تفسير سورة الأعراف

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

شرح الكلمات:
المص: هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا: ألف لآم ميم صَادْ. والله أعلم بمراده بها.
كتاب: أي هذا كتاب.
حرج: ضيق.
وذكرى: تذكرة بها يذكرون الله وما عنده وما لديه فيقبلون على طاعته.
أولياء: رؤساؤهم في الشرك.
ما تذكرون: أي تتعظون فترجعون إلى الحق.
وكم من قرية: أي كثيراً من القرى.
بأسنا بياتا: عذابنا ليلاً وهم نائمون.
أو هم قائلون: أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون.
فما كان دعواهم: أي دعاؤهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.
معنى الآيات:
﴿المص﴾ في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله فآمنوا به وقوله ﴿كتاب﴾ أي هذا كتاب ﴿أنزل إليك﴾ ١ يا رسولنا ﴿فلا يكن في صدرك حرج منه﴾ أي ضيق منه ﴿لتنذر به﴾ قومك عواقب شركهم وضلالهم، وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾ من الهدى والنور، ﴿ولا تتبعوا من دونه﴾ أي من غيره ﴿أولياء﴾ ٢ لا يأمرونهم إلا بالشرك والشر والفساد، وهم رؤساء الضلال في قريش ﴿قليلاً ما يذكرون﴾ أي تتعظون فترجعون إلى الحق الذي جانبتموه ﴿وكم٣ من قرية﴾ أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق ولازموا الباطل ﴿فجاءها٤ بأسنا٥﴾ أي عذابنا الشديد
١ جملة: ﴿أنزل إليك﴾ يصح إعرابها في محل نعت لكتاب ويصح إعرابها في محل نصب حالاً من هذا كتاب نحو: (هذا بعلي شيخا) وإن لم يقدر لفظ هذا تعرب جملة حينئذٍ في محل رفع خبر كتاب، ويكون التنكير في كتاب للتعظيم وهو كالوصف فيسوغ الابتداء به وان كان نكرة نحو قولهم: شرٌ أهو ذا ناب.
٢ قالت العلماء: كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه، ومنع أولياء من الصرف لأنّ فيه ألف التأنيث.
٣ كم: للتكثير كما أنّ ذلك للتقليل وهي في موضع رفع على الابتداء، والخبر جملة أهلكناها، والتقدير: وكثير من القرى أهلكناها.
٤ ﴿فجاءها﴾ في حرف الفاء هنا إشكال لأنّ الإهلاك قد تمّ فما معنى مجيء البأس حينئذ؟ وعليه فليكن تقدير الكلام: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
٥ البأس: العذاب الآتي على النفس.
﴿بياتاً أو هم قائلون﴾ أي ليلاً أو نهاراً، فما كان دعاءهم١ يومئذ إلا قولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فاعترفوا بذنبهم، ولكن هيهات إن ينفعهم الاعتراف بعد معاينة العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارته بما حواه من الوعد والوعيد، والذكرى والبشرى.
٢- وجوب إتباع الوحي، وحرمة إتباع ما يدعو إليه أصحاب الأهواء والمبتدعة.
٣- الاعتبار بما حل بالأمم الظالمة من خراب ودمار.
٤- لا تنفع التوبة عند معاينة الموت أو العذاب.
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (١٠)
شرح الكلمات:
أرسل إليهم: هم الأمم والأقوام.
فلنقصن عليهم بعلم: فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فلا نترك منها شيئاً.
وما كنا غائبين: أي عنهم أيام كانوا يعملون.
الوزن يومئذ الحق: أي العدل.
فمن ثقلت موازينه: أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة.
خسروا أنفسهم: بدخولهم النار والاصطلاء بها أبداً.
معايش: جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه الإنسان.
١ الدعاء والدعوى بمعنى واحد ومنه: وآخر دعواهم أي: دعائهم.
152
قليلاً ما تشكرون: أي شكراً قليلاً والشكر ذكر النعمة للمنعم١ وطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿فلنسألن الذين أرسل٢ إليهم ولنسألن المرسلين٣ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلائق لفصل القضاء مؤكداً الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم، فهل آمنوا بما جاءتهم به الرسل، وأطاعوهم فيما بلغوهم من التوحيد والعبادة والطاعة والانقياد، كما يسأل الرسل أيضاً هل بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده بالإيمان به وتوحيده وطاعته في أمره ونهيه، ثم يقصُّ تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر الأعمال وباطنها، ولا يستطيعون إخفاء شيء أبداً، ولم يكن سؤاله لهم أولاً، إلا من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته سبحانه وتعالى فيهم، ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له تعالى ولا يخفي عليه منها شيء وهو السميع البصير.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦) والثانية (٧) أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن٤ لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السلام ومن خفَّت لقلة حسناته وكثرة سيئاته٥ خسر نفسه بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي، وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم
١ وحده والثناء بها عليه.
٢ في الآية دليل على أن الكفار يحاسبون وإن لم توزن أعمالهم لقوله تعالى ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ فمحاسبتهم لإظهار العدالة الإلهية لا لأن لهم أعمالاً صالحة يجزون بها والله أعلم.
٣ ويشهد لهذه المساءلة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده".
٤ هنا زلت أقدام المعتزلة فأوّلوا الوزن للأعمال والميزان وقالوا: الأعراض لا توزن ولو اتبعوا لأوّلوا الميزان بالصراط والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة وهكذا حتى لا يبقى للدين حقيقة والعياذ بالله من فساد القلوب والعقول ومن الجري وراء فلسفة الإغريق واليونان.
٥ ورد في السنة الصحيحة إن الأعراض تحوّل إلى أجسام وتوزن كما في حديث: أنّ البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة وكأنهما غمامتان. الحديث، كما توزن صحائف الأعمال لحديث: "فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" وحديث: "يؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة" وبهذا تقرر أن الأعمال توزن وتوزن محالها وفاعلوها والله على ذلك قدير.
153
بقوله ﴿بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ : أي يكذبون ويجحدون، وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود لأمرين هما:
أولاً: اكتفاء بحرف الجر الباء إذ لا تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد به ولا يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
وثانياً: أنهم بدل أن يؤمنوا بالآيات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا الآيات ظلماً حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات.
هذا ما دلت عليه الآيتان أما الآية الخامسة (١٠) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على عباده، وكان المفروض أن يشكروا نعمه عليهم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، ولكن الذي حصل هو عدم الشكر من أكثرهم قال تعالى ﴿ولقد مكناكم في الأرض﴾ حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون فيها ويمشون في مناكبها، وقوله ﴿وجعلنا لكم فيها معايش﴾ ١ هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم فيها معايش وأرزاقاً يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم، وقوله ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ أي لا تشكرون إلا شكراً يسيراً لا يكاد يذكر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن الأعمال يوم القيامة.
٢- صعوبة الموقف حيث تسأل الأمم والرسل عليهم السلام كذلك.
٣- الفلاح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيراً نجا، ومن كسب شراً هلك.
٤- وجوب شكر النعم بالإيمان والطاعة لله ورسوله.
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ
١ المعايش: جمع معيشة، والمعيشة: ما يتوصل به إلى العيش الذي هو الحياة من المطاعم والمشارب. والتمكين في الأرض: معناه جعلها قارة ممهدة لا تضطرب ولا تتحرك فيفسد ما عليها.
154
لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
شرح الكلمات:
خلقناكم ثم صورناكم: أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود الإنساني.
فسجدوا: أي سجود تحية لآدم عليه السلام.
إبليس: أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة، وهو الشيطان الرجيم.
فاهبط منها: أي من الجنة.
من الصاغرين: جمع صاغر الذليل المهان.
فبما أغويتني: أي فبسبب إضلالك لي.
مذموماً مدحوراً: ممقوتاً مذموماً مطروداً.
معنى الآيات:
مازال السياق في تعداد أنعم الله تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى بالإيمان
155
به وطاعته فقال تعالى ﴿ولقد خلقناكم ثم صورناكم١﴾ أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه، ﴿ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ وفي هذا إنعام آخر وهو تكريم أبيكم آدم بأمر الملائكة بالسجود له تحية له وتعظيما ﴿فسجدوا إلا إبليس٢ لم يكن من الساجدين﴾ أي أبى وامتنع أن يسجد، فسأله ربه تعالى قائلاً: ﴿ما منعك ألا تسجد٣ إذ أمرتك﴾ أي: أي شيء جعلك لا تسجد فأجاب إبليس قائلاً: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار، وخلقته من طين﴾ فأنا أشرف منه فكيف أسجد له، ولم لكن إبليس مصيباً في هذه القياس٤ الفاسد أولاً: ليست النار أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعاً وأقل ضرراً، والنار كلها ضرر، وما فيها من نفع ليس بشيء إلى جانب الضرر وثانياً: إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان المسجود له فاضلاً أو مفضولاً، وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال ﴿اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين﴾ أي الذليلين الحقيرين، ولما وقع إبليس في ورطته، وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لآدم قال للرب تبارك وتعالى ﴿انظرني﴾ أي أمهلني لا تمتني ﴿إلى يوم يبعثون﴾ فأجابه الرب بقوله ﴿إلى يوم الوقت المعلوم﴾ وهو فناء هذه الدنيا فقط وذلك قبل البعث، جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال ﴿إنك من المنظرين﴾ ومراد إبليس في الإمهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاماً منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده من الرحمة، ولما أجابه الرب إلى طلبه قال: ﴿فبما أغويتني﴾ أي أضللتني ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ يريد آدم وذريته، والمراد من الصراط الإسلام إذ هو الطريق المستقيم والموصل بالسالك له إلى رضوان الله تعالى {ثم لآتينهم من بين أيديهم٥ ومن خلفهم وعن
١ ويصح أن يقال: خلقناكم نطفاً ثم صورناكم، وما في التفسير أولى بالآية وأصح بدليل قوله: ﴿ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾.
٢ استثناء من غير الجنس إذ إبليس من الجنّ ولم يكن من الملائكة.
٣ ﴿ما منعك﴾ ما: في موضع رفع بالابتداء فهي اسم استفهام والتقدير أي شيء منعك من السجود، وأن المصدرية مدغمة في لا الزائدة بدليل عدم زيادتها في ﴿ص﴾ إذ قال: ﴿ما منعك أن تسجد﴾ أي: من السجود لآدم.
٤ قال ابن عباس والحسن: أوّل من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. قال العلماء: من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة ولهذا تاب آدم، ومن جوهر النار الخفة والحدة والطيش والارتفاع ولذا لم يتب إبليس.
٥ معناه: لأصدنّهم عن الحق، وأرغبهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية الضلال، وقال بعضهم: المراد من قوله: ﴿من بين أيديهم﴾ من دنياهم ﴿ومن خلفهم﴾ من آخرتهم، ﴿وعن أيمانهم﴾ يعني حسناتهم ﴿وعن شمائلهم﴾ يعني سيئاتهم.
156
أيمانهم وعن شمائلهم} يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى لا ينجوا ويهلكوا كما هلك هو زاده الله هلاكاً، وقوله ﴿ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ هذا قول إبليس للرب تعالى، ولا تجد أكثر أولاد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك بالإيمان والتوحيد والطاعات.
وهنا أعاد الله أمره بطرد اللعين فقال ﴿اخرج منها﴾ أي من الجنة ﴿مذموماً مدحوراً﴾ أي ممقوتاً مطروداً (لمن تبعك١ منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} أي فبعزتي لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- خطر الكبر على الإنسان.
٢- ضرر القياس٢ الفاسد.
٣- خطر إبليس وذريته على بني آدم، والنجاة منهم بذكر الله تعالى وشكره.
٤- الشكر هو الإيمان والطاعة لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا
١ اللام في ﴿لمن﴾ موطئة للقسم، واللام في ﴿لأملأنّ﴾ في جواب القسم والتقدير: وعزتي من تبعك منهم لأملأن جهنم منك ومنهم أجمعين.
٢ القياس من الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة مشروع محمود لأنّه اعتصام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإنّما المذموم المحرّم: القياس على غير أصل من هذه الأصول الثلاثة: الكتاب، السنة، الإجماع، وهذا علي ابن أبي طالب لما قال له أبو بكر رضي الله عنهما أقيلوني بيعتي فقال عليّ: والله لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على دنيانا أفلا نرضاك لديننا فقاس الإمامة على الصلاة لله، وقاس أبو بكر الزكاة على الصلاة.
157
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٢٢)
شرح الكلمات:
وزوجك: هي حواء التي خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
الجنة: دار السلام التي دخلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج.
في الظالمين: أي لأنفسهم.
فوسوس: الوسوسة: الصوت الخفي، وسوسة١ الشيطان لابن آدم إلقاء معانٍ فاسدة ضارة في صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل.
ليبدي٢ لهما ما ووري: ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.
وقاسمهما: حلف لكل واحد منهما.
فدلاهما بغرور: أي أدناهما شيئاً فشيئاً بخداعه وتغريره حتى أكلا من الشجرة.
وطفقا يخصفان: وجعلا يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.
معنى الآيات:
ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلاً له ﴿يا آدم اسكن أنت وزوجك﴾ أي حواء ﴿الجنة فكلا من حيث شئتما﴾ يعنى من ثمارها وخيراتها، ﴿ولا تقربا هذه الشجرة﴾ أشار لهما إلى شجرة من أشجار الجنة معينة، ونهاهما عن الأكل منها، وعلمهما أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين المستوجبين للعقاب، واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس٣ لهما مزيناً لهما الأكل من الشجرة قائلاً لهما ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن
١ الوسواس اسم للشيطان أيضاً قال تعالى: {من شر الوسواس الخناس﴾.
٢ اللام: لام العاقبة والصيرورة.
٣ ذهب الأولون مذاهب في تحديد كيفية اتصال إبليس بآدم وحوارهما في الجنة وهو خارج منها حتى وسوس لهما فأكلا من الشجرة التي لم يأذن الله تعالى لهما في الأكل منها إلا أن المخترعات الحديثة بيّنت لنا كيفية ذلك الاتصال وبيانه: ان الإنسان في نفسه قابلية لتلقي الوسواس أشبه ما تكون بجهاز اللاسلكي بواسطتها يتم الاتصال بين الإنسان وعدّوه إبليس وذريته.
تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} ﴿وقاسمهما﴾ أي حلف لهما أنه ناصح١ لهما وليس بغاش لهما، ﴿فدلاهما بغرور﴾ وخداع حتى أكلا ﴿فلما ذاقا الشجرة بدت... ﴾ أي ظهرت لهما سوءاتهما٢ حيث انحسر النور٣ الذي كان يغطيهما، فجعلا يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما، وهو معنى قوله تعالى ﴿وطفقا يخصفا عليهما من ورق الجنة﴾ وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه وتعالى، قائلاً: ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب، ﴿وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير.
٢- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
٣- النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.
٤- وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء.
٥- جواز الاقسام بالله تعالى، ولكن لا يحلف إلا صادقاً.
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)
شرح الكلمات:
ظلمنا أنفسنا: أي بأكلهما من الشجرة.
الخاسرين: الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها.
١ قال قتادة: حلف لهما بالله أنه خلق قبلهما وأنه أعلم منهما وحلف أنه ناصح لهما فانغرا به، على حد قول العلماء: مَنْ خدعنا بالله انخدعنا له.
٢ سُمي الفرجان سوأتين وعورة لأن السوءة مشتقة مما يسيء إلى النفس بالألم والعورة هي كل ما استحيي من كشفه.
٣ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفاراً في الأيدي والأرجل. والله أعلم.
159
مستقر: مكان استقرار وإقامة..
متاع إلى حين: تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن آدم عليه السلام، أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قالا معلنين عن توبتهما: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا١﴾ أي بذوق الشجرة ﴿وإن لم تغفر لنا﴾ أي خطيئتنا هذه ﴿لنكونن من الخاسرين﴾ أي الهالكين، وتابا فتاب الله تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الأرض إذ لم تعد الجنة في السماء داراً لهما بعد ارتكاب المعصية، إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لآدم، وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله ﴿بعضكم لبعض عدو﴾ أي اهبطوا إلى الأرض٢ حال كون بعضكم لبعض عدواً، إبليس وذريته عدو لآدم ونبيه، وآدم وبنوه عدو لإبليس وذريته، ﴿ولكم في الأرض مستقر﴾، أي مقام استقرار، ﴿ومتاع إلى حين﴾ أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الآجال وقوله تعالى ﴿فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون﴾ ٣ يريد من الأرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الأرض التي يعيش عليها بنو آدم، والمراد من الخروج، الخروج من القبور إلى البعث والنشور.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- قول آدم وحواء: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا..﴾ الآية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه فتاب عليه بها.
٢- شرط التوبة الاعتراف بالذنب وذلك بالاستغفار أي طلب المغفرة.
٣- شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة، وإخراج آدم من الجنة.
٤- لا تَتِمُّ حياةٌ للإنسان على غير الأرض، ولا يدفن بعد موته في غيرها لدلالة آية ﴿فيها تَحْيَوْن وفيها تموتون ومنها تُخْرجون﴾.
١ أي: يا ربنا، حذف حرف النداء لقربه منهما سبحانه وتعالى إذ يُنادى بحرف النداء البعيد.
٢ قال ابن كثير: لو كان في تعيين الأماكن التي هبط فيها آدم وحواء وإبليس فائدة تعود على المكلّفين في دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى.
٣ أي: للحساب والجزاء على الكسب في الدنيا من خير وشرّ.
160
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٢٨)
شرح الكلمات:
وريشاً١: لباس الزينة والحاجة.
يواري سوءاتكم: يستر عوراتكم.
لباس التقوى.: خير في حفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق.
من آيات الله: دلائل قدرته.
لا يفتننكم: أي لا يصرفنكم عن طاعة الله الموجبة لرضاه ومجاورته في الملكوت الأعلى.
أبويكم: آدم وحواء.
قبيله: جنوده من الجن.
فاحشه: خصلة قبيحة شديدة القبح كالطواف بالبيت عراة.
١ الريش للطائر ما يستر جسمه، وللإنسان اللّباس وجمعه رياش وهو ما كان فاخراً من أنواع الألبسة.
161
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿يا بني١ آدم قد نزلنا٢ عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً﴾ هذا النداء الكريم المقصود منه تذكير للمشركين من قريش بنعم الله وقدرته عليهم لعلهم يذكرون فيؤمنون ويسلمون بترك الشرك والمعاصي، من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباساً يوارون به سوءاتهم، ﴿وريشاً﴾ لباساً يتجملون به، في أعيادهم ومناسباتهم، ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس الثياب، لأن المتقي عبد ملتزم بطاعة الله ورسوله، والله ورسوله يأمران بستر العورات، ودفع الغائلات، والمحافظة على الكرامات، ويأمران بالحياء، والعفة وحسن السمت ونظافة الجسم والثياب فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى٣ من هذه؟؟.
وقوله تعالى ﴿ذلك من آيات الله﴾ أي من دلائل قدرته الموجبة للإيمان به وطاعته، وقوله ﴿لعلهم يذكرون﴾ أي رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا بالإيمان والطاعة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٦) وفي الآية الثانية (٢٧) ناداهم مرة ثانية فقال ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما٤ سوءاتهما﴾ يحذرهم من إغواء الشيطان لهم مذكراً إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما٥ من الجنة بعد نزعه لباسهما عنهما فانكشفت سوءاتهما الأمر الذي سبب إخراجهما من دار السلام، منبهاً لهم على خطورة العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده، وهم لا يرونهم. ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وذلك حسب سنته في خلقه، فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث فالذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة لانعدام نور الإيمان فيها فهي متهيئة
١ ابتداء الخطاب بالنداء الحكمة منه ليقع إقبال المنادين على ما بعد النداء بكل قلوبهم.
٢ إنزال اللّباس من السماء يعود لأمور منها: أن آدم أوّل من ستر عورته بورق التين من شجر الجنة ومنها أنّ آدم نزل مكسواًّ وورث عنه أولاده ذلك، ومنها أن الماء الذي به النبات ومنه يتخذ اللباس كالقطن مثلاً نزل من السماء وحتى ذوات الصوف والوبر حياتها متوقفة على ماء السماء.
٣ قال الشاعر في لباس التقوى ما يلي:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
٤في هذه الآية دليل على حرص الشيطان على أن يكشف الآدمي عورته لما يسبق ذلك من الفسق والفجور الذين يرغب الشيطان في إيقاع الآدمي فيهما.
٥ تكاد تكون هذه سنة بشرية لا تتخلّف إذ ما من أمّة تبرج نساؤها فكشفن محاسنهن وأبدين عوراتهن إلاّ أسرع إليها الهلاك بزوال الملك وذهاب السلطان.
162
لقبول الشياطين وقبول ما يوسوسون به ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي على اختلافها، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين، وكبرهان على هذا الولاء بينهم أن المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأن الله تعالى أمرهم بها وهي حجة باطلة لما يلي:
أولاً: فعل آبائهم ليس ديناً ولا شرعاً.
ثانياً: حاشا لله تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾ ووبخهم معنفاً إياهم بقوله: ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- التذكير بنعم الله تعالى المقتضي للشكر عك ذلك بالإيمان والتقوى١.
٢- التحذير من الشيطان وفتنته لاسيما وأنه يرى الإنسان والإنسان لا يراه.
٣- القلوب الكافرة هي الآثمة، وكذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين.
٤- قبح الفواحش وحرمتها.
٥- بطلان الاحتجاج بفعل الناس إذ لا حجة إلا في الوحي الإلهي.
٦- تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلاً عن الأمر بها.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (٣٠) يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
١ الإيمان والتقوى بهما تحصل ولاية الرب للعبد، قال تعالى: ﴿ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾.
163
شرح الكلمات:
القسط١: العدل في القول والحكمة والعمل.
أقيموا وجوهكم: أي أخلصوا العبادة لله واستقبلوا بيته.
كما بدأكم تعودون: كما بدأ خلقكم أول مرة يعيدكم بعد الموت أحياء.
أولياء من دون الله: يوالونهم محبة ونصرة وطاعة، من غير الله تعالى.
زينتكم: أي البسوا ثيابكم عند الدخول في الصلاة.
ولا تسرفوا: في أكل ولا شرب، والإسراف مجاوزة الحد المطلوب في كل شيء.
معنى الآيات:
مازال السياق قي بيان أخطاء مشركي قريش فقد قالوا في الآيات السابقة محتجين على فعلهم الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن الله تعالى أمرهم بها وأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال في هذه الآية (٢٩) ﴿قل﴾ يا رسولنا ﴿أمر ربي بالقسط﴾ الذي هو العدل وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله تعالى في عبادته، وليس هو الشرك بالله وفعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه حلل كذا وهو لم يحلل، وحرم كذا وهو لم يحرم، وقوله تعالى ﴿وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد﴾ أي وقل لهم يا رسولنا أقيموا وجوهكم عند كل مسجد٢ أي أخلصوا لله العبادة، واستقبلوا بيته الحرام، ﴿وادعوه﴾ سبحانه وتعالى ﴿مخلصين له الدين﴾ أي ادعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً قوله: ﴿كما بدأكم تعودون﴾ يذكرهم بالدار الآخرة والحياة الثانية، فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء على كسبه خيراً أو شراً أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة وقوله ﴿فريقاً٣ هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة٤﴾ بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته فهو المبديء والمعيد والهادي والمضل، له الملك المطلق والحكم
١ القسط: العدل، وهو وسط بين الشرك والإلحاد. ولذا قال ابن عباس: القسط: لا إله إلاّ الله أي: بأن يعبد الله وحده.
٢ أي: في كل موضع للصلاة من سائر بقاع الأرض إذ موضع السجود هو المسجد وإقامة الرجوه بالذات معناه أن لا يلتفت بقلبه ولا بوجهه إلى غير الله تعالى وهو إخلاص العبادة لله عز وجل.
٣ ﴿فريقاً﴾ نصب على الحال من الضمير في تعودون أي: حال كونكم فريقين فريقاً مهدياً سعيداً، وفريقاً وجبت عليه الضلالة فجاء الموقف ضالاً شقياً، وقال القرطبي: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيّره للضلالة ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيّره إلى الهدى، وشاهد قوله هذا آدم وإبليس فآدم مخلوق للهداية وإبليس للضلالة.
٤ اخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول:
من يعيرني تطوافأ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله...
وما بدا منه فلا أحله
164
الأوحد، فكيف يعدل به أصنام وأوثان هدى فريقاً من عباده فاهتدوا، وأضل آخرين فضلوا ولكن بسبب رغبتهم عن الهداية وموالاتهم لأهل الغواية، ﴿إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله﴾ فضلوا ضلالاً بعيداً ﴿ويحسبون﴾ لتوغلهم في الظلام والضلال ﴿أنهم مهتدون﴾.
وقوله تعالى: ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ أي: البسوا ثيابكم عند الطواف١ بالبيت فلا تطوفوا عراة، وعند الصلاة فلا تصلوا وأنتم مكشوفوا العورات كما يفعل المشركون المتخذون الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولاً وفعلاً واعتقاداً. وقوله: ﴿كلوا واشربوا ولا تسرفوا٢﴾ أي كلوا مما أحل الله لكم واشربوا، ولا تسرفوا بتحريم ما أحل الله، وشرع ما لم يشرع لكم فالزموا العدل، فإنه تعالى لا يحب المسرفين فاطلبوا حبه بالعدل، واجتنبوا بغضه بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من هداية الآيات:
١- وجوب العدل في القول وفي الحكم.
٢- وجوب إخلاص العبادة صلاةً كانت أو دعاءً لله تعالى.
٣- ثبوت القدر.
٤- وجوب ستر العورة في الصلاة.
٥- حرمة الإسراف في الأكل والشرب وفي كل شيء.
١ هذه الآية الكريمة أصل من أصول الدواء، إذ أمرت بالأكل والشرب وهما قوام الحياة وحرمت الإسراف فيهما وهو سبب كافة الأمراض إذ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسِهِ" وشاهد آخر أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني قال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان علم أديان وعلم أبدان فقال له علي: قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابنا فقال له ما هي؟ قال: قوله عز وجل ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا﴾.
٢ روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه سأل عن ابنه فقيل له: بشم البارحة؟ قال: بشم؟ قالوا: نعم قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه، وقال العلماء: من الإسراف: الأكل بعد الشبع، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعاً فوق شبع فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله.
165
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
شرح الكلمات:
من حرم زينة الله: التحريم: المنع، والزينة. ما يتزين به من ثياب وغيرها.
والطيبات: جمع طيب وهو الحلال غير المستخبث.
خالصة: لا يشاركهم فيها الكفار لأنهم في النار.
الفواحش: جمع فاحشة والمراد بها هنا الزنى واللواط السري كالعلني.
والإثم: كل ضار قبيح من الخمر وغيرها من سائر الذنوب.
والبغي بغير الحق: الظلم بغير قصاص ومعاقبة بالمثل.
وأن تشركوا: أي الشرك بالله وهو عبادة غير الله تعالى.
السلطان: الحجة التي تثبت بها الحقوق المختلف فيها أو المتنازع عليها.
أجل: وقت محدد تنتهي إليه.
معنى الآيات:
لما حرم المشركون الطواف بالبيت بالثياب وطافوا بالبيت عراة بدعوى أنهم لا يطوفون بثياب عصوا الله تعالى فيها، أنكر تعالى ذلك عليهم بقوله: {قل من حرم١ زينة الله التي
١ الزينة: هنا الملبس الحسن من غير ما حرّم كالذهب والحرير على الرجال ويطلق لفظ الزينة أيضاً على مطلق اللباس ولو لم يكن حسناً.
166
أخرج لعباده والطيبات من الرزق١} كلحوم ما حرموه من السوائب، فالاستفهام في قوله ﴿قل من حرم زينة الله﴾ للإنكار. ومعنى أخرجها: أنه أخرج النبات من الأرض كالقطن والكتان ومعادن الحديد لأن الدروع من الحديد، وقوله تعالى: ﴿قل هي للذين٢ آمنوا في الحياة الدنيا﴾ بالأصالة، لأن المؤمنين علماء فيحسنون العمل والإنتاج والصناعة، والكفار تبع هم في ذلك لجهلهم وكسلهم وعدم بصيرتهم، ﴿خالصة٣ يوم القيامة﴾ أي هي خالصة للمؤمنين يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار ولأنهم في دار الشقاء النار والعياذ بالله تعالى وقوله تعالى ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ أي كهذا التفصيل والبيان الذي بيناه وفصلناه في هذه الآيات وما زلنا نفصل ونبين ما ننزل من آيات القرآن الكريم لقوم يعلمون أما غيرهم من أهل الجهل والضلال فإنهم لا ينتفعون بذلك لأنهم محجوبون بظلمة الكفر والشرك ودخان الأهواء والشهوات والشبهات.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٢) أما الآية الثانية (٣٣) فقد تضمنت بيان أصول المحرمات وأمهات الذنوب وهي: الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم: وهو سائر المعاصي بترك الواجب أو فعل الحرام والبغي: وهو الاستطالة على الناس والاعتداء عليهم بهضم حقوقهم وأخذ أموالهم وضرب أجسامهم وذلك بغير حق أوجب ذلك الاعتداء وسوغه كأن يعتدي الشخص فيقتص منه ويعاقب بمثل ما جنى وظلم، والشرك بالله تعالى بعبادة غيره، والقول على الله تعالى بدون علم منه وذلك كشرع ما لم يشرع، بتحريم ما لم يحرم، وإيجاب ما لم يوجب.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق (٣٤) فقد أخبر تعالى فيها أن لكل أمة أجلاً محدداً أي وقتاً معيناً يتم هلاكها فيه لا تتقدمه بساعة ولا تتأخر عنه بأخرى. وفي هذا إشارة أفصح من عبارة وهي أن هلاك الأمم والجماعات والأفراد يتم بسبب
١ الطيبات: اسم عام لكل ما طاب كسباً وطعماً وقد أكل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللحم والعسل والحلوى والبطيخ والرطب، وإنما الذي يكره الإكثار منها والتكلف في شرائها وإعدادها، وعمر لم ينكر الطيبات وإنما أنكر الكثرة منها، فكاد يرى عدم الجمع بين الطيبات ويكتفي بنوع واحد.
