ هَذَا الْمِيزَانِ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَالْعِبَارَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَاصِرَةٌ عَنْ وَصْفِ الْوَاقِعَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْمُتَعَارَفِ، فَلَا تَعْدُو الْعِبَارَاتُ فِيهَا تَقْرِيبَ الْحَقَائِقِ وَتَمْثِيلَهَا بِأَقْصَى
إِلَيْهِمْ
[الْأَعْرَاف: ٦] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذٍ نَسْأَلُهُمْ وَنَسْأَلُ رُسُلَهُمْ وَنَقُصُّ ذُنُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَزْنُ حَقِيقَتُهُ مُعَادَلَةُ جِسْمٍ بِآخَرَ لِمَعْرِفَةِ ثِقَلِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا فِي تَعَادُلِهِمَا أَوْ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ تَسَاوِي الْجِسْمَيْنِ الْمَوْزُونَيْنِ نَادِرَ الْحُصُولِ تَعَيَّنَ جُعِلَتْ أَجْسَامٌ أُخْرَى يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ التَّفَاوُتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ آلَةٍ تُوضَعُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، وَتُسَمَّى الْمِيزَانُ وَلَهَا أَشْكَالٌ مُخْتَلِفَةٌ شَكْلًا وَاتِّسَاعًا.
وَالْأَجْسَامُ الَّتِي تُجْعَلُ لِتَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ تُسَمَّى مَوَازِينُ، وَاحِدُهَا مِيزَانُ أَيْضًا وَتُسَمَّى أَوْزَانًا وَاحِدُهَا وَزْنٌ، وَيُطْلَقُ الْوَزْنُ عَلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ حَالٍ فِي فَضْلٍ وَنَحْوِهِ قَالَ تَعَالَى:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: ١٠٥] وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي «الصَّحِيحَيْنِ» :
«إِنَّهُ لَيُؤْتَى بِالْعَظِيمِ السَّمِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ». وَيُسْتَعَارُ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِلتَّدْبِيرِ فِي أَحْوَالٍ، كَقَوْلِ الرَّاعِي:
| وَزَنَتْ أُمَيَّةُ أَمْرَهَا فَدَعَتْ لَهُ | مَنْ لَمْ يَكُنْ غُمِرًا وَلَا مَجْهُولًا |
وَالْعِبَارَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَاصِرَةٌ عَنْ وَصْفِ الْوَاقِعَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْمُتَعَارَفِ، فَلَا تَعْدُو الْعِبَارَاتُ فِيهَا تَقْرِيبَ الْحَقَائِقِ وَتَمْثِيلَهَا بِأَقْصَى
29
مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَمَا جَاءَ مِنْهَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ يَقْتَضِي آلَةً فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: ١٠٥]. وَمَا جَاءَ مِنْهَا عَلَى صِيغَةِ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مِثْلَ مَا هُنَا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ إِلَخْ وَمِثْلَ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ»
وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُقْتَضٍ آلَةً فَحَمْلُهُ عَلَى التَّمْثِيلِ أَوْ عَلَى مَخْلُوقٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
[الْأَنْبِيَاء: ٤٧]. وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْمِيزَانِ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّتِي فِيهَا كَلِمَةُ شَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَحَدِيثِ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وُجُودِ مَخْلُوقٍ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ مِنَ الْعَمَلِ يُسَمَّى بِالْمِيزَانِ تُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ حَقِيقَةً، فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَقَالُوا: هُوَ الْقَضَاءُ السَّوِيُّ، وَقَدْ تَبِعَ اخْتِلَافَهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَمْرُ هَيِّنٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ لَيْسَ بِبَيِّنٍ وَالْمَقْصُودُ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ آلَتَهُ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْوَزْنِ بِقَوْلِهِ: الْحَقُّ إِنْ كَانَ الْوَزْنُ مَجَازًا عَنْ تَعْيِينِ مَقَادِيرِ الْجَزَاءِ فَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَيِ الْجَزَاءُ عَادل غير جَائِز، لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَضَاءِ وَالْحِكَمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ تَمْثِيلًا بِهَيْئَةِ الْمِيزَانِ، فَالْعَدْلُ بِمَعْنَى السَّوِيِّ، أَيْ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْأَعْمَالِ لَا يرجح وَلَا يحجف.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مُحِقًّا.
وَتَفَرَّعَ عَلَى كَوْنِهِ الْحَقَّ قَوْلُهُ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِلْوَزْنِ بِبَيَانِ أَثَرِهِ عَلَى قَدْرِ الْمَوْزُونِ. وَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ ذَلِكَ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ»
وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُقْتَضٍ آلَةً فَحَمْلُهُ عَلَى التَّمْثِيلِ أَوْ عَلَى مَخْلُوقٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
[الْأَنْبِيَاء: ٤٧]. وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْمِيزَانِ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّتِي فِيهَا كَلِمَةُ شَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَحَدِيثِ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وُجُودِ مَخْلُوقٍ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ مِنَ الْعَمَلِ يُسَمَّى بِالْمِيزَانِ تُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ حَقِيقَةً، فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَقَالُوا: هُوَ الْقَضَاءُ السَّوِيُّ، وَقَدْ تَبِعَ اخْتِلَافَهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَمْرُ هَيِّنٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ لَيْسَ بِبَيِّنٍ وَالْمَقْصُودُ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ آلَتَهُ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْوَزْنِ بِقَوْلِهِ: الْحَقُّ إِنْ كَانَ الْوَزْنُ مَجَازًا عَنْ تَعْيِينِ مَقَادِيرِ الْجَزَاءِ فَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَيِ الْجَزَاءُ عَادل غير جَائِز، لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَضَاءِ وَالْحِكَمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ تَمْثِيلًا بِهَيْئَةِ الْمِيزَانِ، فَالْعَدْلُ بِمَعْنَى السَّوِيِّ، أَيْ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْأَعْمَالِ لَا يرجح وَلَا يحجف.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مُحِقًّا.
وَتَفَرَّعَ عَلَى كَوْنِهِ الْحَقَّ قَوْلُهُ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِلْوَزْنِ بِبَيَانِ أَثَرِهِ عَلَى قَدْرِ الْمَوْزُونِ. وَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ ذَلِكَ
30
مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَقَوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.
وَثِقَلُ الْمِيزَانِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْمَوْزُونِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَالِبَةً وَوَافِرَةً، أَيْ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الصَّالِحَاتُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَقُلَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ مُتَعَارَفَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ الْأَشْيَاءَ الْمَرْغُوبَ فِي شِرَائِهَا الْمُتَنَافَسَ فِي ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا وَالَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهَا.
وَالثِّقَلُ مَعَ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْوَزْنِ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَخْذًا بِغَايَةِ الْخِفَّةِ عَلَى وِزَانٍ عَكْسِ الثِّقَلِ، وَهِيَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ ثَانٍ لِاسْتِعَارَةِ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْخِفَّةُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ انْعِدَامُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِقَوْلِهِ: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. وَالْفَلَاحُ حُصُولُ الْخَيْرِ وَإِدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ وَقَدْ تقدّم فِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٥].
وَمَا صدق (مِنْ) وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ: مَوازِينُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَاحِدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَامٌّ صَحَّ اعْتِبَارُهُ جَمَاعَةً فِي الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَّلُوا الْفَلَاحَ لِأَجْلِ ثِقَلِ مَوَازِينِهِمْ، وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الِاعْتِبَارِيِّ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الِانْحِصَارِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ تَحَقُّقُ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ إِنْ عَلِمْتَ جَمَاعَةً تُعْرَفُ بِالْمُفْلِحِينَ فَهُمْ هُمْ.
وَالْخُسْرَانُ حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الرِّبْحِ، وَهُوَ عَدَمُ تَحْصِيلِ التَّاجِرِ عَلَى مَا يَسْتَفْضِلُهُ مِنْ بَيْعِهِ، وَيُسْتَعَارُ لِفُقْدَانِ نَفْعِ مَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَثِقَلُ الْمِيزَانِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْمَوْزُونِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَالِبَةً وَوَافِرَةً، أَيْ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الصَّالِحَاتُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَقُلَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ مُتَعَارَفَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ الْأَشْيَاءَ الْمَرْغُوبَ فِي شِرَائِهَا الْمُتَنَافَسَ فِي ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا وَالَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهَا.
وَالثِّقَلُ مَعَ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْوَزْنِ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَخْذًا بِغَايَةِ الْخِفَّةِ عَلَى وِزَانٍ عَكْسِ الثِّقَلِ، وَهِيَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ ثَانٍ لِاسْتِعَارَةِ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْخِفَّةُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ انْعِدَامُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِقَوْلِهِ: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. وَالْفَلَاحُ حُصُولُ الْخَيْرِ وَإِدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ وَقَدْ تقدّم فِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٥].
وَمَا صدق (مِنْ) وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ: مَوازِينُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَاحِدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَامٌّ صَحَّ اعْتِبَارُهُ جَمَاعَةً فِي الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَّلُوا الْفَلَاحَ لِأَجْلِ ثِقَلِ مَوَازِينِهِمْ، وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الِاعْتِبَارِيِّ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الِانْحِصَارِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ تَحَقُّقُ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ إِنْ عَلِمْتَ جَمَاعَةً تُعْرَفُ بِالْمُفْلِحِينَ فَهُمْ هُمْ.
وَالْخُسْرَانُ حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الرِّبْحِ، وَهُوَ عَدَمُ تَحْصِيلِ التَّاجِرِ عَلَى مَا يَسْتَفْضِلُهُ مِنْ بَيْعِهِ، وَيُسْتَعَارُ لِفُقْدَانِ نَفْعِ مَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
31
فَقَدُوا فَوَائِدَهَا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو مِنْ مَوَاهِبِهِ، وَهِيَ مَجْمُوعُ نَفْسِهِ، أَنْ تَجْلِبَ لَهُ النَّفْعَ وَتَدْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ: بِالرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَابْتِكَارِ الْعَمَلِ الْمُفِيدِ، وَنُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ سَوَّلَتْ لَهُمْ أَعْمَالًا كَانَتْ سَبَبَ خِفَّةِ مَوَازِينِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ سَبَبَ فَقْدِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ كَرَأْسِ مَالِ التَّاجِرِ الَّذِي رَجَا مِنْهُ زِيَادَةَ الرِّزْقِ فَأَضَاعَهُ كُلَّهُ فَهُوَ خَاسِرٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ أَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعَذَابِ الْمُقِيمِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٠]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا بِآيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا، فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي تَجَدُّدِ الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [فاطر: ٩].
وَالظُّلْمُ- هُنَا- ضِدُّ الْعَدْلِ: أَيْ يَظْلِمُونَ الْآيَاتِ فَلَا يُنْصِفُونَهَا حَقَّهَا مِنَ الصِّدْقِ.
وَضُمِّنَ يَظْلِمُونَ مَعْنَى يُكَذِّبُونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ فَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل:
١٤].
وَإِنَّمَا جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ تَكْذِيبُ مَا قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِ فَتَكْذِيبُهُ ظُلْمٌ لِلْأَدِلَّةِ
بِدَحْضِهَا وَعَدَمِ إِعْمَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ يَظْلِمُونَ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَتِ الْآيَةُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَحَالَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عَامِلُونَ بِالصَّالِحَاتِ، مُسْتَكْثِرُونَ مِنْهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَبَقِيَ بَيْنَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا بِآيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا، فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي تَجَدُّدِ الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [فاطر: ٩].
وَالظُّلْمُ- هُنَا- ضِدُّ الْعَدْلِ: أَيْ يَظْلِمُونَ الْآيَاتِ فَلَا يُنْصِفُونَهَا حَقَّهَا مِنَ الصِّدْقِ.
وَضُمِّنَ يَظْلِمُونَ مَعْنَى يُكَذِّبُونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ فَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل:
١٤].
وَإِنَّمَا جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ تَكْذِيبُ مَا قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِ فَتَكْذِيبُهُ ظُلْمٌ لِلْأَدِلَّةِ
بِدَحْضِهَا وَعَدَمِ إِعْمَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ يَظْلِمُونَ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَتِ الْآيَةُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَحَالَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عَامِلُونَ بِالصَّالِحَاتِ، مُسْتَكْثِرُونَ مِنْهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَبَقِيَ بَيْنَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ
32
عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَذَلِكَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، إِذْ لَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمَقَامِ، وَتَعَرَّضَتْ لَهُ آيَات آخري.
[١٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٣] فَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخَالِقُ مَا بِهِ عَيْشُهُمُ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ وَجُودِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى قِلَّةِ شُكْرِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فَإِنَّ النُّفُوسَ الَّتِي لَا يَزْجُرُهَا التَّهْدِيدُ قَدْ تَنْفَعُهَا الذِّكْرَيَاتُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْخَوَارِجِ وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى قِتَالِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَكَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعَمًا:
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَقَدِ، الْمُفِيدِ لِلتَّحْقِيقِ، تَنْزِيلٌ لِلَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِطَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ مَضْمُونَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ وُقُوعَ التَّمْكِينِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَالتَّمْكِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ، عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦] وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ لَا الصَّرِيحِ، أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ قُدْرَةً، أَيْ أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى أُمُورِ الْأَرْضِ وَخَوَّلْنَاكُمُ التَّصَرُّفَ فِي مَخْلُوقَاتِهَا، وَذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْبَشَرِ مِنْ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِِِ
[١٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٣] فَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخَالِقُ مَا بِهِ عَيْشُهُمُ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ وَجُودِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى قِلَّةِ شُكْرِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فَإِنَّ النُّفُوسَ الَّتِي لَا يَزْجُرُهَا التَّهْدِيدُ قَدْ تَنْفَعُهَا الذِّكْرَيَاتُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْخَوَارِجِ وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى قِتَالِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَكَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعَمًا:
| أَأُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ | بِيَدٍ تُقِرُّ بَأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ |
وَالتَّمْكِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ، عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦] وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ لَا الصَّرِيحِ، أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ قُدْرَةً، أَيْ أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى أُمُورِ الْأَرْضِ وَخَوَّلْنَاكُمُ التَّصَرُّفَ فِي مَخْلُوقَاتِهَا، وَذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْبَشَرِ مِنْ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِِِ
33
الَّتِي أَهَّلَتْهُ لِسِيَادَةِ هَذَا الْعَالَمِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَى مَصَاعِبِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّمْكِينِ هُنَا الْقُوَّةَ وَالْحُكْمَ كَالْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْف: ٨٤] لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَاصِلًا بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ أَيْضًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ جَعْلُ الْمَكَانِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْأَرْضِ يَمْنَعُ مِنْ
ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمُ الْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: ٢٦] أَيْ جعلنَا مَا أقررناهم عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِمَّا أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَيْهِ، أَيْ فِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ أَمَّا أَصْلُ الْقَرَارِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ صِرَاطٌ بَيْنَهُمَا.
وَمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَهِيَ مَا يَعِيشُ بِهِ الْحَيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَأَصْلُ الْمَعِيشَةِ اسْمُ مَصْدَرِ عَاشَ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: ١٢٤] سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعَيْشُ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي غَلَبَ حَتَّى صَارَ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَيَاءُ (مَعَايِشَ) أَصْلٌ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَصْدَرِ (عَيْشٍ) فَوَزْنُ مَعِيشَةٍ مَفْعِلَةٌ وَمَعَايِشَ مَفَاعِلُ، فَحَقُّهَا أَنْ يُنْطَقَ بِهَا فِي الْجَمْعِ يَاءً وَأَنْ لَا تُقْلَبَ هَمْزَةً. لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ وَاوًا أَوْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ، مِثْلَ: مَفَازَةٍ وَمَفَاوِزَ، فِيمَا أَصْلُهُ وَاوٌ مِنَ الْفَوْزِ وَمَعِيبَةٍ وَمَعَايِبَ فِيمَا أَصْلُهُ الْيَاءُ، فَإِذَا كَانَ حَرْفُ الْمَدِّ فِي الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ قَلَبُوا حَرْفَ الْمَدِّ هَمْزَةً نَحْوَ قِلَادَةٍ وَقَلَائِدَ، وَعَجُوزٍ وَعَجَائِزَ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ لَطَائِفِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمَدِّ الْأَصْلِيِّ وَالْمَدِّ الزَّائِدِ وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ، وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: مَعَائِشَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْهُ لَا يعبأ بهَا، وقرىء فِي الشاذ: بِالْهَمْز، رَوَاهُ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ.
ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمُ الْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: ٢٦] أَيْ جعلنَا مَا أقررناهم عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِمَّا أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَيْهِ، أَيْ فِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ أَمَّا أَصْلُ الْقَرَارِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ صِرَاطٌ بَيْنَهُمَا.
وَمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَهِيَ مَا يَعِيشُ بِهِ الْحَيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَأَصْلُ الْمَعِيشَةِ اسْمُ مَصْدَرِ عَاشَ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: ١٢٤] سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعَيْشُ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي غَلَبَ حَتَّى صَارَ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَيَاءُ (مَعَايِشَ) أَصْلٌ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَصْدَرِ (عَيْشٍ) فَوَزْنُ مَعِيشَةٍ مَفْعِلَةٌ وَمَعَايِشَ مَفَاعِلُ، فَحَقُّهَا أَنْ يُنْطَقَ بِهَا فِي الْجَمْعِ يَاءً وَأَنْ لَا تُقْلَبَ هَمْزَةً. لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ وَاوًا أَوْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ، مِثْلَ: مَفَازَةٍ وَمَفَاوِزَ، فِيمَا أَصْلُهُ وَاوٌ مِنَ الْفَوْزِ وَمَعِيبَةٍ وَمَعَايِبَ فِيمَا أَصْلُهُ الْيَاءُ، فَإِذَا كَانَ حَرْفُ الْمَدِّ فِي الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ قَلَبُوا حَرْفَ الْمَدِّ هَمْزَةً نَحْوَ قِلَادَةٍ وَقَلَائِدَ، وَعَجُوزٍ وَعَجَائِزَ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ لَطَائِفِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمَدِّ الْأَصْلِيِّ وَالْمَدِّ الزَّائِدِ وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ، وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: مَعَائِشَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْهُ لَا يعبأ بهَا، وقرىء فِي الشاذ: بِالْهَمْز، رَوَاهُ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ.
34
وَقَوْلُهُ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف:
٣] وَنَظَائِرِهِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَلَّ شُكْرُهُمْ لله تَعَالَى إِذا اتَّخَذُوا مَعَهُ آلِهَةً.
