تفسير سورة الأعراف

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
نزلت بمكة روي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة. وروي عن ابن عباس أيضا أنها مكية إلا خمس آيات أولها : وأسألهم عن القرية التي كانت. وبه قال قتادة وقال مقاتل : ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها وأسألهم عن القرية إلى قوله وإذا أخذ ربك من بني آدم وهي مائتان وست آيات وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وأربعة عشرة ألف حرف عشرة أحرف.

سورة الأعراف
نزلت بمكة روي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة.
وروي عن ابن عباس أيضا أنها مكية إلا خمس آيات أولها: وأسألهم عن القرية التي كانت. وبه قال قتادة وقال مقاتل: ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها وأسألهم عن القرية إلى قوله وإذا أخذ ربك من بني آدم وهي مائتان وست آيات وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وأربعة عشرة ألف حرف عشرة أحرف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (٧): آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
قوله عز وجل المص قال ابن عباس: معناه أنا الله أفصل وعنه أنا الله أعلم وأفصل وعنه أن المص قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادة: المص اسم من أسماء القرآن، وقال الحسن: هو اسم للسورة، وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور، وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صادق وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله تعالى بعلمها وهي سره في كتابه العزيز، وقيل: هي حروف اسمه الأعظم وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده وقد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢ الى ٦]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)
وقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ يعني: فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس لِتُنْذِرَ بِهِ يعني: أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه.
قال ابن عباس: فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له.
قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان. قال الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد ﷺ والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها، وبنحو هذا قال الزجاج: أي اتبعوا القرآن وما
180
أتى به النبي ﷺ فإنه مما أنزل لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ومعنى الآية أن الله تعالى لما أمر رسول الله ﷺ بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم «وقل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم» واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك، وقيل: معناه لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم»، وقيل: هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك ويدل عليه قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني ولا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك أولياء فتتبعوهم. والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ يعني ما تتعظون إلا قليلا.
قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها لما أمر الله رسول الله ﷺ بالإنذار والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، قيل: فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، وقيل: ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها فَجاءَها بَأْسُنا يعني عذابنا.
فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا؟
قلت: معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقال الفراء: الهلاك والبأس قد يقعان معا كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معا. وقال غيره: لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلا من الآخر بَياتاً يعني فجاءها عذابنا ليلا قبل أن يصبحوا أَوْ هُمْ قائِلُونَ من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلا وهم نائمون أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة. ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة فَما كانَ دَعْواهُمْ يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله تعالى:
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يعني عذابنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية وذلك حين لا ينفع الاعتراف فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ يعني ولنسألن الرسل الذين أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا وأديتم إلى الأمم ما أمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: يسأل الله تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا وعنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وقال السدي: يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ويسأل الرسل هل بلّغوا ما أرسلوا به.
فإن قلت: قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك؟
قلت: لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم والتقصير والمقصود من هذا التقريع والتوبيخ للكفار.
181
﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، وقوله تعالى ﴿ كتاب أنزل إليك ﴾ يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن ﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ يعني : فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس ﴿ لتنذر به ﴾ يعني : أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره ﴿ وذكرى للمؤمنين ﴾ يعني : ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره : كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه. قال ابن عباس : فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له.
قوله تعالى :﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ أي : قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان. قال الحسن : يا ابن آدم أمرت بإتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها، وبنحو هذا قال الزجاج : أي اتبعوا القرآن وما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مما أنزل لقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ومعنى الآية أن الله تعالى لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم ﴿ وقل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك، وقيل : معناه لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم ﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾، وقيل : هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك ويدل عليه قوله تعالى :﴿ ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾ يعني ولا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك فتتبعوهم. والمعنى : ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام وإتباع البدع والأهواء الفاسدة ﴿ قليلاً ما تذكرون ﴾ يعني ما تتعظون إلا قليلاً.
قوله تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها ﴾ لما أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها ﴾، قيل : فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، وقيل : ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها ﴿ فجاءها بأسنا ﴾ يعني عذابنا.
فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا ؟
قلت : معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقال الفراء : الهلاك والبأس قد يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معاً. وقال غيره : لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلاً من الآخر ﴿ بياتاً ﴾ يعني فجاءها عذابنا ليلاً قبل أن يصبحوا ﴿ أو هم قائلون ﴾ من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة. ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.
َ﴿ فما كان دعواهم ﴾ يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه : تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله تعالى :﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم ﴾ ﴿ أذ جاءهم بأسنا ﴾ يعني عذابنا ﴿ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية وذلك حين لا ينفع الاعتراف.
﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ﴾ يعني : نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل ﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ يعني ولنسألن الرسل الذي أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا وأديتم إلى الأمم ما أُمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية : يسأل الله تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا وعنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وقال السدي : يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ويسأل الرسل هل بلَّغوا ما أرسلوا به.
فإن قلت : قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فيما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك ؟
قلت : لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم والتقصير والمقصود من هذا التقريع والتوبيخ للكفار.
فإن قلت : فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم ؟ قلت : إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع والتوبيخ للكفار أيضاً لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم وهوانهم وعذابهم.
فإن قلت: فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم؟
قلت: إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع والتوبيخ للكفار أيضا لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم وهوانهم وعذابهم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧ الى ٩]
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يعني: فلنخبرن الرسل ومن أرسلوا إليهم بعلم ويقين بما عملوا في الدنيا وَما كُنَّا غائِبِينَ يعني عنهم وعن أفعالهم وعن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا.
فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ وإذا كان عالما فما فائدة هذا السؤال؟
قلت: فائدة سؤال الأمم والرسل مع علمه سبحانه وتعالى بجميع المعلومات، التقريع، والتوبيخ للكفار لأنهم إذ أقروا على أنفسهم كان أبلغ في المقصود، فأما سؤال الاسترشاد والاستثبات، فهو منفي عن الله عز وجل، لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، فهو العالم بالكليات، والجزئيات، وعلمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها.
قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل، وقال مجاهد: المراد بالوزن هنا القضاء، ومعنى الحق العدل. وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله عز وجل ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الجوزي: جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إلهي من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل زن بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة فإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل.
فإن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها؟
قلت: فيه حكم منها إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده، ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال «إن الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم
قوله تعالى :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل، وقال مجاهد : المراد بالوزن هنا القضاء، ومعنى الحق العدل. وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله عز وجل ينصب ميزاناً له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الجوزي : جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إليه من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة » وقال حذيفة : جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظلم ما وجد له من حسنة فإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل.
فإن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها ؟
قلت : فيه حكم منها إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده، ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يقل مع اسم الله شيء » أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل. وقال ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس : أن الأعمال تتصور صوراً وتوضع تلك الصور في الميزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلاً وخفة.
ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة » أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في الميزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك. وقوله تعالى :﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾ جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل : إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ يعني : هم الناجون غداً والفائزون بثواب الله وجزائه.
﴿ ومن خفَّت موازينه ﴾ يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى :﴿ فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته ﴿ بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾ يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً.
عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل. وقال ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس: أن الأعمال تتصور صورا وتوضع تلك الصور في الميزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلا وخفة.
ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في الميزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك.
وقوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: هم الناجون غدا والفائزون بثواب الله وجزائه وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٠ الى ١٢]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض، والمراد من التمكين التمليك وقيل: معناه جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا أو قدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين:
أحدهما: ما أنعم الله تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب.
والثاني: ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل الله وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من الله تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يعني: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم، وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم الله فيشكره عليها فلا يخلو في
183
بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر، تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني: ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صورا مخلوقة.
فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله «ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته؟
قلت: يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر. وقيل في معنى الآية: ولقد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني ذريته، وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكان في خلقه خلق من خرج من صلبه وقيل: إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده.
والمعنى: ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود، وقيل: بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين، وقيل: بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة.
وقوله تعالى: فَسَجَدُوا يعني الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ يعني: فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول: إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأمورا بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم.
قوله تعالى: قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يعني: قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله: فَلا أُقْسِمُ وقوله وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي يرجعون وقوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين.
وقيل: إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها، وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى: أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيدا لأن معنى قوله «ما منعك أن لا تسجد» من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء. وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفا تقديره ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
184
قوله تعالى :﴿ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ﴾ يعني : ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صوراً مخلوقة.
فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته ؟
قلت : يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر. وقيل في معنى الآية : ولقد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني ذريته، وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكأنه في خلقه خلق من خرج من صلبه ؛ وقيل : إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده. والمعنى : ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود، وقيل : بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين، وقيل : بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة وقوله تعالى :﴿ فسجدوا ﴾ يعني الملائكة ﴿ إلا إبليس ﴾ يعني : فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس ﴿ لم يكن من الساجدين ﴾ يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول : إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأموراً بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم.
قوله تعالى :﴿ قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ﴾ يعني : قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله :﴿ لا أقسم ﴾ وقوله ﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ﴾ أي يرجعون وقوله ﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. وقيل : إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها، وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى : أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيداً لأن معنى قوله ﴿ ما منعك أن لا تسجد ﴾ من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء. وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفاً تقديره ما منعك من السجود فأحوجك إن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
فإن قلت : لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به ؟
قلت : إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب الله عليه ﴿ قال ﴾ يعني قال إبليس مجيباً لله تعالى عما سأله عنه ﴿ أنا خير منه ﴾. فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى :﴿ ما منعك أن لا تسجد ﴾ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه.
قلت : استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله ﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلاً وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان : أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضاً : ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلاً وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك ما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنةَ والطردَ للشقاوة التي سبقت له في القدم.
فإن قلت: لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به؟
قلت: إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب الله عليه قالَ يعني قال إبليس مجيبا لله تعالى عما سأله عنه أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.
فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه.
قلت: استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلا وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضا:
ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلا وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضا الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك مما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في القدم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣ الى ١٧]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
وقوله تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها يعني قال الله تعالى لإبليس لعنه الله اهبط من الجنة. وقيل: من السماء إلى الأرض. والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة الله تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة. قال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة. وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها قالَ يعني: قال إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي يعني أخّرني وأمهلني فلا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه
185
سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقا للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به قالَ الله تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه؟
قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم قالَ يعني إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وقيل: هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل: المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنّهم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» أخرجه النسائي، وقوله تعالى إخبارا عن إبليس ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيها، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. وقال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه. وقال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال مجاهد: يأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه. وقال شقيق البلخي: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي
186
﴿ قال ﴾ يعني : قال إبليس عند ذلك ﴿ أنظرني ﴾ يعني أخِّرني وأمهلني فلا تمتني ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقاً للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ إنك من المنظرين ﴾ يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى :﴿ فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
فإن قلت : فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه ؟
قلت : معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم.
﴿ قال ﴾ يعني إبليس ﴿ فبما أغويتني ﴾ يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال ﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾ وقيل : هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل : المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل : المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنَّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنَّهُم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله عليه وسلم يقول :« إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجر فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة » أخرجه النسائي.
وقوله تعالى إخباراً عن إبليس ﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴾ قال ابن عباس : من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيهم، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. وقال ابن عباس في رواية عنه : من بين أيديهم يعني من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه. وقال الحكم بن عتبة : من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال مجاهد : يأيتهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل : من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمالهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه، وقال شقيق البلخي : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما بين يدي فيقول : لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون. وقيل إن ذكر هذه الجهات الرضع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، ومعنى الآية على هذا القول : ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله ﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم. وقال ابن عباس : معناه ولا تجد أكثرهم موحدين.
فإن قلت : كيف علم الخبيث إبليس حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين ؟
قلت : قاله ظناً فأصاب منه قوله تعالى، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده.
أما بين يدي فيقول: لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين، وأما من
قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون. وقيل إن ذكر هذه الجهات الأربع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، ومعنى الآية على هذا القول: ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم. وقال ابن عباس: معناه ولا تجد أكثرهم موحدين.
فإن قلت: كيف علم الخبيث إبليس ذلك حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين؟
قلت: قاله ظنا فأصاب منه قوله تعالى، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوبا في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٨ الى ٢٠]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
قوله عز وجل: قالَ اخْرُجْ مِنْها أي: قال الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه وذلك بسبب مخالفته وعصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة مَذْؤُماً يعني معيبا والذأم أشد العيب مَدْحُوراً يعني مطرودا مبعدا. وقال ابن عباس: صغيرا ممقوتا. وقال قتادة: لعينا مقيتا وقال الكلبي: ملوما مقصيا من الجنة ومن كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ يعني من بني آدم وأطاعه منهم.
قوله تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما يعني فكلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما.
فإن قلت: قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق؟
قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى.
قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيفا مكررا وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعل الوسوسة وألقاها إليهما.
فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أخرج منها؟
قلت: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن هذا السؤال عن الحسن أنه قال: كان يوسوس في
وقوله تعالى :﴿ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة ﴿ فكُلا من حيث شئتما ﴾ يعني فكُلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما.
فإن قلت : قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق ؟
قلت : قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى.
قوله تعالى :﴿ فوسوس لهما الشيطان ﴾ يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال : وسوس إذا تكلم كلاماً خفيفاً مكرراً وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعلَ الوسوسة وألقاها إليهما.
فإن قلت : كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أُخرج منها ؟
قلت : ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن السؤال عن الحسن أنه قال : كان يوسوس في الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني : بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصه مشهورة ركيكة، وقال آخرون : إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك.
فإن قلت : إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله ؟
قلت : يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما ﴿ إني لكما من الناصحين ﴾ فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة ﴿ ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما ﴾ يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي لهما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما ﴿ وقال ﴾ يعني وقال إبليس لآدم وحواء ﴿ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ﴾ يعني عن الأكل من هذه الشجرة ﴿ إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ﴾ يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن الملَك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه.
قلت : ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصة مشهورة ركيكة، وقال آخرون: إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفا من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك.
فإن قلت: إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله؟
قلت: يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مرارا كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما «إني لكما لمن الناصحين» فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي لهما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما وَقالَ يعني وقال إبليس لآدم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ يعني عن الأكل من هذه الشجرة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبدا.
فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه.
قلت: ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبدا وقوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
وَقاسَمَهُما أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ قال قتادة: حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يعني فخدعهما بغرور يقال ما زال فلان يدلي فلانا بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام
﴿ فدلاهما بغرور ﴾ يعني فخدعهما بغرور يقال من زال فلان يدلي فلاناً بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وإبليس أول من حلف بالله كاذباً فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ يعني : طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير ﴿ بدت لهما سوءاتهما ﴾ يعني : ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. وقال وهب : كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة : كان لباس آدم في الجنة ظفراً كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته ﴿ وطفقا ﴾ يعني وأقبلا وجعلا ﴿ يخصفان عليهما من ورق الجنة ﴾ يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. وقال الزجاج : جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها.
روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان آدم صلى الله عليه وسلم رجلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت ل سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّاً فعرضت له شجرة من شجرة الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك » ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفاً ومرفوعاً.
قوله تعالى :﴿ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ﴾ يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال : ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة ﴿ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ﴾ يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسداً وبغياً. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني. قال فأني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى : أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة. وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.
يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا وإبليس أول من حلف بالله كاذبا فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ يعني: طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما يعني: ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. وقال وهب: كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة: كان لباس آدم في الجنة ظفرا كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته وَطَفِقا يعني وأقبلا وجعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. وقال الزجاج: جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها.
روى أبيّ بن كعب عن رسول الله ﷺ قال «كان آدم ﷺ رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّا فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفا ومرفوعا.
قوله تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال: ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ
يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسدا وبغيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة.
وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٣ الى ٢٦]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
قوله عز وجل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا وَتَرْحَمْنا يعني وتتفضل علينا برحمتك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من الهالكين.
قال قتادة: قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك، قال: إذا أدخلك الجنة.
189
وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل.
((فصل)) وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرفعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل، ذنوبا وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم. وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ والخلاف فيه فأغنى عن الإعادة والله أعلم.
قوله تعالى: قالَ اهْبِطُوا قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري: قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله: قوله تعالى: اهْبِطُوا يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني القبور وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم وَفِيها تَمُوتُونَ يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم وَمِنْها تُخْرَجُونَ يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقرا لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني لباسا تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباسا.
قلت ذكر العلماء فيه وجوها أحدها: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباسا أو بمعنى رزقناكم لباسا.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى: وأنزلنا الحديد وَرِيشاً الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى
190
قوله تعالى :﴿ قال اهبطوا ﴾ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري : قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله : قوله تعالى :﴿ اهبطوا ﴾ يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس ﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى :﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ يعني القبور ﴿ ومتاع إلى حين ﴾ يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى :﴿ ومتاع إلى حين ﴾ يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.
﴿ قال فيها تحيون ﴾ يعني : قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم ﴿ وفيها تموتون ﴾ يعني : وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم ﴿ ومنها تخرجون ﴾ يعني : ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز وجل :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ﴾ اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقراً لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم فقال تعالى :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ﴾ يعني لباساً تسترون به عوراتكم. فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباساً.
قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً أحدهما : أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباساً أو بمعنى رزقناكم لباساً.
الوجه الثاني : أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث : أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى : وأنزلنا الحديد ﴿ وريشاً ﴾ الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى وأنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى ﴿ لتركبوها وزينة ﴾ وقال ﴿ ولكم فيها جمال ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله جميل يحب الجمال » واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشاً يعني مالاً، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال : تريش الرجل إذا تمّول. وقال ابن زيد : الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضاً، وقيل : إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يبلس أو يفرش والريش أيضاً المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضاً في الخصب ورفاهية العيش ﴿ ولباس التقوى ﴾ اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضاً في معناه، فقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير.
وقيل : إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواب بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى : لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد والورع. وقيل : هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي : لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه : هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه : لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي : هو العفاف فعلى هذه الأقوال : إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى :﴿ ذلك خير ﴾ يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى :
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى عريت وإن وارى القميصَ قميصُ
وقوله تعالى :﴿ ذلك من آيات الله ﴾ يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
وأنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وقال وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وقال رسول الله ﷺ «إن الله جميل يحب الجمال» واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشا يعني مالا، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال: تريش الرجل إذا تموّل. وقال ابن زيد: الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضا، وقيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس أو يفرش والريش أيضا المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضا في الخصب ورفاهية العيش وَلِباسُ التَّقْوى اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضا في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير.
وقيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى: لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من التقى عريت وإن وارى القميص قميص
وقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ قيل: هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والمعنى: لا يخدعنكم بغروره ولا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف وإنما ذكر قصة آدم هنا وشدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يعني آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام والمعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته وشدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر الله عز وجل بني آدم وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان وغروره وتزيينه القبائح وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى الله تعالى عباده عنها وحذرهم منها.
191
قوله تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: كان لباس آدم وحواء نورا، وقال مجاهد: كان لباسهما التقى.
وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني: ليرى آدم عورة حواء وترى حواء عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ يعني أن إبليس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضا، وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله، وحكى أبو عبيد عن أبي يزيد القبيل: ثلاثة فصاعدا من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد. وقال الطبري: قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن. وقال مجاهد: الجن والشياطين وقال ابن يزيد: قبيله نسله. وقال ابن عباس رضي عنهما: هو ولده وقوله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم الله: إن الله تعالى خلق في عيون الجن إدراكا يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن. وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن الله تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضا ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها. وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى» كما قال تعالى: «الذي يوسوس في صدور الناس» فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وقال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني أعوانا وقرباء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج يعني سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم.
قوله عز وجل: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء. وقال عطاء: هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصا بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم الله تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر الله عنهم وهو قوله تعالى: قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، والعذر الثاني قولهم والله أمرنا بها وهذا العذر أيضا باطل وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر الله تعالى بها والله لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى ردا عليهم أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني انكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون.
192
قوله عز وجل :﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء. وقال عطاء : هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصاً بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كانت أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم الله تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر الله عنهم وهو قوله تعالى :﴿ قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، والعذر الثاني قولهم والله أمرنا بها وهذا العذر أيضاً باطل وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله ﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر الله تعالى بها والله لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى رداً عليهم ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ يعني أنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٩ الى ٣٠]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون أمر ربي بالقسط يعني بالعدل، وهذا قول مجاهد والسدي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلا إله إلا الله فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله وأنه واحد لا شريك له وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فإن قلت قل أمر ربي بالقسط خبر وقوله وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز فما معناه.
قلت: فيه إضمار وحذف تقديره قل أمر ربي بالقسط وقال «وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد» فحذف فقال لدلالة الكلام عليه ومعنى الآية قول مجاهد والسدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وقال الضحاك: معناه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي أو في مسجد قومي. وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي واعبدوه مخلصين العبادة والطاعة والدعاء لله عز وجل لا لغيره كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله عز وجل بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا وحجة هذا القول قوله في سياق الآية فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فإنه كالتفسير له ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يبعث كل عبد على ما مات عليه» أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته: المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقال محمد بن كعب: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة. ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كانوا يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة ويصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» أخرجه مسلم وقال الحسن ومجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ويشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» أخرجه البخاري ومسلم وقوله تعالى: فَرِيقاً هَدى يعني هداهم إلى الإيمان به ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ يعني وخذل فريقا حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله عز وجل، ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص روى الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعوانا أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي والمعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر والمعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد.
وقوله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق وفيه دليل
﴿ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ﴾ فإنه كالتفسير له ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُبعث كل عبد على ما مات عليه » أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته : المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقال محمد بن كعب : من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة. ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كان يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة ويصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة » أخرجه مسلم وقال الحسن ومجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ويشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :«أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين » أخرجه البخاري ومسلم وقوله تعالى :﴿ فريقاً هدى ﴾ يعني هداهم إلى الإيمان به ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته ﴿ وفريقاً حق عليهم الضلالة ﴾ يعني وخذل فريقاً حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله عز وجل، ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص روى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل » أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى :﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعواناً أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي والمعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر والمعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد.
وقوله ﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق وفيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٣١ الى ٣٣]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أخرجه مسلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل»
وذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزرا فإن قدر عليه وإلا طاف عريانا فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد. وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس وهم قريش وأحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها أي جعلها حراما عليه فلذلك قال الله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد، والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة وقوله تعالى: خذوا زينتكم، أمر وظاهره الوجوب وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطواف وفي كل حال.
وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا يعني الدسم واللحم وَلا تُسْرِفُوا يعني بتحريم ما لم يحرمه الله من أكل اللحم والدسم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف ومخيلة» وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ يعني أن الله تعالى لا يحب من إسراف المأكول والمشروب والملبوس وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضا. وإيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان:
أحدهما: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.
194
والقول الثاني: ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالا:
أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ.
القول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب. قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وهو هذا وأنزل الله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
والقول الثالث: إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج الله من رزقه للذين آمنوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، وقيل: خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك لي فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي.
قوله عز وجل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يعني علانيته وسره (ق). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه.
أصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله: ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم.
وقوله تعالى: وَالْإِثْمَ يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايد والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية: قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر. وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل: إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل إن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسما لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد
195
قوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان :
أحدهما : وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.
والقول الثاني : ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء ﴿ والطيبات من الرزق ﴾ يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالاً : أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾.
﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾. القول الثاني : وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة : أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب. قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً وهو هذا وأنزل الله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
والقول الثالث : إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه ﴿ قل هي للذين آمنوا ﴾ يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج من رزقه للذين آمنوا ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون ﴿ خالصة ﴾ لهم ﴿ يوم القيامة ﴾ يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، وقيل : خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله ﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك في فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي.
قوله عز وجل :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ﴾ جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل، والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال ﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ يعني علانيته وسره ( ق ). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا أحد أغير من الله » من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه.
وأصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله : ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ والإثم ﴾ يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايدَ والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية : قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر. وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل : إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ﴾ أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل أن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسماً لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد صار في العرف مخصوصاً بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء. قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثماً واستدل عليه بقول الشاعر :
شربتُ الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال ابن سيده صاحب المحكم : وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لأن العرب ما سمته إثماً قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلاً تحت الإثم لقوله : قل فيهما إثم كبير. وقوله تعالى :﴿ والبغي ﴾ أي وحرم البغي ﴿ بغير الحق ﴾ والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغياً ﴿ وأن تشركوا ﴾ أي وحرم أن تشركوا ﴿ بالله ما لم ينزل به سلطاناً ﴾ هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهاناً بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهاناً ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلاً على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضاً من الفواحش والإثم.
قلت : إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ تقدم تفسيره.
صار في العرف مخصوصا بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء. قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثما واستدل عليه بقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لأن العرب ما سمته إثما قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله: قل فيهما إثم كبير.
وقوله تعالى: وَالْبَغْيَ أي وحرم البغي بِغَيْرِ الْحَقِّ والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغيا وَأَنْ تُشْرِكُوا أي وحرم أن تشركوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهانا بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهانا ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلا على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضا من الفواحش والإثم.
قلت: إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ تقدم تفسيره.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان: أحدهما أنه أجل العذاب والمعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتا معينا وأجلا مسمى أمهلهم الله إلى ذلك الوقت فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يعني: إذا حلّ وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يعني فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة وإنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف وهذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم الله تعالى أن لهم وقتا إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم واستئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
والقول الثاني: إن المراد بهذا الأجل هو أجل الحياة والعمر، فإذا انقضى ذلك الأجل وحضر الموت فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة وعلى هذا القول يلزم أن يكون لكل واحد أجل لا يقع فيه تقديم ولا تأخير وإنما قال تعالى: لكل أمة تقارب أعمار أهل كل عصر فكأنهم كالواحد في مقدار العمر. وعلى هذا القول أيضا يكون المقتول ميتا بأجله خلافا لمن يقول القاتل قطع عليه أجله.
196
قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي ﷺ لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آدم لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل: أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني يقرءون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي فَمَنِ اتَّقى يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي وَأَصْلَحَ يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني لا يخرجون منها أبدا.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني فمن أعظم ظلما ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكا من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين أحدهما: أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه، فقال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون، وقال ابن عباس: في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذبا أن وجهه أسود، وقال الزجاج: هو المذكور في قوله فأنذرتكم نارا تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم.
والقول الثاني: إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية، في قوله: ينالهم نصيبهم من الكتاب، قالوا: هو السعادة والشقاوة، وقال ابن عباس: ما كتب عليهم من الأعمال، وقال في رواية أخرى عنه:
من عمل خيرا جوزي به ومن عمل شرا جوزي به. وقال قتادة: جزاء أعمالهم التي عملوها. وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، وقال الربيع بن أنس: ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق، وقال محمد بن كعب القرظي:
عمله ورزقه وعمره. وقال ابن زيد: ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال: لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم. قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى: إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه. وقال بعض المحققين: حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلا من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب
197
قوله عز وجل :﴿ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ﴾ هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آدم لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل : أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه ﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ يعني يقرؤون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي ﴿ فمن اتقى ﴾ يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي ﴿ وأصلح ﴾ يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا ﴿ واستكبروا عنها ﴾ يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ يعني لا يخرجون منها أبداً.
قوله تعالى :﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ﴾ يعني فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد ﴿ أو كذب بآياته ﴾ يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ﴾ يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين، أحدهما : أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه، فقال الحسن والسدي : ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون، وقال ابن عباس : في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذباً أن وجهه أسود، وقال الزجاج : هو المذكور في قوله فأنذرتكم ناراً تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم.
والقول الثاني : إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية، في قوله : ينالهم نصيبهم من الكتاب، قالوا : هو السعادة والشقاوة، وقال ابن عباس : ما كتب عليهم من الأعمال، وقال في رواية أخرى عنه : من عمل خيراً جوزي به ومن عمل شراً جوزي به. وقال قتادة : جزاء أعمالهم التي عملوها. وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الربيع بن أنس : ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق، وقال محمد بن كعب القرظي : عمله ورزقه وعمره. وقال ابن زيد : ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال : لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم. قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى : إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه. وقال بعض المحققين : حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيَّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا.
قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ﴾ يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى ﴿ قالوا ﴾ يعني : قال الرسل وهم الملائكة للكفار ﴿ أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم. وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبدونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله ﴿ قالوا ﴾ يعني الكفار مجيبين للرسل ﴿ ضلوا عنا ﴾ يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك.
رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى قالُوا يعني: قال الرسل وهم الملائكة للكفار أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم. وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبدونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله قالُوا يعني الكفار مجيبين للرسل ضَلُّوا عَنَّا يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
قوله عز وجل: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقول الله عز وجل يوم القيامة لمن افترى عليه الكذب وجعل له شريكا من خلقه: ادخلوا في أمم يعني في جملة أمم قد خلت يعني قد مضت وسلفت وإنما قال قد خلت ولم يقل قد خلوا لأنه أطلق الضمير على الجماعة يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم يعني من الجن والإنس فِي النَّارِ أي ادخلوا جميعا في النار التي هي مستقركم ومأواكم وإنما عنى بالأمم والجماعات والأحزاب وأهل الملل الكافرة من الجن والإنس كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ يعني كلما دخلت جماعة النار لَعَنَتْ أُخْتَها يعني كلما دخلت أمة النار لعنت أختها من أهل ملتها في الدين لا في النسب. قال السدي: كلما دخلت أهل ملة النار لعنوا أصحابهم على ذلك الدين فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا يعني تداركوا وتلاحقوا فِيها جَمِيعاً يعني تلاحقوا واجتمعوا في النار جميعا وأدرك بعضهم بعضا واستقروا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني قال آخر كل أمة لأولها، وقال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين. وقال مقاتل: يعني قال أخراهم دخولا النار وهم الأتباع لأولاهم دخولا وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولا رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا يعني: تقول الأتباع ربنا هؤلاء القادة والرؤساء أضلونا عن الهدى وزينوا لنا طاعة الشيطان، وقيل: إنما قال المتأخرون ذلك لأنهم كانوا يعتقدون تعظيم المتقدمين من أسلافهم فسلكوا سبيلهم في الضلالة واتبعوا طريقهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلالة فلما كان يوم القيامة وتبين لهم فساد ما كانوا عليه قالوا ربنا هؤلاء أضلونا لأنا اتبعنا سبيلهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي أضعف عليهم العذاب، قال أبو عبيدة: الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة، قال الأزهري والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضع كلام العرب والضعف في كلامهم ما زاد وليس بمقصور على مثلين وجائز في كلام العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور وقال الزجاج في تفسير هذه الآية: فآتهم عذابا ضعفا أي مضاعفا لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته قالَ يعني قال الله
﴿ وقالت أولاهم ﴾ يعني في الكفر وهم القادة ﴿ لأخراهم ﴾ يعني الأتباع ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾ يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم ﴿ فذوقوا العذاب ﴾ وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب ﴿ بما كنتم تكسبون ﴾ يعني بسب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة.
تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ يعني لأولاكم ضعف ولأخراكم ضعف وقيل معناه للتابع ضعف وللمتبوع ضعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ يعني ما أعد الله لكل فريق من العذاب وقرئ بالياء ومعناه ولكن لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر وَقالَتْ أُولاهُمْ يعني في الكفر وهم القادة لِأُخْراهُمْ يعني الأتباع فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاءوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم فَذُوقُوا الْعَذابَ وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يعني بسبب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبرا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل، وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب: أن رسول الله ﷺ ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ﷺ «لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء.
وقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب قال الشاعر:
جسم الجمال وأحلام العصافير وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق
199
المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع هذا الشرط محالا ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعا. وقال بعض أهل المعاني: لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفيا لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك: لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني: الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين الله عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن النار محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي: المهاد الفراش والغواشي اللحف وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا وسعها يعني لا نكلف نفسا إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج:
الوسع ما يقدر عليه، وقال مجاهد: معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفسا إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نكلف نفسا إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به.
قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وروي عنه أيضا أنه قال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يخلص
200
المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحدا أبدا وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته.
وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لما أخبر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورهم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحسانا وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ يعني: ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة (م). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون».
وقوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» زاد في رواية فذلك قوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتا بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حيا بقوله: لينذر من كان حيا وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل: أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثوابا على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي ﷺ أنه قال «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله» فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثوابا وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.
201
قال تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ﴾ يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهيد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط ﴿ ومن فوقهم غواش ﴾ جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن الناس محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي : المهاد الفراش والغواشي اللحف ﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، قوله عز وجل :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها ﴾ لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني لا نكلف نفساً إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج : الوسع ما يُقدر عليه، وقال مجاهد : معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفساً إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ لا نكلف نفساً إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يُتَوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به.
قوله تعالى :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال : فينا والله أهل بدر نزلت ﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ﴾ وروي عنه أيضاً أنه قال إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة ( خ ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخلص المؤمنون من النار يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا » وقال السدي في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبداً. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحداً أبداً وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته.
وقوله تعالى :﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ لما أخر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورهم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات ﴿ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك ﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد ﴿ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عياناً ﴿ ونودوا أن تلكم الجنة ﴾ يعني : ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة ( م ). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ».
وقوله تعالى :﴿ أورثتموها بما كنتم تعلمون ﴾ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة » زاد في رواية فذلك قوله تعالى :﴿ أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتاً بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حياً بقوله : لينذر من كان حياً وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل : أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثواباً على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله » فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.

[سورة الأعراف (٧): آية ٤٤]

وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)
قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يعني ونادى أهل الجنة أهل النار وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار تقول أهل الجنة يا أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يعني ما وعدنا في الدنيا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته حقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا يعني من العذاب على الكفر قالُوا نَعَمْ يعني قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة نعم وجدنا ذلك حقا.
فإن قلت: هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟
قلت: ظاهر قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار يفيد العموم والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا.
فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء أو كيف يصح أن يقع.
قلت: إن الله تعالى قادر على أن يقوي الأصوات والأسماء فيصير البعيد كالقريب.
وقوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يعني نادى مناد وأعلم لأن أصل الأذان في اللغة الإعلام. والمعنى نادى مناد أسمع الفريقين وهذا المنادي من الملائكة وقيل إنه إسرافيل صاحب الصور ذكره للواحدي أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يعني يقول المؤذن إن لعنة الله على الظالمين ثم فسر الظالمين من هم فقال تعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني الذين يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني ويحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها. وقيل معناه أنهم يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله وذلك أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظمه الله فأخطئوا الطريق وضلوا عن السبيل وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ يعني وهم بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها.
قوله عز وجل: وَبَيْنَهُما حِجابٌ يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة وأهل النار حجاب وهو المذكور في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ قال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار. وقال السدي وبينها حجاب هو السور وهو الأعراف وقوله: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ الأعراف: جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض ومنه قيل عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، وقال السدي: إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الأعراف الشيء المشرف وعنه قال الأعراف سور كعرف الديك وعنه أن الأعراف جبل بين الجنة والنار. يحبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار واختلف العلماء في صفة الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك فروي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله تعالى فيهم، قال بعضهم: إنما جعلوا
202
على الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار فهم لا من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن الله تعالى يدخلهم الجنة بفضله ورحمته لأنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار. وقال ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة من كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار وإن الميزان يخف ويثقل بمثال حبة من خردل ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فهنالك يقول الله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فكان الطمع دخولا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إذا عمل العبد حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب له إلا واحدة ثم قال هلك من غلب آحاده عشراته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فهم بذلك المكان حتى إذا أراد الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا فيدخلون الجنة ذكره ابن جرير في تفسيره. وقال شرحبيل بن سعد: أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو من غير إذن آبائهم. ورواه الطبري بسنده إلى يحيى بن غيل مولى لبني هاشم عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله ﷺ عن أصحاب الأعراف فقال «هم قوم قتلوا عصاة لآبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة» زاد في رواية «فهم آخر من يدخل الجنة» وذكر ابن الجوزي: إنهم قوم رضي آباؤهم دون أمهاتهم وأمهاتهم دون آبائهم. ورواه عن إبراهيم وذكر عن أبي صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنهم أولاد الزنا، وقيل: إنهم الذين ماتوا في الفترة وفيه بعد لأن آخر أمر أصحاب الأعراف إلى الجنة وهؤلاء الذين ماتوا في الفترة والله أعلم بحالهم وهو يتولى أمرهم وقيل إنهم أولاد المشركين الذين ماتوا أطفالا وهذا القول يرجع معناه إلى القول الذي قبله لأنه داخل في حكمه فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى. وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء فعلى هذا القول إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة أو ليرى غيرهم شرفهم وفضلهم وقيل إنهم أنبياء حكاه ابن الأنباري وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار.
وقال أبو مجلز: أصحاب الأعراف ملائكة يعرفون الفريقين بسيماهم يعني يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل لأبي مجلز: إن الله تعالى يقول وعلى الأعراف رجال وأنت تقول إنهم ملائكة فقال إن الملائكة ذكور ليسوا بإناث وضعّف الطبري قول أبي مجلز قال: لأن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على الذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق وحاصل هذه الأقوال أن أصحاب الأعراف أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل. وقيل: إنما أجلسهم الله في ذلك المكان العالي ليميزوا بين أهل الجنة وبين أهل النار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
قوله عز وجل: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ يعني: أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة بسيماهم وذلك ببياض وجوههم ونضرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسيماهم وذلك بسواد وجوههم وزرقة عيونهم والسيما العلامة الدالة على الشيء وأصله من السمة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوا ببياض الوجوه وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.
فإن قلنا إن أصحاب الأعراف من استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم دون أهل الجنة في الدرجة كان وقوفهم
203
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ﴾ يعني الذين يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام ﴿ ويبغونها عوجاً ﴾ يعني ويحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها، وقيل معناه أنهم يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله وذلك أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظمه الله فأخطؤوا الطريق وضلوا عن السبيل ﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾ يعني وهم بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها.