٢ في الآية دليل على التجمل بأحسن الثياب وخاصة في الأعياد والجمع وزيارة الإخوان ومقابلة الوفود، وليس من السنة لبس المرقعات والفوط وليس معنى: ﴿ولباس التقوى﴾ : أنه لباس الخشن والمرقعات أبداً وإنما هو تقوى الله بامتثال الأمر واجتناب النهي، وقد تقدم معناها، وفي الحديث الصحيح: "إن الله جميل يحب الجمال".
٣ قرىء: ﴿خالصةٌ﴾ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خالصة، وقرىء ﴿خالصة﴾ بالنصب على الحال أي: ثابتة لهم في الدنيا حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.
167
انحرافهم عن منهج الحياة، كالمرء يهلك بشرب السم، وبإلقاء نفسه من شاهق، أو إشعال النار في جسمه كذلك ارتكاب أمهات الذنوب وأصول المفاسد التي ذكر تعالى في قوله ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش.....﴾ من شأنها أن تودي بحياة مرتكبيها لا محالة ما لم يتوبوا منها وتصلح حالهم بالعودة إلى منهج الحياة الذي وضع الله في الإيمان والتوحيد والطاعة لله ورسوله بفعل كل أمر وترك كل نهي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- الإنكار الشديد على من يحرم ما أحل الله من الطيبات كبعض المتنطعين١.
٢- المستلذات من الطعام والشراب والمزينات من الثياب وغيرها المؤمنون أولى بها من غيرهم لأنهم يحسنون العمل، ويبذلون الجهد لاستخراجها والانتفاع بها. بخلاف أهل الجهالات فإنهم عمي لا يبصرون ومقعدون لا يتحركون. وإن قيل العكس هو الصحيح فإن أمم الكفر وأوربا وأمريكا هي التي تقدمت صناعياً وتمتعت بما يتمتع به المؤمنون؟ فالجواب: أن المؤمنين صرفوا عن العلم والعمل وأقعدوا عن الإنتاج والاختراع بإفساد أعدائهم لهم عقولهم وعقائدهم، فعوقوهم عن العمل مكراً بهم وخداعاً لهم. والدليل أن المؤمنين لما كانوا كاملين في إيمانهم كانوا أرقى الأمم وأكملها حضارة وطهارة وقوة وإنتاجاً مع أن الآية تقول ﴿... لقوم يعلمون﴾ فإذا حل الجهل محل العلم فلا إنتاج ولا اختراع ولا حضارة.
٣- بيان أصول المفاسد وهي الفواحش وما ذكر بعدها إلى ﴿..... وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾.
٤ - ذكرت هذه المفاسد بطريق التدلي آخرها أخطرها وهكذا أخفها أولها.
٥- أجل٢ الأمم كأجل الأفراد يتم الهلاك عند انتظام المرض كامل الأمة أو أكثر أفرادها كما يهلك الفرد عندما يستشري المرض في كامل جسمه.
١ روى النسائي بسند صحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" وقال البخاري عن ابن عباس: "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان، سرف، ومخيلة.
٢ الأجل: هو الوقت الموقت، فأجل الموت هو: وقت الموت وأجل الدَّين هو وقت حلوله وكل شيء وقِّت به شيء فهو أجل له.
168
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦)
شرح الكلمات:
إما يأتينكم: أصل إما إن –الشرطية- وما زائدة لتقوية الكلام أدغمت فيها (إن) فصارت إما.
يقصون١ عليكم آياتي: يتلونها عليكم آية بعد آية مبينين لكم ما دلت عليه من أحكام الله وشرائعه، ووعده ووعيده.
فمن اتقى: أي الشرك فلم يشرك وأصلح نفسه بالأعمال الصالحة.
فلا خوف عليهم: في الدنيا والآخرة.
ولا يحزنون: على ما تركوا وراءهم أو فاتهم الحصول عليه من أمور الدنيا.
معنى الآيتين:
هذا النداء جائز أن يكون نداءً عاماً لكل بني آدم كما هو ظاهر اللفظ وأن البشرية كلها نوديت به على ألسنة رسلها، وجائز أن يكون خاصاً بمشركي العرب وأن يكون المراد من الرسل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر بصيغة الجمع تعظيماً وتكريماً له، وما نوديت إليه البشرية أو مشركوا العرب هو إخبار الله تعالى لهم بأن من جاءه رسول من جنسه يتلو عليه آيات ربه وهي تحمل العلم بالله وصفاته وبيان محابه ومساخطه، فمن اتقى الله فترك الشرك به، وأصلح ما أفسده قبل العلم من نفسه وخلقه وعقله وذلك بالإيمان والعمل الصالح فهؤلاء في حكم الله أنه ﴿لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ في الحياتين٢ معاً، أما الذين كذبوا بآيات الله التي جاءت
١ القصص: هو إتباع الحديث بعضه بعضا.
٢ أمّا في البرزخ وفي يوم القيامة فالأمر ظاهر لا خلاف في أنهم لا يخافون ولا يحزنون ولكن في الحياة الدنيا يصيبهم الخوف والحزن، ولكن خوفهم وحزنهم لا يكاد يذكر مع خوف وحزن أهل الكفر والشرك.
169
الرسل بها وقصتها عليهم واستكبروا١ عن العمل بها كما استكبروا عن الإيمان بها، فأولئك البعداء من كل خير ﴿أصحاب النار﴾ أي أهلها ﴿هم فيها خالدون﴾ لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- قطع حجة بني آدم بإرسال الرسل إليهم.
٢- أول ما يبدأ به في باب التقوى الشرك بأن يتخلى عنه الإنسان المؤمنين أولاً.
٣- الإصلاح يكون بالأعمال الصالحة التي شرعها الله مزكية للنفوس مطهرة لها.
٤- التكذيب كالاستكبار كلاهما مانع من التقوى والعمل الصالح. ولذا أصحابهما هم أصحاب النار.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (٣٧) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
١ الاستكبار: المبالغة في التكبّر وضمن مع الاستكبار الإعراض، والمعنى: واستكبروا فأعرضوا عنها.
170
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
شرح الكلمات:
فمن أظلم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولذا المشرك ظالم لأنه وضع العبادة في غير موضعها حيث عبد بها من لا يستحقها.
نصيبهم: ما قدر لهم في كتاب المقادير.
رسلنا: المراد بهم ملك الموت وأعوانه.
قالوا ضلوا عنا: غابوا عنا فلم نرهم ولم نجدهم.
في أمم: أي في جملة أمم.
اداركو: أي تداركوا ولحق بعضهم بعضا حتى دخلوها كلهم.
أخراهم لأولاهم: الأتباع قالوا للرؤساء في الضلالة وهم المتبوعون.
تكسبون: من الظلم والشر والفساد.
يلج الجمل في سم الخياط: أي يدخل الجمل في ثقب الإبرة.
المجرمين: الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي.
مهاد: فراش يمتهدونه من النار.
غواش: أغشية يتغطون بها من النار كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه لا أظلم ولا أجهل ولا أضل ممن يفترى على الله الكذب فيقول اتخذ ولداً أو أمر بالفواحش، أو حرم كذا وهو لم يحرم، أو كذب بآياته التي جاءت بها رسله فجحدها وعاند في ذلك وكابر، فهؤلاء المفترون المكذبون يخبر تعالى أنه ﴿ينالهم نصيبهم من الكتاب﴾
171
أي ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من خير وشر وسعادة أو شقاء١ ﴿حتى٢ إذا جاءتهم رسلنا﴾ أي ملك الموت وأعوانه ﴿يتوفونهم﴾ يقولون لهم ﴿أين ما كنتم تدعون من دون الله﴾ أي تعبدون من أولياء؟ فيجيبون قائلين: ﴿ضلوا عنا﴾ أي غابوا فلم نرهم. قال تعالى: ﴿وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين﴾ ويوم القيامة يقال لهم ﴿ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس﴾ في النار، فيدخلون ﴿كلما دخلت أمة لعنت أختها﴾ فلعن المشركون بعضهم بعضاً، واليهود والنصارى كذلك، ﴿حتى إذا اداركوا فيها جميعاً﴾ أي تلاحقوا وتم دخولهم النار أخذوا يشتكون ﴿قالت أخراهم لأولاهم ربنا﴾ أي يا ربنا ﴿هؤلاء أضلونا﴾ عن صراطك فلم نعبدك ﴿فأتهم عذاباً ضعفاً﴾ أي مضاعفاً ﴿من النار﴾، فأجابهم الله تعالى بقوله ﴿لكل ضعف﴾ لكل واحدة منكم ضعف من العذاب ﴿ولكن لا تعلمون﴾، إذ الدار دار عذاب فهو يتضاعف على كل من فيها، وحينئذ ﴿قالت أولاهم لأخراهم ما كان لكم علينا من٣ فضل، فذوقوا٤ العذاب بما كنتم تكسبون﴾ أي من الشرك والافتراء على الله والتكذيب بآياته، ومجانبة طاعته وطاعة رسوله.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآيتان الرابعة والخامسة فإن الرابعة قررت حكماً عظيماً وهو أن الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا٥ عنها فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعاشوا عاد الشرك والشر والفساد هؤلاء إذا مات أحدهم وعرجت الملائكة بروحه إلى السماء لا تفتح له أبوب السماء٦، ويكون مآلهم النار كما قال تعالى ﴿ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾ فعلق دخولهم الجنة على مستحيل وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة، والمعلق عاد مستحيل مستحيل. قال تعالى: ﴿وكذلك نجزي المجرمين﴾ على أنفسهم حيث أفسدوها بالشرك والمعاصي. هذا ما تضمنته الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: ﴿إن الذين
١ أي: في الدنيا لا في الآخرة فهم أصحاب النار هم فيها خالدون ولا سعادة مع دخول النار.
٢ حتى هنا: ابتدائية وليست غائية إذ هي بداية خبر المكذبين المستكبرين المعرضين. قال سيبويه: حتى، وإمّا، وألاَّ لا يُمَلْن لأنهن حروف وكتبت حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى وحبلى.
٣ {مِنْ﴾ زائدة لتأكيد نفي الفضل.
٤ الذوق هنا: مستعمل للإهانة والتشفي والباء في ﴿بما كنتم تكسبون﴾ سببية.
٥ جملة: ﴿إنّ الدين﴾ الخ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً سيقت لتحقيق خلود الفريقين في النار معاً والفريقان هما أولاهما وأخراهما في الآية إذ كلا الفريقين كان مكذباً مستكبراً.
٦ القول بأنّ قوله تعالى: ﴿لا تفتح لهم أبواب السماء﴾ : كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الجزاءات الإلهية قول باطل لأنّه تأويل يبطل به ما أخبر تعالى به من أنّ للسماء أبواب إذ أيّ مانع إن يكون للسماء أبواب لا يدخل معها ملك ولا جني ولا إنسان إلا بإذن ولكل بناء أبواب بحسبه.
172
كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط١ وكذلك نجزي المجرم} ٢.
أما الخامسة فقد تضمنت الخبر التالي: ﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش﴾ أمم أغطية من النار وكما جزى تعالى هؤلاء المكذبين المستكبرين والمجرمين يجزي بعدله الظالمين لأنفسهم حيث لوثوها وخبثوها بأوضار الذنوب والآثام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- شر الظلم ما كان كذباً على الله وتكذيباَ بشرائعه.
٢- تقرير فتنة القبر٣ وعذابه.
٣- لعن أهل النار بعضهم بعضاً حنقاً على بعضهم بعضاً إذ كان كل واحد سبباً في عذاب الآخرة.
٤- بيان جزاء المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها وهو الحرمان من دخول الجنة وكذلك المجرمون والظالمون.
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
١ الخياط: أي المخيط.
٢ الإجرام: فعل الجرم، وأجرم إذا فعل الجرم وهو: الذنب والذنب: هو ما يفسد الروح وينجسها، فأجرم معناه: أفسد.
٣ أخرج ابن كثير في تفسيره عن أبي داود حديثاً طويلاً أشتمل على بيان قبض روح العبد والعروج بها إلى السماء ثم العودة بها إلى القبر وما يجري في القبر من فتنة وما يتم للعبد الصالح من سعادة وللكافر من شقاوة فليُرجع إليه.
173
شرح الكلمات:
إلا وسعها: طاقتها وما تتحمله وتقدر عليه من العمل.
ونزعنا: أي أقلعنا وأخرجنا.
من غل: أي من حقد وعداوة.
هدانا لهذا: أي للعمل الصالح في الدنيا الذي هذا جزاؤه وهو الجنة.
بما كنتم تعملون: أي بسبب أعمالكم الصالحة من صلاة وصيام وصدقات وجهاد.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى جزاء أهل التكذيب والاستكبار عن الإيمان والعمل الصالح وكان شقاءً وحرماناً ذكر جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح فقال: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، ولما كان العمل منه الشاق الذي لا يطاق ومنه السهل الذي يقدر عليه قال: ﴿لا نكلف نفساً إلا وسعها﴾ أي ما تقدر عليه من العمل ويكون في استطاعتها، ثم أخبر عن المؤمنين العاملين للصالحات فقال ﴿أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون﴾. كما أخبر في الآية الثانية أنه طهرهم باطناً فنزع ما في صدورهم من غل١ على بعضهم بعضاً، وأن الأنهار تجري من تحت قصورهم، وأنهم قالوا شاكرين نعم الله عليهم: ﴿الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ أي لعمل صالح هذا جزاؤه أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وقرروا حقيقة وهي أن هدايتهم التي كان جزاؤها الجنة لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا أن الله تعالى هو الذي هداهم فقالوا: ﴿وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله﴾ ٢ ثم قالوا والله ﴿لقد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ فهاهم أهل الكفر والمعاصي في النار، وها نحن أهل الإيمان والطاعات في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد، وناداهم ربهم سبحانه وتعالى: هو الذي هداهم فقالوا: ﴿وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله﴾، ثم قالوا والله ﴿لقد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ فها هم أهل الكفر والمعاصي في النار، وها نحن أهل الإِيمان والطاعات في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد، وناداهم ربهم سبحانه وتعالى: ﴿أن تلكم الجنة أورثتموها٣ بما كنتم تعملون﴾ فيزداد بذلك نعيمهم وتعظم سعادتهم.
١ الغل: الحقد الكامن في الصدر أي: أذهبنا- في الجنة- ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا ولذا فلا يكون لهم من تحاسد في الجنة على تفاوت درجاتهم في العلو والارتفاع. وقال علي رضي الله عنه: فينا والله أهل بدر نزلت: ﴿ونزعنا ما في صدورهم من غل﴾.
٢ روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني فيكون له شكراً، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة".
٣ روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وعليه فالباء في قوله: ﴿بما كنتم تعملون﴾ سببية وليست باء العرض إذ أعمال العبد لا تعادل موضع سوط في الجنة فالعمل مورث بفضل الله تعالى ورحمته.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- الإيمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتض للكرامة في الدارين.
٢- لا مشقة لا تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إلا ما كان عقوبة.
٣- لا عداوة ولا حسد في الجنة.
٤- الهداية هبة من الله فلا تطلب إلا منه، ولا يحصل عليها إلا بطلبها منه تعالى.
٥- صدقت الرسل فيما أخْبَرَتْ به من شأن الغيب وغيره.
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
شرح الكلمات:
فأذن مؤذن: أي أعلن بأعلى صوته أن لعنة الله على الظالمين.
لعنة الله: أي أمره بطرد الظالمين من الرحمة إلى العذاب.
يصدون عن سبيل الله: سبيل الله هي الإسلام والصد: الصرف فهم صرفوا أنفسهم وصرفوا غيرهم.
ويبغونها عوجاً: يطلبون الشريعة أن تميل مع ميولهم وشهواتهم فتخدم أغراضهم.
وبينهما حجاب. أي باب أهل الجنة وأهل النار حاجز فاصل وهو سور الأعراف.
وعلى الأعراف: سور بين الجنة والنار قال تعالى من سورة الحديد ﴿فضرب بينهم بسور﴾.
175
يعرفون كلاً بسيماهم: أي كل من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم.
صرفت أبصارهم: أي نظروا إلى الجهة التي فيها أصحاب النار.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا أصحاب النار قائلين لهم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به هن الجنة ونعيمها حقاً، فهل١ وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقاً؟ فأجابوهم: نعم٢ إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وهنا أذن مؤذن قائلاً: لعنة٣ الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى والجنة، ويبغونها عوجاً أي يريدون سبيل الله معوجة تدور معهم حيث داروا في شرورهم ومفاسدهم، وشهواتهم وأهوائهم، وهم بالآخرة كافرون أيضاً فهؤلاء يلعنونهم: لعنة الله على الظالمين الذين تلك صفاتهم قال تعالى في الآية الثالثة: ﴿وبينهما﴾ أي بين أهل الجنة وأهل النار ﴿حجاب﴾ فاصل أي حاجز وهو مكان على مرتفع، وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم فحبسوا هناك حتى يقضي بين أهل الموقف فيحكم فيهم بدخولهم الجنة إن شاء الله تعالى.
وقوله: ﴿يعرفون كلاً بسيماهم﴾ أي يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون.
﴿ونادوا أصحاب الجنة﴾ أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين: سلام عليكم يتطمعون بذلك كما قال تعالى ﴿لم يدخلوها وهم يطمعون. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء٤ أصحاب النار﴾ أي نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم زرق أعينهم يكتنفهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، رفعوا أصواتهم قائلين: ﴿ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين﴾ أي أهل النار لأنهم دخلوها بظلمهم والعياذ بالله.
١ هذا سؤال توبيخ وتعيير لا استفهام واستخبار.
٢ في نعم لغات: فتح النون والعين نعم وكسر العين للفرق بينها وبين النعم التي هي الإبل والبقر والغنم، وهي حرف إجابة وتكون للعدة والتصديق فمثال العدة نحو: أيقوم زيد؟ فتقول: نعم أي لله بقيامه ومثال التصديق قولك: هل جاء زيد؟ فتقول: نعم فتصدقه في مجيئه.
٣ يروى أن طاووسا دخل على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: ﴿فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين﴾ فصعق هشام فقال طاووس: هذا ذلٌ الصفة فكيف ذل المعاينة.
٤ قال أهل اللغة: لم يأت مصدر على تِفعال سوى حرفين: تِلقاء وتبيان. وما عداهما فبالفتح نحو تَسيار وتَذكار وتَهمام، أما الأسماء فكثرة نحو تِمثال ومِفتاح ومِصباح ومِعراج.
176
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك بحيث إذا أراد من في الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك.
٢- يجوز إطلاق لفظ الوعد على الوعيد للمشاكلة أو التهكم كما في هذه الآيات.
٣- التنديد بالصد عن سبيل الله، والظلم والكفر بالآخرة وهي أسباب الشقاء في الدار الآخرة.
٤- تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي، ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من ينجو من دخول النار.
٥- مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجوداً.
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١)
شرح الكلمات:
بسيماهم: السيما العلامة الدالة على من هي فيه.
جمعكم: أي للمال وللرجال كالجيوش.
177
أهؤلاء: إشارة إلى ضعفاء المسلمين وهم في الجنة.
أو مما رزقكم الله: أي من الطعام والشراب.
حرمهما: منعهما.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار قال تعالى: ﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالاً﴾ أي من أهل النار يعرفونهم بسيماهم التي هي سيما أصحاب النار من سواد الوجوه وزرقة العيون نادوهم قائلين: ﴿ما أغنى عنكم جمعكم﴾ أي للأموال والرجال للحروب والقتال، كما لم يغن عنكم استكباركم عن الحق وترفعكم عن قبوله وها أنتم في أشد ألوان العذاب، ثم يشيرون لهم إلى ضعفة المسلمين الذين يسخرون منهم في الدنيا ويضربونهم ويهينونهم١ ﴿أهؤلاء الذين أقسمتم﴾ أي حلفتم ﴿لا ينالهم الله برحمة٢﴾ ثم يقال لأصحاب الأعراف ﴿ادخلوا٣ الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون﴾.
وفي الآية الثالثة يقول تعالى مخبراً عن أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴿ونادى أصحاب النار أصحاب٤ الجنة أن أفيضوا علينا من الماء﴾ ٥ وذلك لشدة عطشهم ﴿أو مما رزقكم الله﴾ أي من الطعام وذلك لشدة جوعهم فيقال لهم: ﴿إن الله حرمهما﴾ أي شراب الجنة وطعامها ﴿على الكافرين﴾ فلا ينالوهما بحال من الأحوال.
ثم وصف الكافرين ليعرض جرائمهم التي اقتضت حرمانهم وعذابهم ليكون ذلك عظة وعبرة للكفار من قريش ومن سائر الناس فقال وهو ما تضمنته الآية الرابعة ﴿الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون﴾ أي نتركهم في عذابهم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له من الإيمان والصالحات، وبسبب جحودهم لآياتنا الداعية إلى الإيمان وصالح الأعمال.
١ كبلال وعمار وصهيب وخباب وغبرهم من سائر ضعفة المؤمنين في كل أمة من الأمم التي وجد فيها مؤمنون مستضعفون.
٢ جعل إيواء الله تعالى إياهم بدار رحمته التي هي الجنة بمنزلة النيل الذي هو حصول الأمر المحبوب المطلوب.
٣ اختلف في القائل. والراجح أنه الله تعالى، وذلك بعد استقرار أهل الجنة فيها وأهل النار في النار ولم يبق إلا أصحاب الأعراف فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: ﴿ادخلوا الجنة﴾.
٤ روي عن ابن عباس أنه قال: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إنّ لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم.. فينادي الرجل أخاه أو قريبه قد احترقتُ فأغثني فيقول له إن الله حرّمهما على الكافرين.
٥ في الآية دليل على أفضلية صدقة الماء، وفي الحديث: "أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء" وليس أدل من حديث الذي سقى كلباً عطشان فشكر الله له فغفر له.
178
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عدم إغناء المال والرجال أيَّ إغناء لمن مات كافراً مشركاً من أهل الظلم والفساد.
٢- بشرى الضعفة من المسلمين بدخول الجنة وسعادتهم فيها.
٣- تحريم اتخاذ شيء من الدين لهواً ولعباً.
٤- التحذير من الاغترار بالدنيا حتى ينسى العبد آخرته فلم يعد لها ما ينفعه فيها من الإيمان وصالح الأعمال.
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)
شرح الكلمات:
ولقد جئناهم: أي أهل أولاً ثم سائر الناس.
بكتاب: القرآن العظيم.

فصلناه على علم: بيناه على علم منَّا فبيّنا حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه وأمثاله.

179
تأويله: تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به.
وضل عنهم: أي ذهب ولم يعثروا عليه.
في ستة أيام: هي الأحد إلى الجمعة.
يغشي الليل النهار: يغطي كل واحد منهما الآخر عند مجيئه.
حثيثاً: سريعاً بلا انقطاع.
مسخرات: مذللات.
ألا: أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف).
له الخلق والأمر: أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده لا شريك له.
تبارك: أي عظمت قدرته، وجلت عن الحصر خيراته وبركاته.
العالمين: كل ما سوى الله تعالى فهو عالم أي علامة على خالقه وإلهه الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشاً لأجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصّله تفصيلاً فبين التوحيد ودلائله، والشرك وعوامله، والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى أي هادياً ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٢) وهي قوله تعالى: ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصَّلناه على علم١ هدىً٢ ورحمةً لقوم يؤمنون﴾ وأما الآية الثانية (٥٣) فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين جاءهم بالكتاب المفصّل المبيَّن فقال: ﴿هل يَنْظُرون﴾ أي ما ينظرون ﴿إلاّ تأويله﴾ أي عاقبة ما أخبر به القرآن من القيامة وأهوالها، والنار وعذابها، وعندئذ يؤمنون، وهل ينفع يومئذ الإيمان؟ وهاهم أولاء يقولون ﴿يوم يأتي تأويله﴾ وينكشف الغطاء عما وعد به، ﴿يقول الذين نسوه من قبل﴾ أي قبل وقوعه، وذلك في الحياة الدنيا، نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون: ﴿قد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ اعترفوا بما
١ أي: مناً به، فلم يقع فيه سهو ولا غلط وحاشاه تعالى أن يسهو أو يغلط.
٢ ﴿هدى ورحمة﴾ منصوبان على الحال، ويصح فيهما الرفع والخفض فالرفع على الابتداء أي: هو هدى ورحمة، والخفض على النعت لكتاب أي: ذي هداية ورحمة، وخُص المؤمنون بالهدى والرحمة لأنهم أحياء، وأمّا الكافرون فهم أموات.
180
كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما لا يتحقَّق لهم أبداً فيقولون: ﴿فهل١ لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؟ أو نردُّ﴾ إلى الدنيا ﴿فنعمل غير الذي كنا نعمل﴾ من الشرك والشر والفساد. وتذهب تمنياتهم أدراج الرياح، ولم يرُعْهُمْ إلا الإعلان التالي: ﴿قد خسروا٢ أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾، خسروا أنفسهم في جهنم، وضاع منهم كلَّ أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أنَّ آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة.
وفي الآية الأخيرة يقول تعالى لأولئك المتباطئين في إيمانهم ﴿إنَّ ربَّكم﴾ الذي يُحبُّ أن تعبدوه وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه ﴿اللهُ الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغْشِي اللّيْلَ النَّهار يطلبه٣ حثيثاً والشمس والقمرَ والنجّومَ مسخراتٍ بأمره﴾ هذا هو ربكم الحق وإلهكم الذي لا إله لكم غيره، ولا ربَّ لكم سواه، أمّا الأصنام والأوثان فلن تكون ربّاً ولا إلهاً لأحد أبداً لأنّها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها، ودفع الضّر عنها فكيف بغيرها؟ إنّ ربّكم ومعبودكم الحقّ الذي له٤ الخلق كلّه ملكاً وتصرفاً وله الأمر وحده يتصرف كيف يشاء في الملكوت كله. علويّه وسفليّه فتبارك الله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا ينفع الإيمان عند معاينة الموت والعذاب كما لا ينفع يوم القيامة.
٢- يحسن التثبت في الأمر والتأني عند العمل وترك العجلة، فالله قادرٌ على خلق السمَّوات والأرض في ساعة ولكن خلقها في ستة٥ أيام بمقدار أيام الدّنيا تعليماً وإرشاداً إلى التثبت في الأمور والتأني فيها.
٣- صفة من صفات الرب تعالى التي يجب الإيمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي
١ ﴿فهل لنا من شفعاء﴾ ؟ الاستفهام مشوب بالتمني.
٢ خسران النفس أكبر خسران إذ هو آخر ما يخسر، فإنّ مَنْ خسر نفسه فقد خسر كل شيء قال تعالى: ﴿قل إنّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة﴾ ومعنى: خسران المس: عدم الانتفاع بها.
٣ أي: يطلبه طلباً حثيثاً أي سريعاً، إذ الحث: الإعجال والسرعة.
٤ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله" أخرجه ابن كثير نقلاً عن ابن جرير. وقال ابن عيينة: فرَّق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما لقد كفر إذ قال: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ فالخلق غير الأمر فمن قال: الأمر مخلوق فقد كفر.
٥ أصل ستة: سدسة فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليها فصارت ستة ولذا تصغر على سديسة وتجمع على أسداس، والجمع والتصغير يردّان الأسماء إلى أصولها، ويقال: جاء فلان سادس ستة.
181
استواؤه تعالى على عرشه. ١
٤- انحصار الخلق كلّ الخلق فيه تعالى فلا خالق إلا هو، والأمر كذلك فلا آمر ولا ناهي غيره. هنا قال عمر: من بقي له شيء فليطلبه إذ لم يبق شيء ما دام الخلق والأمر كلاهما لله.
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
شرح الكلمات:
ادعوا ربكم: سلوه حوائجكم الدنيوية والأخروية فإنّه ربّكم فلا تستحيوا من سؤاله.
تضرعاً وخفية: أي حال كونكم ضارعين متذللين مخفي الدعاء غير رافعين أصواتكم به.
المعتدين: أي في الدعاء وغيره والاعتداء في الدعاء أن يسأل الله ما لم تجر سنته بإعطائه أو إيجاده أو تغييره كأن يسأل أن يكون نبياً أو أن يرد طفلاً أو صغيراً، أو يرفع صوته بالدعاء.