وَوَصْفٌ قَلِيلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَعْدُومِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ إِنَّ شُكْرَكُمُ اللَّهَ قَلِيلٌ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَقَدْ شَكَرُوهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ شُكْرِهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُقْتَصَدِ اسْتِنْزَالًا لِتَذَكُّرِهِمْ.
وَانْتُصِبَ (قَلِيلًا) عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ
فِي محلّ الْفَاعِل بقليلا فَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ.
وَفِي التَّعْقِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِآيَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: ٤] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِهْمَالَ شُكْرِ النِّعْمَةِ يُعَرِّضُ صَاحِبَهَا لِزَوَالِهَا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَهْلَكْناها.
[١١- ١٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٣]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٠] تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ، وَهِيَ نِعْمَةُ عِنَايَةٍ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَدَمِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَدْ
٣] وَنَظَائِرِهِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَلَّ شُكْرُهُمْ لله تَعَالَى إِذا اتَّخَذُوا مَعَهُ آلِهَةً.
وَوَصْفٌ قَلِيلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَعْدُومِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ إِنَّ شُكْرَكُمُ اللَّهَ قَلِيلٌ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَقَدْ شَكَرُوهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ شُكْرِهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُقْتَصَدِ اسْتِنْزَالًا لِتَذَكُّرِهِمْ.
وَانْتُصِبَ (قَلِيلًا) عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ
فِي محلّ الْفَاعِل بقليلا فَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ.
وَفِي التَّعْقِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِآيَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: ٤] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِهْمَالَ شُكْرِ النِّعْمَةِ يُعَرِّضُ صَاحِبَهَا لِزَوَالِهَا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَهْلَكْناها.
[١١- ١٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٣]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٠] تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ، وَهِيَ نِعْمَةُ عِنَايَةٍ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَدَمِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَدْ
35
يَعْرِضُ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْأَكْدَارِ وَالْمَتَاعِبِ، وَبِنِعْمَةِ تَفْضِيلِهِ عَلَى النَّوْعِ بِأَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِأَصِلِهِ، وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِامْتِنَانِ تَنْبِيهٌ وَإِيقَاظٌ إِلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْقِدَمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَتَضْلِيلِهِ، وَإِغْرَاءً بِالْإِقْلَاعِ عَمَّا أَوْقَعَ فِيهِ النَّاسَ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ، وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: ٢٧] وَمَا تَلَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْلَالِ وُسِّطَ فِي خِلَالِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الْغَرَضُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، لِمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَفْرَادٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ، وَهُوَ آدَمُ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
وَالْخَلْقُ الْإِيجَادُ وَإِبْرَازُ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ وَصْفِ اللَّهِ بِهِ.
وَالتَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ صُورَةً، وَالصُّورَةُ الشَّكْلُ الَّذِي يُشَكَّلُ بِهِ الْجِسْمُ كَمَا يُشَكَّلُ الطِّينُ بِصُورَةِ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ صَوَّرْناكُمْ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ التَّصْوِيرِ عَنْ رُتْبَةِ
الْخَلْقِ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ حَالَةُ كَمَالٍ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُتْقَنَةِ حُسْنًا وَشَرَفًا، بِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاعِرِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّدْبِيرِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيرُ مُقَارِنًا لِلْخَلْقِ كَمَا فِي خَلْقِ آدَمَ، أَمْ كَانَ بَعْدَ الْخَلْقِ بِمُدَّةٍ، كَمَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ مِنْ عِظَامٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ وَعُرُوقٍ وَمَشَاعِرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [الْمُؤْمِنُونَ:
١٤].
وَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الْغَرَضُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، لِمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَفْرَادٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ، وَهُوَ آدَمُ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
وَالْخَلْقُ الْإِيجَادُ وَإِبْرَازُ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ وَصْفِ اللَّهِ بِهِ.
وَالتَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ صُورَةً، وَالصُّورَةُ الشَّكْلُ الَّذِي يُشَكَّلُ بِهِ الْجِسْمُ كَمَا يُشَكَّلُ الطِّينُ بِصُورَةِ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ صَوَّرْناكُمْ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ التَّصْوِيرِ عَنْ رُتْبَةِ
الْخَلْقِ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ حَالَةُ كَمَالٍ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُتْقَنَةِ حُسْنًا وَشَرَفًا، بِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاعِرِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّدْبِيرِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيرُ مُقَارِنًا لِلْخَلْقِ كَمَا فِي خَلْقِ آدَمَ، أَمْ كَانَ بَعْدَ الْخَلْقِ بِمُدَّةٍ، كَمَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ مِنْ عِظَامٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ وَعُرُوقٍ وَمَشَاعِرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [الْمُؤْمِنُونَ:
١٤].
36
وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيْ (خَلَقْنَا) وَ (صَوَّرْنَا) إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٠] الْآيَةَ فَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: ٢٧] وَالْمَقْصُودُ بِالْخُصُوصِ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ كُفْرَانَ هَذِهِ النِّعَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا [الْأَعْرَاف: ٢٨] وَقَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٣].
وَأَمَّا تَعَلُّقُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَصْلُ نَوْعِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ آدَمُ بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَنُزِّلَ خَلْقُ أَصْلِ نَوْعِهِمْ مَنْزِلَةَ خَلْقِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمُخَاطَبُونَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ لِيَشْكُرُوا مُوجِدَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] أَيْ حَمَلْنَا أُصُولَكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ وَتَنَاسَلَ مِنْهُمُ النَّاسُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِامْتِنَانُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِإِنْجَاءِ أُصُولِهِمُ الَّذِينَ تَنَاسَلُوا مِنْهُمْ، وَيجوز أَن يؤول فِعْلَا الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ:
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٣٥] أَيْ أَرَدْنَا إِخْرَاجَ مَنْ كَانَ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ قَبْلَ أَمْرِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ وَالْمُصَوَّرَ هُوَ آدَمُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَصَوَّرْنَاهُ فَبَرَزَ مَوْجُودًا مُعَيَّنًا مُسَمًّى بِآدَمَ، فَإِنَّ التّسمية طَرِيق لتعيين الْمُسَمَّى، ثُمَّ أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ وَبَدِيعَ صُنْعِنَا فِيهِ فَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَهُ فَوَقَعَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي نَسْجِ الْكَلَامِ.
وَ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ
وَأَمَّا تَعَلُّقُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَصْلُ نَوْعِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ آدَمُ بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَنُزِّلَ خَلْقُ أَصْلِ نَوْعِهِمْ مَنْزِلَةَ خَلْقِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمُخَاطَبُونَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ لِيَشْكُرُوا مُوجِدَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] أَيْ حَمَلْنَا أُصُولَكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ وَتَنَاسَلَ مِنْهُمُ النَّاسُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِامْتِنَانُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِإِنْجَاءِ أُصُولِهِمُ الَّذِينَ تَنَاسَلُوا مِنْهُمْ، وَيجوز أَن يؤول فِعْلَا الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ:
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٣٥] أَيْ أَرَدْنَا إِخْرَاجَ مَنْ كَانَ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ قَبْلَ أَمْرِ لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ وَالْمُصَوَّرَ هُوَ آدَمُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَصَوَّرْنَاهُ فَبَرَزَ مَوْجُودًا مُعَيَّنًا مُسَمًّى بِآدَمَ، فَإِنَّ التّسمية طَرِيق لتعيين الْمُسَمَّى، ثُمَّ أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ وَبَدِيعَ صُنْعِنَا فِيهِ فَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَهُ فَوَقَعَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي نَسْجِ الْكَلَامِ.
وَ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ
37
عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هُنَا أَرْقَى رُتْبَةً
مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَبَيَانُ مَا تَقَدَّمَ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، مِنْ ظُهُورِ فَضْلِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمَلَائِكَةَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٣٤].
وتعريف لِلْمَلائِكَةِ لِلْجِنْسِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ آدَمُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَطَرِيقُ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا وَسُجُودِهِمْ جَمِيعًا لِآدَمَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ طُرُقَ عِلْمِهِمْ بِمُرَادِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ لَا تُقَاسُ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْمَلَائِكَةُ بَلْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ حَشَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ آدَمَ خُلِقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا الظَّاهِرِ أَخَذَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» عُدَّ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِحُكْمِ التّغليب.
وَجُمْلَة: عغتاژة، لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ حَالٌ مِنْ (إِبْلِيسَ)، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ عَامِلِهَا وَهُوَ مَا دلّت عَلَيْهِ أَدَاة الِاسْتِثْنَاءُ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى:
مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَبَيَانُ مَا تَقَدَّمَ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، مِنْ ظُهُورِ فَضْلِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمَلَائِكَةَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٣٤].
وتعريف لِلْمَلائِكَةِ لِلْجِنْسِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ آدَمُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَطَرِيقُ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا وَسُجُودِهِمْ جَمِيعًا لِآدَمَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ طُرُقَ عِلْمِهِمْ بِمُرَادِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ لَا تُقَاسُ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْمَلَائِكَةُ بَلْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ حَشَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ آدَمَ خُلِقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا الظَّاهِرِ أَخَذَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» عُدَّ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِحُكْمِ التّغليب.
وَجُمْلَة: عغتاژة، لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ حَالٌ مِنْ (إِبْلِيسَ)، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ عَامِلِهَا وَهُوَ مَا دلّت عَلَيْهِ أَدَاة الِاسْتِثْنَاءُ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى:
38
أُسْتُثْنِيَ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ عَيْنُ مَدْلُولِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَتِ الْحَالُ تَأْكِيدًا. وَفِي اخْتِيَارِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْيِ سُجُودِهِ بِجَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ السَّاجِدِينَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ السُّجُودُ انْتِفَاءً شَدِيدًا لِأَنَّ قَوْلَكَ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ مِنَ النَّفْيِ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُهُ قَوْلُكُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦].
فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَان عِنْد مَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ، أَيِ انْتَفَى سُجُوده انْتِفَاء لَا رَجَاء فِي حُصُولِهِ بَعْدُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِحِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ابْتِدَاءُ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ إِبْلِيسَ السُّجُودَ لِآدَمَ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَكَانَ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ اسْتِفْسَارٌ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ السُّجُودَ، وَضَمِيرُ: قالَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا، نُكْتَتُهُ تَحْوِيلُ مَقَامِ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَمْرٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي زُمْرَتِهِمْ فَصَارَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ لِإِبْلِيسَ خَاصَّةً.
وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ظَاهِرُهُ حَقِيقِيٌّ، وَمَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارُ مَقْصِدِ إِبْلِيسَ لِلْمَلَائِكَةِ.
ومَنَعَكَ مَعْنَاهُ صَدَّكَ وَكَفَّكَ عَنِ السُّجُودِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ:
فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَان عِنْد مَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ، أَيِ انْتَفَى سُجُوده انْتِفَاء لَا رَجَاء فِي حُصُولِهِ بَعْدُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِحِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ابْتِدَاءُ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ إِبْلِيسَ السُّجُودَ لِآدَمَ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَكَانَ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ اسْتِفْسَارٌ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ السُّجُودَ، وَضَمِيرُ: قالَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا، نُكْتَتُهُ تَحْوِيلُ مَقَامِ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَمْرٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي زُمْرَتِهِمْ فَصَارَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ لِإِبْلِيسَ خَاصَّةً.
وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ظَاهِرُهُ حَقِيقِيٌّ، وَمَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارُ مَقْصِدِ إِبْلِيسَ لِلْمَلَائِكَةِ.
ومَنَعَكَ مَعْنَاهُ صَدَّكَ وَكَفَّكَ عَنِ السُّجُودِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ:
39
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَفَّ عَنِ السُّجُودِ لَا عَنْ نَفْيِ السُّجُودِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]، فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ (لَا) هُنَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَقِيلَ هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا تُفِيدُ نَفْيًا، لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمَزِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ التَّأْكِيدِ. وَ (لَا) مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُؤَكَّدُ بِهَا الْكَلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ١]- وَقَوْلِهِ- لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: ٢٩] أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ عِلْمًا مُحَقَّقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥] أَيْ مَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَنْعًا مُحَقَّقًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي تَوْجِيهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ السُّجُودِ غَيْرَ وَاقِعٍ فَلَا يَنْبَغِي تَأْكِيدُهُ خَفَاءً لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَقِيلَ (لَا) نَافِيَةٌ، وَوُجُودُهَا يُؤْذِنُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَنَعَكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو لِضِدِّهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فَدَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى دَعَاكَ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَ (لَا) هِيَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي فَصْلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِيمَا نَقَلَهُ
الْفَخْرُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ الْفِعْلَانِ، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَحُذِفَ الْآخَرُ، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَحْذُوفِ بِمُتَعَلِّقَةِ الصَّالِحِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَانْظُرْ مَا قُلْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فِي سُورَةِ طه [٩٢، ٩٣].
وَقَوْلُهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ ظَرْفٌ لِ تَسْجُدَ، وَتَعْلِيقُ ضَمِيرِهِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَخَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ أَصْلًا
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]، فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ (لَا) هُنَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَقِيلَ هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا تُفِيدُ نَفْيًا، لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمَزِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ التَّأْكِيدِ. وَ (لَا) مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُؤَكَّدُ بِهَا الْكَلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ١]- وَقَوْلِهِ- لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْحَدِيد: ٢٩] أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ عِلْمًا مُحَقَّقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥] أَيْ مَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَنْعًا مُحَقَّقًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي تَوْجِيهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ السُّجُودِ غَيْرَ وَاقِعٍ فَلَا يَنْبَغِي تَأْكِيدُهُ خَفَاءً لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَقِيلَ (لَا) نَافِيَةٌ، وَوُجُودُهَا يُؤْذِنُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَنَعَكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو لِضِدِّهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فَدَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى دَعَاكَ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَ (لَا) هِيَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي فَصْلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِيمَا نَقَلَهُ
الْفَخْرُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ الْفِعْلَانِ، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَحُذِفَ الْآخَرُ، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَحْذُوفِ بِمُتَعَلِّقَةِ الصَّالِحِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَانْظُرْ مَا قُلْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فِي سُورَةِ طه [٩٢، ٩٣].
وَقَوْلُهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ ظَرْفٌ لِ تَسْجُدَ، وَتَعْلِيقُ ضَمِيرِهِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَخَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ أَصْلًا
40
لِلْجِنِّ لِيَجْعَلَ مِنْهُ صِنْفًا مُتَمَيِّزًا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَبُولِهِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: ٥٠] الْآيَةَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ، وَإِبْلِيسُ أَصْلُ ذَلِكَ النَّوْعِ، جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ أَمْرُهُمْ شَامِلًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَأَنَّ الْجِنَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ،
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ»
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ نُورًا مَخْلُوطًا بِالْمَادَّةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورًا مُجَرَّدًا، فَيَكُونُ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَحَطَّ، كَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ أَرْقَى.
وَفُصِلَ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَبَيَّنَ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ آدَمَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ صَرِيحَةٌ، وَقَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ.
وَجُمْلَةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ.
وَحَصَلَ لِإِبْلِيسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ، بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا خَلْقَهُ، أَوْ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَن: ١٤، ١٥] وَإِبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٥٠] : فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
وَاسْتَنَدَ فِي تَفْضِيلِ نَفْسِهِ إِلَى فَضِيلَةِ الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ عَلَى الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ»
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ نُورًا مَخْلُوطًا بِالْمَادَّةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورًا مُجَرَّدًا، فَيَكُونُ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَحَطَّ، كَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ أَرْقَى.
وَفُصِلَ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَبَيَّنَ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ آدَمَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ صَرِيحَةٌ، وَقَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ.
وَجُمْلَةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ.
وَحَصَلَ لِإِبْلِيسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ، بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا خَلْقَهُ، أَوْ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَن: ١٤، ١٥] وَإِبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٥٠] : فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
وَاسْتَنَدَ فِي تَفْضِيلِ نَفْسِهِ إِلَى فَضِيلَةِ الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ عَلَى الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ.
41
وَالنَّارُ هِيَ الْحَرَارَةُ الْبَالِغَةُ لِشِدَّتِهَا الِالْتِهَابَ الْكَائِنَةُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَصْهُورَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالنَّارِ الَّتِي فِي الشَّمْسِ، وَإِذَا بلغت الْحَرَارَة الالتهام عَرَضَتِ النَّارِيَّةُ لِلْجِسْمِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ تُرَابٍ مِثْلُ النَّارِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّمَادِ.
وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا وَتَسَلُّطِهَا عَلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تُلَاقِيهَا، وَلِأَنَّهَا تُضِيءُ، وَلِأَنَّهَا زَكِيَّةٌ لَا تَلْصَقُ بِهَا الْأَقْذَارُ، وَالتُّرَابُ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا تَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْأَجْسَامُ الْحَيَّةُ كُلُّهَا.
وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَهُوَ أَخْلَصُ مِنَ الشُّعَاعِ الَّذِي يُبَيِّنُ مِنَ النَّارِ مُجَرَّدًا عَنْ مَا فِي النَّارِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْجُثْمَانِيَّةِ.
وَالطِّينُ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطُ بِالْمَاءِ، وَالْمَاءُ عُنْصُرٌ آخَرُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مَعَ النَّارِ وَالتُّرَابِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا أَنَّ شَرَفَ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ مُقَرَّرٌ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أُوخِذَ بِعِصْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ عِصْيَانًا بَاتًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَدْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَ آدَمَ ذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي قَدْ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى مَبْلَغِ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّكَاءِ وَالتَّقْدِيسِ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَغَرَّهُ زَكَاءُ عُنْصُرِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ كَافِيًا فِي التَّفْضِيلِ وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ كِيَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعُنْصُرِ مُهَيِّئًا إِيَّاهُ لِبُلُوغِ الْكَمَالَاتِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ، وَاعْتِبَارِ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ، بِحَسَبِ مَقْصِدِ الْخَالِقِ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْمَادَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ إِبْلِيسَ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْفَسَادِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ دُونَ نَظَرٍ، بِحَسَبَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَرَكَّبَ آدَمَ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ العنصريّة فِي الْخَبَر وَالصَّلَاحِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَى ازْدِيَادِ الْكَمَالِ بِمَحْضِ الِاخْتِيَارِ وَالنَّظَرِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ خَصَائِصُ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ لِلتَّرْكِيبِ، وَرَكَّبَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عُنْصُرِ النُّورِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ قُوَاهُمُ الْعُنْصُرِيَّةَ فِي الْخَيْرَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالِانْدِفَاعِ
وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا وَتَسَلُّطِهَا عَلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تُلَاقِيهَا، وَلِأَنَّهَا تُضِيءُ، وَلِأَنَّهَا زَكِيَّةٌ لَا تَلْصَقُ بِهَا الْأَقْذَارُ، وَالتُّرَابُ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا تَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْأَجْسَامُ الْحَيَّةُ كُلُّهَا.
وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَهُوَ أَخْلَصُ مِنَ الشُّعَاعِ الَّذِي يُبَيِّنُ مِنَ النَّارِ مُجَرَّدًا عَنْ مَا فِي النَّارِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْجُثْمَانِيَّةِ.
وَالطِّينُ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطُ بِالْمَاءِ، وَالْمَاءُ عُنْصُرٌ آخَرُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مَعَ النَّارِ وَالتُّرَابِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا أَنَّ شَرَفَ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ مُقَرَّرٌ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أُوخِذَ بِعِصْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ عِصْيَانًا بَاتًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَدْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَ آدَمَ ذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي قَدْ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى مَبْلَغِ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّكَاءِ وَالتَّقْدِيسِ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَغَرَّهُ زَكَاءُ عُنْصُرِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ كَافِيًا فِي التَّفْضِيلِ وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ كِيَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعُنْصُرِ مُهَيِّئًا إِيَّاهُ لِبُلُوغِ الْكَمَالَاتِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ، وَاعْتِبَارِ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ، بِحَسَبِ مَقْصِدِ الْخَالِقِ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْمَادَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ إِبْلِيسَ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْفَسَادِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ دُونَ نَظَرٍ، بِحَسَبَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَرَكَّبَ آدَمَ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ العنصريّة فِي الْخَبَر وَالصَّلَاحِ وَالِانْدِفَاعَ إِلَى ازْدِيَادِ الْكَمَالِ بِمَحْضِ الِاخْتِيَارِ وَالنَّظَرِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ خَصَائِصُ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ لِلتَّرْكِيبِ، وَرَكَّبَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عُنْصُرِ النُّورِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ قُوَاهُمُ الْعُنْصُرِيَّةَ فِي الْخَيْرَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالِانْدِفَاعِ
42
إِلَى ذَلِكَ بِالطَّبْعِ دُونَ اخْتِيَارٍ وَلَا نظر، بِحَسب خصايص عُنْصُرِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ بُلُوغُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَضَائِلِ الْمَلَكِيَّةِ أَعْلَى وَأَعْجَبَ، وَكَانَ مَبْلَغُهُ إِلَى الرَّذَائِلِ الشَّيْطَانِيَّةِ أَحَطَّ وَأَسْهَلَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُوطِبَ بِالتَّكْلِيفِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ لِأَنَّهُ سُجُودُ
اعْتِرَافٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَظْهَرِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ، وَانْتَظَرُوا الْبَيَانَ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٢] فَجَاءَهُمُ الْبَيَانُ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] ثُمَّ مُفَصَّلًا بِقِصَّةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: ٣١]- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٣].
وَقَدْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِصْيَانِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي اعْتِلَاءٍ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَأَحَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجَعْلٍ آلَهِيٍّ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ وَمُلَازَمَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْهُبُوطِ إِمَّا حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَكَانُ عَالِيًا، وَإِمَّا اسْتِعَارَةً لِلْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ، بِتَشْبِيهِ الْبُعْدِ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ: فَاهْبِطْ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى جَوَابِ إِبْلِيسَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ، كَالْعَطْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْهُبُوطِ مُسَبَّبٌ عَنْ جَوَابِهِ.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْلُومِ بَيْنَ
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ لِأَنَّهُ سُجُودُ
اعْتِرَافٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَظْهَرِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ، وَانْتَظَرُوا الْبَيَانَ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٢] فَجَاءَهُمُ الْبَيَانُ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] ثُمَّ مُفَصَّلًا بِقِصَّةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: ٣١]- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٣].
وَقَدْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِصْيَانِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي اعْتِلَاءٍ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَأَحَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجَعْلٍ آلَهِيٍّ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ وَمُلَازَمَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْهُبُوطِ إِمَّا حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَكَانُ عَالِيًا، وَإِمَّا اسْتِعَارَةً لِلْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ، بِتَشْبِيهِ الْبُعْدِ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ: فَاهْبِطْ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى جَوَابِ إِبْلِيسَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ، كَالْعَطْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْهُبُوطِ مُسَبَّبٌ عَنْ جَوَابِهِ.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْلُومِ بَيْنَ
43
الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ، وَتَأْنِيثُهُ إِمَّا رَعْيٌ لِمَعْنَاهُ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوْ لِلَفْظِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَكَانُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا الضَّمِيرِ بِالتَّأْنِيثِ.
وَقَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عُقُوبَةُ إِبْعَادٍ عَنِ الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خُلُقُهُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَهُ، وَذَلِكَ خُلُقُ التَّكَبُّرِ لِأَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ وَصْفٌ يُنَافِيهِ وَهَذَا مَبْدَأٌ حَاوَلَهُ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ عَنِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ مَنْ يُخْشَى مِنْ سِيرَتِهِ فُشُوُّ الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يُغْتَفَرُ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ (مَا يَكُونُ لَكَ) كَذَا أَشَدُّ مِنَ النَّفْيِ بِ (لَيْسَ لَكَ كَذَا) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ هُنَا نَهْيًا لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُ بِالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ لِوُقُوعِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّرْدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْقَيْدِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي غَيْرِهَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّكَبُّرَ مَعْصِيَةٌ لَا تَلِيقُ بِأَهْلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ.
وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَاهْبِطْ بِمُرَادِفِهَا، وَأُعِيدَتِ الْفَاءُ مَعَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ تَسَبُّبِ الْكِبْرِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْوِينِ الصِّغَارِ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ صَاغِرًا حَقِيرًا حَيْثُمَا حَلَّ، فَفَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قبلهَا للاستيناف، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا
وَقَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عُقُوبَةُ إِبْعَادٍ عَنِ الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خُلُقُهُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَهُ، وَذَلِكَ خُلُقُ التَّكَبُّرِ لِأَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ وَصْفٌ يُنَافِيهِ وَهَذَا مَبْدَأٌ حَاوَلَهُ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ عَنِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ مَنْ يُخْشَى مِنْ سِيرَتِهِ فُشُوُّ الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يُغْتَفَرُ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ (مَا يَكُونُ لَكَ) كَذَا أَشَدُّ مِنَ النَّفْيِ بِ (لَيْسَ لَكَ كَذَا) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ هُنَا نَهْيًا لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُ بِالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ لِوُقُوعِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّرْدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْقَيْدِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي غَيْرِهَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّكَبُّرَ مَعْصِيَةٌ لَا تَلِيقُ بِأَهْلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ.
وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَاهْبِطْ بِمُرَادِفِهَا، وَأُعِيدَتِ الْفَاءُ مَعَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ تَسَبُّبِ الْكِبْرِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْوِينِ الصِّغَارِ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ صَاغِرًا حَقِيرًا حَيْثُمَا حَلَّ، فَفَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قبلهَا للاستيناف، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا
44
الْمَقَامِ اسْتِعْمَالَ فَاءِ التَّعْلِيلِ، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِظْهَارَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّغَارِ وَالْحَقَارَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا فَذَهَبَتْ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا إِلَى التَّكَبُّرِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَارِ لَهُ مِنْ نَحْوِ: إِنَّكَ صَاغِرٌ، أَوْ قَدْ صَغُرْتَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦]، وَقَوْلِهِ آنِفًا: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَالصَّاغِرُ الْمُتَّصِفُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْحَقَارَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الصَّغَارُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ صَارَتْ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَهُوَ صَغَارُ الْغَوَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الْأَعْرَاف: ١٦].
[١٤، ١٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
لَمَّا كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ الصَّغَارَ وَالْحَقَارَةَ بَعْدَ عِزَّةِ الْمَلَكِيَّةِ وَشَرَفِهَا انْقَلَبَتْ مَرَامِي هِمَّتِهِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالسَّفَاسِفِ (إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ إِبِلٌ فَمَعْزًى) فَسَأَلَ النَّظِرَةَ بِطُولِ الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ الْبَاقِي، فَلَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ ظَنَّ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَدَمِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِبْقَاءً لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَبَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ طَلَبُ النَّظِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيْ إِنَّكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْبَاقِيَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ وَالْإِخْبَارُ بِصِيغَةِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَنَّ إِنْظَارَهُ أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ
وَقَدَّرَهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ كَوْنُكَ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ أُنْظِرُوا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا وَقَدَّرَ بَقَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَكَشَفَ لِإِبْلِيسَ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْظَرِينَ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَجَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَ، وَلَيْسَ
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَارِ لَهُ مِنْ نَحْوِ: إِنَّكَ صَاغِرٌ، أَوْ قَدْ صَغُرْتَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦]، وَقَوْلِهِ آنِفًا: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَالصَّاغِرُ الْمُتَّصِفُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْحَقَارَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الصَّغَارُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ صَارَتْ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَهُوَ صَغَارُ الْغَوَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الْأَعْرَاف: ١٦].
[١٤، ١٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
لَمَّا كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ الصَّغَارَ وَالْحَقَارَةَ بَعْدَ عِزَّةِ الْمَلَكِيَّةِ وَشَرَفِهَا انْقَلَبَتْ مَرَامِي هِمَّتِهِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالسَّفَاسِفِ (إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ إِبِلٌ فَمَعْزًى) فَسَأَلَ النَّظِرَةَ بِطُولِ الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ الْبَاقِي، فَلَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ ظَنَّ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَدَمِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِبْقَاءً لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَبَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ طَلَبُ النَّظِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيْ إِنَّكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْبَاقِيَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ وَالْإِخْبَارُ بِصِيغَةِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَنَّ إِنْظَارَهُ أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ
وَقَدَّرَهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ كَوْنُكَ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ أُنْظِرُوا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا وَقَدَّرَ بَقَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَكَشَفَ لِإِبْلِيسَ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْظَرِينَ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَجَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَ، وَلَيْسَ
إِجَابَةً لِطِلْبَةِ إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُجِيبَ لَهُ طَلَبًا، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: أَنْظَرْتُكَ أَوْ أَجَبْتُ لَكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَكْرِمَةٍ بِاسْتِجَابَةِ طَلَبِهِ، وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ أَمْرٌ حَاصِلٌ فَسُؤَالُهُ تَحْصِيل حَاصِل.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣]- ثُمَّ قَوْلُهُ- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٥].
فَقَدْ دَلَّ مَضْمُونُ ذَيْنِكَ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَقْدِرَةً عَلَى إِغْوَاءِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣] وَإِنَّهُ جَعَلَهُ بَاقِيًا مُتَصَرِّفًا بِقُوَاهُ الشِّرِّيرَةُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَأَحَسَّ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيَكُونُ دَاعِيَةً إِلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، بِجِبِلَّةٍ قَلَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا قَلْبًا وَهُوَ مِنَ الْمَسْخِ النَّفْسَانِيِّ، وَإِنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ هُوَ ضَلَالٌ وَفَسَادٌ، فَصُدُورُ ذَلِكَ مِنْهُ كَصُدُورِ النَّهْشِ مِنَ الْحَيَّةِ، وَكَتَحَرُّكِ الْأَجْفَانِ عِنْدَ مُرُورِ شَيْءٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَيْنِ لَا يُرِيدُ تَحْرِيكَهُمَا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي سَبَبِيَّةٌ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَأَقْعُدَنَّ، أَيْ أُقْسِمُ لَهُمْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنِّي بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَاللَّامُ فِي لَأَقْعُدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ: قَصْدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣]- ثُمَّ قَوْلُهُ- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٥].
فَقَدْ دَلَّ مَضْمُونُ ذَيْنِكَ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَقْدِرَةً عَلَى إِغْوَاءِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣] وَإِنَّهُ جَعَلَهُ بَاقِيًا مُتَصَرِّفًا بِقُوَاهُ الشِّرِّيرَةُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَأَحَسَّ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيَكُونُ دَاعِيَةً إِلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، بِجِبِلَّةٍ قَلَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا قَلْبًا وَهُوَ مِنَ الْمَسْخِ النَّفْسَانِيِّ، وَإِنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ هُوَ ضَلَالٌ وَفَسَادٌ، فَصُدُورُ ذَلِكَ مِنْهُ كَصُدُورِ النَّهْشِ مِنَ الْحَيَّةِ، وَكَتَحَرُّكِ الْأَجْفَانِ عِنْدَ مُرُورِ شَيْءٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَيْنِ لَا يُرِيدُ تَحْرِيكَهُمَا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي سَبَبِيَّةٌ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَأَقْعُدَنَّ، أَيْ أُقْسِمُ لَهُمْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنِّي بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَاللَّامُ فِي لَأَقْعُدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ: قَصْدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
46
وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ اسْتُحِقَّ التَّقْدِيمُ فَإِنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا قُدِّمَ قَدْ يُفِيدُ مَعْنًى قَرِيبًا مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا فِي
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ»
وَفِي رِوَايَةٍ جَزَمَ تَكُونُوا مَعَ عَدَمِ مُعَامَلَةِ عَامِلِهِ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِعَلَامَةِ الْجَزْمِ فَلَمْ يُرْوَ «يُوَلَّى» إِلَّا بِالْأَلْفِ فِي آخِرِهِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْجَزْمِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ، إِذْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التّقديم منافيا لِتَصْدِيرِ لَامِ الْقَسَمِ فِي جُمْلَتِهَا، عَلَى أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ ذَلِكَ فَقَدْ خُولِفَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْقعُود عَن كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ
كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَيْ مُلَازِمِينَ أبياتا لغَيرهم يرد الْجُلُوسَ، إِذْ قَدْ يَكُونُونَ يَسْأَلُونَ وَاقِفِينَ، وَمَاشِينَ، وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ هُوَ أَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْيَاءَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ، فَيَقْعُدُ الْمُلَازِمُ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ اسْمُ الْقَعِيدِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَعِيدِ عَلَى الْمُلَازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] أَيْ مُلَازِمٍ إِذِ الْمَلَكُ لَا يُوصَفُ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ.
وَلَمَّا ضُمِّنَ فِعْلُ: لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ انْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى لَأَقْعُدَنَّ تَقْدِيرُهُ: فَامْنَعَنَّ صِرَاطَكَ أَوْ فَأَقْطَعَنَّ عَنْهُمْ صِرَاطَكَ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ كَقَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥].
وَإِضَافَةُ الصِّرَاطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ على تَقْدِير اللّام أَيِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ لَكَ أَيِ الَّذِي جَعَلْتُهُ طَرِيقًا لَكَ، وَالطَّرِيقُ لِلَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْعَازِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ إِلَى مَقْصِدٍ يَنْفَعُهُ وَسَعْيِهِ إِذَا اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقِهِ قَاطِعُ طَرِيقٍ مَنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ.
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ»
وَفِي رِوَايَةٍ جَزَمَ تَكُونُوا مَعَ عَدَمِ مُعَامَلَةِ عَامِلِهِ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِعَلَامَةِ الْجَزْمِ فَلَمْ يُرْوَ «يُوَلَّى» إِلَّا بِالْأَلْفِ فِي آخِرِهِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْجَزْمِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ، إِذْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التّقديم منافيا لِتَصْدِيرِ لَامِ الْقَسَمِ فِي جُمْلَتِهَا، عَلَى أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ ذَلِكَ فَقَدْ خُولِفَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْقعُود عَن كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ
كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
| قُعُودًا لَدَى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ | رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ |
وَلَمَّا ضُمِّنَ فِعْلُ: لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ انْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى لَأَقْعُدَنَّ تَقْدِيرُهُ: فَامْنَعَنَّ صِرَاطَكَ أَوْ فَأَقْطَعَنَّ عَنْهُمْ صِرَاطَكَ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ كَقَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥].
وَإِضَافَةُ الصِّرَاطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ على تَقْدِير اللّام أَيِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ لَكَ أَيِ الَّذِي جَعَلْتُهُ طَرِيقًا لَكَ، وَالطَّرِيقُ لِلَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْعَازِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ إِلَى مَقْصِدٍ يَنْفَعُهُ وَسَعْيِهِ إِذَا اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقِهِ قَاطِعُ طَرِيقٍ مَنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ.
47
وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ ضَمِيرُ الْإِنْسِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الْمُحَاوَرَةِ، الَّتِي اخْتُصِرَتْ هُنَا اخْتِصَارًا دَعَا إِلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّ الْجِنْسِ، فَتَفْصِيلُ الْمُحَاوَرَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ خَاطَبَ أَهْلَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَعْمُرَ بِهِ وَبِنَسْلِهِ الْأَرْضَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] فَالْأَرْضُ مَخْلُوقَةٌ يَوْمَئِذٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ لِيَعْمُرَهَا بِذَرِّيَّتِهِ وَعَلِمَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَحَكَى اللَّهُ مِنْ كَلَامِهِ مَا بِهِ الْحَاجَّةُ هَنَا: وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الْآيَةَ وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ ذَكَرَ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِغْوَاءَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحجر: ٣٩، ٤٠] فَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ عِلْمَ إِبْلِيسَ بِأَنَّ آدَمَ يَصِيرُ إِلَى الْأَرْضِ قَدْ حَصَلَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ حِينٍ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي جَنَّةٍ
مِنْ جَنَّاتِ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ لِلصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَ فِيهِمْ مَعْرِفَةَ الْكَمَالِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى بُلُوغِهِ بِالْإِرْشَادِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ، فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، صراطا مُسْتَقِيمًا، وأضافه إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ دَعَا إِلَيْهِ وَارِد مِنَ النَّاسِ سُلُوكَهُ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أَلْزَمَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمَّ لآتيناهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ إِبْلِيسُ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِهِ وَمَا هُوَ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْبَشَرَ، فَالْعَدَاوَةُ مُتَأَصِّلَةٌ وَجِبِلِّيَّةٌ بَيْنَ طَبْعِ الشَّيْطَانِ وَفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ السَّالِمَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ مَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْجَعْلُ الْإِلَهِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦]،
مِنْ جَنَّاتِ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ لِلصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَ فِيهِمْ مَعْرِفَةَ الْكَمَالِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى بُلُوغِهِ بِالْإِرْشَادِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ، فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، صراطا مُسْتَقِيمًا، وأضافه إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ دَعَا إِلَيْهِ وَارِد مِنَ النَّاسِ سُلُوكَهُ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أَلْزَمَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمَّ لآتيناهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ إِبْلِيسُ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِهِ وَمَا هُوَ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْبَشَرَ، فَالْعَدَاوَةُ مُتَأَصِّلَةٌ وَجِبِلِّيَّةٌ بَيْنَ طَبْعِ الشَّيْطَانِ وَفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ السَّالِمَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ مَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْجَعْلُ الْإِلَهِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦]،
48
وَبِهِ سَيَتَّضِحُ كَيْفَ انْقَلَبَتِ الْعَدَاوَةُ وِلَايَةً بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ.