قوله عز وجل :﴿ وبينهما حجاب ﴾ يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة وأهل النار حجاب وهو المذكور في قوله تعالى :﴿ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ قال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار. وقال السدي وبينها حجاب هو السور وهو الأعراف وقوله :﴿ وعلى الأعراف رجال ﴾ الأعراف : جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض ومنه قيل عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، وقال السدي : إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الأعراف الشيء المشرف وعنه قال الأعراف سور كعرف الديك وعنه أن الأعراف جبل بين الجنة والنار. يحبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار واختلف العلماء في صلة الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك فروي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله تعالى فيهم، قال بعضهم : إنما جعلوا على الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار فهم لا من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن الله تعالى يدخلهم الجنة بفضله ورحمته لأنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار. وقال ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة من كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار وإن الميزان يخف ويثقل بمثال حبة من خردل ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فهنالك يقول الله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ فكان الطمع دخولاً قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : إذا عمل العبد حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب له إلا واحدة ثم قال هلك من غلب آحاده عشراته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فهم بذلك المكان حتى إذا أراد الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمونون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفاً فيدخلون الجنة ذكره ابن جرير في تفسيره.
وقال شرحبيل بن سعد : أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو من غير إذن آبائهم. ورواه الطبري بسنده إلى يحيى بن غيل مولى لبني هاشم عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال «هم قوم قتلوا عصاة لآبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة » زاد في رواية «فهُم آخر من يدخل الجنة » وذكر ابن الجوزي : إنهم قوم رضي آباؤهم دون أمهاتهم وأمهاتهم دون آبائهم. ورواه عن إبراهيم وذكر عن أبي صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنهم أولاد الزنا، وقيل : إنهم الذين ماتوا في الفترة وفيه بعد لأن آخر أمر أصحاب الأعراف إلى الجنة وهؤلاء الذين ماتوا في الفترة والله أعلم بحالهم وهو يتولى أمرهم وقيل إنهم أولاد المشركين الذين ماتوا أطفالاً وهذا القول يرجع معناه إلى القول الذي قبله لأنه داخل في حكمه فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى. وقال مجاهد : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء فعلى هذا القول إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة أو ليرى غيرهم شرفهم وفضلهم وقيل إنهم أنبياء حكاه ابن الأنباري وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزاً لهم على سائر أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار. وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف ملائكة يعرفون الفريقين بسيماهم يعني يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل لأبي مجلز : إن الله تعالى يقول وعلى الأعراف رجال وأنت تقول إنهم ملائكة فقال إن الملائكة ذكور ليسوا بإناث وضعَّف الطبري قول أبي مجلز قال : لأن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على الذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق وحاصل هذه الأقوال أن أصحاب الأعراف أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل. وقيل : إنما أجلسهم الله في ذلك المكان العالي ليميزوا بين أهل الجنة وبين أهل النار والله أعلم بمراده وأسراره كتابه.
قوله عز وجل :﴿ يعرفون كلاًّ بسيماهم ﴾ يعني : أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة بسيماهم وذلك ببياض وجوههم ونضرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسيماهم وذلك بسواد وجوههم وزرقة عيونهم والسيما العلامة الدالة على الشيء وأصله من السمة. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوا ببياض الوجوه وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.
فإن قلنا إن أصحاب الأعراف من استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم دون أهل الجنة في الدرجة كان وقوفهم على الأعراف ليكونوا درجة متوسطة بين الجنة والنار فإذا رأوا أهل الجنة وعرفوهم ببياض وجوههم ونادوهم أن سلام عليكم وهو قوله تعالى ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ يعني : نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم يعني سلمتم من الآفات وحصل لكم الأمن والسلامة وإذا رأوا أهل النار يعرفونهم بسواد وجوههم ﴿ قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ وإن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف والأفاضل من أهل الجنة كان جلوسهم على الأعراف ليطلعوا على أهل الجنة وأهل النار ثم لينقلهم الله عز وجل إلى الدرجات العلية في الجنة.
وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعني في دخول الجنة. قال الحسن : ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم.
على الأعراف ليكونوا درجة متوسطة بين الجنة والنار فإذا رأوا أهل الجنة وعرفوهم ببياض وجوههم نادوهم أن سلام عليكم وهو قوله تعالى وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني: نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم يعني سلمتم من الآفات وحصل لكم الأمن والسلامة وإذا رأوا أهل النار يعرفونهم بسواد وجوههم قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وإن قلنا: إن أصحاب الأعراف هم الأشراف والأفاضل من أهل الجنة كان جلوسهم على الأعراف ليطلعوا على أهل الجنة وأهل النار ثم لينقلهم الله عز وجل إلى الدرجات العلية في الجنة.
وقوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يعني في دخول الجنة. قال الحسن: ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
قوله تعالى: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ يعني وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني وجاههم وحيالهم فنظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا لأهل النار وعرفوهم قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين والمعنى أن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وما هم فيه من العذاب تضرعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم.
قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني ونادى أصحاب الأعراف رجالا كانوا عظماء في الدنيا وهم من أهل النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يعني سيما أهل النار قالُوا يعني أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ يعني ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ يعني وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئا. قال الكلبي: ينادونهم وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزئون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار أَهؤُلاءِ لفظ استفهام يعني أهؤلاء الضعفاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ بالله لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يعني أنكم حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة وقد دخلوا الجنة ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بفضلي ورحمتي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وقيل إن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأصحاب النار ما أخبر الله عنهم قال لهم أهل النار إن أولئك دخلوا الجنة وأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. قوله عز وجل:
قوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً ﴾ يعني ونادى أصحاب الأعراف رجالاً كانوا عظماء في الدنيا وهم من أهل النار ﴿ يعرفونهم بسيماهم ﴾ يعني سيما أهل النار ﴿ قالوا ﴾ يعني أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ يعني ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا ﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ يعني وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً. قال الكلبي : ينادونهم وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزئون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار.
﴿ أهؤلاء ﴾ لفظ استفهام يعني أهؤلاء الضعفاء ﴿ الذين أقسمتم ﴾ بالله ﴿ لا ينالهم الله برحمة ﴾ يعني أنكم حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة وقد دخلوا الجنة ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف ﴿ ادخلوا الجنة ﴾ بفضلي ورحمتي ﴿ لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وقيل إن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأصحاب النار ما أخبر الله عنهم قال لهم أهل النار إن أولئك دخلوا الجنة وأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٥٠ الى ٥٣]

وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج فقالوا: يا ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم وينظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادون أي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول قد احترقت أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون إن الله حرمهما على الكافرين. ومعنى الآية أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة إذا استقروا فيها وذلك عند نزول البلاء بأهل النار وما يلقون من شدة العطش والجوع عقوبة لهم من الله على ما سلف منهم في الدنيا من الكفر والمعاصي. يقول أهل النار لأهل الجنة يا أهل الجنة أفيضوا علينا من الماء يعني صبوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله يعني أو أطعمونا مما رزقكم الله ووسعوا علينا من طعام الجنة فيجيبهم أهل الجنة بقولهم إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وهذا الجواب يفيد الحرمان، وقال بعضهم: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب عذبهم الله في الآخرة بشدة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا في طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأن الله حرمهما على الكافرين يعني طعام الجنة وشرابها ثم وصف الكافرين فقال تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً يعني أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم ولهوا عنه. وأصل اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. ويقال لهوت بكذا ولهيت عن كذا أي اشتغلت عنه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المستهزؤون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزءوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل: هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية. وقيل: معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهوا ولعبا لا يذكرون الله فيه وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني وخدعهم عاجل ما هم فيه من خصب العيش ولذته وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسله وعن الأخذ بنصيبهم من الآخرة حتى أتتهم المنية على ذلك. والغرة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال والجاه ونيل الشهوات فإذا حصل ذلك صار محجوبا عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال فَالْيَوْمَ يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا يعني فاليوم نتركهم في العذاب المهين جياعا عطاشا كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر. وقيل معناه نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار كما تركوا العمل وأعرضوا عن الإيمان إعراض الناسي. سمى الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأن الله تعالى لا ينسى شيئا فهو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون المراد من هذا النسيان أن الله تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحم ضعفهم وزلتهم بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعني ونتركهم في النار كما كانوا بدلائل وحدانيتنا يكذبون.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعني ولقد جئنا هؤلاء الكفار بالقرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي بيناه على علم منا بما نفصله ونبينه هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة لقوم يؤمنون هَلْ يَنْظُرُونَ يعني هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآياتنا وجحدوها ولم يؤمنوا بها إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني هل ينظرون ويتوقعون إلا ما وعدوا به على ألسنة الرسل من العذاب وأن مصيرهم إلى النار
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ﴾ يعني أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم ولهوا عنه. وأصل اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. ويقال لهوت بكذا ولهيبت عن كذا أي اشتغلت عنه. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم المستهزؤون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزؤوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل : هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية : وقيل : معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهواً ولعباً لا يذكرون الله فيه ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ يعني وخدعهم عاجل ما هم فيه من خصب العيش ولذته وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله وعن الأخذ بنصيبهم من الآخرة حتى أتتهم المنية على ذلك. والغرة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال والجاه ونيل الشهوات فإذا حصل ذلك صار محجوباً عن الدين وطلبِ الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال ﴿ فاليوم ﴾ يوم القيامة ﴿ ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ يعني فاليوم نتركهم في العذاب المهين جياعاً عطاشاً كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر. وقيل معناه نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار كما تركوا العمل وأعرضوا عن الإيمان إعراض الناسي. سمى الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأن الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون المراد من هذا النسيان أن الله تعالى لا يجيب دعاءهم ولا رحم ضعفهم وزلتهم بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل ﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ يعني ونتركهم في النار كما كانوا بدلائل وحدانيتنا يكذبون.
قوله تعالى :﴿ ولقد جئناهم بكتاب ﴾ يعني ولقد جئنا هؤلاء الكفار بالقرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد ﴿ فصلناه على علم ﴾ أي بيناه على علم منا بما نفصله ونبينه ﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي جعلنا القرآن هادياً وذا رحمة لقوم يؤمنون.
﴿ هل ينظرون ﴾ يعني ينتظر هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآياتنا وجحدوها ولم يؤمنوا بها ﴿ إلا تأويله ﴾ يعني هل ينظرون ويتوقعون إلا ما وعدوا به على ألسنة الرسل من العذاب وأن مصيرهم إلى النار والتأويل ما يؤول إليه الشيء ﴿ يوم يأتي تأويله ﴾ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء وما تؤول إليه أمورهم ﴿ يقول الذين نسوه من قبل ﴾ يعني : يقول الذين تركوا العمل بالقرآن ولم يؤمنوا به يوم القيامة عند معاينة العذاب ﴿ قد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ أقروا على أنفسهم واعترفوا حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف والإقرار. والمعنى أن الكفَّار أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من الإيمان والتصديق والحشر والنشر والبعث يوم القيامة والثواب والعقاب حق وصدق وإنما أقروا بهذه الأشياء لأنهم شاهدوها معاينة وذلك حين لا ينفعهم ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا ﴿ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ يعني أنه ليس لنا طريق إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب إلا أن يشفع لنا شفيع عند ربنا فيقبل شفاعته فينا فيخلصنا من هذا العذاب أو نرد إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها فنبدل الكفر بالتوحيد والإيمان والمعاصي بالطاعة والإنابة ﴿ قد خسروا أنفسهم ﴾ يعني أن الذي طلبوه لا يحصل لهم فتبين خسرانهم وإهلاكهم أنفسهم لأنهم كانوا في الدنيا أول مرة فلم يعملوا بطاعة الله ولو رُدوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ يعني وبطل وذهب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعملوا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
والتأويل ما يؤول إليه الشيء يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء وما تؤول إليه أمورهم يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ يعني: يقول الذين تركوا العمل بالقرآن ولم يؤمنوا به يوم القيامة عند معاينة العذاب قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أقروا على أنفسهم واعترفوا حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف والإقرار. والمعنى أن الكفّار أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من الإيمان والتصديق والحشر والنشر والبعث يوم القيامة والثواب والعقاب حق وصدق وإنما أقروا بهذه الأشياء لأنهم شاهدوها معاينة وذلك حين لا ينفعهم ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ يعني أنه ليس لنا طريق إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب إلا أن يشفع لنا شفيع عند ربنا فيقبل شفاعته فينا فيخلصنا من هذا العذاب أو نرد إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها فنبدل الكفر بالتوحيد والإيمان والمعاصي بالطاعة والإنابة قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني أن الذي طلبوه لا يحصل لهم فتبين خسرانهم وإهلاكهم أنفسهم لأنهم كانوا في الدنيا أول مرة فلم يعملوا بطاعة الله ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني وبطل وذهب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعملوا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ يعني إن سيدكم ومالككم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم والذي يدفع عنكم المكاره وهو الله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أصل الخلق في اللغة التقدير ويستعمل في إيداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم. فقوله: خلق السموات والأرض يعني أبدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق وقدر أحوالهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فإن قلت: اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار هو من طلوع الشمس إلى غروبها فكيف قال في ستة أيام ولم يكن شمس ولا سماء قلت معناه في مقدار ستة أيام فهو كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا يعني على مقادير البكر والعشي في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار.
واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل بخلق الأشياء فيه فقيل في يوم السبت وهو قول محمد بن إسحاق وغيره، ويدل على صحة هذا القول ما روى مسلم في إفراده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال «أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وهذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم ففيه مقال وقد أنكره بعض العلماء لما فيه من المخالفة للآية الكريمة لأن الله تعالى يقول: خلق السموات والأرض في ستة أيام. وقال في آخر آية أخرى: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فدل بهذين النصين على أن جميع الخلق تم وعمل في ستة أيام والذي في الحديث أن بعض الخلق وقع في سبعة أيام وذلك مجموع أيام الأسبوع فلهذا السبب أنكره وأنكره من العلماء وقد ذكر الأزهري في كتابه تهذيب اللغة ما يقوي الحديث فقال: وقال ابن الأنباري السبت القطع وسمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ الخلق يوم السبت وقطع فيه بعض خلق السموات والأرض وقيل: إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري، قال الطبري: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وروي بسنده عن مجاهد قال: بدأ خلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وبدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وجمع
206
الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود في يوم السبت ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون ويعضد هذا القول ما حكاه صاحب المحكم ابن سيده قال: وسمي سابع الأسبوع سبتا لأن ابتداء الخلق كان من يوم الأحد إلى يوم الجمعة ولم يكن في السبت خلق. قال أصحاب الأخبار والسير والتواريخ: إن الله تعالى خلق التربة التي هي الأرض بلا دحو ولا بسط في يوم الأحد والاثنين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات في يومين وهما الثلاثاء والأربعاء ثم دحا الأرض وبسطها وطحاها وأخرج ماءها ومرعاها وخلق دوابها ووحشها وجميع ما فيها في يومين وهما الخميس والجمعة وخلق آدم في يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة وقبل خلق الله عز وجل التربة يوم الأحد ثم استوى إلى السماء فخلقها وجميع ما فيها يوم الاثنين والثلاثاء ثم مد الأرض ودحاها يوم الأربعاء والخميس وخلق آدم يوم الجمعة وأسكنه الجنة هو وزوجته حواء ثم أهبطهما إلى الأرض في آخر ساعة من يوم الجمعة. وقيل: أول ما خلق الله القلم ثم اللوح فكتب فيه ما كان وما سيكون وما خلق وما هو خالق إلى يوم القيامة ثم خلق الظلمة والنور ثم خلق العرش ثم خلق السماء من درة بيضاء ثم خلق التربة ثم خلق السموات وما فيها من نجوم وشمس وقمر ثم مد الأرض وبسطها من التربة التي خلقها أولا ثم خلق جميع ما فيها من جبال وشجر ودواب وغير ذلك ثم خلق آدم آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة وفيه أهبط إلى الأرض فتكامل جميع الخلق في ستة أيام كل يوم مقداره ألف سنة وهذا قول جمهور العلماء وقيل في ستة أيام من أيام الدنيا.
فإن قلت إن الله عز وجل قادر على أن يخلق جميع الخلق في لحظة واحدة ومنه قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فما الفائدة في خلق السموات والأرض في ستة أيام وما الحكمة في ذلك؟
قلت: إن الله سبحانه وتعالى، وإن كان قادرا على خلق جميع الأشياء في لحظة واحدة، إلا أنه تعالى جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا معلوما فلا يدخل في الوجود إلا في ذلك الوقت والمقصود من ذلك تعليم عباده التثبت والتأني في الأمور. وقال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله والعجلة من الشيطان» وقيل إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة فلعله أن يخطر ببال بعضهم أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا بعد شيء على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة.
وقيل: إن الله تعالى أراد أن يوقع في كل يوم أمرا من أمره حتى تستعظمه الملائكة وغيرهم ممن شاهده. وقيل إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن فيكون.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ العرش في اللغة: السرير، وقيل: هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز. يقال فلان فل عرشه بمعنى ذهب عزه وملكه وسلطانه. قال الراغب في كتابه مفردات القرآن: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب. وأما استوى بمعنى استقر فقد رواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات برواية كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وقال: أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك، وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه
207
ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل. وفي رواية يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟
فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال: ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم. وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرءوها كما جاءت بلا كيف. وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية: أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى وهو الذي قررنا في تفسير قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني: أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان:
الأول، ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال الله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيها على عظمة الله جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة. قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على العرش وأورد على هذا القول أن الله تعالى لم يكن مستويا على الملك قبل خلق السموات والأرض والله تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علوا
208
بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر. ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء. قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا وقد قال بعض أصحابنا: إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه. وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل: إنما معنى قوله استوى أي استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم. وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار لدلالة الكلام عليه يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعني سريعا، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهما الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه، حكى الإمام فخر الدين الرازي عن القفال أنه قال: إن الله تعالى لما أخبر عباده باستوائه على العرش أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه منها لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات. قال الإمام: واعلم أنه سبحانه وتعالى وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها بتحرك الفلك الأعظم ثلاث آلاف ميل وهي ألف فرسخ فلهذا قال تعالى يطلبه حثيثا لسرعة حركته وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ معنى التسخير التذليل وقال الزجاج وخلق هذه الأشياء جارية في مجاريها بأمره وقال المفسرون: يعني بتسخيرهن تذليلهن لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هي قادرات بأنفسهن وإنما هن يتصرفن في متصرفاتهن على إرادة المدبر لهن الحكيم في تدبيرهن وتصريفهن على ما أراد منهن والمراد بالأمر في قوله بأمره نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبين عظمة قدرته ومنهم من حمل الأمر على الأمر الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا وخراب هذا العالم.
فإن قلت: إن الشمس والقمر من النجوم فلم أفردهما بالذكر ثم عطف عليهما ذكر النجوم؟
قلت: إنما أفردهما بالذكر لبيان شرفهما على سائر الكواكب لما فيهما من الإشراق والنور وسيرهما في المنازل لتعرف الأوقات فهو كقوله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعطف جبريل وميكال على ذكر الملائكة وإن كانا من الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما على غيرهما من الملائكة وقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يعني: له الخلق لأنه خلقهم وله أن يأمر فيهم بما أراد وله أن يحكم فيهم بما شاء وعلى هذا المعنى الأمر هنا الذي هو نقيض النهي، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. وقيل: معناه أن جميع ما في العالم لله عز وجل والخلق له لأنه خلقهم وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره فهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء، وقيل: المراد بالأمر هنا الإرادة لأن الغرض من الآية تعظيم القدرة وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم، فأخبر الله أنه هو الخالق المدبر لهذا العالم لا الشمس والقمر والكواكب وله الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي
209
الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه تَبارَكَ اللَّهُ يعني تمجد وتعظم وارتفع، وقال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خير وقيل معناه تعالى وتعظم الله رَبُّ الْعالَمِينَ يعني أنه هو الذي يستحق التعظيم وذلك أن الله تعالى لما افتتح هذه الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وذكر أشياء من عظيم خلقه وأن له الخلق والأمر والنهي والقدرة عليهم ختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق والثناء والتعظيم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما. معناه جاء بكل بركة.
وقيل: تبارك معناه تقدس والتقديس الطهارة. وقيل معناه باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف. قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٥٥ الى ٥٦]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
ادْعُوا رَبَّكُمْ قيل معناه اعبدوا ربكم لأن معنى الدعاء طلب الخير من الله تعالى وهذه الصفة العبادة ولأنه تعالى عطف عليه قوله وادعوه خوفا وطمعا والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه. وقيل: المراد به حقيقة الدعاء هو الصحيح لأن الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته، وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى: تَضَرُّعاً يعني ادعوا ربكم تذللا واستكانة، وهو إظهار الذل في النفس والخشوع. يقال: ضرع فلان لفلان إذا أذل له وخشع. وقال الزجاج: تضرعا يعني تملقا وحقيقته أن ندعوه خاضعين خاشعين متعبدين بالدعاء له تعالى وَخُفْيَةً يعني سرا في أنفسكم وهو ضد العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفيا لهذه الآية قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (ق) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله ﷺ «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» قال أبو موسى رضي الله عنه وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في نفسي فقال: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قلت بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قوله ﷺ «أربعوا على أنفسكم» يعني ارفقوا بها وأقصروا عن الصياح في الدعاء.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يعني في الدعاء، وقال أبو مجلز: هم الذين يسألون منازل الأنبياء.
عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها قال أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» أخرجه أبو داود. وقال ابن جريج: الاعتداء رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء. وقيل: الاعتداء مجاوزة الحد في كل شيء فكل من خالف أمر الله ونهيه فقد اعتدى ودخل تحت قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وفرع بعض أرباب الطريقة على قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً هل الأفضل إظهار العبادات أم لا فذهب بعضهم إلى أن إخفاء الطاعات والعبادات أفضل من إظهارها لهذه الآية ولكونها أبعد عن
210
الرياء وذهب بعضهم إلى أن إظهارها أفضل ليقتدي به الغير فيعمل مثل عمله وتوسط الشيخ محمد بن عبد الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء، فالأولى إخفاء العبادات صونا لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى التمكين بحيث صار مباينا شائبة الرياء كأن الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به وذهب بعضهم إلى أن إظهار العبادات المفروضات أفضل من إخفائها فالصلاة المكتوبة في المسجد أفضل من صلاته في بيته وصلاة النفل في البيت أفضل من صلاته في المسجد وكذا إظهار الزكاة أفضل من إخفائها وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها ويقاس على هذا سائر العبادات قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. قال ابن عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض شيئا بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها.
وقوله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفا منه ومن عقابه وطمعا فيما عنده من جزيل ثوابه. وقال ابن جريج: العدل معناه خوف والطمع الفضل. وقيل معناه ادعوه خوفا من الرياء في الذكر والدعاء طمعا في الإجابة.
فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك؟ قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم أي ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفا وطمعا أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده وإيصال الخير إليهم. وقيل: هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ. وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
211
قوله تعالى :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. قال ابن عطية : لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. وقيل معنى الآية : ولا تفسدوا في الأرض شيئاً بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها.
وقوله تعالى :﴿ وادعوه خوفاً وطمعاً ﴾ أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفاً منه ومن عقابه وطمعاً فيما عنده من جزيل ثوابه. وقال ابن جريج : العدل معناه خوف والطمع الفضل. وقيل معناه ادعوه خوفاً من الرياء في الذكر والدعاء طمعاً في الإجابة.
فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك ؟ قلت : الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم أي ليكن الدعاء مقروناً بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفاً وطمعاً أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما ﴿ إن رحمة الله ﴾ أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن القرة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده وإيصال الخير إليهم. وقيل : هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات ﴿ قريب من المحسنين ﴾ قال سعيد بن جبير : الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ. وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٥٧ الى ٥٨]

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ هذا عطف على ما قبله. والمعنى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً قرئ نشرا بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية، وقيل: هو جمع ناشر يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها. وقال الفراء: النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الأنباري: النشر المنتشرة الواسعة الهبوب. وقيل: النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت. وقرئ بشرا بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمان:
أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني أمام المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة. قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله تعالى: اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيها وتمثيلا بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها» رواه الشافعي رضي الله عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه. وقال كعب الأحبار: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئا يراه قليلا والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحابا لانسحابه في الهواء.
والمعنى: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابا ثقالا بما فيه من الماء قال السدي: إن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وقيل إن الله تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكا شديدا فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء الله عز وجل وهو قوله تعالى: سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى. وقيل: معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا، لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا نظرا إلى اللفظ. قال الأزهري رحمه الله تعالى: قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامرا أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد. زاد غيره والمفازة تسمى بلدة، لكونها مسكن الوحش والجن. قال الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل
ومعنى الآية: إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ اختلفوا في الضمير في قوله تعالى به إلى ماذا يعود؟ فقال الزجاج رحمه الله وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة
212
لنزول الماء فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سببا لإخراج الثمرات، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزروع كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه، فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية: أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون: قال مجاهد: إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا ورمما بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الخطاب لمنكري البعث، يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن الله تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها. والمعنى: إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي.
قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن الله عز وجل: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته إِلَّا نَكِداً يعني عسرا بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنسانا:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا
يعني بالتافه القليل وبالنكد العسير ومعناه: إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة. قال المفسرون:
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتوا وكفرا وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث. وقال مجاهد: هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء
213
قوله تعالى :﴿ والبلد الطيب ﴾ يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة ﴿ يخرج نباته بإذن ربه ﴾ يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن الله عز وجل :﴿ والذي خبث لا يخرج ﴾ يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته ﴿ إلا نكداً ﴾ يعني عسراً بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنساناً :
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن. . . أعطيت أعطيت تافهاً نكدا
يعني بالتافه القليل بالنكد العسير ومعناه : إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة. قال المفسرون : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتو وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث. وقال مجاهد : هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى لله تعالى الذي أرسلت به » أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى :﴿ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ﴾ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن.
فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٥٩ الى ٦٢]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ اعلم أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك تسلية للنبي ﷺ لأنه لم يكن إعراض قومه فقط عن قبول الحق بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا وفي الآخرة إلى العذاب العظيم فمن كذب بمحمد ﷺ من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد ﷺ لأنه كان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحدا من علماء زمانه فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد علم بذلك أنه إنما أتى به من عند الله عز وجل وإنه أوحى إليه ذلك فكان دليلا واضحا وبرهانا قاطعا على صحة نبوته ﷺ وقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ لقد أرسلنا نوحا جواب قسم محذوف تقديره والله لقد أرسلنا نوحا وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويعني أرسلنا بعثنا وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نوح عليه الصلاة والسلام نجارا. وقيل: معنى الإرسال أن الله تعالى حمله رسالة ليؤديها إلى قومه فعلى هذا التقدير فالرسالة تكون متضمنة للبعث أيضا ويكون البعث كالتابع لا أنه أصل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بعثه الله وهو ابن أربعين سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقيل هو ابن مائة سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنان وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فَقالَ يعني نوحا لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني اعبدوا الله تعالى فإنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره فإنه ليس لكم إله معبود سواه فإنه هو الذي يستوجب أن يعبد إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته واليوم الذي خافه عليهم وهو إما يوم الطوفان وإهلاكهم فيه أو يوم القيامة وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة قالَ الْمَلَأُ وهم الجماعة الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يعني يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني في خطأ وزوال عن الحق بين قالَ يعني نوحا يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ يعني ما بي ما تظنون من الضلال وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به وهو قوله
﴿ قال الملأ ﴾ وهم الجماعة الأشراف ﴿ من قومه إنا لنراك ﴾ يعني يا نوح ﴿ في ضلال مبين ﴾ يعني في خطأ وزوال عن الحق بين.
﴿ قال ﴾ يعني نوحاً ﴿ يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ يعني ما بي ما تظنون من الضلال ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ يعني : هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به. وهو قوله ﴿ أبلغكم رسالات ربي ﴾
﴿ أبلغكم رسالات ربي ﴾ يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به ﴿ وأنصح لكم ﴾ يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم.
وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه ﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذاباً عظيماً وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل : لعل الله أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون.
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم.
وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذابا عظيما وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل: لعل الله تعالى أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦٣ الى ٦٧]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧)
أَوَعَجِبْتُمْ الألف ألف استفهام والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف وهذا الاستفهام استفهام إنكار معناه أكذبتم وعجبتم أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني وحيا من ربكم عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ تعرفونه وتعرفون نسبه وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب، وقيل: المراد بالذكر الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نوح عليه الصلاة والسلام سماه ذكرا كما سمي القرآن ذكرا. وقيل: المراد بالذكر المعجزة التي جاء بها نوح عليه السلام فعلى هذا تكون على بمعنى مع أي مع رجل منكم. قال الفراء على هنا بمعنى مع لِيُنْذِرَكُمْ يعني جاءكم لأجل أن ينذركم وَلِتَتَّقُوا أي ولأجل أن تتقوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأن المقصود من إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة فَكَذَّبُوهُ يعني فكذبوا نوحا فَأَنْجَيْناهُ يعني من الطوفان والغرق وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني من آمن من قومه معه فِي الْفُلْكِ يعني في السفينة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى، قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان. يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
قال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الفرق.
قوله تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى أخاهم هودا يعني أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقال ابن إسحاق: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح واتفقوا على أن هودا عليه الصلاة والسلام لم يكن أخاهم في الدين ثم اختلفوا في سبب الأخوّة من أين حصلت فقيل إنه كان
﴿ فكذبوه ﴾ يعني فكذبوا نوحاً ﴿ فأنجيناه ﴾ يعني من الطوفان والغرق ﴿ والذين معه ﴾ يعني من آمن من قومه معه ﴿ في الفلك ﴾ يعني في السفينة ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى، قال الزجاج : عموا عن الحق والإيمان. يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير :
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عم
قال مقاتل : عموا عن نزول العذاب بهم وهو الفرق.
قوله تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هوداً ﴾ أي وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى أخاهم هوداً يعني أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقال ابن إسحاق : هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح واتفقوا على أن هوداً عليه الصلاة والسلام لم يكن أخاهم في الدين ثم اختلفوا في سبب الأخوّة من أين حصلت فقيل إنه كان واحداً من القبيلة فيتوجه قوله أخاهم لأنه واحد منهم وقيل إنه لم يكن من القبيلة ثم ذكروا في تفسير هذه الإخوة وجهين :
الأول : قال الزجاج : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة. والمعنى إنّا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم نبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك أو الجن.
والثاني : إنه أخاهم يعني صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ أي اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه إلهاً آخر فإنه ليس لكم إله غيره والفرق بين قوله في قصة نوح وهنا قال إن نوحاً كان مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيه لأن الفاء تدل على التعقيب.
وأما هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عند بقوله ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ ﴿ أفلا تتقون ﴾ يعني أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره ولما كانت هذه القصة منسوقة على قصة قوم نوح وقد علموا ما حل بهم من الفرق حسن قوله هنا. أفلا تتقون يعني أفلا تخافون ما نزل بهم العذاب ولم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
﴿ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ﴾ يعني إنا لنراك يا هود في حمق وجهالة وضلالة عن الحق. والصواب : أخبر الله تعالى عن قومه نوح أنهم قالوا له إنا لنراك في ضلال مبين وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا إنا لنراك في سفاهة والفرق بينهما أن نوحاً لما خوف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة قال له قومه عند ذلك إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا إنا لنراك في سفاهة ﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ يعني في ادعائك أنك رسول من عند الله.
﴿ قال ﴾ يعني قال هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه ﴿ يا قوم ليس بي سفاهة ﴾ يعني ليس الأمر كما تدعون أن بي سفاهة ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ يعني إليكم.
واحدا من القبيلة فيتوجه قوله أخاهم لأنه واحد منهم وقيل إنه لم يكن من القبيلة ثم ذكروا في تفسير هذه الإخوة وجهين:
الأول: قال الزجاج: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة.
والمعنى إنّا أرسلنا إلى عاد واحدا من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم نبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك أو الجن.
والثاني: إنه أخاهم يعني صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضر موت قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه إلها آخر فإنه ليس لكم إله غيره والفرق بين قوله في قصة نوح وهنا قال إن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب.
وأما هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ يعني أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره ولما كانت هذه القصة منسوقة على قصة قوم نوح وقد علموا ما حل بهم من الفرق حسن قوله هنا. أفلا تتقون يعني أفلا تخافون ما نزل بهم العذاب ولم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ يعني إنا لنراك يا هود في حمق وجهالة وضلالة عن الحق. والصواب: أخبر الله تعالى عن قومه نوح أنهم قالوا له إنا لنراك في ضلال مبين وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا إنا لنراك في سفاهة والفرق بينهما أن نوحا لما خوف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة قال له قومه عند ذلك إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا إنا لنراك في سفاهة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يعني في ادعائك أنك رسول من عند الله قالَ يعني قال هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ يعني ليس الأمر كما تدعون أن بي سفاهة وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني إليكم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦٨ الى ٧٢]
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي يعني أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ يعني فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل وترك عبادة ما سواه أَمِينٌ يعني على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما ائتمن عليه. حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام، أنه قال وأنصح لكم وحكى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال: وأنا لكم ناصح فالأول بصيغة الفعل والثاني بصيغة اسم الفاعل والفرق بينهما أن صيغة الفعل تدل على تجدد النصح ساعة بعد ساعة فكان نوح يدعو قومه ليلا ونهارا كما أخبر الله عنه بقوله
216
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال: وأنصح لكم وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتا دون وقت فلهذا قال: وأنا لكم ناصح أمين والمدح للنفس بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء وإنما فعل هود ذلك وقال هذا القول لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم وإنا لنظنك من الكاذبين فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله ففيه تقرير للرسالة والنبوة وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ يعني أعجبتم أن أنزل الله وحيه على رجل تعرفونه لينذركم بأس ربكم ويخوفكم عقابه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ يعني واذكروا نعمة الله عليكم إذا أهلك قوم نوح وجعلكم تخلفونهم في الأرض وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً يعني طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا وقيل سبعين ذراعا. عن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانين ذراعا وقال مقاتل: اثني عشر ذراعا وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني نعم الله وفيه إضمار تقديره فاذكروا نعمة الله عليكم واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تفوزوا بالفلاح وهو البقاء في الآخرة قالُوا يعني قال قوم هود مجيبين له أَجِئْتَنا يا هود لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا يعني من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قولك إنك رسول الله قالَ يعني قال هود مجيبا لهم قَدْ وَقَعَ يعني نزل ووجب عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي عذاب وسخط أَتُجادِلُونَنِي يعني أتخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني وضعتم لها أسماء من عند أنفسكم والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة وذلك معدوم فيها ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يعني من حجة وبرهان على هذه التسمية وإنما سميتموها أنتم من عند أنفسكم بغير دليل فَانْتَظِرُوا يعني العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يعني نزول العذاب بكم فَأَنْجَيْناهُ يعني فأنجينا هودا عند نزول العذاب بقومه وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني وأهلكنا الذين كذبوا هودا من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعا ولم يبق منهم واحد وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام:
((ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار)) قالوا جميعا: كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هودا عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضر موت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء، وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فآمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل
217
معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفا مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلا يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلّ عنهم المطر قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم قد هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله وما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهمو بخير فقد أمست نساؤهم أيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك:
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وأن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
زاد في رواية:
لقد حكم الإله وليس جورا وحكم الله إن غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم فقد هلكوا وليس لهم بقاء
وإني لن أفارق دين هود طوال الدهر أو يأتي الفناء
فقال جلهمة بن الخيبري مجيبا لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به:
218
ألا يا سعد إنك من قبيل ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين وفد ورمل والصداء مع الصمود
ونترك دين آباء كرام ذوي رأي ونتبع دين هود
ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولو إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد، وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال: اللهم أعط قيلا ما سألك. وقال الوفد معه: واجعل سؤلنا مع سؤله. وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قام لقمان فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحائب فقال قيل: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا لا يبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيها من العذاب صاحت ثم صعقت فلما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع من آل عاد أحدا إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له: أين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال: فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب الكعبة. وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيرا أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه، وقيل: إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث «إنما خرجت على مثل خرق الخاتم» وقيل: إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد: اللهم أعطني برا وصدقا فأعطي ذلك، وقال لقمان: اللهم أعطني عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
219
﴿ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ يعني أعجبتم أن أنزل الله وحيه على رجل تعرفونه لينذركم بأس ربكم ويخوفكم عقابه ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء بعد قوم نوح ﴾ يعني واذكروا نعمة الله عليكم إذا أهلك قوم نوح وجعلكم تخلفونهم في الأرض ﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ يعني طولاً وقوة. قال الكلبي والسدي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً وقيل سبعين ذراعاً. عن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانين ذراعاً وقال مقاتل : اثني عشر ذراعاً وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ يعني نِعَم الله وفيه إضمار تقديره فاذكروا نعمة الله عليكم واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ يعني لكي تفوزوا بالفلاح وهو البقاء في الآخر.
﴿ قالوا ﴾ يعني قال قوم هود مجيبين له ﴿ أجئتنا ﴾ يا هود ﴿ لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ يعني من الأصنام ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ يعني من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ يعني في قولك إنك رسول الله.
﴿ قال ﴾ يعني قال هود مجيباً لهم ﴿ قد وقع ﴾ يعني نزل ووجب ﴿ عليكم من ربكم رجس وغضب ﴾ أي عذاب وسخط ﴿ أتجادلونني ﴾ يعني أتخاصمونني ﴿ في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ﴾ يعني وضعتم لها أسماء من عند أنفسكم والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة وذلك معدوم فيها ﴿ ما نزل الله بها من سلطان ﴾ يعني من حجة وبرهان على هذه التسمية وإنما سميتموها أنتم من عند أنفسكم بغير دليل ﴿ فانتظروا ﴾ يعني العذاب ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ يعني نزول العذاب بكم.
﴿ فأنجيناه ﴾ يعني فأنجينا هوداً عند نزول العذاب بقومه ﴿ والذين معه برحمة منا ﴾ يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة ﴿ وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ﴾ يعني وأهلكنا الذين كذبوا هوداً من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعاً ولم يبق منهم واحد﴿ وما كانوا مؤمنين ﴾ يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام.
( ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار )
قالوا جميعاً : كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هوداً عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضرموت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء، وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فأمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذَّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنو بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفاً مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلاً يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلَّ عنهم المطر قالوا : جهزوا منكم وفداً إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلاً فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله ما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك مَن وراءهم من قومهم جهداً وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك لأن يحركهم فقال معاوية.
ألا يا قيل ويحك قم فهينم*** لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عاداً قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهمو بخير فقد أمست نساؤهم أيامي
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومك ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليه فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك :
عصت عاد رسولهم فأمسوا*** عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود*** يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وأن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
زاد في الرواية :
لقد حكم الإله وليس جوراً وحكم الله إن غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم فقد هلكوا وليس لهم بقاء
وإني لن أفارق دين هود*** طول الدهر أو يأتي الفناء
فقال جلهمة بن الخيبري مجيباً لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به :
ألا يا سعد إنك من قبيل ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين وفد ورمل والصداء مع الصمود
ونترك دين آباء كرام ذوي رأي ونتبع دين هود
ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثداً فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد، وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال : اللهم أعط قيلاً ما سألك. وقال الوفد معه : واجعل سؤلنا مع سؤله. وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قال لقمان فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحاب فقال قيل : قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمدداً لا يبقى من آل عاد أحداً وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث لما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل :﴿ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء ﴾ أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيه وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيه من العذاب صاحت ثم صعقت لما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قال رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من آل عاد أحداً إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له : أين فارقت هوداً وأصحابه ؟ : فقال : فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر : صدق رب الكعبة. وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيراً أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه، وقيل : إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث «إنما خرجت على مثل خرق الخاتم » وقيل : إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مُناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد : اللهم أعطني براً وصدقاً فأعطي ذلك، وقال لقمان : اللهم أعطني عمراً فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
وإما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عاداً فهلك ومَن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعاً فلما أهلك الله عاداً ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت. يروى عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها.
وأما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عادا فهلك ومن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت
الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعا فلما أهلك الله عادا ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضر موت. يروى عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضر موت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها.
[سورة الأعراف (٧): آية ٧٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
قوله عز وجل: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً يعني أرسلنا إلى ثمود وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عابر وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ومعنى الكلام وإلى بني ثمود أخاهم صالحا لأن ثمود قبيلة. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل وقيل سموا ثمود باسم أبيهم الذي ينسبون إليه أخاهم صالحا يعني في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني قال لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم يا قوم وحدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا فما لكم من إله يستحق أن يعبد سواه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني جاءتكم حجة من ربكم وبرهان على صدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وعلى تصديق بأني رسول الله إليكم ثم فسر تلك البينة فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً يعني علامة على صدقي قال العلماء رحمهم الله تعالى: ووجه كون هذه الناقة آية على صدق صالح ومعجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل وكونها لا من ذكر ولا من أنثى وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج لأنها خلقت في ساعة وخرجت من الصخرة وقيل لأنه كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم وهذا من المعجزة أيضا لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة وكانوا يحلبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم ويقوم لهم مقام الماء وهذ أيضا معجزة وقيل إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم شرب الناقة وتشرب الحيوانات الماء في غير يوم الناقة وهذا أيضا معجزة وإنما أضافها إلى الله تعالى في قوله هذه ناقة الله على سبيل التفضيل والتشريف كما يقال بيت الله وقيل لأن الله تعالى خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى وقيل لأنه لم يملكها أحد إلا الله تعالى وقيل لأنها كانت حجة الله على قوم صالح فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ يعني فذروا الناقة تأكل العشب من أرض الله فإن الأرض لله والناقة أيضا لله وليس لكم في أرض الله شيء لأنه هو الذي أنبت العشب فيها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يعني ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى ولا تعقروها فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني بسبب عقرها وأذاها.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧٤ الى ٧٧]

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ يعني أن الله أهلك عادا وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها وَبَوَّأَكُمْ يعني وأسكنكم وأنزلكم فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً يعني تبنون القصور من سهولة الأرض لأن القصور إنما تبنى من اللّبن والآجر المتخذ من الطين السهل اللين وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً يعني وتشقون بيوتا من الجبال وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متمتعين مترهفين فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قال قتادة: معناه ولا تسيروا في الأرض مفسدين فيها والعثو أشد الفساد وقيل أراد به عقر الناقة وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني قال الأشراف الذين تعظموا عن الإيمان بصالح لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني المساكين لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ يعني قال الأشراف المتعظمون في أنفسهم لأتباعهم الذين آمنوا بصالح وهم الضعفاء من قومه أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ يعني أن الله أرسله إلينا وإليكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ يعني قال الضعفاء إنا بما أرسل الله به صالحا من الدين والهدى مصدقون قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي جاحدون منكرون فَعَقَرُوا النَّاقَةَ يعني فعقرت ثمود الناقة والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تكبروا عن أمر ربهم وعصوه والعتو الغلوّ في الباطل والتكبر عن الحق والمعنى أنهم عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم صالحا عليه الصلاة والسلام وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني: إن كنت كما تزعم أنك رسول الله فإن الله تعالى ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب فعجل الله لهم ذلك فقال تعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧٨ الى ٧٩]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: الرجفة الزلزلة الشديدة العظيمة، وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة فيحتمل أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا وهو قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يعني فأصبحوا في أرضهم وبلدهم جاثمين ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب أي بلد الحرب ودار بني فلان بمعنى موضعهم ومجمعهم وجمع في آية أخرى، فقال في ديارهم لأنه أراد ما لكل واحد منهم من الديار والمساكن وقوله جاثمين يعني باركين على الركب والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير وجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين على وجوههم موتى لا يتحركون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عنهم صالح وفي وقت هذا التولي قولان:
أحدهما: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدل عليه قوله فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ والفاء للتعقيب فدل على أنه جعل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم.
والقول الثاني: أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل موتهم وهلاكهم ويدل عليه أنه خاطبهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ
221
أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء فعلى هذا القول يحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا أنه خاطبهم بعد هلاكهم وموتهم توبيخا وتقريعا كما خاطب النبي ﷺ الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيح وفيه فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أقواما قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون. وقيل إنما خاطبهم صالح بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها.
((ذكر قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وغيرهما من أصحاب السير والأخبار)) قالوا جميعا إن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى إن أحدهم ليبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من العيش والرخاء فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله تعالى إليهم صالحا نبيا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم بيتا وحسبا فبعثه الله تعالى إليهم وهو غلام فلم يزل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى عبادته حتى شمط وكبر فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا على ما يقول فقال صالح أي آية تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه أصنامهم، وذلك في يوم معلوم من السنة وقالوا تدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت بالبخت من الإبل فإن فعلت آمنا بك وصدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا نعم قال فصلى صالح عليه الصلاة والسلام ركعتين ودعا ربه عز وجل فتمخضت الصخرة كما تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما سألوا ووصفوا غير أنه لا يعلم ما بين جنبها إلا الله عز وجل عظيما وهم ينظرون إليها ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط معه من قومه وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب وكانا صاحبا أوثانهم ورباب بن ضمير وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة من الصخرة قال لهم صالح: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا فإذا كان يوم ورودها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا منها من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر الناقة من غير الفج الذي وردت منه ولا تقدر أن تصدر من حيث وردت حتى إذا كان من الغد كان يوم ثمود فيشربوا ما شاء الله من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة فهم على ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم الإبل والبقر والغنم فتهبط إلى بطن الوادي فتكون في حره وجدبه وإذا كان الشتاء فتشتو الناقة في بطن الوادي فتهرب المواشي إلى ظهره فتكون في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله بهم والبلاء الاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر
222
الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مخلد وتكنى بأم غنم وكانت عجوزا مسنة وهي امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، والمرأة الأخرى يقال لها صدقة بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه الصلاة والسلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بمواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدقة رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال لها مصدع بن مهزج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وجها وأكثرهم مالا فأجابها إلى إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف
وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا ويزعمون أنه كان ابن زانية ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه فقالت عنيزة لقدار أي بناتي شئت أعطيتك على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزا منيعا في قومه (ق).
عن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي ﷺ يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله ﷺ «إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» قوله انبعث أي قام بسرعة والعارم الخبيث الشرير والعرامة الشدة والقوة والشراسة والمنيع الممتنع ممن أراده. قال أصحاب الأخبار:
فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهزج، فاستنفروا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم في عضلة ساقها فخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها فسفرت عن وجهها وكانت من أحسن الناس وجها ليراها قدار ثم حثته على عقرها وأغرته فشد قدار على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فتحذر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلد فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل قارة وأتى صالح عليه الصلاة والسلام فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل نحوها وخرج أهل البلد يتلقونه ويعتذرون إليه ويقولون يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل فذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن تطاول فتطاول حتى ما تناله الطير وجاء صالح عليه السلام فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثا ثم انفجرت الصخرة فدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق تبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهزج وأخوه ذؤاب فرماه مصدع بسهم فأصاب قلبه ثم جذبه فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزئون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟
وكانوا يسمون الأيام في ذلك الوقت الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام حين قالوا ذلك: تصبحون غدا يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمّرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلموا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليقتلوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح عليه الصلاة والسلام فوجدوهم وقد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه وقالوا لا تقتلوه أبدا فإنه قد وعدكم العذاب أنه نازل بكم بعد ثلاث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم إلا غضبا عليكم وإن كان كاذبا فأنتم وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم
223
وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فيما قال فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم ولحق بحي من بطون ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فمنع صالحا فلم يقدروا عليه وكانوا عمدوا إلى أصحاب صالح ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنهم يعذبونا لندلهم عليك أفندلهم عليك؟ قال: نعم. فدلوهم عليه فأتوا أبو هدب فكلموه في أمر صالح فقال هو عندي وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم ما نزل بهم من العذاب فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدم فصاحوا وضجوا وبكوا وأيقنوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب فلما كانت ليلة الأحد خرج صالح عليه الصلاة والسلام ومن أسلم معه من بين أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبحوا في اليوم الرابع تكفنوا وتحنطوا وألقوا بأنفسهم إلى الأرض يقلّبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه الصلاة والسلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد ما عاينت العذاب وما أصاب ثمود فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب الذي بثمود ثم استقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت في الحال. وذكر السدي في عقر الناقة فقال: أوحى الله عز وجل إلى صالح عليه والسلام إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك صالح فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا في هذا الشهر ولد إلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد فذبحوهم ثم ولد للعاشر ولد فأبى أن يذبحه لأنه كان لم يولد له قبل ذلك ولد وكان الولد الذي ولد له أحمر أزرق فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله يعني فتحالفوا بالله لنبيتنه وأهله وقالوا نخرج فنرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم نرجع إلى الغار فنكون فيه حتى ننصرف إلى رحلنا فنقول ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا فيظنون أنا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم في القرية بل كان يبيت في مسجد له خارج القرية فإذا أصبح أتاهم فيعظهم ويذكرهم فإذا أمسى خرج إلى مسجده فيتعبد فيه قال فانطلق التسعة إلى الغار فدخلوا فسقط عليهم فقتلوا فانطلق رجال ممن كان قد اطلع على أمرهم لينظروا ما فعل أولئك النفر فرأوهم
وهم رضخ فرجعوا إلى القرية يصيحون ما رضي صالح بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق: كان التسعة قد تقاسموا على تبييت صالح بعد عقر الناقة، وقال السدي وغيره: لما ولد للعاشر ولد سماه بقدار فكان يشب سريعا فلما كبر جلس مع أناس يشربون الخمر فأرادوا ماء ليمزجوا به شرابهم وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نصنع نحن بلبن هذه الناقة ولو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه لأنعامنا وزروعنا كان خيرا لنا، وقال ابن العاشر: هل لكم أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي» وفي رواية لمسلم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ثم ذكر مثله ولهما عنه أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهرقوا ما استقوه
224
﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه ﴾ يعني قال الأشراف الذي تعظموا عن الإيمان بصالح ﴿ للذين استضعفوا ﴾ يعني الماسكين ﴿ لمن آمن منهم ﴾ يعني قال الأشراف المتعظمون في أنفسهم لأتباعهم الذين آمنوا بصالح وهم الضعفاء من قومه ﴿ أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ﴾ يعني أن الله أرسله إلينا وإليكم ﴿ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ﴾ يعني قال الضعفاء إنا بما أرسل الله به صالحاً من الدين والهدى مصدقون.
﴿ قال الذين استكبروا ﴾ يعني عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح ﴿ إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ أي جاحدون منكرون.
﴿ فعقروا الناقة ﴾ يعني فعقرت ثمود الناقة والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره ﴿ وعتوا عن أمر ربهم ﴾ أي تكبروا عن أمر ربهم وعصوه والعتو والغلوّ في الباطل والتكبر عن الحق والمعنى أنهم عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم صالحاً عليه الصلاة والسلام ﴿ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ﴾ يعني من العذاب ﴿ إن كنت من المرسلين ﴾ يعني : إن كنت كما تزعم أنك رسول الله فإن الله تعالى ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب فعجل الله لهم ذلك فقال تعالى :﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ قال الفراء والزجاج : الرجفة الزلزلة الشديدة العظيمة، وقال مجاهد والسدي : هي الصيحة فيحتمل أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا وهو قوله تعالى ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ يعني فأصبحوا في أرضهم وبلدهم جاثمين ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب أي بلد الحرب ودار بني فلان بمعنى موضعهم ومجمعهم وجمع في آية أخرى، فقال في ديارهم لأنه أراد ما لكل واحد منهم من الديار والمساكن وقوله جاثمين يعني باركين على الركب والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير وجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين على وجوههم موتى لا يتحركون.
﴿ فتولى عنهم ﴾ يعني فأعرض عنهم صالح وفي وقت هذا التولي قولان : أحدهما : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدل عليه قوله ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم ﴾ والفاء للتعقيب فدل على أنه جعل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم.
والقول الثاني : أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل موتهم وهلاكهم ويدل عليه أنه خاطبهم ﴿ وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ﴾ وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء فعلى هذا القول يحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تبحون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا أنه خاطبهم بعد هلاكهم وموتهم توبيخاً وتقريعاً كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار في قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيح وفيه فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أقواماً قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون. وقيل إنما خاطبهم صالح بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها.
( ذكر قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وغيرهما من أصحاب السير والأخبار )
قالوا جميعاً إن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى إن أحدهم ليبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً وكانوا في سعة من العيش والرخاء فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله تعالى إليهم صالحاً نبياً وكانوا قوماً عرباً وكان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم بيتاً وحسباً فبعثه الله تعالى إليهم وهو غلام فلم يزل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى عبادته حتى شمط وكبر فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً على ما يقول فقال صالح أي آية تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه أصنامهم، وذلك في يوم معلوم من السنة وقالوا تدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت بالبخت من الإبل فإن فعلت آمنا بك وصدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا نعم قال فصلى صالح عليه الصلاة والسلام ركعتين ودعا ربه عز وجل فتمخضت الصخرة كما تمخص النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما سألوا ووصفوا غير أنه لا يعلم ما بين جنبها إلا الله عز وجل عظماً وهم ينظرون إليها ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فأمن به جندع بن عمرو ورهط معه من قومه وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب وكانا صاحبا أوثانهم ورباب بن ضمير وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة من الصخرة قال لهم صالح : هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غباً فإذا كان يوم ورودها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا منها من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر الناقة من غير الفج الذي ورجت منه ولا تقدر أن تصدر من حيث وردت حتى إذا كان من الغد كان يوم ثمود فيشربوا ما شاء الله من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة فيهم على ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم الإبل والبقر والغنم فتهبط إلى بطن الوادي فتكون في حره وجدبه وإذا كان الشتاء فتشتو الناقة في بطن الوادي فتهرب المواشي إلى ظهره فتكون في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله بهم والبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مخلد وتكنى بأم غنم وكانت عجوزاً مسنة وهي امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم. والمرأة الأخرى يقال لها صدقة بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه الصلاة والسلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بمواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدقة رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال لها مصدع بن مهزج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً ويزعمون أنه كان ابن زانية ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه فقالت عنيزة لقدار أي بناتي شئت أعطيتك على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه ( ق ).
عن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة » قوله انبعث أي قام بسرعة والعارم الخبيث الشرير والعرامة الشدة والقوة والشراسة والمنيع الممتنع ممن أراده. قال أصحاب الأخبار : فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهزج، فاستنفروا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم في عضلة ساقها فخرجت أم غنيم عنيزة وأمرت ابنتها فسفرت عن وجهها وكانت من أحسن الناس وجهاً ليراها قدار ثم حثته على عقرها وأغرته فشد قدار على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فتحذر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلد فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هارباً حتى أتى جبلاً منيعاً يقال له صور وقيل قارة وأتى صالح عليه الصلاة والسلام فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل نحوها وخرج أهل البلد يتلقونه ويعتذرون إليه ويقولون يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل فذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى إلى الجبل أنْ تطاولْ فتطاول حتى ما تناله الطير وجاء صالح عليه السلام فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثاً ثم انفجرت الصخرة فدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق تبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهزج وأخوه ذؤاب فرماه مصدع بسهم فأصاب قلبه ثم جذبه فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح عليه السلام : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزؤون به : ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام في ذلك الوقت الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام حين قالوا ذلك : تصبحون غداً يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمّرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلموا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلاً ليقتلوه أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح عليه الصلاة والسلام فوجدوهم وقد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه وقالوا لا تقتلوه أبداً فإنه قد وعدكم العذاب أنه نازل بكم بعد ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم إلا غضباً عليكم وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فيما قال فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم ولحق بحي من بطون ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فمنع صالحاً فلم يقدروا عليه وكانوا عمدوا إلى أصحاب صالح ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنهم يعذبونا لندلهم عليك أفندلهم عليك ؟ قال : نعم، فدلوهم عليه فأتوا أبو هدب فكلموه في أمر صالح فقال هو عندي وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم ما نزل بهم من العذاب فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدم فصاحوا وضجوا وبكوا وأيقنوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فلما كانت ليلة الأحد خرج صالح عليه الصلاة والسلام ومن أسلم معه من أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبحوا في اليوم الرابع تكفنوا وتحنطوا وألقوا بأنفسهم إلى الأرض يقلِّبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وهلكوا جميعاً إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه الصلاة والسلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد ما عاينت العذاب وما أصاب ثمود فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب الذي بثمود ثم استقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت في الحال.
وذكر السدي في عقر الناقة فقال : أوحى الله عز وجل إلى صالح عليه والسلام إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك صالح فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا في هذا الشهر ولد إلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد فذبحوهم ثم ولد للعاشر ولد فأبى أن يذبحه لأنه كان لم يولد له قبل ذلك ولد وكان الولد الذي ولد له أحمر أزرق فنبت نباتاً سريعاً فكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله يعني فتحالفو
ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة «وللبخاري» أن رسول الله ﷺ لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارهم ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. وفي بعض الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآيات فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها وأراهم مرتقى الفصيل من القارة فعتوا عن أمر ربهم وعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا يقال له أبو وغال وهو أبو ثقيف، كان في حرم الله فمنعه حرم الله تعالى من عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم رسول الله ﷺ قبر أبي رغال فنزل القوم وابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن» وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي حضرموت ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حضوراء وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح عليه الصلاة السلام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
قوله تعالى: وَلُوطاً يعني وأرسلنا لوطا وقيل: معناه واذكر يا محمد لوطا وهو لوط بن هاران بن تارخ وهو ابن أخي إبراهيم وإبراهيم عمه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يعني أهل سدوم وإليهم كان قد أرسل وذلك أن لوطا عليه الصلاة والسلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أرض فلسطين ونزل لوط الأردن أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني أتفعلون الفعلة الخسيسة التي هي غاية في القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكران في أدبارهم ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والمعنى: ما سبقكم أيها القوم بهذه الفعلة الفاحشة أحد من العالمين قبلكم وفي هذا الكلام توبيخ لهم وتقريع على فعلهم تلك الفاحشة. قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يعني في أدبارهم شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ يعني في أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء بَلْ أَنْتُمْ يعني أيها القوم قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي مجاوزون الحلال إلى الحرام وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا وجعل النساء محلا للشهوة وموضع النسل فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فكأنما قد أسرف وجاوز واعتدى لأنه وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان وكانت قصة قوم لوط، على ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار والسير أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة ذات زروع وثمار لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم وضيقوا عليهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما أحل الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا صباحا فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء، وقيل: استحكم ذلك الفعل فيهم حتى نكح بعضهم بعضا. وقال الكلبي: إن أول من عمل به عمل قوم لوط إبليس وذلك لأن بلادهم أخصبت فقصدها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد فدعا إلى نفسه فكان أول من نكح في دبره فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم.
﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾ يعني في أدبارهم ﴿ شهوة من دون النساء ﴾ يعني في أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء ﴿ بل أنتم ﴾ يعني أيها القوم ﴿ قوم مسرفون ﴾ أي مجاوزون الحلال إلى الحرام وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا وجعل النساء محلاً للشهوة وموضع النسل فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فكأنما قد أسرف وجاوز واعتدى لأنه وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له لأن أبدار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان وكانت قصة قوم لوط، على ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار والسير أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة ذات زروع وثمار لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم وضيقوا عليهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما أحل الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً صباحاً فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن : كانوا لا ينكحون إلا الغرباء، وقيل : استحكم ذلك الفعل فيهم حتى نكح بعضهم بعضاً. وقال الكلبي : إن أول من عمل به عمل قوم لوط إبليس وذلك لأن بلادهم أخصبت فقصدها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد فدعا إلى نفسه فكان أول من نكح في دبره فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٢ الى ٨٥]

وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
قوله عز وجل: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ يعني وما كان جواب قوم لوط للوط إذ وبخهم على فعلهم القبيح وركوبهم ما حرم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث إِلَّا أَنْ قالُوا يعني قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني أخرجوا لوطا وأتباعه وأهل دينه من بلدكم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني أنهم أناس يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال لأنها موضع النجاسة ومن تركها فقد تطهر، وقيل: إن البعد عن المعاصي والآثام يسمى طهارة فمن تباعد عنهما فقد تطهر فلهذا قال إنهم أناس يتطهرون أي من فعل المعاصي والآثام فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعني فأنجينا لوطا ومن آمن به واتبعه على دينه، وقيل: المراد بأهله المتصلون به بسبب النسل أو المراد بأهله ابنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ يعني زوجته كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني كانت من الباقين في العذاب لأنها كانت كافرة، وقيل: معناه كانت من الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل ثم هلكت مع من هلك من قوم لوط وإنما قال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الرجال فقال من الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني حجارة من سجّيل قد عجنت بالكبريت والنار يقال مطرت السماء وأمطرت. وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب أمطرت وفي الرحمة مطرت فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ يعني انظر يا محمد كيف كان عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالله ورسوله وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم. قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام فأدخل جناحيه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة.
وقوله فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وإن كان هذا الخطاب للنبي ﷺ لكن المراد به غيره من أمته ليعتبروا بما جرى على أولئك فينزجروا بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة والفواحش الخبيثة.
قوله عز وجل: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً يعني: وأرسلنا إلى مدين أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فعلى هذا يكون المعنى وأرسلنا إلى ولد مدين ومدين اسم للقبيلة كما يقال بنو تميم بنو عدي وبنو أسد. وقيل: مدين اسم للماء الذي كانوا عليه وقيل هو اسم للمدينة وعلى هذين القولين يكون المعنى: وأرسلنا إلى أهل مدين والصحيح هو الأول لقوله أخاهم شعيبا يعني في النسب لا في الدين وشعيب هو ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاله عطاء وقال محمد بن إسحاق وهو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وقيل: هو شعيب بن يثرون بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان قالَ يعني شعيبا يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: قد جاءتكم حجة وبرهان من ربكم بحقيقة ما أقول وصدق ما أدعي من النبوة والرسالة إليكم لأنه لا بد لكل نبي من معجزة تدل على صدق ما جاء به من عند الله غير أن تلك المعجزة التي كانت لشعيب لم تذكر في القرآن وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن، وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم وقيل أراد بالبينة الموعظة وهي قوله: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ يعني فأتموا الكيل والميزان وأعطوا الناس حقوقهم وهو قوله وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يعني لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها فتطففوا الكيل والوزن. يقال: بخس فلان في الكيل والوزن إذا نقصه وطففه
﴿ فأنجيناه وأهله ﴾ يعني فأنجينا لوطاً ومن آمن به واتبعه على دينه، وقيل : المراد بأهله المتصلون به بسبب النسل أو المراد بأهله ابنتاه ﴿ إلا امرأته ﴾ يعني زوجته ﴿ كانت من الغابرين ﴾ يعني كانت من الباقين في العذاب لأنها كانت كافرة، وقيل : معناه كانت من الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل ثم هلكت مع من هلك من قوم لوط وإنما قال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الرجال فقال من الغابرين.
﴿ وأمطرنا عليهم مطراً ﴾ يعني حجارة من سجّيل قد عجنت بالكبريت والنار يقال مطرت السماء وأمطرت. وقال أبو عبيدة : يقال في العذاب أمطرت وفي الرحمة مطرت ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ يعني انظر يا محمد كيف كان عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالله ورسوله وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم. قال مجاهد : نزل جبريل عليه السلام فأدخل جناحيه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة. وقوله فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وإن كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره من أمته ليعتبروا بما جرى على أولئك فينزجروا بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة والفواحش الخبيثة.
قوله عز وجل :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيباً ﴾ يعني : وأرسلنا إلى مدين أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فعلى هذا يكون المعنى وأرسلنا إلى ولد مدين ومدين اسم للقبيلة كما يقال بنو تميم بو عدي وبنو أسد. وقيل : مدين اسم للماء الذي كانوا عليه وقيل هو اسم للمدينة وعلى هذين القولين يكون المعنى : وأرسلنا إلى أهل مدين والصحيح هو الأول لقوله أخاهم شعيباً يعني في النسب لا في الدين وشعيب هو ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاله عطاء وقال محمد بن إسحاق وهو شعيب بن مكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وقيل : هو شعيب بن يثرون بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان ﴿ قال ﴾ يعني شعيباً ﴿ يا قوم اعبدوا لله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ يعني : قد جاءتكم حجة وبرهان من ربكم بحقية ما أقول وصدق ما أدعي من النبوة والرسالة إليكم لأنه لا بد لكل نبي من معجزة تدل على صدق ما جاء به من عند الله غير أن تلك المعجزة التي كانت لشعيب لم تذكر في القرآن وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن، وقيل : أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم وقيل أراد بالبينة الموعظة وهي قوله :﴿ فأوفوا الكيل والميزان ﴾ يعني فأتموا الكيل والميزان وأعطوا الناس حقوقهم وهو قوله ﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ يعني لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياهم فتطففوا الكيل والوزن. يقال : بخس فلان في الكيل والوزن إذا نقصه وطففه ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ يعني بعد أن أصلحها الله تعالى ببعثة الرسل وإقامة العدل وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ﴿ ذلكم ﴾ يعني الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان بالله ووفاء الكيل والميزان وترك الظلم والبخس ﴿ خير لكم ﴾ يعني مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ يعني إن كنتم مصدّقين بما أقول.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها يعني بعد أن أصلحها الله تعالى ببعثة الرسل وإقامة العدل وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ذلِكُمْ يعني الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان بالله ووفاء الكيل والميزان وترك الظلم والبخس خَيْرٌ لَكُمْ يعني مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مصدّقين بما أقول.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ يعني أن شعيبا قال لقومه الكفار ولا تقعدوا على كل طريق من الدين والحق تمنعون الناس من الدخول فيه وتهددونهم على ذلك ذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من يريد الإيمان بالله وبرسوله شعيب وهو قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني وتمنعون من يريد الإيمان بالله وتقولون إن شعيبا كذاب وتخوفونه بالقتل. قال ابن عباس: كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبا الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وَتَبْغُونَها عِوَجاً يعني: وتريدون اعوجاج الطريق عن الحق وعدولها عن القصد. وقيل معناه تلتمسون لها الزيغ والضلال ولا تستقيمون على طريق الهدى والرشاد وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ يعني: أن شعيبا عليه الصلاة والسلام ذكرهم نعمة الله عليهم. قال الزجاج: يحتمل ذلك ثلاثة أوجه كثر عددكم وكثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقوة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء ضعفاء فهم بمنزلة القليل والمعنى إنه كثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة فاشكروا نعمة الله تعالى عليكم وآمنوا به وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني وانظروا نظر اعتبار ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم السالفة والقرون الخالية حين عتوا على ربهم وعصوا رسله من العذاب والهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسله وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت رسالتي فَاصْبِرُوا فيه وعيد وتهديد حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا يعني حتى يقضي الله ويفصل بيننا فيعجز المؤمنين المصدقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ يعني أنه حاكم عادل منزه عن الجور والميل والحيف في حكمه وإنما قال خير الحاكمين لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكما على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة فلهذا قال وهو خير الحاكمين قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني قال الجماعة من أشراف قومه الذين تكبروا عن الإيمان بالله وبرسوله وتعظموا عن اتباع شعيب لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعني أن قوم شعيب أجابوه بأن قالوا لا بد من أحد أمرين إما إخراجك ومن تبعك على دينك من بلدنا أو لترجعن إلى ديننا وملتنا وما نحن عليه وهذا فيه إشكال وهو أن شعيبا عليه الصلاة والسلام لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه فما معنى
227
قوله أو لتعودن في ملتنا وأجيب عن هذا الإشكال بأن اتباع شعيب كانوا قبل الإيمان به على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعا فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط. وقيل: معناه لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود على معنى الابتداء كما تقول قد عاد عليّ من فلان مكروه بمعنى قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن قد سبق منه مكروه فهو كما قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مدة إلي فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان.
وقوله تعالى: قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي لا نعود في ملتكم وإن أكرهتمونا وأجبرتمونا على الدخول فيها فلا نقبل ولا ندخل قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يعني أن شعيبا أجاب قومه إذ دعوه ومن آمن به إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها فقال قد افترينا يعني قد اختلقنا على الله كذبا وتخرصنا عليه من القول باطلا إن نحن رجعنا إلى ملتكم وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين وقد أنقذنا الله وخلصنا منها وبصرنا خطأها وهذا أيضا فيه من الأشكال مثل ما في الأول وهو أن شعيبا عليه الصلاة والسلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها والجواب عنه مثل ما أجيب عن الإشكال الأول وهو أن نقول إن الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أن شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كانا بريئا مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب. وقيل: معنى نجانا الله منها علمنا قبح ملتكم وفسادها فكأنه خلصنا منها وقوله تعالى إخبارا عنه وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يعني وما يكون لنا أن نرجع إلى ملتكم ونترك الحق الذي نحن عليه إلا أن يشاء الله ربنا يعني إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله أن نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله وقدره فينا وينفذ سابق مشيئته علينا وقال الواحدي: ومعنى العود هنا الابتداء والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية أن شعيبا وأصحابه قالوا ما كنا لنرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا فأمورنا راجعة إلى الله غير خارجة عن قبضته يسعد من يشاء بالطاعة ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام «واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» وكان نبينا محمد ﷺ كثيرا ما يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال الزجاج رحمه الله تعالى المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها وتصديق ذلك قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أنه تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون وما سيكون وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء فالسعيد من سعد في علم الله تعالى والشقي من شقي في علم الله تعالى عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا على الله نعتمد وإليه نستند في أمورنا كلها فإنه الكافي لمن توكل عليه والمعنى: على الله توكلنا لا على غيره فكأنه ترك الأسباب ونظر إلى مسبب الأسباب رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ لما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال ربنا افتح أي اقض وافصل واحكم بيننا وبين قومنا بالحق يعني بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يعني خير الحاكمين قال الفراء إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد وأنشد لبعضهم في ذلك:
ألا أبلغ بني عصم رسولا فإني عن فتى حكم غني
أراد أنه غني عن حاكمهم وقاضيهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى قوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول تعال أفاتحك يعني أقاضيك.
وهذا قول قتادة والسدي وابن جريج وجمهور المفسرين أن الفاتح هو القاضي والحاكم سمي بذلك لأنه يفتح
228
﴿ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ﴾ يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بهي وصدق برسالتي وفرقة كذبن وجحدت رسالتي ﴿ فاصبروا ﴾ فيه وعيد وتهديد ﴿ حتى يحكم الله بيننا ﴾ يعني حتى يقضي الله ويفصل بيننا فيعجز المؤمنين المصدقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ يعني أنه حاكم عادل منزه عن الجور والميل والحيف في حكمه وإنما قال خير الحاكمين لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة فلهذا قال وهو خير الحاكمين.
﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه ﴾ يعني قال الجماعة من أشراف قومه الذين تكبروا عن الإيمان بالله وبرسوله وتعظموا عن اتباع شعيب :
﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا ﴾، يعني أن قوم شعيب أجابوه بأن قالوا لا بد من أحد أمرين : إما إخراجك ومن تبعك على دينك من بلدنا، أو لترجعن إلى ديننا وملتنا وما نحن عليه.
وهذا فيه إشكال وهو أن شعيباً عليه الصلاة والسلام لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه، فما معنى قوله :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾ ؟
وأجيب عن هذا الإشكال بأن أتباع شعيب كانوا قبل الإيمان به على ملة أولئك الكفار، فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعاً، فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط. وقيل : معناه لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العَود على معنى الابتداء، كما تقول : قد عاد عليّ من فلان مكروه، بمعنى قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن قد سبق منه مكروه، فهو كما قال الشاعر :
فإن تكن الأيام أحسن مدة إلي فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان.
وقوله تعالى :﴿ قال أولو كنا كارهين ﴾ أي لا نعود في ملتكم وإن أكرهتمونا وأجبرتمونا على الدخول فيها، فلا نقبل ولا ندخل.
﴿ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾ يعني أن شعيباً أجاب قومه إذ دعوه ومن آمن به إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها فقال قد افترينا يعني قد اختلقنا على الله كذباً وتخرصنا عليه من القول باطلاً إن نحن رجعنا إلى ملتكم وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين وقد أنقذنا الله وخلصنا منها وبصرنا خطأها وهذا أيضاً فيه من الإشكال مثل ما في الأول وهو أن شعيباً عليه الصلاة والسلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها والجواب عنه مثل ما أجيب عن الإشكال الأول وهو أن نقول إن الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كانا بريئاً ما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب. وقيل : معنى نجانا الله منها علمنا قبح ملتكم وفسادها فكأنه خلصنا منها وقوله تعالى إخباراً عنه ﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ يعني وما يكون لنا أن نرجع إلى ملتكم ونترك الحق الذي نحن عليه إلا أن يشاء الله ربنا يعني إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله أن نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله وقدره فينا وينفذ سابق مشيئته علينا وقال الواحدي : ومعنى العود هنا الابتداء والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية أن شعيباً وأصحابه قالوا ما كنا لنرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا فأمورنا راجعة إلى الله غير خارجة عن قبضته يسعد من يشاء بالطاعة ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام ﴿ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ﴾ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول :« يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » قال الزجاج رحمه الله تعالى المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها وتصديق ذلك قوله ﴿ وسع ربنا كل شيء علماً ﴾ يعني أنه تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون وما سيكون وأنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء فالسعيد من سعد في علم الله تعالى والشقي من شقي في علم الله تعالى ﴿ على الله توكلنا ﴾ على الله نعتمد وإليه نستند في أمورنا كلها فإنه الكافي لمن توكل عليه والمعنى : على الله توكلنا لا على غيره فكأنه ترك الأسباب ونظر إلى مسبب الأسباب ﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ لما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال ربنا افتح أي اقض وافصل واحكم بيننا وبين قومنا بالحق يعني بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف ﴿ وأنت خير الفاتحين ﴾ يعني خير الحاكمين قال الفراء إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد وأنشد لبعضهم في ذلك :
ألا أبلغ بني عصم رسولاً فإني عن فتى حكم غني
أراد أنه غني عن حاكمهم وقاضيهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما معنى قوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول تعال أفاتحك يعني أقاضيك. وهذا قول قتادة والسدي وابن جريج وجمهور المفسرين أن الفاتح هو القاضي والحاكم سمي بذلك لأنه يفتح أغلاق الإشكال بين الخصوم ويفصلها. وقال الزجاج : وجائز أن يكون معناه ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتمييز.
أغلاق الإشكال بين الخصوم ويفصلها. وقال الزجاج: وجائز أن يكون معناه ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتمييز.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً يعني وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم لئن اتبعتم شعيبا على دينه وتركتم دينكم وملتكم وما أنتم عليه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ يعني إنكم لمغبونون في فعلكم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني الزلزلة الشديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ قال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا من جهنم فأخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليبردوا فيها فوجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض من تحتهم فاحترقوا كاحتراق الجراد في المقلاة وصاروا رمادا، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا بها. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة هلكوا جميعا. قال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة اسمه كلمن فلما هلك قالت ابنته شعرا تبكيه وترثيه به:
كلمن هدم ركني... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه... هلك نار تحت ظله
جعلت نارا عليهم... دارهم كالمضمحله
وقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يوما من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي أقمت به. والمغاني: المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة... في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين. يقال: غني الرجل إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٣ الى ٩٧]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ
229
أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله فَكَيْفَ آسى يعني أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر. وقيل في معنى الآية إن شعيبا قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقّين لأن يحزن عليكم.
فعلى القول الأول: إنه حصل لشعيب حزن على قومه.
وعلى القول الثاني: لم يحزن عليه والله أعلم.
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج: فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض. وقيل: البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعوا ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه ﷺ أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية أنه قد أرسل رسلا إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر. قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل فالسيئة والحسنة هنا الشدة والرخاء. والمعنى أنه تعالى بدل مكان البأساء والضراء النعمة والسعة والخصب والصحة في الأبدان فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله حَتَّى عَفَوْا يعني أنه فعل ذلك بهم حتى كثروا وكثرت أموالهم. يقال: عفا الشعر إذا كثر وطال. قال مجاهد: حتى كثرت أموالهم وأولادهم وَقالُوا يعني من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء والسعة قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعني أنهم قالوا هكذا عادة الدهر قديما وحديثا لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدة والضراء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم مما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني أخذناهم فجأة آمن ما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب.
قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لما بين الله تعالى في هذه الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم بعذابه بين في هذه الآية أنهم لو آمنوا يعني بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمرهم به واتقوا يعني ما نهى الله تعالى عنه وحرمه عليهم لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده. وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه وكذا ثبوت البركة في نابت الأرض لأنه نشأ عن بركات السماء وهي المطر. وقال البغوي: أصل البركة
230
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ يعني الزلزلة الشديدة ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ قال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حراً شديداً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض من تحتهم فاحترقوا كاحتراق الجراد في المقلاة وصاروا رماداً، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا بها. وقال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة هلكوا جميعاً. قال أبو عبد الله البجلي : كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة اسمه كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً تبكيه وترثيه به :
كلمن هدم ركني *** هلكه وسط المحلهْ
سيد القوم أتاه *** هلك نار تحت ظلهْ
جعلت ناراً عليهم *** دارهم كالمضمحلهْ
وقوله تعالى :﴿ الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ﴾ يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يوماً من الدهر يقال : غنيت بالمكان أي أقمت به. والمغاني : المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين يقال : غني الرجل إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر ﴿ الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ﴾ يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم.
﴿ فتولى عنهم ﴾ يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصاً من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب ﴿ وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله ﴿ فكيف آسى ﴾ يعني أحزن ﴿ على قوم كافرين ﴾ والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر. وقيل في معنى الآية إن شعيباً قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقِّين لأن يحزن عليكم.
فعلى القول الأول : إنه حصل لشعيب حزن على قومه.
وعلى القول الثاني : لم يحزن عليه والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا في قرية من نبي ﴾ فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه ﴿ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ﴾ قال ابن مسعود : البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج : فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض. وقيل : البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال ﴿ لعلهم يضرعون ﴾ يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعون ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلقوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية انه قد أرسل رسلاً إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى :﴿ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ﴾.
﴿ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ﴾ لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر. قال أهل اللغة : السيئة كل ما يسوء صاحبه والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل فالسيئة والحسنة هنا الشدة والرخاء. والمعنى أنه تعالى بدل مكان البأساء والضراء النعمة والسعة والخصب والصحة في الأبدان فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله ﴿ حتى عفوا ﴾ يعني أنه فعل ذلك بهم حتى كثروا وكثرت أموالهم. يقال : عفا الشعر إذا كثر وطال. قال مجاهد : حتى كثرت أموالهم وأولادهم ﴿ وقالوا ﴾ يعني من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء والسعة ﴿ قد مس آباءنا الضراء والسراء ﴾ يعني أنهم قالوا هكذا عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدة والضراء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم مما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى :﴿ فأخذناهم بغتة ﴾ يعني أخذناهم فجأة آمن ما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ يعني بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب.
قوله عز وجل :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ﴾ لما بين الله تعالى في هذه الآية الأولى ﴿ إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم بعذابه ﴾ بين في هذه الآية أنهم لو آمنوا يعني بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمرهم به واتقوا يعني ما نهى الله تعالى عنه وحرمه عليهم ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده. وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه وكذا ثبوت البركة في نابت الأرض لأنه نشأ عن بركات السماء وهي المطر. وقال البغوي : أصل البركة المواظبة على الشيء. أي تابعنا عليهم بالمطر من السماء والنبات من الأرض ورفعنا عنهم القحط والجدب ﴿ ولكن كذبوا ﴾ يعني فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا يعني الرسل ﴿ فأخذناهم ﴾ يعني بأنواع العذاب ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ يعني أخذناهم بسبب كسبهم الأعمال الخبيثة.
قوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى ﴾ هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وتهديد وزجر، والمراد بالقرى مكة وما حولها، وقيل : هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا ﴿ أن يأتيهم بأسنا ﴾ يعني عذابنا ﴿ بياتاً ﴾ يعني ليلاً ﴿ وهم نائمون ﴾.
المواظبة على الشيء. أي تابعنا عليهم بالمطر من السماء والنبات من الأرض ورفعنا عنهم القحط والجدب وَلكِنْ كَذَّبُوا يعني فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا يعني الرسل فَأَخَذْناهُمْ يعني بأنواع العذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني أخذناهم بسبب كسبهم الأعمال الخبيثة.
قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وتهديد وزجر، والمراد بالقرى مكة وما حولها، وقيل: هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا يعني عذابنا بَياتاً يعني ليلا وَهُمْ نائِمُونَ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٨ الى ١٠١]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى يعني نهارا لأن الضحى صدر النهار وَهُمْ يَلْعَبُونَ يعني:
وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم. والمقصود من الآية أن الله خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا، وأمور الدنيا كلها لعب ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم وذلك لعب أيضا لأنه يضر ولا ينفع أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل: المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون، وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكرا لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجا إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين أَوَلَمْ يَهْدِ أو لم يبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني لو نشاء أخذناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم وَنَطْبَعُ أي نختم عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يعني لا يسمعون موعظة ولا يقبلون الإيمان ونطبع منقطع عما قبله والمعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون معطوفا على الماضي ولفظه لفظ المستقبل والمعنى لو شئنا طبعنا على قلوبهم تِلْكَ الْقُرى يعني هذه القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعني نخبرك عنها وعن أخبار أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم يا محمد إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائنا وأعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم وبمخالفتهم رسلهم ففيه تسلية للنبي ﷺ وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعني لأهل تلك القرى رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني جاءتهم رسلهم بالمعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اختلف أهل التفسير في معنى ذلك فقيل: معناه فما كانوا هؤلاء المشركين الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم رسلهم بما كذبوا من قبل ذلك وهو يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وهذا معنى قول ابن عباس والسدي. قال السدي: آمنوا كرها يوم أخذ الميثاق، وقال مجاهد:
فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ومعاينتهم العذاب ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم وقيل معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق لهم في علم الله أنهم يكذبون به حين أخرجهم من صلب آدم عليه الصلاة والسلام.
﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل : المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون، وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكراً لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به ﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجاً إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين.
﴿ أو لم يهد ﴾ أو لم يبين ﴿ للذين يرثون الأرض من بعد ﴾ هلاك ﴿ أهلها ﴾ الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم ﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ يعني لو نشاء أخذناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم ﴿ ونطبع ﴾ أي نختم ﴿ على قلوبهم فهم لا يسمعون ﴾ يعني لا يسمعون موعظة ولا يقبلون الإيمان ونطبع منقطع عما قبله والمعنى قبله والمعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون معطوفاً على الماضي ولفظه لفظ المستقبل والمعنى لو شئنا طبعنا على قلوبهم
﴿ تلك القرى ﴾ يعني هذه القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ﴿ نقصّ عليك من أنبائها ﴾ يعني نخبرك عنها وعن أخبار أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم يا محمد إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائنا وأعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم وبمخالفتهم رسلهم ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم ﴿ ولقد جاءتهم ﴾ يعني لأهل تلك القرى ﴿ رسلهم بالبينات ﴾ يعني جاءتهم رسلهم المعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم ﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ﴾ اختلف أهل التفسير في معنى ذلك فقيل : معناه فما كانوا هؤلاء المشركين الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم رسلهم بما كذبوا من قبل ذلك وهو يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وهذا معنى قول ابن عباس والسدي. قال السدي : آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق، وقال مجاهد : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ومعاينتهم العذاب ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم وقيل معناه فما كانوا يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق لهم في علم الله أنهم يكذبون به حين أخرجهم من صلب آدم عليه الصلاة والسلام.
قال أبيّ بن كعب : كان سبق لهم في علمه يوم أقروا له بالميثاق أنهم لا يؤمنون به وقال الربيع بن أنس يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم وأن لا يتأولوا علم ما أخفى الله تعالى عنهم فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون وفي ذلك قال تعالى :﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ قال : نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في صلب آدم عليه الصلاة والسلام. قال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب قول أبيّ بن كعب والربيع بن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة أنهم لا يؤمنون أبداً فأخبر عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم ﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ يعني كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.
قال أبيّ بن كعب: كان سبق لهم في علمه يوم أقروا له بالميثاق أنهم لا يؤمنون به وقال الربيع بن أنس يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم وأن لا يتأولوا علم ما أخفى الله تعالى عنهم فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون وفي ذلك قال تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ قال: نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في صلب آدم عليه الصلاة والسلام. قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول أبيّ بن كعب والربيع بن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة أنهم لا يؤمنون أبدا فأخبر عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ يعني كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٠٢ الى ١٠٧]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني وما وجدنا لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا قوله عز وجل: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام مُوسى بِآياتِنا يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع فَظَلَمُوا بِها يعني: فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي: انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك حَقِيقٌ أي واجب عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني خلّ عنهم وأطلقهم من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب
﴿ قوله عز وجل :{ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع ﴿ فظلموا بها ﴾ يعني : فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ أي : انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم.
﴿ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ﴾ يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول الله أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السماوات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك.
﴿ حقيق ﴾ أي واجب ﴿ على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره ﴿ قد جئتكم ببينة من ربكم ﴾ يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى ﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ يعني خلِّ عنهم وأطلقه من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة.
﴿ قال إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصادقين ﴾ يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة : إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾ أي بيِّن، والثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان. قال ابن عباس والسدي : إن موسى لما ألقي العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون فتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وقيل : إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضاً فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبيناً وجوه :
الأول : أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم.
الوجه الثاني : أنهم شاهدوا العصا انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيِّن.
الوجه الثالث : إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام في أنه رسول من رب العالمين.
اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة: إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي بيّن، والثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان. قال ابن عباس والسدي: إن موسى لما ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضا فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبينا وجوه:
الأول: أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم.
الوجه الثاني: أنهم شاهدوا العصا قد انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيّن.
الوجه الثالث: إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام في أنه رسول من رب العالمين.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٠٨ الى ١١٢]
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وقوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ النزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه والمعنى أنه أخرج يده من جيبه أو من تحت جناحه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس وغيره: أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص، وقيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام أدخل يده تحت جيبه ثم نزعها منه وقيل أخرج يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس وكان موسى عليه الصلاة والسلام آدم اللون ثم ردها إلى جيبه فأخرجها فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيبا في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى «بيضاء من غير سوء» يعني من غير برص والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة يتعجب منه.
((فصل في بيان المعجزة وكونها دليلا على صدق الرسل)) اعلم أن الله تبارك وتعالى كان قادرا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده ابتداء من غير واسطة ولكن أرسل إليهم رسلا تعرفهم معالم دينه وجميع تكليفاته وذلك الرسول واسطة بين الله عز وجل وبين عباده يبلغهم كلامه ويعرفهم أحكامه وجائز أن تكون تلك الواسطة من غير البشر كالملائكة من الأنبياء وجائز أن تكون الواسطة من جنس البشر كالأنبياء مع أممهم ولا مانع لهذا من جهة العقل وإذا جاز هذا في دليل العقل وقد جاءت الرسل
233
عليهم الصلاة والسلام بمعجزات دلت على صدقهم فوجب تصديقهم في جميع ما أتوا به لأن المعجز مع التهدي من النبي قائم مقام قول الله عز وجل صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ولأن معجزة النبي شاهد على صدقه فيما يقوله وسميت المعجزة معجزة لأن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها وهي على ضربين: فضرب منها هو على نوع قدرة البشر ولكن عجزوا عنه فعجزهم عنه دلّ على أنه من فعل الله ودل على صدق النبي ﷺ كتمنّي الموت في قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق النبي ﷺ وسلم الضرب الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى وقلب العصا حية وإخراج ناقة من صخرة وكلام الشجر والجماد والحيوان ونبع الماء من بين الأصابع وغير ذلك من المعجزات التي عجز البشر عن مثلها فإذا أتى النبي بشيء من تلك المعجزات الخارقة للعادات علم أن ذلك من عند الله وأن الله عز وجل هو الذي أظهر ذلك المعجز على يد نبيه ليكون حجة له على صدقه فيما يخبر به عن الله عز وجل وقد ثبت بدليل العقل والبرهان القاطع أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سبق لها وإخراجها من العدم إلى الوجود وأنه قادر على قلب الأعيان وخوارق العادات والله تعالى أعلم.
قوله عز وجل: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا يعني موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ يعني أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان فلما أتى بما يعجز عنه غيره قالوا إن هذا لساحر عليم.
فإن قلت: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قوم الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم فكيف الجمع بينهما.
قلت: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولا ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله تعالى عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء، وقيل: يحتمل أن فرعون قال هذا القول، ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامة فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون.
وقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يعني يريد موسى أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ يعني: فأي شيء تشيرون أن نفعل به وقيل إن قوله فماذا تأمرون من قول الملأ لأن كلام فرعون تم عند قوله يريد أن يخرجكم من أرضكم فقال الملأ مجيبين لفرعون فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم والمعنى فما ترون أن نفعل به والقول الأول أصح لسياق الآية التي بعدها وهو قوله تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعني أخّر أمرهما ولا تعجل فيه فتصير عجلتك عليك لا لك والإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس ولأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعد أن رأى من أمر العصا ما رأى وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ يعني رجالا يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد والمعنى أنهم قالوا لفرعون أرسل إلى هذه المدائن رجالا من أعوانك وهم الشرط يحشرون إليك من فيها من السحرة وكان الرؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدقناه واتبعناه وإن غلبوه أنه ساحر فذلك قوله يَأْتُوكَ يعني الشرط بِكُلِّ ساحِرٍ وقرئ سحار والفرق بين الساحر والسحار أن الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر فيتعلم ولا يعلم والسحار هو الماهر الذي يتعلم منه السحر وقيل الساحر من يكون سحره وقتا دون وقت والسحار الذي يدوم سحره ويعمل في كل وقت عَلِيمٍ يعني ماهر بصناعة السحر وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن إسحاق والسدي: إن فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا قال إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فاتخذ غلمانا من بني
234
قوله عز وجل :﴿ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا ﴾ يعني موسى ﴿ لَساحر عليم ﴾ يعني أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان فلما أتى بما يعجز عنه غيره قالوا إن هذا لساحر عليم. فإن قلت : قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قوم الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم فكيف الجمع بينهما. قلت : لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعد فأخبر الله تعالى عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء، وقيل : يحتمل أن فرعون قال هذا القول، ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامة فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون.
وقوله :﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم ﴾ يعني يريد موسى أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر ﴿ فماذا تأمرون ﴾ يعني : فأي شيء تشيرون أن نفعل به وقيل إن قوله فماذا تأمرون من قول الملأ لأن كلام فرعون تم عند قوله يريد أن يخرجكم من أرضكم فقال الملأ مجيبين لفرعون فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم والمعنى فما ترون أن نفعل به والقول الأول أصح لسياق الآية التي بعدها هو قوله تعالى :﴿ قالوا أرجه وأخاه ﴾.
﴿ قالوا أرجه وأخاه ﴾ يعني أخرِّ أمرهما ولا تعجل فيه فتصير عجلتك عليك لا لك والإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس ولأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعد أن رأى من أمر العصا ما رأى ﴿ وأرسل في المدائن ﴾ جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر ﴿ حاشرين ﴾ يعني رجالاً يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد والمعنى أنهم قالوا لفرعون أرسل إلى هذه المدائن رجالاً من أعوانك وهو الشرَط يحشرون إليك من فيها من السحرة وكان الرؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدقناه واتبعناه وإن غلبوه إنه ساحر. فذلك قوله ﴿ يأتوك ﴾.
﴿ يأتوك ﴾ يعني الشرط ﴿ بكل ساحر ﴾ وقرئ سحار والفرق بين الساحر والسحار أن الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر فيتعلم ولا يعلم والسحار هو الماهر الذي يتعلم منه السحر وقيل الساحر من يكون سحره وقتاً دون وقت والسحار الذي يدوم سحره ويعمل في كل وقت ﴿ عليم ﴾ يعني ماهر بصناعة السحر وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن إسحاق والسدي : إن فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا قال إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحراً فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر فعلموهم سحراً كبيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم بعث إلى السحرة فجاؤوا ومعهم معلمهم فقال فرعون للمعلم ماذا صنعت قال قد علمتهم سحراً لا يطيقه سحر أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك ساحراً إلا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً، ومحمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً وقال السدي : كانوا بضعاً وثمانين ألفاً، ويقال : رئيس القوم شمعون، وقيل : يوحنا.
إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كبيرا وواعد فرعون موسى موعدا ثم بعث إلى السحرة فجاؤوا ومعهم معلمهم فقال فرعون للمعلم ماذا صنعت قال قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك ساحرا إلا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفا، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفا، وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا وقال محمد بن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا وقال السدي: كانوا بضعا وثمانين ألفا، ويقال: رئيس القوم شمعون، وقيل: يوحنا.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١١٣ الى ١١٧]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)
قوله عز وجل: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ يعني لما اجتمعوا وجاءوا إلى فرعون قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً يعني جعلا وعطاء تكرمنا به إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ يعني لموسى قال الإمام فخر الدين الرازي: ولقائل أن يقول كان حق الكلام أن يقول وجاء السحرة فرعون فقالوا بالفاء وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذا جاءوا فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين يعني لموسى قالَ نَعَمْ يعني: قال لهم فرعون لكم الأجر والعطاء وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني ولكم المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر والمعنى أن فرعون قال للسحرة إني لا أقتصر معكم على الأجر بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي، قال الكلبي: تكونوا أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج من عندي قالُوا يعني السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ يعني عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يعني عصيّنا وحبالنا في هذه الآية دقيقة لطيفة وهي أن السحرة راعوا مع موسى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء لا جرم أن الله عز وجل عوضهم حيث تأدبوا مع نبيه موسى ﷺ أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أولا وأظهروا ما يدل على رغبتهم في ذلك قالَ يعني قال لهم موسى أَلْقُوا يعني أنتم فقدمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قلت كيف جاز لموسى أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر غير جائز؟
قلت: ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أجوبة أحدها أن معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا.
الجواب الثاني: إنما أمرهم بالإلقاء لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا حبالهم وعصيهم لم تظهر معجزة موسى في عصاه.
الجواب الثالث: أن موسى علم أنهم لا بد أن يلقوا تلك الحبال والعصي وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فأذن لهم في التقديم لتظهر معجزته أيضا بغلبهم لأنه لو ألقى أولا لم يكن له غلب وظهور عليهم فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولا فَلَمَّا أَلْقَوْا يعني حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يعني صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوا من التمويه والتخييل وهذا هو السحر وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي هي فعل الله وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك
﴿ قال نعم ﴾ يعني : قال لهم فرعون لكم الأجر والعطاء ﴿ وإنكم لمن المقربين ﴾ يعني ولكم المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر والمعنى أن فرعون قال للسحرة إني لا أقتصر معكم على الأجر بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي، قال الكلبي : تكونوا أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج من عندي.
﴿ قالوا ﴾ يعني السحرة ﴿ يا موسى إما أن تلقي ﴾ يعني عصاك ﴿ وإما أن نكون نحن الملقين ﴾ يعني عصيّنا وحبالنا في هذه الآية دقيقة لطيفة وهي أن السحرة راعوا مع موسى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء لا جرم أن الله عز وجل عوضهم حيث تأدبوا مع نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أن منَّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم في ذلك.
﴿ قال ﴾ يعني قال لهم موسى ﴿ ألقوا ﴾ يعني أنتم فقدمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قلت كيف جاز لموسى أن يأمر بالإلقاء وقد علم انه سحر وفعل السحر غير جائز ؟
قلت : ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أجوبة أحدها أن معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا.
الجواب الثاني : إنما أمرهم بالإلقاء لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا حبالهم وعصيهم لم تظهر معجزة موسى في عصاه. الجواب الثالث : أن موسى علم أنهم لا بد أن يلقوا تلك الحبال والعصي وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فأذن لهم في التقديم لتظهر معجزته أيضاً بغلبهم لأنه لو ألقى أولاً لم يكن له غلب وظهور عليهم فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً ﴿ فلما ألقوا ﴾ يعني حبالهم وعصيهم ﴿ سحروا أعين الناس ﴾ يعني صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوا من التمويه والتخييل وهذا هو السحر وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي هي فعل الله وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك ذلك الشيء والمعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى عليه الصلاة والسلام حية تسعى ﴿ واسترهبوهم ﴾ يعني أرهبوهم وأفزعوهم بما فعلوه من السحر وهذا قوله تعالى :﴿ وجاؤوا ﴾ يعني السحرة ﴿ بسحر عظيم ﴾ وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً، ويقال : إنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً، ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصي زئبقاً أيضاً وألقوها على الأرض فلما أثر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. ويقال : إن الأرض كانت سعتها ميلاً فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه الصلاة والسلام لأجل سحرهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان على يقين وثقة الله تعالى أنهم لن يغلبوه وهو غالبهم وكان عالماً بأن كل ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخييل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى من ذلك بل كان خوفه عليه الصلاة والسلام لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوا من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه الصلاة والسلام أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسه خيفة موسى.
قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك ﴾ يعني فألقاها ﴿ فإذا هي تلقف ﴾ يعني تبتلع ﴿ ما يأفكون ﴾ يعني ما يكذب فيه السحرة لأن أصل الإفك قلب الشيء عن غير وجهه ومنه قيل للكذاب أفّاك لأنه يقلب الكلام عن وجه الصحيح إلى الباطل. قال المفسرون : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن لا تخف وألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فإذا هي تلقف يعني تبتلع كل شيء أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام بينهم فمات من ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أول مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس بسحر وعرفوا أن ذلك ليس من قدرة البشر وقوتهم فعند ذلك خروا سجَّداً وقالوا : آمنا برب العالمين. ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
ذلك الشيء والمعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى عليه الصلاة والسلام حية تسعى وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعني أرهبوهم وأفزعوهم بما فعلوه من السحر وهذا قوله تعالى: وَجاؤُ يعني السحرة بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصي زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. ويقال: إن الأرض كانت سعتها ميلا في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه الصلاة والسلام لأجل سحرهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان على يقين وثقة من الله تعالى أنهم لن يغلبوه وهو غالبهم وكان عالما بأن كل ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخييل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى من ذلك بل كان خوفه عليه الصلاة والسلام لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوا من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه الصلاة والسلام أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسه خيفة موسى.
قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ يعني فألقاها فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ يعني تبتلع ما يَأْفِكُونَ يعني ما يكذب فيه السحرة لأن أصل الإفك قلب الشيء عن غير وجهه ومنه قيل للكذاب أفّاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل. قال المفسرون: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن لا تخف وألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فإذا هي تلقف يعني تبتلع كل شيء أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام بينهم فمات من ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أول مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس بسحر وعرفوا أن ذلك ليس من قدرة البشر وقوتهم فعند ذلك خروا سجّدا وقالوا: آمنا برب العالمين وذلك قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١١٨ الى ١٢٥]
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
فَوَقَعَ الْحَقُّ يعني فظهر الحق الذي جاء به موسى وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من السحر وذلك أن السحرة قالوا لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت وتلاشت في عصا موسى علموا أن ذلك من أمر الله وقدرته فَغُلِبُوا هُنالِكَ يعني فعند ذلك غلب فرعون وسحرته وجموعه وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ يعني ورجعوا ذليلين مقهورين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ يعني أن السحرة لما عاينوا من عظيم قدرة الله تعالى ما ليس في قدرتهم مقابلته وعلموا أنه ليس بسحر خروا لله ساجدين وذلك أن الله عز وجل ألهمهم معرفته والإيمان به قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال فرعون إياي تعنون فقالوا بل رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قال مقاتل: قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك، وقيل: إن الحبال والعصي التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها قال بعضهم لبعض هذا أمر خارج عن حد السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا به وصدقوه.
﴿ فغلبوا هنالك ﴾ يعني فعند ذلك غلب فرعون وسحرته وجموعه ﴿ وانقلبوا صاغرين ﴾ يعني ورجعوا ذليلين مقهورين.
﴿ وألقى السحرة ساجدين ﴾ يعني أن السحرة لما عاينوا من عظيم قدرة الله تعالى ما ليس في قدرتهم مقابلته وعلموا أنه ليس بسحر خروا لله ساجدين وذلك أن الله عز وجل ألهمهم معرفته والإيمان به.
﴿ قالوا آمنا برب العالمين ﴾ فقال فرعون إياي تعنون.
فقالوا بل ﴿ رب موسى وهارون ﴾ قال مقاتل : قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك، وقيل : إن الحبال والعاصي التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها قال بعضهم لبعض هذا أمر خارج عن حد السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا به وصدقوه.
فإن قلت كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان.
قلت : لما قذف الله عز وجل في قلوبهم الإيمان والمعرفة خروا سجداً لله تعالى شكراً على هدايتهم إليه وعلى ما ألهمهم الله من الإيمان بالله وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم. وقيل : لما رأوا عظيم قدرة الله تعالى وسلطانه في أمر العصا وأنه ليس يقدر على ذلك أحد من البشر وزالت كل شبهة كانت في قلوبهم بادروا إلى السجود لله تعظيماً لشأنه لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان باللسان. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخّروا سجّداً وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
قوله عز وجل :﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾ يعني فرعون للسحرة آمنتم بموسى وصدقتموه قبل أن آمركم به وآذن لكم فيه ﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ﴾ يعني إن هذا الصنع الذي صنعتموه أنتم وموسى في مدينة مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع وذلك أن فرعون رأى موسى يحدث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطآ عليه وعلى أهل مصر وهو قوله ﴿ لتخرجوا منها أهلها ﴾ وتستولوا عليها أنتم ﴿ فسوف تعلمون ﴾ فيه وعيد وتهديد يعني : فسوف تعلمون ما أفعل بكم فسر ذلك الوعيد فقال ﴿ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾.
﴿ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾ وهو أن تقطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين فيخالف بينهما في القطع ﴿ ثم لأصلبنكم أجمعين ﴾ يعني على شاطئ نيل مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل فرعون.
﴿ قالوا ﴾ يعني مجيبين لفرعون حين وعدهم بالقتل ﴿ إنا إلى ربنا منقلبون ﴾ إنا إلى ربنا راجعون وإليه صائرون في الآخرة.
فإن قلت كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان.
قلت: لما قذف الله عز وجل في قلوبهم الإيمان والمعرفة خروا سجدا لله تعالى شكرا على هدايتهم إليه وعلى ما ألهمهم الله من الإيمان بالله وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم. وقيل: لما رأوا عظيم قدرة الله تعالى وسلطانه في أمر العصا وأنه ليس يقدر على ذلك أحد من البشر وزالت كل شبهة كانت في قلوبهم بادروا إلى السجود لله تعظيما لشأنه لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان باللسان. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخّروا سجّدوا وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
قوله عز وجل: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ يعني فرعون للسحرة آمنتم بموسى وصدقتموه قبل أن آمركم به وآذن لكم فيه إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ يعني إن هذا الصنع الذي صنعتموه أنتم وموسى في مدينة مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع وذلك أن فرعون رأى موسى يحدث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطآ عليه وعلى أهل مصر وهو قوله لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها وتستولوا عليها أنتم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد وتهديد يعني: فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد فقال لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو أن تقطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين فيخالف بينهما في القطع ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ يعني على شاطئ نيل مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل فرعون قالُوا يعني مجيبين لفرعون حين وعدهم بالقتل إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إنا إلى ربنا راجعون وإليه صائرون في الآخرة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
وَما تَنْقِمُ مِنَّا وما تكره منا وما تطعن علينا وقال عطاء: معناه وما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثم فزعوا إلى الله تعالى وسألوه الصبر على تعذيب فرعون إياهم فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي اصبب علينا صبرا كاملا تاما ولهذا أتى بلفظ التنكير يعني صبرا وأي صبر عظيم وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ يعني واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء. قال الكلبي: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم غير أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى يعني وقال جماعة من أشراف قوم فرعون لفرعون أتدع موسى وَقَوْمَهُ من بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر وأراد بالإفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني وتذره ليذرك ويذر آلهتك فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت لفرعون بقرة كان يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلا. وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله أنا ربكم الأعلى والأولى أن يقال إن فرعون كان دهريا منكر الوجود الصانع فكان
قوله تعالى :﴿ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى ﴾ يعني وقال جماعة من أشراف قوم فرعون لفرعون أتدع موسى ﴿ وقومه ﴾ من بني إسرائيل ﴿ ليفسدوا في الأرض ﴾ يعني أرض مصر وأراد بالإفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قوله ﴿ ويذرك وآلهتك ﴾ يعني وتذره ليذرك ويذر آلهتك فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان لفرعون بقرة كان يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً. وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله أنا ربكم الأعلى والأولى أن يقال إن فرعون كان دهرياً منكر الوجود الصانع فكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب فاتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك وإلهتك بكسر الألف ومعناه ويذرك وعبادتك فلا يعبدك لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل أراد بالآلهة الشمس والكواكب لأنه كان يعبدها قال الشاعر :
تروحنا من اللعباء قصراً وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
أراد بالإلاهة الشمس ﴿ قال ﴾ يعني فرعون مجيباً لقومه حين قالوا له أتذر موسى وقومه ﴿ سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ﴾ يعني نتركهن أحياء.
وذلك أن قوم فرعون لما أرادوا إغراء فرعون على قتل موسى وقومه أوجس موسى إنزال العذاب بقومه ولم يقدر فرعون أن يفعل بموسى عليه الصلاة والسلام شيئاً مما أرادوا به لقوة موسى عليه السلام بما معه من المعجزات فعدل إلى قومه فقال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاءهم موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان قال فرعون : أعيدوا عليهم القتل فأعادوا القتل على بني إسرائيل، والمعنى أن فرعون قال إنما يتقوى موسى بقومه فنحن نسعى في تقليل عدد قومه بالقتل لتقلَّ شوكته، ثم بين فرعون أنه قادر على ذلك بقوله ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ يعني بالغلبة والقدرة عليهم ولما نزل ببني إسرائيل ما نزل شكوا إلى موسى ما نزل بهم.
﴿ قال موسى لقومه ﴾ يعني لما شكوا إليه ﴿ استعينوا بالله واصبروا ﴾ يعني استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم ﴿ إن الأرض لله ﴾ يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله تعالى ﴿ يورثها من يشاء من عباده ﴾ وهذا إطماع من موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل أن يهلِك فرعون وقومه ويملك بني إسرائيل أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم وهو قوله تعالى :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وقيل أراد الجنة يعني إن عاقبة المتقين الصابرين الجنة.
يقول مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب فاتخذ أصناما على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك وإلهتك بكسر الألف ومعناه ويذرك وعبادتك فلا يعبدك لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل أراد بالآلهة الشمس والكواكب لأنه كان يعبدها قال الشاعر:
تروحنا من اللعباء قصرا وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
أراد بالإلاهة الشمس قالَ يعني فرعون مجيبا لقومه حين قالوا له أتذر موسى وقومه سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يعني نتركهن أحياء.
وذلك أن قوم فرعون لما أرادوا إغراء فرعون على قتل موسى وقومه أوجس موسى إنزال العذاب بقومه ولم يقدر فرعون أن يفعل بموسى عليه الصلاة والسلام شيئا مما أرادوا به لقوة موسى عليه السلام بما معه من المعجزات فعدل إلى قومه فقال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاءهم موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان قال فرعون: أعيدوا عليهم القتل فأعادوا القتل على بني إسرائيل، والمعنى أن فرعون قال إنما يتقوى موسى بقومه فنحن نسعى في تقليل عدد قومه بالقتل لتقلّ شوكته، ثم بين فرعون أنه قادر على ذلك بقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يعني بالغلبة والقدرة عليهم ولما نزل ببني إسرائيل ما نزل شكوا إلى موسى ما نزل بهم قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يعني لما شكوا إليه اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا يعني استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله تعالى يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهذا إطماع من موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل أن يهلك فرعون وقومه ويملك بني إسرائيل أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم وهو قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وقيل أراد الجنة يعني إن عاقبة المتقين الصابرين الجنة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٢٩ الى ١٣١]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما آمنت السحرة تبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل والمعنى أن بني إسرائيل لما سمعوا ما قاله فرعون ووعدهم به من القتل مرة ثانية قالوا لموسى قد أوذينا من قبل أن تأتينا يعني بالرسالة وذلك أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار فلما جاء موسى بالرسالة وجرى ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار وأعاد القتل عليهم فقالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يعني بالرسالة وظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر.
والجواب عن هذا الإيهام أن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدة والمشقة فظنوا أن ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنه قد زادت الشدة عليهم قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد
قوله عز وجل :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ﴾ يعني بالقحط والجدب. تقول العرب : مستهم السنة بمعنى أخذهم الجدب في السنة ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر :
ورجال مكة مسنتون عجاف. . . .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف » ومعنى الآية : ولقد أخذنا آل فرعون بالجدب والقحط والجوع سنة بعد سنة ﴿ ونقص من الثمرات ﴾ يعني وإتلاف الغلات بالآفات. قال قتادة أما السنون فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ يعين لعلهم يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عز وجل من الخير، ثم بين الله تعالى أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً فقال تعالى :﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾.
﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾ يعني الغيث والخصب والسعة والعافية والسلامة من الآفات ﴿ قالوا لنا هذه ﴾ أي نحن مستحقون لها ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ يعني القحط والجدب والمرض والبلاء ورأوا ما يكرهون في أنفسهم ﴿ يطيروا ﴾ يعني يتشاءموا وأصله يتطيروا والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين ﴿ بموسى ومن معه ﴾ يعني أنهم قالوا ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم وما ذلك إلا بشؤم موسى وقومه. قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر : كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين وسنة لم يروا مكروهاً قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط ﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ يعني أن نصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله قال ابن عباس رضي الله عنهما طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله وفي رواية عنه شؤمهم عند الله تعالى ومعناه أنه إنما جاءهم بكفرهم بالله وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ يعني أن ما أصابهم من الله تعالى وإنما قال تعالى وإنما قال أكثرهم لا يعلمون لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب ولا يضيفونها إلى القضاء والقدر.
ما جئتنا فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه قالَ موسى مجيبا لهم عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ يعني فرعون وقومه وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني فيرى ربكم كيف تعملون من بعدهم. قال الزجاج: فيرى وقوع ذلك منهم لأن الله تعالى لا يجازيهم بما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ يعني بالقحط والجدب. تقول العرب: مستهم السنة بمعنى أخذهم الجدب في السنة ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر:
ورجال مكة مسنتون عجاف ومنه قوله ﷺ «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» ومعنى الآية: ولقد أخذنا آل فرعون بالجدب والقحط والجوع سنة بعد سنة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ يعني وإتلاف الغلات بالآفات. قال قتادة أما السنون فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عز وجل من الخير، ثم بين الله تعالى أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا فقال تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعني الغيث والخصب والسعة والعافية والسلامة من الآفات قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مستحقون لها ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني القحط والجدب والمرض والبلاء ورأوا ما يكرهون في أنفسهم يَطَّيَّرُوا يعني يتشاءموا وأصله يتطيروا والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يعني أنهم قالوا ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم وما ذلك إلا بشؤم موسى وقومه. قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين وسنة لم يروا مكروها قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يعني أن نصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله قال ابن عباس رضي الله عنهما طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله وفي رواية عنه شؤمهم عند الله تعالى ومعناه أنه إنما جاءهم بكفرهم بالله وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن ما أصابهم من الله تعالى وإنما قال أكثرهم لا يعلمون لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب ولا يضيفونها إلى القضاء والقدر.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني قوم فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ يعني من عند ربك فهي عندنا سحر وهو قولهم لِتَسْحَرَنا بِها يعني لتصرفنا عما نحن عليه من الدين فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدّقين وكان موسى عليه الصلاة والسلام رجلا حديدا مستجاب الدعوة فدعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه فقال تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق: دخل كلام بعضهم في بعض قالوا لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عز وجل عليهم الآيات فأخذهم أولا بالسنين وهو بالقحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة
239
ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله عليهم المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مختلفة مشتبكة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت إسرائيل شيء وركد الماء على أرضهم فلم يقدروا على التحرك ولم يعلموا شيئا ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت.
وقال مجاهد وعطاء: الطوفان الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة أهل اليمن.
وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به ثم بقي في الأرض. وقال مقاتل: الطوفان الماء طفا فوق حروثهم. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن الطوفان أمر من الله عز وجل طاف بهم فعند ذلك قالوا يا موسى ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا المطر ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فرفع عنهم الطوفان وأنبت الله لهم تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زرعهم وثمارهم وورق الشجر وأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة وأكل مسامير الحديد التي في الأبواب وغيرها وابتلي الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا هذا الرجز لنؤمنن لك وأعطوه عهد الله وميثاقه بذلك فدعاه موسى ربه عز وجل فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت وفي الخبر «مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم» ويقال إن موسى عليه السلام خرج إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق فرجع الجراد من حيث جاء وكان قد بقي من زروعهم وثمارهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأقاموا شهرا في عافية ثم بعث الله عز وجل عليهم القمل واختلفوا فيه فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القمل هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد وقتادة والسدي والكلبي: القمل الدبي وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له. وقال الحسن: يقرأ بفتح القاف وسكون الميم. قال أصحاب الأخبار أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب رملي أعفر بقرية من قرى مصر تسمى عين شمس فمشى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه فانهال عليهم القمل فتتبع ما بقي من حروثهم وزروعهم وثمارهم فأكلها كلها ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه فإذا أكل أحدهم طعاما امتلأ قملا. قال سعيد بن المسيب:
القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأخذت أشعارهم وأبصارهم وحواجبهم وأشفار عيونهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا بموسى إنّا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فمكثوا بعد ذلك ورجعوا إلى أخبث ما كانوا عليه من الأعمال الخبيثة وقالوا ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الرمل دوابا فدعا موسى عليهم بعد ما أقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل منهم يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يثب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تثب في قدورهم فتفسد طعامهم عليهم وتطفئ نيرانهم وكان أحدهم إذا اضطجع ركبته الضفادع حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر وإذا أراد أن يأكل سبقه الضفدع إلى فيه ولا يعجن أحدهم عجينا إلا امتلأ ضفادع فلقوا من ذلك بلاء شديدا.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله عز وجل على آل
240
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق : دخل كلام بعضهم في بعض قالوا لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عز وجل عليهم الآيات فأخذهم أولاً بالسنين وهو بالقحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال : يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله عليهم المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مختلفة مشتبكة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت إسرائيل شيء وركد الماء على أرضهم فلم يقدروا على التحرك ولم يعلموا شيئاً ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت.
وقال مجاهد وعطاء : الطوفان الموت. وقال وهب : الطوفان الطاعون بلغة أهل اليمن.