ولا تفسدوا في الأرض: أي بالشرك والمعاصي بعد إصلاحها بالتوحيد والطاعات.
المحسنين: الذين يحسنون أعمالهم ونياتهم، بمراقبتهم الله تعالى في كل أحوالهم.
معنى الآيات:
ما عرّف تعالى عباده بنفسه وأنه ربهم الحق وإلههم، وأنه الخالق الآمر المتصرف بيده كل شيء أمرهم إرشاداً لهم أن يدعوه، وبين لهم الحال التي يدعونه عليها، ليستجيب لهم
١ من أحسن ما يؤثر في مسألة الاستواء قول مالك رحمه الله تعالى إذ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة، ويروى مثله عن أم سلمة رضي الله عنها.
182
فقال: ﴿ادعوا ربكم تضرعاً١﴾ أي تذللاً وخشوعاً ﴿وخفية﴾ ٢ أي سراً لا جهراً، ونهاهم عن الاعتداء في الدعاء حيث أعلمهم أنه لا يحب المعتدين، والاعتداء في الدعاء أي يُدْعَى غير الله تعالى أو يدعى معه غيره، ومنه طلب ذوات الأسباب بدون إعداد أسبابها، أو سؤال ما لم تجر سنة الله به كسؤال المرء أن يكون نبياً أو يرد من كهولته إلى شبابه أو من شبابه إلى طفولته.
ثم بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى ما يكملهم ويسعدهم نهاهم عن الفساد في الأرض بعد أن أصلحها تعالى والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، والمعاصي تشمل سائر المحرمات كقتل الناس وغصب أموالهم وإفساد زروعهم وإفساد عقولهم بالسحر والمخدرات وأعراضهم بالزنى والموبقات. ومرة أخرى يحضهم على دعائه لأن الدعاء هو العبادة وفي الحديث الصحيح "الدعاء هو العبادة" فقال: ادعوا ربكم أي سلوه حاجاتكم حال كونكم في دعائكم خائفين من عذابه طامعين راجين رحمته وبين لهم أن رحمته قريب٣ من المحسنين الذين يحسنون نيّاتهم وأعمالهم ومن ذلك الدعاء فمن أحسن الدعاء ظفر بالإجابة، فثواب المحسنين قريب الحصول بخلاف المسيئين فإنه لا يستجاب لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- وجوب دعاء الله تعالى فإن الدعاء هو العبادة.
٢- بيان آداب الدعاء وهو: أن يكون الداعي ضارعاً متذللاً، وأن يخفي دعاءه فلا يجهر به، وأن يكون حال الدعاء خائفاً طامعاً٤، وأن لا يعتدي في الدعاء بدعاء غير الله تعالى أو سؤال ما لم تجر سنة الله بإعطائه.
٣- حرمة الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله تعالى بالإسلام.
٤- الترغيب في الإحسان مطلقاً خاصاً وعاماً حيث أن الله تعالى يحب أهله.
١ اختلف في رفع اليدين في الدعاء والأكثرون على استحبابه لفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ روي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي".
٣ عدم تأنيث قريب مع أنه خبر عن مؤنث، تكلم فيه كثيراً وأحسن ما قيل في مثله أن لفظ قريب وبعيد إذا أطلق على النسب تعيّن التذكير والتأنيث بحسب المخبر عنه نحو: زيد قريب عمر، وعائشة قريبة بكر مثلا، وما كان لغير النسب جاز تذكيره وتأنيثه قال تعالى: ﴿وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً﴾ وقال: ﴿وما هي من الظالمين ببعيد﴾ فذكّر في الموضعين مع أنّ الوصف عائد على مؤنث.
٤ ويصح نصب خوفاً وطمعاً مفعولين لأجله أي ادعوه لأجل الخوف منه والطمع فيه، ونصبهما على الحال كما في التفسير حسن أيضاً.
183
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
شرح الكلمات:
الرياح: جمع ريح وهو الهواء المتحرك.
بشيراً١: جمع بشير أي مبشرات بقرب نزول المطر، قرىء نشراً أي تنشر السحاب للأمطار.
رحمته: أي رحمة الله تعالى وهي المطر.
أقلت سحاباً ثقالاً: أي حملت سحاباً ثقالاً مشبعاً ببخار الماء.
ميت: لا نبات به ولا عب ولا كلأ.
كذلك نخرج الموتى: أي كذلك نحيي الموتى ونخرجهم من قبورهم أحياء.
تذكرون: تذكرون فتؤمنون بالبعث والجزاء.
الطيب: أي الطيب التربة.
خبث: أي خبثت تربته بأن كانت سبخة.
إلا نَكِداً: أي إلا عسراً.
نصرف الآيات: أي ننوعها ونخالف بين أساليبها ونذكر في بعضها ما لم نذكره في بعضها للهداية والتعليم.
لقوم يشكرون: لأنهم هم الذين ينتفعون بالنعم بشكرها بصرفها في محاب الله تعالى.
١ كرسل جمع رسول، وسكّن بشراً للتخفيف كما تسكن السين في رُسُل فيقال: رُسْل على وزن فُعْل.
184
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة الإلهية الموجبة لعبادته تعالى وحده دون سواه قال تعالى ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشراً﴾ وهو أي ربكم الحق الذي لا إله إلا هو وبشراً أي مبشرات١ ونشراً أي تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الأرض الميتة فتحيا بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم، وبمثل هذا التدبير ني إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله جزاء عادلاً لا ظلم فيه وهذا الفعل الدال على القدرة والرحمة ولطف التدبير يُريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات الأرض قادر على إحياء موات الأجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم ولا يشقيكم فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٧) ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته﴾ أي المطر ﴿حتى إذا أقلَّت﴾ أي حملت ﴿سحاباً ثقالاً﴾ أي ببخار الماء ﴿سقناه﴾ بقدرتنا ولطف تدبيرنا ﴿لبلد ميت٢﴾ لا حياة به لا نبات ولا زرع، ولا عشب ﴿فأنزلنا به﴾ أي بالسحاب ﴿الماء﴾ العذب الفرات، ﴿فأخرجنا به من كل الثمرات﴾ المختلفة الألوان والروائح والطعوم ﴿كذلك نخرج الموتى﴾ كهذا الإخراج للنبات من الأرض الميتة نخرج الموتى٣ من قبورهم وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذكروا أن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى رحمة منا بكم وإحساناً منا إليكم.
أما الآية الثانية (٥٨) فقد تضمنت مثلاً ضربه الله تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على إحياء الناس بعد موتهم فقال تعالى: ﴿والبلد الطيب﴾ أي طيب التربة ﴿يخرج نباته بإذن ربه﴾ وذلك بعد إنزال المطر به، وهذا مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من الآيات يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة ﴿والذي خبث﴾ أي والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة عندما ينزل به المطر لا يخرج نباته إلا نكداً٤ عسراً قليلاً غير
١ قرىء ﴿بُشرا﴾ بضم الباء، وقرئ ﴿نشرا﴾ بالنون المضمومة، وهما قراءتان سبعيتان وفسرت الكلمتان بحسب ما تدلان عليه فتأمل، وفيهما قراءات أخرى من حيث الحركات كضم الباء مع الشين، وبشرى بالألف المقصورة.
٢ البلد والبلدة بمعنى ويجمع على بلاد وبلدان.
٣ روى مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنّه الطلّ فتنبت منه أجساد الناس، ثم قال: أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون" الحديث.
٤ النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير من الناس، وشبه به البلد الخبيث التربة كذات الحجارة أو السبخة.
185
صالح وهذا مثل الكافر عندما يسمع الآيات القرآنية لا يقبل عليها ولا ينتفع بها في خُلقه ولا سلوكه فلا يعمل خيراً ولا يترك شراً.
وقوله تعالى: ﴿كذلك نصرف الآيات﴾ أي ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وضرب الأمثال وسوق الشواهد والعبر ﴿لقوم يشكرون﴾ إذ هم المنتفعون بها أما الكافرون الجاحدون فأنى لهم الانتفاع بها وهم لا يعرفون الخير ولا ينكرون الشر.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء إذ هي من أهم أركان الإيمان.
٢- الاستدلال بالحاضر على الغائب وهو من العلوم النافعة.
٣- حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٤- فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٦٠) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
186
شرح الكلمات:
نوحاً: هذا أول الرسل هذا العبد الشكور هو نوح بن لَمْك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس١ عليهما السلام، أحد أولى العزم الخمسة من الرسل عاش داعياً وهادياً ومعلماً ألفاً ومائتين وأربعين سنة، ومدة الدعوة ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، وما بعدها عاشها هادياً ومعلماً وللمؤمنين.
عذاب يوم عظيم: هو عذاب يوم القيامة.
الملأ: أشراف القوم ورؤساؤهم الذين يملأون العين والمجلس.
وأنصح لكم: أريد لكم الخير لا غير.
أوَ عجبتم: الاستفهام للإنكار، وعجبتم الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة: هي كذبتم أي أكذبتم وعجبتم.
لينذركم: أي العذاب المترتب على الكفر والمعاصي.
ولتتقوا: أي الله تعالى بالإيمان به وتوحيده وطاعته فترحمون فلا تعذبون.
والذين معه في الفلك: هم المؤمنون من قومه والفلك هي السفينة التي صنعها بأمر الله تعالى وعونه.
عمين: جمع عمٍ٢ وهو أعمى البصيرة أما أعمى العينين يقال فيه أعمى.
معنى الآيات:
هذا شروع في ذكر قصص ستة من الرسل وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام والمراد من ذكر هذا القصص هو تنويع أسلوب الدعوة ليشاهد المدعون من كفار قريش صوراً ناطقة ومشاهد حية لأمم سبقت وكيف كانت بدايتها وبم ختمت نهايتها، وهي لا تختلف إلا يسيراً عما هم يعيشونه من أحداث الدعوة والصراع الدائر بينهم وبين نبيهم لعلهم يتعظون. ، ومع هذا فالقصص يقرر نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لو لم يكن رسولاً يوحى إليه لما تأتى له أن يقص من أخبار الماضين ما بهر العقول كما أن المؤمنين مع نبيهم يكتسبون من العبر ما يحملهم على الثبات والصبر، ويجنبهم القنوط واليأس من حسن العافية والظفر والنصر.
١ الظاهر أن إدريس هنا ليس هو إدريس النبي الرسول عليه السلام- والله أعلم.
٢ يقال: رجل عمٍ أي جاهل بكذا.
187
وهذا أول قصص بقوله تعالى فيه ﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه١﴾ أي وعزتنا لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه كما أرسلناك أنت يا رسولنا إلى قومك من العرب والعجم، فقال: أي نوح في دعوته: ﴿يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره٢﴾ أي ليس لكم على الحقيقة إله غيره، إذ إلإله الحق من يخلق ويرزق ويدبر فيحيي ويميت ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويسمع ويبصر فأين هذا من آلهة نحتموها بأيديكم، ووضعتموها في بيوتكم عمياء لا تبصر صماء لا تسمع بكماء لا تنطق فكيف يصح أن يطلق عليها اسم الإله وتعبد ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم﴾ أنذرهم عذاب يوم القيامة إن هم أصروا على الشرك والعصيان فأجابه الملأ٣ منهم وهم أهل الحل والعقد في البلاد قائلين: ﴿إنا لنراك في ضلال مبين﴾ بسبب موقفك العدائي هذا لآلهتنا، ولعبادتنا إياها فأجاب عليه السلام قائلاً: ﴿يا قوم ليس بي ضلالة﴾ مجرد ضلالة فكيف بالضلال كله كما تقولون، ﴿ولكني رسول من رب العالمين﴾ أي إليكم ﴿أبلغكم رسالات ربي وأنصح٤ لكم﴾ أي بما هو خير لكم في حالكم ومآلكم، واعلموا أني ﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ فأنا على علم بما عليه ربي من عظمة وسلطان، وجلال، وجمال، وما عنده من رحمة وإحسان، وما لديه من نكال وعذاب، وأنتم لا تعلمون فاتقوا الله إذاً وأطيعوني يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى آجالكم، ولا يعجل بفنائكم وواصل حديثه معهم وقد دام ألف سنة إلا خمسين عاماً قائلاً: أكذبتم بما دعوتكم إليه وجئتكم به وعجبتم٥ أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا الله بتوحيده وعبادته وطاعته رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أمن هذا يتعجب العقلاء؟ وكانت النتيجة لهذه الدعوة المباركة الخيّرة أن كذبوه فأنجاه ربه والمؤمنين معه، وأغرق الظالمين المكذبين، لأنهم كانوا قوماً عمين فلا يستحقون البقاء والنجاة قال تعالى ﴿فكذبوه فأنجيناه والذين معه في
١ نوح: هو أوّل الرسل من حيث أنه حارب الشرك ودعا إلى التوحيد، وهل إدريس من ذريته أو من آبائه خلاف، أمّا شيت بن آدم فقطعاً هو من آبائه.
٢ غيره: مرفوع على النعت لأنه المرفوع تقديراً، إذ الأصل رفعه، وجُرَّ بحرف الجرّ الزائد الذي هو مِنْ.
٣ الملأ: هم أشراف القوم ورؤساؤهم الذين إذا نظر إليهم ملأوا العين وإذا جلسوا ملأوا المجلس، هذا أصل الكلمة.
٤ النصح: إخلاص القول والعمل من شوائب الفساد، بمعنى تخليص القول أو العمل مما هو ضار أو غير نافع للمنصوح له، ويقال نصحه ونصح له والمعنى واحد، والاسم النصيحة، والناصح الخالص من العسل مثل الناصح الذي لا شائبة فيه.
٥ قوله تعالى: {أو عجبتم﴾ الهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على جملة محذوفة كما هي في التفسير.
188
الفلك١، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين٢} لا يبصرون الآيات ولا يرون النذر والشواهد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنبوة نوح عليه السلام.
٢- تقرير وتأكيد التوحيد، وبيان معنى لا إله إلا الله.
٣- التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به.
٤- أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوه الحق لمنافاتها للباطل.
٥- تقرير مبدأ العاقبة للمتقين.
٦- عمى القلوب أخطرهن عمى العيون على صاحبه.
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
١ الفلك يكون واحداً وجمعاً ويذكر ويؤنث.
٢ ﴿عمين﴾ أي: عن الحق وعن معرفة الله وقدرته ولطفه، وإحسانه يقال رجلٌ عَمٍ بكذا أي: جاهل به لا يعرفه.
189
شرح الكلمات:
وإلى عاد: أي ولقد أرسلنا إلى عاد وهم قبيلة عاد، وعاد أبو القبيلة وهو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
أخاهم هوداً: أخاهم في النسب لا في الدين. وهود هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه السلام.
أفلا تتقون: أي أتصرّون على الشرك فلا تتَّقون عذاب الله بالإيمان به وتوحيده، والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم عدم تقواهم لله عز وجل.
في سفاهة: السفاهة كالسّفَه وهو خِفّة العقل، وقلّة الإدراك والحلم.
أمين: لا أخونكم ولا أغشكم ولا أكْذِبُكم، كما أني مأمون على رسالتي لا أفرط في إبلاغها.
بسطة: أي طولاً في الأجسام، إذ كانوا عمالق من عظم ص أجسادهم وطولها.
آلاء الله: نعمه واحدها أَلىً وإلىً واْليٌ وإلْوٌ والجمع آلاء.
تفلحون: بالنجاة من النار في الآخرة، والهلاك في الدنيا.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الثاني، قَصَصُ هود عليه السلام مع قومه عاد الأولى التي أهلكها الله تعالى بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام. قوله تعالى ﴿وإلى عاد١﴾ أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم من النسب هوداً فماذا قال لهم ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ أي وحدوه في العبادة ولا تعبدوا معه آلهة أخرى. وقوله: ﴿مالكم من إله غيره﴾ أي ليس لكم أي إله غير الله، إذ الله هو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة، لأنه تعالى يخلق وهم لا يخلقون. ويرزق وهم لا يرزقون ويدبر الحياة بكل ما فيها وهم مدبَّرون لا يملكون نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فكيف يكونون آلهة. ثم حضهم على التقوى وأنكر عليهم تركهم لها فقال عليه السلام لهم: ﴿أفلا تتقون﴾ أي الله ربّكم فتتركوا الشرك وتوحدوه؟ فأجاب الملأ الذين كفروا من قومه، بأسوأ إجابة وذلك لكبريائهم واغترارهم فقالوا: {إنا لنراك في
١ عاد: آمّة عظيمة كانوا أكثر من عشر قبائل، ومنازلهم كانت ببلاد العرب من حضرموت والشّحر إلى عُمان، وعاد اسم القبيلة وصرف لأنّه ثلاثي ساكن الوسط كهند ودعد.
190
سفاهة} أي حمق وطيش وعدم بصيرة بالحياة وإلا كيف تخرج عن إجماع قومك، وتواجههم بعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ﴿وإنا لنظنك من الكاذبين﴾ فيما جئت به أي من الرسالة، ودعوت إليه من التوحيد ونبذ الآلهة غير الله تعالى، فأجاب هود عليه السلام راداً شبهتهم فقال: ﴿يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين﴾ أي أني لست كما تزعمون أن بي سفاهة ولكني أحمل رسالة أبلغكموها، وأنا في ذلك ناصح لكم مريد لكم الخير أمين١ على وحي الله تعالى إلي، أمين لا أغشكم ولا أخونكم فما أريد لكم إلا الخير. ثم واصل دعوته فقال ﴿أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربَّكم﴾ أي أكذبتم برسالاتي وعجبتم من مجيئكم ذكر من ربكم ﴿على رجل منكم لينذركم﴾ أي عواقب كفركم وشرككم، أمن مثل هذا يتعجب العقلاء أم أنتم لا تعقلون؟.
ثم ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم لعلّها تُحدْثُ لهم ذكراً في نفوسهم فيتراجعون بعد عنادهم وإصرارهم فقال: ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء٢ من بعد قوم نوح﴾ أي بعد أن أهلكهم بالطوفان لإصرارهم على الشرك ﴿وزادكم في الخلق بسطة٣﴾ أي جعل أجسامكم قوية وقاماتكم طويلة هذه نعم الله عليكم ﴿فاذكروا آلاء٤ الله لعلكم تفلحون﴾ لأنكم إن ذكرتموها بقلوبكم شكرتموها بأقوالكم وأعمالكم، وبذلك يتم الفلاح لكم، وهو نجاتكم من المرهوب وظفركم بالمحبوب وذلك هو الفوز المطلوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو معنى لا إله إلا الله.
٢- مشروعية دفع الإتهام، وتبرئة الإنسان نفسه مما يتهم به من الباطل.
٣- من وظائف الرسل عليهم السلام البلاغ لما أمروا بإبلاغه.
١ الأمين: هو الموصوف بالأمانة، والأمانة أعز أوصاف البشر وفي الحديث "لا إيمان لمن لا أمانة له" ويروى: "لمن لا أمان له".
٢ الخلفاء: جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء أي: يتولى العمل الذي كان يقوم به الآخر، كما يجمع خليفة على خلائف.
٣ ويجوز بصطة: بالصاد أي طولاً في الأجسام قيل كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً، فالزيادة كانت على خلق من قبلهم، وذكر القرطبي أموراً عجباً لا يحسن ذكرها.
٤ الآلاء: مفرده إلي ويعرف فيقال الإلي وهو: النعمة وهو على وزن عِنَب وأعناب ونظيره إن أي: الوقت والجمع آناء قال تعالى: ﴿ومن آناء الليل فسبّح﴾ الخ.
191
٤- فضيلة النصح وخُلُق الأمانة.
٥- استحسان التذكير بالنعم فإن ذلك موجب للشكر والطاعة.
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي١ فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٧١) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (٧٢)
شرح الكلمات:
ونذر: أي نترك.
بما تعدنا: أي من العذاب.
رجس: سخطٌ موجبٌ للعذاب.
أتجادلونني: أي أتخاصمونني.
من سلطان: أي من حجّة ولا برهان يثبت أنها تستحق العبادة.
دابر: دابر القوم آخرهم، لأنه إذا هلك آخر القوم هلك أولهم بلا ريب.
١ ﴿أتجادلونني في أسماء﴾ أي: في الأصنام التي أطلقوا عليها أسماء كاللاّت، والعزّى ومناة عند قريش ومشركي العرب، فأطلق الاسم وأريد به المسمَّى.
192
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص هود عليه السلام، فهاهم أولاء يردُّون على دعوة هود بقول الملأ منهم ﴿أجئتنا١ لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا﴾ وتهددنا إن نحن لم نترك عبادة آلهتنا، ﴿فأتنا بما تعدنا﴾ به من العذاب٢ ﴿إن كنت من الصَّادقين﴾ في دعواك فرد هود عليه السلام على قولهم هذا قائلاً قد وقع٣ عليكم رجس٤ أي سخط وغضب من الله تعالى وأن عذابكم لذلك أصبح متوقعاً في كل يوم فاضطروا ما سَيَحِلٌّ بكم ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ قال تعالى ﴿فأنجيناه٥ والذين معه برحمة منّا﴾ أي بعد إنزال العذاب، ومن معه من المؤمنين برحمة منا خاصة لا تتم إلا لمثلهم، ﴿وقطعنا دابر القوم الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مؤمنين﴾ أهلكناهم بخارقة ريح تدمر كل شيء بأمر بها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكذلك جزاء الظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- احتجاج المشركين على صحَّة باطلهم بفعل آبائهم وأجدادهم يكاد يكون سنّةً مطَّردةً في الأمم والشعوب، وهو التقليد المذموم.
٢- من حمق الكافرين استعجالهم بالعذاب، ومطالبتهم به.
٣- آلهة الوثنيين مجرّد أسماء لا حقائق لها إذ إطلاق المرء اسم إله على حجر لا يجعله إلهاً ينفع ويضر، ويحيى ويميت.
٤- قدرة الله تعالى ولطفه تتجلَّى في إهلاك عاد وإنجاء هود والمؤمنين.
١ الاستفهام هنا إنكاري أنكروا على نبي الله هود دعوته إيّاهم إلى التوحيد وكان جوابهم هذا أقل جفوة من السابق الذي اتهموه فيه بالسفاهة والكذب.
٢ ذكر العذاب في سورة الأحقاف إذ قال تعالى: ﴿واذكر أخاً عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألاّ تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم﴾.
٣ ﴿قد وقع﴾ بمعنى: وجب، يقال: وقع الحكم أو القول إذا وجب.
٤ وفسّر الرجس بالعذاب أو الرّين على القلوب بزيادة الكفر.
٥ روي أنّ هوداً ومن معه من المؤمنين نزحوا إلى مكة وأقاموا بها بعد هلاك قومهم.
193
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)
شرح الكلمات:
وإلى ثمود: أي أرسلنا إلى ثمود، وثمود قبيلة سميت باسم جدها وهو ثمود١ بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.
أخاهم صالحاً: أي في النسب وصالح هو صالح بن عبيد بن آسف كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
آية: علامة على صدقي في أني رسول الله إليكم.
وبوأكم في الأرض: أنزلكم فيها منازل تحبون فيها.
١ ثمود: هو أخو جديس.
194
وتنحتون: تنجرون الحجارة في الجبال لتتخذوا منازل لكم لتسكنوها.
آلاء الله: نعم الله تعالى وهي كثيرة.
ولا تعثوا: أي لا تفسدوا في الأرض مفسدين.
استكبروا: عتوا وطغوا وتكبروا فلم يقبلوا الحق ولم يعترفوا به.
معنى الآيات:
هذا القصص الثالث قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى ﴿وإلى ثمود أخاهم صالحاً﴾ أي وأرسلنا إلا قبيلة ثمود١ أخاهم صالحاً نبياً أرسلناه بما أرسلنا به رسلنا من قبله ومن بعده بكلمة التوحيد ﴿قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره﴾ وهذا مدلول كلمة الإخلاص التي جاء بها خاتم الأنبياء "لا إله إلا الله " ﴿قد جاءتكم بينة من ربكم﴾ تشهد بأنه لا إله إلا هو، وأني رسوله إليكم، هذه البينة٢ ناقة تخرج من صخرة في جبل، ﴿هذه ناقة٣ الله لكم آية﴾ علامة وأية علامة على صدقي في إرسال الله تعالى لي رسولاً إليكم لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، فذروا هذه الناقة تأكل في أرض٤ الله ﴿ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم﴾، فكانت الناقة ترعى في المرج، وتأتي إلى ماء القوم فتشربه كله، ويتحول في بطنها إلى لبن خالص فيَحْلِبون ما شاءوا وقال لهم يوماً هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم، ووعظهم عليه السلام بقوله: ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد﴾ أي بعد هلاكهم، وكانت ديار عاد بحضرموت جنوب الجزيرة العربية وديار ثمود بالحجر شمال الجزيرة بين الحجاز والشام. وقوله ﴿وبوأكم في الأرض﴾ أرض الحِجْر تتخذون من سهولها قصوراً٥ تسكنونها في الصيف، وتنحتون من الجبال بيوتاً تسكنونها في الشتاء، ﴿فاذكروا آلاء الله﴾ أي نعمه العظيمة لتشكروها بعبادته وحده دون ما أتخذتم من أصنام، وحذَّرهم من عاقبة الفساد فقال ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين﴾ أي لا تنشروا الفساد في الأرض بالشرك وارتكاب المعاصي وإزاء هذه الدعوة
١ ثمود: يصرف ولا يصرف فمن صرفه: على أنه اسم للحي، ومن منعه: على أنه علم على القبيلة.
٢ هذه الناقة هم الذين طالبوا بها لتكون آية على صدق نبوّة صالح، ولمّا جاءتهم كفروا بها.
٣ إضافة الناقة إلى الله تعالى للتشريف والتخصيص إذ كل ما في الكون هو لله عزّ وجلّ.
٤ أي: ليس عليكم رزقها ومؤونتها.
٥ استدل بعضهم على جواز بناء القصور للسكن بهذه الآية وبحديث: "إنّ الله إذا أنعم علي عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه" وكره ذلك بعض، لحديث: "وما أنفق المؤمنين من نفقة فإنّ خلفها على الله عزّ وجلّ إلاّ ما كان في بنيان أو معصيّة" رواه الدارقطني.
195
الصادقة الهادفة إلى هداية القوم وإصلاحهم لينجوا من عاقبة الشرك والشر والفساد ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه﴾ أي قوم صالح، قالوا ﴿للذين استضعفوا لمن آمن١ منهم﴾ أي لمن آمن من ضعفاء القوم: ﴿أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه﴾، وهو استفهام سخرية واستهزاء دال على صلف القوم وكبريائهم، فأجاب المؤمنون من ضعفة القوم قائلين ﴿إنا بما أرسل به مؤمنون﴾ قالوها واضحةً صريحةً مُعْلنةً عن إيمانهم بما جاء به رسول الله صالح غير خائفين، وهنا ردٌ المستكبرون قائلين: ﴿إنا بالذي آمنتم به كافرون﴾ وإمعاناً منهم في الجحود والتكبّر، لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون حتى لا يعترفوا بالرسالة ولو في جواب رد الكلام فقالوا ﴿إنا بالذي آمنتم به كافرون﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- اتحاد دعوة الرسل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت أي في عبادة الله وحده.
٢- تقرير إرسال الرسل بالآيات وهي المعجزات وآية صالح أعجب آية وهي الناقة.
٣- وجوب التذكير بنعم الله إذ هو الباعث على الشكر، والشكر هو الطاعة.
٤- النهي عن الفساد في الأرض والشرك وارتكاب المعاصي.
٥- الضعفة هم غالباً أتباع الأنبياء: وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه أو المال، وعدم إنغماسهم في الملاذ والشهوات.
فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
١ ﴿لمن آمن﴾ بدل من (الذين استضعفوا) بدل بعضٍ من كلّ.
196
شرح الكلمات:
فعقروا الناقة: نحروها بعد أن عقروا قوائمها أي قطعوها، والناقة هي الآية.
وعتوا عن أمر ربهم: تمردوا عن الأمر وعصوا فلم يطيعوا.
الرجفة: المرة من رجف إذا اضطرب، وذلك لما سمعوا الصيحة أخذتهم الرجفة.
جاثمين١: باركين على الركب كما يجثم الطير أي هلكى على ركبهم.
فتولى عنهم: بعد أن هلكوا نظر إليهم صالح وهم جاثمون وقال راثياً لحالهم ﴿يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي﴾ إلى قوله ﴿ولكن لا تحبون الناصحين﴾ ثم أعرض عنهم وانصرف.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصص صالح عليه السلام فإنه بعد تلك الدعوة الطويلة العريضة والمستكبرون يردونها بصلف وكبرياء، وطالبوا بالآية لتدل على صدقه وأنه من المرسلين وأوتوا الناقة آية مبصرة ولجوا في الجدال والعناد وأخيراً تمالؤوا على قتل الناقة وعقروها ﴿فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها﴾.