وَجُمْلَة: ثمَّ لآتيناهم (ثُمَّ) فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهُوَ التَّدَرُّجُ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى خَبَرٍ أَهَمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَوْقَعُ فِي غَرَضِ الْكَلَامِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَفَادَتِ التَّرَصُّدَ لِلْبَشَرِ بِالْإِغْوَاءِ، وَالْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَفَادَتِ التَّهَجُّمَ عَلَيْهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ.
وَكَمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِهَيْئَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْإِغْوَاءِ بِالْقُعُودِ عَلَى الطَّرِيقِ، كَذَلِك مُثِّلَتْ هَيْئَةُ التَّوَسُّلِ إِلَى الْإِغْوَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَيْئَةِ الْبَاحِثِ الْحَرِيصِ عَلَى أَخْذِ الْعَدُوِّ إِذْ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى يُصَادِفَ الْجِهَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَخْذِهِ، فَهُوَ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى تَخُورَ قُوَّةُ مُدَافَعَتِهِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَسْلَكٌ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي مُحَاوَلَةِ النَّاسِ وَمُخَاتَلَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْإِتْيَانَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ فِي المخاتلة وإلّا الْمُهَاجَمَةِ.
وَعُلِّقَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وخَلْفِهِمْ بِحَرْفِ (مِنْ) وعلّق أَيْمانِهِمْ وشمالهم بِحَرْفِ عَنْ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي تَعْدِيَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ، وَأَصْلُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِمْ: عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُجَاوَزَةُ: أَيْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ مُجَاوِزًا لَهُ وَمُجَافِيًا لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (عَنْ) بِمَعْنَى عَلَى، فَكَمَا يَقُولُونَ: جَلَسَ عَلَى يَمِينِهِ
يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَصْلُهَا الِابْتِدَاءُ يُقَالُ: أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الْمُوَاجِهِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (مِنْ) بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ يُجَرُّ بِهَا الظَّرْفُ فَلِذَلِكَ جَرَتْ بِهَا الظُّرُوفُ الْمُلَازِمَةُ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ عِنْدَ، لِأَنَّ
وَجُمْلَة: ثمَّ لآتيناهم (ثُمَّ) فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهُوَ التَّدَرُّجُ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى خَبَرٍ أَهَمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَوْقَعُ فِي غَرَضِ الْكَلَامِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَفَادَتِ التَّرَصُّدَ لِلْبَشَرِ بِالْإِغْوَاءِ، وَالْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَفَادَتِ التَّهَجُّمَ عَلَيْهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ.
وَكَمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِهَيْئَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْإِغْوَاءِ بِالْقُعُودِ عَلَى الطَّرِيقِ، كَذَلِك مُثِّلَتْ هَيْئَةُ التَّوَسُّلِ إِلَى الْإِغْوَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَيْئَةِ الْبَاحِثِ الْحَرِيصِ عَلَى أَخْذِ الْعَدُوِّ إِذْ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى يُصَادِفَ الْجِهَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَخْذِهِ، فَهُوَ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى تَخُورَ قُوَّةُ مُدَافَعَتِهِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَسْلَكٌ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي مُحَاوَلَةِ النَّاسِ وَمُخَاتَلَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْإِتْيَانَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ فِي المخاتلة وإلّا الْمُهَاجَمَةِ.
وَعُلِّقَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وخَلْفِهِمْ بِحَرْفِ (مِنْ) وعلّق أَيْمانِهِمْ وشمالهم بِحَرْفِ عَنْ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي تَعْدِيَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ، وَأَصْلُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِمْ: عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُجَاوَزَةُ: أَيْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ مُجَاوِزًا لَهُ وَمُجَافِيًا لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (عَنْ) بِمَعْنَى عَلَى، فَكَمَا يَقُولُونَ: جَلَسَ عَلَى يَمِينِهِ
يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَصْلُهَا الِابْتِدَاءُ يُقَالُ: أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الْمُوَاجِهِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (مِنْ) بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ يُجَرُّ بِهَا الظَّرْفُ فَلِذَلِكَ جَرَتْ بِهَا الظُّرُوفُ الْمُلَازِمَةُ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ عِنْدَ، لِأَنَّ
49
وُجُودَ (مِنْ) كَالْعَدَمِ، وَقَدْ قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ النَّحْوِيَّةِ» (مَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لَا يَخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٍ: «فَهِيَ هُنَا زَائِدَةٌ وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهَا ابْتِدَائِيَّةً.
وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ هُنَا جَانِبٌ مِنْ جِسْمِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْقُطْبِ الْجَنُوبِيِّ إِذَا اسْتَقْبَلَ الْمَرْءُ مَشْرِقَ الشَّمْسِ، تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَشَاعَتْ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْعُرُونَ بِتَطْبِيقِ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَالْيَمِينُ جِهَةٌ يُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْبَدَنِ يُقَالُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُمْنَى وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: ٢٨]. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ لذَلِك قَالَ أئمّة اللُّغَةِ سُمِّيَتْ بِلَادُ الْيَمَنِ يَمَنًا لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ، فَاعْتَبَرُوا الْكَعْبَةَ كَشَخْصٍ مُسْتَقْبِلٍ مَشْرِقَ الشَّمْسِ فَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنْهَا وَهُوَ زَاوِيَةُ الْجِدَارِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُدْرَى أَصْلُ اشْتِقَاقِ كَلِمَةِ (يَمِينٍ)، وَلَا أَنَّ الْيُمْنَ أَصْلٌ لَهَا أَوْ فَرْعٌ عَنْهَا، وَالْأَيْمَانُ جَمْعٌ قِيَاسِيٌّ.
وَالشَّمَائِلُ جَمْعُ شِمَالٍ وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي تَكُونُ شِمَالًا لِمُسْتَقْبَلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ قُوَّةِ إِضْلَالِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْلِتُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمِ الْحَدْسِ وَتَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ.
وَكُنِيَ بِنَفْيِ الشُّكْرِ عَنِ الْكُفْرِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَوَجْهُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ، إِنْ كَانَتْ مَحْكِيَّةً كَمَا صَدَرَتْ مِنْ كَلَامِ إِبْلِيسَ، أَنَّهُ أَرَادَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُصَرِّحْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُفْرِ أَتْبَاعِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ
وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ هُنَا جَانِبٌ مِنْ جِسْمِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْقُطْبِ الْجَنُوبِيِّ إِذَا اسْتَقْبَلَ الْمَرْءُ مَشْرِقَ الشَّمْسِ، تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَشَاعَتْ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْعُرُونَ بِتَطْبِيقِ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَالْيَمِينُ جِهَةٌ يُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْبَدَنِ يُقَالُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُمْنَى وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتُتَعَرَّفُ بِهَا مَوَاقِعُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: ٢٨]. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ لذَلِك قَالَ أئمّة اللُّغَةِ سُمِّيَتْ بِلَادُ الْيَمَنِ يَمَنًا لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ، فَاعْتَبَرُوا الْكَعْبَةَ كَشَخْصٍ مُسْتَقْبِلٍ مَشْرِقَ الشَّمْسِ فَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنْهَا وَهُوَ زَاوِيَةُ الْجِدَارِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُدْرَى أَصْلُ اشْتِقَاقِ كَلِمَةِ (يَمِينٍ)، وَلَا أَنَّ الْيُمْنَ أَصْلٌ لَهَا أَوْ فَرْعٌ عَنْهَا، وَالْأَيْمَانُ جَمْعٌ قِيَاسِيٌّ.
وَالشَّمَائِلُ جَمْعُ شِمَالٍ وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي تَكُونُ شِمَالًا لِمُسْتَقْبَلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ قُوَّةِ إِضْلَالِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْلِتُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمِ الْحَدْسِ وَتَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ.
وَكُنِيَ بِنَفْيِ الشُّكْرِ عَنِ الْكُفْرِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَوَجْهُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ، إِنْ كَانَتْ مَحْكِيَّةً كَمَا صَدَرَتْ مِنْ كَلَامِ إِبْلِيسَ، أَنَّهُ أَرَادَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُصَرِّحْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُفْرِ أَتْبَاعِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ
50
تَعَالَى فَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ قَدْ أَتَوْا أَمْرًا شَنِيعًا إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَهُ الجمّة عَلَيْهِم.
[١٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
أَعَادَ اللَّهُ أَمْرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلِ والثّاني: قَالَ: فَاهْبِطْ مِنْها- إِلَى قَوْله- فَاخْرُجْ [الْأَعْرَاف: ١٣].
وَمَذْءُومٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَأَمَهُ- مَهْمُوزًا- إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ ذَأْمًا وَقَدْ تُسَهَّلُ هَمْزَةُ ذَأَمَ فَتَصِيرُ أَلِفًا فَيُقَالُ ذَامَ وَلَا تُسَهَّلُ فِي بَقِيَّةِ تَصَارِيفِهِ.
مَدْحُورٌ مَفْعُولٌ مِنْ دَحَرَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ، أَيِ: اخْرُجْ خُرُوجَ مَذْمُومٍ مَطْرُودٍ، فَالذَّمُّ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالطَّرْدُ لِتَنْزِيهِ عَالَمِ الْقُدُسِ عَنْ مُخَالَطَتِهِ.
وَاللَّامُ فِي لَمَنْ تَبِعَكَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.
وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَاللَّامُ فِي لَأَمْلَأَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقسم، وَالْجَوَاب سَاد مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْهُمْ وَمِنْكَ، وَغُلِّبَ فِي الضَّمِيرِ حَالُ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْفَرْدَ الْمَوْجُودَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَلِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَّا وَعِيدُ اتِّبَاعِهِ فَبِالتَّبَعِ لَهُ، بِخِلَافِ الضَّمِيرِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ [٤٣] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: ٤٣] لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْإِعْرَاض عَن وعيده بِفِعْلِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ مَرْتَبَةِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِوَعِيدِ الْغَاوِينَ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
[١٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
أَعَادَ اللَّهُ أَمْرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلِ والثّاني: قَالَ: فَاهْبِطْ مِنْها- إِلَى قَوْله- فَاخْرُجْ [الْأَعْرَاف: ١٣].
وَمَذْءُومٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَأَمَهُ- مَهْمُوزًا- إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ ذَأْمًا وَقَدْ تُسَهَّلُ هَمْزَةُ ذَأَمَ فَتَصِيرُ أَلِفًا فَيُقَالُ ذَامَ وَلَا تُسَهَّلُ فِي بَقِيَّةِ تَصَارِيفِهِ.
مَدْحُورٌ مَفْعُولٌ مِنْ دَحَرَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ، أَيِ: اخْرُجْ خُرُوجَ مَذْمُومٍ مَطْرُودٍ، فَالذَّمُّ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالطَّرْدُ لِتَنْزِيهِ عَالَمِ الْقُدُسِ عَنْ مُخَالَطَتِهِ.
وَاللَّامُ فِي لَمَنْ تَبِعَكَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.
وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَاللَّامُ فِي لَأَمْلَأَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقسم، وَالْجَوَاب سَاد مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْهُمْ وَمِنْكَ، وَغُلِّبَ فِي الضَّمِيرِ حَالُ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْفَرْدَ الْمَوْجُودَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَلِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَّا وَعِيدُ اتِّبَاعِهِ فَبِالتَّبَعِ لَهُ، بِخِلَافِ الضَّمِيرِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ [٤٣] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: ٤٣] لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْإِعْرَاض عَن وعيده بِفِعْلِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ مَرْتَبَةِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِوَعِيدِ الْغَاوِينَ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ أَجْمَعِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِئَلَّا يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لِوَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُجْرِي الْعُمُومَ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْمَجْمُوع دون الْجمع، كَمَا يَقُولُونَ: قَتَلَتْ تَمِيمٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ (بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ) :
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بالجوّ عنْوَة [١٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَاف: ١٨] الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، فَالنِّدَاءُ وَالْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ يُقَالُ: أَيْ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ اخْرُجْ مِنْهَا وَقَالَ لِآدَمَ وَيا آدَمُ اسْكُنْ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا كَانَ لِبَعْضِ كَلَامِهِ اتِّصَالٌ وَتَنَاسُبٌ مَعَ بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ الْآخَرُ، مَعَ اتِّحَادِ مَقَامِ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَ مُتَعَدِّدِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيُقْبِلُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الرَّجُلِ عَسِيفًا عَلَيْهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْجَارِيَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى زَوْجَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»،
وَمِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٨، ٢٩] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْعَزِيزِ عَطَفَ خِطَابَ امْرَأَتِهِ عَلَى خِطَابِهِ لِيُوسُفَ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ أَجْمَعِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِئَلَّا يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لِوَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُجْرِي الْعُمُومَ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْمَجْمُوع دون الْجمع، كَمَا يَقُولُونَ: قَتَلَتْ تَمِيمٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ (بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ) :
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بالجوّ عنْوَة [١٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَاف: ١٨] الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، فَالنِّدَاءُ وَالْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ يُقَالُ: أَيْ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ اخْرُجْ مِنْهَا وَقَالَ لِآدَمَ وَيا آدَمُ اسْكُنْ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا كَانَ لِبَعْضِ كَلَامِهِ اتِّصَالٌ وَتَنَاسُبٌ مَعَ بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ الْآخَرُ، مَعَ اتِّحَادِ مَقَامِ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَ مُتَعَدِّدِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيُقْبِلُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الرَّجُلِ عَسِيفًا عَلَيْهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْجَارِيَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى زَوْجَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»،
وَمِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٨، ٢٩] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْعَزِيزِ عَطَفَ خِطَابَ امْرَأَتِهِ عَلَى خِطَابِهِ لِيُوسُفَ.
52
فَلَيْسَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ اسْكُنْ بِعَاطِفَةٍ عَلَى أَفْعَالِ الْقَوْلِ الَّتِي قَبْلَهَا حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ، لأنّ ذَلِك يفيت النُّكَتَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَذَلِكَ فِي حَضْرَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيهَا آدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ حُضُورًا.
وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِآدَمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِحُضُورِ إِبْلِيسَ بَعْدَ طَرْدِهِ زِيَادَةُ إِهَانَةٍ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ النِّعَمِ لِمَرْضِيٍّ عَلَيْهِ فِي حِينِ عِقَابِ مَنِ اسْتَأْهَلَ الْعِقَابَ زِيَادَةُ حَسْرَةٍ على المعاقب، وإظهارا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّ الْإِنْعَامِ وَمُسْتَحِقِّ الْعُقُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي مَا أَفَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا مِنْ قَبْلُ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَقْرِيرٍ: أَيِ ابْقَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ خَارِجَ الْجَنَّةِ فَالْأَمْرُ لِلْإِذْنِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَفِي هَذَا الْأَمْرِ، بِمَسْمَعٍ مِنْ إِبْلِيسَ، مَقْمَعَةٌ لِإِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْلِيسُ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ فَالْقَمْعُ ظَاهِرٌ إِذْ أَطْرَدَهُ اللَّهُ وَأَسْكَنَ الَّذِي تَكَبَّرَ هُوَ عَنِ السُّجُودِ إِلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ تَكَبُّرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ سَاكِنًا فِي الْجَنَّةِ قَبْلُ فَإِكْرَامُ الَّذِي احْتَقَرَهُ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ قَمْعٌ لَهُ، فَقَدْ دَلَّ مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ مِنْ قَمْعِ إِبْلِيسَ، زَائِدٍ عَلَى مَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمَوْقِعِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَوُجِدَ إِيثَارُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لِمَوْعِظَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ
مِمَّنْ يَحْذَرُ الشَّيْطَانَ وَلَا يَتَّبِعُ خُطُوَاتِهِ.
وَالنِّدَاءُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى آدَمَ وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ. وَالْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الْأَمْرِ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّنْكِيلِ بِإِبْلِيسَ لِأَنَّ ذِكْرَ ضَمِيرِهِ فِي مَقَامِ الْعَطْفِ يُذَكِّرُ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ، إِذِ الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الِاحْتِرَازَ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الضَّمِيرِ كَوْنُ إِظْهَارِهِ لِأَجْلِ تَحْسِينِ أَوْ تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، لِأَنَّ
وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِآدَمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِحُضُورِ إِبْلِيسَ بَعْدَ طَرْدِهِ زِيَادَةُ إِهَانَةٍ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ النِّعَمِ لِمَرْضِيٍّ عَلَيْهِ فِي حِينِ عِقَابِ مَنِ اسْتَأْهَلَ الْعِقَابَ زِيَادَةُ حَسْرَةٍ على المعاقب، وإظهارا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّ الْإِنْعَامِ وَمُسْتَحِقِّ الْعُقُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي مَا أَفَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا مِنْ قَبْلُ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَقْرِيرٍ: أَيِ ابْقَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ خَارِجَ الْجَنَّةِ فَالْأَمْرُ لِلْإِذْنِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَفِي هَذَا الْأَمْرِ، بِمَسْمَعٍ مِنْ إِبْلِيسَ، مَقْمَعَةٌ لِإِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْلِيسُ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ فَالْقَمْعُ ظَاهِرٌ إِذْ أَطْرَدَهُ اللَّهُ وَأَسْكَنَ الَّذِي تَكَبَّرَ هُوَ عَنِ السُّجُودِ إِلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ تَكَبُّرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ سَاكِنًا فِي الْجَنَّةِ قَبْلُ فَإِكْرَامُ الَّذِي احْتَقَرَهُ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ قَمْعٌ لَهُ، فَقَدْ دَلَّ مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ مِنْ قَمْعِ إِبْلِيسَ، زَائِدٍ عَلَى مَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمَوْقِعِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَوُجِدَ إِيثَارُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لِمَوْعِظَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ
مِمَّنْ يَحْذَرُ الشَّيْطَانَ وَلَا يَتَّبِعُ خُطُوَاتِهِ.
وَالنِّدَاءُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى آدَمَ وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ. وَالْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الْأَمْرِ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّنْكِيلِ بِإِبْلِيسَ لِأَنَّ ذِكْرَ ضَمِيرِهِ فِي مَقَامِ الْعَطْفِ يُذَكِّرُ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ، إِذِ الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الِاحْتِرَازَ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الضَّمِيرِ كَوْنُ إِظْهَارِهِ لِأَجْلِ تَحْسِينِ أَوْ تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، لِأَنَّ
53
تَصْحِيحَ أَوْ تَحْسِينَ الْعَطْفِ يَحْصُلُ بِكُلِّ فَاصِلٍ بَيْنَ الْفِعْل الرافع للمستتر وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ، لَا خُصُوصَ الضَّمِيرِ، كَأَنْ يُقَالَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنِ الْجَنَّةَ وَزَوْجُكَ، فَمَا اخْتِيرَ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ إِلَّا لِمَا يُفِيدُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ فَاتَنِي الْعِلْمُ بِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَضُمَّهَا إِلَيْهَا أَيْضًا.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يُعْلَمُ مِمَّا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
سِوَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥] وَكُلا بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ أَعَمُّ، فَالْآيَةُ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ آدَمَ بِأَنْ يَتَمَتَّعَ بِثِمَارِ الْجَنَّةِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَاجِلَةٌ تُؤْذِنُ بِتَمَامِ الْإِكْرَامِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ، وَكَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَنْغِيصٍ لِإِبْلِيسَ، الَّذِي تَكَبَّرَ وَفَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، كَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا إِعْلَامَ السَّامِعِينَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ الْغَضَبُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدُهُ، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّمَا أَفَادَتِ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِمِنَّةِ سُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِثِمَارِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِتَذْكِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَضْلِ آدَمَ وَبِذَنْبِهِ وَتَوْبَتِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْكَيْدُ الَّذِي هُمْ وَاقِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَظِيمٍ.
عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ [٣٥] لَمْ تَخْلُ عَنْ ذِكْرِ مَا فِيهِ تَكْرِمَةٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَغَداً لِأَنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُمْتَنِّ بِهِ أَوْ دُعَاءٌ لِآدَمَ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ عِدَّةُ مَكَارِمَ لِآدَمَ، وَقَدْ وُزِّعَتْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ أَغْرَاضِ الْقَصَصِ عَلَى مَوَاقِعِهَا، لِيَحْصُلَ تَجْدِيدُ الْفَائِدَةِ، تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، وَتَفَنُّنًا فِي أَسَالِيبِ الْحكَايَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنَ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّأَسِّي.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يُعْلَمُ مِمَّا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
سِوَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥] وَكُلا بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ أَعَمُّ، فَالْآيَةُ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ آدَمَ بِأَنْ يَتَمَتَّعَ بِثِمَارِ الْجَنَّةِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَاجِلَةٌ تُؤْذِنُ بِتَمَامِ الْإِكْرَامِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ، وَكَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَنْغِيصٍ لِإِبْلِيسَ، الَّذِي تَكَبَّرَ وَفَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، كَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا إِعْلَامَ السَّامِعِينَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ الْغَضَبُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدُهُ، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّمَا أَفَادَتِ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِمِنَّةِ سُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِثِمَارِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِتَذْكِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَضْلِ آدَمَ وَبِذَنْبِهِ وَتَوْبَتِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْكَيْدُ الَّذِي هُمْ وَاقِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَظِيمٍ.
عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ [٣٥] لَمْ تَخْلُ عَنْ ذِكْرِ مَا فِيهِ تَكْرِمَةٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَغَداً لِأَنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُمْتَنِّ بِهِ أَوْ دُعَاءٌ لِآدَمَ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ عِدَّةُ مَكَارِمَ لِآدَمَ، وَقَدْ وُزِّعَتْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ أَغْرَاضِ الْقَصَصِ عَلَى مَوَاقِعِهَا، لِيَحْصُلَ تَجْدِيدُ الْفَائِدَةِ، تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، وَتَفَنُّنًا فِي أَسَالِيبِ الْحكَايَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنَ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّأَسِّي.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
54
وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ شَجَرَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ ابْتِلَاءٍ. جَعَلَ اللَّهُ شَجَرَةً مُسْتَثْنَاةً مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنِ الْإِذْنِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا تَهْيِئَةً لِلتَّكْلِيفِ بِمُقَاوَمَةِ الشَّهْوَةِ لِامْتِثَالِ النَّهْيِ. فَلِذَلِكَ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ تَنَاوُلِهَا مَحْفُوفَةً بِالْأَشْجَارِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لِيَلْتَفِتَ إِلَيْهَا ذِهْنُهُمَا بِتَرْكِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِيَتَكَوَّنَ مُخْتَلَفُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ فِي عَقْلِ النَّوْعِ بِتَأْسِيسِهَا فِي أَصْلِ النَّوْعِ، فَتَنْتَقِلُ بَعْدَهُ إِلَى نَسْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ فِي تَكْوِينِ النَّوْعِ وَمِنْ مَظَاهِرِ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَرْبُوبِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ جَمِيعُ الْقُوَى بِالتَّدْرِيجِ فَلَا يَشُقُّ وَضْعُهَا دُفْعَةً عَلَى قَابِلِيَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ آدَمَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ خَاطِرُ الْمُخَالَفَةِ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَأَعْقَبَهُ الْأَكْلُ حُدُوثَ خَاطِرِ الشُّعُورِ بِمَا فِيهِ من نقايص أَدْرَكَهَا بِالْفِطْرَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَالَتْ مِنْهُ الْبَسَاطَةُ وَالسَّذَاجَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي طَبْعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَنْ تُثِيرَ فِي النَّفْسِ عِلْمَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذَا- عِنْدِي- بِعِيدٌ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ لَنَا هَيْئَةَ تَطَوُّرِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي خِلْقَةِ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ نَظِيرَ صُنْعِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَجَرَةٍ مُشَاهَدَةٌ وَقَدْ رُوِيَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ فِي تَعْيِينِ نَوْعِهَا وَذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَانْتَصَبَ: فَتَكُونا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْكَوْنُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَبِّبٌ عَلَى الْقُرْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَا عَلَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ كَجَوَابِ النَّفْيِ، أَنْ يُعْتَبَرَ التَّسَبُّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ أَوِ الْمَنْهِيِّ، بِخِلَافِ الْجَزْمِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْزَمُ الْمُسَبَّبُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ، وَالتَّسَبُّبُ يَنْشَأُ عَنِ الْفِعْلِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْجَزْمِ فَإِنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَوَابِ، تَشْبِيهًا بِالشَّرْطِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ تَشْبِيهًا لِلْإِنْشَاءِ بِالِاشْتِرَاطِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَجَرَةٍ مُشَاهَدَةٌ وَقَدْ رُوِيَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ فِي تَعْيِينِ نَوْعِهَا وَذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَانْتَصَبَ: فَتَكُونا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْكَوْنُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَبِّبٌ عَلَى الْقُرْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَا عَلَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ كَجَوَابِ النَّفْيِ، أَنْ يُعْتَبَرَ التَّسَبُّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ أَوِ الْمَنْهِيِّ، بِخِلَافِ الْجَزْمِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْزَمُ الْمُسَبَّبُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ، وَالتَّسَبُّبُ يَنْشَأُ عَنِ الْفِعْلِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْجَزْمِ فَإِنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَوَابِ، تَشْبِيهًا بِالشَّرْطِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ تَشْبِيهًا لِلْإِنْشَاءِ بِالِاشْتِرَاطِ.
55
وَالْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الظُّلْمِ: إِمَّا لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِلْقَائِهَا فِي الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْعِصْيَانَ ظُلْمٌ لِحَقِّ الرَّبِّ الْوَاجِب طَاعَته.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
كَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ بِقُرْبِ نَهْيِ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرْبٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ.
وَالْوَسْوَسَةُ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْمُدَانِي لِلْمُتَكَلِّمِ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَائِدًا:
وَسُمِّيَ إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَةً: لِأَنَّهُ أَلْقَى إِلَيْهِمَا تَسْوِيلًا خَفِيًّا مِنْ كَلَامٍ كَلَّمَهُمَا أَوِ انْفِعَالٍ فِي أَنْفُسِهِمَا. كَهَيْئَةِ الْغَاشِّ الْمَاكِرِ إِذْ يُخْفِي كَلَامًا عَنِ الْحَاضِرِينَ كَيْلَا يُفْسِدُوا عَلَيْهِ غِشَّهُ بِفَضْحِ مَضَارِّهِ فَأَلْقَى لَهُمَا كَلَامًا فِي صُورَةِ التَّخَافُتِ لِيُوهِمَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا وَأَنَّهُ يُخَافِتُ الْكَلَامَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى التَّعْبِيرُ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِالْقَوْلِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠] ثُمَّ دَرَجَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَسْمِيَةِ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ خَوَاطِرَ
[٢٠، ٢١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
كَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ بِقُرْبِ نَهْيِ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرْبٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ.
وَالْوَسْوَسَةُ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْمُدَانِي لِلْمُتَكَلِّمِ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَائِدًا:
| وَسْوَسَ يَدْعُو جَاهِدًا رَبَّ الْفَلَقْ | سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعُقُقْ |
56
فَاسِدَةً، وَسْوَسَةً تَقْرِيبًا لِمَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ لِلْأَفْهَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ [النَّاس: ٤] وَهَذَا التّفصيل لِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَيْدَهُ انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ خِطَابٌ شَامِلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ تَفْظِيعَ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ.
وَاللَّامُ فِي: لِيُبْدِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى حُدُوثِ خَاطِرِ الشَّرِّ فِي النّفوس وَظُهُور السوآت، فَشَبَّهَ حُصُولَ الْأَثَرِ عَقِبَ الْفِعْلِ بِحُصُولِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] وَإِنَّمَا الْتَقَطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَحُسْنُ ذَلِكَ أَن بدوّ سوآتهما مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالنَّظَرِ، فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ لِغَرَضِ إِيقَاعِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَى عَمَلِهِ، ثُمَّ لِغَرَضِ الْإِضْرَارِ بِهِمَا، إِذْ كَانَ يعلم أنّهما يعصيان الله بِالْأَكْلِ من الشّجرة، ولمّا كَانَ عدوّا لَهما كَانَ يَسْعَى إِلَى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضى اللَّهِ عَنْهُمَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى سُوءِ الْحَالِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَكَانَ مَظْهَرُ ذَلِكَ السوء إبداء السوآت، فَجُعِلَ مُفَصِّلُ الْعِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ عِنْدَ الْفَاعِلِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِضْرَارَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي طَبْعِهِ عَدَاوَةُ الْبَشَرِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
وَالْإِبْدَاءُ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ، فَالْإِبْدَاءُ كشف الشّيء وَإِظْهَارُهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ جَهْلِهِ يُقَالُ: بَدَا لِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا.
وَأسْندَ إبداء السوآت إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمجَاز الْعقلِيّ والسوآت جَمْعُ سَوْأَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ وَيُتَعَيَّرُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَمِنْ
وَاللَّامُ فِي: لِيُبْدِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى حُدُوثِ خَاطِرِ الشَّرِّ فِي النّفوس وَظُهُور السوآت، فَشَبَّهَ حُصُولَ الْأَثَرِ عَقِبَ الْفِعْلِ بِحُصُولِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] وَإِنَّمَا الْتَقَطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَحُسْنُ ذَلِكَ أَن بدوّ سوآتهما مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالنَّظَرِ، فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ لِغَرَضِ إِيقَاعِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَى عَمَلِهِ، ثُمَّ لِغَرَضِ الْإِضْرَارِ بِهِمَا، إِذْ كَانَ يعلم أنّهما يعصيان الله بِالْأَكْلِ من الشّجرة، ولمّا كَانَ عدوّا لَهما كَانَ يَسْعَى إِلَى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضى اللَّهِ عَنْهُمَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى سُوءِ الْحَالِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَكَانَ مَظْهَرُ ذَلِكَ السوء إبداء السوآت، فَجُعِلَ مُفَصِّلُ الْعِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ عِنْدَ الْفَاعِلِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِضْرَارَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي طَبْعِهِ عَدَاوَةُ الْبَشَرِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
وَالْإِبْدَاءُ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ، فَالْإِبْدَاءُ كشف الشّيء وَإِظْهَارُهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ جَهْلِهِ يُقَالُ: بَدَا لِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا.
وَأسْندَ إبداء السوآت إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمجَاز الْعقلِيّ والسوآت جَمْعُ سَوْأَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ وَيُتَعَيَّرُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَمِنْ
57
سَبِّ الْعَرَبِ قَوْلُهُمْ:
سَوْأَةً لَكَ، وَمِنْ تَلَهُّفِهِمْ: يَا سَوْأَتَا. وَيُكَنَّى بِالسَّوْأَةِ عَنِ الْعَوْرَةِ. وَمَعْنَى وُورِيَ عَنْهُمَا حُجِبَ عَنْهُمَا وَأُخْفِيَ، مُشْتَقًّا مِنَ الْمُوَارَاةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ وَالْإِخْفَاءُ وَتُطْلَقُ الْمُوَارَاةُ مَجَازًا عَلَى صَرْفِ الْمَرْءِ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ بِالْكِتْمَانِ أَو التّلبيس.
والسّوآت هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ السَّوْأَةِ لِلْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي زُبَيْدٍ:
فَتَكُونُ صِيغَةُ الْجَمْعِ على حَقِيقَتهَا، والسّوآت حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعَ السَّوْأَةِ، الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٢٦] وَعَلَى هَذَا فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤]. وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ مَعْنَى هَذَا الْإِبْدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [الْأَعْرَاف: ٢٢].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَلَى جُمْلَةِ فَوَسْوَسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ لَهُمَا وَسُوسَةً غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما إِلَخْ ثُمَّ ثَنَّى وَسْوَسَتَهُ بِأَنْ قَالَ مَا نَهَاكُمَا، وَلَوْ كَانَتْ جُمْلَةُ: مَا نَهاكُما إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَوَسْوَسَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ:
وَقالَ مَا نَهاكُما بِدُونِ عَاطِفٍ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ تَرَدَّدَا فِي الْأَخْذِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُرَاوِدُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُهُ، فِي سُورَةِ طه [١٢٠] : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى. فَإِنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لابتداء وسوسته فابتداء الْوَسْوَسَةَ بِالْإِجْمَالِ فَلَمْ يُعَيِّنْ لِآدَمَ الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اسْتِنْزَالًا لِطَاعَتِهِ، وَاسْتِزْلَالًا لِقَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَأْوِيلِ نَهْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي
سَوْأَةً لَكَ، وَمِنْ تَلَهُّفِهِمْ: يَا سَوْأَتَا. وَيُكَنَّى بِالسَّوْأَةِ عَنِ الْعَوْرَةِ. وَمَعْنَى وُورِيَ عَنْهُمَا حُجِبَ عَنْهُمَا وَأُخْفِيَ، مُشْتَقًّا مِنَ الْمُوَارَاةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ وَالْإِخْفَاءُ وَتُطْلَقُ الْمُوَارَاةُ مَجَازًا عَلَى صَرْفِ الْمَرْءِ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ بِالْكِتْمَانِ أَو التّلبيس.
والسّوآت هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ السَّوْأَةِ لِلْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي زُبَيْدٍ:
| لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ | يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْأَةِ السَّوْآءِ |
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَلَى جُمْلَةِ فَوَسْوَسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ لَهُمَا وَسُوسَةً غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما إِلَخْ ثُمَّ ثَنَّى وَسْوَسَتَهُ بِأَنْ قَالَ مَا نَهَاكُمَا، وَلَوْ كَانَتْ جُمْلَةُ: مَا نَهاكُما إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَوَسْوَسَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ:
وَقالَ مَا نَهاكُما بِدُونِ عَاطِفٍ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ تَرَدَّدَا فِي الْأَخْذِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُرَاوِدُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُهُ، فِي سُورَةِ طه [١٢٠] : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى. فَإِنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لابتداء وسوسته فابتداء الْوَسْوَسَةَ بِالْإِجْمَالِ فَلَمْ يُعَيِّنْ لِآدَمَ الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اسْتِنْزَالًا لِطَاعَتِهِ، وَاسْتِزْلَالًا لِقَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَأْوِيلِ نَهْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي
58
سُورَةِ الْأَعْرَافِ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ الْآيَةَ فَأَشَارَ إِلَى
الشَّجَرَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَهُمَا زِيَادَةً فِي إِغْرَائِهِمَا بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَدْ وُزِّعَتِ الْوَسْوَسَةُ وتذييلها على السّورتين عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الِاخْتِصَارِ فِي سَوْقِ الْقَصَصِ اكْتِفَاءً بِالْمَقْصُودِ مِنْ مَغْزَى الْقِصَّةِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْقَصَصُ مَقْصِدًا أَصْلِيًّا لِلتَّنْزِيلِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَى شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ تَبَيَّنَ لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَرَادَ إِبْلِيسُ إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِزَالَةَ خَوْفِهِ بِإِسَاءَةِ ظَنِّهِ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّهْيِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ، أَيْ مَا نَهَاكُمَا لِعِلَّةٍ وَغَرَضٍ إِلَّا لِغَرَضِ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ لَامِ التَّعْلِيلِ قَبْلَ (أَنْ) وَحَذْفُ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى (أَنْ) مُطَّرِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ.
وَكَوْنُهُمَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ: أَيْ كَوْنُكُمَا مَلَكَيْنِ هُوَ بَاعِثُ النَّهْيِ، إِلَّا أَنَّهُ بَاعِثٌ بِاعْتِبَارِ نَفْيِ حُصُولِهِ لَا بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ، أَيْ هُوَ عِلَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِتَقْدِيرِ: كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا. وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ حُذِفَتْ (لَا) بَعْدَ (أَنْ) وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ، وَبِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْكُوفِيُّونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ أَوْهَمَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَزَوْجَهُ أَنَّهُمَا مُتَمَكِّنَانِ أَنْ يَصِيرَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا مِنْ تَدْجِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ إِذْ أَلْفَى آدَمَ وَزَوْجَهُ غَيْرَ مُتَبَصِّرَيْنِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا عَالِمَيْنِ الْمِقْدَارَ الْمُمْكِنَ فِي انْقِلَابِ الْأَعْيَانِ وَتَطَوُّرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَكَانَا يُشَاهِدَانِ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَزُلْفَاهُمْ وَسَعَةَ مَقْدِرَتِهِمْ، فَأَطْمَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَنْ يَصِيرَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ الْبَلِيغُ أَيْ إِلَّا أَنْ تَكُونَا فِي الْقُرْبِ وَالزُّلْفَى كَالْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهُمَا بِمَا يَعْرِفَانِ مِنْ كَمَالِ الْمَلَائِكَةِ.
الشَّجَرَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَهُمَا زِيَادَةً فِي إِغْرَائِهِمَا بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَدْ وُزِّعَتِ الْوَسْوَسَةُ وتذييلها على السّورتين عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الِاخْتِصَارِ فِي سَوْقِ الْقَصَصِ اكْتِفَاءً بِالْمَقْصُودِ مِنْ مَغْزَى الْقِصَّةِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْقَصَصُ مَقْصِدًا أَصْلِيًّا لِلتَّنْزِيلِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَى شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ تَبَيَّنَ لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَرَادَ إِبْلِيسُ إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِزَالَةَ خَوْفِهِ بِإِسَاءَةِ ظَنِّهِ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّهْيِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ، أَيْ مَا نَهَاكُمَا لِعِلَّةٍ وَغَرَضٍ إِلَّا لِغَرَضِ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ لَامِ التَّعْلِيلِ قَبْلَ (أَنْ) وَحَذْفُ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى (أَنْ) مُطَّرِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ.
وَكَوْنُهُمَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ: أَيْ كَوْنُكُمَا مَلَكَيْنِ هُوَ بَاعِثُ النَّهْيِ، إِلَّا أَنَّهُ بَاعِثٌ بِاعْتِبَارِ نَفْيِ حُصُولِهِ لَا بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ، أَيْ هُوَ عِلَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِتَقْدِيرِ: كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا. وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ حُذِفَتْ (لَا) بَعْدَ (أَنْ) وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ، وَبِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْكُوفِيُّونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ أَوْهَمَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَزَوْجَهُ أَنَّهُمَا مُتَمَكِّنَانِ أَنْ يَصِيرَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا مِنْ تَدْجِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ إِذْ أَلْفَى آدَمَ وَزَوْجَهُ غَيْرَ مُتَبَصِّرَيْنِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا عَالِمَيْنِ الْمِقْدَارَ الْمُمْكِنَ فِي انْقِلَابِ الْأَعْيَانِ وَتَطَوُّرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَكَانَا يُشَاهِدَانِ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَزُلْفَاهُمْ وَسَعَةَ مَقْدِرَتِهِمْ، فَأَطْمَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَنْ يَصِيرَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ الْبَلِيغُ أَيْ إِلَّا أَنْ تَكُونَا فِي الْقُرْبِ وَالزُّلْفَى كَالْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهُمَا بِمَا يَعْرِفَانِ مِنْ كَمَالِ الْمَلَائِكَةِ.
59
وَقَوْلُهُ: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ عَطْفٌ عَلَى: أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ وَأَصْلُ (أَوِ) الدَّلَالَةُ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَجْوِيزِ حُصُولِ الْمُتَعَاطِفَاتِ كُلِّهَا فَتَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَلِلتَّجْوِيزِ بَعْدَ الْخَبَرِ أَوْ لِلشَّكِّ أَمْ كَانَ مَعَ مَنْعِ الْبَعْضِ عِنْدَ تَجْوِيزِ الْبَعْضِ فَتَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلِلشَّكِّ أَوِ التَّرْدِيدِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَالتَّرْدِيدُ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُنَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْآكِلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَكُونُ مَلَكًا وَخَالِدًا، كَمَا قَالَ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه [١٢٠] : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَجُعِلَ نَهْيُ اللَّهِ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ لَا يَعْدُو إِرَادَةَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ حِرْمَانَهُمَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ
قَدْ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْخُلُودَ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَشْرَ وَالْبَعْثَ مَكْتُوبٌ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَلَقَّى مِنَ الْوَحْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَقاسَمَهُما أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِمَا يُوهِمُ صِدْقَهُ، وَالْمُقَاسَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ أَقْسَمَ إِذَا حَلَفَ، حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ عِنْدَ صَوْغِ الْمُفَاعَلَةِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي الْمُكَارَمَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَيْسَتْ لِحُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَنَظِيرُهَا: عَافَاهُ اللَّهُ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ تُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَأَقْسَمَ فَجُعِلَ طَلَبُهُمَا الْقَسَمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، أَيْ فَتكون المفاعلة مجَازًا، قَالَ أَو أقسم لَهما بالنّصيحة وأقسما لَهُ بقبولها، فَتَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى بَابِهَا، وَتَأْكِيدُ إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالنُّصْحِ لَهُمَا بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ دَلِيلٌ عَلَى مَبْلَغِ شَكِّ آدَمَ وَزَوْجِهِ فِي نُصْحِهِ لَهُمَا، وَمَا رَأَى عَلَيْهِمَا مِنْ مَخَائِلِ التَّرَدُّدِ فِي صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا شَكَّا فِي نُصْحِهِ لِأَنَّهُمَا وَجَدَا مَا يَأْمُرُهُمَا مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمَانِ إِرَادَتَهُ بِهِمَا الْخَيْرَ عِلْمًا حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ.
[٢٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٢]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
قَدْ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْخُلُودَ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَشْرَ وَالْبَعْثَ مَكْتُوبٌ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَلَقَّى مِنَ الْوَحْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَقاسَمَهُما أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِمَا يُوهِمُ صِدْقَهُ، وَالْمُقَاسَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ أَقْسَمَ إِذَا حَلَفَ، حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ عِنْدَ صَوْغِ الْمُفَاعَلَةِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي الْمُكَارَمَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَيْسَتْ لِحُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَنَظِيرُهَا: عَافَاهُ اللَّهُ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ تُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَأَقْسَمَ فَجُعِلَ طَلَبُهُمَا الْقَسَمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، أَيْ فَتكون المفاعلة مجَازًا، قَالَ أَو أقسم لَهما بالنّصيحة وأقسما لَهُ بقبولها، فَتَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى بَابِهَا، وَتَأْكِيدُ إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالنُّصْحِ لَهُمَا بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ دَلِيلٌ عَلَى مَبْلَغِ شَكِّ آدَمَ وَزَوْجِهِ فِي نُصْحِهِ لَهُمَا، وَمَا رَأَى عَلَيْهِمَا مِنْ مَخَائِلِ التَّرَدُّدِ فِي صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا شَكَّا فِي نُصْحِهِ لِأَنَّهُمَا وَجَدَا مَا يَأْمُرُهُمَا مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمَانِ إِرَادَتَهُ بِهِمَا الْخَيْرَ عِلْمًا حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ.
[٢٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٢]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
60
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٠] وَمَا عطف عَلَيْهَا.
وَمَعْنَى فَدَلَّاهُما أَقْدَمَهُمَا فَفَعَلَا فِعْلًا يَطْمَعَانِ بِهِ فِي نَفْعٍ فَخَابَا فِيهِ، وَأَصْلُ دَلَّى، تَمْثِيلُ حَالِ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا مِنْ مَظِنَّتِهِ فَلَا يَجِدُهُ بِحَالِ مَنْ يُدَلِّي دَلْوَهُ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْ مَائِهَا فَلَا يَجِدُ فِيهَا مَاءً فَيُقَالُ: دَلَّى فُلَانٌ، يُقَالُ دَلَّى كَمَا يُقَالُ أَدْلَى.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ دَلَّاهُمَا مُلَابِسًا لِلْغُرُورِ أَيْ لِاسْتِيلَاءِ الْغُرُورِ عَلَيْهِ إِذِ الْغُرُورُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ نَافِعًا بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ وَلَا نَفْعَ فِيهِ عِنْدَ تَجْرِبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَالُ دَلَّاهُ بِغُرُورٍ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الطَّمَعِ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ أَبِي جُنْدُبٍ الْهُذَلِيِّ (هُوَ ابْنُ مُرَّةَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْرِيفِهِ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا كَانَ قَدْ أَخَذَ قَوْلَهُ كَمَنْ يُدَلَّى بِالْغُرُورِ مِنَ الْقُرْآنِ، وإلّا كَانَ مثلا مُسْتَعْمَلًا مِنْ قَبْلُ) :
وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَفِعْلُ دَلَّى يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِذَا جُعِلَ غَيْرُهُ مُدَلَّيًا، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَفِيهِ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى لَا جَدْوَى فِي ذِكْرِهَا.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ عَلَى أَنَّهُمَا فَعَلَا مَا وَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَوْلُهُ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ تَرْتِيبٌ عَلَى دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهَا بِإِيرَادِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي جُمْلَةِ شَرْطِ لَمَّا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَكَلَا مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَاقَاهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا.
وَالذَّوْقُ إِدْرَاكُ طَعْمِ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ يَحْصُلُ عِنْدَ
وَمَعْنَى فَدَلَّاهُما أَقْدَمَهُمَا فَفَعَلَا فِعْلًا يَطْمَعَانِ بِهِ فِي نَفْعٍ فَخَابَا فِيهِ، وَأَصْلُ دَلَّى، تَمْثِيلُ حَالِ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا مِنْ مَظِنَّتِهِ فَلَا يَجِدُهُ بِحَالِ مَنْ يُدَلِّي دَلْوَهُ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْ مَائِهَا فَلَا يَجِدُ فِيهَا مَاءً فَيُقَالُ: دَلَّى فُلَانٌ، يُقَالُ دَلَّى كَمَا يُقَالُ أَدْلَى.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ دَلَّاهُمَا مُلَابِسًا لِلْغُرُورِ أَيْ لِاسْتِيلَاءِ الْغُرُورِ عَلَيْهِ إِذِ الْغُرُورُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ نَافِعًا بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ وَلَا نَفْعَ فِيهِ عِنْدَ تَجْرِبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَالُ دَلَّاهُ بِغُرُورٍ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الطَّمَعِ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ أَبِي جُنْدُبٍ الْهُذَلِيِّ (هُوَ ابْنُ مُرَّةَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْرِيفِهِ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا كَانَ قَدْ أَخَذَ قَوْلَهُ كَمَنْ يُدَلَّى بِالْغُرُورِ مِنَ الْقُرْآنِ، وإلّا كَانَ مثلا مُسْتَعْمَلًا مِنْ قَبْلُ) :
| أَحُصُّ فَلَا أُجِيرُ وَمَنْ أَجِرْهُ | فَلَيْسَ كَمَنْ يُدَلَّى بِالْغُرُورِ |
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ عَلَى أَنَّهُمَا فَعَلَا مَا وَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقَوْلُهُ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ تَرْتِيبٌ عَلَى دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهَا بِإِيرَادِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي جُمْلَةِ شَرْطِ لَمَّا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَكَلَا مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَاقَاهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا.
وَالذَّوْقُ إِدْرَاكُ طَعْمِ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ يَحْصُلُ عِنْدَ
61
ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بُدُوَّ سَوْآتِهِمَا حَصَلَ عِنْدَ أَوَّلِ إِدْرَاكِ طَعْمِ الشَّجَرَةِ، دَلَالَةٌ عَلَى سُرْعَةِ تَرَتُّبِ الْأَمْرِ الْمَحْذُورِ عِنْدَ أَوَّلِ الْمُخَالَفَةِ، فَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذِهِ أَوَّلُ وَسْوَسَةٍ صَدَرَتْ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَأَوَّلُ تَضْلِيلٍ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ.
وَقَدْ أَفَادَتْ (لَمَّا) تَوْقِيتَ بُدُوِّ سَوْآتِهِمَا بِوَقْتِ ذَوْقِهِمَا الشَّجَرَةَ، لِأَنَّ (لَمَّا) حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِمُجَرَّدِ تَوْقِيتِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا بِزَمَانِ وُجُودِ شَرْطِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ (فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ لِوُجُودٍ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ، يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا، وَإِذْ قَدِ الْتَزَمُوا فِيهَا تَقْدِيمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ لَا على الموقت، شَابَهَتْ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ فَقَالُوا حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ كَمَا قَالُوا فِي (لَوْ) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، وَفِي (لَوْلَا) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَلَكِنَّ اللَّامَ فِي عِبَارَةِ النُّحَاةِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى لَوْ وَلَوْلَا، هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، بِخِلَافِهَا فِي عِبَارَتِهِمْ فِي (لَمَّا) لِأَنَّ (لَمَّا) لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى سَبَبٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧] إِذْ لَيْسَ الْإِنْجَاءُ بِسَبَبٍ لِلْإِعْرَاضِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ تَقَارُنٌ كَثُرَ فِي شَرْطِ (لَمَّا) وَجَوَابِهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ دُونَ اطِّرَادٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما لَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ظُهُورِ السَّوْآتِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّقَارُنَ هُوَ لِكَوْنِ الْأَمْرَيْنِ مُسَبَّبَيْنِ عَنْ سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَاطِرُ السُّوءِ الَّذِي نَفَثَهُ الشَّيْطَانُ فِيهِمَا، فَسَبَّبَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلتَّعَالِيمِ الصَّالِحَةِ، وَالشُّعُورَ بِالنَّقِيصَةِ: فَقَدْ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ فِي طَوْرِ سَذَاجَةِ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، شَبِيهَيْنِ بِالْمَلَائِكَةِ لَا يُقْدِمَانِ عَلَى مَفْسَدَةٍ
وَهَذِهِ أَوَّلُ وَسْوَسَةٍ صَدَرَتْ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَأَوَّلُ تَضْلِيلٍ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ.
وَقَدْ أَفَادَتْ (لَمَّا) تَوْقِيتَ بُدُوِّ سَوْآتِهِمَا بِوَقْتِ ذَوْقِهِمَا الشَّجَرَةَ، لِأَنَّ (لَمَّا) حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِمُجَرَّدِ تَوْقِيتِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا بِزَمَانِ وُجُودِ شَرْطِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ (فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ لِوُجُودٍ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ، يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا، وَإِذْ قَدِ الْتَزَمُوا فِيهَا تَقْدِيمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ لَا على الموقت، شَابَهَتْ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ فَقَالُوا حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ كَمَا قَالُوا فِي (لَوْ) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، وَفِي (لَوْلَا) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَلَكِنَّ اللَّامَ فِي عِبَارَةِ النُّحَاةِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى لَوْ وَلَوْلَا، هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، بِخِلَافِهَا فِي عِبَارَتِهِمْ فِي (لَمَّا) لِأَنَّ (لَمَّا) لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى سَبَبٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧] إِذْ لَيْسَ الْإِنْجَاءُ بِسَبَبٍ لِلْإِعْرَاضِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ تَقَارُنٌ كَثُرَ فِي شَرْطِ (لَمَّا) وَجَوَابِهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ دُونَ اطِّرَادٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما لَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ظُهُورِ السَّوْآتِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّقَارُنَ هُوَ لِكَوْنِ الْأَمْرَيْنِ مُسَبَّبَيْنِ عَنْ سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَاطِرُ السُّوءِ الَّذِي نَفَثَهُ الشَّيْطَانُ فِيهِمَا، فَسَبَّبَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلتَّعَالِيمِ الصَّالِحَةِ، وَالشُّعُورَ بِالنَّقِيصَةِ: فَقَدْ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ فِي طَوْرِ سَذَاجَةِ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، شَبِيهَيْنِ بِالْمَلَائِكَةِ لَا يُقْدِمَانِ عَلَى مَفْسَدَةٍ
62
وَلَا مَضَرَّةٍ، وَلَا يُعْرِضَانِ عَنْ نُصْحِ نَاصِحٍ
عَلِمَا صِدْقَهُ، إِلَى خَبَرِ مُخْبِرٍ يَشُكَّانِ فِي صِدْقِهِ، وَيَتَوَقَّعَانِ غُرُورَهُ، وَلَا يَشْعُرَانِ بِالسُّوءِ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا فِي ذَرَائِعِهَا وَمُقَارَنَاتِهَا. لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمَا فِي عَالَمٍ مَلَكِيٍّ. ثُمَّ تَطَوَّرَتْ عَقْلِيَّتُهُمَا إِلَى طَوْرِ التَّصَرُّفِ فِي تَغْيِيرِ الْوِجْدَانِ. فَتَكَوَّنَ فِيهِمَا فِعْلُ مَا نُهِيَا عَنْهُ. وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ الشُّعُورُ بِالسُّوءِ لِلْغَيْرِ، وَبِالسُّوءِ لِلنَّفْسِ، وَالشُّعُورُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى السُّوءِ. وَتُقَارِنُ السُّوءَ وَتُلَازِمُهُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ «السَّوْآتُ» بِمَعْنَى مَا يَسُوءُ مِنَ النَّقَائِصِ، أَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَوْرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: ٢٠] فَبُدُوُّ ذَلِكَ لَهُمَا مُقَارِنٌ ذَوْقَ الشَّجَرَةِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَنَبْذُ النَّصِيحَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرُورِ وَالِاغْتِرَارِ بِقِسْمِهِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا نَشَأَتْ فِيهِمَا فِكْرَةُ السُّوءِ فِي الْعَمَلِ، وَإِرَادَةُ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، قَارَنَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْفِعْلِ نَشْأَةَ الِانْفِعَالِ بِالْأَشْيَاءِ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا الْأَفْعَالُ السَّيِّئَةُ، أَوْ تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَيْهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ آلَةِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ، وَمِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ مَعْرِفَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلَازِمُ السُّوءَ وَتُقَارِنُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً فِي ذَاتِهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ اللَّيْلِ مِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ أَوِ الْفِرَارِ، فَتَنْشَأُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ كَرَاهِيَتُهُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى إِصْدَارِ الشُّرُورِ، فَالسَّوْآتُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُطْلَقُ مَا يَسُوءُ مِنْهُمَا وَنَقَائِصُهُمَا فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْعَوْرَةُ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، أَعْنِي الشَّيْءَ الْمُقَارِنَ لِمَا يَسُوءُ، لِأَنَّ الْعَوْرَةَ تُقَارِنُ فِعْلًا سَيِّئًا مِنَ النَّقَائِصِ الْمَحْسُوسَةِ، وَاللَّهُ أَوْجَدَهَا سَبَبَ مَصَالِحٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا شَعَرَا بِمُقَارَنَةِ شَيْءٍ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ نَشَأَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّطَوُّرُ، الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَطَوُّرًا فِطْرِيًّا فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَالطِّفْلُ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ يَكُونُ بَرِيئًا مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ فَلَا يَسْتَاءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَ بِهِ مُؤْلِمٌ خَارِجِيٌّ،
عَلِمَا صِدْقَهُ، إِلَى خَبَرِ مُخْبِرٍ يَشُكَّانِ فِي صِدْقِهِ، وَيَتَوَقَّعَانِ غُرُورَهُ، وَلَا يَشْعُرَانِ بِالسُّوءِ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا فِي ذَرَائِعِهَا وَمُقَارَنَاتِهَا. لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمَا فِي عَالَمٍ مَلَكِيٍّ. ثُمَّ تَطَوَّرَتْ عَقْلِيَّتُهُمَا إِلَى طَوْرِ التَّصَرُّفِ فِي تَغْيِيرِ الْوِجْدَانِ. فَتَكَوَّنَ فِيهِمَا فِعْلُ مَا نُهِيَا عَنْهُ. وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ الشُّعُورُ بِالسُّوءِ لِلْغَيْرِ، وَبِالسُّوءِ لِلنَّفْسِ، وَالشُّعُورُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى السُّوءِ. وَتُقَارِنُ السُّوءَ وَتُلَازِمُهُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ «السَّوْآتُ» بِمَعْنَى مَا يَسُوءُ مِنَ النَّقَائِصِ، أَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَوْرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: ٢٠] فَبُدُوُّ ذَلِكَ لَهُمَا مُقَارِنٌ ذَوْقَ الشَّجَرَةِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَنَبْذُ النَّصِيحَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرُورِ وَالِاغْتِرَارِ بِقِسْمِهِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا نَشَأَتْ فِيهِمَا فِكْرَةُ السُّوءِ فِي الْعَمَلِ، وَإِرَادَةُ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، قَارَنَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْفِعْلِ نَشْأَةَ الِانْفِعَالِ بِالْأَشْيَاءِ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا الْأَفْعَالُ السَّيِّئَةُ، أَوْ تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَيْهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ آلَةِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ، وَمِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ مَعْرِفَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلَازِمُ السُّوءَ وَتُقَارِنُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً فِي ذَاتِهَا، كَمَا تَنْشَأُ مَعْرِفَةُ اللَّيْلِ مِنْ فِكْرَةِ السَّرِقَةِ أَوِ الْفِرَارِ، فَتَنْشَأُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ كَرَاهِيَتُهُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى إِصْدَارِ الشُّرُورِ، فَالسَّوْآتُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُطْلَقُ مَا يَسُوءُ مِنْهُمَا وَنَقَائِصُهُمَا فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْعَوْرَةُ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، أَعْنِي الشَّيْءَ الْمُقَارِنَ لِمَا يَسُوءُ، لِأَنَّ الْعَوْرَةَ تُقَارِنُ فِعْلًا سَيِّئًا مِنَ النَّقَائِصِ الْمَحْسُوسَةِ، وَاللَّهُ أَوْجَدَهَا سَبَبَ مَصَالِحٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا شَعَرَا بِمُقَارَنَةِ شَيْءٍ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ نَشَأَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّطَوُّرُ، الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَطَوُّرًا فِطْرِيًّا فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَالطِّفْلُ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ يَكُونُ بَرِيئًا مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ فَلَا يَسْتَاءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَ بِهِ مُؤْلِمٌ خَارِجِيٌّ،
63
ثُمَّ إِذَا تَرَعْرَعَ أَخَذَتْ خَوَاطِرُ السُّوءِ تَنْتَابُهُ فِي بَاطِنِ نَفْسِهِ فَيَفْرِضُهَا وَيُوَلِّدُهَا، وَيَنْفَعِلُ بِهَا أَوْ يَفْعَلُ بِمَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حِكَايَةٌ لِابْتِدَاءِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِسَتْرِ نَقَائِصِهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكْرَهُهُ، وَعَلَى تَحْسِينِ حَالِهِ بِحَسْبِ مَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِ خَيَالُهُ، وَهَذَا أَوَّلُ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي عَقْلَيْ أَصْلَيِ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا شَعَرَا بِسَوْآتِهِمَا بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، عَرَفَا بَعْضَ جُزْئِيَّاتِهَا، وَهِيَ الْعَوْرَةُ وَحَدَثَ فِي نُفُوسِهِمَا الشُّعُورُ بِقُبْحِ بُرُوزِهَا، فَشَرَعَا يُخْفِيَانِهَا عَنْ أَنْظَارِهِمَا اسْتِبْشَاعًا وَكَرَاهِيَةً، وَإِذْ قَدْ شَعَرَا بِذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ
الْفِطْرِيِّ، حَيْثُ لَا مُلَقِّنَ يُلَقِّنُهُمَا ذَلِكَ، وَلَا تَعْلِيمَ يُعَلِّمُهُمَا، تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قَبِيحٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَأَنَّ سَتْرَهَا مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا مِنْ حُكْمِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّذِي قَارَنَ الْبَشَرَ فِي نَشْأَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ فِطْرِيٌّ مُتَأَصِّلٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ بِتَقْرِيرِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، مُشَايَعَةً لِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِ الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ طَوِيلَةٍ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِهَا عَوْنًا عَلَى تَهْذِيبِ طِبَاعِهِ، وَنَزْعِ الْجَلَافَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ النَّوْعِ، لِأَنَّ الْوَاهِمَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ، ثُمَّ أَخَذَتِ الشَّرَائِعُ، وَوَصَايَا الْحُكَمَاءِ، وَآدَابُ الْمُرَبِّينَ، تُزِيلُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ مُتَابَعَةَ الْأَوْهَامِ تَدْرِيجًا مَعَ الزَّمَانِ، وَلَا يُبْقُونَ مِنْهَا إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِبْقَاءِ الْفَضِيلَةِ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ فَكَانَ نَوْطُ الْأَحْكَامِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمُورِ الْوَهْمِيَّةِ مُلْغًى فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، كَمَا فَصَّلْتُهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ» وَكِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِسْلَامِ».