وقال أبو قلابة : الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به ثم بقي في الأرض. وقال مقاتل : الطوفان الماء طفا فوق حروثهم. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن الطوفان أمر من الله عز وجل طاف بهم فعند ذلك قالوا يا موسى ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا المطر ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فرفع عنهم الطوفان وأنبت الله لهم تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زرعهم وثمارهم وورق الشجرة وأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة وأكل مسامير الحديد التي في الأبواب وغيرها وابتلي الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا هذا الرجز لنؤمنن لك وأعطوه عهد الله وميثاقه بذلك فدعاء موسى ربه عز وجل فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت وفي الخبر «مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم » ويقال إن موسى عليه السلام خرج إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق فرجع الجراد من حيث جاء وكان قد بقي من زروعهم وثمارهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة أقاموا شهراً في عافية ثم بعث الله عز وجل عليهم القمل واختلفوا فيه فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القمل هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد وقتادة والسدي والكلبي : القمل الدبي وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له. وقال الحسن : يقرأ بفتح القاف وسكون الميم. قال أصحاب الأخبار أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب رملي أعفر بقرية من قرى مصر تسمى عين شمس فمشى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه فانهال عليهم القمل فتتبع ما بقي من حروثهم وزروعهم وثمارهم فأكلها كلها ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه فإذا أكل أحدهم طعاماً امتلأ قملاً. قال سعيد بن المسيب : القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأخذت أشعارهم وأبصارهم وحواجبهم وأشفار عيونهم ولزم فدعا موسى فرفع الله عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فمكثوا بعد ذلك ورجعوا إلى أخبث ما كانوا عليه من الأعمال الخبيثة وقالوا ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر من اليوم يجعل الرمل دواباً فدعا موسى عليهم ما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل منهم يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يثب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تثب في قدورهم فتفسد طعامهم عليهم وتطفئ نيرانهم وكان أحدهم إذا اضطجع ركبته الضفادع حتى تكون عليه ركاماً فلا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر وإذا أراد أن يأكل سبقه الضفدع إلى فيه ولا يعجن أحدهم عجيناً إلا امتلأ ضفادع فلقوا من ذلك بلاء شديداً.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله عز وجل على آل فرعون وسمعت وأطاعت وجعلت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي على النار وفي التنانير وهي تفور أثابها الله عز وجل بحسن طاعتها برد الماء فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ما يلقونه من الضفادع وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود فأخذ موسى عليه السلام عليهم العهود والمواثيق ثم دعا الله عز وجل فكشف عنهم الضفدع بعد ما أقامت عليهم سبعاً من السبت إلى السبت فأقاموا شهراً في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى عليه الصلاة ولسلام فأرسل الله عز وجل الدم فسال النيل عليهم دماً عبيطاً وصارت مياههم كلها دماً وكل ما يستقون من الآبار والأنهار يجدونها دماً عبيطاً فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا : ليس لنا شراب إلا الدم، فقال : سحركم. فقالوا : من أين يسحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً. فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً ويفرغان الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى أن المرأة من آل فرعون تأتي إلى المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول لها اسقني من مائك فتصب لها في قربتها فيصير في الإناء ماء حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي فتفعل ذلك فيصير دماً ثم إن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم. وقال زيد بن أسلم : إن الدم الذي سلط الله عز وجل عليهم كان الرعاف فأتوا موسى صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه ما يلقوه وقالوا ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فكشف عنهم ذلك فلم يؤمنوا فذلك قوله تعالى :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ﴾ يعني يتبع بعضها بعضاً وتفصيلها أن كل عذاب كان يقوم عليهم أسبوعاً وبين كل عذابين مدة شهر ﴿ فاستكبروا ﴾ يعني عن الإيمان فلم يؤمنوا ﴿ وكانوا قوماً مجرمين ﴾ يعني آل فرعون.
فرعون وسمعت وأطاعت وجعلت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي على النار وفي التنانير وهي تفور أثابها الله عز وجل بحسن طاعتها برد الماء فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ما يلقونه من الضفادع وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود فأخذ موسى عليه السلام عليهم العهود والمواثيق ثم دعا الله عز وجل فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقامت عليهم سبعا من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام فأرسل الله عز وجل الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم كلها دما وكل ما يستقون من الآبار والأنهار يجدونها دما عبيطا فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا:
ليس لنا شراب إلا الدم، فقال: سحركم. فقالوا: من أين يسحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا. فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويفرغان الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى أن المرأة من آل فرعون تأتي إلى المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول لها اسقني من مائك فتصب لها في قربتها فيصير في الإناء ماء حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي فتفعل ذلك فيصير دما ثم إن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دما فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم. وقال زيد بن أسلم: إن الدم الذي سلط الله عز وجل عليهم كان الرعاف فأتوا موسى عليه الصلاة والسلام وشكوا إليه ما يلقوه وقالوا ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فكشف عنهم ذلك فلم يؤمنوا فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ يعني يتبع بعضها بعضا وتفصيلها أن كل عذاب كان يقوم عليهم أسبوعا وبين كل عذابين مدة شهر فَاسْتَكْبَرُوا يعني عن الإيمان فلم يؤمنوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني آل فرعون.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني لما نزل بهم العذاب الذي ذكره في الآية المتقدمة هو الطوفان وما بعده وقال سعيد بن جبير الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت فنزل بهم الطاعون حتى مات منهم في يوم واحد سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون (ق). عن أبي أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ﷺ «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه».
وقوله تعالى: قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ يعني بما أوصاك وقيل بما عهد عندك من إجابة دعوتك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ يعني العذاب الذي وقع بنا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ حتى يذهبوا حيث شاؤوا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ يعني بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ يعني إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ يعني إذا هم ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به.
واعلم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات هي معجزات في الحقيقة دالة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام ووجه ذلك أن العذاب كان مختصا بآل فرعون دون بني إسرائيل فاختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز وكون بني إسرائيل في أمان منه وعافية وقوم فرعون في شدة وعذاب وبلاء مع اتحاد المساكن معجز أيضا.
﴿ فلما كشفنا عنهم الرجز ﴾ يعني بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ إلى أجل هم بالغوه ﴾ يعني إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم ﴿ إذا هم ينكثون ﴾ يعني إذا هم ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به.
واعلم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات هي معجزات في الحقيقة دالة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام ووجه ذلك أن العذاب كان مختصاً بآل فرعون دون بني إسرائيل فاختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز وكون بني إسرائيل في أمان منه وعافية وقوم فرعون في شدة وعذاب وبلاء مع اتحاد المساكن معجز أيضاً.
فإن اعترض معترض وقال إن الله تعالى علم من حال آل فرعون أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها.
فالجواب على مذهب أهل السنة إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يُسأل عما يفعل وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة فلعله تعالى علم من قوم فرعون أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات وظهورها فلهذا السبب والاها عليهم والله أعلم بمراده.
قوله عز وجل :﴿ فانتقمنا منهم ﴾ يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم. وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب ﴿ فأغرقناهم في اليم ﴾ والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه. قال الزهري : اليم معروف لفظه سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ فاقذفيه في اليم ﴾ والمراد به نيل مصر وهو عذب ﴿ بأنهم كذبوا بآياتنا ﴾ يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا ﴿ وكانوا عنها ﴾ يعني عن آياتنا ﴿ غافلين ﴾ يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين.
ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزاً لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان.
فإن اعترض معترض وقال إن الله تعالى علم من حال آل فرعون أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها.
فالجواب على مذهب أهل السنة إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة فلعله تعالى علم من قوم فرعون أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات وظهورها فلهذا السبب والاها عليهم والله أعلم بمراده.
قوله عز وجل: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم. وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه. قال الزهري: اليم معروف لفظة سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ والمراد به نيل مصر وهو عذب بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا وَكانُوا عَنْها يعني عن آياتنا غافِلِينَ يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين.
ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزا لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣٧ الى ١٤٠]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
قوله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعني ومكنّا القوم الذين كانوا يقهرون ويغلبون على أنفسهم وهو أن فرعون وقومه كانوا قد تسلطوا على بني إسرائيل فقتلوا أبناءهم واستخدموهم فصيروهم مستضعفين تحت أيديهم مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض الشام ومصر وأراد بمشارقها ومغاربها جميع جهاتها ونواحيها. وقيل: أراد بمشارق الأرض ومغاربها الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب. وقيل: أراد جميع جهات الأرض وهو اختيار الزجاج قال: لأن داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض.
وقوله عز وجل: الَّتِي بارَكْنا فِيها يدل على أنها الأرض المقدسة يعني باركنا فيها بالثمار والأشجار والزروع والخصب والسعة وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يعني وتمت كلمة الله وهي وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم وقيل كلمة الله هي قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ الآية والحسنى صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمامها إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم بِما صَبَرُوا يعني إنما حصل لهم ذلك التمام وهو ما أنعم الله تعالى به عليهم من إنجاز وعده لهم بسبب صبرهم على دينه وأذى فرعون لهم وَدَمَّرْنا يعني وأهلكنا والدمار الهلاك باستئصال ما كانَ
242
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من العمارات والبنيان وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يعني يسقفون من ذلك البنيان وقال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور. وقال الحسن: وما كانوا يعرشون من الثمار والأعناب.
قوله عز وجل: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ يعني وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد إهلاك فرعون وقومه وإغراقهم فيه يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.
وقال الكلبي عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكرا لله تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يعني فمر بنو إسرائيل بعد مجاوزة البحر على قوم يعكفون أي يقيمون ويواظبون على أصنام لهم يعني تماثيل لهم كانوا يعبدونها من دون الله. قال ابن جريج: كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل. وقال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة يعني بالرقة ساحل البحر وقيل كان أولئك الأقوام من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقتالهم قالُوا يعني قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا ذلك التمثال يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعني كما لهم أصنام يعبدونها ويعظمونها فاجعل لنا أنت إلها نعبده ونعظمه. قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم وقال غيره هذا يدل على غاية جهل بني إسرائيل وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعد ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وعبادتهم غير الله تعالى فحملهم جهلهم على أن قالوا لنبيهم موسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام بقوله قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ يعني تجهلون عظمة الله تعالى وأنه لا يستحق أن يعبد سواه لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه. عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم» أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي مهلك والتتبير الإهلاك وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ البطلان عبارة عن عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائده ونفعه والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا يدفع عنهم ضرا لأنه عمل لغير الله تعالى فكان باطلا لا نفع فيه قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حكم عليهم بالجهالة وقال مجيبا لهم على سبيل العجب والإنكار عليهم أغير الله أبغيكم إلها يعني أطلب لكم وأبغي لكم إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ والمعنى أن الإله ليس هو شيئا يطلب ويلتمس ويتخير بل الإله هو الذي فضلكم على العالمين لأنه القادر على الإنعام والإفضال فهو هذا الذي يستحق أن يعبد ويطاع لا عبادة غيره ومعنى قوله فضلكم على العالمين يعني على عالمي زمانكم وقيل فضلهم بما خصهم به من الآيات الباهرة التي لم تحصل لغيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم.
243
قوله عز وجل :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ يعني وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد إهلاك فرعون وقومه وإغراقهم فيه يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.
وقال الكلبي عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى :﴿ فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ﴾ يعني فمر بنو إسرائيل بعد مجاوزة البحر على قوم يعكفون أي يقيمون ويواظبون على أصنام لهم يعني تماثيل لهم كانوا يعبدونها من دون الله. قال ابن جريج : كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شان العجل. وقال قتادة : كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالرقة يعني بالرقة ساحل البحر وقيل كان أولئك الأقوام من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقتالهم ﴿ قالوا ﴾ يعني قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا ذلك التمثال ﴿ يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ﴾ يعني كما لهم أصنام يعبدونها ويعظمونها فاجعل لنا أنت إلهاً نعبده ونعظمه. قال البغوي رحمه الله : ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم وقال غيره هذا يدل على غاية جهل بني إسرائيل وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعد ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وعبادتهم غير الله تعالى فحملهم جهلهم على أن قالوا لنبيهم موسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام بقوله ﴿ قال إنكم قوم تجهلون ﴾ يعني تجهلون عظمة الله تعالى وأنه لا يستحق أن يعبد سواه لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه. عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن مَن كان قبلكم » أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى :﴿ إن هؤلاء متبرٍ ما هم فيه ﴾ أي مهلك والتتبير الإهلاك ﴿ وباطل ما كانوا يعلمون ﴾ البطلان عبارة عن عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائده ونفعه والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا يدفع عنهم ضراً لأنه عمل لغير الله تعالى فكان باطلاً لا نفع فيه.
﴿ قال أغير الله أبغيكم إلهاً ﴾ لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً لنا إلهاً كما لهم آلهة حكم عليهم بالجهالة وقال مجيباً لهم على سبيل العجب والإنكار عليهم أغير الله أبغيكم إلهاً يعني أطلب لكم وأبغي لكم إلهاً ﴿ وهو فضّلكم على العالمين ﴾ والمعنى أن الإله ليس هو شيئاً يطلب ويلتمس ويتخير بل الإله هو الذي فضلكم على العالمين لأنه القادر على الإنعام والإفضال فهو هذا الذي يستحق أن يعبد ويطاع لا عبادة غيره ومعنى قوله فضلكم على العالمين يعني على عالمي زمانكم وقيل فضلهم بما خصهم به من الآيات الباهرة التي لم تحصل لغيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٤١ الى ١٤٣]

وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
قوله عز وجل: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ هذه الآية تقدم تفسيرها في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
قوله عز وجل: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً يعني وواعدنا موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاتنا ثلاثين ليلة وهي ذو القعدة وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يعني عشر ذي الحجة وهذا قول ابن عباس ومجاهد. قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله عز وجل فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه عز وجل أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل بل أكل من ورق الشجر فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام وقيل إن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يصوم ثلاثين يوما ويعمل فيها ما يتقرب به إلى الله ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال: وتممناها بعشر وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فذكره هناك على الإجمال وذكره هنا على التفصيل.
وقوله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني فتم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى عليه الصلاة والسلام وعبادته أربعين ليلة لأن الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال ولهذا قيل مواقيت الحج وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي يعني كن أنت خليفتي فيهم من بعدي حتى أرجع إليك وَأَصْلِحْ يعني وأصلح أمور بني إسرائيل واحملهم على عبادة الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
يريد الرفق بهم والإحسان إليهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يعني ولا تسلك طريق المفسدين في الأرض ولا تطعهم والمقصود من هذا الأمر التأكيد لأن هارون عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين فهو كقوله ولكن ليطمئن قلبي وكقولك للقاعد اقعد بمعنى دم على ما أنت عليه من القعود.
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا يعني للوقت الذي وقتنا له أن يأتي فيه لمناجاتنا وهو قوله وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وفي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام واختلف الناس في كلام الله تعالى فقال الزمخشري كلمه ربه عز وجل من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في الألواح هذا كلامه وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأن الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري» فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهبت الحنابلة ومن وافقهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قد تم وذهب جمهور المتكلمين إلى أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول قالوا إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع تلك الصفة الأزلية الحقيقية وقالوا كما أنه لا يبعد رؤية ذاته وليس جسما ولا
244
عرضا كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته. قال أهل التفسير والأخبار: لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن الله تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرش بارزا وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه الله تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه كلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم الله تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الزجاج: فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك وإنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى الله عن ذلك قالَ لَنْ تَرانِي يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر إليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام: إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك. وقال السدي: لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال «رب أرني أنظر إليك» قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام «لن تراني».
((فصل)) وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى: لَنْ تَرانِي قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود «ولن يتمنوه أبدا» مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقوله يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولا على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعا بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضا فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفا بالله تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على الله عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى وأيضا فإن الله عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل الله تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا والله أعلم بمراده.
قال وهب ومحمد بن إسحاق: لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل الله الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع
245
فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى أهل السموات أن يعترضوا على موسى عليه الصلاة والسلام فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد فقال موسى:
رب إني كنت عن هذا غنيا ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه مثل الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف موسى بن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وبدنه ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني مما أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس لهم جلب كجلب الجيش العظيم أو النهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة ورئيسهم: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصير عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من الملائكة كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى عليه الصلاة والسلام رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك فلا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن أقمت مت فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبدا لا يموت فارتج الجبل لشدة أصواتهم واندك واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله تعالى برحمته الروح فتغشته وقلب عليه الحجر الذي كان جلس عليه موسى فصار عليه كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه الصلاة والسلام وأقامت الروح عليه مثل اللامة فلما أفاق موسى قام يسبح ويقول آمنت بك وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك والإله العظيم لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلّك يا رب العالمين فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال ابن عباس: ظهر نور ربه للجبل فصار ترابا واسم الجبل زبير.
وقال الضحاك أظهر الله عز وجل من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ما تجلى للجبل من الله تعالى إلا مثل سم الخياط حتى صار دكا. وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على الفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل ذكره البغوي هكذا بغير سند وأخرجه الترمذي أيضا عن أنس أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال حماد هكذا وأمسك بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى فساخ الجبل وخرّ موسى عليه السلام صعقا. وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة
246
قوله عز وجل :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ يعني وواعدنا موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاتنا ثلاثين ليلة وهي ذو القعدة ﴿ وأتممناها بعشر ﴾ يعني عشر ذي الحجة وهذا قول ابن عباس ومجاهد. قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله عز وجل فيه بيان ما يأتون وما يذرون فما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه عز وجل أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصامها فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل بل أكل من ورق الشجر فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام وقيل إن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يصوم ثلاثين يوماً ويعمل فيها ما يتقرب به إلى الله ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال : وتممناها بعشر وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ﴾ فذكره هناك على الإجمال وذكره هنا على التفصيل.
وقوله تعالى :﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ يعني فتم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى عليه الصلاة والسلام وعبادته أربعين ليلة لأن الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال ولهذا قيل مواقيت الحج ﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ﴾ يعني كن أنت خليفتي فيهم من بعدي حتى أرجع إليك ﴿ وأصلح ﴾ يعني وأصلح أمور بني إسرائيل واحملهم على عبادة الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الرفق بهم والإحسان إليهم ﴿ ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ يعني ولا تسلك طريق المفسدين في الأرض ولا تطعهم والمقصود من هذا الأمر التأكيد لأن هارون عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين فهو كقوله ولكن ليطمئن قلبي وكقولك للقاعد اقعد بمعنى دُم على ما أنت عليه من القعود.
قوله تعالى :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ يعني للوقت الذي وقتنا له أن يأتي فيه لمناجاتنا وهو قوله ﴿ وكلمه ربه ﴾ وفي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام واختلف الناس في كلام الله تعالى فقال الزمخشري كلمه ربه عز وجل من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في الألواح هذا كلامه وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأن الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول :﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ﴾ فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهبت الحنابلة ومن وافقهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قد تم وذهب جمهور المتكلمين إلى أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول قالوا إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع تلك الصفة الأزلية الحقيقية وقالوا كما أنه لا يبعد رؤية ذاته وليس جمساً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته. قال أهل التفسير والأخبار : لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن الله تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشطيان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه الله تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه وكلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم الله تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته ﴿ قال رب أرني أنظر إليك ﴾ قال الزجاج : فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك إنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظناً منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى الله عن ذلك ﴿ قال لن تراني ﴾ يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر إليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك. وقال السدي : لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو لله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان عند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال ﴿ ربي أرني أنظر إليك ﴾ قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ﴿ لن تراني ﴾.
( فصل )
وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿ لن تراني ﴾ قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود ﴿ ولن يتمنوه أبداً ﴾ مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى :﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ وقوله ﴿ يا ليتها كانت القاضية ﴾ فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولاً على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضاً فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفاً بالله تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على الله عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى وأيضاً فإن الله عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى :﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾ وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل الله تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً والله أعلم بمراده.
قال وهب ومحمد بن إسحاق : لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل الله الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى أهل السماوات أن يعترضوا على موسى عليه الصلاة والسلام فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقرة تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد فقال موسى : رب إني كنت عن هذا غنياً ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه مثل الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف موسى بن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وبدنه ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني مما أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس لهم جلب كجلب الجيش العظيم أوالنهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة ورئيسهم : مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا ابن عمران اصبر لما سألت فقيل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصير عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من الملائكة كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى عليه الصلاة والسلام رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك فلا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن أقمت مت فقال له كبير الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدأ العرش انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبداً لا يموت فارتج الجبل لشدة أصواتهم واندك واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله تعالى برحمته الروح فتغشته وقلب عليه الحجر الذي كان جلس عليه موسى فصار عليه كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه الصلاة والسلام وأقامت الروح عليه مثل اللامة فلما أفاق موسى قام يسبح ويقول آمنت بك وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك والإله العظيم لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلّك يا رب العالمين فذلك قوله تعالى :﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ﴾ قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل فصار تراباً واسم الجبل زبير. وقال الضحاك أظهر الله عز وجل من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ما تجلى للجبل من الله تعالى إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً. وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على الفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل ذكره البغوي هكذا بغير سند وأخرجه الترمذي أيضاً عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ﴾ قال حماد هكذا وأمسك بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى فساخ الجبل وخرّ موسى عليه السلام صعقاً. وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ويروى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً يعني مستوياً بالأرض وقال ابن عباس : جعله تراباً وقال سفيان ساخ الجبل حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي صار رملاً هائلاً وقال الكلبي جعله دكاً يعني كسراً جبالاً صغاراً وقيل إنه صار لعظمة الله تعالى ستة أجبل فوقع ثلاثة بالمدينة وهي : أحد وورقان ورضوى ووقع ثلاثة بمكة وهي : ثور وثبر وحراء وقوله تعالى :﴿ وخر موسى صعقاً ﴾ قال ابن عباس والحسن يعني مغشياً عليه. وقال قتادة يعني ميتاً والأول أصح لقوله ﴿ فلما أفاق ﴾ والميت لا إفاقة له إنما يقال أفاق من غشيته قال الكلبي صعق موسى عليه الصلاة والسلام يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. وقال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السماوات : ما لا بن عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السماوات أتوا موسى وهو في غشيته فجعلوا يركلونه ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة فلما أفاق يعني من غشيته ورجع علقه إليه وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له ﴿ قال سبحانك ﴾ يعني تنزيهاً لك من النقائص كلها ﴿ تبت إليك ﴾ يعني من مسألتي الرؤية بغير إذنك وقيل من سؤال الرؤية في الدنيا وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال سبحانك تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي وقيل لما سأل الرؤية ومنعها قال تبت إليك يعني من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقربين ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ يعني بأنك لا ترى في الدنيا وقيل أنا أول المؤمنين يعني من بني إسرائيل بقي في الآية سؤالات : الأول أن الرؤية عين النظر فكيف قال أرني أنظر إليك وعلى هذا يكون التقدير أرني حتى أراك ؟ والجواب عنه : أن معنى قوله أرني اجعلني متمكن من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك السؤال الثاني كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ حتى يكون مطابقاً لقوله ﴿ أنظر إليك ﴾ ؟ والجوا
ويروى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا يعني مستويا بالأرض وقال ابن عباس: جعله ترابا وقال سفيان ساخ الجبل حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي صار رملا هائلا وقال الكلبي جعله دكا يعني كسرا جبالا صغارا وقيل إنه صار لعظمة الله تعالى ستة أجبل فوقع ثلاثة بالمدينة وهي: أحد وورقان ورضوى ووقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبر وحراء وقوله تعالى:
وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس والحسن يعني مغشيا عليه. وقال قتادة يعني ميتا والأول أصح لقوله فَلَمَّا أَفاقَ والميت لا إفاقة له إنما يقال أفاق من غشيته قال الكلبي صعق موسى عليه الصلاة والسلام يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. وقال الواقدي: لما خر موسى صعقا قالت ملائكة السموات: ما لابن عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو في غشيته فجعلوا يركلونه ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة فلما أفاق يعني من غشيته ورجع عقله إليه وعرف أنه سأل أمرا عظيما لا ينبغي له قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك من النقائص كلها تُبْتُ إِلَيْكَ يعني من مسألتي الرؤية بغير إذنك وقيل من سؤال الرؤية في الدنيا وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد ﷺ فمنعها قال سبحانك تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي وقيل لما سأل الرؤية ومنعها قال تبت إليك يعني من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني بأنك لا ترى في الدنيا وقيل وأنا أول المؤمنين يعني من بني إسرائيل بقي في الآية سؤالات: الأول أن الرؤية عين النظر فكيف قال أرني أنظر إليك وعلى هذا يكون التقدير أرني حتى أراك؟ والجواب عنه: أن معنى قوله أرني اجعلني متمكن من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ حتى يكون مطابقا لقوله «أنظر إليك»؟ والجواب: أن النظر لما كان مقدمة الرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
السؤال الثالث: كيف استدرك وكيف اتصل الاستدراك من قوله: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله؟
والجواب أن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحدا لا يقوى على رؤيته تعالى إلا من قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أصل التجلي للجبل اندك وتقطع فهذا هو المراد من هذا الاستدراك لأنه يدل على تعظيم أمر الرؤية والله أعلم بمراده.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٤]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
قوله عز وجل: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي يعني قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام يا موسى إني اخترتك واتخذتك صفوة. الاصطفاء الاستخلاص من الصفوة والاجتباء والمعنى إني فضلتك واجتبيتك على الناس وفي هذا تسلية لموسى عليه الصلاة والسلام عن منع الرؤية حين طلبها لأن الله تعالى عدد عليه نعمه التي أنعم بها عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت منعت من الرؤية التي طلبت فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيقن صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها ويه الاصطفاء على الناس برسالاتي وبكلامي يعني من غير واسطة لأن غيره من الرسل منع كلام الله تعالى إلا بواسطة الملك.
فإن قلت كيف قال اصطفيتك على الناس برسالاتي مع أن كثيرا من الأنبياء قد ساواه في الرسالة قلت ذكر العلماء عن هذا السؤال جوابين:
أحدهما: ذكره البغوي فقال لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة استقام قوله «اصطفيتك على الناس» وإن شاركه فيها غيره كما يقول الرجل للرجل خصصتك بمشورتي وإن كان قد شاور غيره إذا لم تكن
المشورة على العموم فيكون مستقيما وفي هذا الجواب نظر لأن من جملة من اصطفاه الله برسالته محمدا ﷺ وهو أفضل من موسى عليه الصلاة والسلام فلا يستقيم هذا الجواب الجواب الثاني ذكره الإمام فخر الدين الرازي فقال: إن الله تعالى بين أنه خصه بمجموع أمرين وهما الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجموع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص هاهنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الجواب بغير واسطة سببا لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فيه كان أعلى وأشرف ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب وهذا الجواب فيه نظر أيضا لأن محمدا ﷺ اصطفاه برسالته وكلمه ليلة المعراج بغير واسطة وفرض عليه وعلى أمته الصلوات وخاطبه بيا محمد يدل عليه قوله فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ورفعه إلى حيث سمع صريف الأقلام وهذا كله يدل على مزيد الفضل والشرف على موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء فلا يستقيم هذا الجواب أيضا والذي يعتمد في هذا الجواب عن هذا السؤال أن الله اصطفى موسى عليه الصلاة والسلام برسالته وبكلامه على الناس الذين كانوا في زمانه وذلك أنه لم يكن في ذلك الوقت أعلى منصبا ولا أشرف ولا أفضل منه وهو صاحب الشريعة الظاهرة وعليه نزلت التوراة فدل ذلك عليه أنه اصطفاه على ناس زمانه كما اصطفى قومه على عالمي زمانهم وهو قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ قال المفسرون: يعني على عالمي زمانهم.
وقوله تعالى: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ يعني ما فضلتك وأكرمتك به وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني على إنعامي عليك وفي القصة أن موسى عليه الصلاة والسلام كان بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٥]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة والمعنى وكتبنا لموسى في ألواح التوراة قال البغوي وفي الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح إثنا عشر ذراعا وجاء في الحديث خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده. وقال الحسن: كانت الألواح من خشب. وقال الكلبي من زبرجدة خضراء. وقال سعيد بن جبير من ياقوتة حمراء. وقال ابن جريج من زمرد أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى جاء بها من جنة عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور. وقال الربيع بن أنس: كانت الألواح من زبرجد وقال وهب: أمره الله بقطع أرواح من صخرة صماء لينها له فقطعها بيده ثم شقها بإصبعه وسمع موسى عليه الصلاة والسلام صرير الأقلام بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي الحجة كان طول الألواح عشرة أذرع على طول موسى وقيل إن موسى خر صعقا يوم عرفه فأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وهذا أقرب إلى الصحيح عنه أنها لوحان واختاره الفراء قال وإنما جمعت على عدة العرب في إطلاق الجمع على الإثنين وقال وهب كانت عشرة ألواح. وقال مقاتل: كانت تسعة. وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيرا يقرأ لجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع بن نون وعزيز وعيسى عليهم الصلاة والسلام والمراد بقوله لم يقرأها يعني لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلبه إلا هؤلاء الأربعة. وقال الحسن: هذه الآية في التوراة بألف آية يعني قوله وكتبنا له في الألواح مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني يحتاج إليه من أمر ونهي مَوْعِظَةً يعني نهيا عن الجهل وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني وتبيينا لكل شيء
248
من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام مما يحتاج إليه في أمور الدين وروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه قال: كتب له يعني في التوراة لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كل ذلك خلقي ولا تحلف باسمي كاذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ووقر والديك. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن كعب الأحبار أن موسى عليه الصلاة والسلام نظر في التوراة فقال: إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى فقال رب إني لأجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون كفارتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله وإذا هبط واديا حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعلمها كتب له حسنة بمثلها وإن عملها كتبت بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبدا إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء من البحر فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله عز وجل محمدا ﷺ وأمته قال يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي- إلى قوله- سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال فرضي
موسى كل الرضا.
وقوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ يعني وقلنا لموسى عليه الصلاة والسلام إذا كتبنا له في الألواح من كل شيء خذها بجد واجتهاد. وقيل معناه فخذها بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة لأن من أخذ شيئا بضعف نية أداه إلى الفتور وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قال ابن عباس: يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعلموا بمحكمها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه الصلاة والسلام أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به وقيل ظاهر قوله وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يدل على أن بين التكليفين فرقا ليكون في هذا الفصل فائدة وهي أن التكليف كان على موسى أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره من قومه.
فإن قلت ظاهر قوله تعالى: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يدل على أن فيها ما ليس بحسن وذلك لم يقل به أحد فما معنى قوله يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها؟ قلت إن التكليف كله حسن وبعضه أحسن كالقصاص حسن ولكن العفو أحسن وكالانتصار حسن والصبر أحسن منه فأمروا أن يأخذوا بالشد على أنفسهم ليكون ذلك أعظم من الثواب فهو كقوله اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وكقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقيل إن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس وقيل معناه بأحسنها بحسنها وكلها حسن.
قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال مجاهد: يعني مصيركم في الآخرة وقال الحسن وعطاء يريد جهنم يحذركم أن تكونوا مثلهم. وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا الله
249
تعالى لتعتبروا بها. وقال عطية العوفي يعني دار فرعون وقومه وهي مصر. وقال السدي: يعني منازل الكفار وقال الكلبي هي منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا فكانوا يمرون عليها إذا سافروا.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٦]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦)
قوله عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال ابن عباس يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها حتى لا يؤمنوا بي عقوبة بحرمان الهداية لعنادهم الحق. وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن وقيل معناه سأصرفهم عن التفكير في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعبر وقيل حكم الآية لأهل مصر خاصة وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام والأكثرون على أن الآية فيه دليل لمذهب أهل السنة على أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويصرف عن آياته ويقبل الحق من يشاء ويوفق بالتفكر في آياته وقبول الحق من يشاء لأنه القادر على ما يشاء لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ومعنى الذين يتكبرون الذين يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم والتكبر على هذه الصفة لا يكون إلا لله عز وجل لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد سواه فالتكبر في حق الله عز وجل صفة مدح وفي حق المخلوقين صفة ذم لأنه تكبر بما ليس له ولا يستحقه وقيل التكبر إظهار كبر النفس على غيرها فهو صفة ذم في حق جميع العباد وقوله يتكبرون من الكبر لا من التكبر أن يفتعلون التكبر ويرون أنهم أفضل من غيرهم فلذلك قال يتكبرون في الأرض بغير الحق بل بالباطل وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يعني طريق الحق والهدى والسداد والصواب لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا يعني لا يختاروه لأنفسهم طريقا يسلكونه إلى الهداية وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يعني طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ذلك اختاروه لأنفسهم من ترك الرشد واتباع الغي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله الدالة على توحيده وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ يعني عن التفكر فيها والاتعاظ بها،
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٤٧ الى ١٥٠]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني ولقاء الدار الآخرة التي فيها الثواب والعقاب حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطلت فصارت كأن لم تكن والمعنى أنه قد يكون في الذين يكذبون بآيات الله من يعمل البر والإحسان والخير فبين الله تعالى بهذه الآية أن ذلك ليس ينفعهم من كفرهم وتكذيبهم بآيات الله وإنكارهم الدار الآخرة والبعث هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ
يعني هل يجزون في العقبى إلا جزاء العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا.
250
قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل لمناجاة ربه عز وجل:
مِنْ حُلِيِّهِمْ يعني التي استعاروها من قوم فرعون وذلك أن بني إسرائيل كان لهم عيد فاستعاروا من القبط الحلي ليتزينوا به في عيدهم فبقي عندهم إلى أن أهلك الله فرعون وقومه فبقي الحلي لبني إسرائيل ملكا لهم فلذلك قال الله تعالى من حليهم فلما أبطأ موسى عليهم جمع السامري ذلك الحلي وكان رجلا مطاعا في بني إسرائيل فذلك قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى. والمتخذ هو واحد فنسب الفعل إلى الكل لأنه كان برضاهم فكأنهم أجمعوا عليه وكان السامري رجلا صائغا فصاغ لهم عِجْلًا جَسَداً يعني من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة وألقى في ذلك العجل من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلا جسدا لحما ودما لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور أهل التفسير وقيل كان جسدا لا روح فيه وكان يسمع منه صوت وقيل إن ذلك الصوت كان خفيق الريح وذلك أنه جعله مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على وضع مخصوص فإذا هبت الريح دخلت في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت كصوت البقر.
والقول الأول: أصح لأنه كان يخور وقيل إنه خار مرة واحدة وقيل إنه كان يخور كثيرا وكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. قال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقال السدي: كان يخور ويمشي أَلَمْ يَرَوْا يعني الذين عبدوا العجل وقيل إن بني إسرائيل كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ وهذا يفيد العموم وقيل إن بعضهم عبد العجل وهو الصحيح وأجيب عن قوله واتخذ قوم موسى أنه خرج على الأغلب وكذا قوله أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ يعني العجل الذي عبدوه لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعني أن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جمادا أو حيوانا ناقصا عاجزا وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ يعني لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى الذي يضر وينفع واشتغلوا بعبادة العجل الذي لا يضر ولا ينفع ولا يتكلم ولا يهديهم إلى رشد وصواب.
قوله عز وجل: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ يعني ولما ندموا على عبادة العجل. تقول العرب لكل نادم على أمر: سقط في يده وذلك لأن من شأن من اشتد ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب على فخذه فتصير يده ساقطة لأن السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا يعني وتيقنوا أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا يعني يتب علينا ويتجاوز عنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين خسروا أنفسهم بوضعهم العبادة في غير موضعها وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدر عليه من الذنب وندم على ما صدره منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويرحمهم كلام التائب النادم على ما فرط منه وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وهو قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً يعني لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة ربه إلى قومه بني إسرائيل رجع غضبان أسفا لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأن السامري قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفا. قال أبو الدرداء: الأسف أشد الغضب. وقال ابن عباس والسدي: الأسف الحزن والأسيف الحزين. قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا والأخرى غضبا فعلى هذا كان موسى عليه الصلاة والسلام غضبان من قومه لأجل عبادتهم العجل آسفا حزينا لأن الله تعالى فتنهم وأن الله تعالى كان قد أعلمه بذلك فحزن لأجل ذلك قالَ يعني موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم هذا الخطاب يحتمل
251
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ يعني ولقاء الدار الآخرة التي فيها الثواب والعقاب ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ يعني بطلت فصارت كأن لم تكن والمعنى أنه قد يكون في الذين يكذبون بآيات الله من يعمل البر والإحسان والخير فبين الله تعالى بهذه الآية أن ذلك ليس ينفعهم من كفرهم وتكذيبهم بآيات الله وإنكارهم الدار الآخرة والبعث ﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ يعني هل يجزون في العقبى إلا جزاء العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا.
قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده ﴾ يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل لمناجاة ربه عز وجل :﴿ من حليهم ﴾ يعني التي استعاروها من قوم فرعون وذلك أن بني إسرائيل كان لهم عيد فاستعاروا من القبط الحلي ليتزينوا به في عيدهم فبقي عندهم إلى أن أهلك الله فرعون وقومه فبقي الحلي لبني إسرائيل ملكاً لهم فلذلك قال الله تعالى من حليهم فلما أبطأ موسى عليهم جمع السامري ذلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً في بني إسرائيل فذلك قال تعالى : واتخذ قوم موسى. والمتخذ هو واحد فنسب الفعل إلى الكل لأنه كان برضاهم فكأنهم أجمعوا عليه وكان السامري رجلاً صائغاً فصاغ لهم ﴿ عجلاً جسداً ﴾ يعني من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة وألقى في ذلك العجل من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلاً جسداً لحماً ودماً ﴿ له خوار ﴾ هو صوت البقر وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور أهل التفسير وقيل كان جسداً لا روح فيه وكان يسمع منه صوت وقيل إن ذلك الصوت كان خفيق الريح وذلك أنه جعله مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على وضع مخصوص فإذا هبت الريح دخلت في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت كصوت البقر.
والقول الأول : أصح لأنه كان يخور وقيل إنه خار مرة واحدة وقيل إنه كان يخور كثيراً وكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. قال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقال السدي : كان يخور ويمشي ﴿ ألم يروا ﴾ يعني الذين عبدوا العجل وقيل إن بني إسرائيل كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده ﴾ وهذا يفيد العموم وقيل إن بعضهم عبد العجل وهو الصحيح وأجيب عن قوله واتخذ قوم موسى أنه خرج على الأغلب وكذا قوله ﴿ ألم يروا ﴾ ﴿ أنه ﴾ يعني العجل الذي عبدوه ﴿ لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ﴾ يعني أن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد ﴿ اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾ يعني لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى الذي يضر وينفع واشتغلوا بعبادة العجل الذي لا يضر ولا ينفع ولا يتكلم ولا يهديهم إلى رشد وصواب.