قوله تعالى في الآية الأولى (٧٧) ﴿فعقروا٢ الناقة وعتوا عن أمر ربهم﴾ يخبر تعالى أن قوم صالح عقروا الناقة قطعوا أرجلها ثم نحروها وهو العقر، وعتوا بذلك وتكبروا متمردين عن أمر الله تعالى حيث أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فإذا بهم يعقرونها تحدياً وعناداً، ﴿وقالوا يا صالح﴾ بدل أن يقولوا يا رسول الله أو يا نبي الله ﴿ائتنا بما تعدنا﴾ أي من العذاب إن مسسنا الناقة بسوء فقد نحرناها فأتنا بالعذاب إن كنت كما تزعم من المرسلين قال تعالى ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ وهي هزة عنيفة اضطربت لها القلوب والنفوس نتيجة صيحة لملك عظيم صاح فيهم صباح السبت٣ كما قال تعالى ﴿فأخذتهم الصيحة
١ أصل الجثوم للأرانب وما شابهها وموضع الجثوم يقال لهم: مجثم. قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفه وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
٢ العقر: الجرح أو قطع عضو يؤثر في النفس، يقال: عقر الفرس إذا ضرب قوائمه بالسيف، وقيل للنحر عقر: لأنّه بسبب النحر غالبا.
٣ هو بداية اليوم الرابع، إذ قال لهم: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام﴾ فكانت الأربعاء والخميس والجمعة والسبت أهلكهم الله تعالى.
مشرقين} ولما هلكوا وقف عليهم صالح كالمودع كما وقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل القليب ببدرٍ فناداهم يا فلان يا فلان كذلك صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وقف عليهم وهم خامدون وقال كالراثي المتحسر ﴿يا قوم لقد أبلغتكم١ رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين﴾ وتولى عنهم وانصرف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حلول نقمة الله تعالى بكل من عتا عن أمره سبحانه وتعالى.
٢- مشروعية الرثاء لمن مات أو أصيب بمصاب عظيم.
٣- علامة قرب ساعة الهلاك إذا أصبح الناس يكرهون النصح ولا يحبون الناصحين.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (٨١) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
شرح الكلمات:
ولوطاً: أي وأرسلنا لوطاً ولوط هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام. ولد في بابل العراق.
الفاحشة: هي الخصلة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم.
١ من الجائز أن يكون قد قال هذا وهم أحياء قبل موتهم كالآيس منهم وكونه قاله بعد موتهم أقرب كما في التفسير.
198
من العالمين: أي من الناس.
من الغابرين: الباقين في العذاب.
وأمطرنا. أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهكتهم.
المجرمين: أي المفسدين للعقائد والأخلاق والأعراض.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الرابع قصص نبي الله تعالى لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام فقوله تعالى ﴿ولوطاً١... ﴾ أي وأرسلنا لوطاً إلى قومه من أهل سذوم، ولم يكن لوط منهم لأنه من أرض بابل العراق هاجر مع عمه إبراهيم وأرسله الله تعالى إلى أهل سذوم٢ وعمورة قرب٣ بحيرة لُوطٍ بالأردن.
وقوله إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم منكراً عليهم فعلتهم المنكرة: ﴿أتأتون الفاحشة﴾ وهي إتيان الرجال في أدبارهم ﴿ما سبقكم بها من أحد من العالمين﴾ أي لم يسبقكم إليها أحد من الناس قاطبة، وواصل إنكاره هذا المنكر موبخاً هؤلاء الذين هبطت أخلاقهم إلى درك لم يهبط إليه أحد غيرهم فقال: ﴿إنكم لتأتون الرجال شهوة٤ من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون﴾ وإلا فالشهوة من النساء هي المفطور عليها الإنسان، لا أدبار الرجال، ولكنه الإجرام والتوغل في الشر والفساد والإسراف في ذلك، والإسراف صاحبه لا يقف عند حد.
وبعد هذا الوعظ والإرشاد إلى سبيل النجاة، والخروج من هذه الورطة التي وقع فيها هؤلاء القوم المسرفون ما كان ردهم ﴿إلا أن قالوا أخرجوهم﴾ أي لوطاً والمؤمنين معه ﴿من قريتكم﴾ أي مدينتكم سدوم، معللين الأمر بإخراجهم من البلاد بأنهم أناس يتطهرون من الخبث الذي هم منغمسون فيه قال تعالى بعد أن بلغ الوضع هذا الحد ﴿فأنجيناه وأهله﴾ من بناته وبعض نسائه ﴿إلا امرأته كانت من الغابرين﴾ حيث أمرهم بالخروج من
١ هذا العطف على إرسال نوح كما هو مع هود وصالح من قبل لوط، ولوط: اسم عجمي وليس مشتقاً من لطت الحوض أو من قولهم: هذا أليط بقلبي من هذا.
٢ هذه الأرض هي أرضى الكنعانيين وسكانها خليط جلّهم كنعانيون.
٣ هو المعروف بالبحر الميت ويقال له بحيرة لوط.
٤ ﴿شهوة﴾ منصوب على أنّه مفعول لأجله.
199
البلاد ليلاً قبل حلول العذاب بالقوم فخرجوا، وما إن غادروا المنطقة حتى جعل الله تعالى عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجين فأهلكوا أجمعين.
وقوله تعالى في ختام هذا القصص ﴿فانظر كيف كان عاقبة المجرمين﴾ فإنه خطاب عام لكل من يسمع هذا القصص ليعتبر به حيث شاهد عاقبة المجرمين دماراً كاملاً وعذاباً أليماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- شدة قبح جريمة اللواط.
٢- أول من عرف هذه الجريمة القذرة هم قوم لوط١ عليه السلام.
٣- الإسراف وعدم الاعتدال في الأقوال والأفعال يتولد عنه كل شر وفساد.
٤- الكفر والإجرام يحل رابطة الأخوة والقرابة بين أصحابه والبُراءة منه.
٥- من أتى هذه الفاحشة من المحصنين يرجم٢ بالحجارة حتى الموت.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨٥) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ
١ روي أنّ إبليس هو الذي علّمهم إيّاها في نفسه بعد أن تشكّل بشكل إنسان.
٢ الجمهور على أن من أتى هذه الفاحشة من الذكران البالغين أنه يقتل وغير البالغ يضرب، وخالف أبو حنيفة الجمهور وقال بعدم القتل واكتفى بالتعزير وهو محجوج بعمل الصحابة فقد أحرقوا مَنْ عَمِل عَمَل قوم لوط على عهد أبي بكر بإجماع رأي الصحابة على ذلك لحديث أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي أي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وعند الترمذي "أحصنا أو لم يحصنا" واختلف في الفاعل في البهيمة هل يقتل أو يعزّر؟ فالراجح: القتل لحديث: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه".
200
عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧)
شرح الكلمات:
وإلى مدين آخاهم شعيباً: مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم: أي لا تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم، إذ كانوا يفعلون ذلك.
صراط توعدون: طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم.
وتبغونها عوجاً: أي تريدون سبيل الله -وهي شريعته- معوجةً حتى توافق ميولكم.
المفسدين: هم الذين يعملون بالمعاصي في البلاد.
يحكم بيننا: يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الخامس في سورة الأعراف وهو قصص نبي الله شعيب مع قومه أهل مدين، فقوله تعالى: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباً١﴾ أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً. فماذا قال لهم لما أرسل إليهم؟ ﴿قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره﴾ أي قولوا لا إله إلا الله، ولازم ذلك أن يصدقوا برسول الله شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا الله بما
١ شعيب: تصغير شعب أو شِعب ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.
201
يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله ﴿قد جاءتكم١ بينة من ربكم﴾ أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن ما آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند الله تعالى إذاً ﴿فأوفوا الكيل والميزان﴾ أي بالقسط الذي هو العدل، ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ بل أعطوهم ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾ أي في البلاد بعد إصلاحها، وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق، وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من الطاعة وترك المعصية خير لكم حالاً ومالاً إن كنتم مؤمنين وقوله: ﴿ولا تقعدوا بكل صراط٢ توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً٣﴾ ينهاهم عليه السلام عن أبشع الإجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلاد، وعلى أفواه السكك، ويتوعدون٤ المارة بالعذاب إن هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفاً للناس عن الإيمان والاستقامة، كما أنهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة.
وقوله ﴿واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم﴾ يذكرهم عليه السلام بنعمة الله تعالى عليهم وهي أنهم أصبحوا شعباً كبيراً بعدما كانوا شعباً صغيراً لا قيمة له ولا وزن بين الشعوب وقوله: ﴿وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين﴾ يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من الأمم المجاورة والشعوب حيث حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي، ويعملوا بالتوحيد والطاعة.
وأخيراً يخوفهم بالله تعالى ويهددهم بأن حكماً عدلاً هو الله سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو المحق ومن هو المبطل فقال: ﴿وإن كان طائفة منكم﴾ أي جماعة ﴿آمنوا بالذي أرسلت به﴾ من التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي، ﴿وطائفة﴾ أخرى ﴿لم يؤمنوا﴾ وبهذا كنا متخاصمين نحتاج إلى من يحكم بيننا إذاً {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير
١ من الجائز أن يكون الله تعالى قد أعطى نبيّه شعيباً آية ولم تذكر في القرآن، والراجح أنّها حجة قوية قهرهم بها ولم يتمكنوا من ردّها.
٢ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعّدون من أراد المجيىء إليه ويصدّونه عنه ويقولون: إنّه كذّاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ قال أبو عبيدة والزجاج: كسر العين عوجاً في المعاني، والفتح عَوَجاً في الإجرام والذوات.
٤ قال أبو هريرة رضي الله عنه هذا نهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم.
202
الحاكمين}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- دعوة الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة.
٢- حرمة التطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، ويدخل في ذلك الصناعات وحرف المهن وما إلى ذلك.
٣- حرمة الفساد في الأرض بالمعاصي لاسيما البلاد التي طهرها الله بالإسلام وأصلحها بشرائعه.
٤- حرمة التلصص وقطع١ الطرق وتخويف المارة.
٥- حرمة الصد عن سبيل الله بمنع الناس من التدين والالتزام بالشريعة ظاهراً وباطناً.
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩)
شرح الكلمات:
الملأ: أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا، والعين إذا نظر إليهم.
استكبروا: تكلفوا الكبر وهم حقيرون، حتى لا يقبلوا الحق.
١ ومثله الضرائب الفادحة التي تضرب على المسلمين في بلادهم والمكوس التي في الأسواق وغيرها مما اقتدى فيه المسلمون بالكافرين.
203
من قريتنا: مدينتنا.
في ملتكم: في دينكم.
على الله توكلنا: أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه.
ربنا افتح بيننا: أي يا ربنا احكم بيننا.
وأنت خير الفاتحين: أي وأنت خير الحاكمين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم ووعظهم ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه﴾ مهددين موعدين مقسمين ﴿لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا﴾. هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب الأنبياء عليهم السلام، وقطع الطريق عليهم شهروا السلاح في وجهه، وهو النفي والإخراج من البلاد أو العودة إلى دينهم الباطل: ﴿لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن١ في ملتنا﴾ ورد شعيب على هذا التهديد بقوله: ﴿أو لو كنا كارهين٢﴾ أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها ﴿قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها٣﴾ ووجه الكذب على الله إن عادوا إلى ملة الباطل هو أن شعيباً أخبرهم أن الله تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره، وأنه تعالى أرسله إليهم رسولاً وأمرهم بطاعته إنقاذاً لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على الله تعالى بأنه قال كذا وكذا والله عز وجل لم يقل. هذا ثم قال شعيب ﴿وما يكون لنا أن نعود فيها﴾ ليس من الممكن ولا من المتهيء لنا العودة في ملتكم أبداً، اللهم إلا أن يشاء٤ ربنا شيئاً فإن مشيئته نافذة في خلقه، وقوله: ﴿وسع ربنا كل شيء علما﴾ فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فسوف يكون ما علمه كما علمه وهو الغالب على أمره.
١ ﴿أو لتعودّنّ﴾ : إمّا أن يراد به أتباع شعيب المؤمنون إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم وإمّا أن يراد بكلمة ﴿لتعودّنّ﴾ : لتصيرن إذ تكون عاد بمعنى: صار.
٢ الاستفهام للتعجب والاستبعاد.
٣ هذا أسلوب الإياس لهم من العودة إلى دينهم الباطل.
٤ هذا الاستثناء كان من شعيب تأدباً مع الله تعالى بتفويض الأمر إلى مشيئته وعودة غيره من أمته ممكنة ولكن عودته هو مستحيلة.
204
ثم قال عليه السلام بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ولا ممكنة بحال من الأحوال إلاّ في حال مشيئة الله ذلك، وهذا مما لا يشاءه الله تعالى قال: ﴿على الله توكلنا﴾ في الثبات على دينه الحق، والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلاً: ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ أي احكم بيننا وبينهم بالحق ﴿وأنت خير١ الفاتحين﴾ أي الحاكمين، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه، فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال.
٢- لا يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله.
٣- يستحب الاستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلاً وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه.
٤- وجوب التوكل على الله عند تهديد العدو وتخويفه، والمضي في سبيل الحق.
٥- مشروعية الدعاء وسؤال الله تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل، لأن الله تعالى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين.
وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ
١ ﴿إلاّ أن يشاء الله ربنا﴾ هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن أي: ما يقع منّا العودة إلى الكفر لكن إن شاء الله ذلك كان، والله لا يشاء ذلك فهو إذا كقولك: "لا أكلمك حتى يبيَض الغراب" أو ﴿حتى يلج الجمل في سمّ الخياط﴾.
٢ الفتح بمعنى القضاء والحكم وهو لغة: أزد عمان من اليمن أي: أحكم بيننا وبينهم وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر إذ كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ويرون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.
205
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)
شرح الكلمات:
لئن اتبعتم شعيباً: أي على ما جاء به من الدين والهدى.
الرجفة: الحركة العنيفة كالزلزلة.
جاثمين: باركين على ركبهم ميتين.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمناً طويلاً.
الخاسرين: إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الآخرة.
آسى١: أي أحزن أو آسف شديد الأسف.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيباً بالإبعاد من مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة إلى دينهم، وفزع إلى الله يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضاً قال اتركوا الرجل وما هو عليه، ولا تتعرضوا لما لا تطيقونه من البلاء. هنا قال الملأ الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل: ﴿لئن اتبعتم شعيباً﴾ أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم ﴿إنكم إذاً لخاسرون﴾ قال تعالى: ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا٢ هلكى جاثمين على الركب. قال تعالى: ﴿الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها٣﴾
١ أسِيَ كرضي يأسى كيرضي يقال: أسيت على كذا أسىً فأنا آسٍ وآسى في الآية مضارع أسى دخلت عليه همزة المتكلم فصارت آسى بهمزتين.
٢ في سورة هود: ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ وفي سورة الشعراء: ﴿أخذهم عذاب يوم الظّلة﴾ وطريقة الجمع. أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظلة وهي سحابة أظلتهم، فَزَعُوا إليها من شدّة الحر الذي أصابهم يومئذٍ فلمّا استقروا تحتها زُلزلوا من تحتهم وهي الرجفة ونزلت عليهم من الظلة صاعقة وهي الصيحة فأحرقتهم هذا إن قلنا إنّ مدين وأصحاب الأيكة هما أمة واحدة، وإلا فأصحاب الأيكة أُخذوا بعذاب الظلة وأصحاب مدين أُخذوا بالرجفة من تحتهم، والصيحة من فوفهم.
٣ وفسّر القرطبي الغنى: بالمقام يقال: غنى القوم في دارهم أي: طال مقامهم، والمغني: المنزل والجمع المغاني، قال لبيد:
وغنيت ستَّا قبل مجرى داحسٍ لو كان للنفس اللجوج خلود
ومعنى غنيت: أقمت وهو الشاهد.
أي كأن لم يعمروا تلك الديار ويقيموا بها زمناً طويلاً، وأكد هذا الخبر وهو حكمه في المكذبين الظالمين فقال: ﴿الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين﴾ أما الذين صدقوا شعيباً فهم المفلحون الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى: ﴿فتولى عنهم﴾ وهم جاثمون هلكى فقال ﴿يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم﴾ فأبيتم إلا تكذيبي ورد قولي والإصرار على الشرك والفساد حتى هلكتم ﴿فكيف آسَى على قوم كافرين١﴾ أي لا معنى للحزن والأسف على مثلكم.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الآجل.
٢- نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران.
٣- لا أسىً ولا حزناً على من أهلكه الله تعالى بظلمه وفساده في الأرض.
٤- مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلاكهم كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل القليب وكما فعل صالح وشعيب عليهما السلام.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (٩٥)
شرح الكلمات:
في قرية: القرية: المدينة الجامعة لأعيان البلاد ورؤسائها وهي المدينة.
بالبأساء: بالشدة كالقحط والجوع والحروب.
١ الاستفهام إنكاري وهو موجه في الظاهر إلى نفس شعيب، والمقصود نهي من معه من المؤمنين الناجين من العذاب برحمة الله تعالى نهيهم عن الحزن عن قومهم وأقاربهم كأنه لاحظ ذلك فيهم.
207
والضراء: الحالة المضرة كالأمراض والغلاء وشدة المؤونة.
يضرعون: يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء.
مكان السيئة الحسنة: أي بدل الغلاء الرخاء، وبدل الخوف الأمن، وبدل المرض الصحة.
حتى عفوا: كثرت خيراتهم ونمت أموالهم، وأصبحت حالهم كلها حسنة.
أخذناهم بغتة: أنزلنا بهم العقوبة فجأة.
معنى الآيتين:
على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في الأمم السابقة ليكون ذلك عظه لكفار قريش، وذكرى للمؤمنين فقال تعالى: ﴿وما أرسلنا في قرية١﴾ أي في أهل قرية والمراد بالقرية الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من الأنبياء والمرسلين فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلال إلا أخذ الله تعالى أهل تلك المدينة بألوان من العذاب التأديبي كالقحط والجوع وشظف العيش، والأمراض والحروب المعبر عنه بالبأساء والضراء. رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه، وقبوله بعد الإعراض عنه ثم يغير تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء، وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولادهم ويعظم سلطانهم، ويقولون عندما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا: ﴿قد مس آباءنا الضراء والسراء٢﴾ أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي الأيام هكذا دول يوم عسر وآخر يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عز وجل فجأة ٣ ﴿وهم لا يشعرون﴾ فيتم هلاكهم ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة.
١ في الجملة إضمار تقديره: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذب أهلّها إلاّ أخذناهم وهو مبسوط في التفسير مبيّن غاية البيان والجملة معطوفة على جملة: ﴿وإلى مدين آخاهم شعيباً﴾.
٢ أي: فنحن مثلهم.
٣ أي: بغتة ليكون أكثر حسرة.
208
٢- تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ الله تعالى المصرين على الكفر المتمردين على الحق.
٣- التذكير والوعظ بتاريخ الأمم السابقة المنبىء عن أسباب هلاكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلاء، كما قال تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (٩٧) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠)
شرح الكلمات:
آمنوا واتقوا: أي آمنوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته.
بركات من السماء والأرض: جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم والإلهام والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والأمن والعافية من بركات الأرض.
يكسبون: من الشرك والمعاصي.
بياتاً: أي ليلاً وهم نائمون.
مكر الله: استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة
209
الأبدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة.
أولم يهد لهم: أي أولم يبين لهم بمعنى يتبين لهم.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى سنته في الأمم السابقة، وهي أخذ الأمة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء، ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة ما لها وصلاح حالها أخذها بغتة فأهلكها، وتم خسرانها في الدارين، فتح تعالى باب التوبة والرجاء لعباده فقال: ﴿ولو١ أن أهل القرى٢﴾ المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن ﴿آمنوا﴾ أي بالله ورسوله وبلقاء الله ووعده ووعيده، ﴿واتقوا﴾ الله تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات، وفتح عليهم كنوز الأرض ورزقهم من الطيبات ولكن أهل القرى الأولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون، وأهل القرى اليوم وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الأولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا، وإما أن يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب الإبادة والاستئصال، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٦) وهي قوله تعالى ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات٣ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ أما الآيات الثلاث بعدها فإن الله تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخاً لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجباً من حالهم فيقول: ﴿أفأمن٤ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون؟﴾ أي أجهلوا ما نزل بمن قبلهم فأمنوا أن
١ لو: حرف امتناع لا متناع، امتنع شرطها فامتنع جوابها، وشرطها هنا: الإيمان والتقوى وجوابها فتح البركات على أهل القرى.
٢ يقال للمدينة: قرية لاجتماع الناس فيها مأخوذ من التقرّى الذي هو التجمع يقال: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع الحروف والكلمات والجمل والآيات فيه.
٣ البركات: جمع بركة، وهي الخير الدائم الصالح الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا في الآخرة. وتكون في العمر والمال وفي كل ما هو خير ونافع غير ضار للإنسان.
٤ الاستفهام للإنكار والتعجب معاً، ومكر الله تعالى: إمهالهم وإغداق الخير عليهم مع شركهم وكفرهم، إذ المكر: أن يظهر المرء الإحسان لمن يمكر به ليأخذه فجأة. والأمن من مكر الله تعالى زيادة على أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه يؤدي بالآمن إلى هلاكه دنياً وأخرى.
210
يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون؟ ﴿أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا﴾ أي عذابنا ﴿ضحى وهم يلعبون؟﴾ أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي لا تعود عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ ؟ أي أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا إياهم فأمنوا مكر الله؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقوله تعالى في الآية الخامسة (١٠٠) ﴿أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون﴾ أي عمى الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ولم يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم ﴿ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون﴾ أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى لا يعوا ما يقال لهم ولا يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من الإيمان والتقوى.
٢- حرّمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة.
٣- حرمة الأمن من مكر الله تعالى.
٤- إذا أمنت الأمة مكر الله تهيأت للخسران وحل بها لا محالة.
٥- وجوب الاعتبار بما أصاب الأولين، وذلك بترك ما كان سبباً لهلاكهم.
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
211
شرح الكلمات:
تلك القرى: الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
من أنبائها: أي من أخبارها.
بالبينات: بالحجج والبراهين الدالة عل توحيد الله وصدق رسله.
من قبل: أي من قبل خلقهم ووجودهم، إذ علم الله تعالى تكذيبهم عليهم في كتاب المقادير.
وما وجدنا لأكثرهم من عهد: أي لم نجد لأكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ الميثاق.
معنى الآيتين:
يخاطب الرب تعالى١ رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً ﴿تلك القرى نقص عليك من أنبائها﴾ أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة، وكيف ردت تلك الأمم دعوة الله واستكبرت على عبادته، وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا. وقوله تعالى ﴿ولقد جاءتهم رسلهم بالبنيات﴾ أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم. وقوله ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من٢ قبل﴾ أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم الله وقدره إذ علم الله أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم لا يؤمنون. وقوله تعالى: ﴿كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين﴾ أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم لا يؤمنون ولم يؤمنوا فعلاً فأهلكهم، يطبع كذلك على قلوب الكافرين فلا يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم. وهذا الحكم الإلهي قائم على مبدأ أن الله علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على غيره ويعمله باختياره وإرادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه
١ سرّ هذا الخطاب زيادة على التعليم لكمال الهداية فإنه تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يلاقى من صلف المشركين وعنادهم وجحودهم، وهو تسلية لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من صلف المشركين وأذاهم.
٢ اختلف في المضاف إليه المحذوف في قوله: ﴿بما كذبوا من قبل﴾ هل المراد: من قبل خروجهم للحياة الدنيا وهم في عالم الأرواح حيث أمروا بالإيمان فكذبَّوا فكتب الله عليهم ذلك فلن يكون إلا هو أو لو أحييناهم بعد إهلاكهم بذنوبهم لمّا آمنوا بما كذّبوا به فكان سبب هلاكهم، أو سألوا المعجزات ليؤمنوا فلمّا رأوها لم يؤمنوا بما كذّبوا من قبل رؤيتهم المعجزات، والراجح من هذه المقولات ما هو في التفسير إذ هو قول ابن جرير إمام المفسرين.
212
إلى الدنيا لا يعمل إلا به ليصل إلى ما كتب عليه، وقدر له أزلاً قبل خلق السموات والأرض، وقوله تعالى ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد١﴾ أي لم نجد لتلك الأمم التي أهلكنا وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. لم نجد لأكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من الإيمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا، وما وجدنا٢ أكثرهم إلا فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا وطاعة رسلنا، وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير الوحي الإلهي وإثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه ما قُصَّ من أنباء الأولين لا يُتَلَقَّى إلا بوحي إلهي ولا يتلقى عن الله تعالى إلا رسول أَعِدَّ لذلك.
٢- وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ الله هدايته.
٣- المؤمن من آمن في الأزل، والكافر من كفر فيه.
٤- الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما كانت الحال.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ٣ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِن كُنتَ
١ ﴿من عهد﴾ من زائدة لتقوية النفي والدلالة على الجنس أي: جنس العهد، والعهد من الجائز أن يكون ما أخذ عليهم في عالم الذرّ وهو صحيح قاله ابن عباس وأن يكون ما أخذ عليهم من قِبل الأنبياء أن يعبدوا الله وحده ويطيعوه ولا يعصوه.
٢ الآية: ﴿وإن وجدنا﴾ وإن: بمعنى ما النافية فلذا اكتفينا في التفسير بما ولم نذكر إن اختصاراً وتقريباً للفهم.
٣ قرأ نافع: (حقيق عليّ) بياء الضمير المشدّدة وهي بمعنى: واجب علىّ خبر ثانٍ لأنّ في قوله: ﴿إنّي رسول من ربِّ العالمين﴾ وقرأ غيره (على) حرف جرّ أي: محقوق بأن لا أقول على الله إلاّ الحق، فحقيق: فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول.
213
جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
شرح الكلمات:
ثم بعثنا من بعدهم موسى: أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
موسى: هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
بآياتنا: هي تسع آيات: العصا، واليد، والسنون المجدبة، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والطمس على أموال فرعون.
إلى فرعون: أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد لق مصعب بن الريان، ملك مصر.
وملئه: أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء.
فظلموا بها: أي ظلموا أنفسهم بالآيات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها.
بينة من ربكم: حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول الله إليكم.
ونزع يده: أخرجها بسرعة من جيبه.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿ثم بعثنا من بعدهم موسى﴾ هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه سورة الأعراف، وهي قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملئه. قال تعالى وهو يقص على نبيه ليثبت به فؤاده، ويقرر به نبوته، ويعظ أمته، ويذكر به قومه ﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالات ملكه ودولته، وقوله بآياتنا. هي تسع آيات لتكون حجة على صدق
214
رسالته وأحقية دعوته. وقوله تعالى ﴿فظلموا١ بها﴾ أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها، واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم الله تعالى بإغراقهم، ثم قال لرسوله ﴿فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾ أي دماراً وهلاكاً وهى عاقبة كل مفسد في الأرض بالشرك والكفر والمعاصي. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٣) وأما الآيات بعدها فإنها في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب. وأتى موسى فرعون وقال ﴿يا فرعون٢ إني رسول من رب العالمين، حقيق﴾ أي جدير وخليق بي ﴿أن لا أقول على الله إلا الحق، قد جئتكم ببينة من ربكم﴾ دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول ﴿فأرسل٣ معي بني إسرائيل﴾ لأذهب بهم إلى أرض الشام التي كتب الله لهم وقد كانت دار آبائهم. وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالآية التي ذكر أنه جاء بها فقال ﴿إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين﴾ أي فيما تدعيه وتقول به وتدعوا إليه. وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالآية ﴿فإذا هي ثعبان مبين﴾ أي حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان٤، هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما علمه ربه ونزعها ﴿فإذا هي بيضاء للناظرين﴾ بيضاء بياضاً غير معهود مثله في أيدي الناس. هذا ما تضمنته هذه الآيات الخمس في هذا السياق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي.
٢- تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس رباً بل هناك رب العالمين وهو الله رب موسى وهارون والناس أجمعين.
١ ﴿فظلموا بها﴾ أي: ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالآيات، وجائز أن يكون ظلموا بسببها غيرهم ممن منعوهم من الإيمان بها إذ هدّدوهم بالقتل وجائز أن يضمّن الظلم هنا معنى الكفر أي كفروا بها وهو صحيح المعنى.
٢ فرعون: علم جنس لمن يملك مصر في القديم ككسرى: لكل من يملك فارساً وقيصر: لكل من يملك الروم ونمرود: لمن ملك الكنعانيين، والنجاشي: للأحباش، وتبع، لحمير ونداء موسى له بقوله يا فرعون: فيه نوع احترام، إذ ناداه بعنوان الملك والسلطان.
٣ الفاء تفريعية أي: ما بعدها متفرّع عمّا قبلها.
٤ الجانّ: هنا حية أكحل العينين تسكن البيوت لا تؤذى كثيرة التقلّب والاهتزاز.
215
٣- تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم السلام.
٤- ظهور آيتين لموسى العَصَا واليد.
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
شرح الكلمات
ساحر عليم: أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدّع.
من أرضكم: أي من بلادكم ليستولى عليها ويحكمكم.
فماذا تأمرون: أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل.