وَالْخَصْفُ حَقِيقَتُهُ تَقْوِيَةُ الطَّبَقَةِ مِنَ النَّعْلِ بِطَبَقَةٍ أُخْرَى لِتَشْتَدَّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مُطْلَقِ التَّقْوِيَةِ لِلْخِرْقَةِ وَالثَّوْبِ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ خَصِيفٌ أَيْ مَخْصُوفٌ أَيْ غَلِيظُ النَّسْجِ لَا يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ، فَمَعْنَى يَخْصِفَانِ يَضَعَانِ عَلَى عَوْرَاتِهِمَا الْوَرَقَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ كَفِعْلِ الْخَاصِفِ، وَضْعًا مُلْزَقًا مُتَمَكَّنًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ هُنَا إِذْ لَمْ يَقُلْ يَخْصِفَانِ وَرَقَ الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حِكَايَةٌ لِابْتِدَاءِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِسَتْرِ نَقَائِصِهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكْرَهُهُ، وَعَلَى تَحْسِينِ حَالِهِ بِحَسْبِ مَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِ خَيَالُهُ، وَهَذَا أَوَّلُ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي عَقْلَيْ أَصْلَيِ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا شَعَرَا بِسَوْآتِهِمَا بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، عَرَفَا بَعْضَ جُزْئِيَّاتِهَا، وَهِيَ الْعَوْرَةُ وَحَدَثَ فِي نُفُوسِهِمَا الشُّعُورُ بِقُبْحِ بُرُوزِهَا، فَشَرَعَا يُخْفِيَانِهَا عَنْ أَنْظَارِهِمَا اسْتِبْشَاعًا وَكَرَاهِيَةً، وَإِذْ قَدْ شَعَرَا بِذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ
الْفِطْرِيِّ، حَيْثُ لَا مُلَقِّنَ يُلَقِّنُهُمَا ذَلِكَ، وَلَا تَعْلِيمَ يُعَلِّمُهُمَا، تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قَبِيحٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَأَنَّ سَتْرَهَا مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا مِنْ حُكْمِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّذِي قَارَنَ الْبَشَرَ فِي نَشْأَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ فِطْرِيٌّ مُتَأَصِّلٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ بِتَقْرِيرِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، مُشَايَعَةً لِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِ الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ طَوِيلَةٍ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِهَا عَوْنًا عَلَى تَهْذِيبِ طِبَاعِهِ، وَنَزْعِ الْجَلَافَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ النَّوْعِ، لِأَنَّ الْوَاهِمَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ، ثُمَّ أَخَذَتِ الشَّرَائِعُ، وَوَصَايَا الْحُكَمَاءِ، وَآدَابُ الْمُرَبِّينَ، تُزِيلُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ مُتَابَعَةَ الْأَوْهَامِ تَدْرِيجًا مَعَ الزَّمَانِ، وَلَا يُبْقُونَ مِنْهَا إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِبْقَاءِ الْفَضِيلَةِ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ فَكَانَ نَوْطُ الْأَحْكَامِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمُورِ الْوَهْمِيَّةِ مُلْغًى فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، كَمَا فَصَّلْتُهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ» وَكِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِسْلَامِ».
وَالْخَصْفُ حَقِيقَتُهُ تَقْوِيَةُ الطَّبَقَةِ مِنَ النَّعْلِ بِطَبَقَةٍ أُخْرَى لِتَشْتَدَّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مُطْلَقِ التَّقْوِيَةِ لِلْخِرْقَةِ وَالثَّوْبِ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ خَصِيفٌ أَيْ مَخْصُوفٌ أَيْ غَلِيظُ النَّسْجِ لَا يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ، فَمَعْنَى يَخْصِفَانِ يَضَعَانِ عَلَى عَوْرَاتِهِمَا الْوَرَقَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ كَفِعْلِ الْخَاصِفِ، وَضْعًا مُلْزَقًا مُتَمَكَّنًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ هُنَا إِذْ لَمْ يَقُلْ يَخْصِفَانِ وَرَقَ الْجَنَّةِ.
64
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَجُوزُ كَوْنُهَا اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ يَخْصِفانِ أَيْ يَخْصِفَانِ بَعْضَ وَرَقِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ: «يَخْصِفانِ وَالتَّقْدِيرُ: يَخْصِفَانِ خَصْفًا مِنْ ورق الْجنَّة.
[٢٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٣]
قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا)، فَهُوَ مِمَّا حَصَلَ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ. فَإِنَّهُمَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا فَطَفِقَا يَخْصِفَانِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ نِدَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمَا.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْتِيبِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: ٧٧] وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ»
وَلَمْ أَعْلَمْ أَنِّي سُبِقْتُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَأَخَّرَ نِدَاءُ الرَّبِّ إِيَّاهُمَا إِلَى أَنْ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَتَحَيَّلَا لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمَا لِيَكُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَقْعٌ مَكِينٌ مِنْ نُفُوسِهِمَا، حِينَ يَقَعُ بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُمَا مَفَاسِدُ عِصْيَانِهِمَا، فَيَعْلَمَا أَنَّ الْخَيْرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ فِي عِصْيَانِهِ ضُرًّا.
وَالنِّدَاءُ حَقِيقَتُهُ ارْتِفَاعُ الصَّوْتِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ، قَالَ مِدْثَارُ بْنُ شَيْبَانَ النَّمِرِيُّ:
[٢٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٣]
قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا)، فَهُوَ مِمَّا حَصَلَ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ. فَإِنَّهُمَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا فَطَفِقَا يَخْصِفَانِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ نِدَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمَا.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْتِيبِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: ٧٧] وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ»
وَلَمْ أَعْلَمْ أَنِّي سُبِقْتُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَأَخَّرَ نِدَاءُ الرَّبِّ إِيَّاهُمَا إِلَى أَنْ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَتَحَيَّلَا لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمَا لِيَكُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَقْعٌ مَكِينٌ مِنْ نُفُوسِهِمَا، حِينَ يَقَعُ بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُمَا مَفَاسِدُ عِصْيَانِهِمَا، فَيَعْلَمَا أَنَّ الْخَيْرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ فِي عِصْيَانِهِ ضُرًّا.
وَالنِّدَاءُ حَقِيقَتُهُ ارْتِفَاعُ الصَّوْتِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ، قَالَ مِدْثَارُ بْنُ شَيْبَانَ النَّمِرِيُّ:
| فَقلت ادعِي وأدعوا إِنَّ أَنْدَى | لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ |
| نَادَيْتُ إِنَّ الْحُبَّ أَشْعَرَنِي | قَتْلًا وَمَا أَحْدَثْتُ مِنْ ذَنْبِ |
وَظَاهِرُ إِسْنَادِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمَا بِكَلَامٍ بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ، مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَهَذَا وَاقِعٌ قَبْلَ الْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مُوسَى هُوَ أَوَّلُ نَبِيءٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ آدَمَ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْمَلَائِكَةِ.
وَجُمْلَة: ألم أنهاكما فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ (نَادَاهُمَا)، وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي ألم أنهاكما لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأُولِيَ حَرْفُ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي
التَّقْرِيرِ، لِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَاقع فانتفاؤه منتفا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ أَدَاةُ التَّقْرِيرِ وَأَقَرَّ الْمُقَرِّرُ بِضِدِّ النَّفْيِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْوَى فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِمُوجَبِهِ، لأنّه قد هييء لَهُ سَبِيلُ الْإِنْكَارِ، لَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ إِنْكَارًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٠]، وَلِذَلِكَ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا.
66
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَأَقُلْ لَكُما عَلَى جُمْلَةِ: أَنْهَكُما لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَشْفُوعًا بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ الْمُغْرِي لَهُمَا بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَهُمَا قَدْ أَضَاعَا وَصِيَّتَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ هُنَا تَذْكِيرُ الْأُمَّةِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِأَصْلِ نَوْعِ الْبَشَرِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا عَدَاوَةٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، فَيَحْذَرُوا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَمَعْدُودٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جُبِلَ على الْخبث والخري كَانَ يَدْعُو إِلَى ذَلِك بطبعه وَكَانَ لَا يَهْنَأُ لَهُ بَالٌ مَا دَامَ عَدُوُّهُ وَمَحْسُودُهُ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ.
وَالْمُبِينُ أَصْلُهُ الْمُظْهِرُ، أَيْ لِلْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَتَتَبَّعُ آثَارَ وَسْوَسَتِهِ وَتَغْرِيرِهِ، وَمَا عَامَلَ بِهِ آدَمَ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ إِلَى حِينِ غُرُورِهِ بِهِ فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبَانَةٌ عَنْ عَدَاوَتِهِ، وَوَجْهُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ أَنَّ طَبْعَهُ يُنَافِي مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ الْفِطْرِيِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَالَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَصْفِ الشَّدِيدِ أَنْ يَظْهَرَ لِلْعِيَانِ.
وَقَدْ قَالَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعْتِرَافًا بِالْعِصْيَانِ، وَبِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ ضُرَّ الْمَعْصِيَةِ عَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَا ظَالِمَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا إِذْ جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الدُّخُولَ فِي طَوْرِ ظُهُورِ السَّوْآتِ، وَمَشَقَّةِ اتِّخَاذِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمَا، وَبِأَنَّهُمَا جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمَا فِي تَوَقُّعِ حُقُوقِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَزَمَا بِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ على العواقب بالمبادىء، فَإِنَّهُمَا رَأَيَا من الْعِصْيَان بوادىء الضُّرِّ وَالشَّرِّ، فَعَلِمَا أَنَّهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ مُخَالَفَةِ وِصَايَتِهِ، وَقَدْ أَكَّدَا جُمْلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ إِظْهَارًا لِتَحْقِيقِ الْخُسْرَانِ اسْتِرْحَامًا وَاسْتِغْفَارًا مِنَ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٤]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
وَالْمُبِينُ أَصْلُهُ الْمُظْهِرُ، أَيْ لِلْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَتَتَبَّعُ آثَارَ وَسْوَسَتِهِ وَتَغْرِيرِهِ، وَمَا عَامَلَ بِهِ آدَمَ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ إِلَى حِينِ غُرُورِهِ بِهِ فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبَانَةٌ عَنْ عَدَاوَتِهِ، وَوَجْهُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ أَنَّ طَبْعَهُ يُنَافِي مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ الْفِطْرِيِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَالَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَصْفِ الشَّدِيدِ أَنْ يَظْهَرَ لِلْعِيَانِ.
وَقَدْ قَالَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعْتِرَافًا بِالْعِصْيَانِ، وَبِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ ضُرَّ الْمَعْصِيَةِ عَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَا ظَالِمَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا إِذْ جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الدُّخُولَ فِي طَوْرِ ظُهُورِ السَّوْآتِ، وَمَشَقَّةِ اتِّخَاذِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمَا، وَبِأَنَّهُمَا جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمَا فِي تَوَقُّعِ حُقُوقِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَزَمَا بِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ على العواقب بالمبادىء، فَإِنَّهُمَا رَأَيَا من الْعِصْيَان بوادىء الضُّرِّ وَالشَّرِّ، فَعَلِمَا أَنَّهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ مُخَالَفَةِ وِصَايَتِهِ، وَقَدْ أَكَّدَا جُمْلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ إِظْهَارًا لِتَحْقِيقِ الْخُسْرَانِ اسْتِرْحَامًا وَاسْتِغْفَارًا مِنَ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٤]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
67
طَوَى الْقُرْآنُ هُنَا ذِكْرَ التَّوْبَةِ عَلَى آدَمَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّذْكِيرُ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ اتِّبَاعِ وَسْوَسَتِهِ، وَإِظْهَارُ مَا يُعْقِبُهُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْفَسَادِ، وَمَقَامُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أَسْبَابِ الْخَسَارَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بَيَانُ فَضْلِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ. وَالْأَمْرُ تَكْوِينِيٌّ، وَبِهِ صَارَ آدَمُ وَزَوْجُهُ وَإِبْلِيسُ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: اهْبِطُوا الْمَرْفُوعِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فَهَذِهِ الْحَالُ أَيْضًا تُفِيدُ مَعْنًى تَكْوِينِيًّا وَهُوَ مُقَارَنَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ لِوُجُودِهِمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا التَّكْوِينُ تَأَكَّدَتْ بِهِ الْعَدَاوَةُ الْجِبِلِّيَّةُ السَّابِقَةُ فَرَسَخَتْ وَزَادَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْبَعْضُ الْمُخَالِفُ فِي الْجِنْسِ، فَأَحَدُ الْبَعْضَيْنِ هُوَ آدَمُ وَزَوْجُهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ هُوَ إِبْلِيسُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ تَكْوِينِيَّةً بَيْنَ أَصْلَيِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَتْ مَوْرُوثَةً فِي نَسْلَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ بَنِي آدَمَ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَلِأَصْلِهِمْ لِيَتَّهِمُوا كُلَّ وَسْوَسَةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ نَشَأَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ عَنْ حَسَدِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ سَرَتْ وَتَشَجَّرَتْ فَصَارَتْ عَدَاوَةً تَامَّةً فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْوُجُودِ، فَهِيَ مُنْبَثَّةٌ فِي التَّفْكِيرِ وَالْجَسَدِ، وَمُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ التَّنَافُرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ نُفُوسُ الشَّيَاطِينِ دَاعِيَةً إِلَى الشَّرِّ بِالْجِبِلَّةِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مُنْصَرِفٌ بِجِبِلَّتِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مُعْرِضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَيَقَعُ فِي شُذُوذٍ عَنْ أَصْلِ فِطْرَتِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَكُونُ مِفْتَاحًا لِمَعْنَى كَوْنِ النَّاسِ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْخَيْرَ. أَمَّا كَوْنُ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةَ أَوِ الْجَرْحِ فَذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَشْيَةِ الْوُقُوعِ فِي الشُّذُوذِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْحَاكِمُ وَلَا الرَّاوِي، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشُّذُوذِ مُبْهَمَةٌ فَوَجَبَ التَّبَصُّرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وَجُمْلَةُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: اهْبِطُوا الْمَرْفُوعِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فَهَذِهِ الْحَالُ أَيْضًا تُفِيدُ مَعْنًى تَكْوِينِيًّا وَهُوَ مُقَارَنَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ لِوُجُودِهِمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا التَّكْوِينُ تَأَكَّدَتْ بِهِ الْعَدَاوَةُ الْجِبِلِّيَّةُ السَّابِقَةُ فَرَسَخَتْ وَزَادَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْبَعْضُ الْمُخَالِفُ فِي الْجِنْسِ، فَأَحَدُ الْبَعْضَيْنِ هُوَ آدَمُ وَزَوْجُهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ هُوَ إِبْلِيسُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ تَكْوِينِيَّةً بَيْنَ أَصْلَيِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَتْ مَوْرُوثَةً فِي نَسْلَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ بَنِي آدَمَ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَلِأَصْلِهِمْ لِيَتَّهِمُوا كُلَّ وَسْوَسَةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ نَشَأَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ عَنْ حَسَدِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ سَرَتْ وَتَشَجَّرَتْ فَصَارَتْ عَدَاوَةً تَامَّةً فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْوُجُودِ، فَهِيَ مُنْبَثَّةٌ فِي التَّفْكِيرِ وَالْجَسَدِ، وَمُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ التَّنَافُرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ نُفُوسُ الشَّيَاطِينِ دَاعِيَةً إِلَى الشَّرِّ بِالْجِبِلَّةِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مُنْصَرِفٌ بِجِبِلَّتِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مُعْرِضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَيَقَعُ فِي شُذُوذٍ عَنْ أَصْلِ فِطْرَتِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَكُونُ مِفْتَاحًا لِمَعْنَى كَوْنِ النَّاسِ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْخَيْرَ. أَمَّا كَوْنُ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةَ أَوِ الْجَرْحِ فَذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَشْيَةِ الْوُقُوعِ فِي الشُّذُوذِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْحَاكِمُ وَلَا الرَّاوِي، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشُّذُوذِ مُبْهَمَةٌ فَوَجَبَ التَّبَصُّرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
68
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عَلَى جُمْلَةِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْمُكْثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧]- وَقَوْلِهِ- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٨].
وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُجُودُ أَيْ وُجُودُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَبِخَصَائِصِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَتَاعٌ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ لَا يُدْفَنُونَ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمَتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ: نَيْلُ الْمَلَذَّاتِ وَالْمَرْغُوبَاتِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ، وَيُطْلَقُ الْمَتَاعُ عَلَى مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَالْحِينُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، وَقَدْ نُكِّرَ هُنَا وَلَمْ يُحَدَّدْ لِاخْتِلَافِ مِقْدَارِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَفْرَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا إِدْرَاكَ اللَّذَّاتِ، وَفِيهِ يحصل بَقَاء الذّات غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا مُتَلَاشِيَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَهَذَا الزَّمَنُ الْمُقَارِنُ لِحَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجَلِ، أَيِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْلُغُ إِلَيْهَا الْحَيُّ بِحَيَاتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ وَانْعَدَمَتِ الْحَيَاةُ انْقَطَعَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَهُ لِلنَّوْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ امْتِنَانٌ وَلَا تنكيل بهم.
[٢٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِعَاطِفٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ فِعْلِ الْقَوْلِ بِوَاوِ عَطْفٍ، مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ وَاحِدًا، وَالْغَرَضِ مُتَّحِدًا، خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْعَطْفُ، وَقَدْ أَهْمَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ جُمْهُورُ الْحُذَّاقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ رَأَى ذَلِكَ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكَايَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ حَاوَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ التُّونُسِيُّ فِي «إِمْلَاءَاتِ التَّفْسِيرِ» الْمَرْوِيَّةِ
وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْمُكْثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧]- وَقَوْلِهِ- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٨].
وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُجُودُ أَيْ وُجُودُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَبِخَصَائِصِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَتَاعٌ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ لَا يُدْفَنُونَ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمَتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ: نَيْلُ الْمَلَذَّاتِ وَالْمَرْغُوبَاتِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ، وَيُطْلَقُ الْمَتَاعُ عَلَى مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَالْحِينُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، وَقَدْ نُكِّرَ هُنَا وَلَمْ يُحَدَّدْ لِاخْتِلَافِ مِقْدَارِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَفْرَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا إِدْرَاكَ اللَّذَّاتِ، وَفِيهِ يحصل بَقَاء الذّات غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا مُتَلَاشِيَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَهَذَا الزَّمَنُ الْمُقَارِنُ لِحَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجَلِ، أَيِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْلُغُ إِلَيْهَا الْحَيُّ بِحَيَاتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ وَانْعَدَمَتِ الْحَيَاةُ انْقَطَعَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَهُ لِلنَّوْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ امْتِنَانٌ وَلَا تنكيل بهم.
[٢٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِعَاطِفٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ فِعْلِ الْقَوْلِ بِوَاوِ عَطْفٍ، مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ وَاحِدًا، وَالْغَرَضِ مُتَّحِدًا، خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْعَطْفُ، وَقَدْ أَهْمَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ جُمْهُورُ الْحُذَّاقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ رَأَى ذَلِكَ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكَايَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ حَاوَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ التُّونُسِيُّ فِي «إِمْلَاءَاتِ التَّفْسِيرِ» الْمَرْوِيَّةِ
69
عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤٠] : قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] إِذْ جَعَلَ وَجْهَ إِعَادَةِ لَفْظِ قَالَ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ مِنَ الْبَوْنِ، فَالْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِي ذَاتِهِ، وَالثَّانِي إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْخَفَاجِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى ابْنِ عَرَفَةَ فَلَعَلَّهُ مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِعَادَةُ الْقَوْلِ إِمَّا لِإِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِمَضْمُونِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ [الْحجر: ٥٧]- إِثْرَ قَوْلِهِ- قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الْحجر: ٥٦] فَإِنَّ الْخَلِيلَ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ عُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ عِنْدَ تَبَيُّنِ أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاء: ٦٢]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الْإِسْرَاء: ٦١] فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ الثَّانِيَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ الْمُتَرَتَّبِ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ الَّذِي لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَ فِي
مَوَاضِعَ أُخْرَى، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَالتَّوْجِيهُ الثَّانِي مَرْدُودٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْإِحَاطَةُ وَلَا الِاتِّصَالُ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أُسْلُوبًا فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْبَلِيغُ، وَأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْعَطْفِ بِثُمَّ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [الْأَعْرَاف: ٣٩]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ تَوْجِيهُ إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا: إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِيذَانًا بِتَغَيُّرِ الْخِطَابِ بَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ تَخَالُفٌ مَا، فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَوَّلِ آدَمُ وَزَوْجُهُ والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدَمُ وَزَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُمَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ قَبْلَ حُدُوثِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمَا بِإِشْعَارِهِمَا أَنَّهُمَا أَبَوَا خَلْقٍ كَثِيرٍ:
مَوَاضِعَ أُخْرَى، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَالتَّوْجِيهُ الثَّانِي مَرْدُودٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْإِحَاطَةُ وَلَا الِاتِّصَالُ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أُسْلُوبًا فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْبَلِيغُ، وَأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْعَطْفِ بِثُمَّ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [الْأَعْرَاف: ٣٩]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ تَوْجِيهُ إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا: إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِيذَانًا بِتَغَيُّرِ الْخِطَابِ بَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ تَخَالُفٌ مَا، فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَوَّلِ آدَمُ وَزَوْجُهُ والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدَمُ وَزَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُمَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ قَبْلَ حُدُوثِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمَا بِإِشْعَارِهِمَا أَنَّهُمَا أَبَوَا خَلْقٍ كَثِيرٍ:
70
كُلُّهُمْ هَذَا حَالُهُمْ، وَهُوَ مِنْ تَغْلِيبِ الْمَوْجُودِ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا فَوَجْهُ الْفَصْلِ أَظْهَرُ وَأَجْدَرُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخِطَابِ هُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْها تُخْرَجُونَ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ يَقْتَضِي سَبْقَ الدُّخُولِ فِي بَاطِنِهَا، وَذَلِكَ هُوَ الدَّفْنُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالشَّيَاطِينُ لَا يُدْفَنُونَ. وَقَدْ أَمْهَلَ اللَّهُ إِبْلِيسَ بِالْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهُوَ يُحْشَرُ حِينَئِذٍ أَوْ يَمُوتُ وَيُبْعَثُ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ جُعِلَ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ وَسِيلَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى بَنِي آدَمَ عَقِبَ هَذَا.
وَقَدْ دَلَّ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ: وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ اسْتَقَرَّا فِي الْأَرْضِ، وَتَظْهَرَ لَهُمَا ذُرِّيَّةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ بِأَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُهُمْ، وَمِنْهَا مَبْعَثُهُمْ، يَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْخِطَابِ وَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ يُجْعَلُ سَبَبُ تَغْيِير الأسلوب تخَالف الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْقَوْلَ السَّابِقَ قَوْلُ مُخَاطَبَةٍ، وَالْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُ تَقْدِيرٍ وَقَضَاءٍ أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ تَحْيَوْنَ فِيهَا وَتَمُوتُونَ فِيهَا وَتُخْرَجُونَ مِنْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَرْضِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا قَرَارُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ، إِذْ كَانَتْ هِيَ مَقَرُّ جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّقْدِيمُ وَسِيلَةً إِلَى مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ، إِذْ جُعِلَتِ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِهَاتِهِ
الْأَحْوَالِ، فَالْأَرْضُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تُدَاوَلَتْ فِيهَا أَحْوَالُ سُكَّانِهَا الْمُتَخَالِفَةُ تَخَالُفًا بَعِيدًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ- بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ: بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
[٢٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٦]
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
وَقَدْ جُعِلَ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ وَسِيلَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى بَنِي آدَمَ عَقِبَ هَذَا.
وَقَدْ دَلَّ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ: وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ اسْتَقَرَّا فِي الْأَرْضِ، وَتَظْهَرَ لَهُمَا ذُرِّيَّةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ بِأَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُهُمْ، وَمِنْهَا مَبْعَثُهُمْ، يَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْخِطَابِ وَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ يُجْعَلُ سَبَبُ تَغْيِير الأسلوب تخَالف الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْقَوْلَ السَّابِقَ قَوْلُ مُخَاطَبَةٍ، وَالْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُ تَقْدِيرٍ وَقَضَاءٍ أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ تَحْيَوْنَ فِيهَا وَتَمُوتُونَ فِيهَا وَتُخْرَجُونَ مِنْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَرْضِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا قَرَارُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ، إِذْ كَانَتْ هِيَ مَقَرُّ جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّقْدِيمُ وَسِيلَةً إِلَى مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ، إِذْ جُعِلَتِ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِهَاتِهِ
الْأَحْوَالِ، فَالْأَرْضُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تُدَاوَلَتْ فِيهَا أَحْوَالُ سُكَّانِهَا الْمُتَخَالِفَةُ تَخَالُفًا بَعِيدًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ- بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ: بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
[٢٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٦]
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
71
(٢٦)
إِذَا جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ التَّفَاسِيرِ كَانَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً الْآيَةَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ:
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣] الْآيَاتِ، وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السُّورَةِ إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَوَابِعِهِ مِنْ أَحْوَالِ دِينِهِمُ الْجَاهِلِيِّ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] اسْتِطْرَادًا بِذكر منّة الله عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ فَخَاطَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُور الْمَقْصُودَة من السُّورَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١] وَوُقُوعُهَا فِي أَثْنَاءِ آيَاتِ التَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِنَ الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] فَيَكُونُ مِمَّا خَاطب الله بِهِ بَنِي آدَمَ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِهِمْ بِعُمْرَانِ الْأَرْضِ عَلَى لِسَان أَبِيهِم آدم، أَوْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَلَوْ بِالْإِلْهَامِ، لِمَا تَنْشَأُ بِهِ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ، فَابْتَدَأَ فَأَعْلَمَهُمْ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِهِمْ، وَيَتَجَمَّلُونَ بِهِ بِمُنَاسَبَةِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَرِّي أَبَوَيْهِمْ حِينَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، ثُمَّ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧] ثُمَّ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ اللِّبَاسِ وَهُوَ زِينَةُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١]، ثُمَّ بِأَنْ أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد بِأَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ وَيَنْتَفِعُوا بِهَدْيِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٥] الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَوَاعِظَ تَنْفَعُ الَّذِينَ قُصَدُوا مِنْ هَذَا الْقَصَصِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ المكذّبون
محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ
إِذَا جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ التَّفَاسِيرِ كَانَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً الْآيَةَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ:
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣] الْآيَاتِ، وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السُّورَةِ إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَوَابِعِهِ مِنْ أَحْوَالِ دِينِهِمُ الْجَاهِلِيِّ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] اسْتِطْرَادًا بِذكر منّة الله عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ فَخَاطَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُور الْمَقْصُودَة من السُّورَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١] وَوُقُوعُهَا فِي أَثْنَاءِ آيَاتِ التَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِنَ الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] فَيَكُونُ مِمَّا خَاطب الله بِهِ بَنِي آدَمَ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِهِمْ بِعُمْرَانِ الْأَرْضِ عَلَى لِسَان أَبِيهِم آدم، أَوْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَلَوْ بِالْإِلْهَامِ، لِمَا تَنْشَأُ بِهِ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ، فَابْتَدَأَ فَأَعْلَمَهُمْ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِهِمْ، وَيَتَجَمَّلُونَ بِهِ بِمُنَاسَبَةِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَرِّي أَبَوَيْهِمْ حِينَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، ثُمَّ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧] ثُمَّ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ اللِّبَاسِ وَهُوَ زِينَةُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١]، ثُمَّ بِأَنْ أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد بِأَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ وَيَنْتَفِعُوا بِهَدْيِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٥] الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَوَاعِظَ تَنْفَعُ الَّذِينَ قُصَدُوا مِنْ هَذَا الْقَصَصِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ المكذّبون
محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ
72
كَيْفَمَا تَفَنَّنَتْ أَسَالِيبُهُ وَتَنَاسَقَ نَظْمُهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ أَوْ مِنْ حِكَايَتِهَا هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ومكذّبو محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّلَتْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ مُسْتَطْرِدَاتٌ وَتَعْرِيضَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِمَا وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكَاذِيبِ فِي نَقْضِ أَمْرِ الْفِطْرَةِ.
وَالْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧]- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١] مُتَّصِلَةٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِقِصَّةِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، أَوْ مُتَّصِلَةٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْمَقُولِ تَعْدَادًا يُشْبِهُ التَّكْرِيرَ.
وَهَذَا الْخِطَابُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ هُوَ الشُّكْرُ عَلَى يَقِينِهِمْ بِأَنَّهُمْ موافقون فِي شؤونهم لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا حَظُّ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، مُعَرَّضُونَ لِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ.
وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ لِيَقَعَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى مَا بَعْدَهُ بِشَرَاشِرِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ لِاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ عِنْدَ الْخِطَابِ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ مَرَّتَيْنِ وَقْعٌ عَجِيبٌ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَمَا لَقِيَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ: وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الذُّرِّيَّةِ أَنْ تَثْأَرَ لِآبَائِهَا، وَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ، وَتَحْتَرِسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِهِ.
وَلَمَّا كَانَ إِلْهَامُ اللَّهِ آدَمَ أَنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ بِوَرَقِ الْجَنَّةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَلَّدَهَا بَنُوهُ، خُوطِبَ النَّاسُ بِشُمُولِ هَذِهِ الْمِنَّةِ لَهُمْ بِعُنْوَانٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَّةٌ مَوْرُوثَةٌ، وَهِيَ أَوْقَعُ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَيْسِيرُ اللِّبَاسِ لَهُمْ وَإِلْهَامُهُمْ إِيَّاهُ إِنْزَالًا، لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذَا الْمَظْهَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ، بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ عَلَى آدَمَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَكَانَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ،
وَالْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧]- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١] مُتَّصِلَةٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِقِصَّةِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، أَوْ مُتَّصِلَةٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْمَقُولِ تَعْدَادًا يُشْبِهُ التَّكْرِيرَ.
وَهَذَا الْخِطَابُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ هُوَ الشُّكْرُ عَلَى يَقِينِهِمْ بِأَنَّهُمْ موافقون فِي شؤونهم لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا حَظُّ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، مُعَرَّضُونَ لِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ.
وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ لِيَقَعَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى مَا بَعْدَهُ بِشَرَاشِرِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ لِاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ عِنْدَ الْخِطَابِ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ مَرَّتَيْنِ وَقْعٌ عَجِيبٌ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَمَا لَقِيَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ: وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الذُّرِّيَّةِ أَنْ تَثْأَرَ لِآبَائِهَا، وَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ، وَتَحْتَرِسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِهِ.
وَلَمَّا كَانَ إِلْهَامُ اللَّهِ آدَمَ أَنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ بِوَرَقِ الْجَنَّةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَلَّدَهَا بَنُوهُ، خُوطِبَ النَّاسُ بِشُمُولِ هَذِهِ الْمِنَّةِ لَهُمْ بِعُنْوَانٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَّةٌ مَوْرُوثَةٌ، وَهِيَ أَوْقَعُ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَيْسِيرُ اللِّبَاسِ لَهُمْ وَإِلْهَامُهُمْ إِيَّاهُ إِنْزَالًا، لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذَا الْمَظْهَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ، بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ عَلَى آدَمَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَكَانَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ،
73
عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْهَامِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِتَسْخِيرٍ إِلَهِيٍّ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْجَدْوَى عَلَى النَّاسِ وَالنَّفْعِ لَهُمْ، يُحَسِّنُ اسْتِعَارَةَ فِعْلِ الْإِنْزَا