قوله عز وجل :﴿ ولما سقط في أيديهم ﴾ يعني ولما ندموا على عبادة العجل. تقول العرب لكل نادم على أمر : سقط في يده وذلك لأن من شأن من اشتد ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب على فخذه فتصير يده ساقطة لأن السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل ﴿ ورأوا أنهم قد ضلوا ﴾ يعني وتيقنوا أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل ﴿ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ﴾ يعني يتب علينا ويتجاوز عنا ﴿ لنكونن من الخاسرين ﴾ يعني الذين خسروا أنفسهم بوضعهم العبادة في غير موضعها وهذا كلام من اعتراف بعظيم ما أقدر عليه من الذنب وندم على ما صدره منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويرحمهم كلام التائب النادم على ما فرط منه وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وهو قوله تعالى :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ﴾.
﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ﴾ يعني لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة ربه إلى قومه بني إسرائيل رجع غضبان أسفاً لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأن السامري قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفاً. قال أبو الدرداء : الأسف أشد الغضب. وقال ابن عباس والسدي : الأسف الحزن والأسيف الحزين. قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضب وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً فعلى هذا كان موسى عليه الصلاة والسلام غضبان من قومه لأجل عبادتهم العجل آسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وأن الله تعالى كان قد أعلمه بذلك فحزن لأجل ذلك ﴿ قال ﴾ يعني موسى عليه الصلاة والسلام لقومه ﴿ بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ أي بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم هذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامي وأتباعه أو لهارون من بني إسرائيل فعلى الاحتمال الأول في أنه خطاب لعبدة العجل يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله وعلى الاحتمال الثاني وهو أن يكون الخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى وقد رأيتم مني الأمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له ونفي الشركاء عنه وحمل بني إسرائيل على ذلك ومن حق الخلفاء أن يسروا لسيرة مستخلفهم وقوله ﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ معنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة لم يقل موسى عليه الصلاة والسلام :﴿ عجلت إليك رب لترضى ﴾ ومعنى الآية أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنه لم يأت على رأس الثلاثين فقد مات وقيل معناه أعجلتم سخط ربكم بعبادة العجل. وقال الكلبي : معناه أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام رجع إلى قومه غضبان أسفاً ذكر بعده ما أوجبه الغضب فقال تعالى :﴿ وألقى الألواح ﴾ يعني التي فيها التوراة وكان حاملاً لها فألقاها من شدة الغضب قالت الرواة وأصحاب الأخبار : كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباع وبقي سبع واحد رفع منها ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام، وروى أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام بفتنة قومه وعرف موسى عليه الصلاة والسلام أن ما أخبره الله سبحانه وتعالى به حق وصدق ومع ذلك لم يلق التوراة من يده فلما رجع إلى قومه وعاين ذلك وشاهده ألقى التوراة وهذا كما قيل ليس الخبر كالمعاينة ﴿ وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾ قيل إنه أخذ بشعر رأسه ولحيته من شدة غضبه وقال ابن الأنباري لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام ووجد قومه مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه فأقبل على أخيه هارون يلومه ومد يده إلى رأسه لشدة موجدته عليه إذا لم يلحق به فيعرفه خبر بني إسرائيل فيرجع ويتلافاهم فأعلمه هارون عليه السلام أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل وهو قوله تعالى ﴿ قال ﴾ يعني هارون ﴿ ابن أم ﴾ إذ قال هارون لموسى ابن أم وإن كانا لأب وأم ليرققه ويستعطفه عليه ﴿ إن القوم ﴾ يعني الذين عبدوا العجل ﴿ استضعفوني ﴾ أي استذلوني وقهروني ﴿ وكادوا يقتلونني ﴾ أي وقاربوا أهمّوا أن يقتلوني ﴿ فلا تشمت بي الأعداء ﴾ أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به والمعنى لا تسر الأعداء بما تنال مني من مكروه ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ يعني الذين عبدوا العجل.
أن يكون لعبدة العجل من السامي وأتباعه أو لهارون من بني إسرائيل فعلى الاحتمال الأول في أنه خطاب لعبدة العجل يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله وعلى الاحتمال الثاني وهو أن يكون الخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى وقد رأيتم مني الأمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له ونفي الشركاء عنه وحمل بني إسرائيل على ذلك ومن حق الخلفاء أن يسروا لسيرة مستخلفهم وقوله أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة لم يقل موسى عليه الصلاة والسلام «عجلت إليك رب لترضى» ومعنى الآية أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدروا أنه لم يأت على رأس الثلاثين فقد مات وقيل معناه أعجلتم سخط ربكم بعبادة العجل. وقال الكلبي: معناه أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام رجع إلى قومه غضبان أسفا ذكر بعده ما أوجبه الغضب فقال تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ يعني التي فيها التوراة وكان حاملا لها فألقاها من شدة الغضب قالت الرواة وأصحاب الأخبار: كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباع وبقي سبع واحد رفع منها ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام، وروى أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام بفتنة قومه وعرف موسى عليه الصلاة والسلام أن ما أخبره الله سبحانه وتعالى به حق وصدق ومع ذلك لم يلق التوراة من يده فلما رجع إلى قومه وعاين ذلك وشاهده ألقى التوراة وهذا كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قيل إنه أخذ بشعر رأسه ولحيته من شدة غضبه وقال ابن الأنباري لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام ووجد قومه مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه فأقبل على أخيه هارون يلومه ومد يده إلى رأسه لشدة موجدته عليه إذا لم يلحق به فيعرفه خبر بني إسرائيل فيرجع ويتلافاهم فأعلمه هارون عليه السلام
أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفا على نفسه من القتل وهو قوله تعالى: قالَ يعني هارون ابْنَ أُمَّ إذ قال هارون لموسى ابن أم وإن كانا لأب وأم ليرققه ويستعطفه عليه إِنَّ الْقَوْمَ يعني الذين عبدوا العجل اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي أي وقاربوا أهمّوا أن يقتلوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به والمعنى لا تسر الأعداء بما تنال مني من مكروه وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الذين عبدوا العجل.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما تبين له عذر أخيه هارون قال رب اغفر لي ما صنعت إلى أخي هارون يريد ما أظهر من الموجدة عليه في وقت الغضب وَلِأَخِي يعني واغفر لأخي هارون إن كان وقع منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل وَأَدْخِلْنا يعني جميعا فِي رَحْمَتِكَ يعني في سعة رحمتك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وهذا فيه دليل على الترغيب في الدعاء لأن من هو أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ يعني إلها عبدوه من دون الله سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني سينالهم عقوبة من ربهم وهوان بسبب كفرهم وعبادتهم العجل وذلك في عاجل الحياة الدنيا ثم للمفسرين في هذه الآية قولان:
﴿ إن الذين اتخذوا العجل ﴾ يعني إلهاً عبدوه من دون الله ﴿ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ﴾ يعني سينالهم عقوبة من ربهم وهوان بسبب كفرهم وعبادتهم العجل وذلك في عاجل الحياة الدنيا في للمفسرين في هذه الآية قولان :
أحدهما : أن المراد بالذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم كما أمرهم الله فتاب عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة ؟ والجواب : إن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو في نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو إسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ. فإن قلت السين في قول سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي ؟
قلت : هذا الكلام إنما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقوعه وهو التل الذي أمرهم الله به بعد ذلك وقال ابن جريج في هذه الآية إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل وهو الذي قاله ابن جرير وإن كان له وجه لكن لجميع المفسرين على الخلافة.
القول الثاني : أن المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس : هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآباؤهم هم الذين عبدوا العجل وأراد بالغضب عذاب الآخرة وبالذلة في الدنيا الجزية. وقال عطية العوفي : سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وبني قريظة من القتل والجلاء وعلى هذا القول في تقرير الآية وجهان :
الأول : أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل لك في المناقب فتقول للأبناء كذا وفعلتم كذا وإما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذلك هاهنا وصف اليهود الذين كانوا على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم اتخذوا العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم على اليهود الذين كانوا في زمنه بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا.
الوجه الثاني : أن تكون الآية من باب حذف المضاف والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم، الخ ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وقوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ يعني : وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً نجزي كل من افترى على الله كذباً أو عبد غيره وقال أبو قلابة : هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة : هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة وقال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال والمبتدع مفتر في دين الله.
﴿ والذين عملوا السيئات ﴾ يعني عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب صغير وكبير حتى الكفر فما دونه ﴿ ثم تابوا من بعدها ﴾ يعني ثم رجعوا إلى الله من بعد أعمالهم السيئة ﴿ وآمنوا ﴾ يعني وصدقوا بالله تعالى وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب ﴿ إن ربك ﴾ يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب ﴿ من بعدها ﴾ يعني من بعد توبتهم ﴿ لغفور رحيم ﴾ يعني أنه تعالى يغفر الذنوب ويرحم التائبين وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته وتقدير الآية أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله وأخلص التوبة فإن الله يغفرها له ويقبل توبته وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.
أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم كما أمرهم الله فتاب عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة؟ والجواب: إن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضبا عليهم والمراد بالذلة هو إسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ.
فإن قلت السين في قوله سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟
قلت: هذا الكلام إنما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقا لوقوعه وهو التل الذي أمرهم الله به بعد ذلك وقال ابن جريج في هذه الآية إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل وهو الذي قاله ابن جريج وإن كان له وجه لكن لجميع المفسرين على الخلافة.
القول الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: هم الذين أدركوا النبي ﷺ وآباؤهم هم الذين عبدوا العجل وأراد بالغضب عذاب الآخرة وبالذلة في الدنيا الجزية. وقال عطية العوفي: سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ وأراد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وبني قريظة من القتل والجلاء وعلى هذا القول في تقرير الآية وجهان:
الأول: أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل لك في المناقب فتقول للأبناء كذا وفعلتم كذا وإما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذلك هاهنا وصف اليهود الذين كانوا على زمن رسول الله ﷺ بأنهم اتخذوا العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم على اليهود الذين كانوا في زمنه بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا.
الوجه الثاني: أن تكون الآية من باب حذف المضاف والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم، إلخ ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ يعني: وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها نجزي كل من افترى على الله كذبا أو عبد غيره وقال أبو قلابة: هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال والمبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يعني عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب صغير وكبير حتى الكفر فما دونه ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني ثم رجعوا إلى الله من بعد أعمالهم السيئة وَآمَنُوا يعني وصدقوا بالله تعالى وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب إِنَّ رَبَّكَ يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب مِنْ بَعْدِها يعني من بعد توبتهم لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يغفر الذنوب ويرحم التائبين وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعا بفضله ورحمته وتقدير الآية أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله وأخلص التوبة فإن الله يغفرها له ويقبل توبته وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٤ الى ١٥٥]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
253
قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ يعني: سكن لأن السكوت أصله الإمساك عن الشيء ولما كان السكوت بمعنى السكون استعير في سكون الغضب لأن الغضب لا يتكلم لكنه لما كان بفورته دالّا على ما في نفس المغضب كان بمنزلة الناطق فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة السكوت عما كان متكلما به وقيل معناه ولما سكت موسى عن الغضب فهو من المقلوب كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة والقول الأول أصح لأنه قول أهل اللغة والتفسير أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني التي ألقاها قال الإمام فخر الدين:
وظاهر هذا يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء وَفِي نُسْخَتِها النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف فقد نقلت ما في الأصل إلى الفرع فعلى هذا قيل أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ، وقيل: أراد بها النسخة المكتتبة من الألواح التي أخذها موسى بعد ما تكسرت. وقال ابن عباس وعمرو بن دينار: لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت عليه في لوحين وفيهما ما في الأولى بعينها فيكون نسخها نقلها وعلى قول من قال إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بعينها بعد ما ألقاها يكون معنى وفي نسختها المكتوب فيها هُدىً وَرَحْمَةً قال ابن عباس: يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يعني للخائفين من ربهم.
قوله عز وجل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا الاختيار افتعال من لفظ الخيار يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره. والمعنى اختار موسى من قومه فحذف كلمة من وذلك سائغ في العربية لدلالة الكلام عليه. قال أصحاب الأخبار: إن موسى عليه الصلاة والسلام اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يقونا وقيل إنه لم يجد إلا ستين شيخا فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه واختلف أهل التفسير في ذلك الميقات فقيل إنه الميقات الذي كلمه فيه ربه وسأل فيه الرؤية وذلك أنه لما خرج إلى طور سيناء أخذ معه هؤلاء السبعين فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودخل موسى فيه وقال لقومه ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجدا وسمعوا الله تعالى وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل كذا لا تفعل كذا فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية. وقال السدي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا فاختار موسى من قومه سبعين رجلا ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا «لن نؤمن لك» يا موسى «حتى نرى الله جهرة» فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي. وقال محمد بن إسحاق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال السبعون فيما ذكر لي حين فعلوا ما أمرهم به وخرجوا مع موسى لميقات ربه اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا فكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجودا فسمعوا الله وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وهي مرجفة فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه يقول رب لو شئت أهلكتهم من
254
قبل وإياي، وقال ابن عباس: كان الله أمر موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فبرز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم ادعوا على موسى أنه قتل هارون. قال علي بن أبي طالب: انطلق موسى وهارون إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه، وكان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل فقال لهم موسى اختاروا من شئتم فاختاروا سبعين رجلا فلما انتهوا إليه قالوا يا هارون من قتلك قال ما قتلني أحد ولكن الله توفاني فأخذتهم الرجفة فجعل موسى يرجع يمينا وشمالا ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ الآية فأحياهم الله عز وجل وقيل إنما أخذتهم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل لا لأنهم كانوا من عبدته. قال ابن عباس: إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل وما كرهوا أن يجامعوهم عليه. قال ابن جريج فلما خرجوا ودعوا الله أماتهم ثم أحياهم: وقال مجاهد: واختار موسى قومه سبعين
رجلا لميقاتنا الميقات الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، وقال محمد بن كعب القرظي: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف فأخذتهم الرجفة فماتوا ثم أحياهم الله وقوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أصل الرجفة الاضطراب الشديد الذي يحصل معه التغيير والهلاك ولهذا اختلفوا في تلك الرجفة التي حصلت لهؤلاء هل كان معها موت أم لا فمعظم الروايات التي تقدمت أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة. وقال وهب بن منبه: لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة فاطمأنوا وسمعوا كلام الله فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ يعني موسى رَبِّ أي يا رب لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل عبادتهم العجل وَإِيَّايَ وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا رجع إليهم وما هم معه ولم يصدقوه بأنهم ماتوا فقال: رب لو شئت أهلكتهم من قبل يعني قبل خروجهم إلى الميقات وإياي معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحاب العجل العجل فقال أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني عبدة العجل وإنما أهلكوا بسبب مسألتهم الرؤية وهي قولهم أرنا الله جهرة، وهذا قول الكلبي وجماعة، وقال جماعة من أهل العلم: لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى يهلك قوما بذنوب غيرهم ولكن قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام بمعنى الجحد أي لست تفعل ذلك وهذا قول ابن الأنباري، وقال المبرد: هذا استفهام استعطاف أي لا تهلكنا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأن معناه لا تهلكنا بفعلهم فإن تلك الفتنة كانت اختبارا منك وابتلاء أضللت بها قوما فافتتنوا وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك وهو المراد من قوله:
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر أَنْتَ وَلِيُّنا يعني أنت يا ربنا ناصرنا وحافظنا وهذا يفيد الحصر أي لا وليّ لنا ولا ناصر ولا حافظ إلا أنت فَاغْفِرْ لَنا سأل موسى عليه الصلاة والسلام لنفسه ولقومه الغفران أما لنفسه فلقوله إن هي إلا فتنتك وهذا فيه إقدام على الحضرة المقدسة وأما لقومه فلقولهم أرنا الله جهرة وفي هذا إقدام على الحضرة المقدسة فلهذا السبب سأل موسى عليه الصلاة والسلام الغفران له ولقومه وَارْحَمْنا أي اشملنا برحمتك التي وسعت كل
255
قوله عز وجل :﴿ واختار قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ﴾ الاختيار افتعال من لفظ الخيار يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره. والمعنى اختار موسى من قومه فحذف كلمة من ذلك سائغ في العربية لدلالة الكلام عليه. قال أصحاب الأخبار : إن موسى عليه الصلاة والسلام اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم فتشاحوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يقونا وقيل إنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه إن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه واختلف أهل التفسير في ذلك الميقات فقيل إنه الميقات الذي كلمه فيه ربه وسأل فيه الرؤية وذلك أنه لما خرج إلى طور سيناء أخذ معه هؤلاء السبعين فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودخل موسى فيه وقال لقومه ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً وسمعوا الله تعالى وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل كذا لا تفعل كذا فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية. وقال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا ﴿ لن نؤمن لك ﴾ يا موسى ﴿ حتى نرى الله جهرة ﴾ فإنك قد كلمته فأرِناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكنهم من قبل وإياي. وقال محمد بن إسحاق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال السبعون فيما ذكر لي حين فعلوا ما أمرهم به وخرجوا مع موسى لميقات ربه اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عموم الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا فكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجوداً فسمعوا الله وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ﴾ وهي مرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه يقول رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، وقال ابن عباس : كان الله أمر موسى أن يختار من قومه سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، وقيل : إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم ادعوا على موسى أنه قتل هارون. قال علي بن أبي طالب : انطلق موسى وهارون إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه، وكان هارون حسن الخلق محبباً في بني إسرائيل فقال لهم موسى اختاروا من شئتم فاختاروا سبعين رجلاً فلما انتهوا إليه قالوا يا هارون من قتلك قال ما قتلني أحد ولكن الله توفاني فأخذتهم الرجفة فجعل موسى يرجع يميناً وشمالاً ويقول ﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾ الآية فأحياهم الله عز وجل وقيل إنما أخذتهم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل لا لأنهم كانوا من عبدته. قال ابن عباس : إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل وما كرهوا أن يجامعوهم عليه. قال ابن جريج فلما خرجوا ودعوا الله أماتهم ثم أحياهم : وقال مجاهد : واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا الميقات الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، وقال محمد بن كعب القرظي : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف فأخذتهم الرجفة فماتوا ثم أحياهم الله وقوله تعالى :﴿ فلما أخذتهم الرجفة ﴾ أصل الرجفة الاضطراب الشديد الذي يحصل معه التغيير والهلاك ولهذا اختلفوا في تلك الرجفة التي حصلت لهؤلاء هل كان معها موت أم لا فمعظم الروايات التي تقدمت أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة. وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة فاطمأنوا وسمعوا كلام الله فذلك قوله تعالى :﴿ فلما أخذتهم الرجفة ﴾ ﴿ قال ﴾ يعني موسى ﴿ رب ﴾ أي يا رب ﴿ لو شئت أهلكتهم من قبل ﴾ يعني من قبل عبادتهم العجل ﴿ وإياي ﴾ وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا رجع إليهم وما هم معه ولم يصدقوه بأنهم ماتوا فقال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل يعني قبل خروجهم إلى الميقات وإياي معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني ﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحاب العجل العجل فقال أتلهكنا بما فعل السفهاء منا يعني عبدة العجل وإنما أهلكوا بسبب مسألتهم الرؤية وهي قولهم أرنا الله جهرة، وهذا قول الكلبي وجماعة، وقال جماعة من أهل العلم : لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم ولكن قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام بمعنى الجحد أي لست تفعل ذلك وهذا قول ابن الأنباري، وقال المبرد : هذا استفهام استعطاف أي لا تهلكنا ﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ قال الواحدي : الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأن معناه لا تهلكنا بفعلهم فإن تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا وهديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك وهو المراد من قوله :﴿ تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ قال الواحدي : وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر ﴿ أنت وليّنا ﴾ يعني أنت يا ربنا ناصرنا وحافظنا وهذا يفيد الحصر أي لا وليّ لنا ولا ناصر ولا حافظ إلا أنت ﴿ فاغفر لنا ﴾ سأل موسى عليه الصلاة والسلام لنفسه ولقومه الغفران أما لنفسه فلقوله إن هي إلا فتنتك وهذا فيه إقدام على الحضرة المقدسة وأما لقومه فلقولهم أرنا الله جهرة وفي هذا إقدام على الحضرة المقدسة فلهذا السبب سأل موسى عليه الصلاة والسلام الغفران له ولقومه ﴿ وارحمنا ﴾ أي اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ يعني أن كل من سواك إنما يغفر الذنب طلباً للثناء الجميل أو لدفع ضرر وأما أنت يا رب فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم فأنت خير الغافرين.
شيء وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ يعني أن كل من سواك إنما يغفر الذنب طلبا للثناء الجميل أو لدفع ضرر وأما أنت يا رب فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم فأنت خير الغافرين.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ يعني قال موسى في دعائه واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي واجعلنا ممن كتبت له حسنة وهي ثواب الأعمال الصالحة وفي الآخرة أي واكتب لنا في الآخرة مغفرة لذنوبنا إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس معناه إنّا تبنا إليك، وهذا قول جميع المفسرين وأصل الهود الرجوع برفق قال بعضهم وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم فلما نسخت شريعتهم صار اسم ذم وهو لازم لهم قالَ يعني قال الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ يعني من خلقي وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي ومن تصرف في خالص حقه فليس لأحد عليه اعتراض وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يعني أن رحمته سبحانه وتعالى عمّت خلقه كلهم، وقال بعضهم: هذا من العام أريد به الخاص فرحمه الله عمت البر والفاجر في الدنيا وهي للمؤمنين خاصة في الآخرة وقيل هي للمؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة ولكن الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن لسعة رحمة الله له فإذا كان يوم القيامة وجبت للمؤمنين خاصة قال جماعة من المفسرين لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء تطاول إبليس إليها وقال أنا من ذلك الشيء فنزعها الله تعالى من إبليس فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أيس إبليس منها، وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية وقال نوف البكالي لما اختار موسى من قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى اجعل لك الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة لا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم يقرؤها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال موسى ذلك لقومه فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ولا نستطيع أن نقرأ التوراة على ظهر قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا قال الله تعالى فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ- إلى قوله- الْمُفْلِحُونَ فجعلها الله تعالى لهذه الأمة، فقال موسى: رب اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم، قال: اجعلني منهم قال إنك لن تدركهم قال موسى: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فرضي موسى، أما التفسير فقوله الذين يتقون يعني الشرك وسائر ما نهوا عنه لأن جميع التكاليف محصورة في نوعين:
الأول: التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها ولا يقربها وإليه الإشارة بقوله تعالى: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ والثاني الأفعال المأمور بها وتلك الأعمال بدنية وقلبية أما البدنية فإنها الإشارة بقوله ويؤتون الزكاة وهذه الآية وإن كانت في حق المال لكن يختص البدن بإخراجها والأعمال القلبية كالإيمان
256
والمعرفة وإليها الإشارة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ.
قوله عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية وجهين:
أحدهما: إن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وفي قوله والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
الوجه الثاني: إن المراد من لحق من بني إسرائيل زمان رسول الله ﷺ فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه، قال: وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله ﷺ في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة. وجمهور المفسرين على خلاف ذلك فإنهم قالوا: المراد بهم جميع أمته الذين آمنوا به واتبعوه سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم وأجمع المفسرون على أن المراد بالرسول محمد ﷺ وصفه بكونه رسولا لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه المبلغ رسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ثم وصفه بكونه نبيا.
وهذا أيضا من أعلى المراتب وأشرفها وذلك يدل على أنه رفيع الدرجات عند الله المخبر عنه ثم وصفه بالأمي. قال ابن عباس: هو نبيكم ﷺ كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الزجاج في معنى الأمي: هو الذي على صفة أمة العرب لأن العرب أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فالنبي ﷺ كان كذلك فلهذا وصفه الله تعالى بكونه أميا وصح في الحديث أنه ﷺ قال «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» قال أهل التحقيق: وكونه ﷺ كان أميا من أكبر معجزاته وأعظمها، وبيانه أنه ﷺ أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير فدل ذلك على معجزته وهو قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وقيل: إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهما فيه لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره فلما كان أميا وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن الكتابة تعين الإنسان على الاشتغال بالعلوم وتحصيلها ثم إنه أتى بهذه الشريعة الشريفة والآداب الحسنة مع علوم كثيرة وحقائق دقيقة من غير مطالعة كتب ولا اشتغال على أحد فدل ذلك على كونه معجزة له ﷺ وقيل في معنى الأمي: الذي هو منسوب إلى أمه كأنه لم يخرج بعد عما ولدته عليه وقيل سمي أميا لأنه منسوب إلى أم القرى وهي مكة وقوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يعني يجيدون صفته ونعته ونبوته مكتوبا عندهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم له وخوفا على زوال رئاستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رئاستهم ووقعوا في الذل والهوان (خ) عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال: أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
((شرح غريب ألفاظ الحديث)) الفظ: السيئ الخلق، والغليظ: الجافي القاسي، وقوله سخاب: بالسين والصاد وهو كثير الصياح في
257
قوله عز وجل :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية وجهين :
أحدهما : إن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث غلى الخلق وفي قوله والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
الوجه الثاني : إن المراد من لحق من بني إسرائيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه، قال : وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة. وجمهور المفسرين على خلاف ذلك فإنهم قالوا : المراد بهم جميع أمته الذين آمنوا به واتبعوه سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم وأجمع المفسرون على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه رسولاً لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه المبلغ رسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ثم وصفه بكونه نبياً.
وهذا أيضاً من أعلى المراتب وأشرفها وذلك يدل على أنه رفيع الدرجات عند الله المخبر عنه ثم وصفه بالأمي. قال ابن عباس : هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الزجاج في معنى الأمي : هو الذي على صفة أمة العرب لأن العرب أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك فلهذا وصفه الله تعالى بكونه أمياً وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » قال أهل التحقيق : وكونه صلى الله عليه وسلم كان أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها، وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير فدل ذلك على معجزته وهو قوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ وقيل : إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهماً فيه لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره فلما كان أمياً وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن الكتابة تعين الإنسان على الاشتغال بالعلوم وتحصيلها ثم إنه أتى بهذه الشريعة الشريفة والآداب الحسنة مع علوم كثيرة وحقائق دقيقة من غير مطالعة كتب ولا اشتغال على أحد فدل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم وقيل في معنى الأمي : الذي هو منسوب إلى أمه كأنه لم يخرج بعد عما ولدته عليه وقيل سمي أمياً لأنه منسوب إلى أم القرى وهي مكة وقوله تعالى :﴿ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ يعني يجيدون صفته ونعته ونبوته مكتوباً عندهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان ( خ ) عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال : أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ﴾ وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظِّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا بدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
( شرح غريب ألفاظ الحديث )
الفظ : السيئ الخلق، والغليظ : الجافي القاسي، وقوله سخاب : بالسين والصاد وهو كثير الصياح في الأسواق، والاعوجاج : ضد الاستقامة وأراد بالملة العوجاء : الكفر والقلب الأغلف : الذي لا يصل إليه شيء ينفعه شبهة بالأغلف كأنه في غلاف. وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار قال : إني أجد في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد يأتزرون على أنصافهم ويغضون أطرافهم صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء مناديهم ينادي في جوف السماء لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام.
وقوله تعالى :﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ يعني بالإيمان وتوحيد الله ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ يعني عن الشرك بالله، وقيل : المعروف ما عرف في الشرعية والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام ﴿ ويحل لهم الطيبات ﴾ يعني بذلك ما كان محرماً عليهم في التوراة من الطيبات وهو لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر، وقيل : هو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، وقيل : هي المستلذات التي تستطيبها الأنفس ﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الميتة والدم ولحم الخنزير، وقيل : هو كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس، فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل ﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ يعني ثقلهم وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله، والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام فكانت تلك الشدائد ﴿ والأغلال التي كانت عليهم ﴾ يعني ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم في الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثواب بالمقراض وتعيين القصاص في القاتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وأن صلاتهم لا تجوز إلا في إلا في الكنائس وتتبع العروق في اللحم وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال مجازاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل، وقيل : شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام نسخ ذلك كله ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ﴿ فالذين آمنوا به ﴾ يعني بمحمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وعزروه ﴾ يعني وقّروه وعظموه، وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه وهو قوله ﴿ ونصروه ﴾ يعني على أعدائه ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ يعني القرآن سمي القرآن نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج به من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ يعني هم الناجون الفائزون بالهداية.
الأسواق، والاعوجاج: ضد الاستقامة وأراد بالملة العوجاء: الكفر والقلب الأغلف: الذي لا يصل إليه شيء ينفعه شبهه بالأغلف كأنه في غلاف. وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار قال: إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد يأتزرون على أنصافهم ويغضون أطرافهم صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء مناديهم ينادي في جوف السماء لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام.
وقوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني بالإيمان وتوحيد الله وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك بالله، وقيل: المعروف ما عرف في الشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ يعني بذلك ما كان محرما عليهم في التوراة من الطيبات وهو لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر، وقيل: هو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، وقيل: هي المستلذات التي تستطيبها الأنفس وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الميتة والدم ولحم الخنزير، وقيل: هو كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس، فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ يعني ثقلهم وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله، والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام فكانت تلك الشدائد وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ يعني ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم في الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثوب بالمقراض وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وتتبع العروق في اللحم وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال مجازا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل، وقيل: شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام نسخ ذلك كله ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: بعثت بالحنيفية السهلة السمحة فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني بمحمد عليه الصلاة والسلام وَعَزَّرُوهُ يعني وقّروه وعظموه، وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبي ﷺ تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه وهو قوله وَنَصَرُوهُ يعني على أعدائه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ يعني القرآن سمي القرآن نورا لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج به من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني هم الناجون الفائزون بالهداية.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٨ الى ١٥٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الخطاب للنبي ﷺ أي قل يا محمد للناس إني رسول الله إليكم جميعا لا إلى بعضكم دون بعض ففي الآية دليل على عموم رسالته إلى كافة الخلق، لأن قوله يا أيها الناس خطاب عام يدخل فيه جميع الناس ثم أمره الله عز وجل بأن يقول إني رسول الله إليكم جميعا، وهذا
258
يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس (ق) عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة» وفي رواية «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وقوله في الرواية الأولى وبعثت إلى كل أحمر وأسود قيل أراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب وقيل أراد بالأحمر الإنس وبالأسود الجن فعلى هذا تكون رسالته ﷺ عامة إلى كافة الخلق من الإنس والجن.
(م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال «فضلت على الأنبياء بستة أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون».
وقوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما أمر الله عز وجل رسوله محمدا بأن يقول «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا» أردفه بما يدل على صحة دعواه: يعني أن الذي له ملك السموات والأرض وهو مدبرهما ومالك أمرهما هو الذي أرسلني إليكم وأمرني بأن أقول لكم إني رسول الله إليكم جميعا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وصف الله نفسه بالإلهية وأنه لا شريك له فيها وأنه القادر على إحياء خلقه وإماتتهم ومن كان كذلك فهو القادر على إرسال الرسل إلى خلقه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما أمر الله رسوله محمدا ﷺ بأن يقول للناس إني رسول الله إليكم جميعا أمر الله جميع خلقه بالإيمان به ورسوله وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عنه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله فقال فآمنوا بالله ورسوله ثم وصفه الله تعالى فقال النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ تقدم معناهما الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ قال قتادة: يعني آياته وهو القرآن، وقال مجاهد والسدي: أراد بكلماته عيسى ابن مريم لأنه خلق بقوله كن فكن، وقيل: هو على العموم يعني يؤمن بجميع كلمات الله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ يعني واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه وقيل: المتابعة على قسمين: متابعة في الأقوال ومتابعة في الأفعال.
أما المتابعة في الأقوال فبأن يتمثل التابع جميع ما أمره به المتبوع على طريق الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وأما المتابعة في الأفعال فبأن يقتدي به في جميع أفعاله وآدابه إلا ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت بالدليل أنه من خصائصه فلا متابعة فيه وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني لكي تهتدوا وترشدوا وتصيبوا الحق والصواب في متابعتكم إياه.
قوله عز وجل: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني من بني إسرائيل أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني يهتدون بالحق ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعني وبالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون ويتصفون.
واختلفوا في هؤلاء من هم فقيل هم الذين أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وآمنوا بمحمد ﷺ والقرآن واعترض على هذا بأنهم كانوا قليلين ولفظ الأمة يقتضي الكثرة.
وأجيب عنه بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله إن إبراهيم كان أمة وقيل هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام قبل التحريف والتبديل ودعوا
259
قوله عز وجل :﴿ ومن قوم موسى ﴾ يعني من بني إسرائيل ﴿ أمة ﴾ أي جماعة ﴿ يهدون بالحق ﴾ يعني يهتدون بالحق ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه ﴿ وبه يعدلون ﴾ يعني وبالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون ويتصفون.
واختلفوا في هؤلاء من هم فقيل هم الذين أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واعترض على هذا بأنهم كانوا قليلين ولفظ الأمة يقتضي الكثرة.
وأجيب عنه بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله إن إبراهيم كان أمة وقيل هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام قبل التحريف والتبديل ودعوا الناس إليه. وقال السدي وابن جريج وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وأن يبعدهم عنهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج قال ابن عباس : ساروا في السرب سنة ونصفاً رواه الطبري. وحكى البغوي عن الكلبي والضحاك والربيع قالوا : هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصحون بالنهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق.
وذكر لنا أن جبريل ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء به فكلمهم فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا، قالوا هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم موسى وأقرأهم عشر سور من القرآن نزلت عليه بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وهذه الحكاية ضعيفة من وجوه :
الأول : قولهم إن أحداً منا لا يصل إليهم وإذا كان كذلك فمن ذا الذي أوصل خبرهم إلينا.
الوجه الثاني : قولهم إن جبريل ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء به وهذا لم يرد به نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث ولا يلتفت إلى قول الإخباريين والقصاص في ذلك.
الوجه الثالث : قولهم إنهم بلغوا النبي صلى الله عليه والسلام موسى وقد صح في حديث المعراج أنه سلم عليه في السماء السادسة وأيضاً قولهم وأقرأهم عشر سور وقد نزل عليه بمكة أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضيتها فإذا ثبت بما ذكرناه بطلان هذه الرواية فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه والله أعلم بمراده.
الناس إليه. وقال السدي وابن جريج وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وأن يبعدهم عنم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفا رواه الطبري. وحكى البغوي عن الكلبي والضحاك والربيع قالوا: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصحون بالنهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق.
وذكر لنا أن جبريل ذهب بالنبي ﷺ ليلة الإسراء به فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟
قالوا: لا، قالوا هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فرد رسول الله ﷺ على قوم موسى وأقرأهم عشر سور من القرآن نزلت عليه بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وهذه الحكاية ضعيفة من وجوه:
الأول: قولهم إن أحدا منا لا يصل إليهم وإذا كان كذلك فمن ذا الذي أوصل خبرهم إلينا.
الوجه الثاني: قولهم إن جبريل ذهب بالنبي ﷺ ليلة الإسراء به وهذا لم يرد به نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث ولا يلتفت إلى قول الأخباريين والقصاص في ذلك.
الوجه الثالث: قولهم إنهم بلغوا النبي ﷺ موسى وقد صح في حديث المعراج أنه سلم عليه في السماء السادسة وأيضا قولهم وأقرأهم عشر سور وقد نزل عليه بمكة أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضيتها فإذا ثبت بما ذكرناه بطلان هذه الرواية فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله ﷺ كعبد الله بن سلام وأصحابه والله أعلم بمراده.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ يعني وفرقنا بني إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً يعني من أولاد يعقوب لأن يعقوب هو إسرائيل وأولاده الأسباط وكانوا اثني عشر ولدا أُمَماً يعني جماعات وقبائل وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ يعني في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ يعني: فانفجرت. وقيل: عرقت وهو الانبجاس مِنْهُ أي من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً يعني: لكل سبط عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ يعني لا يدخل سبط على سبط في مشربهم وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ يعني في التيه يقيهم حر الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ هو الترنجبين وَالسَّلْوى جنس من الطير جعل الله ذلك طعاما لهم في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
وقوله تعالى :﴿ وإذ قيل لهم ﴾ يعني : واذكر يا محمد لقومك إذ قيل لهم يعني لبني إسرائيل ﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ يعني بيت المقدس، وقال في سورة البقرة : ادخلوا هذه القرية، ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه ﴿ وكلوا منها حيث شئتم ﴾ يعني وكلوا من ثمار القرية وزروعها وحبوبها وبقولها حيث شئتم وأين شئتم. وقال في البقرة : فكلوا، بالفاء وهو بالواو والفرق بينهما أن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فيحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا وإنما قال في سورة البقرة : رغداً، ولم يقله هنا لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل فأما الأكل مع السكنى والاستمرار فليس كذلك فحسن دخول لفظة رغداً هناك بخلافه هنا ﴿ وقولوا حطة ﴾ أي حط عنا ذنوبنا ﴿ وادخلوا الباب سجداً ﴾ وقال في البقرة عكس هذا اللفظ ولا منافاة في ذلك لأن المقصود من ذلك تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بسبب التقديم والتأخير ﴿ نغفر لكم خطيئاتكم ﴾ يعني نغفر لكم ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها.
وإنما قال هنا خطيئاتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع ﴿ سنزيد المحسنين ﴾ وقال في سورة البقرة : وسنزيد، بالواو ومعناه أنه قد وعد المسيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بهذا المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له : سنزيد المحسنين.
﴿ فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ﴾ يعني فغير الذين ظلموا أنفسهم بمخالفة أمرنا من بني إسرائيل فقالوا قولاً غير الذي قيل لهم وأمروا به وذلك أنهم أمروا أن يقول حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم وتغييرهم ﴿ فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء ﴾ يعني بعثنا عليهم عذاباً نم السماء أهلكهم، ولا منافاة بين قوله تعالى هنا أرسلنا وبين قوله في سورة البقرة أنزلنا لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل، وقيل : بينهما فرق وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بذلك فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلاً ثم أرسله عليهم كثيراً ﴿ بما كانوا يظلمون ﴾ يعني أن إرسال العذاب عليهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم أمر الله. وقال في البقرة : بما كانوا يفسقون، والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى وقد تقدمت هذه القصة أيضاً في تفسير سورة البقرة.