أرجه: أي أمهله وأخاه لا تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات.
في المدائن: مدن المملكة الفرعونية.
حاشرين: رجالاً يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه من الآية فأراه آية العصا، واليد، وشاهد الملأ من قوم فرعون الآيتين العظيمتين قالوا ﴿إن هذا لساحر عليم﴾ وذلك لما بهرتهم الآيتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد بيضاء من غير سوء كالبرص بل بياضها عجب١ حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه، واتهموا موسى فوراً بالسياسة وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلادكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل، وهنا تكلم فرعون وقال: ﴿فماذا تأمرون٢﴾ أي بم تشيرون عليّ أيها الملأ والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين ﴿أرجه٣ وأخاه﴾ أي أوقفهما عندك ﴿وأرسل في المدائن حاشرين٤﴾
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ليد موسى نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
٢ يرى بعضهم أنّ المستفهم غير فرعون، الصحيح أنه فرعون لانهزامه معنوياً.
٣ قرأ ورش: ﴿أرجه﴾ بإشباع كسر الهاء، وقرأ الجمهور ﴿أرجه﴾ بإسكان الهاء، وقرأ بضّ بكسر الهاء بدون مدّ.
٤ قيل هي صعيد مصر إذ هو مقرَّ العلماء بالسحر، والمدائن جمع مدينة وتجمع على مدن واصل اشتقاقها من مدن بالمكان إذا أقام به.
أي رجالاً من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء الإيالة أي الإقليم المصري، وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلادنا وأوضاعنا. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع في هذا السياق.
هداية الآيات
هن هداية الآيات
١- جهل الملأ بالآيات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم.
٢- مكر الملأ وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسياً بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل الأقباط وهم أبناء الأنبياء وأحفاد إسرائيل واسحق وإبراهيم عليهم السلام.
٣- فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية، فاستشار الملأ في شأنه، إذ الرب الحق لا يستشير عباده فيما يريد فعله لأنه لا يجهل ما يحدث مستقبلاً.
٤- السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء، ويتقدم حتى يتفوق على غيره.
٥- حرمة السحر وحرمة تعلمه، ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به.
وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
شرح الكلمات:
السحرة: جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره.
إن لنا لأجراً: أي ثواباً من عندك أي أجراً تعطيناه إن نحن غلبنا.
217
نحن الملقين: لعصيّنا.
سحروا أعين الناس: حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها حيات وثعابين تملأ الساحة.
واسترهبوهم: أي خلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام من جهة وبين فرعون وملئه من جهة أخرى، فقد جاء في الآيات السابقة أن الملأ أشاروا على فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عسى أن يغلبوه، وفعلاً أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر، وها هم أولاء قد وصلوا قال تعالى ﴿وجاء السحرة فرعون١﴾ وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالأجر العظيم إن هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وجاء السحرة فرعون قالوا إن٢ لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال نعم﴾ وزادهم أيضاً أن يجعلهم من خواصه ورجال قصره فقال ﴿وإنكم لمن المقربين﴾ أي لدينا. وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم السحرية وأن الجولة ستكون لهم، تقدموا بإلقاء آلاتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا ﴿يا موسى٣ إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين﴾ أي ألق عصاك أو نلقي نحن عصينا فقال لهم موسى ﴿ألقوا﴾ ٤ فألقوا فعلاً فسحروا أعين٥ الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى الأمر الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك وأعلمه أنه الغالب بإذن الله تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه.
١ لقد ذكر القرطبي في عدد السحرة أخباراً مثلها لا يصح، إذ جاء في بعضهم أن عددهم كان سبعين ألف ساحر، والأقرب إلى أن يكونوا سبعين رجلاً.
٢ قرىء في السبع بهمزة الاستفهام ﴿أئن لنا لأجراً﴾ وقرىء بدونها ﴿إنّ لنا لأجراً﴾.
٣ قال القرطبي: تأدّبوا مع موسى إذ استشاروه فيمن يبدأ بالإلقاء فنفعهم الله بأدبهم مع نبيّه فأسلموا وسعدوا برضوان الله تعالى.
٤ في إذنه لهم بالإلقاء توفيق ربّاني عظيم إذ معناه أنه احتفظ بالضربة الأخيرة وصاحبها يغلب بإذن الله دائماً.
٥ أي: خيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد.
218
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية طلب الأجرة على العمل الذي يقوم به الإنسان خارجاً عن نطاق العبادة.
٢- مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجُلى للدولة.
٣- تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلاف ما هو عليه إذ العصي والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)
شرح الكلمات:
تلقف: تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب.
ما يأفكون: ما يقلبون بسحرهم وتمويههم.
فوقع الحق: ثبت وظهر.
صاغرين: ذليلين.
ساجدين: ساقطين على وجوههم سجداً لربهم رب العالمين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون، فبعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من الموقف وظن فرعون وملأه أنهم غالبون أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها ﴿فإذا هي تلقف١ ما يأفكون﴾ أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت
١ قرىء (تَلْقَف) و (تلَقَّف) بتضعيف القاف، والأصل: تتلقف فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وقرىء في الشاذ: تلقّم بالميم بدل الفاء، ومعنى الكلّ تبتلع بسرعة وتزدرده، وصيغة المضارع في الفعلين لاستحضار الماضي كأنّه حاضر ليكون أوقع في النفس.
219
واستقر ﴿وبطل ما كانوا يعملون﴾ أي السحر والتمويه وقوله تعالى ﴿فغلبوا﴾ أي فرعون وملأه وقومه ﴿هنالك﴾ أي في ساحة المباراة والمناظرة ﴿وانقلبوا﴾ إلى ديارهم ﴿صاغرين﴾ أي ذليلين مهزومين. وقوله تعالى ﴿وألقي السحرة ساجدين﴾ أي إنهم بعد أن شاهدوا الآية الكبرى بهرتهم فخروا ساجدين كأنما ألقاهم١ أحد على وجه الأرض لا حراك لهم وهم يقولون٢ ﴿آمنا برب العالمين رب موسى وهارون﴾ وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة، لأن الإيمان بالله سيلزم الكفر بما عداه، ولذا قالوا ﴿آمنا برب العالمين رب موسى وهارون﴾ تلويحاً بكفرهم بفرعون الطاغية وبكل إله غير الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائماً.
٢- بطلان السحر وعدم فلاح أهله ولقوله تعالى من سورة طه ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾.
٣- فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم، إذ عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو آية له من الله فآمنوا.
٤- مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين.
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
١ أي: ألقوا أنفسهم على الأرض، وبني الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو أنفسهم.
٢ قالوا آمنّا بربّ العالمين حال هو يهم للسجود إعلاماً منهم إنهم ما سجدوا لفرعون كما يفعل الأقباط، وإنّما سجدوا لله رب العالمين ربِّ موسى وهارون.
220
شرح الكلمات:
آمنتم به: أي صدقتموه فيما جاء به ودعا إليه.
مكر مكرتموه: أي حيلة احتلتموها وتواطأتم مع موسى على ذلك.
من خلاف: بأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس.
ثم لأصلبنكم: التصليب: الشد على خشبة حتى الموت.
منقلبون: أي راجعون.
وما تنقم منا: أي وما تكره منا وتنكر علينا إلا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا.
أفرغ علينا صبراً: أي أفض علينا صبراً قوياً حتى نثبت على ما توعدنا فرعون من العذاب ولا نرتد بعد إيماننا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون ففي الآيات قبل هذه تمت المناظرة بين موسى والسحرة بنصر موسى عليه السلام وهزيمة فرعون النكراء حيث سحرته بعد ظهور الحق لهم واضحاً مكشوفاً آمنوا وأسلموا وسجدوا لله رب العالمين. وفي هذه الآيات يخبر تعالى عن محاكمة فرعون للسحرة فقال عز من قائل ﴿قال فرعون﴾ أي للسحرة ﴿آمنتم١ به﴾ أي بموسى ﴿قبل أن آذن لكم﴾ أي في الإيمان به، وهي عبارة فيها رائحة الهزيمة والحمق، وإلا فهل الإيمان يتأتي فيه الإذن وعدمه، الإيمان إذعان باطني لا علاقة له بالإذن إلا من الله تعالى، ثم قال لهم ﴿إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها﴾ أي إن هذا الذي قمتم به من ادعاء الغلب لموسى بعدما أظهرتم الحماس في بداية المباراة ما هو إلا مكرا وتدبير خفي تم بينكم وبين موسى في المدينة قبل الخروج إلى ساحة المباراة، والهدف منه إخراجكم الناس٢ من المدينة واستيلائكم عليها. ثم تهددهم وتوعدهم بقوله ﴿فسوف تعلمون﴾ ما أنا صانع بكم. وذكر ما عزم عليه فقال مقسماً ﴿لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ يريد بقطع من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم يربطهم على أخشاب في ساحة معينة ليموتوا كذلك نكالاً وعبرة لغيرهم. هذا ما أعلنه فرعون وصرح به
١ الاستفهام هنا للإنكار والتهديد أي: ينكر على السحرة إيمانهم ويهددهم بالبطش بهم والتنكيل.
٢ قد يكون المراد بعض الناس وهم بنو إسرائيل إذ موسى جاء يطالب بهم ليخرج بهم إلى أرض القدس.
221
للسحرة المؤمنين فما كان جواب السحرة ﴿قالوا إنا إلى ربنا منقلبون﴾ أي راجعون فقتلك إيانا لم يزد على أن قربنا من ربنا وردنا إليه ونحن في شوق إلى لقاء ربنا، وعليه فحكمك بقتلنا ما هو بضائرنا، وشيء آخر هو أنك ﴿ما تنقم١ منا﴾ يا فرعون أي ما تكره منا ولا تنكر علينا إجراماً أجرمناه أو فساداً في الأرض اشعناه إنما تنقم منا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا وهذا شيء لا مذمة فيه علينا، ولا عاراً يلحقنا، فلذا ﴿اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ ثم أقبلوا على الله ورفعوا أيديهم إليه وقالوا ضارعين سائلين ﴿ربنا أفرغ علينا صبراً﴾ حتى نتحمل العذاب في ذاتك ﴿وتوفنا مسلمين٢﴾، ونفذ فرعون جريمته٣ ولكن أحدث ذلك اضطراباً في البلاد ولم يكن فرعون ولا ملأه يتوقعون دل عليه الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- القلوب المظلمة بالكفر ولجرائم أصحابها لا يتورعون عن الكذب واتهام الأبرياء.
٢- فضيلة الاسترجاع أن يقول ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ حيث فزع إليها السحرة لما هددهم فرعون إذ قالوا ﴿إنا إلا ربنا منقلبون﴾ أي راجعون فهان عديهم ما تهددوا به.
٣- مشروعية سؤال الصبر على البلاء للثبات على الإيمان.
٤- فضل الوفاة على الإسلام وأنه مطلب عال لأهل الإيمان.
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
١ يقال: نقَم ينقم من باب ضرب، نقْما ونقَما على أنه من باب تعِب تعبا إذا أنكر الفعل وكره صدوره وحقد على فاعله، ويكون بالقول والفعل.
٢ كلمة الإسلام معروفة في كل زمان ومكان بين المؤمنين ويعبر عنها كل قوم بلغتهم إذ معناها الانقياد لله مع حبّه تعالى وتعظيمه والشوق إليه.
٣ لم يرد في القرآن ما يدل على أنّ فرعون نفّد وعيده في السحرة أو لم ينفذه، وعدم ذكر القرآن له لأنه خالٍ من الفائدة، وذكر القرطبي بصيغة التمريض فقال: قيل إنّ فرعون أخذ السحر وقطعهم على شاطىء النهر وأنّه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف والله أعلم.
؟؟
222
اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
شرح الكلمات:
قال الملأ: أي لفرعون.
أتذر: أي أتترك.
وقومه: أي بني إسرائيل.
ليفسدوا في الأرض: أي في البلاد بالدعوة إلى مخالفتك، وترك طاعتك.
وآلهتك: أصناماً صغاراً وضعها ليعبدها الناس وقال أنا ربكم الأعلى وربها.
نستحيي نساءهم: نبقي على نسائهم لا تذبحهن كما تذبح الأطفال الذكور.
ويستخلفكم في الأرض: أي يجعلكم خلفاء فيها تخلفون الظالمين بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون أنه بعد انتصار موسى في المباراة وإيمان السحرة ظهر أمر موسى واتبعه ستمائة ألف من بني إسرائيل، وخاف قوم فرعون من إيمان الناس بموسى ولما جاء به من الحق قالوا لفرعون على وجه التحريض والتحريك له ﴿أتذر موسى وقومه﴾ يريدون بني إسرائيل ﴿ليفسدوا في الأرض﴾ أي أرض مصر بإفساد خدمك١ أو عبيدك ﴿ويذرك وآلهتك٢﴾ أي ويتركك فلا يخدمك ولا يطيعك ويترك آلهتك فلا
١ وإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل أيضاً.
٢ وقرىء ﴿وإلهتك﴾ أي: عبادتك وعلى هذا فإنه كان يَعْبُد ولا يُعبد والوجه الأوّل أظهر.
223
يعبدها إذ كان لفرعون أصنام يدعو الناس لعبادتها لتقربهم إليه وهو الرب الأعلى للكل.
وبعد هذا التحريش والإغراء من رجال فرعون ليبطش بموسى وقومه قال فرعون ﴿سنقتل١ أبناءهم ونستحيي نساءهم﴾ كما كان يفعل قبل عندما أخبر بأن سقوط ملكه سيكون على يد بني إسرائيل ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ هذه الكلمة من فرعون في هذا الظرف بالذات لا تعد وأن تكون تعويضاً عما فقد من جبروت ورهبوت كان له قبل هزيمته في المباراة وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٢٧) وهي قوله تعالى ﴿وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك. قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون﴾ وكان رد موسى عليه السلام على هذا التهديد والوعيد الذي أرعب بني إسرائيل وأخافهم ما جاء في الآية الثانية (١٢٨) ﴿وقال موسى لقومه﴾ أي من بني إسرائيل ﴿استعينوا بالله﴾ على ما قد ينالكم من ظلم فرعون، وما قد يصيبكم من أذى انتقاماً لما فقد من علوه وكبريائه ﴿واصبروا﴾ على ذلك، واعلموا ﴿ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ فمتى صبرتم على ما يصيبكم فلم تجزعوا فترتدوا، واتقيتم الله ربكم فلم تتركوا طاعته وطاعة رسوله أهلك عدوكم وأورثكم أرضه ودياره، وسبحان الله هذا الذي ذكره موسى لبني إسرائيل قد تم حرفياً بعد فترة صبر فيها بنو إسرائيل واتقوا كما سيأتي في هذا السياق بعد كذا آية، وهنا قال بنو إسرائيل ما تضمنته الآية الأخيرة (١٢٩) ﴿قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا﴾ بما أتيتنا به من الدين والآيات، وذلك عندما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم للخدمة ﴿ومن بعدما جئتنا﴾ وهذه منهم كلمة الآيس المهزوم نفسياً لطول ما عانوا من الاضطهاد والعذاب من فرعون وقومه الأقباط. فأجابهم موسى عليه السلام قائلاً: محيياً الأمل في نفوسهم وإيصالهم بقوة الله التي لا تقهر ﴿عسى٢ ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف٣ تعملون﴾ وهذا الذي رجاه موسى ورجاه بني إسرائيل قد تم كاملاً بلا نقصان والحمد لله الكريم المنان.
١ آنس قومه بهذه الجملة من الكلام وأذهب عنهم روح الهزيمة، ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه ولما أصابه من الرّعب منه حتى قيل: إنه كان إذا رآه يبول من شدّة الخوف منه وهي آية موسى عليه السلام.
٢ عسى من الله واجب أي ليست للرجاء فقط بل ما يذكر جمعها يقع لا بدّ ولا يتخلّف، ولذا قد تحقق ما ذكر معها هنا كاملاً لا نقص فيه.
٣ كيف: ليست للاستفهام هنا وإنّما هي دالة على مجرّد كيفية أعمالهم هل هي أعمال صالحة أو فاسدة أي: هل يشكرون؟
224
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١-خطر بطانة السوء على الملوك والرؤساء تجلت في إثارة فرعون ودفعه إلى البطش بقولهم ﴿أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض... الخ﴾.
٢- بيان فضيلة الصبر والتقوى وأنها مفتاح النصر وإكسير الكمال البشري.
٣- النفوس المريضة علاجها عسير ولكن بالصبر والمثابرة تشفى إن شاء الله تعالى.
٤- بيان صدق ما رجاه موسى من ربه حيث تحقق بحذافيره.
٥- استحسان رفع معنويات المؤمنين بذكر حسن العاقبة والتبشير بوعد الله لأوليائه أهل الإيمان والتقوى.
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (١٣٣)
شرح الكلمات:
أخذنا آل فرعون بالسنين١: أي عاقبناهم بِسِنِيى الجدب والقحط.
١ يقال: أصابتهم سنة أي: جدب وتقديره: جدب سنة وفي الحديث: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" دعاء على قريش.
225
ونقص من الثمرات.: بالحوائج تصيبها، وبعدم صلاحيتها.
الحسنة: ما يحسن من خصب ورخاء وكثرة رزق وعافية.
سيئة: ضد الحسنة وهي الجدب والغلاء والمرض.
يطيروا بموسى١: أن يتشاءمون بموسى وقومه.
الطوفان والجراد والقمل والضفادع: الطوفان الفيضانات المغرقة، والجراد معروف بأكل الزرع والثمار، والقمل جائز أن يكون القمل المعروف وجائز أن يكون السوس في الحبوب، والضفادع جمع ضفدعة. حيوان يوجد في المياه والمستنقعات.
والدم: والدم معروف قد يكون دم رعاف أو نزيف، أو تحول الماء ماء الشرب إلى دم عبيط في أوانيهم وأفواههم آية لموسى عليه السلام.
فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين: حيث لم يؤمنوا بهذه الآيات. أي مفسدين حيث حكم بإهلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع آل فرعون انه لما شاهد فرعون وآله آية العصا وانهزام السحر أمامهم وإيمان السحرة حملهم الكبر على مواصلة الكفر والعناد فأصابهم الرب تعالى بجفاف وقحط سنوات لعلهم يذكرون، ولم يذكروا فحول الله تعالى جدبهم إلى خصب، وبلاءهم إلى عافية فلم يرجعوا وقالوا في الرخاء هذه لنا نحن مستحقوها وجديرون بها، وقالوا في القحط والبلاء قالوا هذه من شؤم موسى وبنى إسرائيل، قال تعالى ﴿ألا أنما طائرهم عند الله﴾ وذلك لأنه مدبر الأمر وخالق كل شيء وجاعل للحسنة أسبابها وللسيئة أسبابها ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك قالوا اطيرنا بموسى ومن معه وأصروا على الكفر ولجوا في المكابرة والعناد حتى قالوا لموسى {مهما٢ تأتنا به من آية
١ أصل الكلمة: يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء لأنّ مخرجهما واحد، والطير والتطير مأخوذ من زجر الطير. إذ كانوا إذا أرادوا عملا ما سفراً ونحوه يزجرون الطير فإن تيامن في طيرانه أقدموا على العمل، وإن تشاءم تركوا فهذا أصل اليمن والشؤم كان في الجاهلية وأبطله الإسلام. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطيرة شرك ثلاثاً" وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل وعلمهم أن يقولوا: "اللهم لا طير إلاّ طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك".
٢ أصل مهما: ما. ما الأولى شرطية والثانية زائدة توكيداً للجزاء فكرهوا حرفين من جنس واحد متجاورين فأبدلوا الألف هاء ففصلت بين الميمين.
226
لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} ولو علموا ما أصروا على الكفر ولما قالوا ما قالوا فأسباب الحسنة الإيمان والتقوى، وأسباب السيئة الكفر والمعاصي، إذ المراد بالحسنة والسيئة هنا: الخير والشر. وهنا وبعد هذا الإصرار والعناد والمكابرة رفع موسى يديه إلى ربه يدعوه فقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا، وأن قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع١ والدم فأخذهم الطوفان أولاً فكادوا يهلكون بالغرق فجاءوا موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه ليرفع عنهم هذا العذاب فإن رفعه عنهم آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فدعا ربه واستجاب الله تعالى فأخذوا شهراً في عافية فطلب منهم موسى ما وعدوه به فتنكروا لوعدهم وأصروا على كفرهم فأرسل الله تعالى عليهم الجراد٢ فأكل زروعهم وأشجارهم وثمارهم حتى ضجوا وصاحوا وأتوا موسى وأعطوه وعودهم إن رفع الله عنهم هذا العذاب آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فرفع الله عنهم ذلك فلبثوا مدة آمنين من هذه العاهة وطالبهم موسى بوعدهم فتنكروا له، وهكذا حتى تمت الآيات الخمس مفصلات ما بين كل آية وأخرى مدة تقصر وتطول فاستكبروا عن الإيمان والطاعة وكانوا قوماً مجرمين مفسدين لا خير فيهم ولا عهد لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- من تدبير الله تعالى أخذه عباده بالشدائد لعلهم يذكرون فيتعظون ويتوبون.
٢- بطلان التطير مطلقاً، وإنما الشؤم في المعاصي بمخالفة شرع الله فيترتب على الفسق والعصيان البلاء والعذاب.
٣- الجهل سبب الكفر والمعاصي وسوء الأخلاق وفساد الأحوال.
٤- عدم إيمان آل فرعون مع توارد الآيات عليهم دال على أن إيمانهم لم يسبق به القدر. كما هو دال على أن الآيات المعجزات لا تستلزم الإيمان بالضرورة.
٥- التنديد بالإجرام وهو إفساد النفس بالشرك والمعاصي.
١ صح النهي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عن قتل الصُّرد والضفدع والنملة والهدهد" من رواية أبي داود وأحمد وابن ماجه.
٢ اختلف في قتل الجراد، وأجمعوا أنه إذا أفسد جاز قتله. وأجمعوا على جواز أكله بأكل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه هو وأصحابه في بعض الغزوات.
؟؟
227
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (١٣٧)
شرح الكلمات:
الرجز: العذاب وهو الخمسة المذكورة في آية (١٣٣) الآنفة الذكر.
إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون: المراد من الأجل أنهم كانوا إذا سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب ويعدونه بالإيمان وإرسال بني إسرائيل معه فيرفع الله عنهم العذاب فيمكثون زمنا ثم يطالبهم موسى بالإيمان وإرسال بني إسرائيل فيأبون عليه ذلك وينكثون عهدهم.
فانتقمنا منهم: أي أنزلنا بهم نقمتنا فأغرقناهم في اليم الذي هو البحر.
228
الذين كانوا يستضعفون.: هم بنو إسرائيل.
مشارق الأرض ومغاربها: هي أرض مصر والشام.
وتمت كلمة ربك الحسنى: هي وعده تعالى لهم في قوله ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ من سورة القصص.
وما كانوا يعرشون١: أي يرفعون من مباني الدور والقصور العالية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون وقومه، وهذه هي الآيات الأخيرة في هذا القصص إنه لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب المفصل٢ الطوفان فالجراد، فالقمل، فالضفادع، فالدم ﴿قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك﴾ ٣ أي من كشف العذاب عنا إن نحن آمنا بك وبما جئت به وبما تطالب به من إرسال بني إسرائيل معك وحلفوا وقالوا ﴿لئن كشفت عنا الرجز﴾ ﴿لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل﴾ قال تعالى: ﴿فلما كشف عنهم الرجز﴾ أي العذاب ﴿إلى أجل هم بالغوه﴾ إلى وقت ينتهون إليه ﴿إذ هم ينكثون٤﴾ عهودهم ولم يؤمنوا ولم يرسلوا بني إسرائيل وكان هذا ما بين كل آية وآية حتى كانت الخمس الآيات، ودقت ساعة هلاكهم قال تعالى ﴿فأغرقناهم في اليم﴾ وهو البحر الملح أي أغرق فرعون وجنده ورجال دولته وأشراف بلاده، ثم ذكر تعالى علة هذا الهلاك الذي حاق بهم ليكون عبرة لغيرهم وخاصة قريش التي ما زالت مصرة على الشرك والتكذيب، فقال تعالى ﴿بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾ كما هي الحال في
١ ﴿ما عهد عندك﴾ الباء لتعدية فعل الدعاء، وما موصولة مبهم أي: ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عنده ليكشف عنا الرّجز.
٢ أصل النكث: هو نقض المقول من حبل وغزل واستعير لعدم الوفاء بالعهد.
٣ شبّه البناء العالي الرفيع بالعرش يقال: عرش يعرش عرشا: إذا رفع البناء أو السرير والعنب والدوالي يعرش لها بناء من خشب ليرفعها عليه.
٤ وقيل إنه طاعون قتل منهم سبعين ألف نسمة إذ لفظ الرجز دالّ على مرض الطاعون لقوله تعالى: ﴿فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون﴾.
229
قريش ومشركي العرب وكفارهم. وختم تعالى هذا القصص قصص موسى مع فرعون بقوله ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون﴾ وهم بنو إسرائيل حيث استعبدهم فرعون الظالم وآله زمناً غير قصير ﴿مشارق الأرض ومغاربها١﴾ وهي أرض مصر والشام إذ الكل مما بارك الله تعالى فيه إلا أن أرض الشام أولاً ثم أرض مصر ثانياً، إذ دخل بنو إسرائيل أرض فلسطين بعد وفاة موسى وهارون حيث غزا بهم يوشع بن نون العمالقة في أرض فلسطين وفتح البلاد وسكنها بنو إسرائيل وقوله تعالى ﴿وتمت كلمة ربك الحسني على بنى إسرائيل بما صبروا﴾ والمراد من كلمة الله قوله في سورة القصص ﴿ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون﴾ وقوله تعالى ﴿ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه﴾ من سلاح وعتاد ومبان شداد، وقصور رفيعة البنيان، ﴿وما كانوا يعرشون﴾ ويرفعون ويعلون من صروح عالية، وحدائق أعناب زاهية زاهرة وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قوماً آخرين غيرهم، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. إلى هنا انتهى قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملائه وكانت العاقبة له والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ضعف الإنسان يظهر عند نزول البلاء به حيث يفزع إلى الله تعالى يدعوه ويضرع إليه وعند رفعه حيث ينسى ما نزل به ويعود إلى عاداته وما كان عليه من الشرك والمعاصي إلا من آمن وعمل صالحاً فأنه يخرج من دائرة الضعف حيث يصبر عند البلاء ويشكر عند النعماء.
٢- سبب العذاب في الدنيا والآخرة التكذيب بآيات الله بعدم الإيمان والعمل بها، والغفلة عنها حيث لا يتدبّر ولا يفكر فيها وفي ما نزلت لأجله.
٣- مظاهر قدرة الله، وصادق وعده، وعظيم منته على خلقه، وحسن تدبيره فيهم فسبحانه من إله عليم حكيم رؤوف رحيم.
١ كما يصدق هذا على أرض الشام إذلها مشارق ومغارب، ومن بينها الأرض المقدّسة أرض فلسطين يصدق أيضاً على أرض مصر وغيرها إذ مملكة بني إسرائيل على عهد سليمان كانت قد انتظمت المعمورة كلّها.
230
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر: أي قطعنا بهم فاجتازوه إلى ساحله.
يعكفون على أصنام لهم: يجلسون إلى تماثيل بقر منحوتة من حجر.
اجعل لنا إلهاً: أي معبوداً يريدون تمثالاً كالذي شاهدوا.
تجهلون: أي أنَّ العبادة لا تكون إلا لله تعالى.
متبرما هم فيه: هالك خاسر لا يكسبهم خيراً ولا يدفع عنهم شراً.
وإذ نجيناكم: أي واذكروا نعم الله عليكم بإنجائه إياكم من آل فرعون.
يسومونكم سوء العذاب: يوردونكم موارد الردى والهلاك بما يصيبونكم به من عذاب.
بلاء من ربكم: أي اختبار وامتحان قاسٍ شديد.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص جديد لنبي الله تعالى موسى مع قومه من بني إسرائيل إنه بعد هلاك فرعون وجنوده في اليم، انتهى الكلام على دعوة موسى لفرعون وملئه، وبذلك استقبل موسى وأخوه هارون مشاكل جديدة مع قومهما أنه بعد أن جاوز تعالى ببني إسرائيل البحر
231
ونزلوا على شاطئه سالمين مرّوا بأناس يعكفون١ على تماثيل لهم وهي عبارة عن أبقار حجرية منحوتة نحتاً يعبدونها وهم عاكفون عليها وما إن رأى بنو إسرائيل هؤلاء العاكفين على الأصنام حتى قالوا لموسى يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهؤلاء آلهة، وهي كلمة دالة على جهلٍ بالله تعالى وآياته، فما كان من موسى عليه السلام حتى جابههم بقوله: ﴿إنكم قوم تجهلون﴾ وواصل تأنيبه لهم وإنكاره الشديد عليهم فقال ﴿إن هؤلاء﴾ أي العاكفين على الأصنام والذين غرتكم حالهم ﴿متبر٢ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون﴾ أي إنهم وما هم عليه من حال في هلاك وخسار، ثم قال لهم منكراً متعجباً ﴿أغير الله أبغيكم إلهاً﴾ أي غير ربي عز وجل أطلب لكم إلهاً تعبدونه دون الله ما لكم أين يذهب بعقولكم، وهو سبحانه وتعالى فضلكم على العالمين وشرفكم على سائر سكان المعمورة٣ أهكذا يكون شكركم له بطلب إلى غيره، وهل هناك من يستحق العبادة غيره؟ وقوله تعالى في الآية الأخيرة (١٤١) ﴿وإذ أنجيناكم٤ من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب﴾ أي واذكروا يا من قلتم اجعل لنا إلهاً كما للمشركين آلهة اذكروا فضل الله عليكم بإنجائه إياكم من فرعون وآله وهم الذين كانوا على منهجه في الظلم والكفر من رجال حكمه وأفراد شرطه وجيوشه ﴿يسومونكم سوء العذاب: يقتلون أبناءكم﴾ حتى لا تكثروا، ﴿ويستحيون نساءكم﴾ للامتهان والخدمة، وفي هذا التعذيب والإنجاء منه ﴿بلاء من ربكم عظيم﴾ يتطلب شكركم لا كفركم، فكيف تريدون أن تعبدوا غيره، وتشركوا به أصناماً لا تنفع ولا تضر، إن أمركم لجد مستغرب وعجب فاتقوا الله وتوبوا إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه دال على جهل
١ قرىء ﴿يعكُفون﴾ بكسر الكاف وضمها سبعيتان، والعكوف: الإقامة على الشيء وملازمته، ومنه العكوف في المساجد وهو الإقامة بها وملازمتها مدّه للعبادة.
٢ متبّر: مهلك، والتبار: الهلاك، وكل إناء منكسر فهو متبّر.
٣ هذا التفضيل خاص بزمانهم الذي كانوا فيه مع أنبيائهم وهم صالحون.
٤ بعد أن أنكر عليهم طلبهم إلهاً غير الله في قوله ﴿أغير الله أبغيكم إلهاً﴾ ذكرهم بنعمة الله عليهم وهي: إنجاؤهم من آل فرعون فهل يليق بمن ينعم الله عليه بنعمة عظيمة أن ينساه ويطلب إلهاً غيره يعبده بدله أو معه؟
232
تام في بني إسرائيل ولذا قال لهم موسى ﴿إنكم قوم تجهلون﴾ فالعلة في هذا الطلب العجيب هي الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته، يشهد لهذا أن مسلمة الفتح لما خرج بهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حنين مروا بسدرة قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجعلها لنا ذات أنواط ننيط بها أسلحتنا، كما للمشركين نظيرها ينيطون بها أسلحتهم لينتصروا في القتال على أعدائهم فعجب الرسول من قولهم وقال "سبحان الله ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة" فجهل القائلين هو الذي سهل عليهم أن يقولوا مثل هذا القول، ويشهد لذلك أن آلاف الأشجار والمزارات في بلاد المسلمين تزار ويتبرك بها وتقدم لها القرابين ولا علة لذلك سوى جهل المسلمين بربهم عز وجل.
٢- إنكار المنكر عند وجوده والعثور عليه بالأسلوب الذي يغيره.
٣- استحباب التذكير بأيام الله خيرها وشرها لاستجلاب الموعظة للناس لعلهم يتوبون.
٤- الرب تعالى يبتلى بالخير والغير، وفي كل ذلك خير لمن صبر وشكر.
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنَا
233
لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥)
شرح الكلمات:
ميقات: الميقات الوقت المعين.
أخلفني في قومي: أي كن خليفتي فيهم.
المفسدين: الذين يعملون بالمعاصي.
استقر مكانه: ثبت ولم يتحول.
خرّ: سقط على الأرض.
أفاق: ذهب عنه الإغماء وعاد إليه١ وعيه.
اصطفيتك: أخترتك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل انه لما نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه، وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما للمشركين إلهاً وقد أنبأهم موسى وأدبهم عن قولهم الباطل واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور وجعل له الموعد الذي يلقاه فيه شهراً ثلاثين يوماً وكانت شهر القعدة وزادها عشراً من أول الحجة فتم الميقات أربعين٢ ليلة. وعند خروجه عليه السلام استخلف في بني إسرائيل أخاه هارون٣ وأوصاه بالإصلاح، ونهاه عن إتباع آراء المفسدين هذا معنى قوله تعالى ﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ وكان
١ في الحديث الصحيح أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تخيروا بين الأنبياء فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور".
٢ ذكر ابن عباس ومجاهد ومسروق في سبب زيادة العشرة أيام: أن موسى لمّا أكمل صيام الثلاثين يوماً أنكر خلوف فمه فاستاك. فقالت له الملائكة: "إنّا كّنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيد فيه عشر ليال فتم له بذلك أربعون يوماً. في الحديث الصحيح " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
٣ في الآية دليل على استخلاف المرء أخاه لينوب عنه في حفظ ورعاية ما كلّفه به، ومن العجب أن الروافض استدلوا بقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي وقد استخلفه في إحدى غزواته "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي" إنّ الأصحاب كفروا لتركهم النّص في خلافة علي واجتهدوا واستخلفوا أبا بكر، ومنهم من كفّر علياً لأنه لم يطالب بالخلافة وما دروا أنّ الرسول استخلف غير واحد ومنهم ابن أمّ مكتوم فهل دلّ ذلك على استخلافه على أمته بعد موته؟ فما أضل القوم وأعظم جهلهم!
234
ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم ليكملوا وشحعدوا عليها.
وقوله تعالى ﴿ولما جاء موسى لميقاتنا١﴾ أي في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا وكلمه ربه بلا واسطة بينهما بل كان يسمع كلامه ولا يرى ذاته، تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى، فطلب ذلك فقال ﴿رب أرني أنظر إليك﴾ فأجابه ربه تعالى بقوله إنك لن تراني أي رؤيتك لي غير ممكنة لك، ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل "جبل الطور"فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له، فسوف لراني ﴿فلما تجلى٢ للجبل جعله دكا وخر موسى﴾ عند رؤية الجبل ﴿صعقا﴾ أي مغشيا عليه ﴿فلما أفاق﴾ مما اعتراه من الصعق ﴿قال سبحانك﴾ أي تنزيهاً لك وتقديساً ﴿تبت إليك٣﴾ فلم أسألك بعد مثل هذا السؤال ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ بك وبجلالك وعظيم سلطانك وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل.
وهنا أجابه ربه تعالى قائلا ﴿يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك﴾ من هذا الكمال٤ والخير العظيم ﴿وكن من الشاكرين﴾ أي على إنعامي لأزيدك وذلك بطاعتي والتقرب إلى بفعل محابي وترك مكارهي. وقوله تعالى ﴿وكتبنا له في الألواح٥ من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء﴾ أي كتبت له في ألواحه من كل شيء
١ في الآية دليل على مشروعية الموادعة والتوقيت وأن التاريخ يكون باللّيالي لا بالأيام، قال ابن العربي: حساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك.
٢ تجلّى معناه ظهر، واندكاك الجبل على قوة بنيته وعظيم جسمه كان لعجزه عن رؤية الربّ تبارك وتعالى وهذا كقوله تعالى: ﴿ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله﴾.
٣ الإجماع على أنّ توبة موسى هذه لم تكن من ذنب وإنما هي بمعنى الإنابة إلى الله تعالى وعدم طلب مثل هذا الذي طلب.
٤ فيه الدعوة إلى القناعة وهي خير ما يؤتى المرء في الحياة.
٥ اختلف في أيهما كان أوّلا الألواح أو التوراة، والظاهر أن الألواح كانت أوّلاً ثم أوحيت التوراة عليها فصارت كتاباً واحداً هو التوراة.
235
من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وتفصيلاً لكل شيء يحتاجون إلى بيانه وتفصيله. وقوله ﴿فخذها بقوة﴾ أي وقلنا له خذها بقوة أي بعزم وجد وذلك بالعمل بحلالها وحرامها فعلاً وتركاً، ﴿وأمر قومك﴾ أيضاً ﴿يأخذوا بأحسنها﴾ أي بما هو عزائم فيها وليس برخص تربية لهم وتعويداً لهم على تحمل العظائم لما لازمهم من الضعف والخور دهراً طويلاً. وقوله تعالى ﴿سأريكم دار الفاسقين١﴾ يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في الألواح من الشرائع والأحكام فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئاً منه يعتبرون فاسقين، وللفاسقين نار جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم، وسيريهم إياها، فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين يفسقون عن شرائع الله تعالى بإهمالها وعدم العمل بها، فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين.
٢- جواز الاستخلاف في الأرض في مهام الأمور فضلاً عما هو دون ذلك.
٣- مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير.
٤- امكان رؤية الله تعالى وهي ثابتة في الآخرة لأهل الجنة.
٥- استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا لضعف الإنسان على ذلك.
٦- وجود الأمة القابلة لأحكام الله قبل وجود الشرع الذي يحكمها.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
١ وجائز أن يُراد بدار الفاسقين: بلاد القدس والشام إذ سكانها كانوا فاسقين فواعد الله بني إسرائيل بدخول تلك البلاد والانتصار على أهلها الفاسقين.
236
وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٤٧)
شرح الكلمات:
سأصرف: سأبعد.
يتكبرون: يعلون ويترفعون فيمنعون الحقوق ويحتقرون الناس.
سبيل الرشد: طريق الحق القائم على الإيمان والتقوى.
سبيل الغي: طريق الضلال القائم على الشرك والمعاصي.
وكانوا عنها غافلين: لا يلتفتون إليها ولا ينظرون فيها ولا يتفكرون فيما تدل عليه وتهدي إليه.
حبطت أعمالهم: فسدت فلا ينتفعون بها لأنها أعمال مشرك والشرك محبط للعمل.
معنى الآيتين الكريمتين:
هاتان الآيتان تحملان تعليلاً صحيحاً صائباً لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها، وسواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم، أو التقليد أو العناد، إلا أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن آيات الله تعالى لقوله عز وجل في مطلع الآية الأولى (١٤٦) ﴿سأصرف١ عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ ومن صرفه الله حسب سنته في صرف العباد لا يقبل ولا يرجع أبداًً، وقوله ﴿وإن يروا سبيل الرشد٢ لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً﴾ هذا بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات الله. وهو أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه، ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلاً،
١ قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي وقال سفيان: سأصرفهم عن الإيمان بها وذلك مجازاة لهم على تكبّرهم. وما ذكرناه في التفسير لا يتنافى مع هذا.
٢ الرشد: ضد السفه والخيبة وقرىء بالضم وقرىء بفتح الراء والشين الرَّشد، وقرىء يُروا بضم الياء.
237
وقوله تعالى ﴿ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا﴾ التي جاءت بها رسلنا ﴿وكانوا عنها غافلين﴾ غير مبالين بها ولا ملتفتين١ إليها هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل، وقوله تعالى في الآية الثانية (١٤٧) ﴿والذين كذبوا بآياتنا٢ ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم﴾ تقرير المراد به تأكيد سران أولئك المصروفين عن آيات الله تعالى، إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق بل قامت على أساس الظلم والباطل فلذا هي باطلة من جهة فلا تكسبهم خيراً، ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف يجزون بها سوءاً في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم، ولذا قال تعالى ﴿هل يجزون إلا ما كانوا يعملون﴾ أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من السوء، وعدالة الله تعالى أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في صرف العباد عن آيات الله حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله.
٢- من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر.
٣- التكذيب بآيات الله والغفلة عنها هما سبب كل ضلال وشر وظلم وفساد.
٤- بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل الله التي تحدد الآيات القرآنية وتبين معالمها، وترفع أعلامها.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا
١ مع ما تحمله من الوعد والوعيد، وبيان الهدى والضلال، والخير والشر والحق والباطل فغفلتهم الناشئة عن مرض قلوبهم بسبب الكبر والتكذيب هي التي حالت دون تذكرهم وتدبرّهم.
٢ الآيات في الآية السابقة عامة في المعجزات الكونية في الأنفس والأفاق، والتنزيلة القرآنية، وفي هذه الآية المراد بها: القرآنية بقرينة التكذيب بها ويوم القيامة.
238
رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)
شرح الكلمات:
من حليهم: جمع حلى ١ وهو ما تتحلى به المرأة لزوجها من أساور ونحوها من ذهب.
عجلاً جسداً: العجل ولد البقرة والجسد أي ذاتا لا مجرد صورة على ورق أو جدار.
له خوار: الخوار صوت البقر كالرغاء٢ صوت الإبل.
ولما سقط في أيديهم: أي ندموا على عبادته لأنها عبادة باطلة.
معنى الآيات:
هذا عود إلى قصص موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل، فقد كان السياق مع موسى في جبل الطور وطلبه الرؤية وتوبته من ذلك ثم اعترض السياق ببيان القاعدة العظيمة في تعليل هلاك العباد وبيان سببه وهو التكذيب بآيات الله المنزلة والغفلة عنها، ثم عاد السياق لقصص موسى مع بني إسرائيل فقال تعالى ﴿واتخذ قوم موسى من بعده﴾ أي من بعد غيبته في جبل الطور لمناجاة ربه وليأتي بالكتاب الحاوي للشريعة التي سيسوسهم بها موسى ويحكمهم بموجبها ومقتضى قوانينها اتخذوا ﴿من حليهم﴾ أي حلي نسائهم ﴿عجلاً جسداً له خوار٣﴾ وذلك أن السامري٤ طلب من نسائهم حليهم بحجة واهية: أن هذا الحلي مستعار من نساء الأقباط ولا يحل تملكه فاحتال عليهم وكان صائغاً فصهره وأخرج لهم منه ﴿عجلاً٥ جسداً﴾ أي ذاتاً ﴿له خوار﴾ أي صوت كصوت البقر، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ولم يقل وإله هارون لأن هارون كان معهم خليفة
١ الحلي: يجمع على حُليّ وَحِلي كثدي يجمع على ثُدي بضم الياء وثِدي بكسرها.
٢ والثغاء. صوت الشاة، والمواء: صوت القط، والعراء: صوت الذئب، واليعار: صوت المعز.
٣ الخوار: صوت العجل، والجؤار: مثله، وفعل الخوار خار يخور خواراً، وفعل الجؤار جأر يجأر جؤراً، وأما خور يخور خوراً فمعناه: جبن وضعف.
٤ نسبة إلى قرية نسمى: سامرة، واسمه: موسى بن ظفر، ولد عام قتل الأبناء كموسى عليه السلام.
٥ العجل ولد البقرة كالحوار: ولدُ الناقة والمهر: ولدُ الفرس، والجحش: ولد الأتان والحمل: ولدُ الشاة، والجسد: الجثة.
239
فخاف أن يكذبه هارون فلم ينسبه إليه، وقوله تعالى ﴿ألم يروا أنه لا يكلمهم١ ولا يهديهم سبيلاً﴾ توبيخ لهم وتقريع على غباوتهم وجهلهم، وإلا كيف يعتقدون إلهاً وهو لا يتكلم فيكلمهم ولا يُعقل فيهديهم سبيل الرشد إن ضلوا وقد ضلوا بالفعل ثم قال تعالى ﴿اتخذوه﴾ أي إلهاً ﴿وكانوا ظالمين﴾ في ذلك، لأن الله رب موسى وهارون والعالمين لم يكن عجلاً ولا مخلوقاً كائناً من كان فما أجهل القوم وما أسوأ فهمهم وحالهم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٤٨) وأما الآية الثانية (١٤٩) فقد أخبر تعالى عن حالهم بعد انكشاف الأمر لهم، وبيان خطئهم فقال تعالى ﴿ولما سقط٢ في أيديهم﴾ أي ندموا ندماً شديداً ورأوا أنهم بشركهم هذا قد ضلوا الطريق الحق والرشد، صاحوا معلنين توبتهم ﴿لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر٣ لنا﴾ أي هذا الذنب العظيم ﴿لنكونن من الخاسرين﴾ في الدار الآخرة فنكون من أصحاب الجحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان سنة من سنن الكون وهي أن المرء يتأثر بما يرى ويسمع، والرؤية أكثر تأثيراً في النفس من السماع فإن بني إسرائيل رؤيتهم للأبقار الآلهة التي مروا بأهل قرية يعكفون عليها وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً مثلها هو الذي جعلهم يقبلون عجل السامري الذي صنعه لهم، ومن هذا كان منظر الأشياء في التلفاز وشاشات الفيديو مؤثراً جداً وكم أفسد من عقول ولوث من نفوس، وأفسد من أخلاق.
٢- تقبيح الغباء والجمود في الفكر، وذلك لقول الله تعالى ﴿ألم يروا أنه لا يكلمهم﴾.
٣- إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه التوبة بعد المعصية فندم واستغفر.
١ إذ الربّ وهو المربي والمصلح والمعبود المشرّع للعبادات يجب أن يكون متكلّماً يهديهم سبل كمالهم وسعادتهم.
٢ سُقط بضم السين، وأسقط بضم الهمزة بالبناء للمفعول، يقال للنادم المتحيّر: سقط في يده وأسقط في يده، وقرىء: سقط بالبناء للفاعل، أي: سقط الندم في يده، والندم يكون في القلب، وإنما ذكروا اليد هنا تشبيهاً بمن سقط شيء في يده وهو مثل: عض يده من الندم.
٣ أي: عادوا إلى الحق فتضرعوا إلى الله تعالى ودعوه معترفين بخطئهم مستنفرين ربّهم رجاء أن ينجيهم من الخسران.
240
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
شرح الكلمات:
ولما رجع موسى: أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما.
أسفاً: أي حزيناً شديد الحزن والغضب.
أعجلتم أمر ربكم: أي استعجلتم.
برأس أخيه: أي هارون شقيقه.
قال ابن أم: أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفاً نحو يا غلاماً، ثم حذفت وهارون شقيق موسى وإنما ناداه بأمه لأنه أكثر عطفاً وحناناً.
241
فلا تشمت بي الأعداء: أي لا تجعل الأعداء يفرحون بإهانتك أو ضربك لي.
اتخذوا العجل.: أي إلهاً عبدوه.
المفترين: الكاذبين على الله تعالى بالشرك به أي يجعل شريك له.
ولما سكت عن موسى الغضب: زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والاضطراب.
أخذ الألواح: أي من الأرض بعد أن طرحها فتكسرت.
وفي نسختها: أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة.
يرهبون: يخافون ربهم ويخشون عقابه فلا يعصونه.
معنى الآيات:
مازال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع ﴿غضبان أسفاً١﴾ أي شديد الغضب٢ والحزن، وما إن واجههم حتى قال ﴿بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم؟﴾ أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم أربعين يوماً فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل ﴿وألقى الألواح﴾ أي طرحها فتكسرت ﴿وأخذ بلحية﴾ هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلافة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيث أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال ﴿يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني٣ فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ وهم الذين ظلموا بعبادة العجل، ومعنى {لا تشمت بي
١ غضبان شديد الغضب ومؤنثه غضبى غير مصروف لزيادة الألف والنون، وأسفاً: معناه شديد الغضب قال أبو الدرداء، الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ منه والأسيف: الحزين.
٢ الغضب من طباع البشر وقد أرشد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غضب وهو قائم أن يجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلاّ اضطجع فقد روى أبو داود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وإنّ الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار وإنّما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
٣ في الآية دليل على أن من خاف على نفسه القتل أن يسكت عن المنكر ولا يغيره بيده ولا بلسانه ولكن بقلبه.
242
الأعداء} لا تؤذني بضرب ولا بغيره إذ ذاك يفرح أعدانا من هؤلاء الجهلة الظالمين، وهنا رق له موسى وعطف عليه فقال ﴿رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين﴾ توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه بقوله ﴿وأنت أرحم الراحمين﴾ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٥٠) والثانية (١٥١) أما الآية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلهاً ﴿سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا﴾ وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة للإهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو بريء من الشركاء والمشركين، هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (١٥١) أما الآية الرابعة فقد تضمنت فتح باب الله تعالى لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى ﴿والذين عملوا السيئات﴾ جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك ﴿ثم تابوا من بعدها﴾ أي تركوا عبادة غير الله تعالى وآمنوا إيماناً صادقاً فإن الله تعالى يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده، هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٣) أما الآية الخامسة (١٥٤) فقد تضمنت الأخبار عن موسى عليه السلام
وانه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في نسخة١ تلك الألواح ﴿هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون﴾ وهم المؤمنون المتقون وخصوا بالذكر لأنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة الألواح، لأنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون وذلك لإيمانهم وتقواهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالأنبياء، ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح.
٢- مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات.
٣- مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته.
١ النسخة: بمعنى المنوسخ، والنسخ: النقل للمكتوب في لوح أو غيره، ويسمى المنوسخ نسخة.
243
٤- كل وعيد لله تعالى توعد به عبداً من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد.
٥- كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى.
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
شرح الكلمات:
واختار موسى قومه سبعين رجلاً: أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلاً.
244
لميقاتنا: أي للوقت الذي حددناه له ليأتينا مع سبعين رجلاً.
أخذتهم الرجفة: الصاعقة التي رجفت لها القلوب.
السفهاء: جمع سفيه: وهو الذي لا رشد له في سائر تصرفاته.
إن هي إلا فتنتك: أي ما هي إلا فتنتك أي اختبارك لأهل الطاعة من عبادك.
أنت ولينا: أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك.
هدنا إليك: أي رجعنا إليك وتبنا.
الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب.
المعروف، والمنكر: ما عرفه الشرع والمنكر: ما أنكره الشرع.
ويحرم عليهم الخبائث: أي بإذن الله والخبائث جمع خبيثة: كالميتة مثلاً.
ويضع عنهم إصرهم والأغلال: الإصر: العهد والأغلال: الشدائد في الدين.
عزروه: أي وقروه وعظموه.
واتبعوا النور الذي أنزل معه: القرآن الكريم.
هم المفلحون: الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلهاً فإن الله تعالى وقت لموسى وقتاً يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى ﴿واختار١ موسى قومه سبعين رجلاً﴾ ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن
١ اختار مزيد من خار: إذا طلب ما هو خير من غيره، وقومه منصوب على نزع الخافض إذ الأصل من قومه، ومنه قول الشاعر:
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واختل من كان يُرجى عنده السُّولُ
السُّول بمعنى السؤل أي الطلب
245
الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عياناً وهنا غضب الله تعالى عليهم فأخذتهم صيحة رجفت لها قلوبهم والأرض من تحتهم فماتوا كلهم، وهو معنى قوله تعالى ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ وهنا أسف موسى عليه السلام لموت السبعين رجلاً وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلاً ﴿رب لو شئت أهلكتهم من قبل﴾ أي من قبل مجيئنا إليك ﴿وإياي﴾ وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل ﴿أتهلكنا بما فعل السفهاء منا١﴾ أي بسبب فعل السفهاء الذين لا رشد لهم، وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية الله تعالى، وقوله عليه السلام ﴿إن هي إلا فتنتك﴾ أي إلا اختبارك وبليتك ﴿تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت ولينا﴾ فليس لنا سواك ﴿فاغفر لنا﴾ أي ذنوبنا ﴿وارحمنا﴾ برفع العذاب عنا ﴿وأنت خير الغافرين﴾ ﴿واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة﴾ بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا، ﴿وفي الآخرة﴾ تغفر ذنوبنا وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين، وقوله ﴿إنا هدنا إليك﴾ أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب تعالى بقوله ﴿عذابي أصيب به من أشاء﴾ أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون عن طاعتي ﴿ورحمتي وسعت٢ كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ وبهذا القيد الوصفي، وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة الإسلام وحدها إلا من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين الله وهو الإسلام. وقوله ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي﴾ هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿الذي يجدونه٣ مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل﴾ وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته، وقوله ﴿يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات﴾ أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم ﴿ويحرم عليهم الخبائث﴾ الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في الإسلام، وقوله ﴿ويضع عنهم إصرهم﴾ أي ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والإنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء في
١ الاستفهام هنا للتحجج والجحد إي إنك لا تفعل ذلك، وهو كما قال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
٢ أي لم تضق عن مخلوق من المخلوقات التيّ أراد الله رحمتها. يحكى أن إبليس عليه لعائن الله لمّا سمع هذه الآية قال: أنا شيء فقال الله تعالى: سأكتبها للذين يتقون فقالت اليهود والنصارى نحن: متقون فقال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرجوا وبقيت لهذه الأمة وحدها.
٣ قال كعب في ذكر صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة: مولده مكة وهجرته بطابة وملكه بالشام، وأمته الحمّادون يحمدون الله على كل حال.. إلى أن قال: يصلّون حيثما أدركتهم الصلاة، صفهم في الصلاة كصفهم في القتال.
246
التوراة والإنجيل، وقوله ﴿والأغلال١ التي كانت عليهم﴾ أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها وذلك كقتل النفس بالنفس إذ لا عفو ولا دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في الإسلام وقوله تعالى ﴿فالذين آمنوا به﴾ أي بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وعزروه٢﴾ أي وقروه وعظموه ﴿ونصروه﴾ على أعدائه من المشركين والكافرين والمنافقين ﴿واتبعوا النور الذي أنزل معه﴾ وهو القرآن الكريم ﴿أولئك هم المفلحون﴾ أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب التوبة من كل ذنب، ومشروعية صلاة ركعتين وسؤال الله تعالى عقبها أن يقبل توبة التائب ويغفر ذنبه.
٢- كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم، وصاحبه قد يوصف بأنه سقيه.
٣- الهداية والإضلال كلاهما بيد الله تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله تعالى ويسأله أن لا يضله.
٤- رحمة الله تعالى بأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تنال اليهود ولا النصارى ولا غيرهم.
٥- بيان شرف النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته.
٦- بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب.
٧- بيان فضل التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٨- وجوب توقير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه ونصرته وإتباع الكتاب الذي جاء به والسنن التي سنها لأمته.
١ تقدّم لفظ الإصر وهو دال على جمع لأته مصدر يقع على الواحد والجمع ولذا عطف عليه الأغلال، وجمع الإصر: آصار، ومعناه الثقل الذي يصعب معه التحرك والأغلال جمع غلّ، وهو إطار من حديد يجعل في عنق الأسير، والمراد من الآصار والأغلال التكاليف الشرعية الشاقة التي اشتملت عليها التوراة منها: ترك العمل يوم السبت قيل: ومن أشدّها عدم مشروعية التوبة من الذنوب، وعدم استتابة المجرم.
٢ عزّروه: أيّدوه مع توقيره وتعظيمه.
247
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (١٦٢)
248
شرح الكلمات:
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا الله.
النبي الأمي: المنبئ عن الله والمنبأ من قبل الله تعالى، والأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. نسبة إلى الأم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد.
يؤمن بالله وكلماته: الذي يؤمن بالله رباً وإلهاً، وبكلماته التشريعية والكونية القدريه.
تهتدون: ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين.
أمة يهدون بالحق: أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم إنصافاً وعدلاً لا جور ولا ظلم.
أسباطاً: جمع سبط: وهو بمعنى القبيلة عند العرب.
استسقاه قومه: أي طلبوا منه الماء لعطشهم.
فانبجست: فانفجرت.
المن والسلوى: المن: حلوى كالعسل تنزل على أوراق الأشجار، والسلوى: طائر لذيذ لحمه.
اسكنوا هذه القرية: هي حاضرة فلسطين.
وقولوا حطة":: أي احطط عنا خطايانا بمعنى الإعلان عن توبتهم.
رجزاً من السماء: أي عذاباً من عند الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد الإشادة بالنبي الأمي وبأمته، وقصر الفلاح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر الأنبياء قبله هو نبي قومه خاصة وما ذكر من الكمال لا يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الآية (١٥٨) حيث أمر الله تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما لا مجال للشك فيه فقال
249
﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً﴾ وقوله ﴿الذي له ملك السموات والأرض﴾ وصف لله تعالى وقوله ﴿لا إله إلا هو﴾ تقرير لألوهية الله تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا وجب أن لا يكون معبود إلا هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم. وقوله ﴿فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي﴾ أمر الإله الحق إلى الناس كافة بالإيمان به تعالى رباً وإلهاً، وبرسوله النبي الأمي نبياً ورسولاً، وقوله ﴿الذي يؤمن بالله وكلماته﴾ صفة للنبي الأمي إذ من صفات النبي الأمي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يؤمن بالله حق الإيمان وأوفاه ويؤمن بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية١ وهي آيات القرآن الكريم، والكونية التي يُكوّن الله بها ما شاء من الأكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه السلام وقوله ﴿واتبعوه لعلكم تهتدون﴾ هذا أمر الله إلى الناس كافة بعد الأمر بالإيمان به وبرسوله النبي الأمي أمر بإتباع نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجاء هداية٢ من يتبعه فيما جاء به فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآية الثانية (١٥٩) فقد تضمنت الإخبار الإلهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى الله فهذه الآية كانت كالاحتراس من مثل هذا الفهم، إذ أخبر تعالى أن ﴿من قوم موسى أمة﴾ أي جماعة تكثر أو تقل ﴿يهدون بالحق٣﴾ أي يعملون بالحق في عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على الإنصاف والعدل، ولم يذكر تعالى أين هم ولا متى كانوا هم؟ فلا يبحث ذلك، إذ لا فائدة فيه، ثم عاد السياق إلى قوم موسي يذكر أحداثهم للعظة والاعتبار وتقرير الحق في توحيد الله تعالى وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الآخر.