رَزَقْناكُمْ أي وقلنا كلوا وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ في الكلام حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فأجمعوا ذلك وسئموه، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غيره لأن المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصيا بفعله ذلك فلهذا قال: وما ظلمونا يعني وما أدخلوا علينا في ملكنا وسلطاننا نقصا بمسألتهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون يعني بمخالفتهم ما أمروا به وقد تقدم بسط الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.
وقوله تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ يعني: واذكر يا محمد لقومك إذ قيل لهم يعني لبني إسرائيل اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني بيت المقدس، وقال في سورة البقرة: ادخلوا هذه القرية، ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ يعني وكلوا من ثمار القرية وزروعها وحبوبها وبقولها حيث شئتم وأين شئتم. وقال في البقرة: فكلوا، بالفاء وهنا بالواو والفرق بينهما أن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فيحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلا متى شاؤوا وإنما قال في سورة البقرة: رغدا، ولم يقله هنا لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل فأما الأكل مع السكنى والاستمرار فليس كذلك فحسن دخول لفظة رغدا هناك بخلافه هنا وَقُولُوا حِطَّةٌ أي حط عنا ذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وقال في البقرة عكس هذا اللفظ ولا منافاة في ذلك لأن المقصود من ذلك تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بسبب التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ يعني نغفر لكم ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها.
وإنما قال هنا خطيئاتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وقال في سورة البقرة: وسنزيد، بالواو ومعناه أنه قد وعد المسيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بهذا المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: سنزيد المحسنين فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يعني فغير الذين ظلموا أنفسهم بمخالفة أمرنا من بني إسرائيل فقالوا قولا غير الذي قيل لهم وأمروا به وذلك أنهم أمروا أن يقول حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم وتغييرهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ يعني بعثنا عليهم عذابا من السماء أهلكهم، ولا منافاة بين قوله تعالى هنا أرسلنا وبين قوله في سورة البقرة أنزلنا لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل، وقيل: بينهما فرق وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بذلك فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلا ثم أرسله عليهم كثيرا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ يعني أن إرسال العذاب عليهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم أمر الله. وقال في البقرة: بما كانوا يفسقون، والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى وقد تقدمت هذه القصة أيضا في تفسير سورة البقرة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
قوله عز وجل: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الخطاب للنبي ﷺ أي: سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك عن حال أهل القرية وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد علم حال أهل هذه القرية بوحي الله عز وجل إليه وإخباره إياهم بحالهم وإنما المقصود
261
بهذا السؤال تقريع اليهود على إقدامهم على الكفر والمعاصي قديما وأن إصرارهم على الكفر بمحمد ﷺ وإنكار نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث منهم في زمانه بل إصرارهم على الكفر كان حاصلا لأسلافهم في قديم الزمان. وفي الإخبار بهذه القصة معجزة للنبي ﷺ لأنه كان أميا لا يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأولين، ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وإنهم بسبب مخالفتهم أمر الله عز وجل مسخوا قردة وخنازير واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس «١»: هي قرية بين مصر والمدينة والمغرب. وقيل بين مدين والطور على شاطئ البحر. وقال الزهري: هي طبرية الشام. وفي رواية عن ابن عباس قال: هي مدين وقال وهب: هي ما بين مدين وعيوني يعني القرية التي كانت على ساحل البحر وقريبة منه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعني يتجاوزون حد الله فيه، وما أمرهم به من تعظيمه فخالفوا أمر الله وصادوا فيه السمك إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً يعني ظاهرة على الماء كثيرة وقال الضحاك تأتيهم متتابعة يتبع بعضها بعضا وقيل كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش البيض السمان وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ يعني الحيتان كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ يعني مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم ونحن أعلم بحالهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أن ذلك الابتداء والاختبار بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله وما أمروا به. قال أهل التفسير: إن اليهود أمروا يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وهو أن الله أمرهم بتعظيمه ونهاهم عن العمل فيه وحرم عليهم فيه الصيد، فلما أراد أن يبتليهم كانت الحيتان تظهر لهم في يوم السبت ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل فلما ابتلوا به وسوس إليهم الشيطان وقال إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل فاصطادوا وقيل إنه وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ فاتخذوا حياضا على ساحل البحر وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت فإذا كان يوم الأحد خذوها ففعلوا ذلك زمانا ثم إنهم تجرؤوا على السبت وقالوا: ما نرى السبت إلا قد حل لنا فاصطادوا فيه وأكلوا وباعوا وصار أهل القرية أحزابا ثلاثة وكانوا نحوا من سبعين ألفا فثلث نهوا عن الاصطياد وثلث سكتوا ولم ينهوا وقالوا للناهين لم تعظمون قوما الله مهلكهم وثلث هم أصحاب الخطيئة الذين خالفوا أمر الله واصطادوا وأكلوا وباعوا فلما لم ينتهوا عما هم فيه من المعصية قال الناهون لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار للناهين باب يدخلون ويخرجون منه وللعاصين باب، ولعنهم داود عليه الصلاة والسلام وكانوا في زمنه فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لشأنا لعل الخمر قد غلبتهم فعلوا على الجدار الذي بينهم فإذا هم قد مسخوا قردة ففتحوا عليهم الباب ودخلوا إليهم فصار القردة يعرفون أنسابهم من الناس ولم يعرف الناس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتي أنسابها من الناس فتشم ثيابها فيقول لهم أهلوهم ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم فنجا الناهون وهلك سائرهم فذلك قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ واختلفوا في القائلين هذه المقالة فقال بعض المفسرين إن أهل القرية افترقوا ثلاث فرق فرقة اعتدت وأصابت الخطيئة وفرقة نهتهم عن ذلك الفعل وفرقة أمسكت عن الصيد وسكتت عن موعظة المعتدين. وقالوا للناهين: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا، يعني أنهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير متعظين ولا منزجرين فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم: معذرة إلى ربكم يعني أن موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا فموعظتنا لهؤلاء عذر لنا عند الله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي:
وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد وقال بعضهم: إن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة نهت وزجرت عن السوء
(١) قوله هي قرية بين مصر والمدينة والمغرب في نسخة هي إيلة بين مصر والمدينة والعرب تسمى المدينة قرية وقال الزهري إلخ اهـ.
262
﴿ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ﴾ واختلفوا في القائلين هذه المقالة فقال بعض المفسرين إن أهل القرية افترقوا ثلاث فرق اعتدت وأصابت الخطيئة وفرقة نهتهم عن ذلك الفعل وفرقة أمسكت عن الصيد وسكتت عن موعظة المعتدين. وقالوا للناهين : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً، يعني أنهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير متعظين ولا منزجرين فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم. معذرة إلى ربكم يعني أن موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا فموعظتنا لهؤلاء عذر لنا عند الله ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ أي : وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد وقال بعضهم : إن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة نهت وزجرت عن السوء وفرقة عملت بالسوء فعلى هذا يكون الذين قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم الفرقة المعتدية وذلك أن الفرقة الناهية قالوا للفرقة المعتدية انتهوا قبل أن ينزل بكم عذاب شديد إن لم تنتهوا عما أنتم فيه فقالت لهم الفرقة المعتدية : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ والمعنى : لم تعظونا وقد علمتم أن الله مهلكنا أو منزل بنا عذابه، والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين لكان قولهم معذرة إلى ربكم خطاباً من الناهية للمعتدية.
وفرقة عملت بالسوء فعلى هذا يكون الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم الفرقة المعتدية وذلك أن الفرقة الناهية قالوا للفرقة المعتدية انتهوا قبل أن ينزل بكم عذاب شديد إن لم تنتهوا عما أنتم فيه فقالت لهم الفرقة المعتدية: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ والمعنى: لم تعظونا وقد علمتم أن الله مهلكنا أو منزل بنا عذابه، والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين لكان قولهم معذرة إلى ربكم خطابا من الناهية للمعتدية.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
وقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما تركوا ما وعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الفرقة الناهية وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني الفرقة المعتدية العاصية بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وجميع من البأس وهو الشدة بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدر ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم قال فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فكسانيهما وقال: نجت الساكتة وقال يمان ابن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون والذين قالوا معذرة وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر وقوله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قول ابن عباس:
أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان والمعنى فلما عتوا عما نهوا يعني عن ترك ما نهوا عنه وتمردوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ يعني صاغرين مبعدين من كل خير.
قال قتادة: لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء. وقال ابن عباس: جعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شبان القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير، قيل إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر الناس إليهم ثم هلكوا جميعا.
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ الخطاب فيه للنبي ﷺ ومعنى تأذن أذن والأذان الإعلام يعني أعلم ربك وقيل معناه قال ربك، وقيل: حكم ربك وقيل آلى ربك بمعنى أقسم أجزما ربك لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ اللام في قوله ليبعثن جواب القسم لأن قوله وإذ تأذن ربك جار مجرى القسم لكونه وجواب القسم ليبعثن عليهم واختلفوا في الضمير في عليهم إلى من يرجع فقيل يقتضي أن يكون راجعا إلى قوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين لكن قد علم أن الذين مسخوا لم يبق منهم أحد فيحتمل أن يكون المراد الذين بقوا منهم فألحق الذل بهم وقيل بأن المراد سائر اليهود من بعدهم لأن الذين بقوا من أهل القرية كانوا صالحين والذي بعثه الله على اليهود هو بختنصر وسخاريب وملوك الروم فساموهم سوء العذاب. وقيل: المراد بقوله ليبعثن عليهم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله ﷺ والذي بعثه الله عليهم وهو رسول الله ﷺ وأمته فألزم من لم يسلم منهم الصّغار والذلة والهوان والجزية لازمة لليهود إلى يوم القيامة وأورد على هذا بأن في آخر الزمان يكون لهم عزة وذلك عند خروج
وقوله تعالى :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه ﴾ قول ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان والمعنى فلما عتوا عما نهوا يعني عن ترك ما نهوا عنه وتمردوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله ﴿ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ يعني صاغرين مبعدين من كل خير.
قال قتادة : لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعد ما كانوا رجالاً ونساء. وقال ابن عباس : جعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شبان القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير، قيل إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر الناس إليهم ثم هلكوا جميعاً.
قوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربك ﴾ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعنى تأذن أذن والأذن الإعلام يعني أعلم ربك وقيل معناه قال ربك، وقيل : حكم ربك وقيل آلى ربك بمعنى أقسم أجزما ربك ﴿ ليبعثن عليهم ﴾ اللام في قوله ليبعثن جواب القسم لأن قوله وإذ تأذن ربك جارٍ مجرى القسم لكونه وجواب القسم ليبعثن عليهم واختلفوا في الضمير في عليهم إلى من يرجع فقيل يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين لكن قد علم أن الذين مسخوا لم يبق منهم أحد فيحتمل أن يكون المراد الذين بقوا منهم فألحق الذل بهم وقيل بأن المراد سائر اليهود من بعدهم لأن الذين بقوا من أهل القرية كانوا صالحين والذي بعثه الله على اليهود هو بختنصر وسخاريب وملوك الروم فساموهم سوء العذاب. وقيل : المراد بقوله ليبعثن عليهم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فألزم من لم يسلم منهم الصَّغار والذلة والهوان والجزية لازمة لليهود إلى يوم القيامة وأورد على هذا بأن في آخر الزمان يكون لهم عزة وذلك عند خروج الدجال لأن اليهود أتباعه وأشياعه وأجيب عنه بأن ذلك العز الذي يحصل لهم في نفسه غاية الذلة لأنهم يدعون إلهية الدجال فيزدادون كفراً على كفرهم فإذا هلك الدجال أهلكهم المسلمون وقتلوهم جميعاً فذلك هو الذلة والصغار المشار إليه بقوله تعالى ليبعثن عليهم ﴿ إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ وهذا نص في أن العذاب إنما يحصل لهم في الدنيا مستمراً عليهم إلى يوم القيامة ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة ؛ كان عذابهم أشد وأعظم وهو قوله تعالى ﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ يعني لمن أقام على الكفر ففيه دليل على أنه يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة، ثم ختم الآية بقوله تعالى :﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ يعني لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام.
قوله تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمماً ﴾ يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلداً وفيه من اليهود طائفة وجماعة، قال ابن عباس : كل أرض يدخلها قوم من اليهود ﴿ منهم الصالحون ﴾ يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى عليه الصلاة والسلام وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره، وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد : إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل.
وقوله تعالى :﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا ﴿ وبلوناهم ﴾ يعني جميعاً الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان ﴿ بالحسنات ﴾ يعني الخصب والعافية ﴿ والسيئات ﴾ يعني الجدب والشدة ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني : كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكراً فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها.
الدجال لأن اليهود أتباعه وأشياعه وأجيب عنه بأن ذلك العز الذي يحصل لهم هو في نفسه غاية الذلة لأنهم يدعون إلهية الدجال فيزدادون كفرا على كفرهم فإذا هلك الدجال أهلكهم المسلمون وقتلوهم جميعا فذلك هو الذلة والصغار المشار إليه بقوله تعالى ليبعثن عليهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهذا نص في أن العذاب إنما يحصل لهم في الدنيا مستمرا عليهم إلى يوم القيامة ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة كان عذابهم أشد وأعظم وهو قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ يعني لمن أقام على الكفر ففيه دليل على أنه يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمرا عليهم في الدنيا والآخرة، ثم ختم الآية بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام.
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلدا إلا وفيه من اليهود طائفة وجماعة، قال ابن عباس: كل أرض يدخلها قوم من اليهود مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى عليه الصلاة والسلام وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره، وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد: إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي ﷺ من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا وَبَلَوْناهُمْ يعني جميعا الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان بِالْحَسَناتِ يعني الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ يعني الجدب والشدة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكرا فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هؤلاء الذين وصفناهم قوله تعالى: خَلْفٌ يعني خلف سوء يعني حدث من بعدهم وتبدل منهم بدل سوء يقال منه هو خلّف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها فأكثر ما يقال في المدح بفتح اللام وفي الذم بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت في المدح:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
فسكن اللام في قوله وخلفنا وهو يريد المدح وقال لبيد في الذم:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ففتح اللام وهو يريد الذم وأصله من الفساد. يقال: خلف اللبن إذا فسد وتغير في السقاء ويقال للرديء من القول: خلف وخلف الشيء تغيره، ومنه خلوف فم الصائم والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم
خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله وَرِثُوا الْكِتابَ يعني انتقل إليهم الكتاب عن آبائهم والمراد بالكتاب التوراة يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير والمعنى أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام على تبديل الكلام وتغييره وذلك الذي يأخذونه من حطام الدنيا هو الشيء التافه الخسيس الحقير لأن الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنها حرام ثم إنهم مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم يصرون عليه وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يعني ذنوبنا فيتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة عن شداد بن أوس أن رسول الله ﷺ قال «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أخرجه الترمذي وقال في قوله عليه الصلاة والسلام دان نفسه يعني حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة وموضع الاستشهاد من الحديث على الآية، قوله وتمنى على الله الأماني لأن اليهود كانوا يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا وهذا هو التمني بعينه قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، والمعنى أنهم إذا أتاهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه.
قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم فيقال له ما بالك ترتشي فيقول:
سيغفر لي فيطعن عليه الآخرون فإذا مات أو نزع من الحكم وجعل مكانه آخر فمن كان يطعن عليه ارتشى أيضا يقول الله عز وجل وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ يعني ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم العهود والمواثيق في الكتاب وهو التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني إنّا أخذنا عليهم الميثاق على أن يقولوا الحق فقالوا الباطل وخالفوا أمر الله وهو قولهم سيغفر لنا والمراد من هذا التوبيخ والتقريع لليهود في ادعائهم على الله الباطل قال ابن عباس: هو ما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها وَدَرَسُوا ما فِيهِ يعني ما في الكتاب والمعنى أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في الكتاب لأنهم دارسون له لم يتركوه ولكن درسوه وضيعوا العمل به وَالدَّارُ الْآخِرَةُ يعني وما في الدار الآخرة مما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته العاملين بما أمرهم الله به من كتابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم يرتشوا في الأحكام خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يتقون الله ويخافون عقابه أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أن ما في الآخرة خير وأبقى لأنها دار المتقين.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٠ الى ١٧٢]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وأمسكت به والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.
نزلت هذه الآية في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم تمسكوا بالكتاب الأول ولم يحرفوه ولم يغيروه فأداهم ذلك التمسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيها
265
على عظم قدرها وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله وبرسوله إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ قوله عز وجل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ يعني واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل كأنه ظلة يعني جعلناه فوقهم كالظلة والظلة كل ما علا الإنسان كالسقف ونحوه وَظَنُّوا أي علموا وأيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ يعني الجبل خُذُوا يعني وقلنا لهم خذوا وإضمار القول كثير في القرآن وكلام العرب ما آتَيْناكُمْ يعني التوراة بِقُوَّةٍ يعني بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ يعني واعملوا بما فيه من الأحكام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال أصحاب الأخبار: إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عز وجل جبريل فرفع جبلا عظيما حتى صار على رؤوسهم كالظلة فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خرّوا ساجدين فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا أن يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الآية عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآية قال سئل عنها رسول الله ﷺ فقال «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله ﷺ إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا. قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي ﷺ بنحوه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال رسول الله ﷺ فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال أو لم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحد ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأما تفسير الآية فقوله سبحانه وتعالى: وإذ أخذ ربك، يعني واذكر يا محمد إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم يعني من ظهور بني آدم وإنما لم يذكر ظهر آدم وإن كان الله سبحانه وتعالى أخرج جميع الذرية من ظهره لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم فاستغنى عن ذكر ظهر آدم عليه السلام لما علم أنهم كلهم بنو آدم وأخرجوا من ظهره فترك ذكر ظهر آدم استغناء.
ثم للعلماء في تفسير هذه الآية مذهبان: أحدهما وهو مذهب أهل التفسير والأثر وظاهر ما جاءت به الروايات عن السلف فيما روي عن ابن عباس من طرق كثيرة وروايات مختلفة رواها عنه الطبري بأسانيد، فمنها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا وقال ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم
266
القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» وعن ابن عباس في هذه الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة وأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا وعن ابن عباس أيضا قال: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» زاد في رواية عنه «فجف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وفي رواية عنه قال «لما خلق الله آدم أخذ ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصائبه واستخرج ذريته كالذر وكتب أرزاقهم وآجالهم ومصائبهم» وفي رواية عنه قال «إن الله عز وجل مسح صلب آدم فاستخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفّل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطي الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الأول ومن مات صغيرا ولم يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة» وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى؟ قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة «إنا كنا عن هذا غافلين» وقال ابن عباس: أخرج ذرية آدم من ظهره فكلمهم الله وأنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى ثم أعادها في صلبه فليس أحد من الخلق إلا وقد تكلم فقال ربي الله وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه، وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء ثم إنه مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه كهيئة الذر بيضاء فقال ادخلوا الجنة برحمتي ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجهه التبعية زاد في رواية وذلك حيث يقول «وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها» وقال محمد بن كعب القرظي: أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل خلق أجسادها، وقال مقاتل: مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون فقال يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعا في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق جميعا.
وروى أن الله سبحانه وتعالى قال لهم جميعا. اعلموا أنه لا إله لكم غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فتكلموا جميعا وقالوا شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب هلا سويت بينهم فقال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعاده إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق» وقال الزجاج وجائز أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل لأمثال الذر عقلا وفهما تعقل به كما قال تبارك وتعالى في النملة قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وكما قال وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال ابن الأنباري مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولادهم وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعه فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولا حتى خوطبوا بقوله «يا جبال أوبي معه» وكم جعل للبعير عقلا حتى سجد للنبي ﷺ وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت ومعنى قوله «ألست بربكم» على هذا التفسير قال الله تعالى للذرية «ألست بربكم» فهو إيجاب
267
للربوبية عليهم قالوا بلى يعني قالت الذرية بلى أنت ربنا فهو جواب منهم له وإقرار منهم له بالربوبية واعتراف على أنفسهم بالعبودية شَهِدْنا فيه قولان:
أحدهما: أنهم لما أقروا له بالربوبية قال الله عز وجل للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا على إقرارهم فعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله سبحانه وتعالى بلى لأن كلام الذرية تم وانقطع وقوله شهدنا كلام مستأنف.
والقول الثاني: إن قوله سبحانه وتعالى شهدنا من كلام الذرية والمعنى شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وعلى هذا لا يحسن الوقف على بلى لتعلقه بما بعده.
وقوله سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولُوا وقرئ بالتاء على خطاب الذرية ومعناه لئلا تقولوا أيها الذرية يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا يعني الميثاق غافِلِينَ وقرئ أن يقولوا بالياء على الغيبة ومعناه لئلا يقولوا أي الذرية إنا كنا عن هذا غافلين، والمذهب الثاني في معنى هذه الآية وهو مذهب أهل الكلام والنظر أنه سبحانه وتعالى أخرج الذرية وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء وهم أولاد بني آدم فأخرج الذرية إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقول وأراهم عجائب خلقه وغرائب صنعه ودلائل وحدانيته فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وذلك بما أظهر لهم من دلائل آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم وبارئهم وربهم ونافذ الحكم فيهم فلما عرفوا ذلك دعاهم ذلك إلى التصديق بوحدانيته وربوبيته فقالوا بلى شهدنا على أنفسنا أنك أنت ربنا وخالقنا فعلى هذا القول يكون قولهم بلى شهدنا على أنفسنا على المجاز لا على الحقيقة وهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب فكل من بلغ وعقل فقد أخذ عليه الميثاق بما جعل فيه من السبب الذي يؤخذ به الميثاق وهو العقل والتكليف فيكون معنى الآية وإذ يأخذ ربك من بني آدم ويشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقل الذي يكون به الفهم والتكليف الذي به يترتب على صاحبه الثواب والعقاب يوم القيامة.
فإن قلت: فما المختار من هذين المذهبين في تفسير هذه الآية؟
قلت: المذهب الأول هو المختار لأنه مذهب جمهور المفسرين من السلف وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت إذا كانت المختار في تفسير هذه الآية هو مذهب السلف في ذلك وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم كما ورد في الحديث أيضا فكيف يحمل تفسير ألفاظ هذه الآية على هذا القول؟
قلت: قد صحّ الحديث بأن الله مسح ظهر آدم فأخرج ذريته وأخذ عليهم الميثاق ولا منافاة بين الآية والحديث كما تقدم في تفسير ألفاظ الآية من أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره على سبيل التوالد بعضهم من بعض كما في الخارج وكلهم بأجمعهم من ظهر آدم الذي هو أصلهم فبهذا الطريق أمكن الجمع بين الآية والحديث، إذ ليس في معنى ألفاظ الآية ما يدل على بطلان ذلك ونفيه وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جمعا بين الآية والحديث وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال: ليس بين قوله إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه تعالى إذ أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم ذرية كذرية بعضهم من بعض قال وتحصل الفائدة بهذا الفصل بأنه تعالى أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ ومن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم بالحجة بالآيات والدلائل التي نصبها بالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ وقال غيره: فائدة أخذ الميثاق عليها في القدم أن من مات منهم صغيرا أدخل الجنة بإقراره بالميثاق الأول وهذا على قول من يقول إن أطفال المشركين يدخلون الجنة
268
قوله عز وجل :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ﴾ يعني واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل كأنه ظلة يعني جعلناه فوقهم كالظلة والظلة كل ما علا الإنسان كالسقف ونحوه ﴿ وظنوا ﴾ أي علموا وأيقنوا ﴿ أنه واقع بهم ﴾ يعني الجبل ﴿ خذوا ﴾ يعني وقلنا لهم خذوا وإضمار القول كثير في القرآن وكلام العرب ﴿ ما آتيناكم ﴾ يعني التوراة ﴿ بقوة ﴾ يعني بجد واجتهاد ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ يعني واعملوا بما فيه من الأحكام ﴿ لعلكم تتقون ﴾ قال أصحاب الأخبار : إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عز وجل جبريل فرفع جبلاً عظيماً حتى صار على رؤوسهم كالظلة فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خرّوا ساجدين فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على وجوههم الأيسر.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ﴾ الآية عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الآية قال سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار » أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً. قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال أو لم تعطيها ابنك داود ؟ فجحد آدم فجحد ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأما تفسير الآية فقوله سبحانه وتعالى : وإذ أخذ ربك، يعني واذكر يا محمد إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم يعني من ظهور بني آدم وإنما لم يذكر ظهر آدم وإن كان الله سبحانه وتعالى أخرج جميع الذرية من ظهره لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم فاستغنى عن ذكر ظهر آدم عليه السلام لما علم أنهم كلهم بنو آدم وأخرجوا من ظهره فترك ذكر ظهر آدم استغناء.
ثم للعلماء في تفسير هذه الآية مذهبان : أحدهما وهو مذهب أهل التفسير والأثر وظاهر ما جاءت به الروايات عن السلف فيما روي عن ابن عباس من طرق كثيرة وروايات مختلفة رواها عنه الطبري بأسانيد، فمنها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً وقال ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين » وعن ابن عباس في هذه الآية قال : مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة وأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا وعن ابن عباس أيضاً قال : إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " زاد في رواية عنه " فجف القلم بما كان يوم القيامة " وفي رواية عنه قال " لما خلق الله آدم أخذ ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصائبه واستخرج ذريته كالذر وكتب أرزاقهم وآجالهم ومصائبهم " وفي رواية عنه قال إن الله عز وجل مسح صلب آدم فاستخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وتكفّل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطي الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الأول ومن مات صغيراً ولم يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس » فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى ؟ قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة «إنا كنا عن هذا غافلين » وقال ابن عباس : أخرج ذرية آدم من ظهره فكلمهم الله وأنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى ثم أعادها في صلبه فليس أحد من الخلق إلا وقد تكلم فقال ربي الله وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه، وقال السدي : أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء ثم إنه مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه كهيئة الذر بيضاء فقال ادخلوا الجنة برحمتي ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجهه التبعية زاد في رواية وذلك حيث يقول «وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً » وقال محمد بن كعب القرظي : أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل خلق أجسادها، وقال مقاتل : مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون فقال يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق جميعاً. وروى أن الله سبحانه وتعالى قال لهم جميعاً. اعلموا أنه لا إله لكم غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلموا جميعاً وقالوا شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب هلا سويت بينهم فقال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعاده إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق وقال الزجاج وجائز أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل لأمثال الذر عقلاً وفهما تعقل به كما قال تبارك وتعالى في النملة ﴿ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾ وكما قال ﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ﴾ وقال ابن الأنباري مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولادهم وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعه فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله ﴿ يا جبال أوبي معه ﴾ وكم جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت ومعنى قوله ﴿ ألست بربكم ﴾ على هذا التفسير قال الله تعالى للذرية ﴿ ألست بربكم ﴾ فهو إيجاب للربوبية عليهم قالوا بلى يعني قال الذرية بلى أنت ربنا فهو جواب منهم له وإقرار منهم له بالربوبية واعتراف على أنفسهم بالعبودية ﴿ شهدنا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم لما أقروا له بالربوبية قال الله عز وجل للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا على إقرارهم فعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله سبحانه وتعالى بلى لأن كلام الذرية تم وانقطع وقوله شهدنا كلام مستأنف.
والقول الثاني : إن قوله سبحانه وتعالى شهدنا من كلام الذرية والمعنى شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وعلى هذا لا يحسن الوقف على بلى لتعلقه بما بعده.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ أن تقولوا ﴾ وقرئ بالتاء على خطاب الذرية ومعناه لئلا تقولوا أيها الذرية ﴿ يوم القيامة إنا كنا عن هذا ﴾ يعني الميثاق ﴿ غافلين ﴾ وقرئ أن يقولوا بالياء على الغيبة ومعناه لئلا يقولوا أي الذرية إنا كنا عن هذا غافلين، والمذهب الثاني في معنى هذه الآية وهو مذهب أهل الكلام والنظر أنه سبحانه وتعالى أخرج الذرية وأنشأهم بعد أن كانوا نطفاً في أصلاب الآباء وهم أولاد بني آدم فأخرج الذرية إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقول وأراهم عجائب خلقه وغرائب صنعه ودلائل وحدانيته فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وذلك بما أظهر لهم من دلائل آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم وبارئهم وربهم ونافذ الحكم فيهم فلما عرفوا ذلك دعاهم ذلك إلى التصديق بوحدانيته وربوبيته فقالوا بلى شهدنا على أنفسنا أنك أنت ربنا وخالقنا فعلى هذا القول يكون قولهم بلى شهدنا على أنفسنا على المجاز لا على الحقيقة وهذا النوع من المجاز الاستعارة مشهور في كلام العرب فكل من بلغ وعقل فقد أخذ عليه الميثاق بما جعل فيه من السبب الذي يؤخذ به الميثاق وهو العقل والتكليف فيكون معنى الآية وإذ يأخذ ربك من بني ويشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقل الذي يكون به الفهم والتكليف الذي به يترتب على صاحبه الثواب والعقاب يوم القيامة.
فإن قلت : فما المختار من هذين المذهبين في تفسير هذه الآية ؟
قلت : المذهب الأول هو المختار لأنه مذهب جمهور المفسرين من السلف وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت إذا كانت المختار في تفسير هذه الآية هو مذهب السلف في ذلك وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم كما ورد في الحديث أيضاً فكيف يحمل تفسير ألفاظ هذه الآية على هذا القول ؟
قلت : قد صحَّ الحديث بان الله مسح ظهر آدم فأخرج ذريته وأخذ عليهم الميثاق ولا منافاة بين الآية والحديث كما تقدم في تفسير ألفاظ الآية من أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره على سبيل التوالد بعضهم من بعض كما في الخارج وكلهم بأجمعهم من ظهر آدم الذي هو أصلهم فبهذا الطريق أمكن الجمع بين الآية والحديث، إذ ليس في معنى ألفاظ الآية ما يدل على بطلان ذلك ونفيه وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جمعاً بين الآية والحديث وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال : ليس بين قوله إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه تعالى إذ أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم ذرية كذرية بعضهم من بعض قال وتحصل الفائدة بهذا الفصل بأنه تعالى أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ ومن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم بالحجة بالآيات والدلائل التي نصبها بالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ وقال غيره : فائدة أخذ الميثاق عليها في القدم أن من مات منهم صغيراً أدخل الجنة بإقراره بالميثاق الأول وهذا على قول من يقول إن أطفال المشركين يدخلون الجنة إذا ماتوا صغاراً فأما من لا يحكم لهم بالجنة فإنه يقول من
إذا ماتوا صغارا فأما من لا يحكم لهم بالجنة فإنه يقول من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء وإنما أقروا بالمعرفة كرها فلم يغن عنهم ذلك شيئا ومن بلغ وعقل لم يغن عنه إقراره بالميثاق الأول شيئا حتى يؤمن ويصدق عند بلوغه وعقله بأن الله ربه وخالقه ويصدق رسله فيما جاءوا به من عنده وإنما فعل ذلك لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق أو الإيمان بأن الله ربنا غافلين أو لئلا تقول أخلافهم إنما أشرك آباؤنا ونحن نسير على آثارهم ظنا منهم أن الحق ما كانوا عليه.
فإن قلت: إن ذلك الميثاق لا يذكره أحد اليوم فكيف يكون حجة عليهم اليوم أو فكيف يذكرونه يوم القيامة حتى يحتج عليهم به.
قلت: لما أخرج الذرية من صلب آدم ركب فيهم العقول وأخذ عليهم الميثاق فلما أعيدوا إلى صلب آدم بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق لاقتضاء الحكمة الإلهية نسيانهم له ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، إذ الدار دار تكليف وامتحان ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والابتلاء والتكليف، فقامت الحجة عليهم لإمدادهم بالرسل وإعلامهم بجريان أخذ الميثاق عليهم وبذلك قامت الحجة عليهم أيضا يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولم تسقط الحجة عنهم بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٣ الى ١٧٥]
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
وقوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا يعني الذرية إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ يعني إنما أخذ الميثاق عليهم لئلا يقول المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ يعني وكنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم في الشرك أَفَتُهْلِكُنا يعني أفتعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ قال المفسرون: هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد والميثاق وكنا نحن الذرية من بعدهم فقلدناهم واقتدينا بهم وكنا في غفلة عن هذا الميثاق فلا ذنب لنا فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك وقد أخذ عليهم جميعا الميثاق وجاءتهم الرسل وذكروهم به وثبتت الحجة عليهم بذلك يوم القيامة، وأما الذين حملوا معنى الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل وهو مذهب أهل النظر قالوا معناه إن الله نصب هذه الدلائل وأظهرها للعقول لئلا يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لآبائنا لأن نصب أدلة التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء في الشرك.
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى الحق والإيمان ويعرضوا عن الباطل والكفر وهو المراد من قوله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن الشرك إلى التوحيد وقيل معناه ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه.
قوله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ يعني واقرأ على قومك يا محمد نَبَأَ يعني خبر الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا اختلفوا فيه فقال ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، وقال مجاهد: بلعام بن باعر، وقال ابن مسعود: هو بلعم بن أبر، قال عطية قال ابن عباس: إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد
269
الجبارين، وقال مقاتل: هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إن موسى رجل حديد وأن معه جنودا كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي؟ فراجعوه وألحوا عليه فقال: حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه: إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه: قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، ثم قال: جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلا فظا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذارعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن
قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفا في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنه كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية، وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت: لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي
270
فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى: آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها.
فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك قلت الجواب عنه من وجوه:
أحدها: منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول.
الوجه الثاني: أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلها فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم.
الوجه الثالث: على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد ﷺ وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له: قتلهم محمد فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله ﷺ فسألها رسول الله ﷺ عن وفاة أخيها فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: أوعى قال وعى قال أزكى قال أبي قالت فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعرا:
كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
فقال لها رسول الله ﷺ أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه» فأنزل الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآية وفي رواية عن ابن عباس:
إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبة نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات
271
وقوله تعالى :﴿ وكذلك نفصِّل الآيات ﴾ يعني ليتدبرها العباد فيرجعون إلى الحق والإيمان ويعرضوا عن الباطل والكفر وهو المراد من قوله ﴿ ولعلهم يرجعون ﴾ يعني عن الشرك إلى التوحيد وقيل معناه ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه.
قوله عز وجل :﴿ واتل عليهم ﴾ يعني واقرأ على قومك يا محمد ﴿ نبأ ﴾ يعني خبر ﴿ الذي آتيناه آياتنا ﴾ اختلفا فيه فقال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء، وقال مجاهد : بلعام بن باعر، وقال ابن مسعود : هو بلعم بن أبر، قال عطية قال ابن عباس : إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد الجبارين، وقال مقاتل : هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا : إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا : إن موسى رجل حديد وأن معه جنوداً كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه : إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شي قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه : قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، ثم قال : جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كُفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانين اسمها كستي بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزَّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلاً فظاً قد أعطي بسطة من الخلق وقوة في البطش، وكان غائباً حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إٍسرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفاً في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياه بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنهم كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾ الآية، وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت : لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى :﴿ آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾.
فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك قلت الجواب عنه من وجوه :
أحدها : منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول.
الوجه الثاني : أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلهاً فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم.
الوجه الثالث : على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولاً فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له : قتلهم محمد فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها : بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه فقال للذي عند رأسه : أوعى قال وعى قال أزكى قال أبى قالت فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعراً :
كل عيش وإن تطاول دهراً صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«آمن شعره وكفر قلبه » فأنزل الله عز وجل :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ الآية وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبا نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات جميعاً والقولان الأولان أشهر. وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى ﴿ آتيناه آياتنا ﴾ قال ابن عباس : كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وقال السدي : كان يعلم اسم الله الأعظم. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنه أوتي كتاباً وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها ﴿ فانسلخ منها ﴾ يعني فخرج من الآيات التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها، وقال ابن عباس : نزع منه العلم ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعاً لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه.
قوله تعالى :﴿ فكان من الغاوين ﴾ يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه.
جميعا والقولان الأولان أشهر. وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي ﷺ بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه، وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى آتَيْناهُ آياتِنا قال ابن عباس: كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، وقال السدي: كان يعلم اسم الله الأعظم. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أنه أوتي كتابا وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها فَانْسَلَخَ مِنْها يعني فخرج من الآيات التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها، وقال ابن عباس: نزع منه العلم فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعا لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه.
قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه وقوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧٦]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها يعني رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات التي أوتيها. وقال ابن عباس: لرفعناه، وقال ابن عباس: لرفعناه بعمله بها، وقال مجاهد وعطاء: معناه لو شئنا لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ يعني: ولكنه سكن إلى الدنيا ومال إليها ورضي بها وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن الأرض عبارة عن المفاوز والقفار وفيها المدن والضياع والمعادن والنبات ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض وَاتَّبَعَ هَواهُ يعني أنه أعرض عن التمسك بما أتاه الله من الآيات واتبع الهوى فخسر دنياه وأخرته ووقع في هاوية الردى والهلاك وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته وحكمته وعلمه اسمه الأعظم وجعل دعاءه مستجابا ثم إنه اتبع هواه وركن إلى الدنيا ورضي بها عوضا عن الآخرة نزع منه ما كان أعطيه وانسلخ من الدين فخسر الدنيا والآخرة ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع وثبته بالعلم وبصّره بعيوب نفسه. عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله ﷺ «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه» أخرجه الترمذي ثم ضرب الله عز وجل مثلا لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثا وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائما فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة، ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحالة الكلب اللاهث وقيل: إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدلع لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدلع لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة. ومعنى أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو
حريص أيضا لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضا بل هم ضلّال في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى فَاقْصُصِ الْقَصَصَ وهذا خطاب للنبي ﷺ يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيتعظون، وقيل: هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاءهم محمد ﷺ يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه ثم قال سبحانه وتعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٧ الى ١٧٨]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يعني بتكذيبهم بآياتنا.
قوله عز وجل: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي، وقيل: معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يعني ومن يتول الضلالة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل وقوله سبحانه وتعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٩ الى ١٨٠]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَلَقَدْ ذَرَأْنا يعني خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قالت: دعي رسول الله ﷺ إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» أخرجه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله ﷺ نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة «إني لأراه مؤمنا فقال: أو مسلما» الحديث، ويحتمل أن ﷺ قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاث مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل ﷺ حين رآه النبي ﷺ في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا:
يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين. رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى:
273
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل، وقيل: اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يعني: لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علما على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني: إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه.
ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر:
وعوراء الكلام صمت عنها وإني إن أشاء بها سميع
فإنه أثبت له صمما مع وجود السمع. قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئا من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق.
ثم ضرب لهم مثلا فقال سبحانه وتعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع.
وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئا ثم قال تعالى:
بَلْ هُمْ أَضَلُّ يعني: بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرف ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعط القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالا من الأنعام.
وقيل: إن الأنعام مطيعة لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم.
قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال مقاتل: إن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي: هو أبو جهل إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الآية أن أسماء الله
274
سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر. وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين:
أحدهما: عدم افتقاره إلى غيره.
الثاني: افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى (ق). عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» قال البخاري:
أحصاها حفظها. وفي رواية الترمذي قال: قال رسول الله «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي الميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» قال الترمذي: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث. قال ابن الأثير: وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله ﷺ تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال: «إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما» الحديث.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر «أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل. وقوله صلى الله عليه وسلم: من أحصاها دخل الجنة تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة. وقيل: المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها. وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبرا متدبرا ذاكرا راغبا راهبا معظما لها ولمسماها ومقدسا لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم. قال أبو
275
قوله عز وجل :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي، وقيل : معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي ﴿ ومن يضلل ﴾ يعني ومن يتول الضلالة ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾ يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ولقد ذرأنا ﴾ يعني خلقنا ﴿ لجهنم كثيراً من الجن والإنس ﴾ أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قال : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم أخرجه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه لي مكلفاً وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى الله عليه وسلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة إني لأراه مؤمناً فقال : أو مسلماً الحديث، ويحتمل أن صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون : هم في النار تبعاً لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين. رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل، وقيل : اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ يعني : لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علماً على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال : فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله ﴿ ولهم أعين لا يبصرون بها ﴾ يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده ﴿ ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني : إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه.
ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر :
وعوراء الكلام صمت عنها وإني إن أشاء بها سميع
فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع. قال مجاهد : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق. ثم ضرب لهم مثلاً فقال سبحانه وتعالى :﴿ أولئك كالأنعام ﴾ يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع.
وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئاً ثم قال تعالى :﴿ بل هم أضل ﴾ يعني : بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرق ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعطَ القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالاً من الأنعام.
وقيل : إن الأنعام مطيعة لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى :﴿ أولئك هم الغافلون ﴾ يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ قال مقاتل : إن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي : هو أبو جهل إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية ﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الآية أن أسماء الله سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين :
أحدهما : عدم افتقاره إلى غيره.
الثاني : افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى ( ق ). عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر » وفي رواية «من أحصاها » وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر » وفي رواية «من أحصاها » وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر » قال البخاري : أحصاها حفظها. وفي رواية عن الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله « إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور » قال الترمذي : حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث. قال ابن الأثير : وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال :«إن لله تبارك وتعالى تسع وتسعين اسماً » الحديث.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة فالمراد عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر :«أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك » وقد ذكر الحافظ أبو بكر العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي : وهذا قليل. وقوله صلى الله عليه وسلم :«من أحصاها دخل الجنة » تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة. وقيل : المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها. وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبراً متدبراً ذاكراً راغباً راهباً معظماً لها ولمسماها ومقدساً لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم. قال أبو القاسم القشيري : فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال ﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ وقال الإمام فخر الدين الرازي : دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله سبحانه وتعالى : ولله الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقال غيره : الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره. وقال أهل اللغة : إنما جعل الاسم تنويهاً على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. قال العلماء : وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضاً وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فادعوه بها ﴾ يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موضع الدعاء وكان له تأثير عظيم ﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة. وقال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق المدخل في ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحاداً إذا عدل عنه ومال إلى غيره. قال المحققون : الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه :
أحدها : إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد.
الوجه الثاني : وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم.
الوجه الثالث : مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضرا يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع : أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ سيجزون ما كانوا يعملون ﴾ يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل.
القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» وقال الإمام فخر الدين الرازي: دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضا قوله سبحانه وتعالى: ولله الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقال غيره: الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره. وقال أهل اللغة: إنما جعل الاسم تنويها على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. قال العلماء: وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضا وقوله سبحانه وتعالى: فَادْعُوهُ بِها يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موقع الدعاء وكان له تأثير عظيم وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة. وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحادا إذا عدل عنه ومال إلى غيره. قال المحققون: الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه:
أحدها: إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد.
الوجه الثاني: وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم.
الوجه الثالث: مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضار يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع: أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة.
وقوله سبحانه وتعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٨١ الى ١٨٣]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
قوله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يعني جماعة وعصابة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال ابن عباس: يريد أمة محمد ﷺ وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. قال قتادة: بلغنا أن النبي ﷺ كان إذا قرأ هذه
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار. وقيل : المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه ﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ قال الأزهري : سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تمادياً في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذه واحدة أغفل ما يكونون عليه. وقال الضحاك : معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة. وقال الكلبي : نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر.
روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. قال أهل المعاني : الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلاً ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئاً بعد شيء.
﴿ وأملي لهم ﴾ يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم. والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة ﴿ إن كيدي متين ﴾ يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد. وقال ابن عباس : معناه إن مكري شديد. قال المفسرون : نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الآية قال «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» (ق) عن معاوية قال وهو يخطب سمعت رسول الله ﷺ يقول «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار. وقيل: المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تماديا في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه. وقال الضحاك: معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة. وقال الكلبي: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر.
روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلا ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئا بعد شيء وَأُمْلِي لَهُمْ يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم.
والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد. وقال ابن عباس: معناه إن مكري شديد. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٨٤ الى ١٨٧]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ يعني محمدا ﷺ مِنْ جِنَّةٍ يعني من جنون قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا «يا بني فلان يا بني فلان إني لكم نذير مبين» وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في عاقبة الأمر والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم يعني محمدا ﷺ من جنة والجنة. حالة من الجنون وإدخال لفظة من في قوله من جنة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنهم رأوا أنه ﷺ خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضا عن الدنيا ولذاتها مقبلا على الآخرة ونعيمها مشتغلا بالدعاء إلى الله عز وجل وإنذارهم
277
بأسه ونقمته ليلا ونهارا من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى الجنون فبرأه الله سبحانه وتعالى من الجنون فقال تعالى: إِنْ هُوَ يعني ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ثم حثّهم على النظر المؤدي إلى العلم بالوحدانية فقال سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر اعتبار واستدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ والمقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية ووجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السموات والأرض بل كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وبرأه فيه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى وآثار قدرته كما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يعني بعد القرآن يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون. والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد ﷺ ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه وتعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم فلو هداهم لآمنوا وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني ويتركهم في ضلالتهم وتماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلا.
قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قال قتادة: قالت قريش لرسول الله ﷺ إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس: قال جبل بن أبي قشير وشمول بن زيد، وهما من اليهود، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل الله عز وجل: يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة. سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة وبغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى مرساها. قال ابن عباس: يعني منتهاها أي متى وقوعها. قالوا والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق وأصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت قُلْ أي قل لهم يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا الله استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليه أحد ومر حديث الإيمان والإسلام والإحسان وسؤال جبريل للنبي ﷺ فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال المحققون: وسبب إخفاء علم الساعة ووقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف وحذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل وخوف وإشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والتوبة وأزجر لهم عن المعصية لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو، وقال السدي: لا يرسلها لوقتها إلا هو والتجلية إظهار الشيء بعد خفائه، والمعنى: لا يظهرها لوقتها المعين إلا الله ولا يقدر على ذلك غيره ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد. وقال الحسن: إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض وإنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على القلوب لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يعني فجأة على حين غفلة من الخلق (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» اللّقحة بفتح اللام وكسرها: الناقة القريبة العهد بالنتاج.
278
﴿ أولم ينظروا ﴾ يعني نظر اعتبار واستدلال ﴿ في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ﴾ والمقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية ووجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السماوات والأرض بل كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وبرأه فيه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى وآثار قدرته كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾ والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم ﴿ فبأي حديث بعده ﴾ يعني القرآن ﴿ يؤمنون ﴾ يعني يصدقون. والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه وتعالى :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ﴾ يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم فلو هداهم لآمنوا ﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ يعني ويتركهم في ضلالتهم وتماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلاً.
قوله عز وجل :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ قال قتادة : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس : قال جبل بن أبي قبشير وشمول بن زيد، وهما من اليهود، لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة. سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة وبغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى مرساها. قال ابن عباس : يعني منتهاها أي متى وقوعها. قالوا والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق وأصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت ﴿ قل ﴾ أي قل لهم يا محمد ﴿ إنما علمها عند ربي ﴾ أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا الله استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليه أحد ومر حديث الإيمان والإسلام والإحسان وسؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال المحققون : وسبب إخفاء علم الساعة ووقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف وحذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل وخوف وإشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والتوبة وأزجر لهم عن المعصية ﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو، وقال السدي : لا يرسلها لوقتها إلا هو والتجلية إظهار الشيء بعد خفائه، والمعنى : لا يظهرها لوقتها المعين إلا الله ولا يقدر على ذلك غيره ﴿ ثقلت في السماوات والأرض ﴾ يعني ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السماوات والأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد. وقال الحسن : إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السماوات والأرض وإنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على القلوب ﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ يعني فجأة على حين غفلة من الخلق ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها » اللَّقحة بفتح اللام وكسرها : الناقة القريبة العهد بالنتاج.
قوله : يليط حوضه ويروى يلوط حوضه يعني يطينه ويصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه وأصله من اللصوق. الأُكلة : بضم الهمزة اللقمة.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ يسألونك كأنك حفي عنها ﴾ يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بها بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم. قال ابن عباس : يقول كأن بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم. قال ابن عباس لما سأل الناس محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حفي بهم فأوحى الله عز وجل إليه إنما علمها عند استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكاً ولا رسولاً وقيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها ﴿ قل ﴾ يعني يا محمد ﴿ إنما علمها عند الله ﴾ يعني استأثر الله بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل.
فإن قلت : قوله سبحانه وتعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله سبحانه وتعالى ثانياً يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار ؟
قلت : ليس في تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها وشدائدها فلم يلزم التكرار.
فإن قلت : عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى : علمها عند ربي وعن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى : علمها عند الله فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين.
قلت : فيه فرق لطيف وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعاً عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي.
ولما كان السؤال الثاني واقعاً عن أحوالها وشدائدها وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى عند الله لأنه أعظم الأسماء ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ يعني لا يعملون أن علمها عند الله وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وقيل : ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق.
قوله: يليط حوضه ويروى يلوط حوضه يعني يطينه ويصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه وأصله من اللصوق. الأكلة: بضم الهمزة اللقمة.
وقوله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بهم بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم. قال ابن عباس: يقول كأن بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم. قال ابن عباس لما سأل الناس محمدا ﷺ عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا ﷺ حفي بهم فأوحى الله عز وجل إليه إنما علمها عنده استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكا ولا رسولا وقيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها قُلْ يعني يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني استأثر الله بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل.
فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله سبحانه وتعالى ثانيا يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار؟
قلت: ليس فيه تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها وشدائدها فلم يلزم التكرار.
فإن قلت: عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى: علمها عند ربي وعن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى: علمها عند الله فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين.
قلت: فيه فرق لطيف وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعا عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي.
ولما كان السؤال الثاني واقعا عن أحوالها وشدائدها وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى عند الله لأنه أعظم الأسماء وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعملون أن علمها عند الله وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وقيل: ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٨٨ الى ١٨٩]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا قال ابن عباس: إن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري به فتربح فيه عند الغلاء وبالأرض التي يريد أن تجدب فترحل عنها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله عز وجل: قُلْ لا أَمْلِكُ أي قل يا محمد لا أملك ولا أقدر لنفسي نفعا أي اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ولا ضرا يعني ولا أقدر أن أدفع عن نفسي ضرا نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة وأترك الجدبة إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن أملكه وأقدر عليه وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ يعني ولو كنت
279
أعلم وقت الخصب والجدب لاستكثرت من المال وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعني الضر والفقر والجوع. وقال ابن جريج: معناه لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا من الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب يريدون وقت الموت لاستكثرت من الخير يعني من العمل الصالح. وقيل إن أهل مكة لما سألوا رسول الله ﷺ عن الساعة أنزل الله تعالى الآية الأولى وهذه الآية ومعناه: أنا لا أدعي علم الغيب حتى أخبركم عن وقت قيام الساعة وذلك لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب فذكر أن قدرته قاصرة عن علم الغيب.
فإن قلت: قد أخبر ﷺ عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته ﷺ فكيف الجمع بينه وبين قوله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير؟
قلت: يحتمل أن يكون قاله ﷺ على سبيل التواضع والأدب والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي. ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله عز وجل على الغيب فلما أطلعه الله عز وجل أخبر به كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله سبحانه وتعالى عن أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته ﷺ وقوله وما مسنى السوء يعني الجنون وذلك أنهم نسبوه إلى الجنون وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير واحترزت عن الشر حتى أصير بحيث لا يمسني السوء وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لأعلمتكم بوقت قيام الساعة حتى تؤمنوا وما مسني السوء يعني قولكم لو كنت نبيا لعلمت متى تقوم الساعة إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ يعني ما أنا إلا رسول أرسلني الله إليكم أنذركم وأخوفكم عقابه إن لم تؤمنوا وَبَشِيرٌ يعني وأبشر بثوابه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون.
قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني وخلق منها زوجها حواء قد تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم في أول سورة النساء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يعني ليأنس بها ويأوي فَلَمَّا تَغَشَّاها يعني واقعها وجامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يعني النطفة والمني لأن أول ما تحمل النطفة وهي خفيفة عليها فَمَرَّتْ بِهِ يعني أنها استمرت بذلك الحمل فقامت وقعدت وهو خفيف عليها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت إلى حال الثقل وكبر ذلك الحمل ودنت مدة ولادتها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني أن آدم وحواء دعوا الله ربهما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً يعني لئن أعطيتنا بشرا سويا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني لك على إنعامك علينا. قال المفسرون: لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصاب حواء فحملت من ساعتها فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا أترين في الأرض إلا بهيمة أو نحوها قالت: إني أخاف بعض ذلك قال وما يدريك من أين خرج أمن دبرك أم من فيك أو يشق بطنك فيقتلك فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم فلم يزالا في غم من ذلك ثم عاد إليها إبليس فقال لها إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك حواء لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث. وقال ابن عباس: كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش. عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة
280
قوله عز وجل :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ يعني آدم عليه السلام ﴿ وجعل منها زوجها ﴾ يعني وخلق منها زوجها حواء قد تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم في أول سورة النساء ﴿ ليسكن إليها ﴾ يعني ليأنس بها ويأوي ﴿ فلما تغشاها ﴾ يعني واقعها وجامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها ﴿ حملت حملاً خفيفاً ﴾ يعني النطفة والمني لأن أول ما تحمل النطفة وهي خفيفة عليها ﴿ فرمت به ﴾ يعني أنها استمرت بذلك الحمل فقامت وقعدت وهو خفيف عليها ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي صارت إلى حال الثقل وكبر ذلك الحمل ودنت مدة ولادتها ﴿ دعوا الله ربهما ﴾ يعني أن آدم وحواء دعوا الله ربهما ﴿ لئن آتيتنا صالحاً ﴾ يعني لئن أعطيتنا بشراً سوياً مثلنا ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ يعني لك على إنعامك علينا. قال المفسرون : لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصاب حواء فحلمت من ساعتها فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس فقال لها : ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري قال : إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلباً أو خنزيراً أترين في الأرض إلا بهيمة أو نحوها قالت : إني أخاف بعض ذلك قال وما يدريك من أين خرج أمن دبرك أم فن فيك أو يشق بطنك فيقتلك فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم فلم يزالا في غم من ذلك ثم عاد إليها إبليس فقال لها إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك حواء لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ودلت سمياه عبد الحارث. وقال ابن عباس : كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش. عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة وقال وقد رواه بعضهم ولم يرفعه وقوله وذلك من وحي الشيطان يعني من وسوسته وحديثه كما جاء أنه خدعهما مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض. قال ابن عباس : لما ولد له أول ولد آتاه إبليس فقال إني أنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحارث وكان اسمه في السماء الحارث فقال آدم : أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة فأخرجتي من الجنة فلن أطيعك فمات ولده ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر فقال أطعني وإلا مات كما مات أول الأول فعصاه فمات ولده، فقال لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث فلم يزل به حتى سماه عبد الحارث.
وقال وقد رواه بعضهم ولم يرفعه وقوله وذلك من وحي الشيطان يعني من وسوسته وحديثه كما جاء أنه خدعهما مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض. قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد آتاه إبليس فقال إني أنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحارث وكان اسمه في السماء الحارث فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة فأخرجتني من الجنة فلن أطيعك فمات ولده ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر فقال أطعني وإلا مات كما مات الأول فعصاه فمات ولده، فقال لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث فلم يزل به حتى سماه عبد الحارث فذلك فقوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧): آية ١٩٠]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قال ابن عباس: أشركاه في طاعته في غير عبادة ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه. وقال قتادة: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة. وقال عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء وكان لا يعيش لهما ولد فأتاهما الشيطان فقال إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فهو قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما قرئ شركا بكسر الشين مع التنوين ومعناه شركة وقال أبو عبيدة معناه حظا ونصيبا وقرئ شركاء بضم الشين مع المد جمع شريك يعني إبليس عبر عن الواحد بلفظ الجمع يعني جعلا له شريكا إذ سميا ولدهما عبد الحارث. قال العلماء: ولم يكن ذلك شركا في العبادة ولا أن الحارث رب لهما لأن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد بتسميتهما الولد بعبد الحارث أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامته وسلامة أمه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
أخبر عن نفسه أنه عبد الضيف ما أقام عنده مع بقاء الحرية عليه وإنما أراد بالعبودية خدمة الضيف والقيام بواجب حقوقه كما يقوم العبد بواجب حقوق سيده. وقد يطلق اسم الرب بغير الألف واللام على غير الله كقول يوسف عليه الصلاة والسلام لعزيز مصر «إنه ربي أحسن مثواي» أراد به التربية ولم يرد به أنه ربه ومعبوده فكذلك هنا وإنما أخبر عن آدم عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فعاتبه الله على ذلك لأنه نظر إلى السبب ولم ينظر إلى المسبب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. قال العلماء: وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله فيما آتاهما ثم ابتدأ في الخبر عن الكفار بقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ نزه نفسه سبحانه وتعالى عن إشراك المشركين من أهل مكة وغيرهم وهذا على العموم، ولو أراد آدم وحواء لقال سبحانه وتعالى فتعالى الله عما يشركان على التثنية لا على الجمع وقال بعض أهل المعاني: ولو أراد به ما سبق في معنى الآية فمستقيم أيضا من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في التسمية فكان الأولى أن يسمياه عبد الله لا عبد الحارث وفي معنى الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم وهو قول الحسن وعكرمة ومعناه وجعل أولادهما له شركاء فحذف ذكر الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فعير به اليهود الذين كانوا موجودين في زمن النبي ﷺ وكان ذلك من فعل آبائهم وقال عكرمة: خاطب كل واحد من الخلق بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها أي وجعل من جنسها زوجها آدمية مثله وهذا قول حسن إلا أن القول وورد الحديث بذلك عن النبي ﷺ وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوهم ونصّروهم وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار ونحو ذلك.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٩١ الى ١٩٤]

أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)
وقوله سبحانه وتعالى: أَيُشْرِكُونَ قرئ بالتاء على خطاب الكفار، وقرئ بالياء على الغيبة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعني إبليس والأصنام وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي وهم مخلوقون.
فإن قلت: كيف وحد يخلق ثم جمع فقال وهم يخلقون؟
قلت: إن لفظة «ما» تقع على الواحد والإثنين والجمع فهي من صيغ الواحدان بحسب ظاهر اللفظ ومحتملة للجمع بحسب المعنى فوحد قوله ما لا يخلق رعاية الحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وهم يخلقون رعاية لجانب المعنى.
فإن قلت: كيف جمع بالواو وبالنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟
قلت: لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع بناء على ما يعقدونه ويتصورونه.
وقوله تعالى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يعني أن الأصنام لا تقدر على نصر من أطاعها وعبدها ولا تضر من عصاها والنصر، المعونة على الأعداء. والمعنى أن المعبود الذي تجب عبادته يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ثم قال تعالى: وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرها قدر عليه وهي لا تقدر على دفعه عنها.
ثم خاطب المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى يعني وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يَتَّبِعُوكُمْ لأن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلون الهداية سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ إلى الدين والهداية أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ أي ساكتون عن دعائهم فهم في كلا الحالين لا يؤمنون. وقيل إن الله سبحانه وتعالى لما بيّن في الآية المتقدمة عجز الأصنام بيّن في هذه الآية أنه لا علم لها بشيء البتة والمعنى أن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع لمن دعاها إلى خير وهدى ثم قوى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وذلك أن المشركين كانوا إذا وقعوا في شدة وبلاء تضرعوا لأصنامهم فإذا لم تكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا وصمتوا فقيل لهم لا فرق بين دعائكم للأصنام أو سكوتكم عنها فإنها عاجزة في كل حال.
قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ يعني أن الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون إنما هي مملوكة لله أمثالهم وقيل إنها مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون قال مقاتل في قوله سبحانه وتعالى: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والقول الأول أصح وفيه سؤال وهو أنه وصفها بأنها عباد مع أنها جماد.
والجواب أن المشركين لما ادعوا أن الأصنام تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا كونها عاقلة فاهمة فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتا لهم وتوبيخا ولذلك قال عز وجل: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في كونها آلهة وجواب آخر وهو أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين والمعنى أن قصارى هذه الأصنام التي تعبدونها أحياء عاقلة على معتقدكم فهم عباد الله أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلما
وقوله تعالى :﴿ ولا يستطيعون لهم نصراً ﴾ يعني أن الأصنام لا تقدر على نصر من أطاعها وعبدها ولا تضر من عصاها والنصر، المعونة على الأعداء. والمعنى أن المعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ثم قال تعالى :﴿ ولا أنفسهم ينصرون ﴾ يعني ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرها قدر عليه وهي لا تقدر على دفعه عنها.
ثم خاطب المؤمنين فقال سبحانه وتعالى :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى ﴾ يعني وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى ﴿ لا يتبعوكم ﴾ لأن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلون الهداية ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم ﴾ إلى الدين والهداية ﴿ أم أنتم صامتون ﴾ أي ساكتون عن دعائهم فهم في كلا الحالين لا يؤمنون. وقيل إن الله سبحانه وتعالى لما بيّن في الآية المتقدمة عجز الأصنام بيّن في هذه الآية أنه لا علم لها بشيء البتة ؛ والمعنى أن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع لمن دعاها إلى خير وهدى ثم قوى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى :﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ وذلك أن المشركين كانوا إذا وقعوا في شدة وبلاء تضرعوا لأصنامهم فإذا لم تكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا وصمتوا فقيل لهم لا فرق بين دعائكم للأصنام أو سكوتكم عنها فإنها عاجزة في كل حال.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾ يعني أن الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون إنما هي مملوكة لله أمثالهم وقيل إنها مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون قال مقاتل في قوله سبحانه وتعالى :﴿ عباد أمثالكم ﴾ أنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والقول الأول أصح وفيه سؤال وهو أنه وصفها بأنها عباد مع أنها جماد.
والجواب أن المشركين لما ادعوا أن الأصنام تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا كونها عاقلة فاهمة فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال عز وجل :﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ في كونها آلهة وجواب آخر وهو أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين والمعنى أن قصارى هذه الأصنام التي تعبدونها أحياء عاقلة على معتقدكم فهم عباد الله أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلما عبدتموهم وجعلتموهم آلهة وجعلتم أنفسكم لهم عبيداً ثم وصفهم بالعجز فقال تعالى :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ﴾.
عبدتموهم وجعلتموهم آلهة وجعلتم أنفسكم لهم عبيدا ثم وصفهم بالعجز فقال تعالى:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٩٥ الى ١٩٨]
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني أن قدرة الإنسان المخلوق إنما تكون بهذه الجوارح الأربعة فإنها آلات يستعين بها الإنسان في جميع أموره والأصنام ليس لها من هذه الأعضاء والجوارح شيء فهم مفضلون عليها بهذه الأعضاء لأن الرجل الماشية أفضل من الرجل العاجزة عن المشي وكذلك اليد الباطشة أفضل من اليد العاجزة عن البطش والعين الباصرة أفضل من العين العاجزة عن الإدراك والأذن السامعة أفضل من الأذن العاجزة عن السمع فظهر بهذا البيان أن الإنسان أفضل من هذه الأصنام العاجزة بكثير بل لا فضل لها البتة لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإذا كان لا فضل له البتة ولا يضر ولا ينفع فامتنع بهذه الحجة كون الأصنام آلة ثم قال تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم هذه الأصنام التي تعبدونها حتى يتبين عجزها ثُمَّ كِيدُونِ يعني أنتم وشركاؤكم وهذا متصل بما قبله في استكمال الحجة عليهم لأنهم لما قرّعوا بعادة من لا يملك ضرا ولا نفعا قيل لمحمد ﷺ قل إن معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لأن الله يدفع عني، وقال الحسن كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فَلا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ يعني أن الذي يتولى حفظي وينصرني عليكم هو الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ يعني القرآن، المعنى كما أيدني بإنزال القرآن علي كذلك يتولى حفظي وينصرني وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يعني يتولاهم بنصره وحفظه فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين وغيرهم ممن أرادهم بسوء أو كادهم بشر.
قال ابن عباس: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئا ولا يعصونه وفي هذا مدح للصالحين لأن من تولاه الله يحفظه فلا يضره شيء.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ هذه الآية قد تقدم تفسيرها، والفائدة في تكريرها أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع والتوبيخ وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره وحفظه وبين هذه الأصنام وهي ليست كذلك فلا تكون معبودة.
وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعوا إليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضا واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر.
قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء. وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء
﴿ إن وليي الله ﴾ يعني أن الذي يتولى حفظي وينصرني عليكم هو الله ﴿ الذي نزل الكتاب ﴾ يعني القرآن، المعنى كما أيدني بإنزال القرآن علي كذلك يتولى حفظي وينصرني ﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾ يعني يتولاهم بنصره وحفظه فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين وغيرهم ممن أرادهم بسوء أو كادهم بشر. قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصالحين لأن من تولاه الله يحفظه فلا يضره شيء.
قوله عز وجل :﴿ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ هذه الآية قد تقدم تفسيرها، والفائدة في تكريرها أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع والتوبيخ وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره وحفظه وبين هذه الأصنام وهي ليست كذلك فلا تكون معبودة.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعوا إليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضاً واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر.
قوله تعالى :﴿ خذ العفو ﴾ العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى : اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقصِ عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء. وقال مجاهد : يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء ( خ ) عن عبد الله بن الزبير قال : ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال : وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة، وقال الضحاك : خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة ﴿ وأمر بالعرف ﴾ يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله عز وجل وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقوله لا إله إلا الله ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل أن يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخاً بآية القتال : قال بعضهم : أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل :«ما هذا » ؟ قال لا أدري حتى أسأل. ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعت وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند. وقال جعفر الصادق : أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه.
عن عائشة قالت «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح » أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال ».
(خ) عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه ﷺ أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه ﷺ أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال: وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة، وقال الضحاك: خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله عز وجل وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقول لا إله إلا الله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أمر الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل أن يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخا بآية القتال، قال بعضهم: أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ﷺ لجبريل: ما هذا؟ قال لا أدري حتى أسأل. ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند. وقال جعفر الصادق: أمر الله عز وجل نبيه ﷺ بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه.
عن عائشة قالت «لم يكن رسول الله ﷺ فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٠٠ الى ٢٠١]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال ابن زيد «لما نزل قوله سبحانه وتعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال النبي ﷺ فكيف بالغضب يا رب فأنزل الله عز وجل: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم. ونزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب. وقيل النزغ الانزعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر والإفساد. يقال: نزغت بين القوم إذا أفسدت بينهم. وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة والمعنى وإما يصيبنك يا محمد ويعرض لك من الشيطان وسوسة أو نخسة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ يعني فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ يعني لدعائك عَلِيمٌ بحالك وقيل إن الشيطان يجد مجالا في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ فأمر الله بالالتجاء إليه والتعوذ به في تلك الحالة فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض.
((فصل واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية)) فقالوا لو كان النبي معصوما لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة والجواب عنه من وجوه، الأول: أن معنى الكلام إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان فاستعذ بالله وإنه لم يحصل له ذلك البتة فهو كقوله لئن أشركت وهو بريء من الشرك البتة. والوجه الثاني: على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله عز وجل عصم نبيه ﷺ عن قبولها وثبوتها في قلبه (م) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم وضمها فمن
قوله سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف ﴾ وقرئ طيف ﴿ من الشيطان ﴾ وهما لغتان ومعناه الشيء يلم بالإنسان وقيل بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان والطيف الوسوسة. وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس. قال الأزهري : الطيف في كلام العرب الجنون وقيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون. وقيل سمي الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمة من الشيطان تشبه لمة الخبال فذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف المذكور في هذه الآية لأن حالة الشيطان مع الأنبياء أضعف من حاله مع غيرهم ﴿ تذكروا ﴾ يعني عرفوا ما حصل لهم من سوسة الشيطان وكيده قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضب فيذكر الله فيكظم غيظه. وقال مجاهد : هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه ﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ يعني أنهم يبصرون مواضع الخطأ بالتذكر والتفكر. وقال السدي : إذا زلوا تابوا وقال مقاتل : هو الرجل إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عن مخالفة الله عز وجل.
رفع قال معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال معناه أن القرين أسلم من الإسلام يعني صار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير. قال الخطابي: الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح قال الشيخ وهو المختار لقوله فلا يأمرني إلا بخير. قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي ﷺ من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه أعلمنا أنه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان والله أعلم. الوجه الثالث: يحتمل أن يكون الخطاب للنبي ﷺ والمراد به غيره ومعناه وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله فهو كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله.
قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ وقرئ طيف مِنَ الشَّيْطانِ وهما لغتان ومعناه الشيء يلم بالإنسان وقيل بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان والطيف الوسوسة. وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس. قال الأزهري: الطيف في كلام العرب الجنون وقيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون. وقيل سمي الجنون والغضب والوسوسة طيفا لأنه لمة من الشيطان تشبه لمة الخبال فذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف المذكور في هذه الآية لأن حالة الشيطان مع الأنبياء أضعف من حاله مع غيرهم تَذَكَّرُوا يعني عرفوا ما حصل لهم من وسوسة الشيطان وكيده قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضب فيذكر الله فيكظم غيظه. وقال مجاهد: هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يعني أنهم يبصرون مواقع الخطأ بالتذكر والتفكر. وقال السدي: إذا زلوا تابوا وقال مقاتل: هو الرجل إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عن مخالفة الله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٠٢ الى ٢٠٤]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
وَإِخْوانُهُمْ يعني وإخوان الشياطين من المشركين يَمُدُّونَهُمْ أي يمدهم الشياطين فِي الغَيِّ قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين يمدونهم أي يطيلون لهم في الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ يعني لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين لأن المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر والكافر مستمر في ضلالته لا يتذكر ولا يرعوي. وقال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنه فعلى هذا القول يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعا.
قوله عز وجل: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ يعني وإذا لم تأت المشركين يا محمد بآية ومعجزة باهرة قالُوا يعني قال المشركون لَوْلا اجْتَبَيْتَها يعني افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبت الكلام إذا اختلقته وافتعلته. وقال الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي ﷺ الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها يعني هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي يعني القرآن الذي أنزل عليّ وليس لي أن أقترح الآيات والمعجزات هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني هذا القرآن حجج وبرهان وأصل البصائر من الإبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب وَهُدىً يعني وهو هدى وَرَحْمَةٌ يعني وهو رحمة من الله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وهنا لطيفة وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم
285
التوحيد حتى صار كالمشاهد وهو أصحاب عين اليقين ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين ومنهم المسلم والمستسلم وهم عامة المؤمنين وهم أصحاب حق اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى:
وإذا قرئ عليكم أيها المؤمنون القرآن فاستمعوا له يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه وأنصتوا يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع. يقال: نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد. واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر.
وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال:
القول الأول: وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرآن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت.
والقول الثاني: إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن. وقال عبد الله: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
القول الثالث: إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود: أنه سمع ناسا يقرءون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله. وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار.
القول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد: الإنصات للإمام يوم الجمعة. وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب. وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ. يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر. يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعا بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية واردة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية. قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال: «صلى
286
قوله عز وجل :﴿ وإذا لم تأتهم بآية ﴾ يعني وإذا لم تأت المشركين يا محمد بآية ومعجزة باهرة ﴿ قالوا ﴾ يعني قال المشركون ﴿ لولا اجتبيتها ﴾ يعني افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبت الكلام إذا اختلقته وافتعلته. وقال الكلبي : كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها يعني هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ﴿ قل ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ﴿ إنما أتبع ما يوحي إلي من ربي ﴾ يعني القرآن الذين أنزل عليّ وليس لي أن أقترح الآيات والمعجزات ﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ يعني هذا القرآن حجج وبرهان وأصل البصائر من الإبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب ﴿ وهدى ﴾ يعني وهو هدى ﴿ ورحمة ﴾ يعني وهو رحمة من الله ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ وهنا لطيفة وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد وهم أصحاب عين اليقين ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين ومنهم المسلم والمستسلم وهم عامة المؤمنين وهم أصحاب حق اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
قوله تعالى :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى : وإذا قرئ عليكم أيها المؤمنون القرآن فاستمعوا له يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه وأنصتوا يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع. يقال : نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد. واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر.
وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال :
القول الأول : وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت.
والقول الثاني : إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن. وقال عبد الله : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
القول الثالث : إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود : أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله. وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار.
القول الرابع : أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد : الإنصات للإمام يوم الجمعة. وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب. وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت » أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ. يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر. يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية واردة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية. قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال :«صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال قلنا : يا رسول الله أي والله قال » لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها » أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثاً غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك » وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى :﴿ لعلكم ترحمون ﴾ يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه.
رسول الله ﷺ الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال قلنا: يا رسول الله أي والله قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال: قال رسول الله ﷺ «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك» وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
قوله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الخطاب للنبي ﷺ ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين. قال ابن عباس: يعني بالذكر القرآن في الصلاة يريد اقرأ سرا في نفسك والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وقيل المراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة المذكور جل جلاله وإذا كان الذكر باللسان عاريا عن ذكر القلب كان عديم الفائدة لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل تَضَرُّعاً يقال ضرع الرجل يضرع ضراعه إذا خضع وذل واستكان لغيره وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ يعني وخوفا والمعنى تضرع إليّ وخاف عذابي. وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت في الدعاء وهاهنا لطيفة وهي أن قوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ فيه إشعار بقرب العبد من الله عز وجل وهو مقام الرجاء لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام الله عليه وإحسانه إليه فعند ذلك يقوى مقام الرجاء ثم أتبعه بقوله تضرعا وخيفة وهذا مقام الخوف فإذا حصل في قلب العبد داعية الخوف والرجاء قوي إيمانه والمستحب أن يكون الخوف أغلب على العبد في حال صحته وقوته فإذا قارب الموت ودنا آخر أجله فيستحب أن يغلب رجاؤه على خوفه. عن أنس بن مالك «أن النبي ﷺ دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف» أخرجه الترمذي.
وقوله سبحانه وتعالى: بِالْغُدُوِّ جمع غدوة وَالْآصالِ جمع أصيل وهي ما بين صلاة العصر إلى المغرب والمعنى اذكر ربك بالبكر والعشيات وإنما خص هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يستقبله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعني عما يقربك إلى الله عز وجل وقيل إن أعمال العبد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى المغرب فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه بالذكر وقيل: لما كانت الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر مكروهة استحب للعبد أن يذكر الله في هذين الوقتين ليكون في جميع أوقاته مشتغلا بما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة أو ذكر.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
287
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة المقربين لما أمر الله عز وجل رسوله ﷺ والمؤمنين بالذكر في حالة التضرع والخوف أخبر أن الملائكة الذين عنده مع علو مرتبتهم وشرفهم وعصمتهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وطاعته لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه عز وجل: وَيُسَبِّحُونَهُ يعني وينزهونه عن جميع النقائص ويقولون سبحان ربنا وَلَهُ يَسْجُدُونَ لا لغيره.
فإن قلت: التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته لأنهما من جملة العبادة فكيف أفردهما بالذكر؟
قلت: أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنهم يسبحونه وله يسجدون ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأعمال القلوب هي تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله: ويسبحونه. وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: وله يسجدون وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قوله: وله يسجدون ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم (ق) عن عبد الله بن عمر «أن النبي ﷺ كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (م) عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الثاني من تفسير الخازن ويليه الجزء الثالث وأوله: تفسير سورة الأنفال.
288
قوله عز وجل :﴿ إن الذين عند ربك ﴾ يعني الملائكة المقربين لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالذكر في حالة التضرع والخوف أخبر أن الملائكة الذين عنده مع علو مرتبتهم وشرفهم وعصمتهم ﴿ لا يستكبرون عن عبادته ﴾ وطاعته لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه عز وجل :﴿ ويسبحونه ﴾ يعني وينزهونه عن جميع النقائص ويقولون سبحان ربنا ﴿ وله يسجدون ﴾ لا لغيره.
فإن قلت : التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته لأنهما من جملة العبادة فكيف أفردهما بالذكر ؟
قلت : أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنهم يسبحونه وله يسجدون ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأعمال القلوب هي تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله : ويسبحونه. وعبر عن أعمال الجوارح بقوله : وله يسجدون وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قوله : وله يسجدون ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم ( ق ) عن عبد الله بن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة » ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » ( م ) عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلى رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة » والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
Icon