فقال تعالى في الآية الثالثة (١٦٠) ﴿وقطعناهم٤﴾ أي بني إسرائيل {اثنتى عشرة أسباطاً
١ وبكلماته التنزيلية كالتوراة والإنجيل والزبور.
٢ هذا الرجاء بالنسبة إلى المأمورين بالإتباع لا إلى الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير.
٣ يهدون إلى الله تعالى عباده بواسطة ما شرع لهم وهداهم به من الوحي الذي أنزل على رسله وأنزل به كتبه.
٤ التقطيع: الشدة في القطع والمراد به التقسيم إلى اثنتى عشرة فرقة كل فرقة بمنزلة القبيلة العربية حيث تنتسب إلى أبيها الأعلى أي الأوّل.
250
أمماً} ١ أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولاد كل سبط من أولاد يعقوب عليه السلام. فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الأول، وأتت لفظ اثنتي عشرة لأن معنى الأسباط الفرق والفرقة مؤنثة، وقوله: ﴿وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه﴾ أعلمناه بطريق الوحي وهو الإعلام الخفي السريع، ومعنى ﴿استسقاه﴾ طلبوا منه السقيا لأنهم عطشوا لقلة الماء في صحراء سينا. ﴿أن اضرب بعصاك الحجر﴾ هذا الموحى به، فضرب ﴿فانبجست٢﴾ أي انفجرت ﴿منه اثنتا عشرة عيناً﴾ ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى لا يقع اصطدام أو تدافع فينجم عنه الأذى وقوله تعالى ﴿قد علم كل أناس مشربهم﴾ يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص بهم وقوله تعالى ﴿وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى﴾ هذا ذكر لإنعامه تعالى على بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه، حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب أبيض بارد يظلهم من الشمس حتى لا تلفحهم، وأنزل عليهم المن٣ وهي حلوى كالعسل سقط ليلاً كالطل على الأشجار، وسخر لهم طائراً لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السمانى المعروف وقلنا لهم ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ وقوله تعالى ﴿وما ظلمونا﴾ بتمردهم على أنبيائهم وعدم طاعتهم٤ لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلاء، ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ ٥ هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١٦١) فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح الله تعالى عليه فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعاً لله وشكراً على نعمة الفتح بعد النصر والنجاة من
١ ﴿أمما﴾ بدل من ﴿أسباطاً﴾ وفائدته: الأخبار بأنهم باركهم الله تعالى فأصبح أهل كل سط أمة كاملة والسبط أصله شجر يقال له السبط تعلفه الإبل.
٢ أصل الفعل بجس يقال: بجسته أي: شققته فانبجس مطاوع بجس الشيء إذا شقّة.
٣ المنّ: مادة بيضاء تنزل من السماء كالطل حلوة الطعم تشبه العسل، وإذ جفّت كانت الصمغ، والسلوى: طائر معروف يقال له السُمَانى بضم السين وفتح النون على وزن حُبَارى.
٤ وبعدم شكرهم لهذه النعم أيضاً إذا كفران النعم يسبب زوالها بعقوية تنزل بمن لم يشكر نعم الله تعالى عليه.
٥ أي ظلموا أنفسهم فعرضوها للبلاء، أمّا الله تعالى فمحال أن يبلغ العبد ظلمه أو ضرّه. روى مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: " إنّ الله تعالى قال: يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
251
التيه، وقوله إثناء دخولكم الباب كلمة ﴿حطة﴾ الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن الله تعالى يغفر لكم خطئياتكم، وسيزيد الله المحسنين منكم الإنعام والخير الكثير مع رضاه عنكم وإدخالكم الجنة، هذا معنى قوله تعالى ﴿وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية﴾ أي مدينة فلسطين١ ﴿وكلوا منها حيث شئتم﴾ لما فيها من الخيرات ﴿وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين﴾. أما الآية الرابعة (١٦٢) فهي قد تضمنت الإخبار عن الذين ظلموا من بني إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجداً. حيث بدلوا ﴿قولاً غير الذي قيل لهم﴾ فبدل حطة قالوا حنطة، وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم، فلما رأى تعالى ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا معنى قوله تعالى ﴿فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عموم رسالة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكافه الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم٢.
٢- هداية الإنسان فرداً أو جماعة أو أمة إلى الكمال والإسعاد متوقفة على إتباع النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- إنصاف القرآن للأمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق، وذلك بعد فساد بني إسرائيل، وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق، إلا من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته.
٤ إذا أنعم الله على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائناً من كان.
١ اسم القرية: أريحا، وكلمة فلسطين عامة في القطر كلّه.
٢ عموم الرسالة المحمدية يستوجب القيام بها ودعوة الناس إليها، والمسلمون هم المطالبون بذلك وإلاّ فهم آثمون بتفريطهم وتقصيرهم.
252
واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)
شرح الكلمات:
حاضرة البحر: أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس.
يعدون في السبت: أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه.
يوم سبتهم: أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت.
شرعاً: جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها.
كذلك نبلوهم: أي نمتحنهم ونختبرهم.
بما كانوا يفسقون: أي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان.
م عذرة إلى ربكم: أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإلا فنهينا يكون عذراً لنا عند ربنا.
فلما نسوا ما ذكروا به: أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ولا ما نهوا عنه.
عن السوء: السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والآثام.
بعذاب بئيس: أي ذا بأس شديد.
253
فلما عتوا عما نهوا عنه: أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي.
قردة خاسئين: القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين اخساء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بني إسرائيل إلا أنه هنا مع رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويهود المدينة فالله تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام أسألهم١ أي اليهود ﴿عن القرية٢ التي كانت حاضرة البحر﴾ أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام٣، أي أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم، أنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم، وفصل له الحادث تفصيلاً للعبرة والاتعاظ فقال ﴿إذ يعدون في السبت٤﴾ أي يعتدون ما أذن لهم فيه إلى ما حرم عليهم، أذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إلا يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو وصيد وطرب، ﴿إذ تأتيهم حيتانهم﴾ أي أسماكهم ﴿يوم سبتهم شرعاً﴾ ظاهرة على سطح الماء تغريهم بنفسها ﴿ويوم لا يسبتون﴾ أي في باقي أيام الأسبوع ﴿لا تأتيهم﴾ إذاً هم مبتلون، قال تعالى ﴿كذلك﴾ أي كهذا الابتلاء والاختبار ﴿نبلوهم بما كانوا يفسقون﴾ أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم ورسله، إذ ما من معصية إلا بذنب هكذا سنة الله تعالى في الناس. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٣) وهي قوله تعالى ﴿وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم٥ حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم٦ بما كانوا يفسقون﴾.
وأما الآية الثانية (١٦٤) فالله تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضاً إذ قالت طائفة منهم أي من أهل القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لأنه
١ هذا سؤال توبيخ وتقرير، إذ كانوا يتبخحون بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم من سبط خليل الرحمن إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، فالسؤال عن القرية السؤال عن أهلها.
٢ هذه القرية هي أيلة، والمسماة اليوم بالعقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر.
٣ وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر.
٤ السبت: اليوم الذي بين الجمعة والأحد، ويجمع السبت على أسبت وسبوت وأسبات.
٥ قيل للحسين بن الفضل: هل تجد في كتاب الله تعالى أن الحلال لا يأتيك إلا قوتاً إن الحرام يأتيك جزفاً جزفاً يعنى: بكثرة كاثرة قال: نعم في قصة داود وأيلة ﴿إذ تأتيهم حيتانهم....﴾ الآية.
٦ ﴿نبلوهم﴾ : أي بالتشديد عليهم فبما يشرع لهم عقوبة لهم.
254
معصية وتحذرهم من مغبة الاعتداء على شرع الله تعالى قالت ﴿لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً﴾ وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم وباطلهم، فأجابتهم الطائفة الواعظة ﴿معذرة١ إلى ربكم ولعلهم يتقون﴾ أي وعظنا لهم هو معذرة لنا عند الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى ﴿لعلهم يتقون﴾ فيتوبوا ويتركوا هذا الاعتداء، قال تعالى ﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ وخوفوا منه وهو تحريم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت، ومعنى نسوا تركوا ولم يلتفتوا إلى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم، قال تعالى ﴿أنجينا الذين ينهون عن السوء﴾ وهم الواعظون لهم من ملّوا ويئسوا فتركوا وعظهم، وممن واصلوا نهيهم ووعظهم ﴿وأخذنا الذين ظلموا٢ بعذاب بئيس﴾ أي شديد البأس ﴿بما كانوا يفسقون﴾ عن طاعة الله ربهم، إذ قال تعالى لهم ﴿كونوا قردة خاسئين٣﴾ فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين، ثم لم يلبثوا (مسخاً) ٤ إلا ثلاثة أيام وماتوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله، وقد مضى عليه زمن طويل.
٢- إذا أنعم الله على أمة نعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولاً ثم العذاب ثانياً.
٣- جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر وأهلك الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غيرهم.
١ المعذرة: مصدر ميمي فعله اعتذر على غير قياس، والعذر: السبب الذي تبطل به المؤاخذة بسبب ذنب أو تقصير.
٢ اختلف في هل الفرقة القائلة: لم تعظونا قوماً.. الخ نجت من العذاب أولاً؟ وقد روي أن ابن عباس كان يرى أنها لم ننج حتى أقنعه تلميذه عكرمة فقال بنجاتها مع الفرقة الناهية، لأنّ ترك النهي من الفرقة التي لم تنه كان ليأسهم من استجابة الظالمين.
٣ يقال: خسأته فخسا أي، باعدته وطردته، وفي هذا دليل على أنّ المعاصي سبب النقم كما أن الطاعات سبب النعم.
٤ أي لم يلبثوا ممسوخين حتى هلكوا والعياذ بالله.
255
٤ – إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
شرح الكلمات:
تأذن ١: أعلم وأعلن.
ليبعثن: أي ليسلطن.
من يسومهم سوء العذاب: أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة.
وقطعناهم: أي فرقناهم جماعات جماعات.
بلوناهم بالحسنات والسيئات: اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم.
١ آذن وأذن بمعنى واحد، وهو أَعلم ومنه قول الشاعر:
فقلت تعلّم إنّ للصيد غرّة...
فَإلاَّ تضيّعها فإنك قاتله
256
فخلف من بعدهم خلف: الخلف بإسكان اللام خلف سوء وبالتحريك خلف خير.
ورثوا الكتاب: أي التوراة.
عرض هذا الأدنى: أي حطام الدنيا الفاني وهو المال.
يمسكون بالكتاب: أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل الله فيها ويحرمون ما حرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلامه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء أفعالهم، وهذا الإطلاق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الأول بتوبة من تاب منهم ويدل على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الآية ﴿إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾ أي لمن تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران ﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله﴾ وهو الإسلام ﴿وحبل من الناس﴾، وهو ما ذكرناه آنفاً. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (١٦٧) وهي قوله تعالى ﴿وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم١ سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾ وأما الآية الثانية (١٦٨) فقد تضمنت بيان فضل الله تعالى على اليهود وهو أن الله تعالى قد فرقهم في الأرض جماعات جماعات، وأن منهم الصالحين، وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات وهي النعم، والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعداداً للتوبة إن آثروا التوبة على الاستمرار في الإجرام والشر والفساد. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون٢ ومن دون ذلك، وبلوناهم بالحسنات
١ يسومهم سوء العذاب: يجعل أسوأ العذاب وأشدّه كالقيمة لهم إذ هو حظهم المفروض عليهم، أوّل من تسلط عليهم فسامهم سوء العذاب بختنصر البابلي.
٢ أي شتتناهم في البلاد بعد تسلط البابليين عليهم وتمزيق ملكهم فعاشوا مشتتين فلم ينتظم ملكهم مدّة طويلة وهم إذ ذاك ما بين صالح وفاسد وانتظم أمرهم مرة أخرى ثمّ فسقوا فسلّط عليهم أطيطوس الروماني فتفرقوا مرّة أخرى وما زالوا مفرقين إلى هذه الأيام، باجتماعهم في فلسطين وتكوينهم دولة إسرائيل وعمّا قريب تزول.
257
والسيئات لعلهم يرجعون} وأما الآية الثالثة (١٦٩) فقد أخبر تعالى أنه فد خلف من بعد تلك الأمة خلف سوء١ ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلافهم ولم يتلزموا بما أخذ عليهم فيه من عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الآخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدعون أنهم سيغفر لهم، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة٢ كذباً على الله تعالى قال تعالى موبخاً لهم ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم، ثم يواجههم تعالى بالخطاب مذكراً لهم واعظاً فيقول ﴿والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون؟﴾ ويفتح الله تعالى باب الرجاء لهم في الآية الرابعة في هذا السياق فيقول ﴿والذين يمسكون بالكتاب٣﴾ أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الأحكام والشرائع ولا يفرطون في شيء من ذلك ﴿وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾، ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة، وان الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان موجز لتوبيخ اليهود في هذه الآيات الأربع.
٢- من أهل الكتاب الصالحون، ومنهم دون ذلك.
٣- التنديد بإيثار الدنيا على الآخرة، وبتمني المغفرة مع الإصرار على الإجرام.
٤- تفضيل الآخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين.
٥- الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلماً وعملاً بإحلال حلاله وتحريم حرامه.
١ الخلف بسكون اللاّم: الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء والخلَف: لفتح اللام الْبَدَل ولداً كان أو غيره، وقيل الخلف بالفتح: الصالح وبالجزم: الطالح قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
٢ روى الدارمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الرواية التالية وهي منطبقة على واقعنا اليوم ومن قبل اليوم قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا سنبلغ وإن أساءوا قالوا: سيغفر لنا إنّا لا نشرك بالله شيئاً.
٣ مسك وتمسّك بمعنى واحد.
258
٦- فضل اقام الصلاة.
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
شرح الكلمات:
وإذ نتقنا الجبل: أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم.
واقع بهم: أي ساقط عليهم.
خذوا ما آتيناكم بقوة: أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة.
واذكروا ما فيه: أي لا تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة.
من ظهورهم ذريتهم: أي أخذهم من ظهر آدم عليه السلام بأرض نعمان١ من عرفات.
أشهدهم على أنفسهم: أي بالله تعالى ربهم وإلاههم ولا رب لهم غيره ولا إله لهم سوأه.
المبطلون: العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل لا حق فيه.
نفصل الآيات: نبينها ونوضحها بتنويع الأساليب وتكرار الحجج وضرب الأمثال وذكر القصص
١ قال ابن عباس: ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة.
259
معنى الآيات:
الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله ﴿وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة١﴾ أي اذكر لهم أيها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة ﴿وظنوا أنه واقع بهم﴾ أي ساقط عليهم وقلنا لهم ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة٢﴾ والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه وقوله تعالى ﴿واذكروا ما فيه﴾ أي في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عز وجل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود.
أما الآية الثانية (١٧٢) وهي قوله تعالى ﴿وإذ أخذ ربك من بني٣ آدم من ظهورهم ذريتهم﴾ ٤ فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم، وسوف يطالبون به يوم القيامة، وهو معنى قوله تعالى ﴿وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا﴾ أي أنك ربنا ﴿أن تقولوا﴾ يوم القيامة ﴿إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم٥، أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى، ويعاهد ولا يفي، وما وجد من بني إسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان، وهناك عبرة أعظم وهى أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه، ويشركون بربهم وقوله تعالى ﴿وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون﴾ وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا
١ أي: كأنّه لارتفاعه سحابة تظلّ.
٢ أي: بجدّ وعزم.
٣ الآثار والأحاديث المثبتة لاستخراج الرب تعالى الذريّة من ظهر آدم كثيرة منها في الموطأ والسنن ونكتفي برواية الشيخين الآتية: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفدياً؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا نشرك بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك".
٤ وُجّه نظم الآية هكذا: وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم ولم يذكر ظهر آدم عليه السلام لأنه من المعلوم أن كل بني آدم منه وأخرجوا يوم الميثاق من ظهره. وقوله: ظهورهم: بدل اشتمال من بين آدم.
٥ في الآية دليل على أنه لا عذر لأحد في تقليده آباءه وأجداده وآهل بلاده في الشرك والمعاصي كما لا عذر بالجهل أيضاً.
260
السياق وهو تفصيل عجيب نفصل الآيات تذكيراً للناس وتعليماً ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد إعراضهم عنه، والى الإيمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليداً وإتباعاً لشياطين الجن والإنس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة وإلا كيف وهم بين يدي الله يتمردون عليه ويعصونه برفضهم الالتزام بما عهد إليهم من أحكام حتى يرفع فوقهم الطور تهديداً لهم، وعندئذ التزموا ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى نقضوا عهدهم وعصوا ربهم.
٢- عجيب تدبير الله تعالى في خلقه.
٣- الكافر كفر مرتين كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذّر١ وكفر بالله وهو في عالم الشهادة، والمؤمن آمن مرتين، فلذا يضاعف للأول العذاب ويضاعف للثاني الثواب.
٤- تقرير مبدأ الخليقة، ومبدأ المعاد الآخر.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ
١ لقد حاول كثيرون التخلص من قضية أخذ الرب تعالى من ظهر آدم ذريته وإشهادهم على أنفسهم، ونطق الأرواح وشهادتها، ولا داعي لهذا أبداً ما دامت الأحاديث والآثار كثيرة وقدرة الله صالحة لكل شيء ولا يعجزها شيء ما هي النملة؟ وقد أنطقها الله فنطقت وأفصحت. إن الحيوان المنوي الذي منه تكون الذرية قال العلماء لو جمعت الحيوانات المنوية كلها من آدم إلى اليوم ووضعت في فنجان ما ملأته. أمع هذا يحاول إبطال الأحاديث وتأويل الآية على غير ظاهرها رجل من أهل العلم؟
261
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
شرح الكلمات
واتل عليهم نبأ: إقرأ عليهم.
فانسلخ منها: كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعداً عنها.
فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه.
من الغاوين: من الضالين غير المهتدين الهالكين غير الناجين.
أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح لا هم له إلا الدنيا.
يلهث: اللهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان من التعب والإعياء.
ساء: قبح.
مثلاً: أي صفة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿واتل عليهم﴾ أي اقرأ على قومك وعلى كل من يبلغه هذا الكتاب من سائر الناس ﴿نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ أي خبر الرجل١ الذي أعطيناه آيتنا تحمل الأدلة والحجج والشرائع والأحكام والآداب فتركها وابتعد عنها فلم يَتْلُهَا ولم يفكر فيها ولم يعمل بها لا استدلالا ولا تطبيقا ﴿فأتبعه الشيطان﴾ أي لحقه وأدركه وتمكن منه إبليس، لأنه بتخليه عن الآيات وجد الشيطان له طريقاً إليه ﴿فكان من الغاوين﴾ أي الضالين الفاسدين الهالكين ﴿ولو شئنا لرفعناه بها٢﴾ أي بالآيات إلى قمم
١ ذكر أهل التفسير ثلاثة رجال قيل إنها نزلت في واحد منهم وهم: بلعم بن باعوراء الكنعاني وكان على زمن موسى، وقيل إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثقفي، وقيل في أبي عامر بن صيفي، وأقرب الأقوال إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت إذ هو الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آمن شِعْرُهُ وكفر قلبه" إذ شعره كان يفيض بالإيمانيات من عقيدة البعث والجزاء، والتوحيد، والعدل والرحمة ومن شعره قوله:
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور
٢ أي أنّ تلك الآيات التي أعطاه الله إياها من شأنها أن تكون سبباً للهداية، وهذا شأن آيات الله فإنها ترفع كل من يؤمن بها ويعمل بما فيها ترفعه في الدنيا والآخرة فهي آلة الرفع الحقيقية لا المذاهب والنظريات المادية.
262
المجد والكمال، وإلى الدرجات العلا في الدار الآخرة، ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض﴾ أي مال إليها وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات، وأصبح لا هم له إلا تحصيل ذلك ﴿واتبع هواه﴾ وترك عقله ووحي ربه عنده، فصار مثله أي صفته الملائمة له ﴿كمثل الكلب﴾ أي في اللهث والإعياء، والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي ﴿إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث﴾ فحيرته وتعبه لا ينقطعان أبداً. وقوله تعالى ﴿ذلك مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا﴾ أي هذا المثل الذي ضربناه لذلك الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان ومكان، وعليه ﴿فاقصص﴾ يا رسولنا ﴿القصص لعلهم يتفكرون﴾ أي لعل قريشاً تتفكر فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد، وقوله تعالى ﴿ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون﴾ أي قبح مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا إليه، ﴿وأنفسهم كانوا يظلمون﴾ بتدنيسها بآثار الشرك والمعاصي وقوله تعالى ﴿من يهد الله فهو المهتدي﴾ أي من وفقه الله تعالى للهداية١ فآمن وأسلم واستقام على منهاج الحق فهو المهتدي بحق ومن خذله الله لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلال الله تعالى له فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس.
٢- ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه، وترك العمل به مفض بالعبد إلى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية، فأولاً يتمكن منه الشيطان فيصبح من الغواة وثانيا يخلد إلى الأرض كما هو حال الكثيرين فلا يكون لأحدهم هم إلا الدنيا. ثم يتبع هواه لا عقله ولا شرع الله، فإذا به صورة لكلب يلهث لا تنقطع حيرته وإتباعه لغيره كالكلب سواء بسواءء وهذه حال من أعرضوا عن كتاب الله تعالى في هذه الآية فليتأملها العاقل.
٣- لا رفعةَ ولا سعادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن فهي الآية الرافعة لقوله تعالى {ولو شئنا
١ الهداية: هي إبانة الطريق الموصل إلى السعادة والكمال.
263
لرفعناه بها} أي بالآيات ١ التي انسلخ منها والعياذ بالله.
٤- الهداية بيد الله ألا فليطلبها من أرادها من الله بصدق القلب وإخلاص النية فإن الله تعالى لا يحرمه منها، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
شرح الكلمات:
ذرأنا لجهنم: خلقنا لجهنم أي للتعذيب بها والاستقرار فيها.
لا يفقهون بها: كلام الله ولا كلام رسوله.
لا يبصرون بها: آيات الله في الكون.
لا يسمعون بها: الحق والمعروف.
كالأنعام: البهائم في عدم الانتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
الغافلون: أي عن آيات الله، وما خُلقوا له وما يراد لهم وبهم.
ولله الأسماء الحسنى: الأسماء جمع اسم والحسنى مؤنث الأحسن، والأسماء الحسنى لله خاصة دون غيره فلا يشاركه فيها أحد من مخلوقاته.
١ لقد جرب أتباع أتاتورك العثماني العلمانية وجرّب العرب القومية ثم جربوا الاشتراكية حتى قال قائلهم: اشتراكيتنا نوالي، من يواليها ونعادي من يعاديها، وجرّب بعضهم الشيوعية فهل غنوا هل عزّوا هل كملوا هل شبعوا؟ اللهم لا، لا، لا فلم إذن لا يعملون بالقرآن.
264
وذروا: اتركوا.
يلحدون: يميلون بها إلى الباطل.
وممن خلقنا: أي من الناس.
معنى الآيات:
على إثر ذكر الهدى والضلال وإن المهتدى من هداه الله، والضال من أضله الله أخبر تعالى أنه قد خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس، علماً منه تعالى بأنهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وإن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم فلا القلب يفقه ما يقال له، ولا العين تبصر ما تراه، ولا الأذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه فأصبحوا كالأنعام١ بل هم أضل لأن الأنعام ما خرجت عن الطريق الذي سيقت له وخلقت لأجله٢، وأما أولئك فقد خرجوا عن الطريق الذي امروا بسلوكه، وخلقوا له ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم، وقوله تعالى ﴿أولئك هم الغافلون﴾ تقرير لحقيقة وهي أن استمرارهم في الضلال كان نتيجة غفلتهم عن آيات الله الكونية فلا يتأملوها فيعرفوا أن المعبود الحق هو الله وحده ويعبدوه وعن آيات الله التنزيلية فلا يتدبروها فيعلموا أن الله هو الحق المبين فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٧٩) وأما الآية الثانية في هذا السياق (١٨٠) وهي قوله تعالى ﴿ولله الأسماء الحنسى فادعوه٣ بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون﴾ فقد أخبر تعالى فيها بأن الأسماء الحسنى له تعالى خاصة لا يشاركه فيها أحد من خلقه، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مائة اسم٤ إلا اسما أي تسعة وتسعون إسما ًووردت مفرقة في القرآن الكريم، وأمر تعالى عباده أن
١ قال عطاء: الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه، وقيل: الأنعام مطيعة لله، والكافر غير مطيع.
٢ أي: لا همّة لهم إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح، وهم أضل من الأنعام لأن الأنعام تبصر مضارها ومنافعها وتتبع مالكها وهم على خلاف ذلك.
٣ روى أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما أصاب أحداٌ قط همٌ ولا حزم فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقِّك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي إلاّ أذهب الله حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحاً".
٤ روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحبّ الوتر".
265
يدعوه١ بها يا الله، يا رحمن يا رحيم يا رب، يا حي يا قيوم، وذلك عند سؤالهم إياه وطلبهم منه ما لا يقدرون عليه٢، كما أمرهم أن يتركوا أهل الزيغ والضلال الذين يلحدون في أسماء الله فيؤلونها، أو يعطلونها، أو يشبهونها، أمر عباده المؤمنين به أن يتركوا هؤلاء له ليجزيهم الجزاء العادل على ما كانوا يقولون ويعملون. لأن جدالهم غير نافع فيهم ولا مجد للمؤمنين ولا لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (١٨١) وهي قوله تعالى ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقاً آخر من الإنس والجن فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي استوجبوا بها جهنم، فقال ﴿وممن خلقنا﴾ من الناس ﴿أمة﴾ كبيرة ﴿يهدون﴾ أنفسهم وغيرهم ﴿بالحق﴾ الذي هو هدى الله ورسوله وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم فينصفون ويعدلون ولا يجورون، ومن هذه الأمة كل صالح في أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقاداً وقولاً وعملاً وحكماً وقضاءً وأدباً وخلقاً جعلنا الذي منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ أن السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر فكل ميسر لما خلق له.
٢- هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان، وذلك عندما يكفر بربه ويعطل حواسه عن الانتفاع بها، ويقصر همه على الحياة الدنيا.
٣- بيان أن البلاء كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها.
٤- الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى نحو يا رب يا رحمن، يا عزيز يا جبار.
١ ذكر أهل العلم كيفية الدعاء بها وهي؛: أن يسأل باسم الله ما يناسب حاجته فيقول مثلا: يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا حكيم احكم لي، يا قوي يا قدير. قوّني واقدرني على كذا.. يا لطيف ألطف بي، يا عليم علّمني وانفعني بما تعلمني وهكذا.
٢ قال مقاتل وغيره في سبب نزول هذه الآية ﴿ولله الأسماء الحسنى﴾ الخ أنً مشركاً سمع مسلماً يدعو: يا رحمن يا رحيم فقال: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً؟ فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله تعالى ﴿ولله الأسماء الحسنى﴾ الخ.
266
٥- حرمة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها كما قال المشركون في الله، اللات، وفي العزيز العزى سموا بها آلهتهم الباطلة، وهو الإلحاد١ الذي توعد الله أهله بالجزاء عليه.
٦- أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون بهما.
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
شرح الكلمات:
كذبوا بآياتنا:: أي بآيات القرآن الكريم.
سنستدرجهم٢:: أي نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى العذاب، وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان حتى يبلغوا الأجل المحدد لهم ثم يؤخذوا أخذة واحدة.
١ الإلحاد لغة: الميل عن وسط الشيء إلى جانبه والإلحاد للميت دفنه في جانب القبر وكان من إلحاد العرب في أسماء الله تعالى أن اشتقوا العزّى من العزيز واللات من الله، ومناة من المنان فألحدوا في أسماء الله تعالى، ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى ما يفعله جهال المتصوّفة من وضع أسماء لله تعالى لا توجد في كتاب ولا سنة.
٢ الاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدُرْج: لف الشيء ومنه إدراج الميت في كفنه أي: لفه فيه. واستدراج الله تعالى لأهل الغواية كلّما جددوا لله معصية جدد لهم نعمة حتى يأخذهم بذنوبهم وهم لا يشعرون وأحسن من أنشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حَسُنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها...
وعند صفر الليالي يحدث الكدر
267
وأملي لهم إن كيدي متين: أي أمهلهم فلا أعجل بعقوبتهم حتى ينتهوا إليها بأعمالهم الباطلة وهذا هو الكيد لهم وهو كيد متين شديد.
ما بصاحبهم من جنة: صاحبهم هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجنة الجنون والمتحدث عنهم كفار قريش.
ملكوت السموات: أي ملك السموات إلا أن لفظ الملكوت أعظم من لفظة الملك.
فبأي حديث بعده: أي بعد القرآن العظيم.
ونذرهم في طغيانهم: أي نتركهم في كفرهم وظلمهم.
يعمهون: حيارى يترددون لا يعرفون مخرجاً ولا سبيلاً للنجاة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين كذبوا بآياته التي أرسل بها رسوله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمنوا بها وأصروا على الشرك والضلال معرضين عن التوحيد والهدى يخبر تعالى أنه سيستدرجهم بالأخذ شيئاً فشيئاً ودرجة بعد درجة حتى يحق عليهم العذاب فينزله بهم فيهلكون ويخبر أنه يملى لهم أيضاً كيداً بهم ومكراً، أي يزيدهم في الوقت ويطول لهم زمن كفرهم وضلالهم فلا يعاجلهم بالعقوبة بل إنه يزيد في إرزاقهم وأموالهم حتى يفقدوا الاستعداد للتوبة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال ﴿وأملي١ لهم إن كيدي متين٢﴾ أي قوي شديد. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٣) أما الثانية فإنه تعالى يوبخهم على إعراضهم عن التفكير والتعقل فيقول ﴿أو لم يتفكروا﴾ في سلوك الرسول٣ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتصرفاته الرشيدة الحكيمة فيعلموا أنه ما به من جنة وجنون كما يزعمون، وإنما هو نذير لهم من عذاب يوم أليم إن هم استمروا على سلوك درب الباطل والشر من الشرك والمعاصي، ونذارته بينه لا لبس فيها ولا غموض لو كانوا يتفكرون. وفي الآية الثالثة (١٨٥) يوبخهم
١ قيل نزلت هذه الآية: ﴿سنستدرجهم﴾ إلى قوله: ﴿متين﴾ نزلت في المستهزئين من قريش وقد أخذوا بعد الإملاء لهم زمناً زاد على العشر سنين، أخذهم في بدر وألقوا في القليب ووبخهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هم أهله من الخزي والهوان.
٢ المتين: مأخوذ من المتن وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب أي: الظهر.
٣ هو المراد بالصاحب في قوله: ﴿ما بصاحبكم من جنّة﴾ وهي الجنون، دعا الله تعالى قريشاً للتفكر.
268
على عدم نظرهم١ في ملكوت السموات والأرض وفي ما خلق الله من شيء وفي أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، إذ لو نظروا في ملكوت السموات والأرض وما في ذلك من مظاهر القدرة والعلم والحكمة لعلموا أن المستحق للعبادة هو خالق هذا الملكوت، لا الأصنام والتماثيل، كما أنهم لو نظروا فيما خلق الله من شيء من النملة إلى النخلة ومن الحبة إلى القبة لأدركوا أن الله هو الحق وأن ما يدعون هو الباطل كما أنه حرى بهم أن ينظروا في ما مضى من أعمارهم فيدركوا أنه من الجائز أن يكون قد اقترب أجلهم، وقد اقترب فعلا فليعجلوا بالتوبة حتى لا يؤخذوا وهم كفار أشرار فيهلكون ويخسرون خسرانا ًكاملاً. ثم قال تعالى في ختام الآية ﴿فبأي حديث٢﴾ بعد القرآن يؤمنون فالذي لا يؤمن بالقرآن وكله حجج وشواهد وبراهين وأدلة واضحة على وجوب توحيد الله والإيمان بكتابه ورسوله ولقائه ووعده ووعيده فبأي كلام يؤمن، اللهم لا شيء، فالقوم إذاً أضلهم الله، ومن أضله الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون حيارى يترددون لا يدرون ما يقولون، ولا أين يتجهون حتى يهلكوا كما هلك من قبلهم. وما ربك بظلام للعبيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى أن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم.
٢- أكبر موعظة وهي أن على الإنسان أن يذكر دائماً أن أجله قد يكون قريباً وهو لا يدري فيأخذ بالحذر والحيطة حتى لا يؤخذ على غير توبة فيخسر.
٣- من لا يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر، والعظات والعبر، لا يتعظ بغيره.
٤- من أعرض عن كتاب الله مكذباً بما فيه من الهدى فضل، لا ترجى له هداية أبداً.
١ استدل العلماء بهذه الآية: ﴿أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض﴾ ونظائر هذه الآية وهي كثيرة على وجوب النظر في الآيات والاعتبار بالمخلوقات وهو كذلك، واختلف العلماء في: هل الإيمان يثبت بالتقليد أو لابد من النظر حتى يؤمن، والصحيح: أنّ الإيمان يصح بالتقليد المفيد لليقين كإيمان عوام المسلمين، وأفضل منه ما كان عن نظر واستدلال وهو إيمان العالمين.
٢ قوله: ﴿فبأي حديث﴾ الخ: الاستفهام لتوقيفهم على ما يجب أن يفكروا فيه وينظروا إليه وتوبيخهم على ترك ذلك.
269
١ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
شرح الكلمات:
الساعة: أي الساعة بمعنى الوقت الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا بالفناء التام.
أيان مرساها ٢: أي متى وقت قيامها.
لا يجلها لوقتها: أي لا يظهرها في وقتها المحدد لها إلا هو سبحانه وتعالى.
بغتة: أي فجأة بدون توقع أو انتظار.
حفي عنها: أي ملحف مبالغ في السؤال عنها حتى أصبحت تعرف وقت مجيئها.
الغيب: الغيب ما غاب عن حواسنا وعن عقولنا فلم يدرك بحاسة ولا بعقل. والمراد به هنا ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
السوء: كل ما يسوء العبد في روحه أو بدنه.
إن أنا إلا نذير: أي ما أنا إلا نذير وبشير فلست بإله يدبر الأمر ويعلم الغيب.
١ السائلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة كثيرون بعضهم مشركون يسألون للتعجيز وبعضهم يهود يسألون اختباراً وامتحاناً.
٢ اسم يسأل به عن الزمان لا غير، قال الراجز:
أيّان تقضي حاجتي أيّان...
أما ترى لنُجْحِها أرانا
270
معنى الآيات:
لا شك أن أفراداً من قريش أو من غيرهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة متى قيامها فأخبره تعالى بسؤالهم وعلمه الجواب فقال عز وجل وهو يخاطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يسألونك عن الساعة أيان مرساها١﴾ أي متى وقت وقعوها وقيامها؟ قل لهم ﴿إنما علمها عند ربى﴾ أي علم وقت قيامها عند ربي خاصة ﴿لا يجليها لوقتها﴾ أي لا يظهرها لأول وقتها إلا هو ﴿ثقلت في السموات والأرض﴾ أي ثقل أمر علمها عند أهل السموات والأرض ﴿لا تأتيكم إلا بغتة﴾ أي فجأة، ثم قال له يسألونك هؤلاء الجهال عن الساعة ﴿كأنك حفي عنها﴾ أي كأنك ملحف في السؤال مبالغ في طلب معرفتها حتى عرفتها، قل لهم ﴿إنما علمها٢ عند الله﴾ خاصة، ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾، ولذا هم يسألونه، إذ إخفاؤه لحكم عالية لو عرفها الناس ما سألوا ولن يسألوا ولكن الجهل هو الذي ورطهم في مثل هذه الأسئلة وهذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٧) أما الآية الثانية (١٨٨) فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك السائلين عن الساعة متى وقت مجيئها ﴿لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً﴾ خيراً ولا شراً ﴿إلا ما شاء الله﴾ شيئاً من ذلك فإنه يُعينني على جلبه أو على دفعه فكيف إذاً أعلم وقت مجيء الساعة حتى تسألوني عنها ﴿ولو كنت أعلم الغيب٣﴾ كما تظنون لاستكثرت من الخيرات وما مسني السوء. وذلك أني إذا عرفت متى الخصب ومتى الجدب، ومتى الغلاء ومتى الرخاء يمكنني بسهولة أن استكثر من الخير عند وجوده، وأتوقى الشر وأدفعه قبل حصوله، يا قوم إنما أنا نذير بعواقب الشرك والمعاصي بشير بنتائج الإيمان والتوحيد والعمل الصالح فلست بإله أعلم الغيب، ووظيفتي هذه صراحة هي البشارة والنذارة ينتفع بها المؤمنون خاصة وهو معنى قوله تعالى ﴿إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون﴾.
١ ﴿أيان مرساها﴾ : مرساها مبتدأ، والخبر أيّان، وقدّم لأنه اسم استفهام له الصدارة ومعنى مرساها: مثبتها، من قولهم أرسى كذا إذا أثبته، أي: متى وقوعها.
٢ أي علم الساعة إذ إخفاء علم الساعة كان لحكم عالية لو عرفها السائلون عن الساعة ما سألوا ولكنهم لجهلهم يسألون.
٣ الغيب: قسمان، حقيقي: وهو ما استأثر الله تعالى به ومن علّمه تعالى منه شيئاً علمه. وإضافي: يعلمه بعض ويخفي عن بعض، ومن ادعى علم الغيب فقد كذّب الله ونازعه فيما استأثر به فهو بذلك كافر.
271
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مرد علم الساعة إلى الله وحده فكل مسؤول عنها غير الله ليس أعلم من السائل١.
٢- للساعة أشراط بعضها في الكتاب وبعضها في السنة وليس معنى ذلك أنه تحديد لوقتها وإنما هي مقدمات تدل على قربها فقط.
٣- استأثر الله بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله، ومَنْ علَّمه الله شيئاً منه علم كما علم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض المغيبات، والمعلم بالشيء لا يقال فيه يعلم الغيب وإنما يقال علَّمه ربه غيب كذا وكذا فعلمه:
٤- إذا كان الرسول لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يطلب منه ذلك وإذ كان الرسول لا يملك فهل من دونه من العباد يملك؟ إذا عرفت هذا ظهر لك ضلال أقوام يدعون الموتى سائلين ضارعين عند قبورهم ويقولون أنهم لا يدعونهم ولكن يتوسلون بهم فقط.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٢) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣)
١ لحديث مسلم: فقد سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فبيّن له ذلك فصدقه جبريل وسأله عن الساعة فقال له: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
272
شرح الكلمات:
من نفس واحدة: هي نفس آدم عليه السلام.
وجعل منها زوجها: أي خلق منها زوجها وهي حواء خلقها من ضلع آدم الأيسر.
ليسكن إليها: أي ليألفها ويأنس بها لكونها من جنسه.
فلما تغشاها: أي وطئها.
فمرت به: أي ذاهبة جائية تقضى حوائجها لخفت الحمل في الأشهر الأولى.
فلما أثقلت ١: أي أصبح الحمل ثقيلاً في بطنها.
لئن أتيتنا صالحاً: أي ولداً صالحاً ليس حيواناً بل إنساناً.
جعلا له شركاء: أي سموه عبد الحارث وهو عبد الله جل جلاله.
فتعالى الله عما يشركون: أي أهل مكة حيث أشركوا في عبادة الله أصناماً.
وإن تدعوهم إلى الهدى: أي الأصنام لا يتبعوكم.
معنى الآيات:
يقول تعالى لأولئك السائلين عن الساعة عناداً ومكابرة من أهل الشرك هو أي الله ﴿الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها﴾ الإله المستحق للعبادة لا الأصنام والأوثان، فالخالق لكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها حواء هو المستحق للتأليه والعبادة. دون غيره من سائر خلقه. وقوله ﴿ليسكن إليها﴾ : علة لخلقه زوجها منها، إذ لو كانت من جنس آخر لما حصلت الألفة والأنس بينهما وقوله ﴿فلما تغشاها﴾ أي للوطء ووطئها ﴿حملت٢ حملاً خفيفاً فمرت٣ به﴾ لخفته ﴿فلما أثقلت﴾ أي أثقلها الحمل
١ قال الفقهاء كمالك: إذا بلغ الحمل ستة أشهر أصبحت الحامل مريضة فلا يصح لها أن تهب من مالها أكثر من الثلث، ومثلها من دخل معركة القتال، وكذا المريض الشديد المرض، والمحبوس للقتل ليس لهم من هبة إلاّ ما كان الثلث فأقل.
٢ كل ما كان في البطن أو على رأس النخلة أو الشجرة فهو حمل بفتح الحاء وكل ما كان على رأس أو ظهر إنسان أو حيوان فهو حمل بكسر الحاء.
٣ فمرت به لخفَّته فلم نتفطَّن له ولم تفكر في شأنه ومعنى أثقلت أي صارت ذات ثقل من أثقل المريض فهو مثقل فأثقلت صارت مثقلة.
273
﴿دعوا الله﴾ أي آدم١ وحواء ربهما تعالى أي سألاه قائلين ﴿لئن آتيتنا صالحاً﴾ أي غلاماً صالحاً ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي لك. واستجاب الرب تعالى لهما وآتاهما صالحاً. وقوله تعالى ﴿فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما﴾ حيث سمته حواء عبد الحارث بتغرير من إبليس، إذ اقترح عليهما هذه التسمية، وهي من الشرك الخفي المعفو عنه نحو لولا الطبيب هلك فلان، وقوله ﴿فتعالى الله عما يشركون﴾ عائد إلى كفار قريش الذين يشركون في عبادة الله أصنامهم وأوثانهم، بدليل قوله بعد ﴿أيشركون ما لا يخلق شيئاً﴾ أي من المخلوقات ﴿وهم﴾ أي الأوثان وعبادها ﴿يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً﴾ إذا طلبوا منهم ذلك. ﴿ولا أنفسهم ينصرون﴾ لأنهم جمادات لا حياة بها ولا قدرة لها وقوله ﴿وإن تدعوهم﴾ أي وإن تدعوا أولئك الأصنام ﴿إلى الهدى﴾ وقد ضلوا الطريق ﴿لا يتبعوكم٢﴾ لأنهم لا يعقلون الرشد من الضلال ولذا فسواء عليكم ﴿أدعوتموهم أم أنتم صامتون﴾ أي لم تدعوهم فإنهم لا يتبعونكم ومن هذه حاله وهذا واقعه فهل يصح أن يعبد فتقرب له القرابين ويحلف به، ويعكف عنده، وينادى ويستغاث به؟؟ اللهم لا، ولكن المشركين لا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أصل خلق البشر وهو آدم وحواء عليهما السلام.
٢- بيان السر في كون الزوج من جنس الزوج وهو الألفة والأنس والتعاون.
٣- بيان خداع إبليس وتضليله للإنسان حيث زين لحواء تسمية ولدها بعبد الحارث وهو عبد الله.
٤- الشرك في التسمية٣ شرك خفي معفو عنه وتركه أولى.
٥- التنديد بالشرك والمشركين، وبيان جهل المشركين وسفههم إذ يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب ولا يتبع.
١ ما ذهبت إليه في التفسير هو ماذا إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري وهو مؤيد بقراءة تشركون بالتاء وبحديث خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض وذهب آخرون إلى أن الكلام على جنس الآدميين تبيناً لحال المشركين من ذرية آدم ودل على قولهم قراءة يشركون بالياء والله أعلم.
٢ يقول بعضهم: اتبعه: إذا شيء وراءه ولم يدركه، واتّبعه مشددا إذا مشى وراءه وأدركه.
٣ نحو: عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد الضيف كما قال حاتم الطائي:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا...
وما في إلا تيك من شيمة العبد
274
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (١٩٨)
شرح الكلمات:
عباد أمثالكم: أي مملوكون مخلوقون أمثالكم لمالك واحد هو الله رب العالمين.
شركاءكم: أصنامكم التي تشركون بها.
ثم كيدون: بما استطعتم من أنواع الكيد.
فلا تنظرون: أي فلا تمهلون لأني لا أبالي بكم.
إن وليي الله: أي المتولي أموري وحمايتي ونصرتي الله الذي نزل القرآن.
وتراهم ينظرون: أي وترى الأصنام المنحوتة على شكل رجال ينظرون إليك وهم لا يبصرون.
معنى الآيات:
هذه الآيات الخمس في سياق ما قبلها جاءت مقررة لمبدأ التوحيد مؤكدة له منددة
275
بالشرك مقبحة له، ولأهله فقوله تعالى ﴿إن الذين تدعون١﴾ أي دعاء عبادة أيها المشركين هم ﴿عباد أمثالكم٢﴾ أي مملوكون لله، الله مالكهم كما أنتم مملوكون لله مربوبون. فكيف يصح منكم عبادتهم وهم مملكون مثلكم لا يملكون لكم ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وإن شككتم في صحة هذا فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم آلهة يستحقون العبادة. إنكم لو دعوتموهم ما استجابوا، وكيف يستجيبون وهم جماد ولا حياة لهم ﴿ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد٣ يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها﴾ إنه لا شيء لهم من ذلك فكيف إذا يستجيبون، وبأي حق يعبدون فيدعون ويرجون وهم فاقدوا آثار القدرة والحياة بالمرة.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يعلن لهم أنه لا يخافهم ولا يعدهم شيئاً إذا كانوا هم يعبدونهم ويخافونهم فقال له قل لهؤلاء المشركين ﴿ادعوا شركاءكم ثم كيدون٤﴾ أنتم وإياهم ﴿فلا تنظرون﴾ أي لا تمهلوني ساعة، وذلك لأن ﴿وليى٥ الله الذي نزل الكتاب﴾ أي القرآن ﴿وهو يتولى الصالحين﴾ فهو ينصرني منكم ويحميني من كيدكم إنه ولي ووليُّ المؤمنين. أما أنتم ﴿والذين تدعون من دونه﴾ أي من دون الله من هذه الأوثان ﴿لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون﴾ وشيء آخر وهو أنكم ﴿إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا﴾ فضلاً عن إن تدعوهم إلى الضلال فكيف تصح عبادة من لا يجيب داعية في الرخاء ولا في الشدة. وأخيراً يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿وتراهم﴾ أي ترى أولئك الآلهة وهي تماثيل من حجارة ﴿ينظرون إليك٦﴾ إذا قابلتهم لأن أعينهم مفتوحة دائماً، والحال أنهم لا يبصرون، وهل تبصر الصور والتماثيل؟.
١ تدعون: بمعنى تعبدون لأن الدعاء هو العبادة أو تدعون: بمعنى تدعونها عبادة فحذف المفعول ليشمل التعبير المعنيين وهو من بلاغة القرآن.
٢ أطلق لفظ عباد على الأوثان لأنها مملوكة لله تعالى كعابديها مخلوقة كما هم مخلوقون، ولما اعتقد المشركون أنّ أصنامهم تنفع وتضر عاملها معاملة المقلاء فقال: عباد أمثالكم وقال: ﴿فادعوهم﴾ بدل فادعوهن.
٣ اليد والرجل والأذن مؤنثات ولذا يصغّرن بالهاء ويقال: يُدية ورُجلية وأذينة وشدّدت الهاء من: يدية لأنّ الياء المحذوفة من يد، ردّت في التصغير.
٤ أصل كيدون: كيدوني بالياء فحذفت تخفيفاً، والكيد:. المكر، والحرب أيضاً يقال: غزا فلم يلق كيداً أي: حرباً.
٥ وليّ الشيء: هو الذي يحفظه ويمنع الضرر عنه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ألا إن آل فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين".
٦ النظر: فتح العينين إلى المنظور إليه، وجملة وتراهم مستأنفة وينظرون في محل نصب على الحال وجائز أن يكون المراد بـ تراهم ينظرون إليك المشركون أنفسهم وكونهم لا يبصرون لأنهم لم ينتفعوا بأبصارهم.
276
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إقامة الحجة على المشركين بالكشف عن حقيقة ما يدعون أنها آلهة فإذا بها أصنام لا تسمع ولا تجيب لا أيد لها ولا أرجل ولا آذان ولا أعين.
٢- وجوب التوكل على الله تعالى، وطرد الخوف من النفس والوقوف أمام الباطل وأهله في شجاعة وصبر وثبات اعتماداً على الله تعالى وولايته إذ هو يتولى الصالحين.
٣- جواز المبلاغة في التنفير من الباطل والشر بذكر العيوب والنقائص.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
شرح الكلمات:
العفو: ما كان سهلاً لا كلفة فيه وهو ما يأتي بدون تكلف.
بالعرف: أي المعروف في الشرع بالأمر به أو الندب إليه.
وأعرض عن الجاهلين: الجاهلون: هم الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى، والإعراض عنهم بعدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم.
نزغ الشيطان: أي وسوسته بالشر.
فاستعذ بالله: أي قل أعوذ بالله يدفعه عنك إنه أي الله سميع عليم.
اتقوا: أي الشرك والمعاصي.
277
طائف من الشيطان: أي ألم بهم شيء من وسوسته.
وإخوانهم يمدونهم في الغي: أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يمدونهم في الغي.
ثم لا يقصرون: أي لا يكفون عن الغي الذي هو الضلال والشر والفساد.
معنى الآيات:
لما علّم تعالى رسوله كيف يحاج المشركين لإبطال باطلهم في عبادة غير الله تعالى والإشراك به عز وجل علمه في هذه الآية أسمى الآداب وأرفعها، وأفضل الأخلاق وأكملها فقال له: ﴿خذ العفو١ وأمر بالعرف٢ وأعرض عن الجاهلين﴾ أي خذ من أخلاق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر لهم فعله، ولا تطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون وأمرهم بالمعروف، وأعرض٣ عن الجاهلين منهم فلا تعنفهم ولا تغلظ القول لهم فقد سأل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى هذه الآية جبريل عليه السلام فقال له: "تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك٤" وقوله ﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ٥﴾ أي أثار غضبك حتى لا تلتزم بهذا الأدب الذي أمرت به ﴿فاستعذ بالله﴾ بدفعه عنك إنه سميع لأقوالك عليم بأحوالك. ثم قال تعالى مقرراً حكم الاستعاذة مبيناً جدواها ونفعها لمن يأخذ بها. ﴿إن الذين اتقوا﴾ أي ربهم فلم يشركوا به أحداً ولم يفرطوا في الواجبات ولم يغشوا المحرمات هؤلاء ﴿إذا مسهم طائف٦ من الشيطان﴾ بأن نزغهم بإثارة الغضب أو الشهوة فيهم تذكروا
١ قال ابن الزبير هذه الآية: ﴿خذ العفو..﴾ الخ ما أنزلها الله تعالى إلاّ في أخلاق الناس، وقال جعفر الصادق أمر الله رسوله بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
٢ العرف: المعروف وقرىء العرف: العُرُف بضم العين والراء مثل: الحُلُم والعرف: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس: قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العُرف بين الله والناس
٣الإعراض عن الجاهلين يكون بعد دعوتهم إلى الحق وإقامة الحجة عليهم فان لم يستجيبوا يعرض عنهم آذوه أو لم يؤذوه.
٤ من أحاديث مكارم الأخلاق قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
٥ النزغ، والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، والنزغ: الإفساد والإغراء والإغراء وعلاج الوسوسة، الاستعاذة بالله تعالى.
٦ الطيف، والطائف، بمعنى، وقيل: الطيف: الخيال، والطائف: الشيطان. وهو صحيح أيضاً.
278
أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ﴿فإذا هم مبصرون﴾ يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها فكفوا عنها ولم يرتكبوها. وقوله تعالى: ﴿وإخوانهم﴾ أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي ﴿يمدونهم﴾ أي الشياطين ﴿في الغي﴾ أي في المعاصي والضلالات ويزيدونهم في تزيينها لهم وحملهم عليها، ﴿ثم لا يقصرون﴾ عن فعلها ويكفون عن ارتكابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الأمر بالتزام الآداب والتحلي بأكمل١ الأخلاق ومن أرقاها العفو عمن ظلم وإعطاء من حرم، وصلة من قطع.
٢- وجوب الاستعاذة بالله عند٢ الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل٣.
٣- فضيلة التقوى وهي فعل الفرائض وترك المحرمات.
٤- شؤم أخوة الشياطين حيث لا يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي الذي هو الشر والفساد.
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذَا قُرِئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُر رَّبَّكَ
١ روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمّن ظلمني وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً ونظري عبرة".
٢ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته" فقوله: فليستعذ: الأمر للوجوب إذ لا يدفع الشيطان إلا الله تعالى فهو الذي ينجي منه ويجير.
٣ روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت آية ﴿خذ العفو﴾ الآية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف يا رب والغضب" فنزلت: ﴿وإمّا ينزغنك... ﴾ الخ.
279
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
شرح الكلمات:
قالوا لولا اجتبيتها: أي اخترعتها واختلقتها من نفسك وأتيتنا بها.
هذا بصائر من ربكم: أي هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة على ما جئت به وادعوكم إليه فهو أقوى حجة من الآية التي تطالبون بها.
فاستمعوا له وانصتوا: أي اطلبوا سماعه وتكلفوا له، وانصتوا عند ذلك أي اسكتوا حتى تسمعوا سماعاً ينفعكم.
وخيفة: أي خوفاً.
بالغدو والآصال: الغدو: أول النهار، والآصال: أواخره.
من الغافلين: أي عن ذكر الله تعالى.
إن الذين عند ربك: أي الملائكة.
يسبحونه: ينزهونه بألسنهم بنحو سبحان الله وبحمده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليمه الرد على المشركين خصومه فقال تعالى عن المشركين من أهل مكة ﴿وإذا لم تأتيهم﴾ يا رسولنا ﴿بآية﴾ ١ كما طلبوا ﴿قالوا﴾ لك ﴿لولا﴾ أي هلا ﴿اجتبيتها﴾ أي اخترعتها وأنشأتها من نفسك ما دام ربك لم يعطها قل لهم إنما أنا عبد الله ورسوله لا أفتات عليه ﴿وإنما اتبع ما يوحى إليّ من ربي﴾ وهذا القرآن الذي يوحى إلي بصائر٢ من حجج وبراهين على صدق دعواي وإثبات رسالتي،
١ وجائز أن يكون المراد من الآية: آية قرآنية يمدحهم فيها ويمدح أصنامهم ولولا هنا أداة تحضيض مثل هلاّ ولا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً.
٢ البصائر: جمع بصيرة وهي ما به يتضح الحق، وفي هذا تنويه بشأن القرآن العظيم وأنه: أعظم من الآيات أي: الخوارق التي يطالبون بها في الدلالة على الحق الذي ضلّوا عنه.
280
وصحة ما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي، فهلا آمنتم واتبعتم أم الآية الواحدة تؤمنون عليها والآيات الكثيرة لا تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج القرآن وأنواره أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك١ فقال تعالى ﴿فإذا قرىء القرآن فاستمعوا له﴾ أي تكلفوا السماع وتعمدوه ﴿وانصتوا﴾ بترك الكلام ﴿لعلكم ترحمون﴾ أي رجاء أن ينالكم من هدى القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لأن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين.
ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى ﴿واذكر ربك في نفسك﴾ أي سراً ﴿تضرعاً﴾ أي تذللاً وخشوعاً، ﴿وخيفة٢﴾ أي وخوفاً وخشية ﴿ودون الجهر من القول﴾ وهو السر بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه لا غير وقوله ﴿بالغدو والآصال﴾ أي أوائل النهار وأواخره، ونهاه عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال ﴿ولا تكن من الغافلين﴾ وذكر له تسبيح٣ الملائكة وعبادتهم ليتأسى بهم، فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال ﴿إن الذين عند ربك﴾ وهم الملائكة في الملكوت الأعلى ﴿لا يستكبرون عن عبادته﴾ أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه ﴿ويسبحونه وله يسجدون٤﴾ فتأس بهم ولا تكن من الغافلين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل الآيات التي أعطيها الرسل عليهم السلام.
٢- وجوب الإنصات عند تلاوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة الإمام في الصلاة الجهرية.
١ أي: كيومي العيدين مثلا، وهذا الأمر بالاستماع والانصات للقرآن عام يشمل المشركين إذ كانوا يأمرون بعدم الاستماع إليه كما قال تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن... ﴾ كما يشمل المؤمنين، إذ سماع القرآن سبيل الهداية، والإنصات: سماع مع عدم التكلم حال الاستماع.
٢ الخيفة: أصلها خوفة فقلبت الواو ياءُ لانكسار ما قبلها، وهي مصدر خاف المرء يخاف خوفاً وخيفة ومخافة فهو خائف.
٣ تسبيح الملائكة معناه: تعظيمهم لله تعالى وتنزيههم له عزَّ وجلّ عن الشريك والولد.
٤ صيغة المضارع في ﴿يسبحون﴾ و ﴿يسجدون﴾ لحصر السجود في الله تعالى وعدم جوازه لغيره عز وجل.
281
٣- وجوب ذكر الله بالغدو والآصال.
٤- بيان آداب الذكر وهي:
١-السرية.
٢- التضرع والتذلل.
٣- الخوف والخشية.
٤- الإسرار به وعدم رفع الصوت به، لا كما يفعل المتصوفة.
٥- مشروعية الأئتساء بالصالحين والإقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات.
٦- عزيمة السجود عند قوله ﴿وله يسجدون١﴾ وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء والمستمع له، أما السامع فليس عليه سجود، ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه ولا يسلم وكونه متوضأً أفضل.
١ ولو سلم منها في غير الصلاة جاز فقد روي عن بعض السلف، ويستحب لمن سجد أن يقول: "اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً" رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
282
سورة الأنفال
مدنية
وآياتها خمس وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
282
Icon